يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم محرضا على إبلاغ رسالته مخبرا له بأنه قد عصمه من الناس فإنه القادر عليهم وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته وقال مجاهد وعروة بن الزبير والحسن وقتادة وغيرهم في قوله : { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي عصمك منهم وقوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الاية قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به { والشجرة الملعونة في القرآن } شجرة الزقوم وكذا رواه أحمد وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة به وكذا رواه العوفي عن ابن عباس
وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد وغير واحد وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستوفاة ولله الحمد والمنة وتقدم أن ناسا رجعوا عن دينهم بعد ما كانوا على الحق لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا لاخرين ولهذا قال { إلا فتنة } أي اختبارا وامتحانا وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله : هاتوا لنا تمرا وزبدا وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا حكى ذلك ابن عباس ومسروق وأبو مالك والحسن البصري وغير واحد وكل من قال إنها ليلة الإسراء فسره كذلك بشجرة الزقوم وقيل : المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية وهو غريب ضعيف
وقال ابن جرير : حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد حدثني أبي عن جدي قال : رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات قال : وأنزل الله في ذلك { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الاية وهذا السند ضعيف جدا فإن محمد بن الحسن بن زبالة متروك وشيخه أيضا ضعيف بالكلية ولهذا اختار ابن جرير أن المراد بذلك ليلة الإسراء وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم قال لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك أي في الرؤيا والشجرة وقوله : { ونخوفهم } أي الكفار بالوعيد والعذاب والنكال { فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا } أي تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال وذلك من خذلان الله لهم (3/68)
يذكر تبارك وتعالى عداوة إبليس لعنه الله وذريته وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لادم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخارا عليه واحتقارا له { قال أأسجد لمن خلقت طينا } كما قال في الاية الأخرى { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } وقال أيضا أرأيتك يقول للرب جراءة وكفرا والرب يحلم وينظر { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي } الاية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول لأستولين على ذريته إلا قليلا وقال مجاهد لأحتوين وقال ابن زيد لأضلنهم وكلها متقاربة والمعنى أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته علي لإن أنظرتني لأضلن ذريته إلا قليلا منهم (3/69)
لما سأل إبليس النظرة قال الله له { اذهب } فقد أنظرتك كما قال في الاية الأخرى قال : { فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم } ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم } أي على أعمالكم { جزاء موفورا } قال مجاهد وافرا وقال قتادة موفورا عليكم لا ينقص لكم منه وقوله تعالى : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } قيل هو الغناء قال مجاهد باللهو والغناء أي استخفهم بذلك وقال ابن عباس في قوله { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } قال كل داع دعا إلى معصية الله عز و جل وقال قتادة واختاره ابن جرير وقوله تعالى : { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } يقول واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجلتهم فإن الرجل جمع راجل كما أن الركب جمع راكب وصحب جمع صاحب ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه وهذا أمر قدري كقوله تعالى { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا وتسوقهم إليها سوقا وقال ابن عباس ومجاهد في قوله { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } قال كل راكب وماش في معصية الله وقال قتادة : إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه تقول العرب أجلب فلان على فلان إذا صاح عليه ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب ومنه اشتقاق الجلبة وهي ارتفاع الأصوات وقوله تعالى : { وشاركهم في الأموال والأولاد } قال ابن عباس ومجاهد : هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله وقال عطاء : هو الربا وقال الحسن : هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام وكذا قال قتادة وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أما مشاركته إياهم في أموالهم فهو ما حرموه من أنعامهم يعني من البحائر والسوائب ونحوها وكذا قال الضحاك وقتادة وقال ابن جرير والأولى أن يقال إن الاية تعم ذلك كله وقوله { والأولاد } قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يعني أولاد الزنا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفها بغير علم وقال قتادة والحسن البصري : قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مجسوا وهودوا ونصروا وصبغوا على غير صبغة الإسلام وجزؤوا أموالهم جزءا للشيطان وكذا قال قتادة سواء وقال أبو صالح عن ابن عباس هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد الشمس وعبد فلان قال ابن جرير وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه بتسميته بما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو بقتله أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بفعله به أو فيه فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه لأن الله لم يخصص بقوله { وشاركهم في الأموال والأولاد } معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى فكل ما عصي الله فيه أو به او أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة وهذا الذي قاله متجه وكل من السلف رحمهم الله فسر بعض المشاركة فقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال [ يقول الله عز و جل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ] وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا ] وقوله تعالى : { وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضي بالحق { إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم } الاية وقوله تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم ولهذا قال تعالى { وكفى بربك وكيلا } أي حافظا ومؤيدا ونصيرا وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر ] ينضي أي يأخذ بناصيته ويقهره (3/69)
ويخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم ولهذا قال : { إنه كان بكم رحيما } أي إنما فعل هذا بكم في فضله عليكم ورحمته بكم (3/71)
يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين ولهذا قال تعالى : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارا من رسول الله صلى الله عليه و سلم حين فتح مكة فذهب هاربا فركب في البحر يدخل الحبشة فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده فقال عكرمة في نفسه والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره اللهم لك علي عهد لإن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يدي محمد فلأ جدنه رؤوفا رحيما فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه وقوله تعالى { فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } أي نسيتم ما عرفتم من توحيده وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له { وكان الإنسان كفورا } أي سجيته هذا ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله (3/71)
يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا وهو المطر الذي فيه حجارة قاله مجاهد وغير واحد كما قال تعالى { إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر * نعمة من عندنا } وقد قال في الاية الأخرى { وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } وقال { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير } وقوله { ثم لا تجدوا لكم وكيلا } أي ناصرا يرد ذلك عنكم وينقذكم منه (3/71)
يقول تبارك وتعالى { أم أمنتم } أيها المعرضون عنا بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر وخرجوا إلى البر { أن يعيدكم } في البحر مرة ثانية { فيرسل عليكم قاصفا من الريح } أي يقصف الصواري ويغرق المراكب قال ابن عباس وغيره : القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها وقوله : { فيغرقكم بما كفرتم } أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى وقوله : { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } قال ابن عباس نصيرا وقال مجاهد نصيرا ثائرا أي يأخذ بثأركم بعدكم وقال قتادة ولا نخاف أحدا يتبعنا بشيء من ذلك (3/72)
ويخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكلمها كقوله تعالى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } أي يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية { وحملناهم في البر } أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي البحر أيضا على السفن الكبار والصغار { ورزقناهم من الطيبات } أي من زروع ثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات وقد استدل بهذه الاية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال : قالت الملائكة يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدينا يأكلون منها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا الاخرة فقال الله تعالى [ وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت كن فكان ] وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه وقد روي من وجه آخر متصلا وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي حدثنا حجاج بن محمد حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الملائكة قالت يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الاخرة قال لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان ] وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثني عثمان بن حصن عن عبيدة بن علاق سمعت عروة بن رويم اللخمي حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال [ إن الملائكة قالوا ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم وجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب ويتزوجون النساء ويركبون الدواب ينامون ويستريحون ولم تجعل لنا من ذلك شيئا فاجعل لهم الدنيا ولنا الاخرة فقال الله عز و جل : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان ] وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا عمر بن سهل حدثنا عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء عن بشر بن شغاف عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم قيل يا رسول الله ولا الملائكة قال ولا الملائكة الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر ] وهذا حديث غريب جدا (3/72)
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم وقد اختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة بنبيهم وهذا كقوله تعالى { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط } الاية وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي صلى الله عليه و سلم وقال ابن زيد لكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع واختاره ابن جرير وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : بكتبهم فيحتمل أن يكون أراد هذا وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } أي بكتاب أعمالهم وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } وقال تعالى : { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه } الاية ويحتمل أن المراد بإمامهم أي كل قوم بمن يأتمون به فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام وأهل الكفر اتئموا بأئمتهم كما قال { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } وفي الصحيحين [ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الطواغيت ] الحديث وقال تعالى { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهدا على أمته بأعمالها كقوله تعالى { وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء } وقوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } ولكن المراد ههنا بالإمام هو كتاب الأعمال ولذا قال تعالى : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم } أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرأه ويحب قراءته كقوله : { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية * وأما من أوتي كتابه بشماله } الايات وقوله تعالى { ولا يظلمون فتيلا } قد تقدم أن الفتيل هو الخيط المستطيل في شق النواة وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا في هذا فقال : حدثنا محمد بن يعمر ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قول الله تعالى : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } قال : [ يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ويراه أصحابه فيقولون أعوذ بالله من هذا أو من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم اخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ] ثم قال البزار لا يروى إلا من هذا الوجه وقوله تعالى : { ومن كان في هذه أعمى } الاية قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد { ومن كان في هذه } أي في الحياة الدنيا { أعمى } أي عن حجة الله وآياته وبيناته { فهو في الآخرة أعمى } أي كذلك يكون { وأضل سبيلا } أي وأضل منه كما كان في الدنيا عياذا بالله من ذلك (3/73)
يخبر تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره مؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها صلى الله عليه و سلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين (3/74)
قيل : نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة وهذا القول ضعيف لأن هذه الاية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك وقيل : إنها نزلت بتبوك وفي صحته نظر روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق ما قالوا فغزا تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا } فأمره الله بالرجوع إلى المدينة وقال : فيها محياك ومماتك ومنه تبعث وفي هذا الإسناد نظر والأظهر أن هذا ليس بصحيح فإن النبي لم يغز تبوك عن قول اليهود وإنما غزاها امتثالا لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } ولقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه والله أعلم ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة : مكة والمدينة والشام ] قال الوليد : يعني بيت المقدس وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد إنه بيت المقدس والله أعلم وقيل نزلت في كفار قريش هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين أظهرهم فتوعدهم الله بهذه الاية وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرا وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم ولهذا قال تعالى : { سنة من قد أرسلنا } الاية أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ولهذا قال تعالى : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } الاية (3/74)
يقول تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم آمرا له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها { أقم الصلاة لدلوك الشمس } قيل لغروبها قاله ابن مسعود ومجاهد وابن زيد وقال هشيم عن مغيرة عن الشعبي عن ابن عباس : دلوكها زوالها ورواه نافع عن ابن عمر ورواه مالك في تفسيره عن الزهري عن ابن عمر وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية أيضا عن ابن مسعود ومجاهد وبه قال الحسن والضحاك وأبو جعفر الباقر وقتادة واختاره ابن جرير ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد عن الحكم بن بشير : حدثنا عمرو بن قيس عن ابن أبي ليلى عن رجل عن جابر بن عبد الله قال : [ دعوت رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فقال : اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس ] ثم رواه عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نحوه فعلى هذا تكون هذه الاية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس فمن قوله : { لدلوك الشمس إلى غسق الليل } وهو ظلامه وقيل غروب الشمس أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء
وقوله : { وقرآن الفجر } يعني صلاة الفجر وقد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تواترا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفا من سلف وقرنا بعد قرن كما هو مقرر في مواضعه ولله الحمد { إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذه الاية { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ] يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا }
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم وحدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال : [ تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ] ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ثلاثتهم عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به وقال الترمذي : حسن صحيح وفي لفظ في الصحيحين من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ] وقال عبد الله بن مسعود يجتمع الحرسان في صلاة الفجر فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء وكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في تفسير هذه الاية
وأما الحديث الذي رواه ابن جرير ههنا من حديث الليث بن سعد عن زيادة عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر حديث النزول وأنه تعالى يقول : من يستغفرني أغفر له من يسألني أعطيه من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر فلذلك يقول : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار فإنه تفرد به زيادة وله بهذا حديث في سنن أبي داود
وقوله تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ قال [ صلاة الليل ] ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل فإن التهجد ما كان بعد النوم قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي وغير واحد وهو المعروف في لغة العرب وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يتهجد بعد نومه عن ابن عباس وعائشة وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم كما هو مبسوط في موضعه ولله الحمد والمنة
وقال الحسن البصري : هو ما كان بعد العشاء ويحمل على ما كان بعد النوم واختلف في معنى قوله تعالى : { نافلة لك } فقيل معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك فجعلوا قيام الليل واجبا في حقه دون الأمة رواه العوفي عن ابن عباس وهو أحد قولي العلماء وأحد قولي الشافعي رحمه الله واختاره ابن جرير وقيل : إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه قاله مجاهد : وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه
وقوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } أي افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا يحمدك في الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه و سلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم
( ذكر من قال ذلك )
حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال : يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه ينادي : يا محمد فيقول : [ لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك ومنك وإليك لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت ] فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز و جل ثم رواه عن بندار عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق به وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري عن أبي إسحاق به وقال ابن عباس : هذا المقام المحمود مقام الشفاعة وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد وقاله الحسن البصري
وقال قتادة : هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأول شافع وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد وتشريفات لا يساويه فيها أحد فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكبا إلى المحشر وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق وذلك بعد ما تسأل الناس آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى فكل يقول : لست لها حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه و سلم فيقول [ أنا لها أنا لها ] كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا الموضع إن شاء الله تعالى ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته وأولهم إجازة على الصراط بأمته وهو أول شفيع في الجنة كما ثبت في صحيح مسلم
وفي حديث الصور أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة لا تليق إلا له وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب السيرة في باب الخصائص ولله الحمد والمنة ولنذكر الان الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي سمعت ابن عمر قال : [ إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء كل أمة تتبع نبيها يقولون : يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد صلى الله عليه و سلم فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا ] ورواه حمزة بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا شعيب بن الليث حدثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول : لست بصاحب ذلك ثم بموسى فيقول كذلك ثم بمحمد صلى الله عليه و سلم فيشفع بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا ] وهكذا رواه البخاري في الزكاة عن يحيى بن بكير وعلقمة عن عبد الله بن صالح كلاهما عن الليث بن سعد به وزاد فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم قال البخاري : حدثنا علي بن عياش حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة ] انفرد به دون مسلم
( حديث أبي بن كعب )
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي كعب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر ] وأخرجه الترمذي من حديث أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي وقال : حسن صحيح و ابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به وقد قدمنا في حديث أبي بن كعب في قراءة القرآن على سبعة أحرف قال صلى الله عليه و سلم في آخره : [ فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام ]
( حديث أنس بن مالك )
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سعيد بن أبي عروبة حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لهم آدم : لست هناكم ويذكر ذنبه الذي أصاب فيستحيي ربه عز و جل من ذلك ويقول : ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحيي ربه من ذلك ويقول : ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتونه فيقول : لست هناكم لكن ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوارة فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحيي ربه من ذلك ويقول : ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني ـ قال الحسن هذا الحرف ـ فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين ـ قال أنس ـ حتى أستأذن على ربي فإذا رأيت ربي وقعت له ـ أو خررت ـ ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ـ قال ـ ثم يقال : ارفع محمد قل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة قال : ثم أعود إليه ثانية فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة قال : ثم أعود الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت ـ أو خررت ـ ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال : ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الرابعة فأقول : يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن ] فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة ] أخرجاه من حديث سعيد به وهكذا رواه الإمام أحمد عن عفان بن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بطوله
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري عن النضر بن أنس عن أنس قال : حدثني نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاءني عيسى عليه السلام فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون ـ أو قال : يجتمعون إليك ـ ويدعون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله لغم ما هم فيه فالخلق ملجمون بالعرق فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة وأما الكافر فيغشاه الموت فقال : انتظر حتى أرجع إليك فذهب نبي الله صلى الله عليه و سلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ولا نبي مرسل فأوحى الله عز و جل إلى جبريل أن اذهب إلى محمد وقل له ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا فما زلت أتردد إلى ربي عز و جل فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت حتى أعطاني الله عز و جل من ذلك أن قال : يا محمد أدخل من أمتك من خلق الله عز و جل من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ومات على ذلك ]
( حديث بريدة رضي الله عنه )
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر أخبرنا أبو إسرائيل عن الحارث بن حصيرة عن ابن بريدة عن أبيه أنه دخل على معاوية فإذا رجل يتكلم فقال بريدة : يا معاوية تأذن لي في الكلام ؟ فقال : نعم وهو يرى أنه يتكلم بمثل ما قال الاخر فقال بريدة : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة قال : فترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي رضي الله عنه ]
( حديث ابن مسعود ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عارم بن الفضل حدثنا سعيد بن الفضل حدثنا سعيد بن زيد حدثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال : [ جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالا : إن أمنا تكرم الزوج وتعطف على الولد قال : وذكرا الضيف غير أنها كانت وأدت في الجاهلية فقال أمكما في النار قال : فأدبرا والسوء يرى في وجوههما فأمر بهما فردا فرجعا والسرور يرى في وجوههما رجاء أن يكون قد حدث شيء فقال أمي مع أمكما فقال رجل من المنافقين : وما يغني هذا عن أمه شيئا ونحن نطأ عقبيه فقال رجل من الأنصار : ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه يا رسول الله هل وعدك ربك فيها أو فيهما ؟ قال : فظن أنه من شيء قد سمعه فقال : ما سألته ربي وما أطمعني فيه وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة ] فقال الأنصاري : يا رسول الله وما ذاك المقام المحمود ؟ قال : ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام فيقول : اكسوا خليلي فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعده مستقبل العرش ثم أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه أحد فيغبطني فيه الأولون والأخرون [ قال : ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض فقال المنافق : إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] حاله المسك ورضراضه اللؤلؤ [ فقال المنافق : لم أسمع كاليوم فإنه قلما جرى ماء على حال أو رضراض إلا كان له نبت ؟ فقال الأنصاري يا رسول الله هل له نبت ؟ فقال : نعم قضبان الذهب قال المنافق لم أسمع كاليوم فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق وإلا ان له ثمر وقال الأنصاري : يا رسول الله هل له ثمرة ؟ قال : نعم ألوان الجوهر وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل من شرب منه شربة لا يظمأ بعده ومن حرمه لم يرو بعده ] وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الزعراء عن عبد الله قال : ثم يأذن الله عز و جل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل ثم يقوم إبراهيم خليل الله ثم يقوم عيسى أو موسى قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما قال : ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه و سلم رابعا فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع وهو المقام المحمود الذي قال الله عز و جل : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }
( حديث كعب بن مالك رضي الله عنه )
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا محمد بن حرب حدثنا الزبيدي عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي عز و جل حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود ]
( حديث أبي الدرداء رضي الله عنه )
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه فأنظر إلى ما بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم ومن خلفي مثل ذلك وعن يميني مثل ذلك وعن شمالي مثل ذلك فقال رجل : يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم ]
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه )
قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا أبو حيان حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال : أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذاك ؟ يجمع الله الأولين والاخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله قط وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله فذكر كذباته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى عليه السلام فيقولون : يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه و سلم فيأتون محمدا صلى الله عليه و سلم فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز و جل ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه مالم يفتحه على أحد قبلي فيقال : يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول : أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال : يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال : والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى ] أخرجاه في الصحيحين
وقال مسلم رحمه الله : حدثنا الحكم بن موسى حدثنا عقل بن زياد عن الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني عبد الله بن فروخ حدثني أبو هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأول شافع وأول مشفع ] وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن داود بن يزيد الزعافري عن أبيه عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } سئل عنها فقال : هي الشفاعة ] رواه الإمام أحمد عن وكيع ومحمد بن عبيد عن داود عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال [ هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه ]
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ـ قال النبي صلى الله عليه و سلم ـ فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن تبارك وتعالى والله ما رآه قبلها فأقول : أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي فيقول الله عز و جل صدق ثم أشفع فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال : فهو المقام المحمود ] وهذا حديث مرسل (3/75)
قال الإمام أحمد : حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } وقال الترمذي : حسن صحيح وقال الحسن البصري في تفسير هذه الاية : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه و سلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه فأراد الله قتال أهل مكة أمره أن يخرج إلى المدينة فهو الذي قال الله عز و جل : { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } الاية
وقال قتادة { وقل رب أدخلني مدخل صدق } يعني المدينة { وأخرجني مخرج صدق } يعني مكة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا القول هو أشهر الأقوال وقال العوفي عن ابن عباس { أدخلني مدخل صدق } يعني الموت { وأخرجني مخرج صدق } يعني الحياة بعد الموت وقيل غير ذلك من الأقوال والأول أصح وهو اختيار ابن جرير
وقوله { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } قال الحسن البصري في تفسيرها : وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس وليجعلنه له وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له وقال قتادة فيها : إن نبي الله صلى الله عليه و سلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله ولإقامة دين الله فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم قال مجاهد { سلطانا نصيرا } حجة بينة واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة وهو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ولهذا يقول تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد } الاية وفي الحديث [ إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ] أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والاثام مالا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد وهذا هو الواقع
وقوله : { وقل جاء الحق وزهق الباطل } الاية تهديد ووعيد لكفار قريش فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع وزهق باطلهم أي اضمحل وهلك فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } وقال البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه و سلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : [ جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد ] وكذا رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع و مسلم والترمذي والنسائي كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به وكذا رواه عبد الرزاق عن ابن أبي نجيح به
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زهير حدثنا شبابة حدثنا المغيرة حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما تعبد من دون الله فأمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكبت على وجوهها وقال : [ جاء وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ] (3/82)
يقول تعالى مخبرا عن كتابه الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد إنه شفاء ورحمة للمؤمنين أي يذهب ما في القلب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل فالقرآن يشفي من ذلك كله وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة وأما الكافر الظالم نفسه بذلك فلا يزيد سماعه القرآن إلا بعدا وكفرا والافة من الكافر لا من القرآن كقوله تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } وقال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } والايات في ذلك كثيرة قال قتادة في قوله : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه { ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين (3/83)
يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله تعالى في حالتي السراء والضراء فإنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية وفتح ورزق ونصر ونال ما يريد أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه قال مجاهد : بعد عنا قلت : وهذا كقوله تعالى : { فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } وقوله : { فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } وبأنه إذا مسه الشر وهو المصائب والحوادث والنوائب { كان يؤوسا } أي قنط أن يعود فيحصل له بعد ذلك خير كقوله تعالى : { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير }
وقوله تعالى : { قل كل يعمل على شاكلته } قال ابن عباس : على ناحيته وقال مجاهد : على حدته وطبيعته وقال قتادة : على نيته وقال ابن زيد : دينه وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى وهذه الاية ـ والله أعلم ـ تهديد للمشركين ووعيد لهم كقوله تعالى : { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم } الاية ولهذا قال : { قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } أي منا ومنكم وسيجزي كل عامل بعمله فإنه لا يخفى عليه خافية (3/83)
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال : [ كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حرث في المدينة وهو متوكىء على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح وقال بعضهم : لا تسألوه قال فسألوه عن الروح فقالوا : يا محمد ما الروح ؟ فما زال متوكئا على العسيب قال : فظننت أنه يوحى إليه فقال : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } قال : فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه ] وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به
ولفظ البخاري عند تفسيره هذه الاية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : [ بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه و سلم في حرث وهو متوكىء على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح فقال : ما رابكم إليه وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه فقالوا سلوه فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه و سلم فلم يرد عليهم شيئا فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } ] الاية وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الاية مدنية وأنه نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالاية المتقدم إنزالها عليه وهي هذه الاية { ويسألونك عن الروح } ومما يدل على نزول هذه الاية بمكة ما قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا يحيى بن زكريا عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا : سلوه عن الروح فسألوه فنزلت { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } قالوا : أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا قال : وأنزل الله { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر } الاية
وقد روى ابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن داود عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الروح فأنزل الله { ويسألونك عن الروح } الاية فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } قال : فنزلت { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } الاية قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا : [ يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } أفعنيتنا أم عنيت قومك فقال : كلا قد عنيت فقالوا : إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم ] وأنزل الله { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم }
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال ( أحدها ) أن المراد أرواح بني آدم وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : { ويسألونك عن الروح } الاية وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : [ أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شيء فلم يحر إليهم شيئا فأتاه جبريل فقال له : { قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } فأخبرهم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فقالوا : من جاءك بهذا ؟ قال : جاءني به جبريل من عند الله فقالوا له : والله ما قاله لك إلا عدونا ] فأنزل الله { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه } وقيل : المراد بالروح ههنا جبريل وقال قتادة : وكان ابن عباس يكتمه وقيل المراد به ههنا ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { ويسألونك عن الروح } يقول : الروح ملك وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري حدثنا وهب بن روق بن هبيرة حدثنا بشر بن بكر حدثنا الأوزاعي حدثنا عطاء عن عبد الله بن عباس قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن لله ملكا لو قيل له التقم السموات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل تسبيحه سبحانك حيث كنت ] وهذا حديث غريب بل منكر وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله حدثني علي حدثني عبد الله حدثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية عمن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله : { ويسألونك عن الروح } قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة وهذا أثر غريب عجيب والله أعلم
وقال السهيلي : روي عن علي أنه قال : هو ملك له مائة ألف رأس لكل رأس مائة ألف وجه في كل وجه مائة ألف فم في كل فم مائة ألف لسان يسبح الله تعالى بلغات مختلفة قال السهيلي : وقيل المراد بذلك طائفة من الملائكة على صور بني آدم وقيل : طائفة يرون الملائكة ولا تراهم فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم وقوله : { قل الروح من أمر ربي } أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم ولهذا قال : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى والمعنى أنه علمكم في علم الله قليل وهذا الذي تسألون عنه أمر الروح مما استاثر به تعالى ولم يطلعكم عليه كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة أي شرب منه بمنقاره فقال : يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ولهذا قال تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقال السهيلي : قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا لأنهم سألوا على وجه التعنت وقيل : أجابهم وعول السهيلي على أن المراد بقوله : { قل الروح من أمر ربي } أي من شرعه أي فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة وإنما ينال من جهة الشرع وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر والله أعلم
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسما خاصا فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطارا أو خمرا ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه فحاصل ما نقول : إن الروح هي أصل النفس ومادتها والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن فهي هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن والله أعلم قلت : وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبا ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده في كتاب سمعناه في الروح (3/84)
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم صلى الله عليه و سلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قال ابن مسعود رضي الله عنه : يطرق الناس ريح حمراء يعني في آخر الزمان من قبل الشام فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية ثم قرآ ابن مسعود { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } الاية ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس أن هذه الاية نزلت في نفر من اليهود جاؤوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا له : إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به فأنزل الله هذه الاية وفي هذا نظر لأن هذه السورة مكية وسياقها كله مع قريش واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة فالله أعلم وقوله { ولقد صرفنا للناس } الاية أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه ومع هذا فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي جحودا للحق وردا للصواب (3/86)
قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسد والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه و سلم سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا : [ يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الاباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الالهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ] أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تسليما فقالوا : [ يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا : يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلك أو تهلكنا وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من عذاب فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم الله لوفعلت بذلك لظننت أني لا أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه ] وهكذا رواه زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق : حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس فذكر مثله سواء وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشادا لأجيبوا إليه ولكن علم أنهم إنما يطالبون ذلك كفرا وعنادا له [ فقيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إن شئت أعطيناهم ما سألوا فإن كفروا عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ؟ فقال : بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة ] كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام أيضا عند قوله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } وقال تعالى : { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا }
وقوله تعالى { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } الينبوع : العين الجارية سألوه أن يجري لهم عينا معينا في أرض الحجاز ههنا وههنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم على جميع ما سألوه وطلبوا ولكن علم أنهم لا يهتدون كما قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } وقال تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا } الاية
وقوله تعالى : { أو تسقط السماء كما زعمت } أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهوي وتدلي أطرافها فاجعل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفا أي قطعا كقوله { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الاية وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا { أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين } فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا وكذلك وقع فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى عبد الله بن أمية الذي تبع النبي صلى الله عليه و سلم وقال له ما قال أسلم إسلاما تاما وأناب إلى الله عز و جل
وقوله تعالى : { أو يكون لك بيت من زخرف } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : هو الذهب وكذلك هو في قراءة ابن مسعود : أو يكون لك بيت من ذهب { أو ترقى في السماء } أي تصعد في سلم ونحن ننظر إليك { ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه } قال مجاهد : أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة هذا كتاب من الله لفلان تصبح موضوعة عند رأسه وقوله تعالى : { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } أي سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته بل هو الفعال لما يشاء إن شاء أجابكم إلى ما سألتم وإن شاء لم يجبكم وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وقد فعلت ذلك وأمركم فيما سألتم إلى الله عز و جل
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا علي ابن اسحاق حدثنا ابن المبارك حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زجر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عرض علي ربي عز و جل ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ـ أو نحو ذلك ـ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ] ورواه الترمذي في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به وقال : هذا حديث حسن وعلي بن يزيد يضعف في الحديث (3/87)
يقول تعالى : { وما منع الناس } أي أكثرهم { أن يؤمنوا } ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثة البشر رسلا كما قال تعالى : { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } وقال تعالى : { ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا } الاية وقال فرعون وملؤه { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } وكذلك قالت الأمم لرسلهم { إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } والايات في هذا كثيرة ثم قال تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا منه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته ولو بعث إلى البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه كما قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وقال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } وقال تعالى : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } ولهذا قال ههنا { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين } أي كما أنتم فيها { لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا } أي من جنسهم ولما كنتم أنتم بشرا بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفا ورحمة (3/89)
يقول تعالى مرشدا نبيه صلى الله عليه و سلم إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به : إنه شاهد علي وعليكم عالم بما جئتكم به فلو كنت كاذبا عليه لا نتقم مني أشد الانتقام كما قال تعالى : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين } وقوله { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } أي عليما بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة ولهذا قال : (3/90)
يقول تعالى مخبرا عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم كما قال : { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وقوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } قال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير حدثنا إسماعيل عن نفيع قال : سمعت أنس بن مالك يقول : [ قيل : يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ] وأخرجاه في الصحيحين
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا الوليد بن جميع القرشي حدثنا أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد قال : قام أبو ذر فقال : يا بني غفار قولوا ولا تحلفوا فإن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج : فوج راكبين طاعمين كاسين وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار فقال قائل منهم : هذان قد عرفناهما فما بال الذين يمشون ويسعون ؟ قال يلقي الله عز و جل الافة على الظهر حتى لا يبقى ظهر حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة فيعطيها بالشارف ذات القتب فلا يقدر عليها وقوله : { عميا } أي لا يبصرون { وبكما } يعني لا ينطقون { وصما } لا يسمعون وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكما وعميا وصما عن الحق فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه { مأواهم } أي منقلبهم ومصيرهم { جهنم كلما خبت } قال ابن عباس : سكنت وقال مجاهد طفئت { زدناهم سعيرا } أي لهبا ووهجا وجمرا كما قال : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } (3/90)
يقول تعالى : هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمي والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه لأنهم كذبوا { بآياتنا } أي بأدلتنا وحجتنا واستبعدوا وقوع البعث { وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا } أي بالية نخرة { أإنا لمبعوثون خلقا جديدا } أي بعد ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية ؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك كما قال : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } وقال : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى } الاية في هذا المقام اضطرب وقال { أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } إلى آخر السورة وقال ههنا { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم } أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم وقوله : { وجعل لهم أجلا لا ريب فيه } أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها كما قال تعالى : { وما نؤخره إلا لأجل معدود } وقوله : { فأبى الظالمون } أي بعد قيام الحجة عليهم { إلا كفورا } إلا تماديا في باطلهم وضلالهم (3/91)
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه : قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق قال ابن عباس وقتادة : أي الفقر خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا لأن هذا من طباعكم وسجاياكم ولهذا قال : { وكان الإنسان قتورا } قال ابن عباس وقتادة : أي بخيلا منوعا وقال الله تعالى : { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه فإن البخل والجزع والهلع صفة له كما قال تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين } ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه وقد جاء في الصحيحين [ يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه ] (3/91)
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات قاله ابن عباس وقال محمد بن كعب : هي اليد والعصا والخمس في الأعراف والطمسة والحجر وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة : هي يده وعصاه والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون { فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين } أي ومع هذه الايات ومشاهدتهم لها كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وما نجعت فيهم : فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إلى آخرها لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الايات { إني لأظنك يا موسى مسحورا } قيل : بمعنى ساحر والله تعالى أعلم فهذه الايات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد ههنا وهي المعنية في قوله تعالى : { وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم * وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين } فذكر هاتين الايتين العصا واليد وبين الايات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة منها ضربة الحجر بالعصا وخروج الماء منه ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر ولكن ذكر ههنا التسع الايات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الاية { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } فقال : لا تقل له نبي فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين فسألاه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ـ أو قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك ـ وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنك نبي قال : فما يمنعكما أن تتبعاني ؟ قالا : لأن دواد عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود ] فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به وقال الترمذي : حسن صحيح وهو حديث مشكل و عبد الله بن سلمة في حفظه شيء وقد تكلموا فيه ولعله اشتبه عليه التسع الايات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون والله أعلم ولهذا قال موسى لفرعون { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر } أي حججا وأدلة على صدق ما جئتك به { وإني لأظنك يا فرعون مثبورا } أي هالكا قاله مجاهد وقتادة وقال ابن عباس : ملعونا وقال أيضا هو والضحاك { مثبورا } أي مغلوبا والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله قال الشاعر عبد الله بن الزبعري :
( إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ... ي ومن مال ميله مثبور )
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله علمت وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب لفرعون كما قال تعالى : { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } الاية فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الايات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله وليس المراد منها كما ورد في الحديث فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون ؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة فإن له بعض ما ينكر والله أعلم ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الرواي بالتسع الايات فحصل وهم في ذلك والله أعلم
وقوله : { فأراد أن يستفزهم من الأرض } أي يخليهم منها ويزيلهم عنها { فأغرقناه ومن معه جميعا * وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض } وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه و سلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة وكذلك فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها } الايتين ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين وقهر أهلها ثم أطلقهم حلما وكرما كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال كذلك وأورثناها بني إسرائيل وقال ههنا { وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا } أي جميعكم أنتم وعدوكم قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : لفيفا أي جميعا (3/92)
يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد أنه بالحق نزل أي متضمنا للحق كما قال تعالى : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون } أي متضمنا علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه وقوله { وبالحق نزل } أي ونزل إليك يا محمد محفوظا محروسا لم يشب بغيره ولا زيد فيه ولا نقص منه بل وصل إليك بالحق فإنه نزل به شديد القوى الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى وقوله : { وما أرسلناك } أي يا محمد { إلا مبشرا ونذيرا } مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين ونذيرا لمن عصاك من الكافرين
وقوله : { وقرآنا فرقناه } أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفرقا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثلاث وعشرين سنة قاله عكرمة عن ابن عباس وعن ا بن عباس أيضا أنه قرأ : فرقناه بالتشديد أي أنزلناه آية آية مبينا ومفسرا ولهذا قال : { لتقرأه على الناس } أي لتبلغه الناس وتتلوه عليهم أي { على مكث } أي مهل { ونزلناه تنزيلا } أي شيئا بعد شيء (3/93)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم { قل } يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم { آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي سواء آمنتم به أم لا فهو حق في نفسه أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله ولهذا قال : { إن الذين أوتوا العلم من قبله } أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه { إذا يتلى عليهم } هذا القرآن { يخرون للأذقان } جمع ذقن وهو أسفل الوجه { سجدا } أي لله عز و جل شكرا على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلا أن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب ولهذا يقولون { سبحان ربنا } أي تعظيما وتوقيرا على قدرته التامة وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه و سلم ولهذا قالوا { سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } وقوله : { ويخرون للأذقان يبكون } أي خضوعا لله عز و جل وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله { ويزيدهم خشوعا } اي إيمانا وتسليما كما قال : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقوله : { ويخرون } عطف صفة على صفة لا عطف السجود على السجود كما قال الشاعر :
( إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم ) (3/94)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عز و جل المانعين من تسميته بالرحمن { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } أي لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم الرحمن فإنه ذو الأسماء الحسنى كما قال تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض } الاية وقد روى مكحول أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقول في سجوده : [ يا رحمن يا رحيم ] فقال : إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو اثنين فأنزل الله هذه الاية وكذا روي عن ابن عباس رواهما ابن جرير
وقوله : { ولا تجهر بصلاتك } الاية قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الاية ورسول الله صلى الله عليه و سلم متوار بمكة { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به قال : فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ولا تجهر بصلاتك } أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وابتغ بين ذلك سبيلا } أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به وكذا رواه الضحاك عن ابن عباس وزاد : فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك يفعل أي ذلك شاء
وقال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جهر بالقرآن وهويصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع فإن خفض صوته صلى الله عليه و سلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا فأنزل الله { ولا تجهر بصلاتك } فيتفرقوا عنك { ولا تخافت بها } فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به { وابتغ بين ذلك سبيلا } وهكذا قال عكرمة والحسن البصري وقتادة : نزلت هذه الاية في القراءة في الصلاة وقال شعبة عن الأشعث بن أبي سليم عن الأسود بن هلال عن ابن مسعود لم يخافت بها من أسمع أذنيه
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن سلمى بن علقمة عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته وأن عمر كان يرفع صوته فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا ؟ قال : أناجي ربي عز و جل وقد علم حاجتي فقيل : أحسنت وقيل لعمر : لم تصنع هذا ؟ قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان قيل : أحسنت فلما نزلت { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } قيل لأبي بكر : ارفع شيئا وقيل لعمر : اخفض شيئا وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس : نزلت في الدعاء وهكذا روى الثوري ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في الدعاء وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو عياض ومكحول وعروة بن الزبير وقال الثوري عن ابن عياش العامري عن عبد الله بن شداد قال : كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم ارزقنا إبلا وولدا ] قال : فنزلت هذه الاية { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }
( قول آخر ) قال ابن جرير : حدثنا أبو السائب حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : نزلت هذه الاية في التشهد { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } وبه قال حفص عن أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين مثله
( قول آخر ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } قال : لا تصل مراءاة للناس ولا تدعها مخافة الناس وقال الثوري عن منصور عن الحسن البصري { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } قال : لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن به و هشيم عن عوف عنه به و سعيد عن قتادة عنه كذلك
( قول آخر ) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وابتغ بين ذلك سبيلا } قال : أهل الكتاب يخافتون ثم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح به ويصيحون هم به وراءه فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء وأن يخافت كما يخافت القوم ثم كان السبيل الذي بين ذلك الذي سن له جبريل من الصلاة
وقوله : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائض فقال : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد { ولم يكن له ولي من الذل } أي ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له ومدبرها ومقدرها وحده لا شريك له قال مجاهد في قوله : { ولم يكن له ولي من الذل } لم يحالف أحد ولم يبتغ نصر أحد { وكبره تكبيرا } أى عظمه وأجله عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا
قال ابن جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني أبو صخر عن القرظي أنه كان يقول في هذه الاية { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } الاية قال إن اليهود والنصارى يقولون اتخذ الله ولدا وقالت العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقال الصابئون والمجوس : لولا أولياء الله لذل فأنزل الله هذه الاية { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا } وقال أيضا : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم أهله هذه الاية { الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } الاية الصغير من أهله والكبير قلت وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمى هذه الاية آية العز وفي بعض الاثار أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة والله أعلم
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا بشر بن سيحان البصري حدثنا حرب بن ميمون حدثنا موسى بن عبيدة الزبيدي عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال : [ خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم ويده في يدي أو يدي في يده فأتى على رجل رث الهيئة فقال : أي فلان ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : السقم والضر يا رسول الله قال : ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر ؟ قال : ما يسرني بها أن شهدت معك بدرا أو أحدا قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع ؟ قال : فقال أبو هريرة : يا رسول الله إياي فعلمني قال : فقل يا أبا هريرة توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا قال : فأتى علي رسول الله وقد حسنت حالي قال : فقال لي مهيم قال : قلت يا رسول الله لم أزل أقول الكلمات التي علمتني ] إسناده ضعيف وفي متنه نكارة والله أعلم آخر تفسير سورة سبحان و لله الحمد والمنة (3/94)
سورة الكهف
وهي مكية
( ذكر ما ورد في فضلها والعشر الايات من أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال )
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو تنزلت للقرآن ] أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن الحضير كما تقدم في تفسير سورة البقرة وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا هشام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ] رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به ولفظ الترمذي [ من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف ] وقال : حسن صحيح
( طريق أخرى ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ] فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء وقال أحمد : حدثنا حسين حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين السماء والأرض ] انفرد به أحمد ولم يخرجوه وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن نافع عن ابن عمر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين ] وهذا الحديث في رفعه نظر وأحسن أحواله الوقف
وهكذا روى الإمام سعيد بن منصور في سننه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق هكذا وقع موقوفا وكذا رواه الثوري عن أبي هاشم به من حديث أبي سعيد الخدري وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم حدثنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين ] ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه عن الحاكم ثم قال البيهقي : ورواه يحيى بن كثير عن شعبة عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قرأ سورة الكهف كما نزلت كانت له نورا يوم القيامة ] وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب عن منظور بن زيد بن خالد الجهني عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي مرفوعا : من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة وإن خرج الدجال عصم منه
بسم الله الرحمن الرحيم (3/97)
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها فإنه المحمود على كل حال وله الحمد في الأولى والاخرة ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحا بينا جليا نذيرا للكافرين بشيرا للمؤمنين ولهذا قال : { ولم يجعل له عوجا } أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما ولهذا قال : { قيما } أي مستقيما { لينذر بأسا شديدا من لدنه } أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ينذره بأسا شديدا عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى { من لدنه } أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد { ويبشر المؤمنين } أي بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح { أن لهم أجرا حسنا } أي مثوبة عند الله جميلة { ماكثين فيه } في ثوابهم عند الله وهو الجنة خالدين فيه { أبدا } دائما لا زوال له ولا انقضاء
وقوله : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } قال ابن إسحاق : وهم مشركو العرب في قولهم نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله { ما لهم به من علم } أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه { ولا لآبائهم } أي لأسلافهم { كبرت كلمة } نصب على التمييز تقديره كبرت كلمتهم هذه كلمة وقيل : على التعجب تقديره أعظم بكلمتهم كلمة كما تقول : أكرم بزيد رجلا قاله بعض البصريين وقرأ ذلك بعض قراء مكة : كبرت كلمة كما يقال عظم قولك وكبر شأنك والمعنى على قراءة الجمهور أظهر فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم ولهذا قال : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ولهذا قال : { إن يقولون إلا كذبا } وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا قال : فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب ؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أخبركم غدا عما سألتم عنه ] ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه و سلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز و جل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقول الله عز و جل { ويسألونك عن الروح ؟ قل الروح } الاية (3/98)
يقول تعالى مسليا لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه كما قال تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وقال : { ولا تحزن عليهم } وقال : { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } باخع أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ولهذا قال : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } يعني القرآن { أسفا } يقول : لا تهلك نفسك أسفا قال قتادة : قاتل نفسك غضبا وحزنا عليهم وقال مجاهد : جزعا والمعنى متقارب أي لا تأسف عليهم بل أبلغهم رسالة الله فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار فقال : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ] ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها فقال تعالى : { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } أي وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار فنجعل كل شيء عليها هالكا صعيدا جرزا لا ينبت ولا ينتفع به
كما قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد وقال مجاهد : صعيدا جرزا بلقعا وقال قتادة : الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات وقال ابن زيد : الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء ألا ترى إلى قوله تعالى : { أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون } وقال محمد بن إسحاق : { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } يعني الأرض وأن ما عليها لفان وبائد وأن المرجع لإلى الله فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى (3/99)
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار ثم بسطها بعد ذلك فقال : { أم حسبت } يعني يا محمد { أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا } أي ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الايات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف كما قال ابن جريج عن مجاهد { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا } يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك
وقال العوفي عن ابن عباس { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا } يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم وأما الكهف فهو الغار في الجبل وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس : هو واد قريب من أيلة وكذا قال عطية العوفي وقتادة وقال الضحاك : أما الكهف فهو غار في الوادي والرقيم اسم الوادي وقال مجاهد : الرقيم كان بنيانهم ويقول بعضهم : هو الوادي الذي فيه كهفهم
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الرقيم : كان يزعم كعب أنها القرية وقال ابن جريج عن ابن عباس : الرقيم الجبل الذي فيه الكهف وقال ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : اسم ذلك الجبل بنجلوس وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف بنجلوس واسم الكهف حيزم والكلب حمران وقال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : القرآن أعلمه إلا حنانا والأواه والرقيم وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم ؟ كتاب أم بنيان وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرقيم الكتاب وقال سعيد بن جبير : الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم الكتاب ثم قرأ : كتاب مرقوم وهذا هو الظاهر من الاية وهو اختيار ابن جرير قال : الرقيم فعيل بمعنى مرقوم كما يقال للمقتول قتيل وللمجروح جريح والله أعلم وقوله : { إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا } يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم { ربنا آتنا من لدنك رحمة } أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا { وهيئ لنا من أمرنا رشدا } أي وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا أي اجعل عاقبتنا رشدا كما جاء في الحديث [ وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدا ] وفي المسند من حديث بسر بن أرطاة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يدعو [ اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الاخرة ]
وقوله : { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا } أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة { ثم بعثناهم } أي من رقدتهم تلك وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاما يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله ولهذا قال : { ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين } أي المختلفين فيهم { أحصى لما لبثوا أمدا } قيل : عددا وقيل : غاية فإن الأمد الغاية كقوله :
سبق الجواد إذا استولى على الأمد (3/100)
من ههنا شرع في بسط القصة وشرحها فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم شبابا وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا وقال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو { وزدناهم هدى } استدل بهذه الاية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص ولهذا قال تعالى : { وزدناهم هدى } كما قال : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقال { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وقال : { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } إلى غير ذلك من الايات الدالة على ذلك وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى بن مريم فالله أعلم والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم وقد تقدم عن ابن عباس أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء وعن خبر ذي القرنين وعن الروح فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب وأنه متقدم على دين النصرانية والله أعلم
وقوله { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض } يقول تعالى : وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة فإنه ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا الله الذي خلق السموات والأرض فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم جلس تحت ظل شجرة فجاء الاخر فجلس إليها عنده وجاء الاخر فجلس إليهما وجاء الاخر فجلس إليهم وجاء الاخر وجاء الاخر ولا يعرف واحد منهم الاخر وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان
كما جاء في الحديث الذين رواه البخاري تعليقا من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ] وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس يقولون : الجنسية علة الضم والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفا منهم ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم : تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره فقال آخر : أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وقال الاخر : وأنا والله وقع لي كذلك وقال الاخر كذلك حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة فصاروا يدا واحدة وإخوان صدق فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز و جل ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله : { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها } ولن لنفي التأبيد أي لا يقع منا هذا أبدا لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ولهذا قال عنهم : { لقد قلنا إذا شططا } أي باطلا وبهتانا { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين } أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك فيقال إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه وكان هذا من لطف الله بهم فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفا على دينه كما جاء في الحديث [ يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ] ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله : { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله } أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ففارقوهم أيضا بأبدانكم { فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته } أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم { ويهيئ لكم من أمركم } الذي أنتم فيه { مرفقا } أي أمرا ترتفقون به فعند ذلك خرجوا هرابا إلى الكهف فأووا إليه ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك فيقال أنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه و سلم وصاحبه الصديق حين لجآ إلى غار ثور وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه وعندها قال النبي صلى الله عليه و سلم حين رأى جزع الصديق في قوله : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا فقال : [ يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ] وقد قال تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف وقد قيل : إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه فقالوا : ماكنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعلوا ذلك وفي هذا نظر والله أعلم فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشيا كما قال تعالى : (3/101)
فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه { ذات اليمين } أي يتقلص الفيء يمنة كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة { تزاور } أي تميل وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان ولهذا قال : { وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق فدل على صحة ما قلناه وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يمينا ولا شمالا ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب فتعين ما ذكرناه ولله الحمد
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : تقرضهم تتركهم وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا فتقدم عن ابن عباس أنه قال : هو قريب من أيلة وقال ابن إسحاق : هو عند نينوى وقيل : ببلاد الروم وقيل : ببلاد البلقاء والله أعلم بأي بلاد الله هو ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه فقد قال صلى الله عليه و سلم : [ ما تركت شيئا يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به ] فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه فقال : { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم } قال مالك عن زيد بن أسلم : تميل { ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه } أي في متسع منه داخلا بحيث لا تصبيهم إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم قاله ابن عباس { ذلك من آيات الله } حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم ولهذا قال تعالى : { ذلك من آيات الله } ثم قال : { من يهد الله فهو المهتد } الاية أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم فإنه من هداه الله اهتدى ومن أضله فلا هادي له (3/103)
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق لئلا يسرع إليها البلى فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ولهذا قال تعالى : { وتحسبهم أيقاظا وهم رقود } وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد كما قال الشاعر :
( ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم )
وقوله تعالى : { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين قال ابن عباس : لولم يقلبوا لأكلتهم الأرض قوله { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة : الوصيد الفناء وقال ابن عباس : بالباب وقيل : بالصعيد وهو التراب والصحيح أنه بالفناء وهو الباب ومنه قوله تعالى : { إنها عليهم مؤصدة } أي مطبقة مغلقة ويقال : وصيد وأصيد ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب قال ابن جريج : يحرس عليهم الباب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم وكان جلوسه خارج الباب لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب كما ورد في الصحيح ولا صورة ولا جنب ولا كافر كما ورد به الحديث الحسن وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال وهذا فائدة صحبة الأخبار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن وقد قيل : إنه كان كلب صيد لأحدهم وهو الأشبه وقيل : كلب طباخ الملك وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه فالله أعلم
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي : حدثنا صدقة بن عمر الغساني حدثنا عباد المنقري سمعت الحسن البصري يقول : كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة و السلام جرير واسم هدهد سليمان عليه السلام عنقز واسم كلب أصحاب الكهف قطمير واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه بهموت وهبط آدم عليه السلام بالهند وحواء بجدة وإبليس بدست بيسان والحية بأصفهان وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها بل هي مما ينهى عنه فإن مستندها رجم بالغيب
وقوله تعالى : { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا } أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة (3/104)
يقول تعالى كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئا وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين ولهذا تساءلوا بينهم { كم لبثتم } أي كم رقدتم ؟ { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار واستيقاظهم كان في آخر نهار ولهذا استدركوا فقالوا : { أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } أي الله أعلم بأمركم وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم فالله أعلم ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا : { فابعثوا أحدكم بورقكم } أي فضتكم هذه وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها فتصدقوا منها وبقي منها فلهذا قالوا : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } أي مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد { فلينظر أيها أزكى طعاما } أي أطيب طعاما كقوله : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا } وقوله : { قد أفلح من تزكى } ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره وقيل : أكثر طعاما ومنه زكا الزرع إذا كثر قال الشاعر :
( قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... والسبع أزكى من ثلاث وأطيب )
والصحيح الأول لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيرا أو قليلا وقوله { وليتلطف } أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه يقولون : وليختف كل ما يقدر عليه { ولا يشعرن } أي ولا يعلمن { بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم } أي إن علموا بمكانكم { يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم } يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الاخرة ولهذا قال : { ولن تفلحوا إذا أبدا } (3/105)
يقول تعالى : { وكذلك أعثرنا عليهم } أي أطلعنا عليهم الناس { ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها } ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة وقال عكرمة : كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأجساد فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة وذكروا أن اسمها دقسوس وهو يظن أنه قريب العهد بها وكان الناس قد تبدلوا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وأمة بعد أمة وتغيرت البلاد ومن عليها كما قال الشاعر :
( أما الديار فإنها كديارهم ... وأرى رجال الحي غير رجاله )
فجعل لا يرى شيئا من معالم البلد التي يعرفها ولا يعرف أحدا من أهلها : لا خواصها ولا عوامها فجعل يتحير في نفسه ويقول : لعل بي جنونا أو مسا أو أنا حالم ويقول : والله ما بي شيء من ذلك وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة ثم قال : إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام فدفع إليه ما معه من النفقة وسأله أن يبيعه بها طعاما فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها فدفعها إلى جاره وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون : لعل هذا وجد كنزا فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة لعله وجدها من كنز وممن أنت ؟ فجعل يقول : أنا من أهل هذه البلدة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس فنسبوه إلى الجنون فحملوه إلى ولي أمرهم فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره وهو متحير في حاله وما هو فيه فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف ـ ملك البلد وأهلها ـ حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم : دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه وأخفى الله عليهم خبرهم ويقال بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم وكان مسلما فيما قيل واسمه تيدوسيس ففرحوا به وآنسوه بالكلام ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم وتوفاهم الله عز و جل فالله أعلم
قال قتادة : غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بكهف في بلاد الروم فرأوا فيه عظاما فقال قائل : هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس : لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلثمائة سنة ورواه ابن جرير وقوله : { وكذلك أعثرنا عليهم } أي كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان { ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم } أي في أمر القيامة فمن مثبت لها ومن منكر فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم } أي سدوا عليهم باب كهفهم وذروهم على حالهم { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا } حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين ( أحدهما ) أنهم المسلمون منهم ( والثاني ) أهل الشرك منهم فالله أعلم والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ] يحذر ما فعلوا وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها (3/106)
يقول تعالى مخبرا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف فحكى ثلاثة أقوال فدل على أنه لا قائل برابع ولما ضعف القولين الأولين بقوله : { رجما بالغيب } أي قولا بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله : { وثامنهم كلبهم } فدل على صحته وأنه هو الواقع في نفس الأمر وقوله : { قل ربي أعلم بعدتهم } إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا
وقوله : { ما يعلمهم إلا قليل } أي من الناس قال قتادة : قال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله عز و جل كانوا سبعة وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول أنا ممن استثنى الله عز و جل ويقول عدتهم سبعة فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة وهو موافق لما قدمناه
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق قال ابن عباس : فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله وكانوا ثمانية نفر : مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش هكذا وقع في هذه الرواية ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق أو من بينه وبينه فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة وهو ظاهر الاية وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته والله أعلم فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب وقد قال تعالى : { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا } أي سهلا هينا فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة { ولا تستفت فيهم منهم أحدا } أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب أي من غير استناد إلى كلام معصوم وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال (3/107)
هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز و جل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ قال سليمان بن داود عليهما السلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية : تسعين امرأة وفي رواية : مائة امرأة ـ تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له ـ وفي رواية قال له الملك : قل إن شاء الله فلم يقل فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته ] وفي رواية [ ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعين ] وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الاية في قول النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف [ غدا أجيبكم ] فتأخر الوحي خمسة عشر يوما وقد ذكرناه بطوله في أول السورة فأغنى عن إعادته
وقوله : { واذكر ربك إذا نسيت } قيل معناه إذا نسيت الاستثناء عند ذكرك له قاله أبو العالية والحسن البصري وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال : له أن يستثني ولو إلى سنة وكان يقول : { واذكر ربك إذا نسيت } ذلك قيل للأعمش : سمعته عن مجاهد ؟ فقال : حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء لله وذكر ولو بعد سنة فالسنة له أن يقول ذلك ليكون آتيا بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث قاله ابن جرير رحمه الله ونص على ذلك لا أن يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم
وقال عكرمة { واذكر ربك إذا نسيت } إذا غضبت وهذا تفسير باللازم وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الحارث الجبلي حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن حصين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } أن تقول إن شاء الله وروى الطبراني أيضا عن ابن عباس في قوله : { واذكر ربك إذا نسيت } الاستثناء فاستثن إذا ذكرت وقال : هي خاصة برسول الله صلى الله عليه و سلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ثم قال : انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين ويحتمل في الاية وجه آخر وهو أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى لأن النسيان منشؤه الشيطان كما قال فتى موسى : { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } وذكر الله تعالى يطرد الشيطان فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان فذكر الله تعالى سبب للذكر ولهذا قال : { واذكر ربك إذا نسيت } وقوله : { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك وقيل في تفسيره غير ذلك والله أعلم (3/108)
هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان وأنه كان مقداره ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية وهي الثلثمائة سنة بالشمسية فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين فلهذا قال : بعد ثلثمائة وازدادوا تسعا وقوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء بل قل في مثل هذا { الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض } أي لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد وغير واحد من السلف والخلف
وقال قتادة في قوله : { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين } الاية هذا قول أهل الكتاب وقد رده الله تعالى بقوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } قال : وفي قراءة عبد الله وقالوا : { ولبثوا } يعني أنه قاله الناس وهكذا قال كما قال قتادة مطرف بن عبد الله وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنة من غير تسع يعنون بالشمسية ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال : وازدادوا تسعا والظاهر من الاية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها والله أعلم
وقوله : { أبصر به وأسمع } أي أنه لبصير بهم سميع لهم قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود وأسمعه لكل مسموع لا يخفى عليه من ذلك شيء ثم روي عن قتادة في قوله : { أبصر به وأسمع } فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع وقال ابن زيد { أبصر به وأسمع } يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا وقوله : { ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا } أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر الذي لا معقب لحكمه وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس (3/109)
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه و سلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس { لا مبدل لكلماته } أي لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل وقوله : { ولن تجد من دونه ملتحدا } عن مجاهد ملتحدا قال : ملجأ وعن قتادة : وليا ولا مولى قال ابن جرير : يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله كما قال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } وقال : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } أي سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة
وقوله : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء يقال : إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه و سلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود وليفرد أولئك بمجلس على حدة فنهاه الله عن ذلك فقال : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الاية وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء فقال { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الاية وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص قال : [ كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه و سلم : اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يشاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز و جل { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } ] انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي التياح قال : سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم على قاص يقص فأمسك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قص فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب ] وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا هاشم : حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت كردوس بن قيس وكان قاص العامة بالكوفة يقول : أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب ] قال شعبة : فقلت أي مجلس ؟ قال : كان قاصا
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا محمد حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لأن أجالس قوما يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا ] فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس فبلغت ستة وتسعين ألفا وههنا من يقول أربعة من ولد إسماعيل والله ما قال إلا ثمانية دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم وهو الكوفي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر برجل يقرأ سورة الكهف فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم سكت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم ] هكذا رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر مرسلا وحدثنا يحيى بن المعلى عن المنصور حدثنا محمد بن الصلت حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا : جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجل يقرأ سورة الحج أو سورة الكهف فسكت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون المرئي حدثنا ميمون بن سياه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء : أن قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات ] تفرد به أحمد رحمه الله وقال الطبراني : حدثنا إسماعيل بن الحسن حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد عن أبي حازم عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في بعض أبياته { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الاية فخرج يتلمسهم فوجد قوما يذكرون الله تعالى منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد فلما رآهم جلس معهم وقال : [ الحمد الله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم ] عبد الرحمن هذا ذكره أبو بكر ابن أبي داود في الصحابة وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم
وقوله { ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا { وكان أمره فرطا } أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعا ولا محبا لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه كما قال : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } (3/110)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم : وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ولهذا قال : { إنا أعتدنا } أي أرصدنا { للظالمين } وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه { نارا أحاط بهم سرادقها } أي سورها قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لسرادق النار أربعة جدر كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة ] وأخرجه الترمذي في صفة النار وابن جرير في تفسيره من حديث دراج أبي السمح به
وقال ابن جريج : قال ابن عباس : { أحاط بهم سرادقها } قال : حائط من نار قال ابن جرير : حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا : حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية حدثني محمد بن حيي بن يعلى عن صفوان بن يعلى عن يعلى بن أمية قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : البحر هو جهنم قال : فقيل له كيف ذلك ؟ فتلا هذه الاية أو قرأ هذه الاية { نارا أحاط بهم سرادقها } ثم قال والله لا أدخلها أبدا أو ما دمت حيا لا تصيبني منها قطرة ] وقوله { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه } الاية قال ابن عباس : المهل : الماء الغليظ مثل دردي الزيت وقال مجاهد : هو كالدم والقيح وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حره وقال آخرون : هو كل شيء أذيب وقال قتادة : أذاب ابن مسعود شيئا من الذهب في أخدود فلما انماع وأزبد قال : هذا أشبه شيء بالمهل وقال الضحاك : ماء جهنم أسود وهي سوداء وأهلها سود وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الاخر فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها فهو أسود منتن غليظ حار ولهذا قال : { يشوي الوجوه } أي من حره إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ماء كالمهل ـ قال ـ كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه ] وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث رشدين وقد تكلم فيه من قبل حفظه هكذا قال : وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب عن ابن لهيعة عن دراج والله أعلم
وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد : عن صفوان بن عمرو عن عبد الله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { ويسقى من ماء صديد * يتجرعه } قال : [ يقرب إليه فيتكرهه فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه ] يقول الله تعالى : { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب } وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها فاجتثت جلود وجوههم فلو أن مارا مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة { بئس الشراب } أي بئس هذا الشراب كما قال في الاية الأخرى { وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } وقال تعالى : { تسقى من عين آنية } أي حارة كما قال تعالى : { وبين حميم آن } { وساءت مرتفقا } أي وساءت النار منزلا ومقيلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق كما قال في الاية الاخرى { إنها ساءت مستقرا ومقاما } (3/111)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة فلهم جنات عدن والعدن : الإقامة { تجري من تحتهم الأنهار } أي من تحت غرفهم ومنازلهم قال فرعون { وهذه الأنهار تجري من تحتي } الاية { يحلون } أي من الحلية { فيها من أساور من ذهب } وقال في المكان الاخر { ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } وفصله ههنا فقال { ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق } فالسندس ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق
وقوله : { متكئين فيها على الأرائك } الاتكاء قيل الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد ههنا ومنه الحديث الصحيح [ أما أنا فلا آكل متكئا ] فيه القولان : والأرائك جمع أريكة وهي السرير تحت الحجلة والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناة والله أعلم قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة { على الأرائك } قال : هي الحجال قال معمر وقال غيره : السرر في الحجال
وقوله : { نعم الثواب وحسنت مرتفقا } أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم وحسنت مرتفقا أي حسنت منزلا ومقيلا ومقاما كما قال في النار { بئس الشراب وساءت مرتفقا } وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله : { إنها ساءت مستقرا ومقاما } ثم ذكر صفات المؤمنين فقال { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما } (3/113)
يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم فضرب لهم مثلا برجلين جعل الله لأحدهما جنتين أي بستانتين من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزورع وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة ولهذا قال : { كلتا الجنتين آتت أكلها } أي أخرجت ثمرها { ولم تظلم منه شيئا } أي ولم تنقص منه شيئا { وفجرنا خلالهما نهرا } أي والأنهار متفرقة فيهما ههنا وههنا { وكان له ثمر } قيل : المراد به المال روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل : الثمار وهو أظهر ههنا ويؤيده القراءة الأخرى { وكان له ثمر } بضم الثاء وتسكين الميم فيكون جمع ثمرة كخشبة وخشب وقرأ آخرون ثمر بفتح الثاء والميم فقال أي صاحب هاتين الجنتين لصاحبه وهو يحاوره أي يجادله ويخاصمه يفتخر عليه ويترأس { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا } أي أكثر خدما وحشما وولدا قال قتادة : تلك والله أمنية الفاجر كثرة المال وعزة النفر
وقوله : { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه } أي بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكار المعاد { قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا } وذلك اغترارا منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف ذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها وكفره بالاخرة ولهذا قال : { وما أظن الساعة قائمة } أي كائنة { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا } أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا كما قال في الاية الأخرى { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } وقال { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا } أي في الدار الاخرة تألى على الله عز و جل وكان سبب نزولها في العاص بن وائل كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان (3/113)
يقول تعالى مخبرا عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظا له وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار { أكفرت بالذي خلقك من تراب } الاية وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين كما قال تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم } الاية أي كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية كل أحد يعلمها من نفسه فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوما ثم وجد وليس وجوده من نفسه ولا مستندا إلى شيء من المخلوقات لأنه بمثابته فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء ولهذا قال المؤمن { لكنا هو الله ربي } أي لكن أنا لا أقول بمقالتك بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية { ولا أشرك بربي أحدا } أي بل هو الله المعبود وحده لا شريك له
ثم قال : { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا } هذا تحضيض وحث على ذلك أي هلا إذ أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك وقلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ولهذا قال بعض السلف : من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله وهذا مأخوذ من هذه الاية الكريمة وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا جراح بن مخلد حدثنا عمر بن يونس حدثنا عيسى بن عون حدثنا عبد الملك بن زرارة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت ] وكان يتأول هذه الاية { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله } قال الحافظ أبو الفتح الأزدي : عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة و حجاج حدثني شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا قوة إلا بالله ] تفرد به أحمد وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله ] وقال الإمام أحمد : حدثنا بكر بن عيسى حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون قال : قال أبو هريرة : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش ؟ قال : قلت نعم فداك أبي وأمي قال : أن تقول لا قوة إلا بالله ] قال أبو بلج : [ وأحسب أنه قال فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم ] قال فقلت لعمرو : قال أبو بلج : قال عمرو : قلت لأبي هريرة لا حول ولا قوة إلا بالله فقال : لا إنها في سورة الكهف { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله }
وقوله : { فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك } أي في الدار الاخرة { ويرسل عليها } أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى { حسبانا من السماء } قال ابن عباس والضحاك وقتادة ومالك عن الزهري : أي عذابا من السماء والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها ولهذا قال : { فتصبح صعيدا زلقا } أي بلقا ترابا أملس لا يثبت فيه قدم وقال ابن عباس : كالجرز الذي لا ينبت شيئا وقوله : { أو يصبح ماؤها غورا } أي غائرا في الأرض وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض فالغائر يطلب أسفلها كما قال تعالى : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين } أي جار وسائح وقال ههنا : { أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا } والغور مصدر بمعنى غائر وهو أبلغ منه كما قال الشاعر :
( تظل جياده نوحا عليه ... تقلده أعنتها صفوفا )
بمعنى نائحات عليه (3/114)
يقول تعالى : { وأحيط بثمره } بأمواله أو بثماره على القول الاخر والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن الله عز و جل { فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها } وقال قتادة : يصفق كفيه متأسفا متلهفا على الأموال التي أذهبها عليها { ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا * ولم تكن له فئة } أي عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز { ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق } اختلف القراء ههنا فمنهم من يقف على قوله : { وما كان منتصرا * هنالك } أي في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله فلا منقذ له منه ويبتدىء بقوله : { الولاية لله الحق } ومنهم من يقف على { وما كان منتصرا } يبتدىء بقوله : { هنالك الولاية لله الحق } ثم اختلفوا في قراءة الولاية فمنهم من فتح الواو من الولاية فيكون المعنى هنالك الموالاة لله أي هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب كقوله : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } وكقوله إخبارا عن فرعون : { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } ومنهم من كسر الواو من الولاية أي هنالك الحكم لله الحق ثم منهم من رفع الحق على أنه نعت للولاية كقوله تعالى : { الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا } ومنهم من خفض القاف على أنه نعت لله عز و جل كقوله { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } الاية ولهذا قال تعالى : { هو خير ثوابا } أي جزاء { وخير عقبا } أي الأعمال التي تكون لله عز و جل ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها خير (3/116)
يقول تعالى : { واضرب } يا محمد للناس { مثل الحياة الدنيا } في زوالها وفنائها وانقضائها { كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } أي ما فيها من الحب فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله { أصبح هشيما } يابسا { تذروه الرياح } أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال { وكان الله على كل شيء مقتدرا } أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال وكثيرا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما قال تعالى في سورة يونس { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام } الاية وقال في الزمر : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه } الاية وقال في سورة الحديد { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته } الاية وفي الحديث الصحيح [ الدنيا خضرة حلوة ] وقوله { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } كقوله : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب } الاية وقال تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } أي الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم والشفقة المفرطة عليهم ولهذا قال : { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا }
قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف : الباقيات الصالحات الصلوات الخمس وقال عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس : الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن الباقيات الصالحات ما هي ؟ فقال : هي لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم رواه الإمام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا حيوة حدثنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مد فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال : [ من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح : ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات ] قالوا هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان ؟ قال لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم تفرد به
وروى مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال : الباقيات الصالحات : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات فقلت : الصلاة والصيام فقال لم تصب فقلت الزكاة والحج فقال : لم تصب ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن نافع بن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات قال : لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال ابن جريج وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك
وقال مجاهد : الباقيات الصالحات : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله : { والباقيات الصالحات } قال : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله هن الباقيات الصالحات قال ابن جرير : وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار عن أبي نصر التمار عن عبد العزيز بن مسلم عن محمد بن عجلان سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات ] قال : وحدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ استكثروا من الباقيات الصالحات قيل : وما هن يا رسول الله قال الملة قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله ] وهكذا رواه أحمد من حديث دراج به
قال ابن وهب : أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال : أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي في حاجة فقال : قل له القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة قال : فالتقيا فسلم أحدهما على الاخر ثم قال سالم : ما تعد الباقيات الصالحات ؟ فقال : لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال له سالم : متى جعلت فيها لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ قال : ما زلت أجعلها قال : فراجعه مرتين أو ثلاثا فلم ينزع قال : فأثبت ؟ قال سالم : أجل فأثبت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول : [ عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام فقال : يا جبريل من هذا الذي معك ؟ فقال : محمد فرحب بي وسهل ثم قال : مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة فقلت : وما غراس الجنة فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن يزيد عن العوام حدثني رجل من الأنصار من آل النعمان بن بشير قال : [ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء ثم قال : أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ألا وإن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا أبان حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام عن مولى لرسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده ـ وقال ـ بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنا بهن دخل الجنة : يؤمن بالله واليوم الاخر وبالجنة والنار وبالبعث بعد الموت وبالحساب ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالشفرة نعبث بها فأنكرت عليه فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلاتحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك وأسألك قلبا سليما وأسألك لسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب ] ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد بنحوه
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية حدثنا محمد بن سعد العوفي حدثني أبي حدثنا عمي الحسين عن يونس بن نفيع الجدلي عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال : كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه و سلم من أهل الطائف فخرجت من أهلي من السراة غدوة فأتيت منى عند العصر فتصاعدت في الجبل : ثم هبطت [ فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأسلمت وعلمني { قل هو الله أحد } و { إذا زلزلت } وعلمني هؤلاء الكلمات : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال : هن الباقيات الصالحات ] وبهذا الإسناد [ من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ثم قال سبحان الله مائة مرة والحمد لله مائة مرة والله أكبر مائة مرة ولا إله إلا الله مائة مرة غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل ] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { والباقيات الصالحات } قال : هي ذكر الله قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله وتبارك الله ولاحول ولاقوة إلا بالله وأستغفر الله وصلى الله على رسول الله والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض وقال العوفي عن ابن عباس : هي الكلام الطيب وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها واختاره ابن جرير رحمه الله (3/116)
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام كما قال تعالى : { يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا } أي تذهب من أماكنها وتزول كما قال تعالى : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } وقال تعالى : { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } وقال : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } يذكر تعالى أنه تذهب الجبال وتتساوى المهاد وتبقى الأرض قاعا صفصفا أي سطحا مستويا لا عوج فيه ولا أمتا أي لا وادي ولا جبل ولهذا قال تعالى : { وترى الأرض بارزة } أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد ولا مكان يواري أحدا بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية قال مجاهد وقتادة { وترى الأرض بارزة } لا خمر فيها ولا غيابة قال قتادة : لا بناء ولا شجر
وقوله : { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } وأي وجمعناهم الأولين منهم والاخرين فلم نترك منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا كما قال : { قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } وقال : { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } وقوله : { وعرضوا على ربك صفا } يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفا واحدا كما قال تعالى : { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } ويحتمل أنهم يقومون صفوفا كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } وقوله : { لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } هذا تقريع للمنكرين للمعاد وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم : { بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا } أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ولا أن هذا كائن
وقوله : { ووضع الكتاب } أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير والفتيل والقطمير والصغير والكبير { فترى المجرمين مشفقين مما فيه } أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة { ويقولون يا ويلتنا } أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا { مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } أي لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا ولا عملا وإن صغر إلا أحصاها أي ضبطها وحفظها وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الاية قبلها إلى سعد بن جنادة قال : [ لما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اجمعوا من وجد عودا فليأت به ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أترون هذا ؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة فإنها محصاة عليه ]
وقوله : { ووجدوا ما عملوا حاضرا } أي من خير وشر كما قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } الاية وقال تعالى : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } وقال تعالى : { يوم تبلى السرائر } أي تظهر المخبآت والضمائر قال الإمام أحمد : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به ] أخرجاه في الصحيحين وفي لفظ [ يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان بن فلان ]
وقوله : { ولا يظلم ربك أحدا } أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعا ولا يظلم أحدا من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم قال تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } الاية وقال { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } إلى قوله { حاسبين } والايات في هذا كثيرة وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه و سلم فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلا فسرت عليه شهرا حتى قدمت عليه الشام فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب : قل له جابر على الباب فقال : ابن عبد الله ؟ قلت نعم فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه فقال سمعت رسول الله يقول : [ يحشر الله عز و جل الناس يوم القيامة ـ أو قال العباد ـ عراة غرلا بهما قلت وما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال : قلنا كيف وإنما نأتي الله عز و جل حفاة عراة غرلا بهما ؟ قال : بالحسنات والسيئات ]
وعن شعبة عن العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة ] رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر وقد ذكرناها عند قوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } وعند قوله تعالى : { إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } (3/119)
يقول تعالى منبها بني آدم على عدواة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم ومقرعا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه وهو الذي أنشأه وابتداه وبألطافه رزقه وغذاه ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله فقال تعالى : { وإذ قلنا للملائكة } أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة { اسجدوا لآدم } أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم كما قال تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } وقوله : { فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } أي خانه أصله فإنه خلق من مارج من نار وأصل خلق الملائكة من نور كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه وخانه الطبع عند الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة ] ونبه تعالى ههنا على أنه من الجن أي على أنه خلق من نار كما قال : { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } قال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل البشر رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه
وقال الضحاك عن ابن عباس : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وكان اسمه الحارث وكان خازنا من خزان الجنة وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت وقال الضحاك أيضا عن ابن عباس : كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله واستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لادم { واستكبر وكان من الكافرين }
قال ابن عباس قوله : { كان من الجن } أي من خزان الجنان كما يقال للرجل مكي ومدني وبصري وكوفي وقال ابن جريج عن ابن عباس نحو ذلك وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : هو من خزان الجنة وكان يدبر أمر السماء الدنيا رواه ابن جرير من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به وقال سعيد بن المسيب : كان رئيس ملائكة سماء الدنيا وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما فذلك دعاه إلى الكبر وكان من حي يسمون جنا
وقال ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض فعصى فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما لعنه الله ممسوخا قال : وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه وإذا كانت في معصية فارجه وعن سعيد بن جبير أنه قال : كان من الجنانين الذين يعملون في الجنة وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها والله أعلم بحال كثير منها ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان وقد وضع فيها أشياء كثيرة وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه و سلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه فBهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل
وقوله : { ففسق عن أمر ربه } أي فخرج عن طاعة الله فإن الفسق هو الخروج يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها وفسقت الفأرة من جحرها إذا خرجت منه للعيث والفساد ثم قال تعالى مقرعا وموبخا لمن اتبعه وأطاعه { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني } الاية أي بدلا عني ولهذا قال : { بئس للظالمين بدلا } وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس { وامتازوا اليوم أيها المجرمون * ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون } (3/121)
يقول تعالى : هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئا ولا أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا كانوا إذ ذاك موجودين يقول تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدي ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير كما قال : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } الاية ولهذا قال : { وما كنت متخذ المضلين عضدا } قال مالك : أعوانا (3/122)
يقول تعالى مخبرا عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا { نادوا شركائي الذين زعمتم } أي في دار الدنيا ادعوهم اليوم ينقذوكم مما أنتم فيه قال تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } وقوله : { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } كما قال : { وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } الاية وقال : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له } الايتين وقال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } وقوله : { وجعلنا بينهم موبقا } قال ابن عباس وقتادة وغير واحد : مهلكا وقال قتادة : ذكر لنا أن عمر البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة وقال قتادة : موبقا واديا في جهنم
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سنان القزاز حدثنا عبد الصمد حدثنا يزيد بن درهم سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى : { وجعلنا بينهم موبقا } قال : واد في جهنم من قيح ودم وقال الحسن البصري : موبقا عداوة والظاهر من السياق ههنا أنه المهلك ويجوز أن يكون واديا في جهنم أو غيره والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا وأنه يفرق بينهم وبينها في الاخرة فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الاخر بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير وأما إن جعل الضمير في قوله بينهم عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به فهو كقوله تعالى : { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } وقال { يومئذ يصدعون } وقال تعالى : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } وقال تعالى : { ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون }
وقوله : { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا } أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك { ورأى المجرمون النار } تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز وقوله : { ولم يجدوا عنها مصرفا } أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها قال ابن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة ] وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة ] (3/123)
يقول تعالى : ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها كيلا يضلوا عن الحق ويخرجوا عن طريق الهدى ومع هذا البيان وهذا الفرقان الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة المعارضة للحق بالباطل إلا من هدى الله بصره لطريق النجاة قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة فقال : ألا تصليان ؟ فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } ] أخرجاه في الصحيحين (3/124)
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الايات والدلالات الواضحات وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانا كما قال أولئك لنبيهم : { فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين } وآخرون قالوا { ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } وقالت قريش { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين } إلى غير ذلك من الايات الدالة على ذلك
ثم قال { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم { أو يأتيهم العذاب قبلا } أي يرونه عيانا مواجهة ومقابلة ثم قال تعالى : { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } أي قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم ثم أخبر عن الكفار بأنهم { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } أي ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل وليس ذلك بحاصل لهم { واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا } أي اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب { هزوا } أي سخروا منهم في ذلك وهو أشد التكذيب (3/124)
يقول تعالى : وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالا { ونسي ما قدمت يداه } أي من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة { إنا جعلنا على قلوبهم } أي قلوب هؤلاء { أكنة } أي أغطية وغشاوة { أن يفقهوه } أي لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان { وفي آذانهم وقرا } أي صمما معنويا عن الرشاد { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا }
وقوله : { وربك الغفور ذو الرحمة } أي ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة { لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب } كما قال : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } وقال : { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب } والايات في هذا كثيرة شتى ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد وتضع كل ذات حمل حملها ولهذا قال : { بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا } أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل وقوله : { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا } أي الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم { وجعلنا لمهلكهم موعدا } أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين لا يزيد ولا ينقص أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي ولستم بأعز علينا منهم فخافوا عذابي ونذري (3/124)
سبب قول موسى لفتاه وهو يوشع بن نون هذا الكلام أنه ذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى فأحب الرحيل إليه وقال لفتاه ذلك { لا أبرح } أي لا أزال سائرا { حتى أبلغ مجمع البحرين } أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين قال الفرزدق :
( فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ... ببطحاء ذي قارعبات اللطائم )
قال قتادة وغير واحد : هما بحر فارس مما يلي المشرق وبحر الروم مما يلي المغرب وقال محمد بن كعب القرظي : مجمع البحرين عند طنجة يعني في أقصى بلاد المغرب فالله أعلم وقوله : { أو أمضي حقبا } أي ولو أني أسير حقبا من الزمان قال ابن جرير رحمه الله : ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة ثم روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحقب ثمانون سنة وقال مجاهد : سبعون خريفا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { أو أمضي حقبا } قال : دهرا وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك
وقوله : { فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما } وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له : متى فقدت الحوت فهو ثمة فسارا حتى بلغا مجمع البحرين وهناك عين يقال لها عين الحياة فناما هنالك وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام وطفر من المكتل إلى البحر فاستيقظ يوشع عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده ولهذا قال تعالى : { فاتخذ سبيله في البحر سربا } أي مثل السرب في الأرض قال ابن جريج : قال ابن عباس : صار أثره كأنه حجر وقال العوفي عن ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ذكر حديث ذلك : ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير مكان الحوت الذي فيه فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه فقال : { ذلك ما كنا نبغ } وقال قتادة : سرب من البحر حتى أفضى إلى البر ثم سلك فيه فجعل لا يسلك طريقا فيه إلا صار ماء جامدا
وقوله : { فلما جاوزا } أي المكان الذي نسيا الحوت فيه ونسب النسيان إليهما وإن كان يوشع هو الذي نسيه كقوله تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما يخرج من المالح على أحد القولين فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه بمرحلة { قال } موسى { لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا } أي الذي جاوزا فيه المكان { نصبا } يعني تعبا { قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } قال قتادة : وقرأ ابن مسعود أن أذكر كه ولهذا قال { واتخذ سبيله } أي طريقه { في البحر عجبا * قال ذلك ما كنا نبغ } أي هذا هو الذي نطلب { فارتدا } أي رجعا { على آثارهما } أي طريقهما { قصصا } أي يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما { فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما } وهذا هو الخضر عليه السلام كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل قال ابن عباس : كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب وكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : { آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه : { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا } قال : فكان الحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا فقال { ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا } قال : فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام فقال : أنا موسى فقال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا { قال إنك لن تستطيع معي صبرا } يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه فقال موسى { ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا } قال له الخضر : { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا }
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى : قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئا إمرا { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } قال : وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى آله ـ فكانت الأولى من موسى نسيانا قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر
ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى { أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } قال : وهذه أشد من الأولى { قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض } أي مائلا فقال الخضر بيده { فأقامه } فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا { لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما [ قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقرأ { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } وكان يقرأ { وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين }
ثم رواه البخاري عن قتيبة عن سفيان بن عيينة فذكر نحوه وفيه : فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها قال : فوضع موسى رأسه فنام قال سفيان : وفي حديث عن عمر قال : وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر فلما استيقظ قال موسى لفتاه { آتنا غداءنا } قال : وساق الحديث ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر فقال الخضر لموسى : ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه
وقال البخاري أيضا : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال : إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال سلوني فقلت : أي أبا عباس جعلني الله فداك بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل أما عمرو فقال لي قال : كذب عدو الله وأما يعلى فقال لي قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] موسى رسول الله ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أعلم منك ؟ قال : لا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله قيل : بلى قال أي رب وأين ؟ قال : بمجمع البحرين قال : أي رب اجعل لي علما أعلم ذلك به قال لي عمرو : قال حيث يفارقك الحوت [ وقال لي يعلى : خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال : ما كلفت كبيرا فذلك قوله : { وإذ قال موسى لفتاه } يوشع بن نون ليست عند سعيد بن جبير قال : فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ يضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ويضرب الحوت حتى دخل في البحر فأمسك الله عنه جرية الماء حتى كأن أثره في حجر قال : فقال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليهما قال : { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } قال : وقد قطع الله عنك النصب ليست هذه عند سعيد بن جبير أخبره فرجعا فوجدا خضرا قال : قال عثمان بن أبي سليمان : على طنفسة خضراء على كبد البحر قال سعيد بن جبير : مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه عند رأسه فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال : هل بأرضي من سلام ؟ من أنت ؟ قال : أنا موسى قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم قال : فما شأنك ؟ قال : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا قال : أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك يا موسى إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال : والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الاخر عرفوه فقالوا : عبد الله الصالح قال : فقلنا لسعيد بن جبير خضر قال : نعم لا نحمله بأجر فخرقها ووتد فيها وتدا قال موسى { أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا } قال مجاهد : منكرا { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا } كانت الأولى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا { قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله } قال يعلى : قال سعيد : وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا ظريفا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين فقال أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث ؟ و ابن عباس قرأها زكية مسلمة كقولك غلاما زكيا فانطلقا فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال سعيد : بيده هكذا ودفع بيده فاستقام قال : لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال يعلى : حسبت أن سعيدا قال : فمسحه بيده فاستقام قال : لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال سعيد : أجرا نأكله وكان وراءهم ملك وكان أمامهم قرأها ابن عباس : أمامهم ملك يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور ملك يأخذ كل سفينة غصبا فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها منهم من يقول سدوها بقارورة ومنهم من يقول بالقار كان أبواه مؤمنين وكان هو كافرا فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة كقوله : { أقتلت نفسا زكية } وقوله : { وأقرب رحما } هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد : إنها جارية
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خطب موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره مني فأمر أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان والله أعلم وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال : جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب فقال بعضهم : يا أبا العباس إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا قال سعيد : فقال ابن عباس : أنوف يقول هذا يا سعيد ؟ فقلت له : نعم أنا سمعت نوفا يقول ذلك قال : أنت سمعته يا سعيد ؟ قال : نعم قال : كذب نوف
ثم قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال : أي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه فقال له : نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت مليح قد قيل له : إذا حيي هذا الحوت في مكان فصاحبك هنالك وقد أدركت حاجتك فخرج موسى ومعه فتاه ومعه ذلك الحوت يحملانه فسار حتى جهده السير وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء وذلك الماء ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقارنه شيء ميت إلا حيي فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي فاتخذ سبيله في البحر سربا فانطلقا فلما جاوزا النقلة قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال الفتى وذكر : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ابن عباس فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها فإذا رجل متلفف في كساء له فسلم موسى عليه فرد عليه السلام ثم قال له : ما جاء بك إن كان لك في قومك لشغل ؟ قال له موسى : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا قال : إنك لن تستطيع معي صبرا وكان رجلا يعلم علم الغيب قد علم ذلك فقال موسى : بلى قال : { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا } أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ولم تحط من علم الغيب بما أعلم { قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا } وإن رأيت ما يخالفني قال : { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء } وإن أنكرته { حتى أحدث لك منه ذكرا } فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس يلتمسان من يحملهما حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن شيء أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها فسأل أهلها أن يحملوهما فحملوهما فلما أطمأنا فيها ولجت بهما مع أهلها أخرج منقارا له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ثم جلس عليها يرقعها فقال له موسى ورأى أمرا أفظع به { أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت } أي بما تركت من عهدك { ولا ترهقني من أمري عسرا } ثم خرجا من السفينة فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية فإذا غلمان يلعبون خلفها فيهم غلام ليس في الغلمان أظرف منه ولا أثرى ولا أوضأ منه فأخذه بيده وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله قال : فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه صبي صغير قتله لا ذنب له قال : { أقتلت نفسا زكية } أي صغيرة { بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا } أي قد أعذرت في شأني { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض } فهدمه ثم قعد يبنيه فضجر موسى مما يراه يصنع من التكليف وما ليس له عليه صبر فأقامه قال : { لو شئت لاتخذت عليه أجرا } أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا وضفناهم فلم يضيفونا ثم قعدت تعمل من غير صنيعة ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في عمله قال : { هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } وفي قراءة ابن كعب { كل سفينة غصبا } وإنما عبتها لأرده عنها فسلمت منه حين رأى العيب الذي صنعت بها { وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما } { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري } أي ما فعلته عن نفسي { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } فكان ابن عباس يقول : ما كان الكنز إلا علما وقال عوفي عن ابن عباس قالا : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر فلما استقرت بهم الدار أنزل الله أن ذكرهم بأيام الله فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض وقال : كلم الله نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه وأنزل علي محبة منه وآتاكم الله من كل ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤون التوراة فلم يترك نعمة أنعم الله عليهم إلا وعرفهم إياها فقال له رجل من بني إسرائيل : هم كذلك يا نبي الله قد عرفنا الذي تقول : فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليه السلام فقال : إن الله يقول : وما يدريك أين أضع علمي بلى إن لي على شط البحر رجلا هو أعلم منك قال ابن عباس : هو الخضر فسأل موسى ربه أن يريه إياه فأوحى إليه أن ائت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتا فخذه فادفعه إلى فتاك ثم الزم شاطىء البحر فإذا نسيت الحوت وهلك منك فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه سأل فتاه عن الحوت فقال له فتاه وهو غلامه { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } لك قال الفتى : لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربا فأعجب من ذلك فرجع موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس عنه الماء حتى يكون صخرة فجعل نبي الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر فلقي الخضر بها فسلم عليه فقال الخضر : وعليك السلام وأنى يكون السلام بهذه الأرض ومن أنت ؟ قال : أنا موسى قال الخضر : صاحب بني إسرائيل ؟ قال : نعم فرحب به وقال : ما جاء بك ؟ قال جئتك { على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا } يقول : لا تطيق ذلك قال : { ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا } قال : فانطلق به وقال له : لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين شأنه فذلك قوله : { حتى أحدث لك منه ذكرا }
وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس : هو الخضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر شأنه ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ] بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال : تعلم مكان رجل أعلم منك ؟ قال : لا فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر فقال فتى موسى لموسى : أرأيت إذ أويناإلى الصخرة فإني نسيت الحوت قال موسى { ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا } فوجدا عبدنا خضر فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه (3/125)
يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام لذلك الرجل العالم وهو الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر { قال له موسى هل أتبعك } سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم وقوله : { أتبعك } أي أصحبك وأرافقك { على أن تعلمن مما علمت رشدا } أي مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح فعندها { قال } الخضر لموسى { إنك لن تستطيع معي صبرا } أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك لأني على علم من علم الله ما علمكه الله وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه وأنت لا تقدر على صحبتي { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا } فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك { قال } أي موسى { ستجدني إن شاء الله صابرا } أي على ما أرى من أمورك { ولا أعصي لك أمرا } أي ولا أخالفك في شيء فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام { قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء } أي ابتداء { حتى أحدث لك منه ذكرا } أي حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني
قال ابن جرير : حدثنا حميد بن جبير حدثنا يعقوب عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس قال : سأل موسى عليه السلام ربه عز و جل فقال : أي رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني قال : فأي عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال : أي رب أي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال : أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني ؟ قال : نعم قال : فمن هو ؟ قال : الخضر قال : وأين أطلبه ؟ قال : على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت قال : فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله وانتهى موسى إليه عند الصخرة فسلم كل واحد منهما على صاحبه فقال له موسى : إني أحب أن أصحبك قال : إنك لن تطيق صحبتي قال : بلى قال : فإن صحبتني { فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا } قال : فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحرين وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه قال : وبعث الله الخطاف فجعل يستقي منه بمنقاره فقال لموسى : كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء ؟ قال : ما أقل ما رزأ قال : يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به فمن ثم أمر أن يأتي الخضر وذكر تمام الحديث في خرق السفينة وقتل الغلام وإصلاح الجدار وتفسيره له ذلك (3/131)
يقول تعالى مخبرا عن موسى وصاحبه وهو الخضر أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه فركبا في السفينة وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة وأنهم عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول يعني بغير أجرة تكرمة للخضر فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت أي دخلت اللجة قام الخضر فخرقها واستخرج لوحا من ألواحها ثم رقعها فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكرا عليه { أخرقتها لتغرق أهلها } وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل كما قال الشاعر :
( لدوا للموت وابنوا للخراب ... )
{ لقد جئت شيئا إمرا } قال مجاهد : منكرا وقال قتادة : عجبا فعندها قال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط { ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا } يعني وهذا الصنيع فعلته قصدا وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر علي فيها لأنك لم تحط بها خبرا ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت { قال } أي موسى { لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } أي لا تضيق علي ولا تشدد علي ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كانت الأولى من موسى نسيانا ] (3/132)
يقول تعالى : { فانطلقا } أي بعد ذلك { حتى إذا لقيا غلاما فقتله } وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى وأنه عمد إليه من بينهم وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فقتله وروي أنه احتز رأسه وقيل رضخه بحجر وفي رواية اقتلعه بيده والله أعلم فلما شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول وبادر فقال : { أقتلت نفسا زكية } أي صغيرة لم تعمل الحنث ولا عملت إثما بعد فقتلته { بغير نفس } أي بغير مستند لقتله { لقد جئت شيئا نكرا } أي ظاهر النكارة { قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } فأكد أيضا في التذكار بالشرط الأول فلهذا قال له موسى : { إن سألتك عن شيء بعدها } أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة { فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا } أي أعذرت إلي مرة بعد مرة قال ابن جرير : حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا حجاج بن محمد عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه فقال ذات يوم : [ رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ] (3/132)
يقول تعالى مخبرا عنهما إنهما { انطلقا } بعد المرتين الأوليين { حتى إذا أتيا أهل قرية } روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة وفي الحديث [ حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما ] أي بخلاء { استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض } إسناد الإرداة ههنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل والانقضاض هو السقوط وقوله : { فأقامه } أي فرده إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له { لو شئت لاتخذت عليه أجرا } أي لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجانا { قال هذا فراق بيني وبينك } أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني فهو فراق بيني وبينك { سأنبئك بتأويل } أي بتفسير { ما لم تسطع عليه صبرا } (3/133)
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة فقال : إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة { يأخذ كل سفينة } صالحة أي جيدة { غصبا } فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها وقد قيل إنهم أيتام وروى ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم الملك هدد بن بدد وقد تقدم أيضا في رواية البخاري وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوارة والله أعلم (3/133)
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جيسور وفي هذا الحديث عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ] رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق عن سعيد عن ابن عباس به ولهذا قال : { فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا } أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض امرؤ بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب وصح في الحديث [ لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ] وقال تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } وقوله { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما } أي ولدا أزكى من هذا وهما أرحم به منه قاله ابن جريج وقال قتادة : أبر بوالديه وقد تقدم أنهما بدلا جارية وقيل : لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم قاله ابن جريج (3/134)
في هذه الاية دليل على إطلاق القرية على المدينة لأنه قال أولا { حتى إذا أتيا أهل قرية } وقال ههنا { فكان لغلامين يتيمين في المدينة } كما قال تعالى : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } يعني مكة والطائف ومعنى الاية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما قال عكرمة وقتادة وغير واحد : وكان تحته مال مدفون لهما وهو ظاهر السياق من الاية وهو اختيار ابن جرير رحمه الله
وقال العوفي عن ابن عباس : كان تحته كنز علم وكذا قال سعيد بن جبير وقال مجاهد : صحف فيها علم وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا بشر بن المنذر حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس الغاني عن ابن حجيرة عن أبي ذر رفعه قال : [ إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل لا إله إلا الله محمد رسول الله ] وبشر بن المنذر هذا يقال له قاضي المصيصة قال الحافظ أبو جعفر العقيلي في حديثه وهم وقد روي في هذا آثار عن السلف فقال ابن جرير في تفسيره : حدثني يعقوب حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة حدثنا سلمة عن نعيم العنبري وكان من جلساء الحسن قال : سمعت الحسن يعني البصري يقول في قوله : { وكان تحته كنز لهما } قال لوح من ذهب مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله
وحدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عبد الله بن عياش عن عمر مولى غفرة قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف { وكان تحته كنز لهما } قال : كان لوحا من ذهب مصمت مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم عجب لمن عرف النار ثم ضحك عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحدثني أحمد بن حازم الغفاري حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى : { وكان تحته كنز لهما } قال سطران ونصف لم يتم الثالث : عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للمؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت للمؤمن بالموت كيف يفرح وقد قال الله { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } قالت : وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح وكانت بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء وكان نساجا وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة وورد به الحديث المتقدم وإن صح لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالا لأنهم ذكروا أنه كان لوحا من ذهب وفيه مال جزيل أكثر ما زادوا أنه كان مودعا فيه علم وهو حكم ومواعظ والله أعلم
وقوله : { وكان أبوهما صالحا } فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والاخرة بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم كما جاء في القرآن ووردت به السنة قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاحا وتقدم أنه كان الأب السابق فالله أعلم وقوله : { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما } ههنا أسند الإرادة إلى الله تعالى لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله وقال في الغلام { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة } وقال في السفينة { فأردت أن أعيبها } فالله أعلم
وقوله تعالى : { رحمة من ربك وما فعلته عن أمري } أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ووالدي الغلام وولدي الرجل الصالح وما فعلته عن أمري أي لكني أمرت به ووقفت عليه وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله : { فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما } وقال آخرون : كان رسولا وقيل : بل كان ملكا نقله الماوردي في تفسيره وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيا بل كان وليا فالله أعلم
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام قالوا : وكان يكنى أبا العباس ويلقب بالخضر وكان من أبناء الملوك ذكره النووي في تهذيب الأسماء وحكى هو وغيره في كونه باقيا إلى الان ثم إلى يوم القيامة قولين ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه وذكروا في ذلك حكايات وآثارا عن السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث ولا يصح شيء من ذلك وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك واحتجوا بقوله تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } وبقول النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر [ اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ] وبأنه لم ينقل أنه جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لأنه عليه السلام كان مبعوثا إلى جميع الثقلين : الجن والإنس وقد قال : [ لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي ] وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف إلى غير ذلك من الدلائل
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في الخضر قال : [ إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذ هي تهتز من تحته خضراء ] ورواه أيضا عن عبد الرزاق وقد ثبت أيضا في صحيح البخاري عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء ] والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس وهو الهشيم من النبات قاله عبد الزراق وقيل : المراد بذلك وجه الأرض وقوله : { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعا ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال { تسطع } وقبل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا فقال { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف كما قال : { فما اسطاعوا أن يظهروه } وهو الصعود إلى أعلاه { وما استطاعوا له نقبا } وهو أشق من ذلك فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى والله أعلم
فإن قيل : فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك ؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما وفتى موسى معه تبع وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام هذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال : حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة : حدثني ابن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن أبيه عن عكرمة قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه ؟ قال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال : شرب الفتى من الماء فخلد فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب إسناده ضعيف والحسن متروك وأبوه غير معروف (3/134)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم { ويسألونك } يا محمد { عن ذي القرنين } أي عن خبره وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : سلوه عن رجل طواف في الأرض وعن فتية لا يدرى ما صنعوا وعن الروح فنزلت سورة الكهف وقد أورد ابن جرير ههنا والأموي في مغازيه حديثا أسنده وهو ضعيف عن عقبة بن عامر أن نفرا من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه و سلم عن ذي القرنين فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء فكان فيما أخبرهم به أنه كان شابا من الروم وأنه بنى الاسكندرية وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى السد ورأى أقواما وجوههم مثل وجه الكلاب وفيه طول ونكارة ورفعه لا يصح وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل
والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة وذلك غريب منه وفيه من النكارة أنه من الروم وإنما الذي كان من الروم الاسكندر الثاني وهو ابن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ به الروم فأما الأول فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر عليه السلام وأما الثاني فهو اسكندر بن فيلبس المقدوني اليوناني وكان وزيره ارسطاطاليس الفيلسوف المشهور والله أعلم وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة الروم وقد كان قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلثمائة سنة فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل كما ذكره الأزرقي وغيره وأنه طاف مع الخليل عليه السلام بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليه السلام وقرب إلى الله قربانا وقد ذكرنا طرفا صالحا من أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية ولله الحمد
وقال وهب بن منبه : كان ملكا وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس قال : وقال بعض أهل الكتاب : لأنه ملك الروم وفارس وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال : سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين فقال : كان عبدا ناصحا لله فناصحه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فسمي ذا القرنين وكذا رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع عليا يقول ذلك ويقال : إنه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب
وقوله : { إنا مكنا له في الأرض } أي أعطيناه ملكا عظيما ممكنا فيه من جيمع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ودانت له البلاد وخضعت له ملوك العباد وخدمته الأمم من العرب والعجم ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها وقوله : { وآتيناه من كل شيء سببا } قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم : يعني علما وقال قتادة أيضا في قوله { وآتيناه من كل شيء سببا } قال : منازل الأرض وأعلامها
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وآتيناه من كل شيء سببا } قال : تعليم الألسنة قال : كان لا يغزو قوما إلا كلمهم بلسانهم وقال ابن لهيعة حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار : أنت تقول : إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك فإن الله تعالى قال : { وآتيناه من كل شيء سببا } وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب والحق مع معاوية في ذلك الإنكار فإن معاوية كان يقول عن كعب : إن كنا لنبلو عليه الكذب يعني فيما ينقله لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه و سلم إلى شيء منها بالكلية فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض وتأويل كعب قول الله { وآتيناه من كل شيء سببا } واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ولا إلى الترقي في أسباب السموات وقد قال الله في حق بلقيس { وأوتيت من كل شيء } أنه مما يؤتى مثلها من الملوك وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض وإذلال أهل الشرك قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببا والله أعلم وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماز قال : كنت عند علي رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب ؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد (3/136)
قال ابن عباس { فأتبع سببا } يعني بالسبب المنزل وقال مجاهد { فأتبع سببا } منزلا وطريقا ما بين المشرق والمغرب وفي رواية عن مجاهد { سببا } قال : طريقا في الأرض وقال قتادة : أي اتبع منازل الأرض ومعالمها وقال الضحاك { فأتبع سببا } أي المنازل وقال سعيد بن جبير في قوله : { فأتبع سببا } قال : علما وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى والسدي وقال مطر : معالم وآثار كانت قبل ذلك
وقوله : { حتى إذا بلغ مغرب الشمس } أي فسلك طريقا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاف زنادقتهم وكذبهم وقوله : { وجدها تغرب في عين حمئة } أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين كما قال تعالى : { إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون } أي طين أملس وقد تقدم بيانه
وقال ابن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أنبأنا نافع بن أبي نعيم سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول في عين حمئة ثم فسرها ذات حمئة قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء وكذا روى غير واحد عن ابن عباس وبه قال مجاهد وغير واحد وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن دينار عن سعد بن أوس عن مصدع عن ابن عباس عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه و سلم أقرأه حمئة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وجدها تغرب في عين حامية يعني حارة وكذا قال الحسن البصري وقال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارىء فهو مصيب قلت : ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل وحمئة في ماء وطين أسود كما قال كعب الأحبار وغيره
وقال ابن جرير حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام حدثني مولى لعبد الله بن عمرو عن عبد الله قال نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الشمس حين غابت فقال : [ في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض ] قلت ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ولعله من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك والله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا محمد يعني ابن بشر حدثنا عمرو بن ميمون أنبأنا ابن حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الاية التي في سورة الكهف { تغرب في عين حمئة } قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا حمئة فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها ؟ فقال : عبد الله كما قرأتها قال ابن عباس فقلت لمعاوية في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له أين تجد الشمس تغرب في التوراة ؟ فقال له كعب سل أهل العربية فإنهم أعلم بها وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب قال ابن حاضر : لو أني عندك أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة قال ابن عباس : وإذا ما هو ؟ قلت : فيما يؤثر من قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه :
( بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد )
( فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد )
فقال ابن عباس : ما الخلب ؟ قلت : الطين بكلامهم قال : فما الثأط ؟ قلت : الحمأة قال : فما الحرمد ؟ قلت : الأسود قال : فدعا ابن عباس رجلا أو غلاما فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل وقال سعيد بن جبير بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ { وجدها تغرب في عين حمئة } قال : كعب والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدا يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس فإنا نجدها في التوراة تغرب في مدرة سوداء وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف قال في تفسير ابن جريج { ووجد عندها قوما } قال مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب وقوله : { ووجد عندها قوما } أي أمة من الأمم ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم وقوله : { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا } معنى هذا أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم وأظفره بهم وخيره إن شاء قتل وسبى وإن شاء من أوفدى فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه في قوله : { أما من ظلم } أي استمر على كفره وشركه بربه { فسوف نعذبه } قال قتادة بالقتل وقال السدي كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا وقال وهب بن منبه كان يسلط الظلمة فتدخل أجوافهم وبيوتهم وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم وقوله : { ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا } أي شديدا بليغا وجيعا أليما وفي هذا إثبات المعاد والجزاء وقوله : { وأما من آمن } أي اتبعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له { فله جزاء الحسنى } أي في الدار الاخرة عند الله عز و جل { وسنقول له من أمرنا يسرا } قال مجاهد معروفا (3/138)
يقول تعالى ثم سلك طريقا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز و جل فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الأقاليم المتاخمة لهم وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وتسعمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال تعالى { وجدها تطلع على قوم } أي أمة { لم نجعل لهم من دونها سترا } أي ليس لهم بناء يكنهم ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس وقال سعيد بن جبير كانوا حمرا قصارا مساكنهم الغيران أكثر معيشتهم من السمك
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سهل بن أبي الصلت سمعت الحسن وسأل عن قول الله تعالى { لم نجعل لهم من دونها سترا } قال إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم قال الحسن هذا حديث سمرة وقال قتادة ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئا فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروفهم ومعايشهم وعن سلمة بن كهيل أنه قال : ليست لهم أكنان إذا طلعت الشمس طلعت عليهم فلأحدهم أذنان يفرش إحداهما ويلبس الأخرى قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : { وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا } قال هم الزنج وقال ابن جرير في قوله : { وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا } قال لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس أو دخلوا البحر وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها : لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها قالوا : لا نبرح حتى تطلع الشمس ما هذه العظام ؟ قالوا : هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ههنا فماتوا قال : فذهبوا هاربين في الأرض وقوله : { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا } قال مجاهد والسدي : علما أي نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض فإنه تعالى { لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } (3/140)
يقول تعالى مخبرا عن ذي القرنين { ثم أتبع سببا } أي ثم سلك طريقا من مشارق الأرض حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيها فسادا ويهلكون الحرث والنسل ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في الصحيحين [ إن الله تعالى يقول : يا آدم فيقول لبيك وسعديك فيقول : ابعث بعث النار فيقول : وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها فقال إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ] وقد حكى النووي رحمه الله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب فخلقوا من ذلك فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من حواء وهذا قول غريب جدا لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل ولا يجوز الاعتماد ههنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب لما عندهم من الأحاديث المفتعلة والله أعلم
وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ولد نوح ثلاثة : سام أبو العرب وحام أبو السودان ويافث أبو الترك ] قال بعض العلماء هؤلاء من نسل يافث أبو الترك وقال إنما سمي هؤلاء تركا لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة وإلا فهم أقرباء أولئك ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة وقد ذكر ابن جرير ههنا عن وهب بن منبه أثرا طويلا عجيبا في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها والله أعلم وقوله : { وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } أي لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس { قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا } قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أجرا عظيما يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا لهم من بينهم مالا يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدا فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير { ما مكني فيه ربي خير } أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان عليه السلام { أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم } الاية وهكذا قال ذو القرنين : الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء { أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد } والزبر جمع زبرة وهي القطعة منه قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه { حتى إذا ساوى بين الصدفين } أي وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولا وعرضا واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال { قال انفخوا } أي أجج عليه النار حتى صار كله نارا { قال آتوني أفرغ عليه قطرا } قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي هو النحاس زاد بعضهم المذاب ويستشهد بقوله تعالى : { وأسلنا له عين القطر } ولهذا يشبه بالبرد المحبر قال ابن جرير : حدثنا بشر عن يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال : [ ذكر لنا أن رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال قد رأيته ] هذا حديث مرسل وقد بعث الخليفة الواثق في دولته أحد أمرائه وجهز معه جيشا سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا فتوصلوا من هناك إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس وذكروا أنهم رأوا فيه بابا عظيما وعليه أقفال عظيمة ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك وأن عنده حرسا من الملوك المتاخمة له وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالا وعجائب ثم قال الله تعالى (3/141)
يقول تعالى مخبرا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال { فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا } وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله فيعودون إليه كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا في رقابهم فيقتلهم بها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم ] ورواه أحمد أيضا عن حسن هو ابن موسى الأشهب عن سفيان عن قتادة به وكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : حدث أبو رافع وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة ثم قال غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه وإسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الاية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون غدا نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون فذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غدا نفتحه ويلهمون أن يقولوا إن شاء الله فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه وهذا متجه ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه والله أعلم
ويؤيد ما قلناه من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه ومن نكارة هذا المرفوع قول الإمام أحمد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمى عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها أم حبيبة عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه و سلم ـ قال سفيان أربع نسوة ـ قالت : [ استيقظ النبي صلى الله عليه و سلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ] وحل [ قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ] هذا حديث صحيح اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث الزهري ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة وأثبتها مسلم وفيه أشياء عزيزة قليلة نادرة الوقوع في صناعة الإسناد منها رواية الزهري عن عروة وهما تابعيان ومنها اجتماع أربع نسوة في سنده كلهن يروي بعضهم عن بعض ثم كل منهن صحابية ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان رضي الله عنهن
قد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضا فقال ا لبزار : حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأموج مثل هذا ] وعقد التسعين وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب به وقوله : { قال هذا رحمة من ربي } أي لما بناه ذو القرنين { قال هذا رحمة من ربي } أي بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد { فإذا جاء وعد ربي } أي إذا اقترب الوعد الحق { جعله دكا } أي ساواه بالأرض تقول العرب : ناقة دكاء إذا كان ظهرها مستويا لاسنام لها وقال تعالى : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } أي مساويا للأرض
وقال عكرمة في قوله : { فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء } قال : طريقا كما كان { وكان وعد ربي حقا } أي كائنا لا محالة وقوله : { وتركنا بعضهم } أي الناس يومئذ أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم وهكذا قال السدي في قوله : { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } قال : ذاك حين يخرجون على الناس وهذا كله قبل القيامة وبعد الدجال كما سيأتي بيانه عند قوله : { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق } الاية وهكذا قال ههنا { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } قال : هذا أول القيامة { ونفخ في الصور } على أثر ذلك { فجمعناهم جمعا } وقال آخرون : بل المراد بقوله : { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } قال : إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن
وروى ابن جرير عن محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة عن شيخ من بني فزارة في قوله { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } قال : إذا ماج الإنس والجن قال إبليس : أنا أعلم لكم علم هذا الأمر فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض فيقول : ما من محيص ثم يظعن يمينا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض فيقول ما من محيص فبينما هو كذلك إذ عرض له طريق كالشراك فأخذ عليه هو وذريته فبينما هم عليه إذ هجموا على النار فأخرج الله خازنا من خزان النار فقال : يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك ألم تكن في الجنان ؟ فيقول : ليس هذا يوم عتاب لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه فيقول : فإن الله قد فرض عليك فريضة فيقول : ما هي ؟ فيقول يأمرك أن تدخل النار فيتلكأ عليه فيقول : به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثى لركبتيه وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به ثم رواه من وجه آخر عن يعقوب عن هارون عن عنترة عن أبيه عن ابن عباس { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } قال : الإنس والجن يموج بعضهم في بعض
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل وتايس ومنسك ] هذا حديث غريب بل منكر ضعيف
وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبيه عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعا [ إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا وشجر يلقحون كما شاءوا ولا يموت رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ] وقوله : { ونفخ في الصور } والصور كما جاء في الحديث : قرن ينفخ فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام كما تقدم في الحديث بطوله والأحاديث فيه كثيرة وفي الحديث عن عطية عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعا [ كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته واستمع متى يؤمر ؟ قالوا : كيف نقول ؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ] وقوله : { فجمعناهم جمعا } أي أحضرنا الجميع للحساب { قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } (3/142)
يقول تعالى مخبرا عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك ] ثم قال مخبرا عنهم { الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } أي تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق كما قال : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } وقال ههنا : { وكانوا لا يستطيعون سمعا } أي لا يعقلون عن الله أمره ونهيه ثم قال : { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء } أي اعتقدوا أنهم يصلح لهم ذلك وينتفعون به { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلا (3/144)
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو عن مصعب قال : سألت أبي يعني سعد بن أبي وقاص عن قول الله : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } أهم الحرورية ؟ قال : لا هم اليهود والنصارى أما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه و سلم وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالو : لا طعام فيها ولا شراب والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين وقال علي بن أبي طالب والضحاك وغير واحد : هم الحرورية ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الاية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء بل هي أعم من هذا فإن هذه الاية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطىء وعمله مردود كما قال تعالى : { وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية } وقال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } وقال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا } وقال تعالى في هذه الاية الكريمة : { قل هل ننبئكم } أي نخبركم { بالأخسرين أعمالا } ثم فسرهم فقال { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا } أي عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } أي يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون
وقوله { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } أي جحدوا آيات الله في الدنيا وبراهينه التي أقام على وحدانيته وصدق رسله وكذبوا بالدار الاخرة { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا المغيرة حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ـ وقال ـ اقرءوا إن شئتم { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } ] وعن يحيى بن بكير عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد مثله هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق عن يحيى بن بكير به
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها ] قال وقرأ { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي الصلت عن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعا فذكره بلفظ البخاري سواء وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا العباس بن محمد حدثنا عون بن عمارة حدثنا هشيم بن حسان عن واصل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : [ كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له فلما قام على النبي صلى الله عليه و سلم قال : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ] ثم قال : تفرد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عمارة وليس بالحافظ ولم يتابع عليه
وقد قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن شمر عن أبي يحيى عن كعب قال : يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } وقوله : { ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا } أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب (3/145)
يخبر تعالى عن عباده السعداء وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به أن لهم جنات الفردوس قال مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية وقال كعب والسدي والضحاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب وقال أبو أمامة : الفردوس سرة الجنة وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وقد روي هذا مرفوعا من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها ] وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعا وروي عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعا بنحوه روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله وفي الصحيحين [ إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة ] وقوله تعالى : { نزلا } أي ضيافة فإن النزل الضيافة وقوله { خالدين فيها } أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدا { لا يبغون عنها حولا } أي لا يختارون عنها غيرها ولا يحبون سواها كما قال الشاعر :
( فحلت سويدا القلب لا أنا باغيا ... سواها ولا عن حبها أتحول )
وفي قوله : { لا يبغون عنها حولا } تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائما أنه قد يسأمه أو يمله فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنا ولا رحلة ولا بدلا (3/146)
يقول تعالى : قل يا محمد لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك { ولو جئنا بمثله } أي بمثل البحر آخر ثم آخر وهلم جرا بحور تمده ويكتب بها لما نفدت كلمات الله كما قال تعالى : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحوركلها وقد أنزل الله ذلك { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } يقول لو كانت تلك البحور مدادا لكلمات الله والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الاخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها (3/146)
روى الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان قال : هذه آخر آية أنزلت يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه { قل } لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم { إنما أنا بشر مثلكم } فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر ولولا ما أطلعني الله عليه وإنما أخبركم { أنما إلهكم } الذي أدعوكم إلى عبادته { إله واحد } لا شريك له { فمن كان يرجو لقاء ربه } أي ثوابه وجزاءه الصالح { فليعمل عملا صالحا } أي ما كان موافقا لشرع الله { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال : قال رجل يا رسول الله إني أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا حتى نزلت هذه الاية { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد وقال الأعمش : حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب قال : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال : أنبئني عما أسألك عنه أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد فقال عبادة : ليس له شيء إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير حدثنا كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنبيت عنده تكون له حاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا فكثر المحتسبون وأهل النوب فكنا نتحدث فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ما هذه النجوى ؟ قال : فقلنا : تبنا إلى الله أي نبي الله إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه فقال ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي قال قلنا بلى فقال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد يعني ابن بهرام قال : قال شهر بن حوشب : قال ابن غنم : لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى والله أعلم بما نتناجى به فقال عبادة بن الصامت : إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين يعني من وسط قراء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه و سلم فأعاده وأبدأه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزله عند منازله لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت قال : فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا فقال شداد : إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من الشهوة الخفية والشرك ] فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء : اللهم غفرا ألم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد ؟ فقال شداد : أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق له أترون أنه قد أشرك ؟ قالوا : نعم والله إن من صلى لرجل أو صام أو تصدق له لقد أشرك فقال شداد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك ] فقال عوف بن مالك عند ذلك : أفلا يعمد إليه إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيصل ما خلص له ويدع ما أشرك به فقال شداد عند ذلك : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بي من أشرك بي شيئا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني ]
( طريق أخرى لبعضه ) قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب حدثني عبد الواحد بن زياد أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبكاني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية قلت : يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : نعم أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراءون بأعمالهم والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ] ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به و عبادة فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر
( حديث آخر ) قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر حدثنا علي بن ثابت حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله يوم القيامة : أنا خير شريك من أشرك بي أحدا فهو له كله ] وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم يرويه عن الله عز و جل أنه قال : [ أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك ] تفرد به من هذا الوجه
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا يونس حدثنا الليث عن يزيد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكير أخبرنا عبد الحميد يعني ابن جعفر أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا جمع الله الأولين والاخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ] وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث محمد وهو البرساني به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا بكار حدثني أبي ـ يعني عبد العزيز بن أبي بكرة ـ عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به ] وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من يرائي يرائي الله به ومن يسمع يسمع الله به ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني عمرو بن مرة قال : سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من سمع الناس بعمله سمع الله به ساء خلقه وصغره وحقره ] فذرفت عينا عبد الله وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي حدثنا الحارث بن غسان حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز و جل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله : ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة : يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا فيقول : إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي ] ثم قال : الحارث بن غسان روى عنه جماعة وهو ثقة بصري ليس به بأس وقال ابن وهب : حدثني يزيد بن عياض عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس ]
وقال أبو يعلى : حدثنا محمد بي أبي بكر حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عوف بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عز و جل ] وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الاية { فمن كان يرجو لقاء ربه } الاية وقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن وهذا أثر مشكل فإن هذه الاية آخر سورة الكهف والكهف كلها مكية ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها بل هي مثبتة محكمة فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه والله أعلم
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق حدثنا النضر بن شميل حدثنا أبو قرة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ في ليلة { فمن كان يرجو لقاء ربه } الاية كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك النور الملائكة ] غريب جدا آخر تفسير سورة الكهف (3/147)
سورة مريم
وهي مكية
وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه
بسم الله الرحمن الرحيم (3/150)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة وقوله { ذكر رحمة ربك } أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا وقرأ يحيى بن يعمر { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } وزكريا يمد ويقصر قراءتان مشهورتان وكان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل وفي صحيح البخاري أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة وقوله { إذ نادى ربه نداء خفيا } قال بعض المفسرين : إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره حكاه الماوردي وقال آخرون : إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله كما قال قتادة في هذه الاية { إذ نادى ربه نداء خفيا } إن الله يعلم القلب التقي ويسمع الصوت الخفي وقال بعض السلف : قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه فجعل يهتف بربه يقول خفية : يا رب يا رب يا رب فقال الله له : لبيك لبيك لبيك { قال رب إني وهن العظم مني } أي ضعفت وخارت القوى { واشتعل الرأس شيبا } أي اضطرم المشيب في السواد كما قال ابن دريد في مقصورته :
( أما ترى رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجى )
( واشتعل المبيض في مسودة ... مثل اشتعال النار في جمر الغضا )
والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة وقوله { ولم أكن بدعائك رب شقيا } أي ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء ولم تردني قط فيما سألتك وقوله { وإني خفت الموالي من ورائي } قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول وعن الكسائي أنه سكن الياء كما قال الشاعر :
( كأن أيديهن في القاع القرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق )
وقال الاخر :
( فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا )
ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي :
( تغاير الشعر منه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل )
وقال مجاهد وقتادة والسدي : أراد بالموالي العصبة وقال أبو صالح : الكلالة وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها { وإني خفت الموالي من ورائي } بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه
( الثاني ) أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ومثل هذا لا يجمع مالا ولا سيما الأنبياء فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا
( الثالث ) أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا نورث ما تركنا فهو صدقة ] وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح [ نحن معشر الأنبياء لا نورث ] وعلى هذا فتعين حمل قوله { فهب لي من لدنك وليا * يرثني } على ميراث النبوة ولهذا قال { ويرث من آل يعقوب } كقوله { وورث سليمان داود } أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث [ نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة ]
قال مجاهد في قوله { يرثني ويرث من آل يعقوب } كان وراثته علما وكان زكريا من ذرية يعقوب وقال هشيم : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله { يرثني ويرث من آل يعقوب } قال : يكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن يرث نبوته وعلمه وقال السدي : يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب وعن مالك عن زيد بن أسلم { ويرث من آل يعقوب } قال نبوتهم وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله { يرثني ويرث من آل يعقوب } قال : يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يرحم الله زكريا وما كان عليه من وراثة ماله ويرحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد ] وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن مبارك هو ابن فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من وراثة ماله حين قال : هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ] وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح والله أعلم وقوله { واجعله رب رضيا } أي مرضيا عندك وعند خلقك تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه (3/150)
هذا الكلام يتضمن محذوفا وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له : { يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } كما قال تعالى : { هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين } وقوله { لم نجعل له من قبل سميا } قال قتادة وابن جريج وابن زيد : أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم واختاره ابن جرير رحمه الله
قال مجاهد { لم نجعل له من قبل سميا } أي شبيها وأخذه من معنى قوله { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } أي شبيها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي لم تلد العواقر قبله مثله وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها بخلاف إبراهيم وسارة عليهما السلام فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما لا لعقرهما ولهذا قال { أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون } مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة وقالت امرأته { يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد } (3/152)
هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد ففرح فرحا شديدا وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها ومع أنه قد كبر وعتا أي : عسا عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع والعرب تقول للعود إذا يبس : عتا يعتو عتيا وعتوا وعسا يعسو عسوا وعسيا وقال مجاهد : عتيا يعني نحول العظم وقال ابن عباس وغيره : عتيا يعني الكبر والظاهر أنه أخص من الكبر
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف { وقد بلغت من الكبر عتيا } أو عسيا ورواه الإمام أحمد عن سريج بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن هشيم به { قال } أي الملك مجيبا لزكريا عما استعجب منه { كذلك قال ربك هو علي هين } أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها { هين } أي يسير سهل على الله ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } كما قال تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } (3/152)
يقول تعالى مخبرا عن زكريا عليه السلام أنه { قال رب اجعل لي آية } أي علامة ودليلا على وجود ما وعدتني لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني كما قال إبراهيم عليه السلام { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } الاية { قال آيتك } أي علامتك { أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } أي أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة وغير واحد : اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة
وقال العوفي عن ابن عباس { ثلاث ليال سويا } أي متتابعات والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح كما قال تعالى في آل عمران { قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } وقال مالك عن زيد بن أسلم { ثلاث ليال سويا } من غير خرس وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها { إلا رمزا } أي إشارة ولهذا قال في هذه الاية الكريمة { فخرج على قومه من المحراب } أي الذي بشر فيه بالولد { فأوحى إليهم } أي أشار إشارة خفية سريعة { أن سبحوا بكرة وعشيا } أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكرا لله على ما أولاه قال مجاهد : فأوحى إليهم أي أشار وبه قال وهب وقتادة وقال مجاهد في رواية عنه : { فأوحى إليهم } أي كتب لهم في الأرض وكذا قال السدي (3/153)
وهذا أيضا تضمن محذوفا تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه السلام وأن الله علمه الكتاب وهو التوارة التي كانوا يتدارسونها بينهم ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال : { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد { وآتيناه الحكم صبيا } أي الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه وهو صغير حدث قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب فقال : ما للعب خلقت فلهذا أنزل الله { وآتيناه الحكم صبيا }
وقوله : { وحنانا من لدنا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وحنانا من لدنا } يقول : ورحمة من عندنا وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد : لا يقدر عليها غيرنا وزاد قتادة : رحم الله بها زكريا وقال مجاهد : { وحنانا من لدنا } وتعطفا من ربه عليه وقال عكرمة : { وحنانا من لدنا } قال : محبة عليه وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة وقال عطاء بن أبي رباح : { وحنانا من لدنا } قال : تعظيما من لدنا وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا والله ما أدري ما حنانا
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور سألت سعيد بن جبير عن قوله : { وحنانا من لدنا } فقال : سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئا والظاهر من السياق أن قوله وحنانا معطوف على قوله { وآتيناه الحكم صبيا } أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة أي وجعلناه ذا حنان وزكاة فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب : حنت الناقة على ولدها وحنت المرأة على زوجها ومنه سميت المرأة حنة من الحنة وحن الرجل إلى وطنه ومنه التعطف والرحمة كما قال الشاعر :
( تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا )
وفي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان ] وقد يثنى ومنهم من يجعل ما ورد في ذلك لغة بذاتها كما قال طرفة :
( أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض )
وقوله : { وزكاة } معطوف على وحنانا فالزكاة الطهارة من الدنس والاثام والذنوب وقال قتادة : الزكاة العمل الصالح وقال الضحاك وابن جريج : العمل الصالح الزكي وقال العوفي عن ابن عباس { وزكاة } قال : بركة { وكان تقيا } ذا طهر فلم يهم بذنب وقوله { وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا } لما ذكر تعالى طاعته لربه وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ومجانبته عقوقهما قولا وفعلا أمرا ونهيا ولهذا قال : { ولم يكن جبارا عصيا } ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك { وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا } أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال وقال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فقال : { وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا } رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : { جبارا عصيا } قال : كان ابن المسيب يذكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا ] قال قتادة : ما أذنب ولا هم بامرأة مرسل وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا بن إسحاق هذا مدلس ] وقد عنعن هذا الحديث فالله أعلم وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ] وهذا أيضا ضعيف لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة والله أعلم وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني فقال له الاخر : استغفر لي أنت خير مني فقال له عيسى : أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما (3/153)
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه وأنه على ما يشاء قادر فقال { واذكر في الكتاب مريم } وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران وأنها نذرتها محررة أي تخدم مسجد بيت المقدس وكانوا يتقربون بذلك { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا } ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في سورة آل عمران فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام { انتبذت من أهلها مكانا شرقيا } أي اعتزلتهم وتنحت عنهم وذهبت إلى شرق المسجد المقدس وقال السدي لحيض أصابها وقيل لغير ذلك
قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك : { انتبذت من أهلها مكانا شرقيا } قال : خرجت مريم مكانا شرقيا فصلوا قبل مطلع الشمس رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال ابن جرير أيضا : حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر عن ابن عباس قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى : { انتبذت من أهلها مكانا شرقيا } واتخذوا ميلاد عيسى قبلة وقال قتادة { مكانا شرقيا } شاسعا منتحيا وقال محمد بن إسحاق : ذهبت بقلتها لتستقي الماء وقال نوف البكالي : اتخذت لها منزلا تتعبد فيه فالله أعلم
وقوله : { فاتخذت من دونهم حجابا } أي استترت منهم وتوارت فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام { فتمثل لها بشرا سويا } أي على صورة إنسان تام كامل قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله : { فأرسلنا إليها روحنا } يعني جبرائيل عليه السلام وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الاية الأخرى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين } وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام وهو الذي تمثل لها بشرا سويا أي روح عيسى فحملت الذي خاطبها وحل في فيها وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت : { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } أي إن كنت تخاف الله تذكيرا له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل فخوفته أولا بالله عز و جل
قال ابن جرير : حدثني أبو كريب حدثنا أبو بكر عن عاصم قال : قال أبو وائل وذكر قصة مريم فقال : قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت : { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك } أي فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته وقال { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء وقرأ الاخرون { لأهب لك غلاما زكيا } وكلا القرائتين له وجه حسن ومعنى صحيح وكل تستلزم الأخرى { قالت أنى يكون لي غلام } أي فتعجبت مريم من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام ؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج ولا يتصور مني الفجور ولهذا قالت : { ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } والبغي هي الزانية ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي { قال كذلك قال ربك هو علي هين } أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت : إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاما وإن لم يكن لك بعل ولا توجد منك فاحشة فإنه على ما يشاء قادر ولهذا قال : { ولنجعله آية للناس } أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه
وقوله : { ورحمة منا } أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبيا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده كما قال تعالى في الاية الأخرى : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين } أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم حدثنا مروان حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي عن مجاهد : قال : قالت مريم عليها السلام : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر
وقوله : { وكان أمرا مقضيا } يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدرته ومشيئته ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها كما قال تعالى : { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } وقال : { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا } قال محمد بن إسحاق : { وكان أمرا مقضيا } أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد واختار هذا أيضا ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره والله أعلم (3/155)
يقول تعالى مخبرا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال أنها استسلمت لقضاء الله تعالى فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى فلما حملت به ضاقت ذرعا ولم تدر ماذا تقول للناس فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك فحملت امرأته فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها وقالت : أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم : وهل علمت أيضا أني حبلى وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم أي يعظمه ويخضع له فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعا كما سجد ليوسف أبواه وإخوته وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لادم عليه السلام ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين قال : قرىء على الحارث بن مسكين وأنا أسمع قال أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال : قال مالك رحمه الله : بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة وكان حملهما جميعا معا فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر وقال عكرمة : ثمانية أشهر قال : ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر وقال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال : لم يكن إلا أن حملت فوضعت وهذا غريب وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى : { فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } فالفاء وإن كانت للتعقيب لكن تعقيب كل شيء بحسبه كقوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما } فهذه الفاء للتعقيب بحسبها
وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما وقال تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } فالمشهور الظاهر والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال : يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي قالت : وما هو ؟ قال : هل يكون قط شجر من غير حب وهل يكون زرع من غير بذر وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت : نعم وفهمت ما أشار إليه
أما قولك : هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر وهل يكون ولد من غير أب ؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم فصدقها وسلم لها حالها ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة انتبذت منهم مكانا قصيا أي قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها
قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا : إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجابا فلا يراها أحد ولا تراه وقوله : { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه وقد اختلفوا فيه فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس وقال وهب بن منبه : ذهبت هاربة فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم قلت : وقد تقدم في أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس رضي الله عنه والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم فا لله أعلم وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ولا تشك فيه النصارى أنه ببيت لحم وقد تلقاه الناس وقد ورد به الحديث إن صح
وقوله تعالى إخبارا عنها : { قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ولا يصدقونها في خبرها وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية فقالت : { يا ليتني مت قبل هذا } أي قبل هذا الحال { وكنت نسيا منسيا } أي لم أخلق ولم أك شيئا قاله ابن عباس وقال السدي : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس : ياليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل { وكنت نسيا منسيا } نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي وقال قتادة : { وكنت نسيا منسيا } أي شيئا لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا وقال الربيع بن أنس : { وكنت نسيا منسيا } هو السقط وقال ابن زيد : لم أكن شيئا قط وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله : { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } (3/157)
قرأ بعضهم : { من تحتها } بمعنى الذي تحتها وقرأ الاخرون : { من تحتها } على أنه حرف جر واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو ؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس { فناداها من تحتها } جبريل ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة : إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة و السلام أي ناداها من أسفل الوادي وقال مجاهد : { فناداها من تحتها } قال : عيسى بن مريم وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : قال الحسن : هو ابنها وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها قال : أو لم تسمع الله يقول : { فأشارت إليه } واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره
وقوله : { أن لا تحزني } أي ناداها قائلا لا تحزني { قد جعل ربك تحتك سريا } قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب { قد جعل ربك تحتك سريا } قال : الجدول وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السري النهر وبه قال عمرو بن ميمون نهر تشرب منه وقال مجاهد : هو النهر بالسريانية وقال سعيد بن جبير : السري النهر الصغير بالنبطية وقال الضحاك : هو النهر الصغير بالسريانية وقال إبراهيم النخعي : هو النهر الصغير وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز وقال وهب بن منبه : السري هو ربيع الماء وقال السدي : هو النهر واختار هذا القول ابن جرير
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع فقال الطبراني : حدثنا أبو شعيب الحراني حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي حدثنا أيوب بن نهيك سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن السري الذي قال الله لمريم { قد جعل ربك تحتك سريا } نهر أخرجه الله لتشرب منه ] وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف وقال أبو زرعة : منكر الحديث وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث وقال آخرون المراد بالسري عيسى عليه السلام وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر وهو إحدى الروايتين عن قتادة وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والقول الأول أظهر ولهذا قال بعده : { وهزي إليك بجذع النخلة } أي وخذي إليك بجذع النخلة قيل : كانت يابسة قاله ابن عباس وقيل : مثمرة قال مجاهد : كانت عجوة وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى : كانت صرفانة والظاهر أنها كانت شجرة ولكن لم تكن في إبان ثمرها قاله وهب بن منبه ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاما وشرابا فقال : { تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا } أي طيبي نفسا ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ثم تلا هذه الاية الكريمة
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا شيبان حدثنا مسرور بن سعيد التميمي حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام وليس من الشجر شيء يلقح غيرها ] وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران ] هذا حديث منكر جدا ورواه أبو يعلى عن شيبان به وقرأ بعضهم { تساقط } بتشديد السين وآخرون بتخفيفها وقرأ أبو نهيك { تساقط عليك رطبا جنيا } وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها { تساقط } أي الجذع والكل متقارب
وقوله : { فإما ترين من البشر أحدا } أي مهما رأيت من أحد { فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي { فلن أكلم اليوم إنسيا } قال أنس بن مالك في قوله : { إني نذرت للرحمن صوما } قال : صمتا وكذا قال ابن عباس والضحاك وفي رواية عن أنس : صوما وصمتا وكذا قال قتادة وغيرهما والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد وقال أبو إسحاق عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الاخر فقال : ما شأنك ؟ قال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم فقال عبد الله بن مسعود : كلم الناس وسلم عليهم فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج يعني بذلك مريم عليها السلام ليكون عذرا لها إذا سئلت رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمها الله وقال عبد الرحمن بن زيد : لما قال عيسى لمريم : { لا تحزني } قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة ؟ أي شيء عذري عند الناس ؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا قال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام { فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } قال هذا كله من كلام عيسى لأمه وكذا قال وهب (3/159)
يقول تعالى مخبرا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحدا من البشر فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها فسلمت لأمر الله عز و جل واستسلمت لقضائه فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جدا و { قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا } أي أمرا عظيما قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي قال : وخرج قومها في طلبها قال : وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها شيئا فلقوا راعي بقر فقالوا : رأيت فتاة كذا وكذا نعتها ؟ قال : لا ولكني رأيت الليلة من بقري مالم أره منها قط قالوا : وما رأيت ؟ قال : رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي
قال عبد الله بن زياد : وأحفظ عن سيار أنه قال : رأيت نورا ساطعا فتوجهوا حيث قال لهم فاستقبلتهم مريم فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاؤوا حتى قاموا عليها { قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا } أمرا عظيما { يا أخت هارون } أي يا شبيهة هارون في العبادة { ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة فكيف صدر هذا منك ؟ قال علي بن أبي طلحة والسدي : قيل لها : { يا أخت هارون } أي أخي موسى وكانت من نسله كما يقال للتميمي : يا أخا تميم وللمضري يا أخا مضر وقيل : نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له هارون
ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين الهجستاني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا المفضل بن فضالة حدثنا أبو صخر عن القرظي في قوله الله عز و جل : { يا أخت هارون } قال : هي أخت هارون لأبيه وأمه وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى { فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون } وهذا القول خطأ محض فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل فدل على أنه آخر الأنبياء بعثا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أنا أولى الناس بابن مريم إلا أنه ليس بيني وبينه نبي ] ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي لم يكن متأخرا عن الرسل سوى محمد ولكان قبل سليمان وداود فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام في قوله تعالى : { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } وذكر القصة إلى أن قال : { وقتل داود جالوت } الاية والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه قال : وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى وهذه هفوة وغلطة شديدة بل هي باسم هذه وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرؤون { يا أخت هارون } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم ] انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال أنبئت أن كعبا قال إن قوله : { يا أخت هارون } ليس بهارون أخي موسى قال فقالت له عائشة كذبت قال يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه و سلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة قال فسكتت وفي هذا التاريخ نظر
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قوله : { يا أخت هارون } الاية قال : كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به وكان هارون مصلحا محببا في عشيرته وليس بهارون أخي موسى ولكنه هارون آخر قال : وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل وقوله : { فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا } أي إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة فأحالت الكلام عليه وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم { كيف نكلم من كان في المهد صبيا } قال ميمون بن مهران : { فأشارت إليه } قالت كلموه فقالوا : على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبيا وقال السدي لما أشارت إليه غضبوا وقالوا : لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا } أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره كيف يتكلم ؟ قال : { إني عبد الله } أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد وأثبت لنفسه العبودية لربه
وقوله : { آتاني الكتاب وجعلني نبيا } تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة قال نوف البكالي : لما قالو لأمه ما قالوا كان يرتضع ثديه فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه الأيسر وقال { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا } وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني : رفع أصبعه السبابة فوق منكبه وهو يقول : { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } الاية وقال عكرمة : { آتاني الكتاب } أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن المصفى حدثنا يحيى بن سعيد هو العطار عن عبد العزيز بن زياد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان عيسى بن مريم قد درس التوارة وأحكمها وهو في بطن أمه فذلك قوله : { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك
وقوله : { وجعلني مباركا أين ما كنت } قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري : وجعلني معلما للخير وفي رواية عن مجاهد : نفاعا وقال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال : لقي عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له : يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي ؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده وقد أجمع الفقهاء على قول الله : { وجعلني مباركا أين ما كنت } وقيل : ما بركته ؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان وقوله : { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا } كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا } قال : أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت ماأبينها لأهل القدر
وقوله : { وبرا بوالدتي } أي وأمرني ببر والدتي ذكره بعد طاعة الله ربه لأن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين كما قال تعالى : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } وقال { أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } وقوله : { ولم يجعلني جبارا شقيا } أي ولم يجعلني جبارا مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتي فأشقى بذلك قال سفيان الثوري : الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب وقال بعض السلف : لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا ثم قرأ : { وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا } قال : ولا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا ثم قرأ : { وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا }
قال قتادة : ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن فقالت : طوبى للبطن الذي حملك وطوبى للثدي الذي أرضعت به فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها : طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه ولم يكن جبارا شقيا وقوله : { والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا } إثبات منه لعبوديته لله عز و جل وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد صلوات الله وسلامه عليه (3/160)
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه : ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام { قول الحق الذي فيه يمترون } أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به ولهذا قرأ الأكثرون قول الحق برفع قول وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق وعن ابن مسعود أنه قرأ ذلك عيسى بن مريم قال : الحق والرفع أظهر إعرابا ويشهد له قوله تعالى : { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدا نبيا نزه نفسه المقدسة فقال : { ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه } أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوا كبيرا { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } أي إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء كما قال : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين }
وقوله : { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته فقال : { فاعبدوه هذا صراط مستقيم } أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم أي قويم من اتبعه رشد وهدي ومن خالفه ضل وغوى وقوله : { فاختلف الأحزاب من بينهم } أي اختلف أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ على أنه ولد زنية وقالوا : كلامه هذا سحر وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم الله وقال آخرون : بل هو ابن الله وقال آخرون : ثالث ثلاثة وقال آخرون : بل هو عبد الله ورسوله وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } قال : اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع فقال بعضهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية فقال الثلاثة : كذبت ثم قال اثنان منهم للثالث : قل أنت فيه قال : هو ابن الله وهم النسطورية فقال الاثنان : كذبت ثم قال أحد الاثنين للاخر : قل فيه فقال : هو ثالث ثلاثة : الله إله وهو إله وأمه إله وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله قال الرابع : كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا فاقتتلوا وظهروا على المسلمين وذلك قول الله تعالى : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } قال قتادة : وهم الذين قال الله : { فاختلف الأحزاب من بينهم } قال اختلفوا فيه فصاروا أحزابا
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير وعن بعض أهل العلم قريبا من ذلك وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام اختلافا متباينا جدا فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه شيئا وسبعون تقول فيه قولا آخر وخمسون تقول شيئا آخر ومائة وستون تقول شيئا ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلثمائة وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال إليهم الملك وكان فيلسوفا فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعا كثيرة وحرفوا دين المسيح وغيروه فابتنى لهم حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها بلاد الشام والجزيرة والروم فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود والنصارى أنه المسيح وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء
وقوله { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلما وثقة بقدرته عليهم فإنه الذي لا يعجل على من عصاه كما جاء في الصحيحين [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ] وقد قال الله تعالى : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير } وقال تعالى : { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } ولهذا قال ههنا : { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } أي يوم القيامة وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ] (3/163)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار يوم القيامة : إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره كما قال تعالى : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا } الاية أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعا لهم ومنقذا من عذاب الله ولهذا قال : { أسمع بهم وأبصر } أي ما أسمعهم وأبصرهم { يوم يأتوننا } يعني يوم القيامة { لكن الظالمون اليوم } أي في الدنيا { في ضلال مبين } أي لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك ثم قال تعالى : { وأنذرهم يوم الحسرة } أي أنذر الخلائق يوم الحسرة { إذ قضي الأمر } أي فصل بين أهل الجنة وأهل النار وصار كل إلى ما صار إليه مخلدا فيه { وهم } أي اليوم { في غفلة } عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة { وهم لا يؤمنون } أي لا يصدقون به
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا قال : فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ـ قال ـ فيقال : ياأهل النار هل تعرفون هذا ؟ قال : فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ـ قال ـ فيؤمر به فيذبح قال : ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } وأشار بيده ثم قال [ أهل الدنيا في غفلة الدنيا ] هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به ولفظهما قريب من ذلك وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة : حدثني أسباط بن محمد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا مثله وفي سنن ابن ماجه وغيره من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه وهو في الصحيحين عن ابن عمر
رواه ابن جريج قال : قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه ورواه أيضا عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه : يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل : حدثنا أبو الزعراء عن عبد الله 0 هو ابن مسعود في قصة ذكرها قال : فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة ويقال لهم لو عملتم فتأخذهم الحسرة قال : ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار فيقال لهم لولا أن الله من عليكم وقال السدي عن زياد عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في قوله : { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر } قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه ثم ينادي مناد : يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه ثم يذبح بين الجنة والنار ثم ينادى : يا أهل الجنة هو الخلود أبد الابدين ويا أهل النار هو الخلود أبد الابدين فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتا من فرح ماتوا ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا من شهقة ماتوا فذلك قوله تعالى : { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر } يقول إذا ذبح الموت رواه ابن أبي حاتم في تفسيره
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وأنذرهم يوم الحسرة } من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وأنذرهم يوم الحسرة } قال : يوم القيامة وقرأ { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } وقوله : { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون } يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس ولا أحد يدعي ملكا ولا تصرفا بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم الحاكم فيهم فلا تظلم نفس شيئا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة قال ابن أبي حاتم : ذكر هدبة بن خالد القيسي حدثنا حزم بن أبي حزم القطعي قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة : أما بعد فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت فجعل مصيرهم إليه وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذي خلقه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه : إنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون (3/165)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم : { واذكر في الكتاب إبراهيم } واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته وقد كان صديقا نبيا مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام فقال : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررا { يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك } يقول : وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك فاعلم أني قد أطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت و لا أطلعت عليه و لا جاءك { فاتبعني أهدك صراطا سويا } أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب والنجاة من المرهوب { يا أبت لا تعبد الشيطان } أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } وقال : { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا }
وقوله { إن الشيطان كان للرحمن عصيا } أي مخالفا مستكبرا عن طاعة ربه فطرده وأبعده فلا تتبعه تصر مثله { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن } أي على شركك وعصيانك لما آمرك به { فتكون للشيطان وليا } يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصرا ولا مغيثا إلا إبليس وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك كما قال تعالى : { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم } (3/166)
يقول تعالى مخبرا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال : { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟ } يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها فانته عن سبها وشتمها وعيبها فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك وهو قوله : { لأرجمنك } قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم وقوله : { واهجرني مليا } قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق : يعني دهرا وقال الحسن البصري : زمانا طويلا وقال السدي { واهجرني مليا } قال : أبدا وقال علي بن أبي طلحة و العوفي عن ابن عباس { واهجرني مليا } قال : سويا سالما قبل أن تصيبك مني عقوبة وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي ومالك وغيرهم واختاره ابن جرير فعندما قال إبراهيم لأبيه : { سلام عليك } كما قال تعالى في صفة المؤمنين : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } وقال تعالى : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } ومعنى قول إبراهيم لأبيه { سلام عليك } يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة { سأستغفر لك ربي } ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك { إنه كان بي حفيا } قال ابن عباس وغيره : لطيفا أي في أن هداني لعبادته والإخلاص له
وقال قتادة ومجاهد وغيرهما : { إنه كان بي حفيا } قال عوده الإجابة وقال السدي : الحفي الذي يهتم بأمره وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه و سلم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله : { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شي } الاية يعني إلا في هذا القول فلا تتأسوا به ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه فقال تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } وقوله : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي } أي وأعبد ربي وحده لاشريك له { عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا } وعسى هذه موجبة لا محالة فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه و سلم (3/167)
يقول تعالى : فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله أبدله الله من هو خير منهم ووهب له إسحاق ويعقوب يعني ابنه وابن إسحاق كما قال في الآية الأخرى : { ويعقوب نافلة } وقال { ومن وراء إسحاق يعقوب } ولاخلاف أن إسحاق والد يعقوب وهو نص القرآن في سورة البقرة : { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } ولهذا إنما ذكر ههنا إسحاق ويعقوب أي جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته ولهذا قال : { وكلا جعلنا نبيا } فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نبىء في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف فإنه نبي أيضا كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس فقال : [ يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله ] وفي اللفظ الاخر [ إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ] وقوله { ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الثناء الحسن وكذا قال السدي ومالك بن أنس وقال ابن جرير : إنما قال عليا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (3/168)
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه عطف بذكر الكليم فقال : { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا } قرأ بعضهم بكسر اللام من الإخلاص في العبادة قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي لبابة قال : قال الحواريون : يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله ؟ قال : الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس وقرأ الاخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى كما قال تعالى : { إني اصطفيتك على الناس } { وكان رسولا نبيا } جمع الله له بين الوصفين فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين
وقوله : { وناديناه من جانب الطور } أي الجبل { الأيمن } من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه عند شاطىء الوادي فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه روى ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وقربناه نجيا } قال : أدني حتى سمع صريف القلم وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم : يعنون صريف القلم بكتابة التوارة وقال السدي : { وقربناه نجيا } قال : أدخل في السماء فكلم وعن مجاهد نحوه
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة { وقربناه نجيا } قال : نجا بصدقه وروى ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الجبار بن عاصم حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل عن شهر بن حوشب عن عمرو بن معد يكرب قال : لما قرب الله موسى نجيا بطور سيناء قال : يا موسى إذا خلقت لك قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين على الخير فلم أخزن عنك من الخير شيئا ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئا وقوله : { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا } أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبيا كما قال في الاية الأخرى { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون } وقال : { قد أوتيت سؤلك يا موسى } وقال : { فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون } ولهذا قال بعض السلف : ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا قال الله تعالى : { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا } قال ابن جرير : حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال : قال ابن عباس قوله : { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا } قال : كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب نبوته له وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقا عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي به (3/168)
هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد قال ابن جريج : لم يعد ربه عدة إلا أنجزها يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها وقال ابن جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه السلام وعد رجلا مكانا أن يأتيه فيه فجاء ونسي الرجل فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد فقال : ما برحت من ههنا ؟ قال : لا قال : إني نسيت قال : لم أكن أبرح حتى تأتيني فلذلك { كان صادق الوعد } وقال سفيان الثوري : يلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولا حتى جاءه وقال ابن شوذب : بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا
وقد روى أبو داود في سننه و أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق من طريق إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني ابن عبد الله بن شقيق عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يبعث فبقيت له علي بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك قال : فنسيت يومي والغد فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي : [ يا فتى لقد شققت علي أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك ] لفظ الخرائطي وساق آثارا حسنة في ذلك ورواه ابن منده أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به
وقال بعضهم : إنما قيل له : { صادق الوعد } لأنه قال لأبيه : { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } فصدق في ذلك فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان ] ولما كانت هذه صفات المنافقين كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه و سلم صادق الوعد أيضا لا يعد أحدا شيئا إلا وفى له به وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال : [ حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي ] ولما توفي النبي صلى الله عليه و سلم قال الخليفة أبو بكر الصديق من كان له عند رسول الله صلى الله عليه و سلم عدة أو دين فليأتني أنجز له فجاء جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا ] يعني ملء كفيه فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابرا فغرف بيديه من المال ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها
وقوله : { وكان رسولا نبيا } في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصف بالنبوة فقط وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ] وذكر تمام الحديث فدل على صحة ما قلناه وقوله : { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا } هذا أيضا من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة حيث كان مثابرا على طاعة ربه عز و جل آمرا بها لأهله كما قال تعالى لرسوله : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } الاية وقال : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء ] أخرجه أبو داود وابن ماجه وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ] رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له (3/169)
ذكر إدريس عليه السلام بالثناء عليه بأنه كان صديقا نبيا وأن الله رفعه مكانا عليا وقد تقدم في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر فقال له : ما قول الله عز و جل لإدريس { ورفعناه مكانا عليا } فقال كعب : أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم فأحب أن يزداد عملا فأتاه خليل له من الملائكة فقال له : إن الله أوحى إلي كذا وكذا فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدرا فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس فقال : وأين إدريس ؟ فقال : هوذا على ظهري قال ملك الموت : العجب بعثت وقيل لي : اقبض روح إدريس في السماء الرابعة فجعلت أقول : كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض ؟ فقبض روحه هناك فذلك قول الله { ورفعناه مكانا عليا } هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات وفي بعضه نكارة والله أعلم
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنه سأل كعبا فذكر نحو ما تقدم غير أنه قال لذلك الملك : هل لك أن تسأله يعني ملك الموت كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل وذكر باقيه وفيه : أنه لما سأله عما بقي من أجلي قال : لا أدري حتى أنظر فنظر ثم قال : إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين فنظر الملك تحت جناحه فإذا هو قد قبض عليه السلام وهو لا يشعر به ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس أن إدريس كان خياطا فكان لا يغرز إبرة إلا قال : سبحان الله فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه وذكر بقيته كالذي قبله أو نحوه
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { ورفعناه مكانا عليا } قال إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى وقال سفيان عن منصور عن مجاهد { ورفعناه مكانا عليا } قال : السماء الرابعة وقال العوفي عن ابن عباس { ورفعناه مكانا عليا } قال : رفع إلى السماء السادسة فمات بها وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقال الحسن وغيره في قوله : { ورفعناه مكانا عليا } قال : الجنة (3/171)
يقول تعالى : هؤلاء النبيون ـ وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط بل جنس الأنبياء عليهم السلام استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس ـ { الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم } الاية قال السدي وابن جرير رحمه الله فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم قال ابن جرير : ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح ( قلت ) هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذ من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه و سلم : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ولم يقل والولد الصالح كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح فبعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا ما شاؤوا فأبوا فأهلكهم الله عز و جل ومما يؤيد أن المراد بهذه الاية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقال سبحانه وتعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس : أفي { ص } سجدة ؟ فقال : نعم ثم تلا هذه الاية : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم قال : وهو منهم يعني داود وقال الله تعالى في هذه الاية الكريمة : { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعا واستكانة وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة والبكي جمع باك فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعا لمنوالهم قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم فسجد وقال : هذا السجود فأين البكي ؟ يريد البكاء رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وسقط من رواته ذكر أبي معمر فيما رأيت فالله أعلم (3/171)
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره ذكر أنه { خلف من بعدهم خلف } أي قرون أخر { أضاعوا الصلاة } وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها فهؤلاء سيلقون غيا أي خسارا يوم القيامة وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة ههنا فقال قائلون : المراد بإضاعتها تركها بالكلية قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث [ بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ] والحديث الاخر [ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ] وليس هذا محل بسط هذه المسألة
وقال الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة } قال : أي أضاعوا المواقيت ولو كان تركا كان كفرا وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن { الذين هم عن صلاتهم ساهون } و { على صلاتهم دائمون } و { على صلاتهم يحافظون } فقال ابن مسعود : على مواقيتها قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على الترك قال ذلك الكفر قال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين وفي إفراطهن الهلكة وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد : أن عمر بن عبد العزيز قرأ : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } ثم قال : لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } قال : عند قيام الساعة وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه و سلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة وكذا روى ابن جريج عن مجاهد مثله وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه الأمة يعنون في آخر الزمان
وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا الحسن الأشيب حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } قال : هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق لا يخافون الله في السماء ولا يستحيون من الناس في الأرض وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا حيوة حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سيعد الخدري يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ومنافق وفاجر ] وقال بشير : قلت للوليد : ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال : المؤمن مؤمن به والمنافق كافر به والفاجر يأكل به وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقري به
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا عيسى بن يونس حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن مالك عن أبي الرجال أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصفة وتقول : لا تعطوا منه بربريا ولا بربرية فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ هم الخلف الذين قال الله تعالى فيهم : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ] هذا الحديث غريب وقال أيضا : حدثني أبي حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك حدثنا الوليد حدثنا حريز عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قول الله : { فخلف من بعدهم خلف } الاية قال : هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك
وقال كعب الأحبار : والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز و جل : شرابين للقهوات تراكين للصلوات لعابين بالكعبات رقادين عن العتمات مفرطين في الغدوات تراكين للجماعات قال : ثم تلا هذه الاية { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال الحسن البصري : عطلوا المساجد ولزموا الضيعات وقال أبو الأشهب العطاردي : أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه من طاعتي
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب حدثنا أبو السمح التميمي عن أبي قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني أخاف على أمتي اثنتين : القرآن واللبن ] أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة أما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين ورواه عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة : حدثنا أبو قبيل عن عقبة به مرفوعا بنحوه تفرد به
وقوله : { فسوف يلقون غيا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { فسوف يلقون غيا } أي خسرانا وقال قتادة : شرا وقال سفيان الثوري وشعبة ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود { فسوف يلقون غيا } قال : واد في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم وقال الأعمش عن زياد عن أبي عياض في قوله : { فسوف يلقون غيا } قال : واد في جهنم من قيح ودم وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني عباس بن أبي طالب حدثنا محمد بن زياد حدثنا شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال : جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي فقلت : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا بطعام ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفا ثم تنتهي إلى غي وآثام قال : قلت ماغي وآثام ؟ قال : قال : بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار ] وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه { أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقوله في الفرقان : { ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما } هذا حديث غريب ورفعه منكر
وقوله : { إلا من تاب وآمن وعمل صالحا } أي إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم ولهذا قال : { فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا } وذلك لأن التوبة تجب ما قبلها وفي الحديث الاخر [ التائب من الذنب كمن لاذنب له ] ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئا ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها لأن ذلك ذهب هدرا وترك نسيا وذهب مجانا من كرم الكريم وحلم الحليم وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } (3/172)
يقول تعالى : الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن أي إقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم وقوله : { إنه كان وعده مأتيا } تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله كقوله : { كان وعده مفعولا } أي كائنا لا محالة وقوله ههنا : { مأتيا } أي العباد صائرون إليه وسيأتونه ومنهم من قال { مأتيا } بمعنى آتيا لأن كل ما أتاك فقد أتيته كما تقول العرب : أتت علي خمسون سنة وأتيت على خمسين سنة كلاهما بمعنى واحد
وقوله : { لا يسمعون فيها لغوا } أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا وقوله : { إلا سلاما } استثناء منقطع كقوله : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما } وقوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات لا أن هناك ليلا ونهارا ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها ولايتغوطون آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا ] أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال الضحاك عن ابن عباس { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } قال : مقادير الليل والنهار
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهم حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } قال : ليس في الجنة ليل هم في نور أبدا ولهم مقدار الليل والنهار ويعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن البصري وذكر أبواب الجنة فقال : أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فتهمهم انفتحي انغلقي فتفعل وقال قتادة في قوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } فيها ساعتان بكرة وعشي ليس ثم ليل ولا نهار وإنما هو ضوء ونور وقال مجاهد : ليس بكرة ولا عشي ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا
وقال الحسن وقتادة وغيرهما : كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم فقال تعالى : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } قال : البكور يرد على العشي والعشي يرد على البكور ليس فيها ليل وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا سليم بن منصور بن عمار حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل شمشاط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من الزعفران ] قال أبو محمد : هذا حديث غريب منكر
وقوله : { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين وهم المطيعون لله عز و جل في السراء والضراء والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين { قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون } إلى أن قال : { أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } (3/175)
قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى ووكيع قالا : حدثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لجبرائيل : [ ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ ] قال : فنزلت { وما نتنزل إلا بأمر ربك } إلى آخر الاية
انفرد بإخراجه البخاري فرواه عند تفسير هذه الاية عن أبي نعيم عن عمر بن ذر به ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عمر بن ذر به وعندهما زيادة في آخر الحديث فكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه و سلم وقال العوفي عن ابن عباس احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك وحزن فأتاه جبريل وقال : يا محمد { وما نتنزل إلا بأمر ربك } الاية
وقال مجاهد لبث جبرائيل عن محمد صلى الله عليه و سلم اثنتي عشرة ليلة ويقولون أقل فلما جاءه قال : [ يا جبرائيل لقد لبثت علي حتى ظن المشركون كل ظن ] فنزلت { وما نتنزل إلا بأمر ربك } الاية قال : وهذه الاية كالتي في الضحى وكذلك قال الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد : إنها نزلت في احتباس جبرائيل وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال : [ أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلى الله عليه و سلم : أربعين يوما ثم نزل فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ما نزلت حتى اشتقت إليك فقال له جبريل : بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور فأوحى الله إلى جبرائيل أن قل له { وما نتنزل إلا بأمر ربك } ] الاية ورواه ابن أبي حاتم رحمه الله وهو غريب
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مجاهد قال : [ أبطأت الرسل على النبي صلى الله عليه و سلم ثم أتاه جبريل فقال له ما حبسك يا جبريل ؟ فقال له جبريل : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون ثم قرأ { وما نتنزل إلا بأمر ربك } إلى آخر الاية ] وقد قال الطبراني : حدثنا أبو عامر النحوي حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا إسماعيل بن عياش أخبرني ثعلبة بن مسلم عن أبي كعب مولى ابن عباس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن جبرائيل أبطأ عليه فذكر له ذلك فقال : وكيف وأنتم لا تستنون ولا تقلمون أظفاركم ولا تقصون شواربكم ولا تنقون براجمكم ؟ ] وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ابن عباس بنحوه
وقال الإمام احمد : حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا المغيرة بن حبيب عن مالك بن دينار حدثني شيخ من أهل المدينة عن أم سلمة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط ] وقوله : { له ما بين أيدينا وما خلفنا } قيل : المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا وما خلفنا أمر الاخرة { وما بين ذلك } ما بين النفختين هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما والسدي والربيع بن أنس وقيل : { ما بين أيدينا } ما يستقبل من أمر الاخرة { وما خلفنا } أي ما مضى من الدنيا { وما بين ذلك } أي ما بين الدنيا والاخرة ويروى نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري واختاره ابن جرير أيضا والله اعلم
وقوله : { وما كان ربك نسيا } قال مجاهد معناه ما نسيك ربك وقد تقدم عنه أن هذه الاية كقوله : { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي حدثنا محمد بن عثمان يعني أبا الجماهر حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء يرفعه قال [ ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرمه فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا ] ثم تلا هذه الاية { وما كان ربك نسيا } وقوله : { رب السموات والأرض وما بينهما } أي خالق ذلك ومدبره والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هل تعلم للرب مثلا أو شبيها وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغيرهم وقال عكرمة عن ابن عباس : ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه (3/176)
يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته كما قال تعالى : { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد } وقال : { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } وقال ههنا : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئا أفلا يعيده وقد صار شيئا كما قال تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } وفي الصحيح [ يقول الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من آخره وأما أذاه إياي فقوله إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ]
وقوله : { فوربك لنحشرنهم والشياطين } أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله { ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا } قال العوفي عن ابن عباس : يعني قعودا كقوله : { وترى كل أمة جاثية } وقال السدي في قوله جثيا : يعني قياما وروي عن مرة عن ابن مسعود مثله وقوله : { ثم لننزعن من كل شيعة } يعني من كل أمة قال مجاهد { أيهم أشد على الرحمن عتيا } قال الثوري عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : يحبس الأول على الاخر حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعا ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرما وهو قوله : { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا }
وقال قتادة : { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا } قال : ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف وهذا كقوله تعالى : { حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } وقوله : { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا } ثم ههنا لعطف الخبر على الخبر والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها وبمن يستحق تضعيف العذاب كما قال في الاية المتقدمة { قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } (3/177)
قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا غالب بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن وقال بعضهم : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له : إنا اختلفنا في الورود فقال : يردونها جميعا وقال سليمان بن مرة : يدخلونها جميعا وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ لا يبقى برولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا ] غريب ولم يخرجوه
وقال الحسن بن عرفة : حدثنا مروان بن معاوية عن بكار بن أبي مروان عن خالد بن معدان قال : قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة : ألم يعدنا ربنا الورود على النار ؟ قال : قد مررتم عليها وهي خامدة وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : كان عبد الله بن رواحة واضعا رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال : ما يبكيك ؟ قالت رأيتك تبكي فبكيت قال : إني ذكرت قول الله عز و جل { وإن منكم إلا واردها } فلا أدري أأنجو منها أم لا ـ وفي رواية وكان مريضا
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال : ياليت أمي لم تلدني ثم يبكي فقيل له : ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال : أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال : قال رجل لأخيه : هل أتاك أنك وارد النار ؟ قال : نعم قال : فهل أتاك أنك صادر عنها ؟ قال : لا قال : ففيم الضحك ؟ قال : فما رئي ضاحكا حتى لحق بالله وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق فقال ابن عباس : الورود الدخول فقال نافع : لا فقرأ ابن عباس { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } وردوا أم لا وقال : { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } أوردها أم لا أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا ؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك فضحك نافع
وروى ابن جريج عن عطاء قال : قال أبو راشد الحروري وهو نافع بن الأزرق { لا يسمعون حسيسها } فقال ابن عباس : ويلك أمجنون أنت ؟ أين قوله : { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } { ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا } { وإن منكم إلا واردها } والله إن كان دعاء من مضى : اللهم أخرجني من النار سالما وأدخلني الجنة غانما وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا أسباط عن عبد الملك عن عبيد الله عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو نافع بن الأزرق فقال له : ياابن عباس أرأيت قول الله : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } ؟ قال : أما أنا وأنت ياأبا راشد فسنردها فانظر هل نصدر عنها أم لا ؟
وقال أبو داود الطيالسي : قال شعبة : أخبرني عبد الله بن السائب عمن سمع ابن عباس يقرؤها { وإن منكم إلا واردها } يعني الكفار وهكذا روى عمر بن الوليد الشني أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك { وإن منكم إلا واردها } قال وهم الظلمة كذلك كنا نقرؤها رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال العوفي عن ابن عباس : قوله : { وإن منكم إلا واردها } يعني البر والفاجر ألا تسمع إلى قول الله لفرعون : { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } الاية { ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا } فسمى الورود على النار دخولا وليس بصادر
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل عن السدي عن مرة عن عبد الله هو ابن مسعود { وإن منكم إلا واردها } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم ] ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله عن إسرائيل عن السدي به ورواه من طريق شعبة عن السدي عن مرة عن ابن مسعود موقوفا هكذا وقع هذا الحديث ههنا مرفوعا وقد رواه أسباط عن السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال : يرد الناس جميعا الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم فمنهم من يمر مثل البرق ومنهم من يمر مثل الريح ومنهم من يمر مثل الطير ومنهم من يمر كأجود الخيل ومنهم من يمر كأجود الإبل ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه يمر فيتكفأ به الصراط والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس وذكر تمام الحديث رواه ابن أبي حاتم
وقال ابن جرير : حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا النضر حدثنا إسرائيل أخبرنا ابو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قوله : { وإن منكم إلا واردها } قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطبقة الأولى كالبرق والثانية كالريح والثالثة كأجود الخيل والرابعة كأجود البهائم ثم يمرون والملائكة يقولون : اللهم سلم سلم ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن الجريري عن أبي السليل عن غنيم بن قيس قال : ذكروا ورود النار فقال كعب : تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق : برهم وفاجرهم ثم يناديها مناد : أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي قال فتخسف بكل ولي لها وهي أعلم بهم من الرجل بولده ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم قال كعب : ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرا والحديبية قالت : فقلت أليس الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } قالت : فسمعته يقول { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } ] وقال أحمد أيضا : حدثنا ابن إدريس حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيت حفصة فقال : [ لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية قالت حفصة : أليس الله يقول { وإن منكم إلا واردها } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { ثم ننجي الذين اتقوا } الاية ] وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم ]
وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة القسم ] يعني الورود وقال أبو داود الطيالسي حدثنا زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ] قال الزهري كأنه يريد هذه الاية { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } وقال ابن جرير حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا أبو المغيرة حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يعود رجلا من أصحابه وعك وأنا معه ثم قال إن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الاخرة ] غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه
وحدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال : الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ { وإن منكم إلا واردها } وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة فقال عمر : إذا نستكثر يارسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الله أكثر وأطيب ] وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجر سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم ] قال تعالى : { وإن منكم إلا واردها } وإن الذكر في سبيل الله يضاعف فوق النفقة بسبعمائة ضعف وفي رواية بسبعمائة ألف ضعف
وروى أبو داود عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب كلاهما عن زبان عن سهل عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ] وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله : { وإن منكم إلا واردها } قال : هو الممر عليها وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وإن منكم إلا واردها } قال : ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها وورود المشركين أن يدخلوها وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الزالون والزالات يومئذ كثير وقد أحاط بالجسر يومئذ سماطان من الملائكة دعاؤهم يا ألله سلم سلم ] وقال السدي عن مرة عن ابن مسعود في قوله { كان على ربك حتما مقضيا } قال : قسما واجبا وقال مجاهد : حتما قال قضاء وكذا قال ابن جريج
وقوله : { ثم ننجي الذين اتقوا } أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون خلقا كثيرا قد أكلتهم النار إلا دارات وجوههم وهي مواضع السجود وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه حتى يخرجون من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار من قال يوما من الدهر : لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهذا قال تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } (3/178)
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان أنهم يصدون ويعرضون عن ذلك ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم { خير مقاما وأحسن نديا } أي أحسن منازل وأرفع دورا وأحسن نديا وهو مجتمع الرجال للحديث أي ناديهم أعمر وأكثر واردا وطارقا يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق كما قال تعالى مخبرا عنهم : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه } وقال قوم نوح : { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } وقال تعالى : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } ولهذا قال تعالى رادا على شبهتهم { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } أي وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم { هم أحسن أثاثا ورئيا } أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالا ومناظر وأشكالا وأمتعة قال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس { خير مقاما وأحسن نديا } قال المقام المنزل والندي المجلس والأثاث المتاع والرئي المنظر وقال العوفي عن ابن عباس المقام المسكن والندي المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن : { كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم } فالمقام المسكن والنعيم والندي المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط : { وتأتون في ناديكم المنكر } والعرب تسمي المجلس النادي وقال قتادة : لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة فعرض أهل الشرك ما تسمعون { أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا } وكذا قال مجاهد والضحاك ومنهم من قال في الأثاث هو المال ومنهم من قال الثياب ومنهم من قال المتاع والرئي المنظر كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد وقال الحسن البصري يعني الصور وكذا قال مالك : { أثاثا ورئيا } أكثر أموالا وأحسن صورا والكل متقارب صحيح (3/181)
يقول تعالى : { قل } يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على حق وأنكم على باطل : { من كان في الضلالة } أي منا ومنكم { فليمدد له الرحمن مدا } أي فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب } يصيبه { وإما الساعة } بغتة تأتيه { فسيعلمون } حينئذ { من هو شر مكانا وأضعف جندا } في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندى قال مجاهد في قوله : { فليمدد له الرحمن مدا } فليدعه الله في طغيانه وهكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله : { يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } أي ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم إن كنتم تدعون أنكم على الحق فإنه لا يضركم الدعاء فنكلوا عن ذلك وقد تقدم تقرير ذلك في سورة البقرة مبسوطا ولله الحمد وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله وقد ذكر الله حججه وبراهينه على عبودية عيسى وأنه مخلوق كآدم قال تعالى بعد ذلك : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } فنكلوا أيضا عن ذلك (3/182)
لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه أخبر بزيادة المهتدين هدى كما قال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا } الايتين وقوله : { والباقيات الصالحات } قد تقدم تفسيرها والكلام عليها وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة الكهف { خير عند ربك ثوابا } أي جزاء { وخير مردا } أي عاقبة ومردا على صاحبها وقال عبد الرزاق : أخبرنا عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : [ جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فأخذ عودا يابسا فحط ورقه ثم قال : إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة ] قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال : لأهللن الله ولأكبرن الله ولأسبحن الله حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون وهذا ظاهره أنه مرسل ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة عن أبي الدرداء والله أعلم وهكذا وقع في سنن ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن عمر بن راشد عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكر نحوه (3/183)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم حتى تموت ثم تبعث قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك فأنزل الله : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا } أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما من غير وجه عن الأعمش به وفي لفظ البخاري : كنت قينا بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فذكر الحديث وقال : { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } قال : موثقا
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : قال خباب بن الأرت : كنت قينا بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل فاجتمعت لي عليه دراهم فجئت لأتقاضاه فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال : فإذا بعثت كان لي مال وولد فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { أفرأيت الذي كفر بآياتنا } الايات وقال العوفي عن ابن عباس : إن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يطالبون العاص بن وائل السهمي بدين فأتوه يتقاضونه فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات ؟ قالوا : بلى قال : فإن موعدكم الاخرة فو الله لأوتين مالا وولدا ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فضرب الله مثله في القرآن فقال { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا } وهكذا قال مجاهد وقتادة وغيرهم : أنها نزلت في العاص بن وائل وقوله : { لأوتين مالا وولدا } قرأ بعضهم بفتح الواو من ولدا وقرأ آخرون بضمها وهو بمعناه قال رؤبة :
( الحمد لله العزيز فردا ... لم يتخذ من ولد شيء ولدا )
وقال الحارث بن حلزة :
( ولقد رأيت معاشرا ... قد ثمروا مالا وولدا )
وقال الشاعر :
( فليت فلانا كان في بطن أمه ... وليت فلانا كان ولد حمار )
وقيل : إن الولد بالضم جمع والولد بالفتح مفرد وهي لغة قيس والله أعلم { أطلع الغيب } إنكار على هذا القائل { لأوتين مالا وولدا } يعني يوم القيامة أي أعلم ماله في الاخرة حتى تألى وحلف على ذلك { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق وقال الضحاك عن ابن عباس : { أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا } قال : لا إله إلا الله فيرجو بها وقال محمد بن كعب القرظي { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } قال : شهادة أن لا إله إلا الله ثم قرأ { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا }
وقوله : { كلا } هي حرف ردع لما قبلها وتأكيد لما بعدها { سنكتب ما يقول } أي من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما يتمناه وكفره بالله العظيم { ونمد له من العذاب مدا } أي في الدار الاخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا { ونرثه ما يقول } أي من مال وولد نسلبه منه عكس ما قال إنه يؤتى في الدار الاخرة مالا وولدا زيادة على الذي له في الدنيا بل في الاخرة يسلب منه الذي كان له في الدنيا ولهذا قال تعالى : { ويأتينا فردا } أي من المال والولد قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ونرثه ما يقول } قال : نرثه
قال مجاهد : { ونرثه ما يقول } ماله وولده وذلك الذي قال العاص بن وائل وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة { ونرثه ما يقول } قال : ما عنده وهو قوله : { لأوتين مالا وولدا } وفي حرف ابن مسعود : ونرثه ما عنده وقال قتادة { ويأتينا فردا } لا مال له ولا ولد وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { ونرثه ما يقول } قال : ما جمع من الدنيا وما عمل فيها قال { ويأتينا فردا } قال : فردا من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير (3/183)
يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الالة { عزا } يعتزون بها ويستنصرونها ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا فقال : { كلا سيكفرون بعبادتهم } أي يوم القيامة { ويكونون عليهم ضدا } أي بخلاف ما ظنوا فيهم كما قال تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } وقرأ أبو نهيك { كلا سيكفرون بعبادتهم } وقال السدي : { كلا سيكفرون بعبادتهم } أي بعبادة الأوثان
وقوله : { ويكونون عليهم ضدا } أي بخلاف ما رجوا منهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ويكونون عليهم ضدا } قال : أعوانا قال مجاهد : عونا عليهم تخاصمهم وتكذبهم وقال العوفي عن ابن عباس { ويكونون عليهم ضدا } قال : قرناء وقال قتادة : قرناء في النار يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم ببعض وقال السدي { ويكونون عليهم ضدا } قال : الخصماء الأشداء في الخصومة وقال الضحاك { ويكونون عليهم ضدا } قال : أعداء وقال ابن زيد : الضد البلاء وقال عكرمة : الضد الحسرة
وقوله : { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : تغويهم إغواءا وقال العوفي عنه : تحرضهم على محمد وأصحابه وقال مجاهد : تشليهم إشلاء وقال قتادة : تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله وقال سفيان الثوري : تغريهم إغراءا وتستعجلهم استعجالا وقال السدي : تطغيهم طغيانا وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كقوله تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } وقوله : { فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا } أي لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم { إنما نعد لهم عدا } أي إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله وقال : { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } الاية { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } { نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } وقال السدي : إنما نعد لهم عدا : السنين والشهور والأيام والساعات وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إنما نعد لهم عدا } قال : نعد أنفاسهم في الدنيا (3/184)
يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا واتبعوا رسله وصدقوهم فيما أخبروهم وأطاعوهم فيما أمروهم به وانتهوا عما عنه زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة وفدا إليه والوفد هم القادمون ركبانا ومنه الوفود وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الاخرة وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم فإنهم يساقون عنفا إلى النار { وردا } عطاشا قاله عطاء وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد وههنا يقال : { أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحا فيقول : من أنت ؟ فيقول أما تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك فيقول : أنا عملك الصالح هكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه فذلك قوله : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } قال : ركبانا
وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } قال : على الإبل وقال ابن جريج : على النجائب وقال الثوري : على الإبل النوق وقال قتادة { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } قال : إلى الجنة وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سويد بن سعيد أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق حدثنا النعمان بن سعد قال : كنا جلوسا عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الاية : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على أرجلهم ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به وزاد عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد والباقي مثله
وروى ابن أبي حاتم ههنا حديثا غريبا جدا مرفوعا عن علي فقال : حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي سمعت أبا معاذ البصري قال : إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ هذه الاية { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } فقال : ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها فيفتح له فإذا رآه خر له ـ قال مسلمة أراه قال ساجدا ـ فيقول : ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ثم تقول : أنت حبي وأنا حبك وأنا الخالدة التي لا أموت وأنا الناعمة التي لا أبأس وأنا الراضية التي لا أسخط وأنا المقيمة التي لا أظعن فيدخل بيتا من رأسه إلى سقفه مائة ألف ذراع بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق : أحمر وأصفر وأخضر ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها وفي البيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون حشية على كل حشية سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه الأنهار من تحتهم تطرد أنهار من ماء غير آسن قال : صاف لا كدر فيه وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ولم يخرج من ضروع الماشية وأنهار من خمر لذة للشاربين لم يعتصرها الرجال بأقدامهم وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل فيستحلي الثمار فإن شاء أكل قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء متكئا ثم تلا : { ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا } فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض وربما قال أخضر فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء ثم يطير فتذهب فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم { تلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت لأهل الأرض لأضاءت الشمس معها سواد في نور ] هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعا وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه وهو أشبه بالصحة والله أعلم
وقوله : { ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا } أي عطاشا { لا يملكون الشفاعة } أي ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض كما قال تعالى مخبرا عنهم : { فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم } وقوله : { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } هذا استثناء منقطع بمعنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا وهو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } قال : العهد شهادة أن لا إله إلا الله ويبرأ إلى الله من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله عز و جل
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عثمان بن خالد الواسطي حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة عن الأسود بن يزيد قال : قرأ عبد الله يعني ابن مسعود هذه الاية { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } ثم قال : اتخذوا عند الله عهدا فإن الله يوم القيامة يقول : من كان له عند الله عهد فليقم قالوا : يا أبا عبد الرحمن فعلمنا قال : قولوا : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أن لا تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد وقال المسعودي : فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن أخبرنا ابن مسعود وكان يحلق بهن خائفا مستجيرا مستغفرا راهبا راغبا إليك ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي بنحوه (3/185)
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام وذكر خلقه من مريم بلا أب شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولدا تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا فقال : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم } أي في قولكم هذا { شيئا إدا } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك : أي عظيما ويقال إدا بكسر الهمزة وفتحها ومع مدها أيضا ثلاث لغات أشهرها الأولى وقوله : { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا } أي يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاما للرب وإجلالا لأنهم مخلوقات ومؤسسات على توحيده وأنه لا إله إلا هو وأنه لا شريك له ولا نظير له ولا ولد له ولا صاحبة له ولا كفء له بل هو الأحد الصمد
( وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد )
قال ابن جرير : حدثني علي حدثنا عبد الله حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله : { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا } قال : إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول منه لعظمة الله وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله فمن قالها عند موته وجبت له الجنة فقالوا : يا رسول الله فمن قالها في صحته ؟ قال تلك أوجب وأوجب ] ثم قال [ والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن ] هكذا رواه ابن جرير ويشهد له حديث البطاقة والله أعلم
وقال الضحاك : { تكاد السموات يتفطرن منه } أي يتشققن فرقا من عظمة الله وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وتنشق الأرض } أي غضبا له عز و جل { وتخر الجبال هدا } قال ابن عباس : هدما وقال سعيد بن جبير : هدا ينكسر بعضها على بعض متتابعات وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مسعر عن عون عن عبد الله قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر الله عز و جل ؟ فيقول : نعم ويستبشر قال عون : لهي للخير أسمع أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره ثم قرأ { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا }
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا هودة حدثنا عوف عن غالب بن عجرد حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال : بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة ـ أو قال ـ كان لهم فيها منفعة ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم : اتخذ الرحمن ولدا فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر وقال كعب الأحبار : غضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له ولدا وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم ] أخرجاه في الصحيحين وفي لفظ [ أنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ] وقوله : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته لأنه لا كفء له من خلقه لأن جميع الخلائق عبيد له ولهذا قال : { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا } أي قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ذكرهم وأنثاهم صغيرهم وكبيرهم { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } أي لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له فيحكم في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ولا يظلم أحدا (3/187)
يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات وهي الأعمال التي ترضي الله عز و جل لمتابعتها الشريعة المحمدية ـ يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير وجه قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل قال : ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه قال : فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه قال : فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال : فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في الأرض ] ورواه مسلم من حديث سهيل ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون أبو محمد المرائي حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن العبد ليلتمس مرضاة الله عز و جل فلا يزال كذلك فيقول الله عز و جل لجبريل : إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضيني ألا وإن رحمتي عليه فيقول جبريل : رحمة الله على فلان ويقولها حملة العرش ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السموات السبع ثم يهبط إلى الأرض ] غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن المقة من الله ] ـ قال شريك : هي المحبة ـ والصيت في السماء [ فإذا أحب الله عبدا قال لجبريل عليه السلام : إني أحب فلانا فينادي جبريل : إن ربكم يمق ـ يعني يحب ـ فلانا فأحبوه ـ أرى شريكا قد قال : فتنزل له المحبة في الأرض ـ وإذا أبغض عبدا قال لجبريل : إني أبغض فلانا فأبغضه قال : فينادي جبريل : إن ربكم يبغض فلانا فأبغضوه ـ أرى شريكا قال - : فيجري له البغض في الأرض ] غريب ولم يخرجوه
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو داود الحفري حدثنا عبد العزيز ـ يعني ابن محمد ـ وهو الدراوردي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أحب الله عبدا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانا فأحبه فينادي في السماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قول الله عز و جل : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } ] رواه مسلم والترمذي كلاهما عن عبد الله عن قتيبة عن الدراوردي به وقال الترمذي : حسن صحيح
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { سيجعل لهم الرحمن ودا } قال : حبا وقال مجاهد عنه : { سيجعل لهم الرحمن ودا } قال : محبة في الناس في الدنيا وقال سعيد بن جبير عنه يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين كما قال مجاهد أيضا و الضحاك وغيرهم وقال العوفي عن ابن عباس أيضا : الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق وقال قتادة { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } إي والله في قلوب أهل الإيمان وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : ما من عبد يعمل خيرا أو شرا إلا كساه الله عز و جل رداء عمله
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه الله قال : قال رجل : والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج فكان لا يعظم فمكث بذلك سبعة أشهر وكان لا يمر على قوم إلا قالوا : انظروا إلى هذا المرائي فأقبل على نفسه فقال : لا أراني أذكر إلا بشر لأجعلن عملي كله لله عز و جل فلم يزد على أن قلب نيته ولم يزد على العمل الذي كان يعمله فكان يمر بعد بالقوم فيقولون : رحم الله فلانا الان وتلا الحسن { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } وقد روى ابن جرير أن هذه الاية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف وهو خطأ فإن هذه السورة بكمالها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك والله أعلم
وقوله : { فإنما يسرناه } يعني القرآن { بلسانك } أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل { لتبشر به المتقين } أي المستجيبين لله المصدقين لرسوله { وتنذر به قوما لدا } أي عوجا عن الحق مائلين إلى الباطل وقال ابن أبي نجيج عن مجاهد { قوما لدا } لا يستقيمون وقال الثوري عن إسماعيل وهو السدي عن أبي صالح { وتنذر به قوما لدا } عوجا عن الحق وقال الضحاك : الألد الخصم وقال القرظي : الألد الكذاب وقال الحسن البصري { قوما لدا } صما وقال غيره : صم آذان القلوب وقال قتادة : قوما لدا يعني قريشا وقال العوفي عن ابن عباس { قوما لدا } فجارا وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد
وقال ابن زيد : الألد الظلوم وقرأ قوله تعالى : { وهو ألد الخصام } وقوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله { هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا } أي هل ترى منهم أحدا أو تسمع لهم ركزا وقال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد : يعني صوتا وقال الحسن وقتادة : هل ترى عينا أو تسمع صوتا والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي
قال الشاعر :
( فتوجست ركز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها )
آخر تفسير سورة مريم ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة طه والحمد لله (3/188)
سورة طه
وهي مكية
روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي : حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة ـ يعني عبد الرحمن بن يعقوب ـ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام فلما سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل عليهم هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسن تتكلم بهذا ] هذا حديث غريب وفيه نكارة و إبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما
بسم الله الرحمن الرحيم (3/191)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي حدثنا أبو أحمد ـ يعني الزبيري ـ أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : طه يا رجل وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبي مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا : طه بمعنى يا رجل وفي رواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل وقال أبو صالح : هي معربة
وأسند القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن الربيع بن أنس قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى ] فأنزل الله تعالى : { طه } يعني : طأ الأرض يا محمد { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ثم قال : ولا يخفى بما في هذا الإكرام وحسن المعاملة وقوله : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } قال جويبر عن الضحاك : لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه و سلم قام به هو وأصحابه فقال المشركون من قريش : ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى : { طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى } فليس الأمر كما زعمه المبطلون بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرا كثيرا كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ]
وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال : حدثنا أحمد بن زهير حدثنا العلاء بن سالم حدثنا إبراهيم الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده : إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي ] إسناده جيد وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي ذكره أبو عمر في استيعابه وقال : نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة وروى عنه سماك بن حرب
وقال مجاهد في قوله : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } هي كقوله : { فاقرؤوا ما تيسر منه } وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة وقال قتادة : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } لا والله ما جعله شقاء ولكن جعله رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة { إلا تذكرة لمن يخشى } إن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه
وقوله : { تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى } أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك رب كل شيء ومليكه القادر على ما يشاء الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وBه وقوله : { الرحمن على العرش استوى } تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضا وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل
وقوله : { له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } أي الجميع ملكه وفي قبضته وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه ولا رب غيره وقوله : { وما تحت الثرى } قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة وقال الأوزاعي : إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعبا سئل فقيل له : ما تحت هذه الأرض ؟ فقال : الماء قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : الماء قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : الماء قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : الماء قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : الصخرة قيل : وما تحت الصخرة ؟ قال : ملك قيل : وما تحت الملك ؟ قال : حوت معلق طرفاه بالعرش قيل : وما تحت الحوت ؟ قال : الهواء والظلمة وانقطع العلم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا عبد الله بن عياش حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد الملك والثانية سجن الريح والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريت جهنم والخامسة فيها حيات جهنم والسادسة فيها عقارب جهنم والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه ] وهذا حديث غريب جدا ورفعه فيه نظر
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال : قلت ابن الفضل الأنصاري ؟ قال : نعم عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال : [ كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فأقبلنا راجعين في حر شديد فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين قال وكنت في أول العسكر إذا عارضنا رجل فسلم ثم قال : أيكم محمد ؟ ومضى أصحابي ووقفت معه فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس فقلت : أيها السائل هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أتاك فقال : أيهم هو ؟ فقلت : صاحب البكر الأحمر فدنا منه فأخذ بخطام راحلته فكف عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أنت محمد ؟ قال : نعم قال : إني أريد أن أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم سل عما شئت قال : يا محمد أينام النبي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تنام عيناه ولا ينام قلبه قال : صدقت ثم قال : يا محمد من أين يشبه الولد أباه وأمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فأي الماءين غلب على الاخر نزع الولد فقال : صدقت فقال : ما للرجل من الولد وما للمرأة منه ؟ فقال للرجل العظام والعروق والعصب وللمرأة اللحم والدم والشعر قال : صدقت ثم قال : يا محمد ما تحت هذه ؟ ـ يعني الأرض ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : خلق فقال : فما تحتهم ؟ قال أرض قال : فما تحت الأرض ؟ قال : الماء قال : فما تحت الماء ؟ قال : ظلمة قال : فما تحت الظلمة ؟ قال : الهواء قال : فما تحت الهواء ؟ قال : الثرى قال : فما تحت الثرى ؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبكاء وقال : انقطع علم الخلق عند علم الخالق أيها السائل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل قال : فقال صدقت أشهد أنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيها الناس هل تدرون من هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال هذا جبريل عليه السلام ] هذا حديث غريب جدا وسياق عجيب تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا وقد قال فيه يحيى بن معين : ليس يساوي شيئا وضعفه أبو حاتم الرازي وقال ابن عدي : لا يعرف قلت : وقد خلط في هذا الحديث ودخل عليه شيء في شيء وحديث في حديث وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه والله أعلم
وقوله : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي يعلم السر وأخفى كما قال تعالى : { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { يعلم السر وأخفى } قال : السر ما أسره ابن آدم في نفسه { وأخفى } ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه فالله يعلم ذلك كله فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة وهو قوله : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } وقال الضحاك { يعلم السر وأخفى } قال : السر ما تحدث به نفسك وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد
وقال سعيد بن جبير : أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غدا والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غدا وقال مجاهد { وأخفى } يعني الوسوسة وقال أيضا هو و سعيد بن جبير { وأخفى } أي ما هو عالمه مما لم يحدث به نفسه وقوله : { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } أي الذي أنزل عليك القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة (3/191)
من هنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم وسار بأهله قيل : قاصدا بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ومعه زوجته فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب وجعل يقدح بزند معه ليوري نارا كما جرت له العادة به فجعل لا يقدح شيئا ولا يخرج منه شرر ولا شيء فينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه فقال لأهله يبشرهم : { إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس } أي شهاب من نار وفي الاية الأخرى { أو جذوة من النار } وهي الجمر الذي معه لهب { لعلكم تصطلون } دل على وجود البرد
وقوله : { بقبس } دل على وجود الظلام وقوله : { أو أجد على النار هدى } أي من يهديني الطريق دل على أنه قد تاه عن الطريق كما قال الثوري عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : { أو أجد على النار هدى } قال : من يهديني إلى الطريق وكانوا شاتين وضلوا الطريق فلما رأى النار قال : إن لم أجد أحدا يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها (3/194)
يقول تعالى : { فلما أتاها } أي النار واقترب منها { نودي يا موسى } وفي الاية الأخرى { نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله } وقال ههنا { إني أنا ربك } أي الذي يكلمك ويخاطبك { فاخلع نعليك } قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف : كانتا من جلد حمار غير ذكي وقيل : إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبقعة وقال سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة وقيل : ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيا غير منتعل وقيل غير ذلك والله أعلم
وقوله : { طوى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو اسم للوادي وكذا قال غير واحد فعلى هذا يكون عطف بيان وقيل عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه وقيل : لأنه قدس مرتين وطوى له البركة وكررت والأول أصح كقوله : { إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } وقوله : { وأنا اخترتك } كقوله : { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه وقد قيل : إن الله تعالى قال يا موسى أتدري لم خصصتك بالتلكيم من بين الناس ؟ قال : لا قال : لأني لم يتواضع إلي أحد تواضعك وقوله : { فاستمع لما يوحى } أي استمع الان ما أقول لك وأوحيه إليك { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وقوله : { فاعبدني } أي وحدني وقم بعبادتي من غير شريك { وأقم الصلاة لذكري } قيل : معناه صل لتذكرني وقيل : معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال : وأقم الصلاة لذكري ] وفي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ] وقوله : { إن الساعة آتية } أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها
وقوله : { أكاد أخفيها } قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : أكاد أخفيها من نفسي يقول : لأنها لا تخفى من نفس الله أبدا وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : من نفسه : وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { أكاد أخفيها } يقول : لا أطلع عليها أحدا غيري وقال السدي : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي يقول : كتمتها عن الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت وقال قتادة : أكاد أخفيها وهي في بعض القراءات : أخفيها من نفسي ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين قلت وهذا كقوله تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } وقال : { ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة } أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب حدثنا أبو نميلة حدثني محمد بن سهل الأسدي عن وقاء قال : أقرأنيها سعيد بن جبير : أكاد أخفيها يعني بنصب الألف وخفض الفاء يقول أظهرها ثم قال أما سمعت قول الشاعر :
( دأب شهرين ثم شهرا دميكا ... بأريكين يخفيان غميرا )
قال السدي : الغمير نبت رطب ينبت في خلال يبس والأريكين موضع والدميك الشهر التام وهذا الشعر لكعب بن زهير وقوله سبحانه وتعالى : { لتجزى كل نفس بما تسعى } أي أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } { إنما تجزون ما كنتم تعملون } وقوله : { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها } الاية المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة وأقبل على ملاذه في دنياه وعصى مولاه واتبع هواه فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر { فتردى } أي تهلك وتعطب قال الله تعالى : { وما يغني عنه ماله إذا تردى } (3/194)
هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام ومعجزة عظيمة وخرق للعادة باهر دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز و جل وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل وقوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } قال بعض المفسرين : إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له وقيل : وإنما قال له ذلك على وجه التقرير أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها فسترى ما نصنع بها الان { وما تلك بيمينك يا موسى } استفهام تقرير { قال هي عصاي أتوكأ عليها } أي أعتمد عليها في حال المشي { وأهش بها على غنمي } أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك : الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود فهذا الهش ولا يخبط وكذا قال ميمون بن مهران أيضا
وقوله : { ولي فيها مآرب أخرى } أي مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت فقيل : كانت تضيء له بالليل وتحرس له الغنم إذا نام ويغرسها فتصير شجرة تظله وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة والظاهر أنها لم تكن كذلك ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه الصلاة و السلام صيرورتها ثعبانا فما كان يفر منها هاربا ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية وكذا قول بعضهم : إنها كانت لادم عليه الصلاة و السلام وقول الاخر : إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة وروي عن ابن عباس أنه قال : كان اسمها ما شا والله أعلم بالصواب
وقوله تعالى : { قال ألقها يا موسى } أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها { فألقاها فإذا هي حية تسعى } أي صارت في الحال حية عظيمة ثعبانا طويلا يتحرك حركة سريعة فإذا هي تهتز كأنها جان وهو أسرع الحيات حركة ولكنه صغير فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة { تسعى } أي تمشي وتضطرب قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حفص بن جميع حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس { فألقاها فإذا هي حية تسعى } ولم تكن قبل ذلك حية فمرت بشجرة فأكلتها ومرت بصخرة فابتلعتها فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبرا ونودي : أن يا موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية : أن خذها ولا تخف فقيل له في الثالثة : إنك من الامنين فأخذها
وقال وهب بن منبه في قوله : { فألقاها فإذا هي حية تسعى } قال فألقاها على وجه الأرض ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون فدب يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها عيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن منها عرفا قيل : شعره مثل النيازك وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال : { خذها } بيمينك { ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف فدخلها بخلال من عيدان فلما أمره بأخذها أدلى طرف المدرعة على يده فقال له ملك : أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟ قال : لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين ولهذا قال تعالى : { سنعيدها سيرتها الأولى } أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك (3/196)
وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الاية الأخرى وههنا عبر عن ذلك بقوله : { واضمم يدك إلى جناحك } وقال في مكان آخر { واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه } وقال مجاهد : { واضمم يدك إلى جناحك } كفك تحت عضدك وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر وقوله : { تخرج بيضاء من غير سوء } أي من غير برص ولا أذى ومن غير شين قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم وقال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها مصباح فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز و جل ولهذا قال تعالى : { لنريك من آياتنا الكبرى } وقال وهب : قال له ربه : ادنه فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه
وقوله : { اذهب إلى فرعون إنه طغى } أي اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه وهاربا فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى قال وهب بن منبه : قال الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني وإن معك أيدي ونصري وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري فأنت جند عظيم من جندي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وزعم أنه لا يعرفني فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار فإن أمرت السماء حصبته وإن أمرت الأرض ابتلعته وإن أمرت الجبال دمرته وإن أمرت البحار غرقته ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي إني أنا الغني لاغني غيري فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي وذكره أيامي وحذره نقمتي وبأسي وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني وقل له أجب ربك فإنه واسع المغفرة وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزه بالمحاربة تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل مني تغلب الفئة الكثيرة بإذني ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين نظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائي وقديما ما جرت عادتي في ذلك فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العناء وما ذاك لهوانهم علي ولكن لسيتكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع وسيماهم في وجوههم من أثر السجود أولئك أوليائي حقا حقا فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل قلبك ولسانك واعلم أنه من أهان لي وليا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والاخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري رواه ابن أبي حاتم { قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري } هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عز و جل أن يشرح له صدره فيما بعثه به فإنه قد أمره بأمر عظيم وخطب جسيم بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفرا وأكثرهم جنودا وأعمرهم ملكا وأطغاهم وأبلغهم تمردا بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله ولا يعلم لرعاياه إلها غيره هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليدا عندهم في حجر فرعون على فراشه ثم قتل منهم نفسا فخافهم أن يقتلوه فهرب منهم هذه المدة بكمالها ثم بعد هذا بعثه ربه عز و جل إليهم نذيرا يدعوهم إلى الله عز و جل أن يعبدوه وحده لا شريك له ولهذا قال : { رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري } أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلا فلا طاقة لي بذلك { واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي } وذلك لما كان أصابه من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه كما سيأتي بيانه وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ولهذا بقيت بقية قال الله تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } أي يفصح بالكلام
وقال الحسن البصري { واحلل عقدة من لساني } قال : حل عقدة واحدة ولو سأل أكثر من ذلك أعطي وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فآتاه سؤله فحل عقدة من لسانه وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمرو بن عثمان حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال : أتاه ذو قرابة له : فقال له : ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك ولست تعرب في قراءتك فقال القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال : نعم قال : فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه ولم يزد عليها هذا لفظه
وقوله : { واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي } وهذا أيضا سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه وهو مساعدة أخيه هارون له قال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال فنبىء هارون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما السلام وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن نمير حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلا يقول : أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ؟ قالوا : لا ندري قال : أنا والله أدري قالت : فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه قال : موسى حين سأل لأخيه النبوة فقلت : صدق والله قلت : وفي هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام : { وكان عند الله وجيها }
وقوله : { اشدد به أزري } قال مجاهد : ظهري { وأشركه في أمري } أي في مشاورتي { كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا } قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا وقوله : { إنك كنت بنا بصيرا } أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون فلك الحمد على ذلك (3/197)
هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام فيما سأل من ربه عز و جل وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من امر أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان فاتخذت له تابوتا فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل وتمسكه إلى منزلها بحبل فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } فذهب به البحر إلى دار فرعون { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } أي قدرا مقدورا من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذرا من وجود موسى فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش فرعون ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له ولهذا قال تعالى : { يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني } أي عند عدوك جعلته يحبك قال سلمة بن كهيل { وألقيت عليك محبة مني } قال : حببتك إلى عبادي { ولتصنع على عيني } قال أبو عمران الجوني : تربى بعين الله وقال قتادة : تغذى على عيني وقال معمر بن المثنى { ولتصنع على عيني } بحيث أرى وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف وغذاؤه عندهم غذاء الملك فتلك الصنعة
وقوله : { إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها } وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها قال الله تعالى : { وحرمنا عليه المراضع من قبل } فجاءت أخته وقالت : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة فذهبت به وهم معها إلى أمه فعرضت عليه ثديها فقبله ففرحوا بذلك فرحا شديدا واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الاخرة أغنى وأجزل ولهذا جاء في الحديث [ مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها ] وقال تعالى ههنا : { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن } أي عليك { وقتلت نفسا } يعني القبطي { فنجيناك من الغم } وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله ففر منهم هاربا حتى ورد ماء مدين وقال له ذلك الرجل الصالح : { لا تخف نجوت من القوم الظالمين }
وقوله : { وفتناك فتونا } قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله في كتاب التفسير من سننه قوله { وفتناك فتونا } ( حديث الفتون ) حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا أصبغ بن زيد حدثنا القاسم بن أبي أيوب أخبرني سعيد بن جبير قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز و جل لموسى عليه السلام { وفتناك فتونا } فسألته عن الفتون ما هو ؟ فقال : استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا فقال بعضهم : إن بني اسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام فقال فرعون : كيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ففعلوا ذلك فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون قالوا : ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم فاقتلوا عاما كل مولد ذكر واتركوا بناتهم ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن وذلك من الفتون ـ يا ابن جبير ـ ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم فلما ولدت فعلت ذلك فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها : ما فعلت با بني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه
فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون فلما رأينه أخذنه فأردن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن : إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها فلما فتحته رأت فيه غلاما فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير فقالت لهم : أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم وإن أمر بذبحه لم ألمكم فأتت فرعون فقالت : قرة عين لي ولك فقال فرعون : يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ولكن حرمه ذلك ] فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرا فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها فلم يقبل
وأصبحت أم موسى والها فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا : أحي ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبير فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ورجاء منفعة الملك فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا فأرسلت إليها فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني هذا فإني لم أحب شيئا حبه قط قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فإني غير تاركة بيتي وولدي وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده فرجعت به إلى بيتها من يومها وأنبته الله نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه
فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أتريني ابني فدعتها يوما تريها إياه فيه وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم قالت : لاتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه فلما دخلت به عليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به
وأريد به فتونا فجاءت امرأة فرعون فقالت : ما بدالك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال ألاترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني ؟ فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا يعرف الحق به ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقدمهن إليه فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين فانتزعهمامنه مخافة أن يحرقا يده فقالت المرأة : ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به وكان الله بالغا فيه أمره فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والاخر إسرائيلي فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضبا شديدا لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره فوكز موسى الفرعوني فقتله وليس يراهما أحد إلا الله عز و جل والإسرائيلي فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ثم قال : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم }
فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار فأتى فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى فندم على ما كان منه وكره الذي رأى فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم : { إنك لغوي مبين } فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين أن يكون إياه أراد ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني فخاف الإسرائيلي وقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس فأرسل فوعون الذباحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره وذلك من الفتون يا ابن جبير
فخرج موسى متوجها نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز و جل فإنه قال : { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان } يعني بذلك حابستين غنمهما فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما وانصرف موسى عليه السلام فاستظل بشجرة وقال : { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا فقال : إن لكما اليوم لشأنا فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه فأتت موسى فدعته فلما كلمه قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته فقالت إحداهما : { يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته وما أمانته ؟ فقالت : أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك ثم قال لي : امشي خلفي وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا إلا وهو أمين فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت فقال له : هل لك { أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين } ؟ ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة وكانت سنتان عدة منه فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا
قال سعيد وهو ابن جبير : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال : هل تدري أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا وأنا يومئذ لا أدري فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك فقال : أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا ويعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي كان وعده فإنه قضى عشر سنين فلقيت النصراني فأخبرته ذلك فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك قلت : أجل وأولى فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهما السلام فانطلقا جميعا إلى فرعون فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا : { إنا رسولا ربك } قال : فمن ربكما ؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن ؟ قال : فما تريدان ؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت قال : أريد أن تؤمن بالله وترسل معنا بني إسرائيل فأبى عليه وقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني من غير برص ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى فقالوا له : هذان ساحران { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب وقالوا له : اجمع لهما السحرة فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما فأرسل إلى المدئن فحشر له كل ساحر متعالم فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا : يعمل بالحيات قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى
قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر { لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين } يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ؟ فـ { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا } { فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جزرا إلى الثعبان تدخل فيه حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتعلته فلما عرف السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ولكن هذا أمر من الله عز و جل آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله ونتوب إلى الله مما كنا عليه فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون { فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين } وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله
فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى : إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب قال : وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى فانفلق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه } الاية قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال : أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما وقد صامهن ليلهن ونهارهن وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضعه فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان قال : يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ارجع فصم عشرا ثم ائتني
ففعل موسى عليه السلام ما أمر به فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ولكم فيهم مثل ذلك فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ثم أوقد عليه النار فأحرقته فقال : لا يكون لنا ولا لهم وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقضي له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام : يا سامري ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك ؟ فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد فألقاها ودعا له هارون فقال : أريد أن يكون عجلا فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف ليس فيه روح وله خوار قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه وكان ذلك الصوت من ذلك فتفرق بنو إسرائيل فرقا فقالت فرقة : يا سامري ما هذا وأنت أعلم به ؟ قال : هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق فقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به فقال لهم هارون : { يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري } قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا هذه أربعون يوما قد مضت وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه : يتبعه فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده { فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } فقال لهم ما سمعتم في القرآن وأخذ برأس أخيه يجره إليه وألقى الألواح من الغضب ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له وانصرف إلى السامري فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم { فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي * قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا } ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون فقالوا لجماعتهم : يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض ! فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال : { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } وفيهم من كان اطلع الله منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به فلذلك رجفت بهم الأرض فقال : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } فقال : يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة ؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول
ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجها نحو الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلق منكر وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها فقالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأه ؟ قال : نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه فقالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ويقول أناس : إنهم من قوم موسى فقال الذين يخافون من بني إسرائيل : { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه و سلم وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل فقال : كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له : يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الاسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره وهكذا رواه النسائي في السنن الكبرى وأخرجه أبو جعفر بن جرير و ابن أبي حاتم في تفسيرهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره والله أعلم وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا وقوله عز و جل : (3/199)
يقول تعالى مخاطبا لموسى عليه السلام : إنه لبث مقيما في أهل مدين فارا من فرعون وملئه يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد والأمر كله لله تبارك وتعالى وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء ولهذا قال : { ثم جئت على قدر يا موسى } قال مجاهد : أي على موعد وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : { ثم جئت على قدر يا موسى } قال : على قدر الرسالة والنبوة وقوله : { واصطنعتك لنفسي } أي اصطفيتك واجتبيتك رسولا لنفسي أي كما أريد وأشاء وقال البخاري عند تفسيرها : حدثنا الصلت بن محمد حدثنا مهدي بن ميمون حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ التقى آدم وموسى فقال موسى : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال آدم : وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة ؟ قال : نعم قال فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني قال : نعم فحج آدم موسى ] أخرجاه
وقوله : { اذهب أنت وأخوك بآياتي } أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي { ولا تنيا في ذكري } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تبطئا وقال مجاهد عن ابن عباس : لا تضعفا والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عونا لهما عليه وقوة لهما وسلطانا كاسرا له كما جاء في الحديث [ إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه ] وقوله : { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } أي تمرد وعتا وتجبر على الله وعصاه { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } هذه الاية فيها عبرة عظيمة وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين كما قال يزيد الرقاشي عند قوله : { فقولا له قولا لينا }
( يا من يتحبب إلى من يعاديه ... فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟ )
وقال وهب بن منبه : قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة وعن عكرمة في قوله : { فقولا له قولا لينا } قال : لا إله إلا الله وقال عمرو بن عبيد عن الحسن البصري { فقولا له قولا لينا } أعذرا إليه قولا له : إن لك ربا ولك معادا وإن بين يديك جنة ونارا وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن سبرة عن علي في قوله { فقولا له قولا لينا } قال : كنه وكذا روي عن سفيان الثوري : كنه بأبي مرة والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع كما قال تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }
وقوله : { لعله يتذكر أو يخشى } أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة أو يخشى أي يوجد طاعة من خشية ربه كما قال تعالى : { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } فالتذكر الرجوع عن المحذور والخشية تحصيل الطاعة وقال الحسن البصري : { لعله يتذكر أو يخشى } يقول : لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه وههنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ويروى لأمية بن أبي الصلت فيما ذكره ابن إسحاق
( وأنت الذي من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولا مناديا )
( فقلت له : فاذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان باغيا )
( فقولا له : هل أنت سويت هذه ... بلا وتد حتى استقلت كما هيا )
( وقولا له : آأنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذن بك بانيا )
( وقولا له : آأنت سويت وسطها ... منيرا إذا ما جنه الليل هاديا )
( وقولا له : من يخرج الشمس بكرة ... فيصبح مامست من الأرض ضاحيا )
( وقولا له : من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا )
( ويخرج منه حبة في رؤوسه ؟ ... ففي ذاك آيات لمن كان واعيا ) (3/207)
يقول تعالى إخبارا عن موسى وهارون عليهما السلام أنهما قالا متسجيرين بالله تعالى شاكيين إليه : { إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى } يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن يفرط يعجل وقال مجاهد : يبسط علينا وقال الضحاك عن ابن عباس أو أن يطغى : يعتدي { قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } أي لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه وأرى مكانكما ومكانه لا يخفى علي من أمركم شيء واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لما بعث الله عز و جل موسى إلى فرعون قال : رب أي شيء أقول ؟ قال : قل هيا شراهيا قال الأعمش : فسر ذلك : أنا الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء إسناده جيد وشيء غريب { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك } قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال : مكثا على بابه حينا لا يؤذن لهما حتى أذن لهما بعد حجاب شديد
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه وهما يقولان : إنا رسولا رب العالمين فآذنوا بنا هذا الرجل فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترىء أحد على أن يخبره بشأنهما حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه فقال له : أيها الملك إن على بابك رجلا يقول قولا عجيبا يزعم أن له إلها غيرك أرسله إليك قال ببابي ؟ قال : نعم قال : أدخلوه فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه فلما وقف على فرعون قال : إني رسول رب العالمين فعرفه فرعون وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه وهما لا يعرفانه وكان طعامهما ليلتئذ الطفيل وهو اللفت ثم عرفاه وسلما عليه فقال له موسى : يا هارون إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني قال : افعل ما أمرك ربك فذهبا وكان ذلك ليلا فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون فغضب وقال : من يجترىء على هذا الصنيع الشديد فأخبره السدنة والبوابون بأن ههنا رجلا مجنونا يقول إنه رسول الله فقال علي به فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر الله في كتابه
وقوله : { قد جئناك بآية من ربك } أي بدلالة ومعجزة من ربك { والسلام على من اتبع الهدى } أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هرقل عظيم الروم كتابا كان أوله [ بسم الله الرحمن الرحمن من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ] وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا صورته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك أما بعد فإني قد أشركتك في الأمر فلك المدر ولي الوبر ولكن قريشا قوم يعتدون فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ] ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون { والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته كما قال تعالى : { فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى } وقال تعالى : { فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى } وقال تعالى : { فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى } أي كذب بقلبه وتولى بفعله (3/208)
يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى منكرا وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه ومليكه قال { فمن ربكما يا موسى } أي الذي بعثك وأرسلك من هو فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يقول خلق لكل شيء زوجه وقال الضحاك عن ابن عباس : جعل الإنسان إنسانا والحمار حمارا والشاة شاة وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : أعطى كل شيء صورته وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : سوى خلق كل دابة
وقال سعيد بن جبير في قوله : { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } قال : أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة ولاللدابة من خلق الكلب ولا للكلب من خلق الشاة وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح وهيأ كل شيء على ذلك ليس شيء منها يشبه شيئا من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح وقال بعض المفسرين : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى كقوله تعالى : { الذي قدر فهدى } أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه أي كتب الأعمال والاجال والأرزاق ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه ولا يقدر أحد على الخروج منه
يقول ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليقة على ما أراد { قال فما بال القرون الأولى } أصح الأقوال في معنى ذلك أن فرعون لماأخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى شرع يحتج بالقرون الأولى أي الذين لم يعبدوا الله أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره فقال له موسى في جواب ذلك هم وإن لم يعبدوه فإن علمهم عند الله مضبوط علهيم وسجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال { لا يضل ربي ولا ينسى } أي لا يشذ عنه شيء ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئا يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط وأنه لا ينسى شيئا تبارك وتعالى وتقدس وتنزه فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان : أحدهما عدم الإحاطة بالشيء والاخر نسيانه بعد علمه فنزه نفسه عن ذلك (3/210)
من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عز و جل حين سأله فرعون عنه فقال : { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } ثم اعترض الكلام بين ذلك ثم قال : { الذي جعل لكم الأرض مهدا } وفي قراءة بعضهم مهادا أي قرارا تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها وتسافرون على ظهرها { وسلك لكم فيها سبلا } أي جعل لكم طرقا تمشون في مناكبها كما قال تعالى : { وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون } { وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى } أي من أنواع النباتات من زروع وثمار ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع { كلوا وارعوا أنعامكم } أي شيء لطعامكم وفاكهتكم وشيء لأنعامكم لأقواتها خضرا ويبسا { إن في ذلك لآيات } أي لدلالات وحججا وبراهين { لأولي النهى } أي لذوي العقول السليمة المستقيمة على أنه لا إله إلا الله ولا رب سواه { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } أي من الأرض مبدؤكم فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم ومنها نخرجكم تارة أخرى { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } وهذه الاية كقوله تعالى : { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حضر جنازة فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال : منها خلقناكم ثم أخذ أخرى وقال : وفيها نعيدكم ثم أخرى وقال : ومنها نخرجكم تارة أخرى وقوله : { ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى } يعني فرعون أنه قامت عليه الحجج والايات والدلالات وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفرا وعنادا وبغيا كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } الاية (3/210)
يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الاية الكبرى وهي إلقاء عصاه فصارت ثعبانا عظيما ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء فقال : هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم ولا يتم هذا معك فإن عندنا سحرا مثل سحرك فلا يغرنك ما أنت فيه { فاجعل بيننا وبينك موعدا } أي يوما نجتمع نحن وأنت فيه فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين ووقت معين فعند ذلك { قال } لهم موسى { موعدكم يوم الزينة } وهو يوم عيدهم ونيروزهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء ومعجزات الأنبياء وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية ولهذا قال : { وأن يحشر الناس } أي جميعهم { ضحى } أي ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج ولهذا لم يقل ليلا ولكن نهارا ضحى قال ابن عباس : وكان يوم الزينة يوم عاشوراء وقال السدي وقتادة وابن زيد : كان يوم عيدهم وقال سعيد بن جبير : كان يوم سوقهم ولا منافاة قلت : وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده كما ثبت في الصحيح وقال وهب بن منبه : قال فرعون : يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه قال موسى لم أومر بهذا إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك فأوحى الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا وقل له أن يجعل هو قال فرعون : اجعله إلى أربعين يوما ففعل وقال مجاهد وقتادة : مكانا سوى منصفا وقال السدي : عدلا وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : مكانا سوى مستو بين الناس وما فيه لا يكون صوب ولا شيء يتغيب بعض ذلك عن بعض مستو حين يرى (3/211)
يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه لما تواعد هو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلومين تولى أي شرع في جمع السحرة من مدائن ممكلته كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان وقد كان السحر فيهم كثيرا نافقا جدا كما قال تعالى : { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم } ثم أتي أي اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته ووقفت الرعايا يمنة ويسرة وأقبل موسى عليه الصلاة و السلام متوكئا على عصاه ومعه أخوه هارون ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفا وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم يقولون { أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } { قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا } أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة وليست مخلوقة فتكونون قد كذبتم على الله { فيسحتكم بعذاب } أي يهلككم بعقوبة هلاكا لا بقية له { وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم } قيل معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم فقائل يقول ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نبي وقائل يقول بل هو ساحر وقيل غير ذلك والله أعلم
وقوله : { وأسروا النجوى } أي تناجوا فيما بينهم { قالوا إن هذان لساحران } وهذه لغة لبعض العرب جاءت هذه القراءة على إعرابها ومنهم من قرأ { إن هذان لساحران } وهذ اللغة المشهورة وقد توسع النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم : تعلمون أن هذا الرجل وأخاه ـ يعنون موسى وهارون ـ ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم
وقوله : { ويذهبا بطريقتكم المثلى } أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر فإنهم كانوا معظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها يقولون : إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم وقد تقدم في حديث الفتون أن ابن عباس قال في قوله : { ويذهبا بطريقتكم المثلى } يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله : { ويذهبا بطريقتكم المثلى } قال : يصرفا وجوه الناس إليهما
وقال مجاهد { ويذهبا بطريقتكم المثلى } قال : أولو الشرف والعقل والأسنان وقال أبو صالح : بطريقتكم المثلى أشرافكم وسرواتكم وقال عكرمة : بخيركم وقال قتادة : وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل وكانوا أكثر القوم عددا وأمولا فقال عدو الله يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما وقال عبد الرحمن بن زيد : بطريقتكم المثلى بالذي أنتم عليه { فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا } أي اجتمعوا كلكم صفا واحدا وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة لتبهروا الأبصار وتغلبوا هذا وأخاه { وقد أفلح اليوم من استعلى } أي منا ومنه أما نحن فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل وأما هو فينال الرياسة العظيمة (3/212)
يقول تعالى مخبرا عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى { إما أن تلقي } أي أنت أولا { وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا } أي أنتم أولا لنرى ماذا تصنعون من السحر وليظهر للناس جلية أمرهم { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } وفي الاية الأخرى أنهم لما ألقوا { قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } وقال تعالى : { سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم } وقال ههنا : { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها وإنما كان حيلة وكانوا جما غفيرا وجمعا كثيرا فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملان حيات يركب بعضها بعضا
وقوله : { فأوجس في نفسه خيفة موسى } أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فإذا هي تلقف ما صنعوا وذلك أنها صارت تنينا عظيما هائلا ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته وابتلعته والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهرة نهارا ضحوة فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر ولهذا قال تعال : { إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد حدثنا ابن معاذ أحسبه الصائغ عن الحسن عن جندب عن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أخذتم يعني الساحر فاقتلوه ثم قرأ { ولا يفلح الساحر حيث أتى } قال : لا يؤمن به حيث وجد ] وقد روى أصله الترمذي موقوفا ومرفوعا فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حق لا مرية فيه ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون فعند ذلك وقعوا سجدا لله وقالوا : آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ولهذا قال ابن عباس وعبيد بن عمير : كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة وقال محمد بن كعب : كانوا ثمانين ألفا وقال القاسم بن أبي بزة : كانوا سبعين ألفا وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفا وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة : كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفا وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفا وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفا
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن علي بن حمزة حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت السحرة سبعين رجلا أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح بمكة حدثنا ابن المبارك قال : قال الأوزاعي : لما خر السحرة سجدا رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها قال : وذكر عن سعيد بن سلام حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قوله : { فألقي السحرة سجدا } قال : رأوا منازلهم تبنى لهم وهم في سجودهم وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة (3/213)
يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والاية العظيمة ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم وغلب كل الغلب شرع في المكابرة والبهت وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم وقال : { آمنتم له } أي صدقتموه { قبل أن آذن لكم } أي ما أمرتكم بذلك وأفتنتم علي في ذلك وقال قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه كما قال تعالى في الاية الأخرى : { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون } ثم أخذ يتهددهم فقال : { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي لأجعلنكم مثلة ولأقتلنكم ولأشهرنكم قال ابن عباس : فكان أول من فعل ذلك رواه ابن أبي حاتم
وقوله { ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى } أي أنتم تقولون : إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه على الهدى فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله عز و جل و { قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات } أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين { والذي فطرنا } يحتمل أن يكون قسما ويحتمل أن يكون معطوفا على البينات يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت { فاقض ما أنت قاض } أي فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال ونحن قد رغبنا في دار القرار { إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } أي ما كان منا من الاثام خصوصا ما أكرهتنا عليه من الحسر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { وما أكرهتنا عليه من السحر } قال : أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء وقال : علموهم تعليما لا يعلمه أحد في الأرض قال ابن عباس : فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا : { آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر } وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقوله : { والله خير وأبقى } أي خير لنا منك { وأبقى } أي أدوم ثوابا مما كنت وعدتنا ومنيتنا وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه الله وقال محمد بن كعب القرظي { والله خير } أي لنا منك إن أطيع { وأبقى } أي منك عذابا غن عصي وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضا والظاهر أن فرعون ـ لعنه الله ـ صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء (3/214)
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد فقالوا : { إنه من يأت ربه مجرما } أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم { فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا } كقوله : { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور } وقال : { ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيا } وقال تعالى : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون } وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا إسماعيل أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتمون فيها ولا يحيون ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة فيقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل ] فقال رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان بالبادية وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا أبي حدثنا حيان سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب فأتى على هذه الاية { إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا } قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فتجعل الضبائر فيؤتى بهم نهرا يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل ]
وقوله تعالى : { ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات } أي ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله { فأولئك لهم الدرجات العلى } أي الجنة ذات الدرجات العاليات والغرف الامنات والمساكن الطيبات قال الإمام أحمد : حدثنا عفان أنبأنا همام حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تخرج الأنهار الأربعة والعرش فوقها فإذا سألتهم الله فاسألوه الفردوس ] ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون عن همام به
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال : كان يقال : الجنة مائة درجة في كل درجة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فيهن الياقوت والحلي في كل درجة أمير يرون له الفضل والسؤدد وفي الصحيحين : [ إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم ـ قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء قال ـ بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ] وفي السنن : وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما وقوله : { جنات عدن } أي إقامة وهي بدل من الدرجات العلى { تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أي ماكثين أبدا { وذلك جزاء من تزكى } أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك وعبد الله وحده لا شريك له واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من خير وطلب (3/215)
يقول تعالى مخبرا أنه أمر موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل ويذهب بهم من قبضة فرعون وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب فغضب فرعون غضبا شديدا وأرسل في المدائن حاشرين أي من يجمعون له الجند من بلدانه ورساتيقه يقول : { إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون } ثم لما جمع جنده واستوسق له جيشه ساق في طلبهم فأتبعوهم مشرقين أي عند طلوع الشمس { فلما تراء الجمعان } أي نظر كل من الفريقين إلى الاخر { قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين } ووقف موسى ببني إسرائيل البحر أمامهم وفرعون وراءهم فعند ذلك أوحى الله إليه { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا } فضرب البحر بعصاه وقال : انفلق علي بإذن الله فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يبسا كوجه الأرض فلهذا قال : { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا } أي من فرعون { ولا تخشى } يعني من البحر أن يغرق قومك ثم قال تعالى : { فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم } أي البحر { ما غشيهم } أي الذي هو معروف ومشهور وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور كما قال تعالى : { والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى } وقال الشاعر :
( أنا أبو النجم وشعري شعري ... )
أي الذي يعرف وهو مشهور وكما تقدم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد كذلك يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (3/216)
يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام حيث أنجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة لم ينج منهم أحد كما قال : { وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون } وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا روح بن عبادة حدثنا شعبة حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء فسألهم فقالوا : هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون فقال : [ نحن أولى بموسى فصوموه ] رواه مسلم أيضا في صحيحه
ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن وهو الذي كلمه الله تعالى عليه وسأل فيه الرؤية وأعطاه التوراة هنالك وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل كما يقصه الله تعالى قريبا وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء والسلوى طائر يسقط عليهم فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد لطفا من الله ورحمة بهم وإحسانا إليهم ولهذا قال تعالى : { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي } أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم ولا تطغوا في رزقي فتأخذوه من غير حاجة وتخالفوا ما أمرتكم به { فيحل عليكم غضبي } أي أغضب عليكم { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي فقد شقي وقال شفي بن مانع : إن في جهنم قصرا يرمى الكافر من أعلاه فيهوي في جهنم أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال وذلك قوله { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } وراه ابن أبي حاتم
وقوله : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا } أي كل من تاب إلي تبت عليه من أي ذنب كان حتى أنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل وقوله تعالى : { تاب } أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق وقوله : { وآمن } أي بقلبه { وعمل صالحا } أي بجوارحه وقوله : { ثم اهتدى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي ثم لم يشكك وقال سعيد بن جبير { ثم اهتدى } أي استقام على السنة والجماعة وروي نحوه عن مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف وقال قتادة { ثم اهتدى } أي لزم الإسلام حتى يموت وقال سفيان الثوري { ثم اهتدى } أي علم أن لهذا ثوابا وثم ههنا لترتيب الخبر على الخبر كقوله : { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } (3/217)
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } وواعده ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشرا فتمت أربعين ليلة أي يصومها ليلا ونهارا وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك فسارع موسى عليه السلام مبادرا إلى الطور واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون ولهذا قال تعالى : { وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري } أي قادمون ينزلون قريبا من الطور { وعجلت إليك رب لترضى } أي لتزداد عنى رضا { قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري
وفي الكتب الإسرائيلية أنه كان اسمه هارون أيضا وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة كما قال تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين } أي عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري
وقوله : { فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } أي بعدما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم وفيها شرف لهم وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة عقولهم وأذهانهم ولهذا قال : رجع إليهم غضبان أسفا والأسف شدة الغضب وقال مجاهد : غضبان أسفا أي جزعا وقال قتادة والسدي : أسفا حزينا على ما صنع قومه من بعده { قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا } أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والاخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله { أفطال عليكم العهد } أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه وما بالعهد من قدم { أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم } أم ههنا بمعنى بل وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني كأنه يقول : بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا أي بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم { ما أخلفنا موعدك بملكنا } أي عن قدرتنا واختيارنا ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر فقذفناها أي ألقيناها عنا
وقد تقدم في حديث الفتون أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار وهي في رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة ويجعل حجرا واحدا حتى إذا رجع موسى عليه السلام رأى فيه ما يشاء ثم جاء ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته فدعا له هارون وهو لا يعلم ما يريد فأجيب له فقال السامري عند ذلك : أسأل الله أن يكون عجلا فكان عجلا له خوار أي صوت استدراجا وإمهالا ومحنة واختبارا ولهذا قال : { فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن النجتري حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل فقال له : ما تصنع ؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون : اللهم أعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون وقال السامري : اللهم إني أسألك ان يخور فخار فكان إذا خار سجدوا له وإذا خار رفعوا رؤوسهم ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال : أعمل ما ينفع ولا يضر وقال السدي كان يخور ويمشي فقالوا : أي الضلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه : { هذا إلهكم وإله موسى فنسي } أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس : { فنسي } أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال : { هذا إلهكم وإله موسى } قال : فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا قط يعني مثله يقول الله : { فنسي } أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري قال الله تعالى ردا عليهم وتقريعا لهم وبيانا لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه : { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } أي العجل أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه { ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } أي في دنياهم ولا في أخراهم قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج من فمه فيسمع له صوت وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري أن هذا العجل اسمه بهموت وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب يعني هل يصلي فيه أم لا ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله يعني الحسين وهم يسألون عن دم البعوضة (3/218)
يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ذو العرش المجيد الفعال لما يريد { فاتبعوني وأطيعوا أمري } أي فيما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه { قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه (3/220)
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم فامتلأ عند ذلك غضبا وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك وذكرنا هناك حديث [ ليس الخبر كالمعاينة ] وشرع يلوم أخاه هارون فقال : { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن } أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع { أفعصيت أمري } أي فيما كنت قدمت إليك وهو قوله : { اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } { قال يا ابن أم } ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف ولهذا قال : { يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } الاية هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم قال : { إني خشيت } أن أتبعك فأخبرك بهذا فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم { ولم ترقب قولي } أي وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم قال ابن عباس : وكان هارون هائبا مطيعا له (3/220)
يقول موسى عليه السلام للسامري : ما حملك على ما صنعت ؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت ؟ قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان السامري رجلا من اهل باجرما وكان من قوم يعبدون البقر وكان حب عبادة البقر في نفسه وكان قد أظهر الاسلام مع بني إسرائيل وكان اسمه موسى بن ظفر وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان وقال قتادة : كان من قرية سامرا { قال بصرت بما لم يبصروا به } أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون { فقبضت قبضة من أثر الرسول } أي من أثر فرسه وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث أخبرني عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال : إن جبريل عليه السلام لما نزل فصعد بموسى عليه السلام إلى السماء بصر به السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس قال : وحمل جبريل موسى عليهما السلام خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال : نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه غريب
وقال مجاهد : { فقبضت قبضة من أثر الرسول } قال : من تحت حافر فرس جبريل قال : والقبضة ملء الكف والقبضة بأطراف الأصابع قال مجاهد : نبذ السامري أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل فانسبك عجلا جسدا له خوار حفيف الريح فيه فهو خوراه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى أخبرنا علي بن المديني حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عمارة حدثنا عكرمة أن السامري رأى الرسول فألقي في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان فقبض قبضة من أثر الرسول فيبست أصابعه على القبضة فلما ذهب موسى للميقات وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون فقال لهم السامري : إنما أصابكم من أجل هذا الحلي فاجمعوه فجمعوه فأوقدوا عليه فذاب فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت كن فيكون فقذف القبضة وقال كن فكان عجلا جسدا له خوار فقال : { هذا إلهكم وإله موسى } ولهذا قال { فنبذتها } أي ألقيتها مع من ألقى { وكذلك سولت لي نفسي } أي حسنته وأعجبها إذا ذاك { قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس أي لا تماس الناس ولا يمسونك { وإن لك موعدا } أي يوم القيامة { لن تخلفه } أي لا محيد لك عنه وقال قتادة { أن تقول لا مساس } قال : عقوبة لهم وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس
وقوله : { وإن لك موعدا لن تخلفه } قال الحسن وقتادة وأبو نهيك : لن تغيب عنه وقوله : { وانظر إلى إلهك } أي معبودك { الذي ظلت عليه عاكفا } أي أقمت على عبادته يعني العجل { لنحرقنه } قال الضحاك عن ابن عباس والسدي : سحله بالمبارد وألقاه على النار وقال قتادة : استحال العجل من الذهب لحما ودما فحرقه بالنار ثم القى رماده في البحر ولهذا قال : { ثم لننسفنه في اليم نسفا } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال : إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل ثم صوره عجلا قال : فعمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب فقالوا لموسى : ما توبتنا ؟ قال : يقتل بعضكم بعضا وهكذا قال السدي وقد تقدم في تفسير سورة البقرة ثم في حديث الفتون بسط ذلك
وقوله تعالى : { إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما } يقول لهم موسى عليه السلام : ليس هذا إلهكم إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ولا تنبغي العبادة إلا له فإن كل شيء فقير إليه عبد له وقوله : { وسع كل شيء علما } نصب على التمييز أي هو عالم بكل شيء { أحاط بكل شيء علما } و { أحصى كل شيء عددا } فلا { يعزب عنه مثقال ذرة } { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } والايات في هذا كثيرة جدا (3/220)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم : كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص هذا وقد آتيناك من لدنا اي من عندنا ذكرا وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه تنزيل من حكيم حميد الذي لم يعط نبي من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه و سلم كتابا مثله ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن وحكم الفصل بين الناس منه
ولهذا قال تعالى : { من أعرض عنه } أي كذب به وأعرض عن اتباعه أمرا وطلبا وابتغى الهدى من غيره فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم ولهذا قال : { من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا } أي إثما كما قال تعالى : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم كما قال : { لأنذركم به ومن بلغ } فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع فمن اتبعه هدي ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة ولهذا قال : { من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه } أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك { وساء لهم يوم القيامة حملا } أي بئس الحمل حملهم (3/222)
ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الصور فقال : [ قرن ينفخ فيه ] وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة أنه قرن عظيم الدائرة منه بقدر السموات والأرض ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام وجاء في الحديث [ كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له فقالوا : يا رسول الله كيف نقول ؟ قال قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ] وقوله : { ونحشر المجرمين يومئذ زرقا } قيل : معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال { يتخافتون بينهم } قال ابن عباس : يتسارون بينهم أي يقول بعضهم لبعض : إن لبثتم إلا عشرا أي في الدار الدنيا لقد كان لبثكم فيها قليلا عشرة أيام أو نحوها قال الله تعالى : { نحن أعلم بما يقولون } أي في حال تناجيهم بينهم { إذ يقول أمثلهم طريقة } أي العاقل الكامل فيهم { إن لبثتم إلا يوما } أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد لأن الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة ولهذا قال تعالى : { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون } وقال تعالى : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } الاية وقال تعالى : { كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } أي إنما كان لبثكم فيها قليلا لو كنتم تعلمون لاثرتم الباقي على الفاني ولكن تصرفتم فاسأتم التصرف قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي (3/222)
يقول تعالى : { ويسألونك عن الجبال } أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول ؟ { فقل ينسفها ربي نسفا } أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرا { فيذرها } أي الأرض { قاعا صفصفا } أي بساطا واحدا والقاع هو المستوي من الأرض والصفصف تأكيد لمعنى ذلك وقيل الذي لا نبات فيه والأول أولى وإن كان الاخر مرادا أيضا باللازم ولهذا قال : { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } أي لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا منخفضا ولا مرتفعا كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له } أي يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ولكن حيث لا ينفعهم كما قال تعالى : { أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا } وقال : { مهطعين إلى الداع } وقال محمد بن كعب القرظي : يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة ويطوي السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه فذلك قوله : { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له } وقال قتادة : لا عوج له لا يميلون عنه وقال أبو صالح : لا عوج له أي لا عوج عنه
وقوله : { وخشعت الأصوات للرحمن } قال ابن عباس : سكنت وكذا قال السدي { فلا تسمع إلا همسا } قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني وطء الأقدام وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { فلا تسمع إلا همسا } الصوت الخفي وهو رواية عن عكرمة والضحاك وقال سعيد بن جبير { فلا تسمع إلا همسا } الحديث وسره ووطء الأقدام فقد جمع سعيد كلا القولين وهو محتمل أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر وهو مشيهم في سكون وخضوع وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال فقد قال تعالى : { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد } (3/223)
يقول تعالى : { يومئذ } أي يوم القيامة { لا تنفع الشفاعة } أي عنده { إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } كقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقوله : { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } وقال : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال : { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو سيد ولد آدم وأكرم الخلائق على الله عز و جل أنه قال [ آتي تحت العرش وأخر لله ساجدا ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الان فيدعني ما شاء أن يدعني ثم يقول : يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع ـ فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود ] فذكر أربع مرات صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء وفي الحديث أيضا [ يقول تعالى أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقول أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ] الحديث
وقوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } أي يحيط علما بالخلائق كلهم { ولا يحيطون به علما } كقوله : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وقوله : { وعنت الوجوه للحي القيوم } قال ابن عباس وغير واحد : خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت القيوم الذي لا ينام وهوقيم على كل شيء يدبره ويحفظه فهو الكامل في نفسه الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلا به وقوله : { وقد خاب من حمل ظلما } أي يوم القيامة فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء وفي الحديث [ يقول الله عز و جل : وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم ] وفي الصحيح [ إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو به مشرك فإن الله تعالى يقول : إن الشرك لظلم عظيم ] وقوله : { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما } لما ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره والهضم النقص (3/224)
يقول تعالى : ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة أنزلنا القرآن بشيرا ونذيرا بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي { وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون } أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش { أو يحدث لهم ذكرا } وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات { فتعالى الله الملك الحق } أي تنزه وتقدس الملك الحق الذي هو حق ووعده حق ووعيده حق ورسله حق والجنة حق والنار حق وكل شيء منه حق وعدله تعالى أن لا يعذب أحدا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة
وقوله : { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة { لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه } وثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعالج من الوحي شدة فكان مما يحرك به لسانه فأنزل الله هذه الاية يعني أنه عليه السلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه فقال : { لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه } أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه } وقال في هذه الاية { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } أي بل أنصت فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده { وقل رب زدني علما } أي زدني منك علما قال ابن عيينة رحمه الله ولم يزل صلى الله عليه و سلم في زيادة حتى توفاه الله عز و جل ولهذا جاء في الحديث [ إن الله تابع الوحي على رسوله حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وقال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد الله على كل حال ] وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عن عبد الله بن نميربه وقال : غريب من هذا الوجه ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم عن موسى بن عبيدة به وزاد في آخره [ وأعوذ بالله من حال أهل النار ] (3/225)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه وقال مجاهد والحسن : ترك وقوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلا وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف وفي الحجر والكهف وسيأتي في آخر سورة { ص } يذكر تعالى فيها خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له تشريفا وتكريما ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديما ولهذا قال تعالى : { فسجدوا إلا إبليس أبى } أي امتنع واستكبر { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك } يعني حواء عليهما السلام { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى } إنما قرن بين الجوع والعري لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر { وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } وهذان أيضا متقابلان فالظمأ حر الباطن وهو العطش والضحى حر الظاهر
وقوله : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } قد تقدم أنه دلاهما بغرور { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد فقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي الضحاك سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها وهي شجرة الخلد ] ورواه الإمام أحمد
وقوله : { فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما } قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول ما بدا منه عورته فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن : يا آدم مني تفر فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب لا ولكن استحياء أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة ؟ قال : نعم ] فذلك قوله : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب فلم يسمعه منه وفي رفعه نظر أيضا
وقوله : { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } قال مجاهد : يرقعان كهيئة الثوب وكذا قال قتادة والسدي وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن عون حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } قال : ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما وقوله : { وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } قال البخاري : حدثنا قتيبة حدثنا أيوب بن النجار عن يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ حاج موسى آدم فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم ؟ قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره الله علي قبل أن يخلقني ؟ ـ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فحج آدم موسى ] وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما من المسانيد
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذئاب عن يزيد بن هرمز قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى قال موسى : أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق ؟ قال موسى : بأربعين عاما قال آدم : فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى ؟ قال : نعم قال : أفتلومني على أن عملت عملا كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فحج آدم موسى ] قال الحارث : وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم (3/225)
يقول تعالى لادم وحواء وإبليس : اهبطوا منها جميعا أي من الجنة كلكم وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة { بعضكم لبعض عدو } قال : آدم وذريته وإبليس وذريته وقوله : { فإما يأتينكم مني هدى } قال أبو العالية : الأنبياء والرسل والبيان { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } قال ابن عباس : لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الاخرة { ومن أعرض عن ذكري } أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه { فإن له معيشة ضنكا } أي ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشرح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { فإن له معيشة ضنكا } قال : الشقاء وقال العوفي عن ابن عباس : { فإن له معيشة ضنكا } قال : كلما أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة وقال أيضا : إن قوما ضلالا أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين فكانت معيشتهم ضنكا وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفا لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك وقال الضحاك : هو العمل السيء والرزق الخبيث وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار
وقال سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله : { معيشة ضنكا } قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه وقال أبو حاتم الرازي : النعمان بن أبي عياش يكنى أبا سلمة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان أنبأنا الوليد أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول الله عز و جل { فإن له معيشة ضنكا } قال : ضمة القبر له والموقوف أصح وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح عن ابن حجيرة واسمه عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ المؤمن في قبره في روضة خضراء ويفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له قبره كالقمر ليلة البدر أتدرون فيم أنزلت هذه الاية { فإن له معيشة ضنكا } أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : عذاب الكافر في قبره والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا أتدرون ما التنين ؟ تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون ] رفعه منكر جدا
وقال البزار : حدثنا محمد بن يحيى الأزدي : حدثنا محمد بن عمرو حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قول الله عز و جل : { فإن له معيشة ضنكا } قال [ المعيشة الضنك الذي قال الله إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة ] وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم { فإن له معيشة ضنكا } قال : [ عذاب القبر ] إسناد جيد
وقوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى } قال مجاهد وأبو صالح والسدي : لا حجة له وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلا جهنم ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضا كما قال تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم } الاية ولهذا يقول : { رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } أي في الدنيا { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } فإن الجزاء من جنس العمل فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه فليس داخلا في هذاالوعيد الخاص وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن رجل عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم ] ثم رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكر مثله سواء (3/227)
يقول تعالى : وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والاخرة { لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق } ولهذا قال : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } أي أشد ألما من عذاب الدنيا وأدوم عليهم فهم مخلدون فيه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمتلاعنين : [ إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة ] (3/229)
يقول تعالى : { أفلم يهد } لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة كما قال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } وقال في سورة الم السجدة : { أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم } الاية ثم قال تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لايعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة لجاءهم العذاب بغتة ولهذا قال لنبيه مسليا له : { فاصبر على ما يقولون } أي من تكذيبهم لك { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس } يعني صلاة الفجر { وقبل غروبها } يعني صلاة العصر كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : [ كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ] ثم قرأ هذه الاية
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رؤيبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ] رواه مسلم من حديث عبدالملك بن عمير به وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر الى أقصاه كما ينظر الى أدناه وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين ]
وقوله : { ومن آناء الليل فسبح } أي من ساعاته فتهجد به وحمله بعضهم على المغرب والعشاء { وأطراف النهار } في مقابلة آناء الليل { لعلك ترضى } كما قال تعالى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } وفي الصحيح [ يقول الله تعالى ياأهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : إني أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون : وأي شىء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ] وفي الحديث الاخر [ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه : فيقولون : وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم خيرا من النظر إليه وهي الزيادة ] (3/229)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم : لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور وقال مجاهد : { أزواجا منهم } يعني الأغنياء فقد آتاك خيرا مما آتاهم كما قال في الاية الأخرى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدن عينيك } الاية وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم في الاخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف كما قال تعالى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } ولهذا قال : { ورزق ربك خير وأبقى } وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن فرآه متوسدا مضطجعا على رمال حصير وليس في البيت إلا صبرة من قرظ وأهب معلقة فابتدرت عينا عمر بالبكاء فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مايبكيك يا عمر ؟ فقال : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه ؟ فقال : أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ] فكان صلى الله عليه و سلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله ولم يدخر لنفسه شيئا لغد
قال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال بركات الأرض ] وقال قتادة والسدي : زهرة الحياة الدنيا يعني زينة الحياة الدنيا وقال قتادة : { لنفتنهم فيه } لنبتليهم وقوله : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلها كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ وكان له ساعة من الليل يصلي فيها فربما لم يقم فنقول : لا يقوم الليلة كما كان يقوم وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله وقال [ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ]
وقوله : { لا نسألك رزقا نحن نرزقك } يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب كما قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } وقال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } ولهذا قال : { لا نسألك رزقا نحن نرزقك } وقال الثوري : { لا نسألك رزقا } أي لا نكلفك الطلب وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك } ثم يقول : [ الصلاة الصلاة رحمكم الله ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني حدثنا سيار حدثنا جعفر عن ثابت قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله : يا أهلاه صلوا صلوا ] قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول الله تعالى : يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك ] وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود : سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : [ من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك ] وروي أيضا من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الاخرة نيته جمع له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ] وقوله : { والعاقبة للتقوى } أي وحسن العاقبة في الدنيا والاخرة وهي الجنة لمن اتقى الله وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأنا أتينا برطب ابن طاب فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة وأن ديننا قد طاب ] (3/230)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار في قولهم : { لولا } أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه أي بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله ؟ قال الله تعالى : { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } يعني القرآن الذي أنزله عليه الله وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها وهذه الاية كقوله تعالى في سورة العنكبوت : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من نبي إلا وقد أوتي من الايات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ] وإنما ذكر ههنا أعظم الايات التي أعطيها عليه السلام وهو القرآن وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه
ثم قال تعالى : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا : { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال : { فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون { ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } كما قال تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } إلى قوله { بما كانوا يصدفون } وقال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } الاية وقال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } الايتين ثم قال تعالى : { قل } أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده { كل متربص } أي منا ومنكم { فتربصوا } أي فانتظروا { فستعلمون من أصحاب الصراط السوي } أي الطريق المستقيم { ومن اهتدى } إلى الحق وسبيل الرشاد وهذا كقوله تعالى : { وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا } وقال : { سيعلمون غدا من الكذاب الأشر }
آخر تفسير سورة طه ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد (3/231)
سورة الانبياء
وهي مكية
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي اسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي
بسم الله الرحمن الرحيم (3/232)
هذا تنبيه من الله عز و جل على اقتراب الساعة ودنوها وأن الناس في غفلة عنها أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها وقال النسائي : حدثنا أحمد بن نصر حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم { في غفلة معرضون } قال : [ في الدنيا ] وقال تعالى : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } وقال { اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا } الاية وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانىء أبي نواس الشاعر أنه قال : أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول :
( الناس في غفلاتهم ... ورحا المنية تطحن )
فقيل له : من أين أخذ هذا ؟ قال من قول الله تعالى : { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الامدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم واديا في العرب وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }
ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار فقال { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } أي جديد إنزاله { إلا استمعوه وهم يلعبون } كما قال ابن عباس : ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضا لم يشب رواه البخاري بنحوه
وقوله : { وأسروا النجوى الذين ظلموا } أي قائلين فيما بينهم خفية { هل هذا إلا بشر مثلكم } يعنون رسول الله صلى الله عليه و سلم يستبعدون كونه نبيا لأنه بشر مثلهم فكيف اختص بالوحي دونهم ولهذا قال : { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر فقال تعالى مجيبا لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب { قال ربي يعلم القول في السماء والأرض } أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والاخرين الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض وقوله : { وهو السميع العليم } أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم وفي هذا تهديد لهم ووعيد وقوله : { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه } هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن وحيرتهم فيه وضلالهم عنه فتارة يجعلونه سحرا وتارة يجعلونه شعرا وتارة يجعلونه أضغاث أحلام وتارة يجعلونه مفترى كما قال { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } وقوله { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } الاية ولهذا قال تعالى : { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون } أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالايات لو رأوها دون أولئك ؟ كلا بل { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } هذا كله وقد شاهدوا من الايات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
قال ابن أبي حاتم رحمه الله : ذكر عن زيد بن الحباب حدثنا ابن لهيعة : حدثنا الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول : كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرىء بعضنا بعضا القرآن فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية فوضع واتكأ وكان صبيحا فصيحا جدلا فقال : يا أبا بكر قل محمد يأتينا بآية كما جاء الأولون جاء موسى بالألواح وجاء دواد بالزبور وجاء صالح بالناقة وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة فبكى أبو بكر رضي الله عنه فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر : قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم نستغيث به من هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز و جل فقلنا : يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق فقال : إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته التي فضلت بها فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود وأمرني أن أنذر الجن وآتاني كتابه وأنا أمي وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر وذكر اسمي في الأذان وأمدني بالملائكة وآتاني النصر وجعل الرعب أمامي وآتاني الكوثر وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة ورودا ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعون رؤوسهم وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب وآتاني السلطان والملك وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا ] وهذا الحديث غريب جدا (3/232)
يقول تعالى رادا على من أنكر بعثة الرسل من البشر : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة كما قال في الاية الأخرى { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر } وقال تعالى : { قل ما كنت بدعا من الرسل } وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم لأنهم أنكروا ذلك فقالوا { أبشر يهدوننا } ولهذا قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } أي اسألواأهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف : هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة ؟ وإنما كانوا بشرا وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلا منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم
وقوله : { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } أي بل قد كانوا أجسادا يأكلون الطعام كما قال تعالى : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } أي قد كانوا بشرا من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئا كما توهمه المشركون في قولهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } الاية
وقوله : { وما كانوا خالدين } أي في الدنيا بل كانوا يعيشون ثم يموتون { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز و جل تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه وقوله : { ثم صدقناهم الوعد } أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك ولهذا قال { فأنجيناهم ومن نشاء } أي أتباعهم من المؤمنين { وأهلكنا المسرفين } أي المكذبين بما جاءت به الرسل (3/234)
يقول تعالى منبها على شرف القرآن ومحرضا لهم على معرفة قدره : { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم } قال ابن عباس : شرفكم وقال مجاهد : حديثكم وقال الحسن : دينكم { أفلا تعقلون } أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى : { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } وقوله { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } هذه صيغة تكثير كما قال : { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } وقال تعالى : { فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها } الاية
وقوله { وأنشأنا بعدها قوما آخرين } أي أمة أخرى بعدهم { فلما أحسوا بأسنا } أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم { إذا هم منها يركضون } أي يفرون هاربين { لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم } هذا تهكم بهم نزرا أي قيل لهم نزرا لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة قال قتادة استهزاء بهم { لعلكم تسألون } أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم { قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين } اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك { فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين } أي ما زالت تلك المقالة وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصدا وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودا (3/235)
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق أي بالعدل والقسط { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولا لعبا كما قال : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } وقوله تعالى : { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين } قال ابن أبي نجيح عن مجاهد { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا } يعني من عندنا يقول : وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا وقال الحسن وقتادة وغيرهما { لو أردنا أن نتخذ لهوا } اللهو المرأة بلسان أهل اليمن وقال إبراهيم النخعي { لاتخذناه } من الحور العين وقال عكرمة والسدي : والمراد باللهو ههنا الولد وهذا والذي قبله متلازمان وهو كقوله تعالى : { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار } فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير أو الملائكة سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا
وقوله : { إن كنا فاعلين } قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم : أي ما كنا فاعلين وقال مجاهد كل شيء في القرآن { إن } فهو إنكار وقوله : { بل نقذف بالحق على الباطل } أي نبين الحق فيدحض الباطل ولهذا قال : { فيدمغه فإذا هو زاهق } أي ذاهب مضمحل { ولكم الويل } أي أيها القائلون لله ولد { مما تصفون } أي تقولون وتفترون ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلا ونهارا فقال : { وله من في السموات والأرض ومن عنده } يعني الملائكة { لا يستكبرون عن عبادته } أي لا يستنكفون عنها كما قال : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا }
وقوله : { ولا يستحسرون } أي لا يتعبون ولا يملون { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا مطيعون قصدا وعملا قادرون عليه كما قال تعالى : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال : [ بينا رسول الله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أصحابه إذ قال لهم هل تسمعون ما أسمع ؟ قالوا : ما نسمع من شيء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم ] غريب ولم يخرجوه ثم رواه ـ أعني ابن أبي حاتم ـ من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلا وقال أبو إسحاق عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام فقلت له : أرأيت قول الله تعالى للملائكة : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل فقال : من هذا الغلام ؟ فقالوا من بني عبد المطلب قال فقبل رأسي ثم قال : يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس ؟ (3/235)
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال : { أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون } أي أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض أي لا يقدرون على شيء من ذلك فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه ؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض فقال : { لو كان فيهما آلهة } أي في السموات والأرض { لفسدتا } كقوله تعالى : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } وقال ههنا : { فسبحان الله رب العرش عما يصفون } أي عما يقولون أن له ولدا أو شريكا سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علوا كبيرا
وقوله { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعمله وحكمته وعدله ولطفه { وهم يسألون } أي وهو سائل خلقه عما يعملون كقوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } وهذا كقوله تعالى : { وهو يجير ولا يجار عليه } (3/236)
يقول تعالى : { أم اتخذوا من دونه آلهة قل } يا محمد { هاتوا برهانكم } أي دليلكم على ما تقولون { هذا ذكر من معي } يعني القرآن { وذكر من قبلي } يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله ولكن أنتم أيها المشركون لا تعملون الحق فأنتم معرضون عنه ولهذا قال : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } كما قال : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له والفطرة شاهدة بذلك أيضا والمشركون لا برهان لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (3/237)
يقول تعالى ردا على من زعم أن له تعالى وتقدس ولدا من الملائكة كمن قال ذلك من العرب : إن الملائكة بنات الله فقال : { سبحانه بل عباد مكرمون } أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات سامية وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به بل يبادرون إلى فعله وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليه منهم خافية { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }
وقوله : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } كقوله { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } في آيات كثيرة في معنى ذلك { وهم من خشيته } أي من خوفه ورهبته { مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه } أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله { فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } أي كل من قال ذلك وهذا شرط والشرط لا يلزم وقوعه كقوله { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } (3/237)
يقول تعالى منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات فقال : { أولم ير الذين كفروا } أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير فكيف يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به ما سواه ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقا أي كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ففتق هذه من هذه فجعل السموات سبعا والأرض سبعا وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ولهذا قال { وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء
( ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد )
قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار ؟ فقال : أرايتم السموات والأرض حين كانتا رتقا هل كان بينهما إلا ظلمة ؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار وقال ابن ابي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما قال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني بما قال لك قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله فقال ابن عباس : نعم كانت السموات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر : الان قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علما صدق هكذا كانت قال ابن عمر : قد كنت أقول ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن فالان علمت أنه قد أوتى في القرآن علما وقال عطية العوفي : كانت هذه رتقا لا تمطر فأمطرت وكانت هذه رتقا لا تنبت فأنبتت
وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنفي عن قوله : { أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما } قال : كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سموات وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين وهكذا قال مجاهد وزاد : ولم تكن السماء والأرض متماستين وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه وقال الحسن وقتادة : كانتا جميعا ففصل بينهما بهذا الهواء
وقوله : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } أي أصل كل الأحياء قال ابن أبي حاتم : حدثنا ابي حدثنا ابو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه قال : [ يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي فأخبرنا عن كل شيء قال : كل شيء خلق من ماء ] وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال : [ قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء قال : كل شيء خلق من ماء قال : قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال : أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأحارم وقم بالليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسلام ] ورواه أيضا عن عبد الصمد وعفان وبهز عن همام تفرد به أحمد وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم و الترمذي يصحح له وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا والله أعلم
وقوله : [ وجعلنا في الأرض رواسي ] أي جبالا أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد بالناس أي تضطرب وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الايات الباهرات والحكم والدلالات ولهذا قال : { أن تميد بهم } أي لئلا تميد بهم وقوله : { وجعلنا فيها فجاجا سبلا } أي ثغرا في الجبال يسلكون فيها طريقا من قطر إلى قطر ومن إقليم إلى إقليم كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من ههنا إلى ههنا ولهذا قال : { لعلهم يهتدون }
وقوله : { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } أي على الأرض وهي كالقبة عليها كما قال : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } وقال : { والسماء وما بناها } { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج } والبناء هو نصب القبة كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بني الإسلام على خمس ] أي خمسة دعائم وهذا لا يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب { محفوظا } أي عاليا محروسا أن ينال وقال مجاهد : مرفوعا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال رجل : [ يا رسول الله ما هذه السماء ؟ قال : موج مكفوف عنكم ] إسناده غريب
وقوله : { وهم عن آياتها معرضون } كقوله : { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكامله في يوم وليلة فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها وقد ذكر ابن أبي الدنيا رحمه الله في كتابه التفكر والاعتبار : أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة فلم ير ذلك الرجل شيئا مما كان يحصل لغيره فشكى ذلك إلى أمه فقالت له : يا بني فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه ؟ فقال : لا والله ما أعلمه قالت : فلعلك هممت ؟ قال : لا ولا هممت قالت : فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر ؟ فقال : نعم كثيرا قالت : فمن ههنا أتيت ثم قال منبها على بعض آياته : { وهو الذي خلق الليل والنهار } أي هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الاخر { والشمس والقمر } هذه لها نور يخصها وفلك بذاته وزمان على حدة وحركة وسير خاص وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر { وكل في فلك يسبحون } أي يدورون قال ابن عباس : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة قال مجاهد : فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا الفلكة إلا بالمغزل كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به ولا يدور إلا بهن كما قال تعالى : { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم } (3/238)
يقول تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك } أي يا محمد { الخلد } أي في الدنيا بل { كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقد استدل بهذه الاية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات وليس بحي إلى الان لأنه بشر سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا وقد قال تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } وقوله : { أفإن مت } أي يا محمد { فهم الخالدون } أي يؤملون أن يعيشوا بعدك لا يكون هذا بل كل إلى الفناء ولهذا قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } وقد روي عن الشافعي رحمه الله أن أنشد واستشهد بهذين البيتين :
( تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد )
( فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد )
وقوله : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى فنظر من يشكر ومن يكفر ومن يصبر ومن يقنط كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { ونبلوكم } يقول نبتليكم { بالشر والخير فتنة } بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلال وقوله : { وإلينا ترجعون } أي فنجاريكم بأعمالكم (3/240)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلمه عليه { وإذا رآك الذين كفروا } يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه { إن يتخذونك إلا هزوا } أي يستهزئون بك وينتقصونك يقولون : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم قال تعالى : { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزئون برسول الله كما قال في الاية الأخرى { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا }
وقوله : { خلق الإنسان من عجل } كما قال في الاية الأخرى : { وكان الإنسان عجولا } أي في الأمور قال مجاهد : خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار من يوم خلق الخلائق فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم يبلغ أسفله قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ـ وقبض أصابعه يقللها ـ فسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه ] قال أبو سلمة : فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة وهي التي خلق الله فيها آدم قال الله تعالى : { خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون } والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ههنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامة عليه وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك فقال الله تعالى : { خلق الإنسان من عجل } لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته يؤجل ثم يعجل وينظر ثم لا يؤخر ولهذا قال : { سأريكم آياتي } أي نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني { فلا تستعجلون } (3/240)
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضا بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا وكفرا وعنادا واستعبادا فقال { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } قال الله تعالى : { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم } أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } وقال في هذه الاية : { حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم } وقال : { سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار } فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم { ولا هم ينصرون } أي لا ناصر لهم كما قال : { وما لهم من الله من واق } وقوله : { بل تأتيهم بغتة } أي { تأتيهم بغتة } أي فجأة { فتبهتهم } أي تذعرهم فيستسلمون لها حائرين ولا يدرون ما يصنعون { فلا يستطيعون ردها } أي ليس لهم حيلة في ذلك { ولا هم ينظرون } أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة (3/241)
يقول تعالى مسليا لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه كما قال تعالى : { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين } ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه بالليل والنهار وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام فقال : { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } أي بدل الرحمن يعني غيره كما قال الشاعر :
( جارية لم تلبس المرققا ... ولم تذق من البقول الفستقا )
أي لم تذق بدل البقول الفستق وقوله تعالى : { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم بل يعرضون عن آياته وآلائه ثم قال { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا } استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا ؟ ليس الأمر كما توهموا ولا كما زعموا ولهذا قال : { لا يستطيعون نصر أنفسهم } أن هذه الالهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم وقوله : { ولا هم منا يصحبون } قال العوفي عن ابن عباس : ولا هم منا يصحبون أي يجارون وقال قتادة : لا يصبحون من الله بخير وقال غيره : ولا هم منا يصحبون يمنعون (3/242)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين : إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم متعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه فاعتقدوا أنهم على شيء ثم قال واعظا لهم { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } اختلف المفسرون في معناه وقد أسلفنا في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون } وقال الحسن البصري : يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين ولهذا قال : { أفهم الغالبون } يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون والأرذلون
وقوله : { قل إنما أنذركم بالوحي } أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه ولهذا قال : { ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون } وقوله : { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين } أي ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا وقوله : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه
وقوله : { فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } كما قال تعالى : { ولا يظلم ربك أحدا } وقال : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } وقال لقمان { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير } وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله عز و جل يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول : أتنكر من هذا شئيا ؟ أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال : لا يارب قال : أفلك عذر أو حسنة ؟ قال : فيبهت الرجل فيقول : لا يا رب فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضروه فيقول يا رب في هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة قال : ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم ] ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث الليث بن سعد وقال الترمذي : حسن غريب
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان قال : فيبعث به إلى النار قال : فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز و جل يقول : لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان ] وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو نوح مرارا أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس بين يديه [ فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ويهتف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ماله لا يقرأ كتاب الله { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } فقال الرجل : يا رسول الله ما أجد شيئا خير من فراق هؤلاء ـ يعني عبيده ـ إني أشهدك أنهم أحرار كلهم ] (3/242)
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وبين كتابيهما ولهذا قال : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } قال مجاهد : يعني الكتاب وقال أبو صالح : التوراة وقال قتادة : التوراة حلالها وحرامها وما فرق الله بين الحق والباطل وقال ابن زيد يعني النصر : وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والحلال والحرام وعلى ما يحصل نورا في القلوب وهداية وخوفا وإنابة وخشية ولهذا قال : { الفرقان وضياء وذكرا للمتقين } أي تذكيرا لهم وعظة ثم وصفهم فقال : { الذين يخشون ربهم بالغيب } كقوله : { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } وقوله : { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير } { وهم من الساعة مشفقون } أي خائفون وجلون ثم قال تعالى : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } يعني القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد { أفأنتم له منكرون } أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور ؟ (3/244)
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه كما قال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح وما خالف شيئا من ذلك رددناه وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفا وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة والمقصود ههنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل أي من قبل ذلك
وقوله : { وكنا به عالمين } أي وكان أهلا لذلك ثم قال : { إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز و جل فقال : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } أي معتكفون على عبادتها وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد الصباح حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال : مر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال ولهذا قال : { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } أي الكلام مع آبائكم الذي احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم فلما سفه أحلامهم وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم { قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } يقولون : هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبا أم محقا فيه فإنا لم نسمع به قبلك { قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } أي ربكم الذي لا إله غيره وهو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن وهو الخالق لجميع الأشياء { وأنا على ذلكم من الشاهدين } أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه (3/244)
ثم أقسم الخليل قسما أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين أي إلى عيدهم وكان لهم عيد يخرجون إليه قال السدي : لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه : يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال : إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون : مه فيقول : إني سقيم فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال : { تالله لأكيدن أصنامكم } فسمعه أولئك وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال : إني سقيم وقد كان بالأمس قال : { تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين } فسمعه ناس منهم
وقوله : { فجعلهم جذاذا } أي حطاما كسرها كلها إلا كبيرا لهم يعني إلا الصنم الكبير عندهم كما قال : { فراغ عليهم ضربا باليمين } وقوله { لعلهم إليه يرجعون } ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها { قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها { قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } أي في صنيعه هذا { قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم : سمعنا فتى أي شابا يذكرهم يقال له إبراهيم قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن منصور حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيا إلا شابا ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وتلا هذه الاية { قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم }
وقوله { قالوا فاتوا به على أعين الناس } أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تملك لها نصرا فكيف يطلب منها شيء من ذلك ؟ { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا } يعني الذي تركه لم يكسره { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد
وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله قوله : { بل فعله كبيرهم هذا } وقوله : { إني سقيم } ـ قال ـ وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل فقال : إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس فأرسل إليه فجاء فقال : ما هذه المرأة منك ؟ قال : أختي قال : فاذهب فأرسل بها إلي فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار قد سألني عنك فاخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده فإنك أختي في كتاب الله وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذا شديدا فقال : ادعي الله لي ولا أضرك فدعت له فأرسل فأهوى إليها فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد ففعل ذلك الثالثة فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين فقال : ادعي الله فلا أضرك فدعت له فأرسل ثم دعا أدنى حجابه فقال : إنك لم تأتني بإنسان ولكنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته وقال : مهيم ؟ قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر ] قال محمد بن سيرين : فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : تلك أمكم يا بني ماء السماء (3/245)
يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال { فرجعوا إلى أنفسهم } أي بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لالهتهم فقالوا : { إنكم أنتم الظالمون } أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها { ثم نكسوا على رؤوسهم } أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا : { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } قال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء فقالوا { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } وقال السدي { ثم نكسوا على رؤوسهم } أي في الفتنة وقال ابن زيد : أي في الرأي وقول قتادة أظهر في المعنى لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزا ولهذا قالوا له { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون وأنت تعلم انها لا تنطق فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم } أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر فلم تعبدونها من دون الله ؟ { أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها ولهذا قال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } الاية (3/246)
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم فقالوا : { حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين } فجمعوا حطبا كثيرا جدا قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبا لحريق إبراهيم ثم جعلوه في جوبة من الأرض وأضرموها نارا فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد قال شعيب الجبائي اسمه هيزن : فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة فلما ألقوه قال : حسبي الله ونعم الوكيل كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال : حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل
وروى الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو هشام حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال : اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك ] ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك وقال شعيب الجبائي : كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة فالله أعلم وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا وأما من الله فبلى وقال سعيد بن جبير ـ ويروى عن ابن عباس أيضا ـ قال : لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله ؟ قال : فكان أمر الله أسرع من أمره قال الله { يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } قال : لم يبق نار في الأرض إلا طفئت وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أحد يومئذ بنار ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه
وقال الثوري عن الأعمش عن شيخ عن علي بن أبي طالب { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } قال : لا تضر يه وقال ابن عباس وأبو العالية : لولا أن الله عز و جل قال : وسلاما لاذى إبراهيم بردها وقال جويبر عن الضحاك : كوني بردا وسلاما على إبراهيم قالوا : صنعوا له حظيرة من حطب جزل وأشعلوا فيه النار من كل جانب فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله قال : ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق فلم يصبه منها شيء غير ذلك وقال السدي : كان معه فيها ملك الظل
وقال علي بن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مهران حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار فقال : كان فيها إما خمسين وإما أربعين قال : ما كنت أياما وليالي قط أطيب عيشا إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار : وجده يرشح جبينه قال عند ذلك : نعم الرب ربك يا إبراهيم وقال قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ وقال الزهري : [ أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتله وسماه فويسقا ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عبيد الله بن أخي بن وهب حدثني عمي حدثنا جرير بن حازم أن نافعا حدثه قال : حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت : دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا فقلت : يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفيء النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم ] فأمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله وقوله : { وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين } أي المغلوبين الأسفلين لأنهم أرادوا بنبي الله كيدا فكادهم الله ونجاه من النار فغلبوا هنالك وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم في النار جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه فأحرقته مثل الصوفة (3/247)
يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرا إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة منها كما قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله : { إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } قال : الشام وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة وكذا قال أبو العالية أيضا وقال قتادة : كان بأرض العراق فأنجاه الله إلى الشام وكان يقال للشام عماد دار الهجرة وما نقص من الأراضي زيد في الشام وما نقص من الشام زيد في فلسطين وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام وبها يهلك المسيح الدجال
وقال كعب الأحبار في قوله : { إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } إلى حران وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها على أن لا يغيرها رواه ابن جرير وهو غريب والمشهور أنها ابنة عمه وأنه خرج بها مهاجرا من بلاده وقال العوفي عن ابن عباس : إلى مكة ألا تسمع إلى قوله : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا }
وقوله : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } قال عطاء ومجاهد وعطية وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عيينة : النافلة ولد الولد يعني أن يعقوب ولد إسحاق كما قال : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : سأل واحدا فقال { رب هب لي من الصالحين } فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة { وكلا جعلنا صالحين } أي الجميع أهل خير وصلاح { وجعلناهم أئمة } أي يقتدى بهم { يهدون بأمرنا } أي يدعون إلى الله بإذنه ولهذا قال : { وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } من باب عطف الخاص على العام { وكانوا لنا عابدين } أي فاعلين لما يأمرون الناس به ثم عطف بذكر لوط وهو لوط بن هاران بن آزر كان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه كما قال تعالى : { فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي } فآتاه الله حكما وعلما وأوحى إليه وجعله نبيا وبعثه إلى سدوم وأعمالها فخالفوه وكذبوه فأهلكهم الله ودمر عليهم كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز ولهذا قال : { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين } (3/248)
يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام حين دعا على قومه لما كذبوه { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } ولهذا قال ههنا : { إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله } أي الذين آمنوا به كما قال : { وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل } وقوله : { من الكرب العظيم } أي من الشدة والتكذيب والأذى فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز و جل فلم يؤمن به منهم إلا القليل وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل على خلافه وقوله : { ونصرناه من القوم } أي ونجيناه وخلصناه منتصرا من القوم { الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين } أي أهلكهم الله بعامة ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد كما دعا عليهم نبيهم (3/249)
قال ابن إسحاق عن مرة عن ابن مسعود : كان ذلك الحرث كرما قد تدلت عناقيده وكذا قال شريح وقال ابن عباس : النفش الرعي وقال شريح والزهري وقتادة : النفش لا يكون إلا بالليل زاد قتادة : والهمل بالنهار وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله : قال : وما ذاك ؟ قال : تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها فذلك قوله : { ففهمناها سليمان } وكذا روى العوفي عن ابن عباس
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد : حدثني خليفة عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لاصحاب الحرث فخرج الرعاء معهم الكلاب فقال لهم سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه فقال : لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا فأخبر بذلك داود فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال : أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال : الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم فلم تدع فيه ورقة ولا عنقودا من عنب إلا أكلته فأتوا داود فأعطاهم رقابها فقال سليمان : لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها ونفعها ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم ثم يعطى أهل الغنم غنمهم وأهل الكرم كرمهم وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد
وقال ابن جرير : حدثنا ابن أبي زياد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل عن عامر قال : جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلا لي فقال شريح : نهارا أم ليلا ؟ فإن كان نهارا فقد برىء صاحب الشياه وإن كان ليلا فقد ضمن ثم قرأ { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } الاية وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على أهل الحائط حفظها بالنهار وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وقد علل هذا الحديث وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام وبالله التوفيق
وقوله : { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى فقال : ما يبكيك ؟ قال : يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار ورجل مال به الهوى فهو في النار ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم قال الله تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود ثم قال : ـ يعني الحسن : إن الله اتخذ على الحكام ثلاثا : لا يشتروا به ثمنا قليلا ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه أحدا ثم تلا { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقال : { فلا تخشوا الناس واخشون } وقال { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } قلت : أما الأنبياء عليهم السلام فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز و جل وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ] فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار والله أعلم
وفي السنن : القضاة ثلاثة : قاض في الجنة وقاضيان في النار رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا علي بن حفص أخبرنا ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحا كمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينكما : فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى ] وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وبوب عليه النسائي في كتاب القضاء : ( باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق )
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس فذكر قصة مطولة ملخصها : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت على كل منهم فاتفقوا فيما بينهم عليها فشهدوا عليها عند دواد عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها فأمر برجمها فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك وآخر بزي المرأة وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا فقال سليمان فرقوا بينهم فسأل أولهم ما كان لون الكلب ؟ فقال أسود فعزله واستدعى الاخر فسأله عن لونه فقال : أحمر وقال الاخر : أغبش وقال الاخر : أبيض فأمر عند ذلك بقتلهم فحكي ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم
وقوله : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير } الاية وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه وترد عليه الجبال تأويبا ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه و سلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت طيب جدا فوقف واستمع لقراءته وقال : [ لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود ] قال : يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ومع هذا قال عليه الصلاة و السلام : [ لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود ]
وقوله : { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم } يعني صنعة الدروع قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح : وهو أول من سردها حلقا كما قال تعالى : { وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد } أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة ولهذا قال : { لتحصنكم من بأسكم } يعني في القتال { فهل أنتم شاكرون } أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود فعلمه ذلك من أجلكم وقوله : { ولسليمان الريح عاصفة } أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة { تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } يعني أرض الشام { وكنا بكل شيء عالمين } وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض فينزل وتوضع آلاته وحشمه قال الله تعالى : { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } وقال تعالى : { غدوها شهر ورواحها شهر }
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال : كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن ثم يأمر الطير فتظلهم ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه و سلم قال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة فيرتفع حتى يصعد على فراشه ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء وهو مطأطىء رأسه ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيما لله عز و جل وشكرا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عز و جل حتى تضعه الريح حيث شاء أن تضعه
وقوله : { ومن الشياطين من يغوصون له } أي في الماء يستخرجون اللالىء والجواهر وغير ذلك { ويعملون عملا دون ذلك } أي غير ذلك كما قال تعالى : { والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد } وقوله : { وكنا لهم حافظين } أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء ولهذا قال : { وآخرين مقرنين في الأصفاد } (3/250)
يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد ومنازل مرضية فابتلى في ذلك كله وذهب عن آخره ثم ابتلي في جسده يقال : بالجذام في سائر بدنه ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز و جل حتى عافه الجليس وافرد في ناحية من البلد ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره ويقال : إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ] وفي الحديث الاخر [ يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ] وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر وبه يضرب المثل في ذلك وقال يزيد بن ميسرة : لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد ولم يبق شيء له أحسن الذكر ثم قال : أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إلي أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك فأخذت ذلك كله مني وفرغت قلبي فليس يحول بيني وبينك شيء ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني قال : فلقي إبليس من ذلك منكرا قال : وقال أيوب عليه السلام : يا رب إنك أعطيتني المال والولد فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته وأنت تعلم ذلك وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك رواه ابن أبي حاتم
وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين وفيها غرابة تركناها لحال الطول وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء فقال الحسن وقتادة : ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهرا ملقى على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء وقال وهب بن منبه : مكث في البلاء ثلاث سنين لا يزيد ولا ينقص وقال السدي : تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه فقالت له امرأته لما طال وجعه : يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك فقال : قد عشت سبعين سنة صحيحا فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة فجزعت من ذلك فخرجت فكانت تعمل للناس بالأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين كانا صديقين له وأخوين فأتاهما فقال : أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما فإنه إن شرب منه برىء فأتياه فلما نظرا إليه بكيا فقال : من أنتما ؟ فقالا : نحن فلان وفلان فرحب بهما وقال : مرحبا بمن لا يجفوني عند البلاء فقالا : يا أيوب لعلك كنت تسر شيئا وتظهر غيره فلذلك ابتلاك الله ؟ فرفع رأسه إلى السماء فقال : هو يعلم ما أسررت شيئا أظهرت غيره ولكن ربي ابتلاني لينظر أصبر أم أجزع فقالا له : يا أيوب اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه برأت قال : فغضب وقال : جاءكما الخبيث فأمركما بهذا ؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام فقاما من عنده وخرجت امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي فجعلت لهم قرصا وكان ابنهم نائما فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال : ما كنت تأتيني بهذا فما بالك اليوم ؟ فأخبرته الخبر قال : فلعل الصبي قد استيقظ فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله فانطلقي به إليه فأقبلت حتى بلغت درجة القوم فنطحتها شاة لهم فقالت : تعس أيوب الخطاء فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئا غيره فقالت : رحمه الله يعني أيوب فدفعت إليه القرص ورجعت ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب فقال لها : إن زوجك قد طال سقمه فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك فقالت ذلك لأيوب فقال : قد أتاك الخبيث لله علي إن برأت أن أجلدك مائة جلدة فخرجت تسعى عليه فحظر عنها الرزق فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرنا فباعته من صبية من بنات الأشراف فأعطوها طعاما طيبا كثيرا فأتت به إلى أيوب فلما رآه أنكره وقال : من أين لك هذا ؟ قالت : عملت لأناس فأطعموني فأكل منه فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضا قرنا فباعته من تلك الجارية فأعطوها أيضا من ذلك الطعام فأتت به أيوب فقال : والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو فوضعت خمارها فلما رأى رأسها محلوقا جزع جزعا شديدا فعند ذلك دعا الله عز و جل فقال : { نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مبسوط قال : وكانت امرأة أيوب تقول : ادع الله فيشفيك فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض : ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه فعند ذلك قال : { نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } وحدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان لأيوب عليه السلام أخوان فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد فقال أحدهما للاخر : لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال : اللهم بعزتك ثم خر ساجدا فقال : اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني فما رفع رأسه حتى كشف عنه
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعا بنحو هذا فقال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين فقال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يC فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر له فقال أيوب عليه السلام : ما أدري ما تقول غير أن الله عز و جل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق قال : وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأت عليه فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } ] رفع هذا الحديث غريب جدا وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت : يا عبد الله أين ذهب هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب فجعلت تكلمه ساعة فقال : ويحك أنا أيوب قالت : أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال : ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي وبه قال ابن عباس ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى أيوب قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك رواه ابن أبي حاتم
وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه قال : فقيل له : يا أيوب أما تشبع ؟ قال : يا رب ومن يشبع من رحمتك ] أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر
وقوله : { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قد تقدم عن ابن عباس أنه قال : ردوا عليه بأعيانهم وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضا وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد وبه قال الحسن وقتادة وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة فإن كان أخذ ذلك من سياق الاية فقد أبعد النجعة وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم فهو مما لا يصدق ولا يكذب وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمه الله تعالى : قال : ويقال اسمها ليا بنت منشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال : ويقال ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب كانت معه بأرض الثنية وقال مجاهد : قيل له : يا أيوب إن أهلك لك في الجنة فإن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم ؟ قال : لا بل اتركهم لي في الجنة فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال : أوتى أجرهم في الاخرة وأعطي مثلهم في الدنيا قال : فحدثت به مطرفا فقال : ما عرفت وجهها قبل اليوم وكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف والله أعلم قوله : { رحمة من عندنا } أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به { وذكرى للعابدين } أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء وله الحكمة البالغة في ذلك (3/253)
وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام وقد تقدم ذكره في سورة مريم وكذا إدريس عليه السلام وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي وقال آخرون : إنما كان رجلا صالحا وكان ملكا عادلا وحكما مقسطا وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم قال ابن جريج عن مجاهد في قوله : { وذا الكفل } قال : رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ففعل ذلك فسمي ذا الكفل وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا
وروى ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا داود عن مجاهد قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يفعل فجمع الناس فقال : من يتقبل مني بثلاث أستخلفه : يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ؟ قال : فقام رجل تزدريه الأعين فقال : أنا فقال : أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال : نعم قال : فرده ذلك اليوم وقال مثلها في اليوم الاخر فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال : أنا فاستخلفه قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان فأعياهم ذلك فقال : دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ كبير فقير فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ـ وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة فدق الباب فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم قال : فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه فقال : إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا بي وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة فقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك فانطلق وراح فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يتبعه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب فقال : من هذا ؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم ففتح له فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني قال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني قال : فانطلق فإذا رحت فأتني قال : ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظره ولا يراه وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله : لا تدع أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النوم فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل : وراءك وراءك قال : إني قد أتيته أمس وذكرت له أمري فقال : لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت وإذا هو يدق الباب من داخل قال : واستيقظ الرجل فقال : يا فلان ألم آمرك ؟ قال : أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فعرفه فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد بمثله
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال : قال ابن عباس : كان قاض في بني إسرائيل فحضره الموت فقال : من يقوم مقامي على أن لا يغضب ؟ قال : فقال رجل : أنا فسمي ذا الكفل قال : فكان ليله جميعا يصلي ثم يصبح صائما فيقضي بين الناس قال : وله ساعة يقيلها قال : فكان كذلك فأتاه الشيطان عند نومته فقال له أصحابه : ما لك ؟ قال : إنسان مسكين له على رجل حق وقد غلبني عليه قالوا : كما أنت حتى يستيقظ قال : وهو فوق نائم قال : فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه قال : فسمع فقال : مالك ؟ قال إنسان مسكين له على رجل حق قال : فاذهب فقل له يعطيك قال : قد أبى قال : اذهب أنت إليه قال : فذهب ثم جاء من الغد فقال : مالك ؟ قال : ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسا قال : اذهب إليه فقل له يعطيك حقك فذهب ثم جاء من الغد حين قال قال : فقال له أصحابه : اخرج فعل الله بك تجيء كل يوم حين ينام لا تدعه ينام قال : فجعل يصيح من أجل أني إنسان مسكين لو كنت غنيا قال : فسمع أيضا فقال : مالك ؟ قال : ذهبت إليه فضربني قال : امش حتى أجيء معك قال : فهو ممسك بيده فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابي حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحو هذه القصة والله أعلم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر أخبرنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر : ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان ـ يعني في بني إسرائيل ـ رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة فتكفل له ذو الكفل من بعده فكان يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي ذا الكفل وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعا والله أعلم
وقد روى الإمام أحمد حديثا غريبا فقال : حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرات ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال : [ كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال : ما يبكيك أكرهتك ؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط وإنما حملني عليه الحاجة قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل فقال : اذهبي بالدنانير لك ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه : غفر الله للكفل ] هكذا وقع في هذه الرواية الكفل من غير إضافة والله أعلم وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وإسناده غريب وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كل الكفل ولم يقل ذو الكفل فلعله رجل آخر والله أعلم (3/256)
هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة الصافات وفي سورة { ن } و ذلك أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى أهل قرية نينوى وهي قرية من أرض الموصل فدعاهم إلى الله تعالى فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم وفرقوا بين الأمهات وأولادها ثم تضرعوا إلى الله عز و جل وجأروا إليه ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وأولادها وثغت الغنم وسخالها فرفع الله عنهم العذاب قال الله تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين }
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا فأبوا ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا قال الله تعالى : { فساهم فكان من المدحضين } أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه ثم ألقى نفسه في البحر وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر ـ فيما قاله ابن مسعود ـ حوتا يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما فإن يونس ليس لك رزقا وإنما بطنك تكون له سجنا
وقوله : { وذا النون } يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة وقوله : { إذ ذهب مغاضبا } قال الضحاك لقومه : { فظن أن لن نقدر عليه } أي نضيق عليه في بطن الحوت يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا } وقال عطية العوفي : { فظن أن لن نقدر عليه } أي نقضي عليه كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير فإن العرب تقول : قدر وقدر بمعنى واحد وقال الشاعر :
( فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يكن فلك الأمر )
ومنه قوله تعالى : { فالتقى الماء على أمر قد قدر } أي قدر { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره فعند ذلك وهنالك قال : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وقال عوف الأعرابي : لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يوما رواهما ابن جرير
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر قال : وسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة قال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم قال : فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله تعالى : { وهو سقيم } ] رواه ابن جرير ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة فذكره بنحوه ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي قال : سمعت أنس بن مالك ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش فقالت الملائكة : يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال : أما تعرفون ذاك ؟ قالوا : لا يا رب ومن هو ؟ قال : عبدي يونس قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة قالوا : يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال : بلى فأمر الحوت فطرحه في العراء ]
وقوله : { فاستجبنا له ونجيناه من الغم } أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات { وكذلك ننجي المؤمنين } أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عمر حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال : [ مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء مرتين قال : لا وما ذاك ؟ قلت لا إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام قال : فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال : ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام ؟ قال : ما فعلت قال سعد : قلت بلى حتى حلف وحلفت قال : ثم إن عثمان ذكر فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إليه إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة قال سعد : فأنا أنبئك بها إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر لنا أول دعوة ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من هذا أبو إسحاق ؟ قال : قلت نعم يا رسول الله قال : فمه قلت : لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك قال : نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له ] ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سيعد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من دعا بدعاء يونس استجيب له ] قال أبو سعيد : يريد به { وكذلك ننجي المؤمنين } وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا يحيى بن صالح حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى ] قال قلت يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال : [ هي ليونس بن متى خاصة ولجماعة المؤمنين عامة إذا دعوا بها ألم تسمع قول الله عز و جل { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } فهو شرط من الله لمن دعاه به ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي سريج حدثنا داود بن المحبر بن قحذم المقدسي عن كثير بن معبد قال : سألت الحسن فقلت : يا أبا سعيد اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ؟ قال : ابن أخي أما تقرأ القرآن قول الله تعالى : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } ابن أخي هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى (3/257)
يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضا وههنا أخصر منها { إذ نادى ربه } أي خفية عن قومه { رب لا تذرني فردا } أي لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس { وأنت خير الوارثين } دعاء وثناء مناسب للمسألة قال الله تعالى : { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } أي امرأته قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : كانت عاقرا لا تلد فولدت وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء : كان في لسانها طول فأصلحها الله وفي رواية : كان في خلقها شيء فأصلحها الله وهكذا قال محمد بن كعب والسدي والأظهر من السياق الأول
وقوله : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } أي في عمل القربات وفعل الطاعات { ويدعوننا رغبا ورهبا } قال الثوري : رغبا فيما عندنا ورهبا مما عندنا { وكانوا لنا خاشعين } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي مصدقين بما أنزل الله وقال مجاهد : مؤمنين حقا وقال أبو العالية : خائفين وقال أبو سنان : الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبدا وعن مجاهد أيضا : خاشعين أي متواضعين وقال الحسن وقتادة والضحاك : خاشعين أي متذللين لله عز و جل وكل هذه الأقوال متقاربة وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ثم قال : أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وتثنوا عليه بما هو له أهل وتخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عز و جل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } (3/260)
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام فيذكر أولا قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم لأن تلك مربوطة بهذه فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر هكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله : { والتي أحصنت فرجها } يعني مريم عليها السلام كما قال في سورة التحريم : { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا }
وقوله { وجعلناها وابنها آية للعالمين } أي دلالة على أن الله على كل شيء قدير وأنه يخلق ما يشاء وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وهذا كقوله : { ولنجعله آية للناس } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمر بن علي حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شعيب يعني ابن بشر عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : { للعالمين } قال : العالمين الجن والإنس (3/261)
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { إن هذه أمتكم أمة واحدة } يقول : دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الاية يبين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال : { إن هذه أمتكم أمة واحدة } أي سنتكم سنة واحدة فقوله إن هذه إن واسمها وأمتكم خبر إن أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم وقوله أمة واحدة نصب على الحال ولهذا قال : { وأنا ربكم فاعبدون } كما قال : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد ] يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله كما قال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }
وقوله : { وتقطعوا أمرهم بينهم } أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب ولهذا قال : { كل إلينا راجعون } أي يوم القيامة فيجازي كل بحسب عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولهذا قال : { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن } أي قلبه مصدق وعمل صالحا { فلا كفران لسعيه } كقوله : { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } أي لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة ولهذا قال : { وإنا له كاتبون } أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء (3/261)
يقول تعالى : { وحرام على قرية } قال ابن عباس : وجب يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد وفي رواية عن ابن عباس : أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون والقول الأول أظهر والله أعلم وقوله : { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام بل هم من نسل نوح أيضا من أولاد يافث أي أبي الترك والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين وقال : { هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } الاية وقال في هذه الاية الكريمة { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون } أي يسرعون في المشي إلى الفساد والحدب هو المرتفع من الأرض قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم وهذه صفتهم في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك { ولا ينبئك مثل خبير } هذا إخبار عالم ما كان وما يكون الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن مثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال : رأى ابن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض يلعبون فقال ابن عباس : هكذا يخرج يأجوج ومأجوج وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية
( فالحديث الأول ) قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز و جل : { وهم من كل حدب ينسلون } فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابسا حتى أن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول : قد كان ههنا ماء مرة حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء قال : ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة فبينما هم على ذلك بعث الله عز و جل دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو ؟ قال : فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي : يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز و جل قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويسرحون مواشيهم فما يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط ] ورواه ابن ماجه من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق به
( الحديث الثاني ) قال الإمام أحمد أيضا : حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال : [ ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : غير الدجال أخوفني عليكم فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرىء حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم وإنه شاب جعد قطط عينه طافية وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا ـ قلنا : يا رسول الله ما لبثه في الأرض ؟ ـ قال : أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر يوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا : يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟ قال : لااقدروا له قدره قلنا : يا رسول الله فما إسراعه في الأرض ؟ قال كالغيث اشتد به الريح قال : فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى أمده خواصر وأسبغه ضروعا ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ـ قال ـ ويأمر برجل فيقتل فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل إليه فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز و جل المسيح عيسى ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا يديه على أجنحة ملكين فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي ـ قال ـ فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز و جل إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحوز عبادي إلى الطور فيبعث الله عز و جل يأجوج ومأجوج كما قال تعالى : { وهم من كل حدب ينسلون } فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز و جل فيرسل عليهم نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز و جل فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله قال ابن جابر : فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال : فتطرحهم بالمهبل قال ابن جابر : فقلت يا أبا يزيد وأين المهبل ؟ قال : مطلع الشمس قال : ويرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوما فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ويقال للأرض : أنبتي ثمرك ودري بركتك قال : فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ والشاة من الغنم تكفي أهل البيت قال : فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز و جل ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ـ أو قال : كل مؤمن ـ ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة ] انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ورواه مع بقية أهل السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به وقال الترمذي : حسن صحيح
( الحديث الثالث ) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة عن خالته قالت : [ خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب فقال : إنكم تقولون لا عدو لكم وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يأتي يأجوج ومأجوج : عراض الوجوه صغار العيون صهب الشعاف من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة ] وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي عن خالة له عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره مثله سواء
( الحديث الرابع ) قد تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم عن العوام عن جبلة بن سحيم عن موثد بن عمارة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ـ قال فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال : لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى موسى فقال : لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال : فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال : فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ـ قال ـ فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطئون بلادهم ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه ـ قال ـ ثم يرجع الناس إلي يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلا أو نهارا ]
ورواه ابن ماجه عن محمد بن بشار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب به نحوه وزاد : قال العوام : ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز و جل { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون } ورواه ابن جرير ههنا من حديث جبلة به والأحاديث في هذا كثيرة جدا والاثار عن السلف كذلك وقد ورى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد عن حميد بن هلال عن أبي الصيف قال : قال كعب : إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجيء غدا فنخرج فيعيده الله كما كان فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول : نجيء غدا فنخرج إن شاء الله فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه فيحفرون حتى يخرجوا فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها ثم تمر الزمرة الثالة فيقولون : قد كان ههنا مرة ماء فيفر الناس منهم فلا يقوم لهم شيء ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء فيقولون : غلبنا أهل الأرض وأهل السماء فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول : اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم فاكفناهم بما شئت فيسلط الله عليهم دودا يقال له النغف فيفرس رقابهم ويبعث الله عليهم طيرا تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر ويبعث الله عينا يقال لها الحياة يطهر الله الأرض وينبتها حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن وقيل : وما السكن يا كعب ؟ قال : أهل البيت قال : فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده قال فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة فيقبض فيها روح كل مؤمن ثم يبقى عجاج الناس فيتسافدون كما تتسافد البهائم فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع قال كعب : فمن قال بعد قولي هذا شيئا أو بعد علمي هذا شيئا فهو المتكلف وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج ] انفرد بإخراجه البخاري وقوله : { واقترب الوعد الحق } يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل أزفت الساعة واقتربت فإذا كانت ووقعت قال الكافرون : هذا يوم عسر ولهذا قال تعالى : { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } أي من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام { يا ويلنا } أي يقولون يا ويلنا { قد كنا في غفلة من هذا } أي في الدنيا { بل كنا ظالمين } يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك (3/262)
يقول تعالى مخاطبا لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } قال ابن عباس : أي وقودها يعني كقوله : { وقودها الناس والحجارة } وقال ابن عباس أيضا : حصب جهنم يعني شجر جهنم وفي رواية قال : { حصب جهنم } يعني حطب جهنم بالزنجية وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : حطبها وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما وقال الضحاك : حصب جهنم أي ما يرمى به فيها وكذا قال غيره والجميع قريب وقوله : { أنتم لها واردون } أي داخلون { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها { وكل فيها خالدون } أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون { لهم فيها زفير } كما قال تعالى : { لهم فيها زفير وشهيق } والزفير خروج أنفاسهم والشهيق ولوج أنفاسهم { وهم فيها لا يسمعون }
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن فضيل حدثنا عبد الرحمن يعني المسعودي عن أبيه قال : قال ابن مسعود : إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره ثم تلا عبد الله { لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون } ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خباب عن ابن مسعود فذكره
وقوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال عكرمة : الرحمة وقال غيره السعادة { أولئك عنها مبعدون } لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا كما قال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وقال : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب فقال : { أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها } أي حريقها في الأجساد
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمار حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الحريري عن أبي عثمان { لا يسمعون حسيسها } قال : حيات على الصراط تلسعهم فإذا لسعتهم قال حس حس وقوله : { وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } فسلمهم من المحذور والمرهوب وحصل لهم المطلوب والمحبوب قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي سريج حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال : وسمر مع علي ذات ليلة فقرأ { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } قال : أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم أو قال : سعد منهم قال : أقيمت الصلاة فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول : { لا يسمعون حسيسها }
وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال : سمعت عليا يقول في قوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال : عثمان وأصحابه ورواه ابن أبي حاتم أيضا ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه عثمان منهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرا هو أسرع من البرق ويبقى الكفار فيها جثيا فهذا مطابق لما ذكرناه وقال آخرون : بل نزلت استثناء من المعبودين وخرج منهم عزير والمسيح كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } ثم استثنى فقال : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } فيقال : هم الملائكة وعيسى ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز و جل وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة حدثنا أبو زهير حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال : كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم إسناده ضعيف وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { أولئك عنها مبعدون } قال : عيسى وعزير والملائكة وقال الضحاك : عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا غريبا جدا فقال : حدثنا الفضل بن يعقوب الرخاني حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } قال : [ عيسى وعزير والملائكة ] وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن سهل حدثنا محمد بن حسن الأنماطي حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة حدثنا يزيد بن أبي حكيم حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الاية { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } فقال ابن الزبعري : قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ؟ فنزلت { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } ثم نزلت { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } قال المشركون : فالملائكة وعزير وعيسى يعبدون من دون الله فنزلت { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } الالهة التي يعبدون { وكل فيها خالدون } وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك وقال : فنزلت { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله في كتاب السيرة : وجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المسجد غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أفحمه وتلا عليه وعليهم { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون * لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون } ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس معهم فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا ولا قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدا كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته ] وأنزل الله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } أي عيسى وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } إلى قوله { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها } أي ما وضعت على يديه من الايات من إحياء الموتى وابراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول : { فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم } وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير لأن الاية إنما نزلت خطابا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لاتعقل ليكون ذلك تقريعا وتوبيخا لعابديها ولهذا قال : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } فكيف يورد على هذا المسيح وعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن { ما } لما لا يعقل عند العرب وقد أسلم عبد الله بن الزبعري بعد ذلك وكان من الشعراء المشهورين وقد كان يهاجي المسلمين أولا ثم قال معتذرا :
( يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور )
( إذ أجاري الشيطان في سنن الغي ... ومن مال ميله مثبور )
وقوله : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } قيل : المراد بذلك الموت رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء وقيل : المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني واختاره ابن جرير في تفسيره وقيل : حين يؤمر بالعبد إلى النار قاله الحسن البصري وقيل : حين تطبق النار على أهلها قاله سعيد بن جبير وابن جريج وقيل : حين يذبح الموت بين الجنة والنار قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه وقوله { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } أي فأملوا ما يسركم (3/265)
يقول تعالى : هذا كائن يوم القيامة { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } كما قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } وقد قال البخاري : حدثنا مقدم بن محمد حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ] انفرد به من هذا الوجه البخاري رحمه الله وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن أبي واصل عن أبي المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال : يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يديه بمنزلة خردلة وقوله : { كطي السجل للكتب } قيل : المراد بالسجل الكتاب وقيل المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء حدثنا يحيى بن يمان حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر في قوله تعالى : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } قال : السجل ملك فإذا صعد بالاستغفار قال : أكتبها نورا وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك وقال السدي في هذه الاية السجل ملك موكل بالصحف فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل فطواه ورفعه إلى يوم القيامة وقيل : المراد به اسم رجل صحابي كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم الوحي قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا نوح بن قيس عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } قال : السجل هو الرجل قال نوح : وأخبرني يزيد بن كعب هو العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه و سلم وهكذا رواه أبو داود والنسائي كلاهما عن قتيبة بن سعد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه و سلم ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي كما تقدم ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم كاتب يسمى السجل وهو قوله : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } قال : كما يطوى السجل الكتاب كذلك تطوى السماء ثم قال : وهو غير محفوظ وقال الخطيب البغدادي في تاريخه : أنبأنا أبو بكر البرقاني أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي أن حمدان بن سعيد حدثهم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه و سلم وهذا منكر جدا من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضا وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله وختم له بصالح عمله وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدته ولله الحمد وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد وقال : لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل وكتاب النبي صلى الله عليه و سلم معروفون وليس فيهم أحد اسمه السجل وصدق رحمه الله في ذلك وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث وأما من ذكره في أسماء الصحابة فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة قاله علي بن أبي طلحة و العوفي عنه ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة فعلى هذا يكون معنى الكلام يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب أي على الكتاب بمعنى المكتوب كقوله : { فلما أسلما وتله للجبين } أي على الجبين وله نظائر في اللغة والله أعلم وقوله : { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين } يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقا جديدا كما بدأهم هو القادر على إعادتهم وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل وهو القادر على ذلك ولهذا قال : { إنا كنا فاعلين } وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع وابن جعفر المعني قالا حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بموعظة : فقال : [ إنكم محشورون إلى الله عز و جل حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ] وذكر تمام الحديث أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ذكره البخاري عند هذه الاية في كتابه وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو ذلك وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : { كما بدأنا أول خلق نعيده } قال : يهلك كل شيء كما كان أول مرة (3/268)
يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والاخرة ووراثة الأرض في الدنيا والاخرة كقوله تعالى : { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } وقال : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقال : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لامحالة ولهذا قال تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } قال الأعمش : سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } فقال الزبور : التوراة والإنجيل والقرآن وقال مجاهد : الزبور الكتاب وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد : الزبور الذي أنزل على داود والذكر التوراة وعن ابن عباس : الذكر القرآن وقال سعيد بن جبير : الذكر الذي في السماء وقال مجاهد : الزبور الكتب بعد الذكر والذكر أم الكتاب عند الله واختار ذلك ابن جرير رحمه الله وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه و سلم الأرض ويدخلهم الجنة وهم الصالحون وقال مجاهد عن ابن عباس { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } قال : أرض الجنة وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري وقال أبو الدرداء نحن الصالحون وقال السدي : هم المؤمنون وقوله : { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } أي إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه و سلم لبلاغا : لمنفعة وكفاية لقوم عابدين وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم
وقوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } يخبر تعالى أن الله جعل محمدا صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والاخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والاخرة كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار } وقال تعالى في صفة القرآن : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } وقال مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قيل يارسول الله ادع على المشركين قال [ إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ] انفرد بإخراجه مسلم وفي الحديث الاخر [ إنما أنا رحمة مهداة ] رواه عبد الله بن أبي عوانة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا قال إبراهيم الحربي وقد رواه غيره عن وكيع فلم يذكر أبا هريرة وكذا قال البخاري وقد سئل عن هذا الحديث فقال : كان عند حفص بن غياث مرسلا
قال الحافظ ابن عساكر : وقد رواه مالك بن سعيد الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرىء وأبي أحمد الحاكم كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما أنا رحمة مهداة ] ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد عن رجل عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين ]
قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان حدثنا أحمد بن صالح قال : وجدت كتابا بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة : يا معشر قريش إن محمدا نزل يثرب وأرسل طلائعه وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا فاحذورا أن تمروا طريقه أو تقاربوه فإنه كالأسد الضاري إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحدا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة يعني الأوس والخزرج فهو عدو استعان بعدو فقال له مطعم بن عدي : يا أبا الحكم والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا ولا أصدق موعدا من أخيكم الذي طردتم وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه قال أبو سفيان بن الحارث : كونوا أشد ما كنتم عليه إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمدا من بين ظهرانيهم فيكون وحيدا مطرودا وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم وقال :
( سأمنح جانبا مني غليظا ... على ما كان من قرب وبعد )
( رجال الخزرجية أهل ذل ... إذا ما كان هزل بعد جد )
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ والذي نفسي بيده لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون إني رحمة بعثني الله ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ] وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحا وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال : كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء حذيفة إلى سلمان فقال سلمان : يا حذيفة إن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب فقال : [ أيما رجل من أمتي سببته في غضبي أو لعنته لعنة فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون إنما بعثني الله رحمة للعالمين فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة ]
ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة فإن قيل : فأي رحمة حصلت لمن كفر به ؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } قال : من آمن بالله واليوم الاخر كتب له الرحمة في الدنيا والاخرة ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد وهو سعيد بن المرزبان البقال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بنحوه والله أعلم وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } قال : من تبعه كان له رحمة في الدينا والاخرة ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف (3/270)
يقول تعالى آمرا رسوله صلواته وسلامه عليه أن يقول للمشركين { إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون } أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له { فإن تولوا } أي تركوا ما دعوتهم إليه { فقل آذنتكم على سواء } أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي بريء منكم كما أنتم برآء مني كقوله : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } وقال : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء وهكذا ههنا { فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء } أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك
وقوله : { وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون } أي هو واقع لا محالة ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } اي إن الله يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون يعلم الظواهر والضمائر ويعلم السر وأخفى ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل وقوله : { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين } أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين قال ابن جرير : لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى وحكاه عون عن ابن عباس فالله أعلم { قال رب احكم بالحق } أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق قال قتادة : كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول ذلك وعن مالك عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا شهد قتالا قال : { رب احكم بالحق } وقوله : { وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } أي على ما يقولون ويفترون من الكذب ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك والله المستعان عليكم في ذلك
آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام ولله الحمد والمنة (3/272)
سورة الحج
بسم الله الرحمن الرحيم (3/273)
يقول تعالى آمرا عباده بتقواه ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة : هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة أو ذلك عبارةعن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم ؟ كما قال تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها } وقال تعالى : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة } الاية وقال تعالى : { إذا رجت الأرض رجا * وبست الجبال بسا } الاية فقال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله : { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } قال : قبل الساعة ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره قال : وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك وقال أبو كدينة عن عطاء بن عامر الشعبي { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر ] قال أبو هريرة : يا رسول الله وما الصور ؟ قال : قرن قال : فكيف هو ؟ قال : [ قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر وهي التي يقول الله تعالى : { وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق } فيستر الجبال فتكون سرابا وترج الأرض بأهلها رجا وهي التي يقول الله تعالى : { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة } فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فيمتد الناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب في وجوهها فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهي التي يقول الله تعالى : { يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد } فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ورأوا أمرا عظيما فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم خسف شمسها وقمرها وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم ـ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك [ قال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } قال ] أولئك الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الأحياء أولئك أحياء عند ربهم يرزقون وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه وهو الذي يقول الله : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } [ وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولا جدا والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها كما يقال أشراط الساعة ونحو ذلك والله أعلم وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور واختار ذلك ابن جرير واحتجوا بأحاديث :
( الأول ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن هشام حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وهو في بعض أسفاره وقد تفاوت بين أصحابه السير رفع بهاتين الايتين صوته { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي وعرفوا أنه عند قول يقوله فلما دنوا حوله قال : ] أتدرون أي يوم ذاك ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام فيناديه ربه عز و جل فيقول : يا آدم ابعث بعثك إلى النار فيقول : يا رب وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة قال : فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة فلما رأى ذلك قال : أبشروا واعملوا فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من بني آدم وبني إبليس قال : فسري عنهم ثم قال : اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة [ وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى وهو القطان عن هشام وهو الدستوائي عن قتادة به بنحوه وقال الترمذي : حسن صحيح
( طريق آخر ) لهذا الحديث قال الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا ابن جدعان عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لما نزلت : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } قال : نزلت عليه هذه الاية وهو في سفر فقال : ] أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال ـ ذلك يوم يقول الله لادم : ابعث بعث النار قال : يا رب وما بعث النار ؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية قال : فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم ومثل الأمم الا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ فكبروا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ـ فكبروا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا ثم قال : ولا أدري قال الثلثين أم لا [ وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة به ثم قال الترمذي أيضا : هذا حديث حسن صحيح وقد روي عن سعيد بن أبي عروبة عن الحسن عن عمران بن الحصين وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي عن عمران بن الحصين فذكره وهكذا روى ابن جرير عن بندار عن غندر عن عوف عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قفل من غزوة العسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } وذكر الحديث فذكر نحو سياق ابن جدعان والله أعلم
( الحديث الثاني ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن الطباع حدثنا أبو سفيان المعمري عن معمر عن قتادة عن أنس قال : نزلت { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } وذكر يعني نحو سياق الحسن عن عمران غير أنه قال : ومن هلك من كثرة الجن والإنس ورواه ابن جرير بطوله من حديث معمر
( الحديث الثالث ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سلمان حدثنا عباد يعني ابن العوام حدثنا هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الاية فذكر نحوه وقال فيه ] إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ففرحوا [ وزاد أيضا ] وإنما أنتم جزء من ألف جزء [
( الحديث الرابع ) قال البخاري عند تفسير هذه الاية : حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : ] يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك ربنا وسعديك فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار قال : يا رب وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف ـ أراه قال ـ تسعمائة وتسعة وتسعون فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قال النبي صلى الله عليه و سلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ ثلث أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ شطر أهل الجنة [ فبكرنا وقد وراه البخاري أيضا في غير هذا الموضع و مسلم والنسائي في تفسيره من طرق عن الأعمش به
( الحديث الخامس ) قال الإمام أحمد : حدثنا عمارة بن محمد ابن أخت سفيان الثوري وعبيدة المعني كلاهما عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي : يا آدم إن الله يأمرك أن تبعث بعثا من ذريتك إلى النار فيقول آدم : يا رب من هم ؟ فيقال له : من كل مائة تسعة وتسعون فقال رجل من القوم : من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله ؟ قال : هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير [ انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد
( الحديث السادس ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حاتم بن أبي صفيرة حدثنا ابن أبي مليكة أن القاسم بن محمد أخبره عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ] إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلا قالت عائشة : يا رسول لله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض قال يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك أخرجاه في الصحيحين
( الحديث السابع ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : [ قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ؟ قال : يا عائشة أما عند ثلاث فلا أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يعطى بشماله فلا وحين يخرج عنق من النار فينطوي عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق : وكلت بثلاثة وكلت بثلاثة وكلت بثلاثة وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب ووكلت بكل جبار عنيد ـ قال ـ فينطوي عليهم ويرميهم في غمرات جهنم ولجهنم جسر أرق من الشعر وأحد من السيف عليه كلاليب وحسك يأخذن من شاء الله والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب والملائكة يقولون : رب سلم سلم فناج مسلم ومخدوش مسلم مكور في النار على وجهه ]
والأحاديث في أهوال يوم القيامة والاثار كثيرة جدا لها موضع آخر ولهذا قال تعالى : { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } أي أمر عظيم وخطب جليل وطارق مفظع وحادث هائل وكائن عجيب والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع كما قال تعالى : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } ثم قال تعال : { يوم ترونها } هذا من باب ضمير الشأن ولهذا قال مفسرا له : { تذهل كل مرضعة عما أرضعت } أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها والتي هي أشفق الناس عليه تدهش عنه في حال إرضاعها له ولهذا قال : { كل مرضعة } ولم يقل مرضع وقال : { عما أرضعت } أي عن رضيعها قبل فطامه وقوله : { وتضع كل ذات حمل حملها } أي قبل تمامه لشدة الهول { وترى الناس سكارى } وقرىء { سكارى } أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم وغابت أذهانهم فمن رآهم حسب أنهم سكارى { وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } (3/273)
يقول تعالى ذاما لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى معرضا عما أنزل الله على أنبيائه متبعا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والاراء ولهذا قال في شأنهم وأشباههم { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } أي علم صحيح { ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه } قال مجاهد : يعني الشيطان يعني كتب عليه كتابة قدرية { أنه من تولاه } أي اتبعه وقلده { فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } أي يضله في الدنيا ويقوده في الاخرة إلى عذاب السعير وهو الحار المؤلم المقلق المزعج وقد قال السدي عن أبي مالك : نزلت هذه الاية في النضر بن الحارث وكذلك قال ابن جريج
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن مسلم البصري حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة حدثنا العمر حدثنا أبو كعب المكي قال : قال خبيث من خبثاء قريش أخبرنا عن ربكم من ذهب هو أو من فضة هو أو من نحاس هو ؟ فقعقعت السماء قعقعة ـ والقعقعة في كلام العرب الرعد ـ فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : جاء يهودي فقال : يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من يا قوت ؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته (3/277)
لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب } أي في شك { من البعث } وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة { فإنا خلقناكم من تراب } أي أصل برئه لكم من تراب وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام { ثم من نطفة } أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين { ثم من علقة ثم من مضغة } وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوما كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله فتمكث كذلك أربعين يوما ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط ولهذا قال تعالى : { ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة } أي كما تشاهدونها { لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى } أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها كما قال مجاهد في قوله تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } قال : هو السقط مخلوق وغير مخلوق فإذا مضى عليها أربعون يوما وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكا إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز و جل من حسن وقبح وذكر وأنثى وكتب رزقها وأجلها وشقي أو سعيد
كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الصادق المصدوق [ إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح ]
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال : النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قيل : غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دما وإن قيل : مخلقة قال : أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سيعد ما الأجل وما الأثر وبأي أرض يموت ؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله فيقال من رازقك ؟ فتقول الله فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة قال : فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان ثم تلا عامر الشعبي { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة } فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة وإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما وإن كانت مخلقة نكست في الخلق
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين يوما أو خمس وأربعين فيقول : أي رب أشقي أم سيعد ؟ فيقول الله ويكتبان فيقول : أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ثم تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص ] ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ومن طريق آخر عن أبي الطفيل بنحو معناه
وقوله : { ثم نخرجكم طفلا } أي ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا ويلطف به ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار ولهذا قال : { ثم لتبلغوا أشدكم } أي يتكامل القوي ويتزايد ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المظهر { ومنكم من يتوفى } أي في حال شبابه وقواه { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر ولهذا قال : { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } كما قال تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير }
وقد قال الحافظ أبو يعلى بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا خالد الزيات حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رفع الحديث قال : [ المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه فإذا بلغ الحنث أجرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث : الجنون والجذام والبرص فإذا بلغ الخمسين خفف الله حسابه فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفعه في أهل بيته وكتب أمين الله وكان أسير الله في أرضه فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا كتب الله مثل ما كان يعمل في صحته من الخير فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه ]
هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة شديدة ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده موقوفا ومرفوعا فقال : حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العامري عن عمرو بن حعفر عن أنس قال : [ إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة أمنه الله من أنواع البلايا : من الجنون والبرص والجذام فإذا بلغ الخمسين لين الله حسابه وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه الله عليها وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهله ] ثم قال : حدثنا هاشم حدثنا الفرج حدثني محمد بن عبد الله العامري عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله
رواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا أنس بن عياض حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون والبرص والجذام ] وذكر تمام الحديث كما تقدم سواء رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب عن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء : الجنون والجذام والبرص فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله وأحبه أهل السماء فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهل بيته ]
وقوله : { وترى الأرض هامدة } هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء وقال قتادة : غبراء متهشمة وقال السدي : ميتة { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } أي فإذا أنزل الله عليها المطر اهتزت اي تحركت بالنبات وحييت بعد موتها وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومه وروائحها وأشكالها ومنافعها ولهذا قال تعالى : { وأنبتت من كل زوج بهيج } أي حسن المنظر طيب الريح
وقوله : { ذلك بأن الله هو الحق } أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء { وأنه يحيي الموتى } أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع { إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير } { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } { وأن الساعة آتية لا ريب فيها } أي كائنة لا شك فيها ولا مرية { وأن الله يبعث من في القبور } أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما ويوجدهم بعد العدم كما قال تعالى : { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } والايات في هذه كثيرة
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة قال : أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن عامر أنه قال : يا رسول الله أكلنا يرى ربه عز و جل يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أليس كلكم ينظر إلى القمر مخليا به ؟ قلنا : بلى قال : فا الله أعظم قال : قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : أما مررت بوادي أهلك محلا ؟ قال : بلى قال ثم مررت به يهتز خضرا ؟ قال : بلى قال فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه ] ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به
ثم رواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا ابن المبارك أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال : [ أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ قال أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ؟ قال : نعم قال كذلك النشور ] والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبيس بن مرحوم حدثنا بكير بن السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله هو الحق المبين وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة (3/277)
لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبدع فقال : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } أي بلا عقل صحيح ولا نقل صحيح صريح بل بمجرد الرأي والهوى وقوله : { ثاني عطفه } قال ابن عباس وغيره : مستكبر عن الحق إذا دعي إليه وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم { ثاني عطفه } أي لاوي عنقه وهي رقبته يعني يعرض عما يدعى إليه من الحق ويثني رقبته استكبارا كقوله تعالى : { وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين * فتولى بركنه } الاية وقال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } وقال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } وقال لقمان لابنه { ولا تصعر خدك للناس } أي تمليه عنهم استكبارا عليهم وقال تعالى : { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا } الاية
وقوله : { ليضل عن سبيل الله } قال بعضهم : هذه لام العاقبة لأنه قدلا يقصد ذلك ويحتمل أن تكون لام التعليل ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنىء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله ثم قال تعالى : { له في الدنيا خزي } وهو الإهانة والذل كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة في الدنيا وعاقبه فيها قبل الاخرة لأنها أكبر همه ومبلغ علمه { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذلك بما قدمت يداك } أي يقال له هذا تقريعا وتوبيخا { وأن الله ليس بظلام للعبيد } كقوله تعالى : { خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام عن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة (3/281)
قال مجاهد وقتادة وغيرهما : { على حرف } على شك وقال غيرهم : على طرف ومنه حرف الجبل أي طرفه أي دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن الحارث حدثنا يحيى بن ابي بكير حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { ومن الناس من يعبد الله على حرف } قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه و سلم فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا : إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا : ما في ديننا هذا خير فأنزل الله على نبيه { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به } الاية
وقال العوفي عن ابن عباس : كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأن إليه وقال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيرا { وإن أصابته فتنة } والفتنة البلاء أي وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرا وذلك الفتنة وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الاية وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر وقال مجاهد في قوله : { انقلب على وجهه } أي ارتد كافرا
وقوله : { خسر الدنيا والآخرة } أي فلا هو حصل من الدنيا على شيء وأما الاخرة فقد كفر بالله العظيم فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة ولهذا قال تعالى : { ذلك هو الخسران المبين } أي هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة وقوله : { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } أي من الأصنام والأنداد يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها وهي لا تنفعه ولا تضره { ذلك هو الضلال البعيد } وقوله : { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه } أي ضرره في الدنيا قبل الاخرة أقرب من نفعه فيها وأما في الاخرة فضرره محقق متيقن وقوله : { لبئس المولى ولبئس العشير } قال مجاهد : يعني الوثن يعني بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى يعني وليا وناصرا { ولبئس العشير } وهو المخالط والمعاشر واختار ابن جرير أن المراد لبئس ابن العم والصاحب { من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } وقول مجاهد إن المراد به الوثن أولى وأقرب إلى سياق الكلام والله أعلم (3/281)
لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات وتركوا المنكرات فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال : { إن الله يفعل ما يريد } (3/283)
قال ابن عباس : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه و سلم في الدنيا والاخرة فليمدد بسبب أي بحبل { إلى السماء } أي سماء بيته { ثم ليقطع } يقول ثم ليختنق به وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { فليمدد بسبب إلى السماء } أي ليتوصل إلى بلوغ السماء فإن النصر إنما يأتي محمدا من السماء { ثم ليقطع } ذلك عنه إن قدر على ذلك وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم فإن المعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة قال الله تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } الاية ولهذا قال : { فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ } قال السدي : يعني من شأن محمد صلى الله عليه و سلم وقال عطاء الخراساني : فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيط وقوله : { وكذلك أنزلناه } أي القرآن { آيات بينات } أي واضحات في لفظها ومعناها حجة من الله على الناس { وأن الله يهدي من يريد } أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (3/283)
يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين وقد قدمنا في سورة البقرة التعريف بهم واختلاف الناس فيهم والنصارى والمجوس والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره فإنه تعالى : { يفصل بينهم يوم القيامة } ويحكم بينهم بالعدل فيدخل من آمن به الجنة ومن كفر به النار فإنه تعالى شهيد على أفعالهم حفيظ لأقوالهم عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم (3/283)
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود كل شيء مما يختص به كما قال تعالى : { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون } وقال ههنا : { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض } أي من الملائكة في أقطار السموات والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وقوله : { والشمس والقمر والنجوم } إنما ذكر هذه على التنصيص لأنها قد عبدت من دون الله فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن } الاية وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت ] وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه في حديث الكسوف [ إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله وإنما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز و جل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له ]
وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود قال ابن عباس : [ فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم : سجدة ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة ] رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه
وقوله : { والدواب } أي الحيوانات كلها وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر فرب مركوبة خير وأكثر ذكرا لله تعالى من راكبها وقوله : { وكثير من الناس } أي يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك { وكثير حق عليه العذاب } أي ممن امتنع وأبى واستكبر { ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي حدثنا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال : قيل لعلي : إن ههنا رجلا يتكلم في المشيئة فقال له علي : يا عبد الله خلقك الله كما يشاء أو كما شئت ؟ قال : بل كما شاء قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء ؟ قال : بل حيث يشاء قال : والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ] رواه مسلم وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم و أبو عبد الرحمن المقرىء قالا : حدثنا ابن لهيعة قال : حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال : سمعت عقبة بن عامر قال : [ قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال نعم فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما ] ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به وقال الترمذي : ليس بقوي وفي هذا نظر فإن ابن لهيعة قد صرح فيه بالسماع وأكثر ما نقموا عليه تدليسه
وقد قال أبو داود في المراسيل : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أنبأنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ فضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ] ثم قال أبو داود : وقد أسند هذا يعني من غير هذا الوجه ولا يصح وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثني ابن أبي داود حدثنا يزيد بن عبد الله حدثنا الوليد حدثنا أبو عمرو حدثنا حفص بن عنان حدثني نافع قال : حدثني أبو الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية وقال : إن هذه فضلت بسجدتين وروى أبو داود وابن ماجه من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان فهذه شواهد يشد بعضها بعضا (3/283)
ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر : أنه كان يقسم قسما أن هذه الاية { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في حمزة وصاحبيه و عتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر لفظ البخاري عند تفسيرها ثم قال البخاري : حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة قال قيس : وفيهم نزلت : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة انفرد به البخاري
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء فنحن أولى بالله منكم فأفلج الله الإسلام على من ناوأه وأنزل { هذان خصمان اختصموا في ربهم } وكذا روى العوفي عن ابن عباس : وقال شعبة عن قتادة في قوله : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : مصدق ومكذب وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الاية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث وقال في رواية هو و عطاء في هذه الاية : هم المؤمنون والكافرون
وقال عكرمة : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : هي الجنة والنار قالت النار : اجعلني للعقوبة وقالت الجنة : اجعلني للرحمة وقول مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز و جل والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل وهذا اختيار ابن جرير وهو حسن ولهذا قال { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } أي فصلت لهم مقطعات من النار قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي { يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود } أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة وقال سعيد بن جبير : هو النحاس المذاب أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم وكذلك تذوب جلودهم وقال ابن عباس وسعيد : تساقط
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى حدثني إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان ] ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك وقال : حسن صحيح وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن ابن المبارك به ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن أبي الحواري
قال : سمعت عبد الله بن السري قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته فإذا أدناه من وجهه تكرهه قال : فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه ثم يفرغ الإناء من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه فذلك قوله : { يصهر به ما في بطونهم والجلود }
وقوله : { ولهم مقامع من حديد } قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض ] وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان ولو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ] وقال ابن عباس في قوله : { ولهم مقامع من حديد } قال : يضربون بها فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور
وقوله : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها ثم قرأ { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } وقال زيد بن أسلم في هذه الاية { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } قال : بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون وقال الفضيل بن عياض : والله ما طمعوا في الخروج إن الأرجل لمقيدة وإن الأيدي لموثقة ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها وقوله : { وذوقوا عذاب الحريق } كقوله : { وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا (3/285)
لما أخبر تعالى عن حال أهل النار عياذا بالله من حالهم وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال وما أعد لهم من الثياب من النار ذكر حال أهل الجنة نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخله الجنة فقال : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } أي تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها يصرفونها حيث شاؤوا وأين أرادوا { يحلون فيها } من الحلية { من أساور من ذهب ولؤلؤا } أي في أيديهم كما قاله النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق عليه : [ تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ] وقال كعب الأحبار : إن في الجنة ملكا لو شئت أن أسميه لسميته يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة لو أبرز قلب منها ـ أي سوار منها ـ لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر
وقوله : { ولباسهم فيها حرير } في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم لباس هؤلاء من الحرير إستبرقه وسندسه كما قال : { عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا } وفي الصحيح [ لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الاخرة ] قال عبد الله بن الزبير : من لم يلبس الحرير في الاخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى : { ولباسهم فيها حرير } وقوله : { وهدوا إلى الطيب من القول } كقوله تعالى : { وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام } وقوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } وقوله : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما } فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب وقوله : { ويلقون فيها تحية وسلاما } لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به يقال لهم : { ذوقوا عذاب الحريق } وقوله : { وهدوا إلى صراط الحميد } أي إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم كما جاء في الحديث الصحيح [ إنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس ] وقد قال بعض المفسرين في قوله : { وهدوا إلى الطيب من القول } أي القرآن وقيل : لا إله إلا الله وقيل : الأذكار المشروعة { وهدوا إلى صراط الحميد } أي الطريق المستقيم في الدنيا وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه والله أعلم (3/286)
يقول تعالى منكرا على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام وقضاء مناسكهم فيه ودعواهم أنهم أولياؤه { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } الاية وفي هذه الاية دليل على أنها مدنية كما قال في سورة البقرة : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } وقال ههنا : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام أي ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر وهذا التركيب في هذه الاية كقوله تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } أي ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله
وقوله : { الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد } أي يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام وقد جعله الله شرعا سواء لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه { سواء العاكف فيه والباد } ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { سواء العاكف فيه والباد } قال : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام وقال مجاهد : { سواء العاكف فيه والباد } أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل وكذا قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله وهذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف وأحمد بن حنبل حاضر أيضا فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال : قلت يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة ؟ فقال : [ وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟ ثم قال : لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر ] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم وبه قال طاوس وعمرو بن دينار وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر وهو مذهب طائفة من السلف ونص عليه مجاهد وعطاء واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر وما تدعي رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن
وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها وقال أيضا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال : فلك ذلك إذا وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء قال : وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول : { سواء العاكف فيه والباد } قال : ينزلون حيث شاؤوا وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفا [ من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا ] وتوسط الإمام أحمد فقال : تملك وتورث ولا تؤجر جمعا بين الأدلة والله أعلم وقوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء ههنا زائدة كقوله : { تنبت بالدهن } أي تنبت الدهن وكذا قوله : { ومن يرد فيه بإلحاد } تقديره إلحادا وكما قال الأعشى
( ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ... بين المراجل والصريح الأجرد )
وقال الاخر :
( بواد يمان ينبت الشث صدره ... وأسفله بالمرخ والشبهان )
والأجود أنه ضمن الفعل ههنا معنى يهم ولهذا عداه بالباء فقال : { ومن يرد فيه بإلحاد } أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار : وقوله : { بظلم } أي عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول كما قال ابن جريج عن ابن عباس هو التعمد
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : بظلم بشرك وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله وكذا قال قتادة وغير واحد وقال العوفي عن ابن عباس : بظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم وقال مجاهد : بظلم يعمل فيه عملا سيئا وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازما عليه وإن لم يوقعه كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة عن السدي أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله يعني ابن مسعود في قوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } قال : لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم قال شعبة : هو رفعه لنا وأنا لا أرفعه لكم قال يزيد : هو قد رفعه ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به قلت : هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ووقفه أشبه من رفعه ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي عن مرة عن ابن مسعود موقوفا والله أعلم وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ولو أن رجلا بعدن أبين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم وكذا قال الضحاك بن مزاحم وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد : إلحاد فيه لا والله وبلى والله وروي عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو مثله وقال سعيد بن جبير : شتم الخادم ظلم فما فوقه وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن عطاء عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } قال : تجارة الأمير فيه وعن ابن عمر : بيع الطعام بمكة إلحاد
وقال حبيب بن أبي ثابت : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } قال : المحتكر بمكة وكذا قال غير واحد وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى عن عمه عمارة بن ثوبان حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ احتكار الطعام بمكة إلحاد ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا ابن لهيعة حدثنا عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله الله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } قال : نزلت في عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه مع رجلين : أحدهما مهاجر والاخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة فنزلت فيه { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام وهذه الاثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ولكن هو أعم من ذلك بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا أبابيل { ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول } أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم ] الحديث
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كناسة حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال : يا ابن الزبير إياك والإلحاد في حرم الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت ] فانظر لا تكن هو وقال أيضا في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص : حدثنا هاشم حدثنا إسحاق بن سعيد حدثنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو جالس في الحجر فقال : يا ابن الزبير إياك والإلحاد في الحرم فاني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يحلها ويحل به رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها ] قال : فانظر لا تكن هو ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين (3/287)
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه واستدل به كثير ممن قال : إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق وأنه لم يبن قبله كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذر قلت : [ يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال المسجد الحرام قلت : ثم أي ؟ قال : بيت المقدس قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ] وقد قال الله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } الايتين وقال تعالى : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والاثار بما أغنى عن إعادته ههنا وقال تعالى ههنا { أن لا تشرك بي شيئا } أي ابنه على اسمي وحدي { وطهر بيتي } قال قتادة ومجاهد : من الشرك { للطائفين والقائمين والركع السجود } أي اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له فالطائف به معروف وهو أخص العبادات عند البيت فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها { والقائمين } أي في الصلاة ولهذا قال : { والركع السجود } فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر والله أعلم
وقوله : { وأذن في الناس بالحج } أي ناد في الناس بالحج داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه فذكر أنه قال : يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال : ناد وعلينا البلاغ فقام على مقامه وقيل على الحجر وقيل على الصفا وقيل على أبي قبيس وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة
وقوله : { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } الاية قد يستدل بهذه الاية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا لأنه قدمهم في الذكر فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم وقال وكيع عن أبي العميس عن أبي حلحلة عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال : ما أساء علي شيء إلا أخي وددت أني كنت حججت ماشيا لأن الله يقول : { يأتوك رجالا } والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه حج راكبا مع كمال قوته عليه السلام وقوله : { يأتين من كل فج } يعني طريق كما قال : { وجعلنا فيها فجاجا سبلا } وقوله : { عميق } أي بعيد قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد وهذه الاية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار (3/290)
قال ابن عباس : { ليشهدوا منافع لهم } قال : منافع الدنيا والاخرة أما منافع الاخرة فرضوان الله تعالى وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات وكذا قال مجاهد وغير واحد : إنها منافع الدنيا والاخرة كقوله : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وقوله : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } قال شعبة وهشيم عن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما : الأيام المعلومات أيام العشر وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد بن حنبل
وقال البخاري : حدثنا محمد بن عرعرة حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء ] رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بنحوه وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر قلت : وقد تقصيت هذه الطرق وأفردت لها جزءا على حدته فمن ذلك ما قال الإمام أحمد : حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ] وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه وقال البخاري : وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا أن هذا هو العشر الذي أقسم به في قوله : { والفجر * وليال عشر } وقال بعض السلف : أنه المراد بقوله : { وأتممناها بعشر } وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصوم هذا العشر وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيام يوم عرفة فقال : أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والاتية ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر ] وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله وبالجملة فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث وفضله كثير على عشر رمضان الأخير لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه وقيل ذلك أفضل لا شتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وتوسط آخرون فقالوا : أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل وبهذا يجتمع شمل الأدلة والله أعلم
( قول ثان ) في الأيام المعلومات قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس : الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه
( قول ثالث ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن المديني حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن عجلان حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول : الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام فالأيام المعلومات : يوم النحر ويومان بعده والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر هذا إسناد صحيح إليه وقاله السدي وهو مذهب الإمام مالك بن أنس ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى : { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني ذكر الله عند ذبحها
( قول رابع ) أنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده وهو مذهب أبي حنيفة وقال ابن وهب : حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال : المعلومات يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق
وقوله : { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني الإبل والبقر والغنم كما فصلها تعالى في سورة الأنعام { ثمانية أزواج } الاية وقوله : { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } استدل بهذه الاية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي وهو قول غريب والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب كما [ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ فأكل من لحمها وحسا من مرقها ] قال عبد الله بن وهب : قال لي مالك : أحب أن يأكل من أضحيته لأن الله يقول : { فكلوا منها } قال ابن وهب : وسألت الليث فقال لي مثل ذلك وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم { فكلوا منها } قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل وروي عن مجاهد وعطاء نحو ذلك
قال هشيم عن حصين عن مجاهد في قوله : { فكلوا منها } قال : هي كقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا } { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق فيها بالنصف بقوله في هذه الاية : { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } فجزأها نصفين : نصف للمضحي ونصف للفقراء والقول الاخر أنها تجزأ ثلاثة أجزاء : ثلث له وثلث يهديه وثلث يتصدق به لقوله تعالى في الاية الأخرى : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } وسيأتي الكلام عليها عندها إن شاء الله وبه الثقة
وقوله : { البائس الفقير } قال عكرمة : هو المضطر الذي يظهر عليه البؤس والفقير المتعفف وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده وقال قتادة : هو الزمن وقال مقاتل بن حيان : هو الضرير وقوله : { ثم ليقضوا تفثهم } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وهو وضع الإحرام من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظافر ونحو ذلك وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقال عكرمة عن ابن عباس { ثم ليقضوا تفثهم } قال : التفث المناسك وقوله : { وليوفوا نذورهم } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني نحر ما نذر من أمر البدن وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { وليوفوا نذورهم } نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد { وليوفوا نذورهم } قال : الذبائح وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد { وليوفوا نذورهم } كل نذر إلى أجل وقال عكرمة { وليوفوا نذورهم } قال : حجهم وكذا روى الإمام أحمد وابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان في قوله : { وليوفوا نذورهم } قال : نذور الحج فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به وروي عن مالك نحو هذا
وقوله : { وليطوفوا بالبيت العتيق } قال مجاهد : يعني الطواف الواجب يوم النحر وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج يقول الله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } فإن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة فرماها بسبع حصيات ثم نحر هديه وحلق رأسه ثم أفاض فطاف بالبيت وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن المرأة الحائض
وقوله : { بالبيت العتيق } فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه و سلم من وراء الحجر وأخبر أن الحجر من البيت ولم يستلم الركنين الشاميين لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن هشام بن حجر عن رجل عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الاية { وليطوفوا بالبيت العتيق } طاف رسول الله صلى الله عليه و سلم من ورائه وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله : { وليطوفوا بالبيت العتيق } قال : لأنه أول بيت وضع للناس وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح وقال خصيف : إنما سمي بالبيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قط
وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه وكذا قال قتادة وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد : لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد حدثنا عبد الله بن صالح أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار ] وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به وقال : إن كان صحيحا وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ثم رواه من وجه آخر عن الزهري مرسلا (3/291)
يقول تعالى : هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك وما لفاعلها من الثواب الجزيل { ومن يعظم حرمات الله } أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه { فهو خير له عند ربه } أي فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل كذلك على تلك المحرمات واجتناب المحظورات قال ابن جريج : قال مجاهد في قوله : { ذلك ومن يعظم حرمات الله } قال : الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها وكذا قال ابن زيد
وقوله : { وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم } أي أحللنا لكم جميع الأنعام وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام وقوله : { إلا ما يتلى عليكم } أي من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة الاية قال ذلك ابن جرير وحكاه عن قتادة وقوله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } من ههنا لبيان الجنس أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان وقرن الشرك بالله بقول الزور كقوله : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ومنه شهادة الزور وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس فقال ـ ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : [ يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكا بالله ثلاثا ثم قرأ { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ] وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به ثم قال : غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه و سلم وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال : [ صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصبح فلما انصرف قام قائما فقال : عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز و جل ثم تلا هذه الاية { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به } ] وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال : تعدل شهادة الزور الإشراك بالله ثم قرأ هذه الاية
وقوله : { حنفاء لله } أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق ولهذا قال : { غير مشركين به } ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } أي سقط منها { فتخطفه الطير } أي تقطعه الطيور في الهواء { أو تهوي به الريح في مكان سحيق } أي بعيد مهلك لمن هوى فيه ولهذا جاء في حديث البراء : إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت وصعدوا بروحه إلى السماء فلا تفتح له أبواب السماء بل تطرح روحه طرحا من هناك ثم قرأ هذه الاية وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام وهو قوله : { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى } الاية (3/294)
يقول تعالى هذا { ومن يعظم شعائر الله } أي أوامره { فإنها من تقوى القلوب } ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس : تعظيمها استسمانها واستحسانها وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس { ذلك ومن يعظم شعائر الله } قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام وقال أبو أمامة بن سهل : كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون رواه البخاري وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين ] رواه أحمد وابن ماجه قالوا : والعفراء هي البيضاء بياضا ليس بناصع فالبيضاء أفضل من غيرها وغيرها يجزىء أيضا لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين وعن أبي سعيد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحى بكبش أقرن كحيل يأكل في سواد وينظر في سواد ويمشي في سواد ] رواه أهل السنن وصححه الترمذي ـ أي فيه نكتة سوداء في هذه الأماكن
وفي سنن ابن ماجه عن أبي رافع [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين ] وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر : [ ضحى رسول الله صلى الله عليه و سلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين قيل : هما الخصيان وقيل اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما ] والله أعلم وعن علي رضي الله عنه قال : [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء ] رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي ولهم عنه قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن ] وقال سعيد بن المسيب : العضب النصف فأكثر وقال بعض أهل اللغة : إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء فأما العضب فهو كسر الأسفل وعضب الأذن قطع بعضها وعند الشافعي أن الأضحية بذلك مجزئة لكن تكره وقال أحمد : لا تجزىء الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث وقال مالك : إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزىء وإلا أجزأ والله أعلم
وأما المقابلة فهي التي قطع مقدم أذنها والمدابرة من مؤخر أذنها والشرقاء هي التي قطعت أذنها طولا قاله الشافعي وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقا مدورا والله أعلم وعن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أربع لاتجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والكسيرة التي لاتنقى ] رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى فلهذا لا تجزيء التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة كما هو ظاهر الحديث واختلف قول الشافعي في المريضة مرضا يسيرا على قولين وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء فالمصفرة قيل الهزيلة وقيل المستأصلة الأذن والمستأصلة مكسورة القرن والبخقاء هي العوراء والمشيعة هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم ولا تتبع لضعفها والكسراء العرجاء فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء فأما إن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال : اشتريت كبشا أضحي به فعدا الذئب فأخذ الألية فسألت النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ ضح به ] ولهذا جاء في الحديث أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن أي أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال : أهدى عمر نجيبا فأعطي بها ثلثمائة دينار فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلثمائة دينار أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا ؟ قال : لا انحرها إياها ] وقال الضحاك عن ابن عباس البدن من شعائر الله وقال محمد بن أبي موسى : الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والحلق والبدن من شعائر الله وقال ابن عمر : أعظم الشعائر البيت
وقوله : { لكم فيها منافع } أي لكم في البدن منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى قال مقسم عن ابن عباس في قوله : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } قال : ما لم تسم بدنا وقال مجاهد في قوله : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } قال : الركوب واللبن والولد فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب ذلك كله وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم وقال آخرون : بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا إذا احتاج إلى ذلك كما ثبت في الصحيحين عن أنس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يسوق بدنة قال اركبها قال : إنها بدنة قال اركبها ويحك في الثانية أو الثالثة ] وفي رواية لمسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها ] وقال شعبة عن زهير عن أبي ثابت الأعمى عن المغيرة عن علي أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها
وقوله : { ثم محلها إلى البيت العتيق } أي محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى : { هديا بالغ الكعبة } وقال : { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } وقد تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريبا ولله الحمد وقال ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت فقد حل قال الله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } (3/295)
يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس { ولكل أمة جعلنا منسكا } قال : عيدا وقال عكرمة : ذبحا وقال زيد بن أسلم في قوله : { ولكل أمة جعلنا منسكا } إنها مكة لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها وقوله : { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بكبشين أملحين أقرنين فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود ـ وهو نفيع بن الحارث ـ عن زيد بن أرقم قال : قلت أو قالوا : يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال : [ سنة أبيكم إبراهيم قالوا : ما لنا منها ؟ قال : بكل شعرة حسنة قال فالصوف ؟ قال بكل شعرة من الصوف حسنة ] وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه من حديث سلام بن مسكين به
وقوله : { فإلهكم إله واحد فله أسلموا } أي معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضا فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } ولهذا قال : { فله أسلموا } أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته { وبشر المخبتين } قال مجاهد : المطمئنين وقال الضحاك وقتادة : المتواضعين وقال السدي : الوجلين وقال عمرو بن أوس : المخبتين الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا وقال الثوري { وبشر المخبتين } قال : المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له وأحسن بما يفسر بما بعده وهو قوله : { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي خافت منه قلوبهم { والصابرين على ما أصابهم } أي من المصائب قال الحسن البصري : والله لنصبرن أو لنهلكن { والمقيمي الصلاة } قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة أيضا وقرأ ابن السميقع { والمقيمين الصلاة } بالنصب وعن الحسن البصري { والمقيمي الصلاة } وإنما حذفت النون ههنا تخفيفا ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة ولكن على سبيل التخفيف فنصبت أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه { ومما رزقناهم ينفقون } أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقائهم وفقرائهم ومحاويجهم ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله وهذه بخلاف صفات المنافقين فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره في سورة براءة (3/297)
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى إليه كما قال تعالى : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } الاية قال ابن جريج قال عطاء في قوله : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } قال البقرة والبعير وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري وقال مجاهد : وإنما البدن من الإبل { قلت } أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح الحديث ثم جمهور العلماء على أنه تجزىء البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نشترك في الأضاحي البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وقال إسحاق بن راهويه وغيره : بل تجزىء البقرة والبعير عن عشرة وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما فالله أعلم
وقوله : { لكم فيها خير } أي ثواب في الدار الاخرة وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إهراق دم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا ] رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه وقال سفيان الثوري : كان أبو حازم يستدين ويسوق البدن فقيل له : تستدين وتسوق البدن ؟ فقال : إني سمعت الله يقول لكم : { لكم فيها خير } وعن ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد ] رواه الدارقطني في سننه وقال مجاهد : { لكم فيها خير } قال : أجر ومنافع وقال إبراهيم النخعي : يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها
وقوله : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال : [ صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عيد الأضحى فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال : باسم الله والله أكبر اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر قال : [ ضحى رسول الله صلى الله عليه و سلم بكبشين في يوم عيد فقال حين وجههما : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته ثم سمى الله وكبر وذبح ] وعن علي بن الحسين عن أبي رافع [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول : اللهم هذا عن أمتي جميعها : من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ ثم يؤتى بالاخر فيذبحه بنفسه ثم يقول هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعا للمساكين ويأكل هو وأهله منهما ] رواه أحمد وابن ماجه
وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } قال : قياما على ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى يقول : باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله اللهم منك ولك وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو هذا وقال ليث عن مجاهد : إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه وقال الضحاك : تعقل رجل واحدة فتكون على ثلاث وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه و سلم وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها رواه أبو داود وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك : قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع قال فيه : فنحر رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده ثلاثا وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : في حرف ابن مسعود { صواف } أي معقلة قياما وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد من قرأها صوافن قال : معقولة ومن قرأها صواف قال تصف بين يديها وقال طاوس والحسن وغيرهما { فاذكروا اسم الله عليها صواف } يعني خالصة لله عز و جل وكذا رواه مالك عن الزهري وقال عبد الرحمن بن زيد : صوافي ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم
وقوله : { فإذا وجبت جنوبها } قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : يعني سقطت إلى الأرض وهو رواية عن ابن عباس وكذا قال مقاتل بن حيان وقال العوفي عن ابن عباس : فإذا وجبت جنوبها يعني نحرت وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فإذ وجبت جنوبها يعني ماتت وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها وقد جاء في حديث مرفوع [ لا تعجلوا النفوس أن تزهق ] وقد رواه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن قرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] وعن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة ] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه
وقوله : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } قال بعض السلف : قوله : { فكلوا منها } أمر إباحة وقال مالك : يستحب ذلك وقال غيره : يجب وهو وجه لبعض الشافعية واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر فقال العوفي عن ابن عباس : القانع المستغني بما أعطيته وهو في بيته والمعتر الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : القانع المتعفف والمعتر السائل وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم وابن الكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان ومالك بن أنس : القانع هو الذي يقنع إليك ويسألك والمعتر الذي يعتريك يتضرع ولا يسألك وهذا لفظ الحسن وقال سعيد بن جبير : القانع هو السائل قال : أما سمعت قول الشماخ :
( لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعف من القنوع )
قال : يغنى من السؤال وبه قال ابن زيد وقال بن أسلم : القانع المسكين الذي يطوف والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور وهو رواية عن ابنه عبد الله بن زيد أيضا وعن مجاهد أيضا : القانع جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك والمعتر الذي يعتريك من الناس وعنه : أن القانع هو الطامع والمعتر هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير وعن عكرمة نحوه وعنه : القانع أهل مكة واختار ابن جرير أن القانع هو السائل لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم وقد احتج بهذه الاية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء : فثلث لصاحبها يأكله وثلث يهديه لأصحابه وثلث يتصدق به على الفقراء لأنه تعالى قال : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر }
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للناس : [ إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا ما بدا لكم ] وفي رواية [ فكلوا وادخروا وتصدقوا ] وفي رواية [ فكلوا وأطعموا وتصدقوا ] والقول الثاني : أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله في الاية المتقدمة : { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } ولقوله في الحديث : [ فكلوا وادخروا وتصدقوا ] فإن أكل الكل فقيل : لا يضمن شيئا وبه قال ابن سريج من الشافعية وقال بعضهم : يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها وقيل يضمن نصفها وقيل ثلثها وقيل أدنى جزء منها وهو المشهور من مذهب الشافعي وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي [ فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها ] ومن العلماء من رخص في بيعها ومنهم من قال : يقاسم الفقراء ثمنها والله أعلم
( مسألة ) عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس هو من النسك في شيء ] أخرجاه فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء : إن أول وقت ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين زاد أحمد : وأن يذبح الإمام بعد ذلك لما جاء في صحيح مسلم : وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام والله أعلم ثم قيل : لا يشرع بالذبح إلا يوم النحر وحده وقيل : يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم وأما اهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده وبه قال سعيد بن جبير وقيل : يوم النحر ويوم بعده للجميع وقيل : ويومان بعده وبه قال الإمام أحمد وقيل : يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أيام التشريق كلها ذبح ] رواه أحمد وابن حبان وقيل : إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهو قول غريب وقوله : { كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } يقول تعالى من أجل هذا { سخرناها لكم } أي ذللناها لكم وجعلناها منقادة لكم خاضعة إن شئتم ركبتم وإن شئتم حلبتم وإن شئتم ذبحتم كما قال تعالى : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون } وقال في هذه الاية الكريمة : { كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } (3/298)
يقول تعالى : إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لالهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ونضحوا عليها من دمائها فقال تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن أبي حماد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : فنحن أحق أن ننضح فأنزل الله { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } أي يتقبل ذلك ويجزي عليه كما جاء في الصحيح [ إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ] وجاء في الحديث [ إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض ] كما تقدم في الحديث رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه عن عائشة مرفوعا فمعناه أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا والله أعلم
وقال وكيع عن يحيى بن مسلم أبي الضحاك : سألت عامرا الشعبي عن جلود الأضاحي فقال : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } إن شئت فبع وإن شئت فأمسك وإن شئت فتصدق وقوله : { كذلك سخرها لكم } أي من أجل ذلك سخر لكم البدن { لتكبروا الله على ما هداكم } أي لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه وقوله : { وبشر المحسنين } أي وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز و جل
( مسألة ) وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضا واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات عن أبي هريرة مرفوعا : [ من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ] على أن فيه غرابة واستنكره أحمد بن حنبل وقال ابن عمر : أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر سنين يضحي رواه الترمذي وقال الشافعي وأحمد : لا تجب الأضحية بل هي مستحبة لما جاء في الحديث : [ ليس في المال حق سوى الزكاة ] وقد تقدم أنه عليه الصلاة و السلام ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم وقال أبو سريحة : كنت جارا لأبي بكر وعمر فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما وقال بعض الناس : الأضحية سنة كفاية إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت سقطت عن الباقين لأن المقصود إظهار الشعار وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن محنف بن سليم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول بعرفات : [ على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي تدعونها الرجبية ] وقد تكلم في إسناده وقال أبو أيوب : كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصار كما ترى رواه الترمذي وصححه وابن ماجه وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله رواه البخاري وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ] ومن ههنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزىء وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزىء من كل جنس وهما غريبان والذي عليه الجمهور إنما يجزىء الثني من الإبل والبقر والمعز أو الجذع من الضأن فأما الثني من الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة وقيل ما له ثلاث ودخل في الرابعة ومن المعز ما له سنتان وأما الجذع من الضأن فقيل ما له سنة وقيل عشرة أشهر وقيل ثمانية وقيل ستة أشهر وهو أقل ما قيل في سنه وما دونه فهو حمل والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم والجذع شعر ظهره نائم قد انفرق صدغين والله أعلم (3/301)
يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم كما قال تعالى : { أليس الله بكاف عبده } وقال : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } وقوله : { إن الله لا يحب كل خوان كفور } أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال والكفر الجحد للنعم فلا يعترف بها (3/302)
قال العوفي عن ابن عباس : نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم : هذه أول آية نزلت في الجهاد واستدل بهذه الاية بعضهم على أن السورة مدنية وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن داود الواسطي حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن قال ابن عباس : فأنزل الله عز و جل { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : فعرفت أنه سيكون قتال وقال الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به وزاد : قال ابن عباس وهي أول آية نزلت في القتال ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما و ابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به وقال الترمذي : حديث حسن وقد رواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس
وقوله : { وإن الله على نصرهم لقدير } أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته كما قال : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم } وقال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم } وقال : { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون } وقال : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } وقال : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } والايات في هذا كثيرة
ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وإن الله على نصرهم لقدير } وقد فعل وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا نيفا وثمانين قالوا : [ يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي يعنون أهل منى ليالي منى فنقتلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لم أومر بهذا ] فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه و سلم من بين أظهرهم وهموا بقتله وشردوا أصحابه شذر مذر فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة فلما استقروا بالمدينة ووافاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم واجتمعوا عليه وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومعقلا يلجئون إليه شرع الله جهاد الأعداء فكانت هذه الاية أول ما نزل في ذلك فقال تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } قال العوفي عن ابن عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق يعني محمدا وأصحابه { إلا أن يقولوا ربنا الله } أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب كما قال تعالى : { يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون :
( اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا )
( فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا )
( إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا )
فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقول معهم آخر كل قافية فإذا قالوا : * إذا أرادوا فتنة أبينا * يقول : أبينا يمد بها صوته ثم قال تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف { لهدمت صوامع } وهي المعابد الصغار للرهبان قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم وقال قتادة : هي معابد الصابئين وفي رواية عنه : صوامع المجوس وقال مقاتل بن حيان : هي البيوت التي على الطرق { وبيع } وهي أوسع منها وأكثر عابدين فيها وهي للنصارى أيضا قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس اليهود و مجاهد إنما قال : هي الكنائس والله أعلم
وقوله : { وصلوات } قال العوفي عن ابن عباس : الصلوات الكنائس وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة : إنها كنائس اليهود وهم يسمونها صلوات وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس النصارى وقال أبو العالية وغيره : الصلوات معابد الصابئين وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : الصوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق وأما المساجد فهي للمسلمين وقوله : { يذكر فيها اسم الله كثيرا } فقد قيل : الضمير في قوله يذكر فيها عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا وقال ابن جرير : الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود وهي كنائسهم ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب وقال بعض العلماء : هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عمارا وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح
وقوله : { ولينصرن الله من ينصره } كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم * والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم } وقوله : { إن الله لقوي عزيز } وصف نفسه بالقوة والعزة فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور وعدوه هو المقهور قال الله تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } وقال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } (3/302)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد قال : قال عثمان بن عفان : فينا نزلت { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا : ربنا الله ثم مكنا في الأرض فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وقال الصباح بن سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول : { الذين إن مكناهم في الأرض } الاية ثم قال : ألا إنها ليست على الوالي وحده ولكنها على الوالي والمولى عليه ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم وأن يأخذ لبعضكم من بعض وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ولا المخالف سرها علانيتها وقال عطية العوفي : هذه الاية كقوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } وقوله : { ولله عاقبة الأمور } كقوله تعالى : { والعاقبة للمتقين } وقال زيد بن أسلم { ولله عاقبة الأمور } وعند الله ثواب ما صنعوا (3/305)
يقول تعالى مسليا لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم في تكذيب من خالفه من قومه : { وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى } أي مع ما جاء به من الايات البينات والدلائل الواضحات { فأمليت للكافرين } أي أنظرتهم وأخرتهم { ثم أخذتهم فكيف كان نكير } أي فيكف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ؟ ! وذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه : أنا ربكم الأعلى وبين إهلاك الله له أربعون سنة وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ] ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } ثم قال تعالى : { فكأين من قرية أهلكناها } أي كم من قرية أهلكتها { وهي ظالمة } أي مكذبة لرسلها { فهي خاوية على عروشها } قال الضحاك : سقوفها أي قد خربت وتعطلت حواضرها { وبئر معطلة } أي لا يستقى منها ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والإزدحام عليها { وقصر مشيد } قال عكرمة يعني المبيض بالجص وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك وقال آخرون : هو المنيف المرتفع وقال آخرون : المشيد المنيع الحصين وكل هذه الأقوال متقاربة ولا منافاة بينها فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم كما قال تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }
وقوله : { أفلم يسيروا في الأرض } أي بأبدانهم وبفكرهم أيضا وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار : حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك بن دينار قال : أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض ثم اطلب الاثار والعبر حتى يتخرق النعلان وتنكسر العصا وقال ابن أبي الدنيا : قال بعض الحكماء : أحي قلبك بالمواعظ ونوره بالتفكر وموته بالزهد وقوه باليقين وذلله بالموت وقرره بالفناء وبصره فجائع الدنيا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام واعرض عليه أخبار الماضين وذكره ما أصاب من كان قبله وسيره في ديارهم وآثارهم وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا أي فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال { فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } أي فيعتبرون بها { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } أي ليس العمى عمى البصر وإنما العمى عمى البصرة وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشنتريني وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة :
( يا من يصيخ إلى داعي الشقاء ... وقدنادى به الناعيان الشيب والكبر )
( إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر )
( ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان العين والأثر )
( لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الـ ... أعلى ولا النيران الشمس والقمر )
( ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر ) (3/305)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه : { ويستعجلونك بالعذاب } أي هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الاخر كما قال تعالى : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } وقوله : { ولن يخلف الله وعده } أي الذي قد وعد من إقامة الساعة والإنتقام من أعدائه والإكرام لأوليائه قال الأصمعي : كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاءه عمرو بن عبيد فقال : يا أبا عمرو هل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا فذكر آية وعيد فقال له : أمن العجم أنت ؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما أما سمعت قول الشاعر :
( ليرهب ابن العم والجار سطوتي ... ولا أنثني عن سطوة المتهدد )
( فإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي )
- وقوله : { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } أي هو تعالى لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه لعلمه بأنه على الانتقام قادر وأنه لا يفوته شيء وإن أجل وأنظر وأملى ولهذا قال بعد هذا : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير } قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام ] ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به وقال الترمذي : حسن صحيح وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفا فقال : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال : قال أبو هريرة : [ يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم قلت : وما مقدار نصف يوم ؟ قال أو ما تقرأ القرآن ؟ قلت بلى قال : { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } ]
وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم ] قيل لسعد : وما نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } قال : من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ورواه ابن جرير عن ابن بشار عن ابن المهدي وبه قال مجاهد وعكرمة ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية وقال مجاهد : هذه الاية كقوله : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عارم محمد بن الفضل حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين عن رجل من أهل الكتاب أسلم قال : إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } وجعل أجل الدنيا ستة أيام وجعل الساعة في اليوم السابع { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } فقد مضت الستة الأيام وأنتم في اليوم السابع فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها ففي أية لحظة ولدت كان تماما (3/306)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به { قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } أي إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد وليس إلي من حسابكم من شيء أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب وإن شاء أخره عنكم وإن شاء تاب على من يتوب إليه وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار { لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب } { إنما أنا لكم نذير مبين * فالذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم { لهم مغفرة ورزق كريم } أي مغفرة لما سلف من سيئاتهم ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم قال محمد بن كعب القرظي : إذا سمعت الله تعالى يقول : { ورزق كريم } فهو الجنة
وقوله : { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } قال مجاهد : يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه و سلم وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين وقال ابن عباس : معاجزين مراغمين { أولئك أصحاب الجحيم } وهي النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها أجارنا الله منها قال الله تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } (3/307)
قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح والله أعلم قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } قال : فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فأنزل الله عز و جل هذه الاية { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم }
رواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه وهو مرسل وقد رواه البزار في مسنده عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ بمكة سورة النجم حتى انتهى إلى { أفرأيتم اللات والعزى } وذكر بقيته ثم قال البزار : لا نعلمه يروى متصلا إلا بهذا الإسناد تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية وعن السدي مرسلا وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلا أيضا
وقال قتادة : كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى فحفظها المشركون وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه و سلم قد قرأها : فذلت بها ألسنتكم فأنزل الله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } الاية فدحر الله الشيطان ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله سورة النجم قال : { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى } ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال : وإنهن لهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع على كفه ترابا فسجد عليه فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الاية الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه و سلم وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قرأها في السورة فسجدوا لتعظيم آلهتهم ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من الفرية وقال الله : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين واشتدوا عليهم وهذا أيضا مرسل
وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه قال : وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة { قلت } وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك ثم سأل ههنا سؤالا : كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ؟ ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس كذلك في نفس الأمر بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه و سلم والله أعلم
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفاء لهذا وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها وقوله : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أي لا يهيدنك ذلك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء قال البخاري : قال ابن عباس { في أمنيته } إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان { ثم يحكم الله آياته } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } يقول : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه وقال مجاهد { إذا تمنى } يعني إذا قال ويقال أمنيته قراءته { إلا أماني } يقولون ولا يكتبون قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : { تمنى } أي تلا وقرأ كتاب الله { ألقى الشيطان في أمنيته } أي في تلاوته قال الشاعر في عثمان حين قتل :
( تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر )
وقال الضحاك : { إذا تمنى } إذا تلا قال ابن جرير هذا القول أشبه بتأويل الكلام وقوله { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وقوله : { والله عليم } أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية { حكيم } أي في تقديره وخلقه وأمره له الحكمة التامة والحجة البالغة ولهذا قال : { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض } أي شك وشرك وكفر ونفاق كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وإنما كان من الشيطان قال ابن جريج : { الذين في قلوبهم مرض } هم المنافقون { والقاسية قلوبهم } هم المشركون
وقال مقاتل بن حيان : هم اليهود { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد أي من الحق والصواب { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به } أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به وغيره بل هو كتاب حكيم { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } وقوله : { فيؤمنوا به } أي يصدقوه وينقادوا له { فتخبت له قلوبهم } أي تخضع وتذل له قلوبهم { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } أي في الدنيا والاخرة أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه وفي الاخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات (3/308)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار أنهم لا يزالون في مرية أي في شك من هذا القرآن قال ابن جريج واختاره ابن جرير وقال سعيد بن جبير وابن زيد منه أي مما ألقى الشيطان { حتى تأتيهم الساعة بغتة } قال مجاهد : فجأة وقال قتادة { بغتة } بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لايغتر بالله إلا القوم الفاسقون وقوله : { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } قال مجاهد : قال أبي بن كعب : هو يوم بدر وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما : هو يوم القيامة لا ليل له وكذا قال الضحاك والحسن البصري وهذا القول هو الصحيح وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به لكن هذا هو المراد ولهذا قال : { الملك يومئذ لله يحكم بينهم } كقوله : { مالك يوم الدين }
وقوله : { الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا } { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى ما علموا وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم { في جنات النعيم } أي لهم النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } أي كفرت قلوبهم بالحق وجحدوا به وكذبوا به وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم { فأولئك لهم عذاب مهين } أي مقابلة استكبارهم وإعراضهم عن الحق كقوله تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أي صاغرين (3/310)
يخبر تعالى عمن خرج مهاجرا في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلبا لما عنده وترك الأوطان والأهلين والخلان وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة لدين الله ثم قتلوا أي في الجهاد أو ماتوا أي حتف أنفهم أي من غير قتال على فرشهم فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل كما قال تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } وقوله : { ليرزقنهم الله رزقا حسنا } أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم { وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه } أي الجنة كما قال تعالى : { فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم } فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم كما قال ههنا : { ليرزقنهم الله رزقا حسنا } ثم قال { ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم } أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك { حليم } أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه
فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الاية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن ابن الحارث ـ يعني عبد الكريم ـ عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن عقبة قال : قال حدثنا شرحبيل بن السمط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين واقرؤوا إن شئتم { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم } ]
وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة حدثنا زيد بن بشر أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان : كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فمر بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل فقال فضالة : ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا ؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ؟ اسمعوا كتاب الله { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا } حتى بلغ آخر الاية وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا ابن لهيعة حدثنا سلامان بن عامر الشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق والاخر توفي فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى فقيل له : تركت الشهيد فلم تجلس عنده ؟ فقال : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت إن الله يقول : { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا } الايتين فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت رزقا حسنا والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت
ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والاخر متوفى فذكر نحو ما تقدم وقوله : { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به } الاية ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعا من المشركين في شهر محرم فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله عليهم { إن الله لعفو غفور } (3/311)
يقول تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء كما قال : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب } ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا ومن هذا في هذا فتارة يطول الليل ويقصر النهار كما في الشتاء وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف
وقوله : { وأن الله سميع بصير } أي سميع بأقوال عباده بصير بهم لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم ولما بين أنه المتصرف في الوجود الحاكم الذي لامعقب لحكمه قال : { ذلك بأن الله هو الحق } أي الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له لأنه ذو السلطان العظيم الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل شيء فقير إليه ذليل لديه { وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } أي من الأصنام والأنداد والأوثان وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل لأنه لا يملك ضرا ولا نفعا وقوله : { وأن الله هو العلي الكبير } كما قال { وهو العلي العظيم } وقال : { الكبير المتعال } فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته لا إله إلا هو ولا رب سواه لأنه العظيم الذي لا أعظم منه العلي الذي لا أعلى منه الكبير الذي لا أكبر منه تعالى وتقدس وتنزه عز و جل عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا (3/312)
وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه فإنه يرسل الرياح فتثير سحابا فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها وهي هامدة يابسة سوادء ممحلة { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } وقوله : { فتصبح الأرض مخضرة } الفاء ههنا للتعقيب وتعقيب كل شيء بحسبه كما قال تعالى : { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة } الاية وقدثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوما ومع هذا هو معقب بالفاء وهكذا ههنا قال { فتصبح الأرض مخضرة } أي خضراء بعد يباسها ومحولها وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء فالله أعلم
وقوله : { إن الله لطيف خبير } أي عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر ولا يخفى عليه خافية فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به كما قال لقمان : { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير } وقال : { أن لا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض } وقال تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } وقال : { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته :
( وقولا له من ينبت الحب في الثرى ؟ ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا )
( ويخرج منه حبه في رؤوسه ... ففي ذاك آيات لمن كان واعيا )
وقوله : { له ما في السموات وما في الأرض } أي ملكه جميع الأشياء وهو غني عما سواه وكل شيء فقير إليه عبد لديه وقوله : { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض } أي من حيوان وجماد وزروع وثمار كما قال : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } أي من إحسانه وفضله وامتنانه { والفلك تجري في البحر بأمره } أي بتسخيره وتسييره أي في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه { ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه } أي لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ولهذا قال : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } أي مع ظلمهم كما قال في الاية الأخرى : { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب }
وقوله : { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور } كقوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } وقوله : { قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } وقوله : { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } ومعنى الكلام : كيف تجعلون لله أندادا وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف { وهو الذي أحياكم } أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر فأوجدكم { ثم يميتكم ثم يحييكم } أي يوم القيامة { إن الإنسان لكفور } أي جحود (3/313)
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا قال ابن جرير : يعني لكل أمة نبي منسكا قال : وأصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر قال : ولهذا سميت مناسك الحج بذلك لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكا فيكون المراد بقوله فلا ينازعنك في الأمر أي هؤلاء المشركين وإن كان المراد لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا كما قال : { ولكل وجهة هو موليها } ولهذا قال ههنا : { هم ناسكوه } أي فاعلوه فالضمير ههنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق أي هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته فلا تتأثر بمنازعتهم لك ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ولهذا قال : { وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم } أي طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود وهذا كقوله : { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك }
وقوله : { وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون } كقوله : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } وقوله : { الله أعلم بما تعملون } تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله : { هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم } ولهذا قال : { الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون } وهذه كقوله تعالى : { فلذلك فادع واستقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } الاية (3/314)
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك ولا أكبر وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ] وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أول ما خلق الله القلم قال له : اكتب قال و ماأكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا ابن بكير حدثني عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى : اكتب فقال القلم : وما أكتب ؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم الساعة فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة فذلك قوله للنبي صلى الله عليه و سلم : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض } وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضا فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره وهذا يعصي باختياره وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علما وهو سهل عليه يسير لديه ولهذا قال تعالى : { إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } (3/315)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطانا يعني حجة وبرهانا كقوله : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } ولهذا قال ههنا : { ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم } أي ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم ولهذا توعدهم تعالى بقوله : { وما للظالمين من نصير } أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال ثم قال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } أي وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله وأنه لا إله إلا هو وأن رسله الكرام حق وصدق { يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء { قل } أي يا محمد لهؤلاء { أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا } أي النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا وعذاب الاخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإرادتكم وقوله : { وبئس المصير } أي وبئس النار مقيلا ومنزلا ومرجعا وموئلا ومقاما { إنها ساءت مستقرا ومقاما } (3/315)
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها { يا أيها الناس ضرب مثل } أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به { فاستمعوا له } أي أنصتوا وتفهموا { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة مرفوعا قال : [ ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة ] وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قال الله عز و جل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي قليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة ] ثم قال تعالى أيضا : { وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه } أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والإنتصار منه لو سلبها شيئا من الذي عليها من الطيب ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا قال : { ضعف الطالب والمطلوب } قال ابن عباس : الطالب الصنم والمطلوب الذباب واختاره ابن جرير وهو ظاهر السياق وقال السدي وغيره : الطالب العابد والمطلوب الصنم ثم قال : { ما قدروا الله حق قدره } أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها { إن الله لقوي عزيز } أي هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } { إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد } { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } وقوله : { عزيز } أي قد عز كل شيء فقهره وغلبه فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه وهو الواحد القهار (3/316)
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته { إن الله سميع بصير } أي سميع لأقوال عباده بصير بهم عليم بمن يستحق ذلك منهم كما قال : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور } أي يعلم ما يفعل رسله فيما أرسلهم به فلا يخفى عليه شيء من أمورهم كما قال : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا } فهو سبحانه رقيب عليهم شهيد على ما يقال لهم حافظ لهم ناصر لجنابهم { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } الاية (3/316)
اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج : هل هي مشروع السجود فيها أم لا ؟ على قولين وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم [ فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ] وقوله : { وجاهدوا في الله حق جهاده } أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم كما قال تعالى : { اتقوا الله حق تقاته } وقوله : { هو اجتباكم } أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعا وفي السفر تقصر إلى اثنتين وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث وتصلى رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالسا فإن لم يستطع فعلى جنبه إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات ولهذا قال عليه السلام : [ بعثت بالحنيفية السمحة ] وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن [ بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا ] والأحاديث في هذا كثيرة ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } يعني من ضيق
وقوله : { ملة أبيكم إبراهيم } قال ابن جرير : نصب على تقدير { ما جعل عليكم في الدين من حرج } أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم قال : ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم { قلت } وهذا المعنى في هذه الاية كقوله : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا } الاية وقوله : { هو سماكم المسلمين من قبل } وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله : { هو سماكم المسلمين من قبل } قال : الله عز و جل وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { هو سماكم المسلمين من قبل } يعني إبراهيم وذلك قوله : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } قال ابن جرير : وهذا لا وجه له لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين وقد قال الله تعالى : { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا } قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر { وفي هذا } يعني القرآن وكذا قال غيره ( قلت ) وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال : { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج } ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان فقال : { هو سماكم المسلمين من قبل } أي من قبل هذا القرآن { وفي هذا } روى النسائي عند تفسير هذه الاية : أنبأنا هشام بن عمار حدثنا محمد بن شعيب أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم قال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن صام وصلى ؟ قال نعم وإن صام وصلى فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله ] وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } من سورة البقرة ولهذا قال { ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس } أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم لتكونوا يوم القيامة { شهداء على الناس } لأن جيمع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته
وقوله { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة وقوله { واعتصموا بالله } أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به { هو مولاكم } أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم { فنعم المولى ونعم النصير } يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء قال وهيب بن الورد يقول الله تعالى : ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك رواه ابن أبي حاتم والله اعلم
آخر تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة (3/317)
سورة المؤمنون
بسم الله الرحمن الرحيم (3/319)
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرني يونس بن سليم قال : أملى علي يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري ؟ قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال [ اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ـ ثم قال ـ لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ] ثم قرأ : { قد أفلح المؤمنون } حتى ختم العشر ورواه الترمذي في تفسيره والنسائي في الصلاة من حديث عبد الرزاق به وقال الترمذي : منكر لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم ويونس لا نعرفه
وقال النسائي في تفسيره : أنبأنا قتيبة بن سعيد حدثنا جعفر عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة أم المؤمنين : كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن فقرأت { قد أفلح المؤمنون } حتى انتهت إلى { والذين هم على صلواتهم يحافظون } قالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم : لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها وقال لها : تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } قال كعب الأحبار : لما أعد لهم من الكرامة فيها وقال أبو العالية : فأنزل الله ذلك في كتابه
وقد روي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعا فقال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا المغيرة بن سلمة حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرسها وقال لها : تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } فدخلتها الملائكة فقالت : طوبى لك منزل الملوك ثم قال : وحدثنا بشر بن آدم وحدثنا يونس بن عبيد الله العمري حدثنا عدي بن الفضل حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك ـ قال البزار : ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث ـ حائط الجنة لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك فقال لها : تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } فقالت الملائكة : طوبى لك منزل الملوك ] ثم قال البزار : لا نعلم أحدا رفعه إلا عدي بن الفضل وليس هو بالحافظ وهو شيخ متقدم الموت
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي حدثنا هشام بن خالد حدثنا بقية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال لها : تكلمي فقالت { قد أفلح المؤمنون } ] بقية عن الحجازيين ضعيف وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا حماد بن عيسى العبسي عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس يرفعه [ لما خلق الله جنة عدن بيده ودلى فيها ثمارها وشق فيها أنهارها ثم نظر إليها فقال : { قد أفلح المؤمنون } قال : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ]
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن المثنى البزار حدثنا محمد بن زياد الكلبي حدثنا يعيش بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خلق الله جنة عدن بيده : لبنة من درة بيضاء ولبنة من يا قوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ وحشيشها الزعفران ثم قال لها انطقي قالت : { قد أفلح المؤمنون } فقال الله : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ] ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }
وقوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون } أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { خاشعون } خائفون ساكنون وكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة والزهري وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الخشوع خشوع القلب وكذا قال إبراهيم النخعي وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزلت هذه الاية : { قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون } خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم قال محمد بن سيرين : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مصلاه فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ثم روى ابن جرير عنه وعن عطاء بن أبي رباح أيضا مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الاية والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها وحينئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا بلال [ أرحنا بالصلاة ] وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد أن محمد بن الحنفية قال : دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار فحضرت الصلاة فقال : يا جارية ائتني بوضوء لعلي أصلي فأستريح فرآنا أنكرنا عليه ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ قم يا بلال فأرحنا بالصلاة ]
وقوله : { والذين هم عن اللغو معرضون } أي عن الباطل وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم والمعاصي كما قاله آخرون وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال كما قال تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك وقوله : { والذين هم للزكاة فاعلون } الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال مع أن هذه الاية مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية : { وآتوا حقه يوم حصاده } وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس كقوله : { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } وكقوله { وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة } على أحد القولين في تفسيرهما وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم
وقوله { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت أيمانهم من السراري ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج ولهذا قال : { فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك } أي غير الأزواج والإماء { فأولئك هم العادون } أي المعتدون وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت : تأولت آية من كتاب الله { أو ما ملكت أيمانهم } فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : تأولت آية من كتاب الله عز و جل على غير وجهها قال : فضرب العبد وجز رأسه وقال : أنت بعده حرام على كل مسلم هذا أثر غريب منقطع ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة وهو ههنا أليق وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها والله أعلم
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الاية الكريمة { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } قال : فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين وقد قال الله تعالى : { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث قال : حدثني علي بن ثابت الجزري عن مسلمة بن جعفر عن حسان بن حميد عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العالمين ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده والفاعل والمفعول به ومدمن الخمر والضارب والديه حتى يستغيثا والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه والناكح حليلة جاره ] هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم
وقوله : { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم [ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ] وقوله : { والذين هم على صلواتهم يحافظون } أي يواظبون عليها في مواقيتها كما قال ابن مسعود : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال الصلاة على وقتها قلت : ثم أي ؟ قال بر الوالدين قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ] أخرجاه في الصحيحين وفي مستدرك الحاكم قال : [ الصلاة في أول وقتها ]
وقال ابن مسعود ومسروق في قوله : { والذين هم على صلواتهم يحافظون } يعني في مواقيت الصلاة وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس وسعيد بن جبير وعكرمة وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ] ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال : { أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله : { أولئك هم الوارثون } ] وقال ابن جريج عن ليث عن مجاهد { أولئك هم الوارثون } قال : ما من عبد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ويهدم بيته الذي في النار وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة ويبني بيته الذي في النار وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز و جل بل أبلغ من هذا أيضا وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى ] وفي لفظ له : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقال : هذا فكاكك من النار ] فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك قال : فحلف له قلت : وهذه الاية كقوله تعالى : { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } وكقوله : { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } وقد قال مجاهد وسعيد بن جبير الجنة بالرومية هي الفردوس وقال بعض السلف : لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب فا لله أعلم (3/319)
يقول تعالى مخبرا عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين وهو آدم عليه السلام خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي يحيى عن ابن عباس { من سلالة من طين } قال : من صفوة الماء وقال مجاهد : من سلالة أي من مني آدم وقال ابن جرير : إنما سمي آدم طينا لأنه مخلوق منه وقال قتادة : استل آدم من الطين وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب وهو الصلصال من الحمإ المسنون وذلك مخلوق من التراب كما قال تعالى : { ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون }
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا أسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والخبيث والطيب وبين ذلك ] وقد رواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به نحوه وقال الترمذي : حسن صحيح { ثم جعلناه نطفة } هذا الضمير عائد على جنس الإنسان كما قال في الاية الأخرى : { وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } أي ضعيف كما قال : { ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه في قرار مكين } يعني الرحم معد لذلك مهيأ له { إلى قدر معلوم * فقدرنا فنعم القادرون } أي مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال وصفة إلى صفة ولهذا قال ههنا : { ثم خلقنا النطفة علقة } أي ثم صيرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة قال عكرمة : وهي دم { فخلقنا العلقة مضغة } وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط { فخلقنا المضغة عظاما } يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها
وقرأ آخرون { فخلقنا المضغة عظاما } قال ابن عباس : وهو عظم الصلب وفي الصحيح من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب ] { فكسونا العظام لحما } أي وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه { ثم أنشأناه خلقا آخر } أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب { فتبارك الله أحسن الخالقين } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا يحيى بن حسان حدثنا النضر يعني ابن كثير مولى بني هاشم حدثنا زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذا نمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث فذلك قوله : { ثم أنشأناه خلقا آخر } يعني نفخنا فيه الروح وروي عن أبي سعيد الخدري أنه نفخ الروح قال ابن عباس { ثم أنشأناه خلقا آخر } يعني فنفخنا فيه الروح وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد واختاره ابن جرير
وقال العوفي عن ابن عباس { ثم أنشأناه خلقا آخر } يعني ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرا ثم احتلم ثم صار شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم هرما وعن قتادة والضحاك نحو ذلك ولا منافاة فإنه من ابتداء نفخ الروح فيه شرع في هذه التنقلات والأحوال والله أعلم قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله ـ هو ابن مسعود رضي الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الصادق المصدوق : [ إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : رزقه وأجله وعمله وهل هو شقي أو سعيد فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها ] أخرجاه من حديث سليمان بن مهران الأعمش
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال : قال عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر فتمكث أربعين يوما ثم تعود في الرحم فتكون علقة وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسين بن الحسن حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال : مر يهودي برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يحدث أصحابه فقالت قريش : [ يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي فقال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي قال : فجاءه حتى جلس فقال : يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ فقال : يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم فقال : هكذا كان يقول من قبلك ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة فيقول : يا رب ماذا ؟ أشقي أم سعيد أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله فيكتبان ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص ] وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار به نحوه ومن طريق أخرى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري بنحوه والله أعلم
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول : أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله خلقها قال : أي رب ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ قال : فذلك يكتب في بطن أمه ] أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به
وقوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق قال : { فتبارك الله أحسن الخالقين } قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس قال : قال عمر يعني ابن الخطاب رضي الله عنه : وافقت ربي ووافقني في أربع : نزلت هذه الاية { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الاية قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت { فتبارك الله أحسن الخالقين } وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شيبان عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي عن زيد بن ثابت الأنصاري قال : أملى علي رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الاية { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر } فقال معاذ { فتبارك الله أحسن الخالقين } فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له معاذ : [ مم تضحك يا رسول الله ؟ فقال : بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين ] وفي إسناد جابر بن يزيد الجعفي ضعيف جدا وفي خبره هذا نكارة شديدة وذلك أن هذه السورة مكية وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضا فالله أعلم وقوله : { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } يعني النشأة الاخرة { ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } يعني يوم المعاد وقيام الأرواح إلى الأجساد فيحاسب الخلائق ويوفى كل عامل عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر (3/322)
لما ذكر تعالى خلق الإنسان عطف بذكر خلق السموات السبع وكثيرا ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض مع خلق الإنسان كما قال تعالى : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } وهكذا في أول { ألم } السجدة التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بها صبيحة يوم الجمعة في أولها خلق السموات والأرض ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين وفيها أمر المعاد والجزاء وغير ذلك من المقاصد
وقوله : { سبع طرائق } قال مجاهد : يعني السموات السبع وهذه كقوله تعالى : { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا } { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } وهكذا قال ههنا { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين } أي ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير وهو سبحانه لا يحجب عنه سماء سماء ولا أرض أرضا ولا جبل إلا يعلم ما في وعره ولا بحر إلا يعلم ما في قعره يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } (3/325)
يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر أي بحسب الحاجة لا كثيرا فيفسد الأرض والعمران ولا قليلا فلا يكفي الزروع والثمار بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرا لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر ويقال لها الأرض الجرز يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها فيأتي الماء يحمل طينا أحمر فيسقي أرض مصر ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور
وقوله : { فأسكناه في الأرض } أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض وجعلنا في الأرض قابلية له تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى وقوله : { وإنا على ذهاب به لقادرون } أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والقفار لفعلنا ولو شئنا لجعلناه أجاجا لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل ينجر على وجهها لفعلنا ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذبا فراتا زلالا فيسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض فيفتح العيون والأنهار ويسقي به الزروع والثمار وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون فله الحمد والمنة
وقوله : { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب } يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق { ذات بهجة } أي ذات منظر حسن وقوله : { من نخيل وأعناب } أي فيها نخيل وأعناب وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا فرق بين الشيء وبين نظيره وكذلك في حق كل أهل إقليم عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره وقوله : { لكم فيها فواكه كثيرة } أي من جميع الثمار كما قال : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات } وقوله : { ومنها تأكلون } كأنه معطوف على شيء مقدر تقديره تنظرون إلى حسنه ونضجه ومنه تأكلون
وقوله : { وشجرة تخرج من طور سيناء } يعني الزيتونة والطور هو الجبل وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر فإن عري عنها سمي جبلا لا طورا والله أعلم وطور سيناء هو طور سينين وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون وقوله : { تنبت بالدهن } قال بعضهم : الباء زائدة وتقديره تنبت الدهن كما في قول العرب : ألقى فلان بيده أي يده وأما على قول من يضمن الفعل فتقديره تخرج بالدهن أو تأتي بالدهن ولهذا قال : { وصبغ } أي أدم قاله قتادة { للآكلين } أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن عبد الله بن عيسى عن عطاء الشامي عن أبي أسيد واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ]
وقال عبد بن حميد في مسنده وتفسيره : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة ] ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه عن عبد الرزاق قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه وكان يضطرب فيه فربما ذكر فيه عمر وربما لم يذكره قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي حدثنا سفيان بن عيينة حدثني الصعب بن حكيم بن شريك بن نميلة عن أبيه عن جده قال : ضفت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة عاشوراء فأطعمني من رأس بعير بارد وأطعمنا زيتا وقال : هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه و سلم
وقوله : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى الفلك تحملون } يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم ويأكلون من حملانها ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ويركبون ظهورها ويحملونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم كما قال تعالى : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم } وقال تعالى : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون } (3/325)
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام حين بعثه إلى قومه لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله { فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } أي ألا تخافون من الله في إشراككم به ؟ فقال الملأ وهم السادة والأكابر منهم { ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم } يعنون يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة وهو بشر مثلكم فكيف أوحي إليه دونكم { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } أي لو أراد أن يبعث نبيا لبعث ملكا من عنده ولم يكن بشرا ما سمعنا بهذا أي ببعثة البشر في آبائنا الأولين يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم في الدهور الماضية وقوله : { إن هو إلا رجل به جنة } أي مجنون فيما يزعمه من أن الله أرسله إليكم واختصه من بينكم بالوحي { فتربصوا به حتى حين } أي انتظروا به ريب المنون واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه (3/327)
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا ربه ليستنصره على قومه كما قال تعالى مخبرا عنه في الاية الأخرى : { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } وقال ههنا : { رب انصرني بما كذبون } فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين أي ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك وأن يحمل فيهاأهله { إلا من سبق عليه القول منهم } أي من سبق عليه القول من الله بالهلاك وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته والله أعلم
وقوله : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } أي عند معاينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك وشفقة عليهم وطمع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن إعادة ذلك ههنا وقوله : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين } كما قال : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } وقد امتثل نوح عليه السلام هذا كما قال تعالى : { وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها } فذكر الله تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه وقال تعالى : { وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } وقوله : { إن في ذلك لآيات } أي إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لايات أي لحججا ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاؤوا به عن الله تعالى وأنه تعالى فاعل لما يشاء قادر على كل شيء عليم بكل شيء وقوله : { وإن كنا لمبتلين } أي لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين (3/327)
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنا آخرين قيل : المراد بهم عاد فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم وقيل : المراد بهؤلاء ثمود لقوله : { فأخذتهم الصيحة بالحق } وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكذبوه وخالفوه وأبوا عن اتباعه لكونه بشرا مثلهم واستنكفوا عن اتباع رسول بشري وكذبوا بلقاء الله في القيامة وأنكروا المعاد الجثماني وقالوا : { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون } أي بعيد بعيد ذلك { إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا } أي فيما جاءكم به من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد { وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرني بما كذبون } أي استفتح عليهم الرسول واستنصر ربه عليهم فأجاب دعاءه { قال عما قليل ليصبحن نادمين } أي بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به { فأخذتهم الصيحة بالحق } أي وكانوا يستحقون ذلك من الله بكفرهم وطغيانهم والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصرصر العاصف القوي الباردة { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } وقوله : { فجعلناهم غثاء } أي صرعى هلكى كغثاء السيل وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا ينتفع بشيء منه { فبعدا للقوم الظالمين } كقوله : { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } أي بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم (3/328)
يقول تعالى : { ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } أي أمما وخلائق { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } يعني بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه قبل كونهم أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وخلفا بعد سلف { ثم أرسلنا رسلنا تترا } قال ابن عباس يعني يتبع بعضهم بعضا وهذا كقوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } وقوله : { كلما جاء أمة رسولها كذبوه } يعني جمهورهم وأكثرهم كقوله تعالى : { يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } وقوله : { فأتبعنا بعضهم بعضا } أي أهلكناهم كقوله : { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } وقوله : { وجعلناهم أحاديث } أي أخبارا وأحاديث للناس كقوله : { فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق } (3/329)
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى فرعون وملئه بالايات والحجج الدامغات والبراهين القاطعات وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما لكونهما بشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر تشابهت قلوبهم فأهلك الله فرعون وملأه وأغرقهم في يوم واحد أجمعين وأنزل على موسى الكتاب وهو التوراة فيها أحكامه وأوامره ونواهيه وذلك بعد أن قصم الله فرعون والقبط وأخذهم أخذ عزيز مقتدر وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين كما قال تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون } (3/329)
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليهما السلام أنه جعلهما آية للناس أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى وقوله : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } قال الضحاك عن ابن عباس : الربوة المكان المرتفع من الأرض وهو أحسن ما يكون فيه النبات وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة
قال ابن عباس : وقوله : { ذات قرار } يقول ذات خصب { ومعين } يعني ماء ظاهرا وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وقال مجاهد : ربوة مستوية وقال سعيد بن جبير { ذات قرار ومعين } استوى الماء فيها وقال مجاهد وقتادة { ومعين } الماء الجاري ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة : من أي أرض هي ؟ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ليس الربى إلا بمصر والماء حين يسيل يكون الربى عليها القرى ولولا الربى غرقت القرى وروي عن وهب بن منبه نحو هذا وهو بعيد جدا
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } قال : هي دمشق قال : وروي عن عبد الله بن سلام والحسن وزيد بن أسلم وخالد بن معدان نحو ذلك وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس { ذات قرار ومعين } قال : أنهار دمشق وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد { وآويناهما إلى ربوة } قال : عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها وقال عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة قال : سمعت أبا هريرة يقول في قول الله تعالى : { إلى ربوة ذات قرار ومعين } قال : هي الرملة من فلسطين
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا رواد بن الجراح حدثنا عبد الله بن عباد الخواص أبو عتبة حدثنا الشيباني عن ابن وعلة عن كريب السحولي عن مرة البهذي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لرجل : [ إنك تموت بالربوة فمات بالرملة ] وهذا حديث غريب جدا وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } قال : المعين الماء الجاري وهوالنهر الذي قال الله تعالى : { قد جعل ربك تحتك سريا } وكذا قال الضحاك وقتادة { إلى ربوة ذات قرار ومعين } وهو بيت المقدس فهذا ـ والله أعلم ـ هو الأظهر لأنه المذكور في الاية الأخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا وهذا أولى ما يفسر به ثم الأحاديث الصحيحة ثم الاثار (3/330)
يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال والقيام بالصالح من الأعمال فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام وجمعوا بين كل خير قولا وعملا ودلالة ونصحا فجزاهم الله عن العباد خيرا قال الحسن البصري في قوله : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } قال : أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم ولكن قال : انتهوا إلى الحلال منه وقال سعيد بن جبير والضحاك { كلوا من الطيبات } يعني الحلال وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه وفي الصحيح [ وما من نبي إلا رعى الغنم قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ] وفي الصحيح [ إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده ] وفي الصحيحين [ إن أحب الصيام إلى الله صيام داود وأحب القيام إلى الله قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس قال : [ بعثت إلى النبي صلى الله عليه و سلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم وذلك في أول النهار وشدة الحر فرد إليها رسولها أنى كانت لك الشاة ؟ فقالت : اشتريتها من مالي فشرب منه فلما كان من الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت : يا رسول الله بعثت إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر فرددت إلي الرسول فيه فقال لها : بذلك أمرت الرسل : أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا ] وقد ثبت في صحيح مسلم وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد واللفظ له من حديث فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } وقال : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب فأنى يستحاب لذلك ] وقال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن مرزوق
وقوله : { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ولهذا قال { وأنا ربكم فاتقون } وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء وأن قوله { أمة واحدة } منصوب على الحال وقوله : { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا } أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء { كل حزب بما لديهم فرحون } أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون ولهذا قال متهددا لهم ومتوعدا : { فذرهم في غمرتهم } أي في غيهم وضلالهم { حتى حين } أي إلى حين حينهم وهلاكهم كما قال تعالى : { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } وقال تعالى : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون }
وقوله : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم { نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء ولهذا قال : { بل لا يشعرون } كما قال تعالى : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } الاية وقال تعالى : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } وقال تعالى : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم } الاية وقال : { ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا } وقال تعالى : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا } الاية والايات في هذا كثيرة
قال قتادة في قوله : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } قال : مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا : وما بوائقه يا رسول الله ؟ قال : غشمه وظلمه ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث ] (3/330)
يقول تعالى : { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون منه وجلون من مكره بهم كما قال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة وإن الكافر جمع إساءة وأمنا { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية كقوله تعالى إخبارا عن مريم عليها السلام : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } أي أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه وما شرعه الله فهو إن كان أمرا فمما يحبه ويرضاه وإن كان نهيا فهو مما يكرهه ويأباه وإن كان خيرا فهو حق كما قال الله : { والذين هم بربهم لا يشركون } أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له ولا كفء له
وقوله : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء وهذا من باب الإشفاق والاحتياط كما قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا مالك بن مغول حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة أنها قالت : [ يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز و جل ؟ قال : لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز و جل ] وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم من حديث مالك بن مغول بنحوه وقال [ لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم { أولئك يسارعون في الخيرات } ] وقال الترمذي : وروي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو هذا وهكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والحسن البصري في تفسير هذه الاية
وقد قرأ آخرون هذه الاية { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون وروي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه قرأها كذلك قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا صخر بن جويرية حدثنا إسماعيل المكي حدثنا أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقالت : [ مرحبا بأبي عاصم ما يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا ؟ فقال : أخشى أن أملك فقالت : ما كنت لتفعل ؟ قال : جئت لأسألك عن آية من كتاب الله عز و جل : كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرؤها ؟ قال : أية آية ؟ قال : { والذين يؤتون ما آتوا } { والذين يؤتون ما آتوا } فقالت : أيتهما أحب إليك ؟ فقلت : والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعا أو الدنيا وما فيها قالت وما هي ؟ فقلت : { والذين يؤتون ما آتوا } فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كذلك كان يقرؤها وكذلك أنزلت ] ولكن الهجاء حرف فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف والمعنى على القراءة الأولى وهي قراءة الجمهور السبعة وغيرهم أظهر لأنه قال : { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } فجعلهم من السابقين ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك أن لا يكونوا من السابقين بل من المقتصدين أو المقصرين والله أعلم (3/332)
يقول تعالى مخبرا عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي إلا ما تطيق حمله والقيام به وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء ولهذا قال : { ولدينا كتاب ينطق بالحق } يعني كتاب الأعمال { وهم لا يظلمون } أي لا يبخسون من الخير شيئا وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين ثم قال منكرا على الكفار والمشركين من قريش : { بل قلوبهم في غمرة } أي في غفلة وضلالة { من هذا } أي القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه و سلم
وقوله : { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس { ولهم أعمال } أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك { هم لها عاملون } قال : لا بد أن يعملوها كذا روي عن مجاهد والحسن وغير واحد وقال آخرون { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } أي قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة لتحق عليهم كلمة العذاب وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ظاهر قوي حسن وقد قدمنا في حديث ابن مسعود : [ فو الذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ]
وقوله : { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون } يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا عذاب الله وبأسه ونقمته بهم { إذا هم يجأرون } أي يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا * إن لدينا أنكالا وجحيما } الاية وقال تعالى : { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص } وقوله { لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر لزم الأمر ووجب العذاب ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال : { قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون } أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير }
وقوله : { مستكبرين به سامرا تهجرون } في تفسيره قولان ( أحدهما ) أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه استكبارا عليه واحتقارا له ولأهله فعلى هذا الضمير في به فيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه الحرم أي مكة ذموا لأنهم كانوا يسمرون فيه بالهجر من الكلام ( والثاني ) أنه ضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام : إنه سحر إنه شعر إنه كهانة إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة ( والثالث ) أنه محمد صلى الله عليه و سلم كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ويضربون له الأمثال الباطلة من أنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو كذاب أو مجنون فكل ذلك باطل بل هو عبد الله ورسوله الذي أظهره الله عليهم وأخرجهم من الحرم صاغرين أذلاء وقيل المراد بقوله : { مستكبرين به } أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به كما قال النسائي من التفسير في سننه : أخبرنا أحمد بن سليمان أخبرنا عبد الله عن إسرائيل عن عبد الأعلى أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال : إنما كره السمر حين نزلت هذه الاية { مستكبرين به سامرا تهجرون } فقال : مستكبرين بالبيت يقولون : نحن أهله سامرا قال : كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه وقد أطنب ابن أبي حاتم ههنا بما هذا حاصله (3/333)
يقول تعالى منكرا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلى الله عليه و سلم ورضي عنهم وقال قتادة { أفلم يدبروا القول } إذ والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك ثم قال منكرا على الكافرين من قريش : { أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون } أي أفهم لا يعرفون محمدا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه ولهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك إن الله بعث فينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه و سلم ونسبه وصدقه وأمانته وكانوا بعد كفارا لم يسلموا ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك وقوله : { أم يقولون به جنة } يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنونا لا يدري ما يقول وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الابدين ولهذا قال : { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة والله أعلم
وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم لقي رجلا فقال له [ أسلم فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم : وإن كنت كارها ] وذكر لنا أنه لقي رجلا فقال له [ أسلم فتصعده ذلك وكبر عليه فقال له نبي الله صلى الله عليه و سلم أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث فلقيت رجلا تعرف وجهه وتعرف نسبه فدعاك إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه ؟ قال : نعم قال : فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه ] وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم لقي رجلا فقال له [ أسلم فتصعده ذلك فقال له نبي الله صلى الله عليه و سلم : أرأيت لو كان فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك وإذا ائتمنته أدى إليك أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك ؟ قال : بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم كذاكم أنتم عند ربكم ]
وقوله : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } قال مجاهد وأبو صالح والسدي : الحق هو الله عز و جل والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافها كما أخبر عنهم في قولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } ثم قال : { أهم يقسمون رحمة ربك } وقال تعالى : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق } الاية وقال تعالى : { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } ففي هذا كله تبين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس فلا إله غيره ولا رب سواه ولهذا قال : { بل أتيناهم بذكرهم } أي القرآن { فهم عن ذكرهم معرضون }
وقوله : { أم تسألهم خرجا } قال الحسن : أجرا وقال قتادة : جعلا { فخراج ربك خير } أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه كما قال : { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } وقال : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } وقال : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } وقال : { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا }
وقوله : { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون } قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه فيما يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رجليه والاخر عند رأسه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته فقال : إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم قال : فانطلق بهم وأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا : بلى قال : فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني قال : فقالت طائفة : صدق والله لنتبعنه وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه ]
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا زهير حدثنا يونس بن محمد حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض فتردون علي معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي أي رب أمتي فيقال : يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي : يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء ينادي : يا محمد يا محمد فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة فينادي : يا محمد يا محمد فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي : يا محمد يا محمد فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت ] وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن الإسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي ( قلت ) بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق وقال فيه يحيى بن معين : صالح ووثقه النسائي وابن حبان
وقوله : { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون } أي لعادلون جائرون منحرفون تقول العرب : نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها وقوله : { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولا ستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم كما قال تعالى { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } وقال : { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون * وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون قال الضحاك عن ابن عباس : كل ما فيه { لو } فهو مما لا يكون أبدا (3/334)
يقول تعالى : { ولقد أخذناهم بالعذاب } أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد { فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } أي فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة بل استمروا على غيهم وضلالهم { فما استكانوا } أي ما خشعوا { وما يتضرعون } أي ما دعوا كما قال تعالى : { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن حمزة المروزي حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبي عن يزيد ـ يعني النحوي ـ عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز ـ يعني الوبر والدم ـ فأنزل الله { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا } الاية وكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل عن علي بن الحسين عن أبيه به وأصله في الصحيحين [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا على قريش حين استعصوا فقال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان حدثني وهب بن عمر بن كيسان قال حبس وهب بن منبه فقال له رجل من الأبناء : ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله ؟ فقال وهب : نحن في طرف من عذاب الله والله يقول : { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } قال : وصام وهب ثلاثا متواصلة فقيل له : ما هذا الصوم يا أبا عبد الله ؟ قال : أحدث لنا فأحدثنا يعني أحدث لنا الحبس فأحدثنا زيادة عبادة
وقوله : { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون } أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون فعند ذلك أبلسوا من كل خير وأيسوا من كل راحة وانقطعت آمالهم ورجاؤهم ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة وهي العقول والفهوم التي يذكرون بها الأشياء ويعتبرون بما في الكون من الايات الدالة على وحدانية الله وأنه الفاعل المختار لما يشاء
وقوله : { قليلا ما تشكرون } أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم كقوله : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر في برئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والاخرين لميقات يوم معلوم فلا يترك منهم صغيرا ولا كبيرا ولا ذكرا ولا أنثى ولا جليلا ولا حقيرا إلا أعاده كما بدأه ولهذا قال : { وهو الذي يحيي ويميت } أي يحيي الرمم ويميت الأمم { وله اختلاف الليل والنهار } أي وعن أمره تسخير الليل والنهار كل منهما يطلب الاخر طلبا حثيثا يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما كقوله : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار } الاية
وقوله : { أفلا تعقلون } أي أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي قد قهر كل شيء وعز كل شيء وخضع له كل شيء ثم قال مخبرا عن منكري البعث الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين { بل قالوا مثل ما قال الأولون * قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى { لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين } يعنون الإعادة محال إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلافهم وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إخبارا عنهم { أإذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة * فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة } وقال تعالى : { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } الايات (3/337)
يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية وأنه لا شريك له فيها ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا غيره معه مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئاولايملكون شيئا ولا يستبدون بشيء بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فقال : { قل لمن الأرض ومن فيها ؟ } أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات { إن كنتم تعلمون * سيقولون لله } أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له فإذا كان ذلك { قل أفلا تذكرون } أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرزاق لا لغيره { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم } ؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات ومن هو رب العرش العظيم يعني الذي هو سقف المخلوقات كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سمواته هكذا ] وأشار بيده مثل القبة وفي الحديث الاخر [ ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة ] ولهذا قال بعض السلف : إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة وقال الضحاك عن ابن عباس : إنما سمي عرشا لارتفاعه
وقال الأعمش عن كعب الأحبار : إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلق بين السماء والأرض وقال مجاهد : ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فلاة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العلاء بن سالم حدثنا وكيع حدثنا سفيان الثوري عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : العرش لا يقدر قدره أحد وفي رواية : إلا الله عز و جل وقال بعض السلف : العرش من يا قوتة حمراء ولهذا قال ههنا : { ورب العرش العظيم } أي الكبير وقال في آخر السورة { رب العرش الكريم } أي الحسن البهي فقد جمع العرش بين العظمة في الإتساع والعلو والحسن الباهر ولهذا قال من قال إنه من يا قوتة حمراء وقال ابن مسعود : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور العرش من نور وجهه
وقوله : { سيقولون لله قل أفلا تتقون } أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب التفكر والإعتبار : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبيد الله بن جعفر أخبرني عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرا ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل معها ابن لها يرعى غنما فقال لها ابنها : يا أمه من خلقك ؟ قالت : الله قال فمن خلق أبي قالت : الله قال : فمن خلقني ؟ قالت : الله قال : فمن خلق السموات ؟ قالت : الله قال : فمن خلق الأرض ؟ قالت : الله قال : فمن خلق الجبل ؟ قالت : الله قال : فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت : الله قال : فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع ] قال ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرا ما يحدثنا هذا الحديث قال عبد الله بن دينار : كان ابن عمر كثيرا ما يحدثنا بهذا الحديث قلت : في إسناده عبد الله بن جعفر المديني والد الإمام علي بن المديني وقد تكلموا فيه فالله أعلم
{ قل من بيده ملكوت كل شيء } أي بيده الملك { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } أي متصرف فيها وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا والذي نفسي بيده وكان إذا اجتهد في اليمين قال لا ومقلب القلوب ] فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف { وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون } كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدا لا يحفر في جواره وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه ولهذا قال الله : { وهو يجير ولا يجار عليه } أي وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه الذي لا يمانع ولا يخالف وما شاء كان ومالم يشأ لم يكن وقال الله : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } أي لا يسأل عما يفعل لعظمته وكبريائه وغلبته وقهره وحكمته وعدله فالخلق كلهم يسألون عن أعمالهم كما قال تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون }
وقوله : { سيقولون لله } أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له { قل فأنى تسحرون } أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك ثم قال تعالى : { بل أتيناهم بالحق } وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك { وإنهم لكاذبون } أي في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك كما قال في آخر السورة { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال وإنما يفعلون ذلك اتباعا لابائهم وأسلافهم الحيارى الجهال كما قال الله عنهم : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } (3/338)
ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة فقال تعال : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } أي لو قدر تعدد الالهة لانفرد كل منهم بما خلق فما كان ينتظم الوجود والمشاهد أن الوجود منتظم متسق كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } ثم لكان كل منهم يطلب قهر الاخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض والمتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل التمانع وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا فأراد واحد تحريك جسم والاخر أراد سكونه فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين والواجب لا يكون عاجزا ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد فيكون محالا فأما إن حصل مراد أحدهما دون الاخر كان الغالب هو الواجب والاخر المغلوب ممكنا لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا ولهذا قال تعالى : { ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } أي عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا { عالم الغيب والشهادة } أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه { فتعالى عما يشركون } اي تقدس وتنزه وتعالى وD عما يقول الظالمون والجاحدون (3/340)
يقول تعالى آمرا نبيه محمدا صلى الله عليه و سلم أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم { رب إما تريني ما يوعدون } أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك فلا تجعلني فيهم كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه [ وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون ] وقوله تعالى : { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } اي لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن ثم قال تعالى مرشدا له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة فقال تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } وهذا كما قال في الاية الأخرى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا } الاية اي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة أو الصفة { إلا الذين صبروا } اي على أذى الناس فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم القبيح { وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } أي في الدنيا والاخرة
وقوله تعالى : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } أمره الله أن يستعيذ من الشياطين لأنهم لا تنفع معهم الحيل ولا ينقادون بالمعروف وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ] وقوله تعالى : { وأعوذ بك رب أن يحضرون } أي في شيء من أمري ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ اللهم إني أعوذ بك من الهرم وأعوذ بك الهدم ومن الغرق وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت ] وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع : [ بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ] قال فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث محمد بن إسحاق وقال الترمذي : حسن غريب (3/341)
يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى وقيلهم عند ذلك وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ولهذا قال : { رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا } كما قال تعالى : { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون } وقال تعالى { وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } وقال تعالى : { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } وقال تعالى : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون } وقال تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } وقال تعالى : { وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل } وقال تعالى : { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل } والاية بعدها وقال تعالى : { وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير } فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار ويوم النشور ووقت العرض على الجبار وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب الجحيم
وقوله ههنا : { كلا إنها كلمة هو قائلها } كلا حرف ردع وزجر أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه وقوله تعالى : { إنها كلمة هو قائلها } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله كلا أي لأنها كلمة أي سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه وقول لا عمل معه ولو رد لما عمل صالحا ولكان يكذب في مقالته هذه كما قال تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } قال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز و جل فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار
وقال محمد بن كعب القرظي { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت } قال : فيقول الجبار : { كلا إنها كلمة هو قائلها } وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة : إذا قال الكافر رب ارجعون لعلي أعمل صالحا يقول الله تعالى : كلا كذبت وقال قتادة في قوله تعالى : { حتى إذا جاء أحدهم الموت } قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى وقال قتادة : والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ولا قوة إلا بالله وعن محمد بن كعب القرظي نحوه وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يوسف حدثنا فضيل ـ يعني ابن عياض ـ عن ليث عن طلحة بن مصرف عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : إذا وضع ـ يعني الكافر ـ في قبره فيرى مقعده من النار قال : فيقول : رب ارجعون أتوب وأعمل صالحا قال : فيقال قد عمرت ما كنت معمرا قال : فيضيق عليه قبره ويلتئم فهو كالمنهوش ينام ويفزع تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها
وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا عمر بن علي حدثني سلمة بن تمام حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم حية عند رأسه وحية عند رجليه يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى : { ومن ورائهم } يعني أمامهم وقال مجاهد : البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والاخرة وقال محمد بن كعب : البرزخ ما بين الدنيا والاخرة ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ولا مع أهل الاخرة يجازون بأعمالهم وقال أبو صخر : البرزخ المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الاخرة فهم مقيمون إلى يوم يبعثون وفي قوله تعالى : { ومن ورائهم برزخ } تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ كما قال تعالى : { من ورائهم جهنم } وقال تعالى : { ومن ورائه عذاب غليظ } وقوله تعالى : { إلى يوم يبعثون } أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث كما جاء في الحديث [ فلا يزال معذبا فيها ] أي في الأرض (3/341)
يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور وقام الناس من القبور { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرني والد لولده ولا يلوي عليه قال الله تعالى : { ولا يسأل حميم حميما * يبصرونهم } أي لايسأل القريب عن قريبه وهو يبصره ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة قال الله تعالى : { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه } الاية وقال ابن مسعود : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والاخرين ثم نادى مناد : ألا من كان له مظلمة فليجىء فليأخذ حقه ـ قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب الله قال الله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } رواه ابن أبي حاتم
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عبد الله بن جعفر حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور ـ هو ابن مخرمة ـ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فاطمة بضعة مني يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري ] وهذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما آذاها ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر حدثنا زهير عن عبد الله بن محمد عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول على هذا المنبر : ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تنفع قومه ؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والاخرة وإني أيها الناس فرط لكم إذا جئتم قال رجل : يا رسول الله أنا فلان بن فلان فأقول لهم : أما النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى ] وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال : أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ] رواه الطبراني والبزار والهيثم بن كليب والبيهقي والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفا إعظاما وإكراما رضي الله عنه فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم من طريق أبي القاسم البغوي : حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع حدثنا إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري ] وروي فيها من طريق عمار بن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا [ سألت ربي عز و جل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلي أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك ] ومن حديث عمار بن سيف عن إسماعيل عن عبد الله بن عمرو
وقوله تعالى : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة قاله ابن عباس { فأولئك هم المفلحون } أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة وقال ابن عباس : أولئك الذين فازوا بما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا { ومن خفت موازينه } أي ثقلت سيئاته على حسناته { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } أي خابوا وهلكوا وفازوا بالصفقة الخاسرة وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن ثابت البناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان عن أنس بن مالك يرفعه قال : إن لله ملكا موكلا بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا إسناده ضيعف فإن داود بن المحبر ضعيف متروك ولهذا قال تعالى : { في جهنم خالدون } أي ما كثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون { تلفح وجوههم النار } كما قال تعالى : { وتغشى وجوههم النار } وقال تعالى : { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم } الاية
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب ] وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القزاز حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القطان حدثنا سعيد بن سعيد المقبري عن أخيه عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول الله تعالى : { تلفح وجوههم النار } قال : تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم
وقوله تعالى : { وهم فيها كالحون } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني عابسون وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود { وهم فيها كالحون } قال : ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت شفتاه وقال الإمام أحمد أخبرنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك رحمه الله أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ { وهم فيها كالحون } ـ قال ـ تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته ] ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به وقال : حسن غريب (3/343)
هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك فقال تعالى : { ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } أي قد أرسلت إليكم الرسل وأنزلت عليكم الكتب وأزلت شبهكم ولم يبق لكم حجة كما قال تعالى : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير * وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير } ولهذا قالوا : { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين } أي قد قامت علينا الحجة ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها فضللنا عنها ولم نرزقها ثم قالوا : { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } أي ارددنا إلى الدنيا فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة كما قال : { فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير } أي لا سبيل إلى الخروج لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون (3/345)
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار يقول { اخسؤوا فيها } أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء { ولا تكلمون } أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي قال العوفي عن ابن عباس { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } قال : هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان المروزي حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم إنكم ماكثون قال هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك ثم يدعون ربهم فيقولون { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } قال : فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير وآخرها شهيق
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل حدثنا أبو الزعراء قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله تعالى أن لا يخرج منهم أحدا يعني من جهنم غير وجوههم وألوانهم فيجيء الرجل من المؤمنين فيشفع فيقول : يا رب فيقول الله : من عرف أحدا فليخرجه فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر فلا يعرف أحدا فيناديه الرجل : يا فلان أنا فلان فيقول ما أعرفك قال : فعند ذلك يقولون { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } فعند ذلك يقول الله تعالى : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد
ثم قال تعالى مذكرا لهم بذنوبهم في الدنيا وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه فقال تعالى : { إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا } أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي { حتى أنسوكم ذكري } أي حملكم بغضهم على أن نسيتم معاملتي { وكنتم منهم تضحكون } أي من صنيعهم وعبادتهم كما قال تعالى : { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون } أي يلمزونهم استهزاء : ثم أخبر تعالى عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين فقال تعالى : { إني جزيتهم اليوم بما صبروا } أي على أذاكم لهم واستهزائكم بهم { أنهم هم الفائزون } بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار (3/345)
يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين } أي كم كانت إقامتكم في الدنيا { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين } أي الحاسبين { قال إن لبثتم إلا قليلا } أي مدة يسيرة على كل تقدير { لو أنكم كنتم تعلمون } اي لما آثرتم الفاني على الباقي ولما تصرفتم لأنفسكم هذا التصرف السيء ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة فلو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن يونس حدثنا الوليد حدثنا صفوان عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال : يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ـ قال ـ لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ثم قال : يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين ]
وقوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا وقيل : للعبث أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عز و جل { وأنكم إلينا لا ترجعون } أي لا تعودون في الدار الاخرة كما قال تعالى : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } يعني هملا وقوله : { فتعالى الله الملك الحق } أي تقدس أن يخلق شيئا عبثا فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك { لا إله إلا هو رب العرش الكريم } فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات ووصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل كما قال تعالى : { أنبتنا فيها من كل زوج كريم }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا إسحاق بن سليمان شيخ من أهل العراق أنبأنا شعيب بن صفوان عن رجل من آل سعيد بن العاص قال : كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته وحرم جنة عرضها السموات والأرض ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه وباع نافدا بباق وقليلا بكثير وخوفا بأمان ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين وسيكون من بعدكم الباقين حتى تردون إلى خير الوارثين ؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز و جل قد قضى نحبه وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير ممهد ولا موسد قد فارق الأحباب وباشر التراب ووجه الحساب مرتهن بعمله غني عما ترك فقير إلى ما قدم فاتقوا الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن نصير الخولاني حدثنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن أبي هبيرة عن حسن بن عبد الله أن رجلا مصابا مر به عبد الله بن مسعود فقرأ في أذنه هذه الاية { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق } حتى ختم السورة فبرأ فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بماذا قرأت في أذنه ؟ فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال ] وروى أبو نعيم من طريق خالد بن نزار عن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي حدثنا أبو المسيب سالم بن سلام حدثنا بكر بن حبيش عن نهشل بن سعيد عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة باسم الله الملك الحق وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ] (3/346)
يقول تعالى متوعدا من أشرك به غيره وعبد معه سواه ومخبرا أن من أشرك بالله لا برهان له أي لا دليل له على قوله فقال تعالى : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } وهذه جملة معترضة وجواب الشرط في قوله : { فإنما حسابه عند ربه } أي الله يحاسبه على ذلك ثم أخبر { إنه لا يفلح الكافرون } أي لديه يوم القيامة لا فلاح لهم ولا نجاة قال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال لرجل : [ ما تعبد ؟ قال : أعبد الله وكذا وكذا حتى عد أصناما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ؟ قال : الله عز و جل قال فأيهم إذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها ؟ ] قال : الله عز و جل قال : [ فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه أم حسبت أن تغلب عليه ؟ ] قال : أردت شكره بعبارة هؤلاء معه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ تعلمون ولا يعلمون ] فقال الرجل بعد ما أسلم : لقيت رجلا خصمني هذا مرسل من هذا الوجه وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسندا عن عمران بن الحصين عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو ذلك وقوله تعالى : { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } هذا إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء فالغفر إذا أطلق ومعناه محو الذنب وستره عن الناس والرحمة معناها أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال
آخر تفسير سورة المؤمنون (3/348)
سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم (3/348)
يقول تعالى : هذه { سورة أنزلناها } فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها { وفرضناها } قال مجاهد وقتادة : أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود وقال البخاري : ومن قرأ فرضناها يقول فرضناها عليكم وعلى من بعدكم { وأنزلنا فيها آيات بينات } أي مفسرات واضحات { لعلكم تذكرون } ثم قال تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } هذه الاية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد وللعلماء فيه تفصيل ونزاع فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا وهو الذي لم يتزوج أو محصنا وهو الذي قد وطى في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فأما إذا كان بكرا لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما في الاية ويزاد على ذلك أن يغرب عاما عن بلده عند جمهور العلماء خلافا لأبي حنيفة رحمه الله فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام : إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقال أحدهما : يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا ـ يعني أجيرا ـ على هذا فزنى بامرأته فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس ـ لرجل من أسلم ـ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها ] ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج فأما إذا كان محصنا وهو الذي قد وطى في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فإنه يرجم
كما قال الإمام مالك حدثني محمد بن شهاب أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عباس أخبره أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا بعده فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا وهذه قطعة منه فيها مقصودنا ههنا
وروى الإمام أحمد عن هشيم عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا وإن أناسا يقولون مابال الرجم ؟ في كتاب الله الجلد وقد رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا بعده ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت به وأخرجه النسائي من حديث عبيد الله بن عبد الله به وقد روى الإمام أحمد أيضا عن هشيم عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر الرجم فقال : لا تخدعن عنه فإنه حد من حدود الله تعالى ألا وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رجم ورجمنا بعده ولولا أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف وشهد عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رجم ورجمناه بعده ألا إنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا
وروى أحمد أيضا عن يحيى القطان عن يحيى الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب [ إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ] الحديث رواه الترمذي من حديث سعيد عن عمر وقال صحيح وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن عون عن محمد هو ابن سيرين قال : نبئت عن كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت : كنا نقرأ : [ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ] قال مروان : ألا كتبتها في المصحف ؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب فقال : أنا أشفيكم من ذلك قال : قلنا فكيف ؟ قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : فذكر كذا وكذا وذكر الرجم فقال : يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال [ لا أستطيع الان ] هذا أو نحو ذلك وقد رواه النسائي من حديث محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت عن زيد بن ثابت به وهذه طرق كلها متعددة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولا به والله أعلم
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجم هذه المرأة وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زنت مع الأجير ورجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ماعزا والغامدية وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم جلدهم قبل الرجم وإنما وردت الأحاديث الصحاح المتعددة الطرق والألفاظ بالإقتصار على رجمهم وليس فيها ذكر الجلد ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للاية والرجم للسنة
كما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما أتى بسراحة وكانت قد زنت وهي محصنة فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة فقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة و مسلم من حديث قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] وقوله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } أي في حكم الله أي لا ترحموهما وترأفوا بهما في شرع الله وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية على إقامة الحد وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك قال مجاهد { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل وكذا روي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقد جاء في الحديث [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] وفي الحديث الاخر [ لحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا ] وقيل المراد { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم وليس المراد الضرب المبرح
قال عامر الشعبي { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } قال : رحمة في شدة الضرب وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرح وقال سعيد بن أبي عروبة عن حماد بن أبي سليمان : يجلد القاذف وعليه ثيابه والزاني تخلع ثيابه ثم تلا { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فقلت هذا في الحكم ؟ قال : هذا في الحكم والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة الضرب وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمرو عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها قال نافع : أراه قال وظهرها قال قلت { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } قال : يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها وقد أوجعت حين ضربتها وقوله تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } أي فافعلوا ذلك وأقيموا الحدود على من زنى وشددوا عليه الضرب ولكن ليس مبرحا ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها : فقال [ ولك في ذلك أجر ]
وقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما وأنجع في ردعهما فإن في ذلك تقريعا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا قال الحسن البصري في قوله { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } يعني علانية : ثم قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } الطائفة الرجل فما فوقه وقال مجاهد : الطائفة رجل إلى ألف وكذا قال عكرمة ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدق على واحد وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان وبه قال إسحاق بن راهويه وكذا قال سعيد بن جبير { طائفة من المؤمنين } قال : يعني رجلين فصاعدا وقال الزهري : ثلاثة نفر فصاعدا
وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وهب عن الإمام مالك في قوله { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } قال : الطائفة أربعة نفر فصاعدا لأنه لا يكفي شهادة في الزنا دون أربعة شهداء فصاعدا وبه قال الشافعي وقال ربيعة : خمسة وقال الحسن البصري : عشرة وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين أي نفر من المسلمين ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا بقية قال : سمعت نصر بن علقمة يقول في قوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } قال : ليس ذلك للفضيحة إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة (3/348)
هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك وكذلك { الزانية لا ينكحها إلا زان } أي عاص بزناه { أو مشرك } لا يعتقد تحريمه قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } قال : ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك وهذا إسناد صحيح عنه وقد روي عنه من غير وجه أيضا وقد روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والضحاك ومكحول ومقاتل بن حيان وغير واحد نحو ذلك
وقوله تعالى : { وحرم ذلك على المؤمنين } أي تعاطيه والتزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال الفجار وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا قيس عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وحرم ذلك على المؤمنين } قال : حرم الله الزنا على المؤمنين وقال قتادة ومقاتل بن حيان : حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا وتقدم ذلك فقال { وحرم ذلك على المؤمنين } وهذه الاية كقوله تعالى : { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } وقوله { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } الاية ومن ههنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى : { وحرم ذلك على المؤمنين }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم حدثنا معتمر بن سليمان قال أبي حدثنا الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا من المؤمنين استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه قال فاستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو ذكر له أمرها قال : فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين }
وقال النسائي : أخبرنا عمرو بن عدي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتزوجها فأنزل الله عز و جل : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين }
وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد حدثنا روح بن عبادة عن عبيد الله بن الأخنس أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة قال وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وإنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط فلما انتهت إلي عرفتني فقالت : مرثد ؟ فقلت : مرثد فقالت : مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة قال : فقلت : يا عناق حرم الله الزنا فقالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال : فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة فانتهيت إلى غار أو كهف فدخلت فيه فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فبالوا : فظل بولهم على رأسي فأعماهم الله عني قال : ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر ففككت عنه أحبله فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقا أنكح عناقا ـ مرتين ؟ ـ فأمسك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يرد علي شيئا حتى نزلت { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا مرثد : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها ] ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقد رواه أبو داود والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس به
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا مسدد أبو الحسن حدثنا عبد الوارث عن حبيب المعلم حدثني عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله ] وهكذا أخرجه أبو داود في سننه عن مسدد وأبي معمر عن عبد الله بن عمر كلاهما عن عبد الوارث به وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أخيه عمر بن محمد عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال : أشهد لسمعت سالما يقول : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث وثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان بما أعطى ] ورواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس عن يزيد بن زريع عن عمر بن محمد العمري عن عبد الله بن يسار به
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يعقوب حدثنا الوليد بن كثير عن قطن بن وهب عن عويمر بن الأجدع عمن حدثه عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : حدثني عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ثلاثة حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث الذي يقر في أهله الخبث ] وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثني شعبة حدثني رجل من آل سهل بن حنيف عن محمد بن عمار عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يدخل الجنة ديوث ] يستشهد به لما قبله من الأحاديث
وقال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار حدثنا سلام بن سوار حدثنا كثير بن سليم عن الضحاك بن مزاحم سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر فليتزوج الحرائر ] في إسناده ضعف وقال الإمام أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح في اللغة : الديوث القنزع وهو الذي لا غيرة له فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب النكاح من سننه : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن علية عن يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة وغيره عن هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير وعبد الكريم عن عبد الله بن عبيد عمير عن ابن عباس عبد الكريم رفعه إلى ابن عباس وهارون لم يرفعه قالا : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن عندي امرأة هي من أحب الناس إلي وهي لا تمنع يد لامس ؟ قال [ طلقها قال : لا صبر لي عنها قال استمتع بها ] ثم قال النسائي : هذا الحديث غير ثابت و عبد الكريم ليس بالقوي و هارون أثبت منه وقد أرسل الحديث وهو ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم قلت : وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث وقد خالفه هارون بن رئاب وهو تابعي ثقة من رجال مسلم فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي لكن قد رواه النسائي في كتاب الطلاق عن إسحاق بن راهويه عن النضر بن شميل عن حماد بن سلمة عن هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس مسندا فذكره بهذا الإسناد فرجاله على شرط مسلم إلا أن النسائي بعد روايته له قال : هذا خطأ والصواب مرسل ورواه غير النضر على الصواب
وقد رواه النسائي أيضا وأبو داود عن الحسين بن حريث أخبرنا الفضل بن موسى أخبرنا الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره وهذا الإسناد جيد وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مضعف له كما تقدم عن النسائي ومنكر كما قال الإمام أحمد : هو حديث منكر وقال ابن قتيبة : إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم فقال وقيل : سخية تعطي ورد هذا بأن لو كان المراد لقال : لا ترد يد ملتمس وقيل المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس لا أن المراد أن هذا واقع منها وأنها تفعل الفاحشة فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثا وقد تقدم الوعيد على ذلك ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم بفراقها فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها لأن محبته لها محققة ووقوع الفاحشة منها متوهم فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الاجل والله سبحانه وتعالى أعلم
قالوا فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج كما قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد عن ابن أبي ذئب قال : سمعت شعبة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت ابن عباس وسأله رجل فقال : إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز و جل علي فرزقني الله عز و جل من ذلك توبة فأردت أن أتزوجها فقال أناس : إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فقال ابن عباس : ليس هذا في هذا انكحها فما كان من إثم فعلي وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الاية منسوخة قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : ذكر عنده { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } قال : كان يقال نسختها التي بعدها { وأنكحوا الأيامى منكم } قال : كان يقال الأيامى من المسلمين وهكذا رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ له عن سعيد بن المسيب ونص على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (3/351)
هذه الاية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة هي الحرة البالغة العفيفة فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضا وليس في هذا نزاع بين العلماء فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله درأ عنه الحد ولهذا قال تعالى : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام : ( أحدها ) أن يجلد ثمانين جلدة ( الثاني ) أنه ترد شهادته أبدا ( الثالث ) أن يكون فاسقا ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس
ثم قال تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } الاية واختلف العلماء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ أما الجلد فقد ذهب وانقضى سواء تاب أو أصر ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف فذهب الإمام مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته وارتفع عنه حكم الفسق ونص عليه سعيد بن المسيب سيد التابعين وجماعة من السلف أيضا وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط فيرتفع الفسق بالتوبة ويبقى مردود الشهادة أبدا وممن ذهب إليه من السلف القاضي شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد بن جابر وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان فحينئذ تقبل شهادته والله أعلم (3/354)
هذه الاية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة أن يلاعنها كما أمر الله عز و جل وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين أي فيما رماها به من الزنا { والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } فإذا قال ذلك بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء وحرمت عليه أبدا ويعطيها مهرها ويتوجب عليها حد الزنا ولا يدرأ عنهاالعذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين أي فيما رماها به { والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } ولهذا قال { ويدرأ عنها العذاب } يعني الحد { أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } فخصها بالغضب كما أن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلا وهو صادق معذور وهي تعلم صدقه فيما رماها به ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه
ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق فقال تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } أي لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم { وأن الله تواب } أي على عباده وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة { حكيم } فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الاية وذكر سبب نزولها وفيمن نزلت فيه من الصحابة
فقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه : أهكذا أنزلت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ فقالوا : يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته فقال سعد : والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته ـ قال : فما لبثوا إلا يسيرا ـ حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار وقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الان يضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا وقال هلال يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله يعلم إني لصادق فو الله إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم الوحي وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } الاية ] فسري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عز و جل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم عليهما فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الاخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت : كذب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لاعنوا بينهما فقيل لهلال : اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل له : يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم قيل للمرأة : اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين وقيل لها عند الخامسة : اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت لها من أجل أن يفترقا من غير طلاق ولا متوفى عنها وقال إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين فهو لهلال وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو الذي رميت به فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لولا الأيمان لكان لي ولها شأن [ قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرا على مصر وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب ورواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يزيد بن هارون به نحوه مختصرا
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة فمنها ما قال البخاري : حدثني محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن هشام بن حسان حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه و سلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه و سلم ] البينة أوحد في ظهرك فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يقول البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه { والذين يرمون أزواجهم } إلى قوله { إن كان من الصادقين } فانصرف النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه و سلم يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت فلما كان في الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي صلى الله عليه و سلم أبصروها فان جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي و لها شأن [ انفرد به البخاري من هذا الوجه وقد رواه من غير وجه عن ابن عباس وغيره
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا صالح وهو ابن عمر حدثنا عاصم يعني ابن كليب عن أبيه حدثني ابن عباس قال : جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرمى امرأته برجل فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يزل يردده حتى أنزل الله تعالى { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء } فقرأ حتى فرغ من الايتين فأرسل إليهما فدعاهما فقال : ] إن الله تعالى قد أنزل فيكما فدعا الرجل فقرأ عليه فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه فقال له كل شيء أهون عليه من لعنة الله ثم أرسله فقال لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين ثم أمر فأمسك على فيها فوعظها وقال : ويحك كل شيء أهون من غضب الله ثم أرسلها فقالت : غضب الله عليها إن كان من الصادقين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما والله لأقضين بينكما قضاء فصلا قال : فولدت فما رأيت مولودا بالمدينة أكثر غاشية منه فقال إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا وإن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا فجاءت به يشبه الذي قذفت به [
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال : سمعت سعيد بن جبير قال : ] سئلت عن المتلاعنين أيفرق بينهما في إمارة ابن الزبير فما دريت ما أقول فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلت : يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ فقال : سبحان الله إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك فسكت فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله تعالى هذه الايات في سورة النور { والذين يرمون أزواجهم } حتى بلغ { أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } فبدأ بالرجل فوعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة فقال : والذي بعثك بالحق ما كذبتك ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة فقالت المرأة : والذي بعثك بالحق إنه لكاذب قال : فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما [ رواه النسائي في التفسير من حديث عبد الملك بن أبي سليمان به وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن حماد حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ والله لئن أصبحت صالحا لأسألن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فسأله فقال : ] يا رسول الله إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتل قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ اللهم احكم قال : فأنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به انفرد بإخراجه مسلم فرواه من طرق عن سليمان بن مهران الأعمش به
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن سهل بن سعد قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال له : [ سل رسول الله صلى الله عليه و سلم أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله أيقتل به أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه و سلم فعاب رسول الله صلى الله عليه و سلم المسائل قال : فلقيه عويمر فقال : ما صنعت ؟ قال : ما صنعت إنك لم تأتني بخير سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فعاب المسائل فقال عويمر : والله لاتين رسول الله صلى الله عليه و سلم فلأسألنه فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما قال : فدعا بهما فلاعن بينهما قال عويمر : لئن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها قال : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم فصارت سنة المتلاعنين وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا فجاءت به على النعت المكروه ] أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عن الزهري به
ورواه البخاري أيضا من طرق عن الزهري به فقال : حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع حدثنا فليح عن الزهري عن سهل بن سعد أن رجلا [ أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا رأى مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فأنزل الله تعالى فيهما ما ذكر في القرآن من التلاعن فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد قضى فيك وفي امرأتك قال : فتلاعنا وأنا شاهد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ففارقها فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين وكانت حاملا فأنكر حملها وكان ابنها يدعى اليها ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها ]
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسحاق بن الضيف حدثنا النضر بن شميل حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن زيد بن بتيع عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر [ لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : كنت والله فاعلا به شرا قال : فأنت يا عمر ؟ قال : كنت والله فاعلا كنت أقول : لعن الله الأعجز فإنه خبيث قال : فنزلت { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } ] ثم قال : لا نعلم أحدا أسنده إلا النضر بن شميل عن يونس بن إسحاق ثم رواه من حديث الثوري عن ابن أبي إسحاق عن زيد بن بتيع مرسلا فالله أعلم
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لأول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أربعة شهود وإلا فحد في ظهرك فقال : يا رسول الله إن الله يعلم إني لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرىء به ظهري من الجلد فأنزل الله آية اللعان { والذين يرمون أزواجهم } إلى آخر الاية قال : فدعاه النبي صلى الله عليه و سلم فقال اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا فشهد بذلك أربع شهادات ثم قال له في الخامسة ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا ففعل ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا فشهدت بذلك أربع شهادات ثم قال لها في الخامسة وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنا قال : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت على القول ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقال انظروا فإن جاءت به جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء وإن جاءت به أبيض سبطا قصير العينين فهو لهلال بن أمية فجاءت به جعدا حمش الساقين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لولا ما نزل فيهما من كتاب الله لكان لي ولها شأن ] (3/355)
هذه العشر آيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله عز و جل لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } أي جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين فإنه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به وجوزه آخرون منهم وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر حتى نزل القرآن وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله تعالى وكلهم قد حدثني بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت لها اقتصاصا وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه و سلم معه قالت عائشة رضي الله عنها : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك بعدما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من غزوة وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وقد كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمناها شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه و سلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم ؟ فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح فقلت لها : بئسما قلت تسبين رجلا شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه ألم تسمعي ما قال ؟ قلت : وماذا قال ؟ قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلم ثم قال كيف تيكم ؟ فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها قالت : فقلت سبحان الله أوقد تحدث الناس بها فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ويستشيرهما في فراق أهله قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود فقال أسامة : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو على المنبر يامعشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ( ! ) لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان : الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه و سلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي قال : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلم ثم جلس قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين جلس ثم قال أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أحفظ كثيرا من القرآن والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت : وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت : فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه و سلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله تعالى على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت : فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال أبشري يا عائشة أما الله عز و جل فقد برأك قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز و جل هو الذي أنزل براءتي وأنزل الله عز و جل { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } العشر آيات كلها فأنزل الله هذه الايات في براءتي قالت : فقال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله تعالى { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : والله لا أنزعها منه أبدا
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه و سلم عن أمري فقال يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فعصمها الله تعالى بالورع وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط ] أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الزهري وهكذا رواه ابن إسحاق عن الزهري كذلك قال : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري عن عمرة عن عائشة بنحو ما تقدم والله أعلم
ثم قال البخاري وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة قال : أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به [ قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في خطيبا فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي وأيم الله ما علمت على أهلي إلا خيرا وما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ولا غبت في سفر إلا غاب معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم أئذن لنا أن نضرب أعناقهم فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل فقال : كذبت أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد وما علمت فلما كان مساء ذلك اليوم خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح فعثرت فقالت : تعس مسطح فقلت لها : أي أم تسبين ابنك ؟ فسكتت ثم عثرت الثانية فقالت : تعس مسطح فقلت لها أي أم تسبين ابنك ؟ ثم عثرت الثالثة فقالت : تعس مسطح فانتهرتها فقالت : والله ما أسبه إلا فيك فقلت : في أي شأني ؟ قالت : فبقرت لي الحديث فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرا ووعكت وقلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل وأبا بكر فوق البيت يقرأ فقالت أم رومان : ماجاء بك بنية فأخبرتها وذكرت لها الحديث وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني فقالت : يابنية خففي عليك الشأن فإنه والله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا حسدنها وقيل فيها فقلت : وقد علم به أبي ؟ قالت : نعم قلت : ورسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالت : نعم ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاستعبرت وبكيت فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي ذكر من شأنها ففاضت عيناه رضي الله عنه وقال : أقسمت عليك ـ أي بنية ـ إلا رجعت إلى بيتك فرجعت ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم بيتي فسأل عني خادمتي فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها وانتهرها بعض أصحابه فقال : اصدقي رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أسقطوا لها به فقالت : سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ عن تبر الذهب الأحمر وبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له فقال : سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط
قالت عائشة رضي الله عنها : فقتل شهيدا في سبيل اللهو قالت : وأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد صلى العصر ثم دخل وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا عائشة إن كنت قارفت سوءا أو ظلمت فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده قالت : وقد جاءت امرأة من الأنصار فهي جالسة بالباب فقلت : ألا تستحيي من هذه المرأة أن تذكر شيئا ؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه و سلم فالتفت إلى أبي فقلت له : أجبه قال : فماذا أقول ؟ فالتفت إلى أمي فقلت : أجيبيه قالت : ماذا أقول ؟ فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت : أما بعد فوالله إن قلت لكم إني لم أفعل والله عز و جل يشهد أني لصادقة ما ذاك بنافعي عندكم لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم وإن قلت لكم إني قد فعلت والله يعلم أني لم أفعل لتقولن قد باءت به على نفسها وإنني والله ما أجد لي ولكم مثلا والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه إلا أبا يوسف حين قال { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم من ساعته فسكتنا فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول : أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك قالت : وكنت أشد ما كنت غضبا فقال لي أبواي : قومي إليه فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه
وكانت عائشة تقول : أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا وأما أختها حمنة بنت جحش فهلكت فيمن هلك وكان الذي يتكلم به مسطح وحسان بن ثابت وأما المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول وهو الذي كان يستوشيه ويجمعه وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة قالت : وحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا فأنزل الله تعالى { ولا يأتل أولو الفضل منكم } يعني أبا بكر { والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين } يعني مسطحا إلى قوله { ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } فقال أبو بكر : بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع ] هكذا رواه البخاري من هذا الوجه معلقا بصيغة الجزم عن أبي أسامة حماد بن أسامة أحد الأئمة الثقات وقد رواه ابن جرير في تفسيره عن سفيان بن وكيع عن أبي أسامة به مطولا مثله أو نحوه ورواه ابن حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة ببعضه
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم أخبرنا عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزل عذري من السماء [ جاءني النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرني بذلك فقلت : نحمد الله لا نحمدك ] وقال الإمام أحمد : حدثني ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أيضا عن عائشة قالت : لما نزل عذري [ قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم ] وأخرجه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي : هذا حديث حسن ووقع عند أبي داود تسميتهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش فهذه طرق متعددة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها
وقد روي من حديث أمها أم رومان رضي الله عنها فقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم أخبرنا حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان قالت بينا أنا عند عائشة إذ دخلت علينا امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حدث الحديث قالت : وأي الحديث ؟ قالت : كذا وكذا قالت : وقد [ بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالت : نعم قالت : وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم فخرت عائشة رضي الله عنها مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فقمت فدثرتها قالت : فجاء النبي صلى الله عليه و سلم قال فما شأن هذه ؟ فقلت : يا رسول الله أخذتها حمى بنافض قال فلعله في حديث تحدث به قالت : فاستوت له عائشة قاعدة فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنزل الله عذرها فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه أبو بكر فدخل فقال : يا عائشة إن الله تعالى قد أنزل عذرك فقالت : بحمد الله لا بحمدك فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالت : نعم قالت : فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر فحلف أن لا يصله فأنزل الله { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة } إلى آخر الاية فقال أبو بكر : بلى فوصله ] تفرد به البخاري دون مسلم من طريق حصين
وقد رواه البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة وعن محمد بن سلام عن محمد بن فضيل كلاهما عن حصين به : وفي لفظ أبي عوانة حدثتني أم رومان وهذا صريح في سماع مسروق منها وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه و سلم قال الخطيب : وقد كان مسروق يرسله فيقول : سئلت أم رومان ويسوقه فلعل بعضهم كتب سئلت بألف اعتقد الرواي أنها سألت فظنه متصلا قال الخطيب : وقد رواه البخاري كذلك ولم تظهر له علته كذا قال والله أعلم
فقوله تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك } أي بالكذب والبهت والافتراء { عصبة } أي جماعة منكم { لا تحسبوه شرا لكم } أي يا آل أبي بكر { بل هو خير لكم } أي في الدنيا والاخرة لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الاخرة وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } الاية ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان يحبك ولم يتزوج بكرا غيرك وأنزل براءتك من السماء
وقال ابن جرير في تفسيره : حدثني محمد بن عثمان الواسطي حدثنا جعفر بن عون عن المعلي بن عرفان عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : تفاخرت عائشة وزينب رضي الله عنهما فقالت زينب : أنا التي نزل تزويجي من السماء وقالت عائشة : أنا التي نزل عذري في كتاب الله حين حملني صفوان بن المعطل على الراحلة فقالت لها زينب : يا عائشة ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت حسبي الله ونعم الوكيل قالت : قلت كلمة المؤمنين
وقوله تعالى : { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } أي لكل من تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب { والذي تولى كبره منهم } قيل ابتدأ به وقيل الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه { له عذاب عظيم } أي على ذلك ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي ابن سلول قبحه الله تعالى ولعنه وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث وقال ذلك مجاهد وغير واحد وقيل المراد به حسان بن ثابت وهو قول غريب ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بشعره وهو الذي [ قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم هاجهم وجبريل معك ] وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : كنت عند عائشة رضي الله عنها فدخل حسان بن ثابت فأمرت فألقي له وسادة فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا ؟ يعني يدخل عليك وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك وقد قال الله { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } قالت : وأي عذاب أشد من العمى وكان قد ذهب بصره لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم ثم قالت إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها شعرا يمتدحها به فقال :
( حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل )
فقالت : أما أنت فلست كذلك وفي رواية لكنك لست كذلك وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن قزعة حدثنا سلمة بن علقمة حدثنا داود عن عامر عن عائشة أنها قالت : ما سمعت بشعر أحسن من شعر حسان ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :
( هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء )
( فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء )
( أتشتمه ولست له بكفء ؟ ... فشركما لخيركما الفداء )
( لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء )
فقيل : يا أم المؤمنين أليس هذا لغوا ؟ قالت : لا إنما اللغو ما قيل عند النساء قيل : أليس الله يقول { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } قالت : أليس قد أصابه عذاب عظيم ؟ أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف ؟ تعني الضربة التي ضربه إياها صفوان بن المعطل السلمي حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك فعلاه بالسيف وكاد أن يقتله (3/359)
هذا تأديب من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السيء وما ذكر من شأن الإفك فقال تعالى : { لولا } يعني هلا { إذ سمعتموه } أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى وقد قيل : إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن بعض رجال بني النجار : إن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها ؟ قال : نعم وذلك الكذب أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله قال : فعائشة والله خير منك قال : فلما نزل القرآن ذكر عز و جل من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا ثم قال تعالى : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون } الاية أي كما قال أبو أيوب وصاحبته
وقال محمد بن عمر الواقدي : حدثني ابن أبي حبيب عن داود بن الحصين عن أبي سفيان عن الافلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب قالت لأبي أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى وذلك الكذب أفكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك ؟ قالت : لا والله قال : فعائشة والله خير منك فلما نزل القرآن وذكر أهل الإفك قال الله عز و جل { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين } يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال ويقال إنما قالها أبي بن كعب وقوله تعالى : { ظن المؤمنون } إلخ أي هلا ظنوا الخير فإن أم المؤمنين أهله وأولى به هذا ما يتعلق بالباطن وقوله { وقالوا } أي بألسنتهم { هذا إفك مبين } أي كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها فإن الذي وقع لم يكن ريبة وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة والجيش بكماله يشاهدون ذلك ورسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرهم ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد بل كان يكون هذا لو قدر خفية مستورا فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت والقول الزور والرعونة الفاحشة الفاجرة والصفقة الخاسرة قال الله تعالى : { لولا } أي هلا { جاؤوا عليه } أي على ما قالوه { بأربعة شهداء } يشهدون على صحة ما جاءوا به { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } أي في حكم الله كاذبون فاجرون (3/365)
يقول تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة } أيها الخائضون في شأن عائشة بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الاخرة { لمسكم في ما أفضتم فيه } من قضية الإفك { عذاب عظيم } وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه كمسطح وحسان وحمنة بنت جحش أخت زينت بنت جحش فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي ابن سلول وأضرابه فليس أولئك مرادين في هذه الاية لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين يكون مطلقا مشروطا بعدم التوبة أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه أو يرجح عليه
ثم قال تعالى : { إذ تلقونه بألسنتكم } قال مجاهد وسعيد بن جبير : أي يرويه بعضكم عن بعض يقول هذا سمعته من فلان وقال فلان كذا وذكر بعضهم كذا وقرأ آخرون { إذ تلقونه بألسنتكم } وفي صحيح البخاري عن عائشة أنها كانت تقرؤها كذلك وتقول : هو من ولق اللسان يعني الكذب الذي يستمر صاحبه عليه تقول العرب : ولق فلان في السير إذا استمر فيه والقراءة الأولى أشهر وعليها الجمهور ولكن الثانية مروية عن أم المؤمنين عائشة قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة أنها كانت تقرأ { إذ تلقونه } وتقول : إنما هو ولق القول ـ والولق الكذب ـ قال ابن أبي مليكة : هي أعلم به من غيرها
وقوله تعالى : { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } أي تقولون ما لا تعلمون ثم قال تعالى : { وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } أي تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين وتحسبون ذلك يسيرا سهلا ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه و سلم لما كان هينا فكيف وهي زوجة النبي الأمي خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ؟ فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل ! فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا وهو سبحانه وتعالى لا يقدر على زوجة نبي من الأنبياء ذلك حاشا وكلا ولما لم يكن ذلك فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والاخرة ؟ ولهذا قال تعالى : { وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } وفي الصحيحين [ إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض ] وفي رواية [ لا يلقي لها بالا ] (3/366)
هذا تأديب آخر بعد الأول الامر بظن الخير أي إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيرا وأن لا يشعر نفسه سوى ذلك ثم إن علق بنفسه شيء من ذلك وسوسة أو خيالا فلا ينبغي أن يتكلم به فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل ] أخرجاه في الصحيحين وقال الله تعالى : { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } أي ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد { سبحانك هذا بهتان عظيم } أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله وحليلة خليله
ثم قال تعالى : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا } أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا أي فيما يستقبل فلهذا قال { إن كنتم مؤمنين } أي إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه وتعظمون رسوله صلى الله عليه و سلم فأما من كان متصفا بالكفر فذاك حكم آخر ثم قال تعالى : { ويبين الله لكم الآيات } أي يوضح لكم الأحكام الشرعية والحكم القدرية { والله عليم حكيم } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في شرعه وقدره (3/367)
هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيء فقام بذهنه شيء منه وتكلم به فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه فقد قال تعالى : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم } أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح { لهم عذاب أليم في الدنيا } أي بالحد وفي الاخرة بالعذاب الأليم { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي فردوا الأمور إليه ترشدوا وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكير حدثنا ميمون بن موسى المرئي حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته ] (3/367)
يقول الله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم } أي لولا هذا لكان أمر آخر ولكنه تعالى رؤوف بعباده رحيم بهم فتاب على من تاب إليه من هذه القضية وطهر من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم ثم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } يعني طرائقه ومسالكه وما يأمر به { ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } هذا تنفير وتحذير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { خطوات الشيطان } عمله وقال عكرمة : نزغاته وقال قتادة : كل معصية فهي من خطوات الشيطان وقال أبو مجلز : النذور في المعاصي من خطوات الشيطان وقال مسروق : سأل رجل ابن مسعود فقال : إني حرمت أن آكل طعاما وسماه فقال : هذا من نزغات الشيطان كفر عن يمينك وكل وقال الشعبي في رجل نذر ذبح ولده : هذا من نزغات الشيطان وأفتاه أن يذبح كبشا
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري حدثنا السري بن يحيى عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال : غضبت علي امرأتي فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من نزغات الشيطان وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك ثم قال تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا } أي لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودنسها وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا { ولكن الله يزكي من يشاء } أي من خلقه ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي وقوله { والله سميع } أي سميع لأقوال عباده { عليم } بمن يستحق منهم الهدى والضلال (3/368)
يقول تعالى : { ولا يأتل } من الألية وهي الحلف أي لا يحلف { أولو الفضل منكم } أي الطول والصدقة والإحسان { والسعة } أي الجدة { أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام ولهذا قال تعالى : { وليعفوا وليصفحوا } أي عما تقدم منهم من الإساءة والأذى ؟ وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم وهذه الاية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال كما تقدم في الحديث فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة وطابت النفوس المؤمنة واستقرت وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه ـ شرع تبارك وتعالى وله الفضل والمنة يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة فإنه كان ابن خالة الصديق وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وكان من المهاجرين في سبيل الله وقد ولق ولقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها وكان الصديق رضي الله عنه معروفا بالمعروف له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب فلما نزلت هذه الاية إلى قوله { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } الاية فإن الجزاء من جنس العمل فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك وكما تصفح نصفح عنك فعند ذلك قال الصديق : بلى والله إنا نحب ـ يا ربنا ـ أن تغفر لنا ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال : والله لا أنزعها منه أبدا في مقابلة ما كان قال والله لا أنفعه بنافعة أبدا فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته (3/368)
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات ـ خرج مخرج الغالب ـ المؤمنات فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الاية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما أنهن كهي والله أعلم
وقوله تعالى : { لعنوا في الدنيا والآخرة } الاية كقوله { إن الذين يؤذون الله ورسوله } الاية وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الاية { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } قال : نزلت في عائشة خاصة وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال : حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال : قالت عائشة : رميت بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك قالت : [ فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس عندي إذ أوحي إليه قالت : وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي ثم استوى جالسا يمسح وجهه وقال يا عائشة أبشري قالت : فقلت بحمد الله لا بحمدك فقرأ { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } حتى قرأ { أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } ] هكذا أورده وليس فيه أن الحكم خاص بها وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها وإن كان الحكم يعمها كغيرها ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله والله أعلم وقال الضحاك وأبو الجوزاء وسلمة بن نبيط : المراد بها أزواج النبي خاصة دون غيرهن من النساء
وقال العوفي عن ابن عباس في الاية { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } الاية يعني أزواج النبي صلى الله عليه و سلم رماهن أهل النفاق فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ثم نزل بعد ذلك { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } فأنزل الله الجلد والتوبة فالتوبة تقبل والشهادة ترد وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا هشيم أخبرنا العوام بن حوشب عن شيخ من بني أسد عن ابن عباس قال : فسر سورة النور فلما أتى على هذه الاية { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } الاية قال : في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه و سلم وهي مبهمة وليست لهم توبة ثم قرأ { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } الاية قال : فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة قال : فهم بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر به سورة النور فقوله وهي مبهمة أي عامة في تحريم قذف كل محصنة ولعنته في الدنيا والاخرة وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا في عائشة ومن صنع مثل هذا أيضا اليوم في المسلمات فله ما قال الله تعالى ولكن عائشة كانت أما في ذلك
وقد اختار ابن جرير عمومها وهو الصحيح ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن أخي وهب حدثني عمي حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : اجتنبوا السبع الموبقات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ] أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال به
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عمر بن أبي خالد الحذاء الطاني المحرمي حدثني أبي وحدثنا أبو شعيب الحراني حدثنا جدي أحمد بن أبي شعيب حدثني موسى بن أعين عن ليث عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة ] وقوله تعالى : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو يحيى الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن مطرف عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنهم يعني المشركين إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة قالوا : تعالوا حتى نجحد فيجحدون فيختم على أفواههم وتشهد أيديهم و أرجلهم ولا يكتمون الله حديثا
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فيجحد ويخاصم فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقال أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقال احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم ثم يدخلهم النار ]
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي حدثنا منجاب بن الحارث التميمي حدثنا أبو عامر الأسدي حدثنا سفيان بن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو الفقيمي عن الشعبي عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال : [ أتدرون مم أضحك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : من مجادلة العبد لربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى فيقول : لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام عليك شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بعمله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ] وقد رواه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبيه عن عبد الله الأشجعي عن سفيان الثوري به ثم قال النسائي : لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي وهو حديث غريب والله أعلم هكذا قال وقال قتادة : ابن آدم والله إن عليك لشهودا غير متهمة في بدنك فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك فإنه لا يخفى عليه خافية الظلمة عنده ضوء والسر عنده علانية فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلا بالله
وقوله تعالى : { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } قال ابن عباس { دينهم } أي حسابهم وكل ما في القرآن دينهم أي حسابهم وكذا قال غير واحد ثم إن قراءة الجمهور بنصب الحق على أنه صفة لدينهم وقرأ مجاهد بالرفع على أنه نعت الجلالة وقرأها بعض السلف في مصحف أبي بن كعب : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق وقوله { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } أي وعده ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه (3/369)
قال ابن عباس : الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول والطيبات من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول ـ قال ـ ونزلت في عائشة وأهل الإفك وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك واختاره ابن جرير ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ولهذا قال تعالى : { أولئك مبرؤون مما يقولون } وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء وهذا أيضا يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعا ولا قدرا ولهذا قال تعالى : { أولئك مبرؤون مما يقولون } أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان { لهم مغفرة } أي بسبب ما قيل فيهم من الكذب { ورزق كريم } أي عند الله في جنات النعيم وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجنة
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن مسلم حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن الحكم بإسناده إلى يحيى بن الجزار قال : جاء أسير بن جابر إلى عبد الله فقال : لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم اليوم بكلام أعجبني فقال عبد الله : إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما يستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل عنده يتلها فيضمها إليه وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الخبيثة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل الذي عنده يتلها فيضمها إليه ثم قرأ عبد الله { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } الاية ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا [ مثل هذا الذي يسمع الحكمة ثم لا يحدث إلا بشر ما سمع كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم فقال اجزرني شاة فقال : اذهب فخذ بأذن أيها شئت فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم وفي الحديث الاخر : الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها ] (3/371)
هذه آداب شرعية أدب الله بها عباده المؤمنين وذلك في الاستئذان أمرهم أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات فإن أذن له وإلا انصرف كما ثبت في الصحيح [ أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن ؟ ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب فلما جاء بعد ذلك قال : ما رجعك ؟ قال : إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي وإني سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف فقال عمر لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربا فذهب إلى ملإ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر فقالوا لا يشهد لك إلا أصغرنا فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك فقال : ألهاني عنه الصفق بالأسواق ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا عمر عن ثابت عن أنس أو غيره [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استأذن على سعد بن عبادة فقال : السلام عليك ورحمة الله فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى الله عليه و سلم حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي صلى الله عليه و سلم واتبعه سعد فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل نبي الله فلما فرغ قال : أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون ]
وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال : [ زارنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في منزلنا فقال : السلام عليكم ورحمة الله فرد سعد ردا خفيا قال قيس : فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : دعه يكثر علينا من السلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : السلام عليكم ورحمة الله فرد سعد ردا خفيا ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : السلام عليكم ورحمة الله ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم واتبعه سعد فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام قال فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها ثم رفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه وهو يقول : اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة قال : ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من الطعام فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حمارا قد وطىء عليه بقطيفة فركب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال سعد : يا قيس اصحب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قيس : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اركب فأبيت فقال : إما أن تركب وإما أن تنصرف قال : فانصرفت ] وقد روي هذا من وجوه أخر فهو حديث جيد قوي والله أعلم
ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره لما رواه أبو داود : حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا : حدثنا بقية حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول : السلام عليكم السلام عليكم ] وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور تفرد به أبو داود
وقال أبو داود أيضا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ـ ( ح ) ـ حينئذ قال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال : جاء رجل قال عثمان : سعد [ فوقف على باب النبي صلى الله عليه و سلم يستأذن فقام على الباب قال عثمان : مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : هكذا عنك ـ أو هكذا ـ فإنما الاستئذان من النظر ] وقد رواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود من حديثه وفي الصحيحين [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح ] وأخرج الجماعة من حديث شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : [ أتيت النبي صلى الله عليه و سلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال : من ذا ؟ فقلت : أنا قال : أنا أنا كأنه كرهه وإنما كره ذلك ] لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا فلا يحصل بها المقصود من الإستئذان الذي هو الإستئناس المأمور به في الاية وقال العوفي عن ابن عباس : الإستئناس الإستئذان وكذا قال غير واحد
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الاية { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا } قال : إنما هي خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا وهكذا رواه هشيم عن أبي بشر ـ وهو جعفر بن إياس ـ عن سعيد عن ابن عباس بمثله وزاد : كان ابن عباس يقرأ { حتى تستأنسوا وتسلموا } وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه وهذا غريب جدا عن ابن عباس وقال هشيم : أخبرنا مغيرة عن إبراهيم قال : في مصحف ابن مسعود حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وهذا أيضا رواية عن ابن عباس وهو اختيار ابن جرير
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن أبي صفوان أخبره أن كلدة بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وجدابة وصغابيس [ والنبي صلى الله عليه و سلم بأعلى الوادي قال : فدخلت على النبي صلى الله عليه و سلم ولم أسلم ولم أستأذن فقال صلى الله عليه و سلم : ارجع فقل السلام عليكم أأدخل ؟ وذلك بعدما أسلم صفوان ] ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج به وقال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال : [ أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في بيته فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم لخادمه : اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له : قل السلام عليكم أأدخل ؟ فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه و سلم فدخل ]
وقال هشيم : أخبرنا منصور عن ابن سيرين وأخبرنا يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي [ أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أألج أو أنلج ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأمة له يقال لها روضة : قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن يستأذن فقولي له : يقول السلام عليكم أأدخل ؟ فسمعها الرجل فقالها فقال : ادخل ] وقال الترمذي : حدثنا الفضل بن الصباح حدثنا سعيد بن زكريا عن عنبسة بن عبد الرحمن عن محمد بن زاذان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : السلام قبل الكلام ثم قال الترمذي : عنبسة ضعيف الحديث ذاهب و محمد بن زاذان منكر الحديث وقال هشيم : قال مغيرة : قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ قالت : ادخل بسلام فأعاد فأعادت وهو يراوح بين قدميه قال : قولي ادخل قالت : ادخل فدخل ]
ولابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو نعيم الأحول حدثني خالد بن إياس حدثتني جدتي أم إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة فقلت : ندخل ؟ فقالت : لا قلن لصاحبتكن تستأذن فقالت : السلام عليكم أندخل قالت : ادخلوا ثم قالت : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } الاية وقال هشيم : أخبرنا أشعث بن سوار عن كردوس عن ابن مسعود قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم قال أشعث عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال قال فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا } الاية
وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ثلاث آيات جحدهن الناس قال الله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } قال : ويقولون إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتا قال والأذن كله قد جحده الناس قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ؟ قال : نعم فرددت عليه ليرخص لي فأبى فقال : تحب أن تراها عريانة ؟ قلت : لا قال : فاستأذن قال : فراجعته أيضا فقال : أتحب أن تطيع الله ؟ قلت نعم قال : فاستأذن قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم قال : وكان يشدد في ذلك وقال ابن جريج عن الزهري سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته قال : لا وهذا محمول على عدم الوجوب وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن حازم عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب ـ امرأة عبد الله بن مسعود ـ عن زينب رضي الله عنها قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه إسناده صحيح
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي هبيرة قال : كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس وتكلم ورفع صوته وقال مجاهد : حتى تستأنسوا قال : تنحنحوا أو تنخموا وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال : إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه [ نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا ـ وفي رواية ـ ليلا يتخونهم ] وفي الحديث الاخر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة نهارا فأناخ بظاهرها وقال انتظروا حتى ندخل عشاء ـ يعني آخر النهار ـ حتى تمشط الشعثة وتستحد المغيبة ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن واصل بن السائب حدثني أبو ثورة بن أخي أبي أيوب عن أبي أيوب قال : قلت : [ يا رسول الله هذا السلام فما الإستئناس ؟ قال يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة أو تحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت ] هذا حديث غريب وقال قتادة في قوله { حتى تستأنسوا } هو الاستئذان ثلاثا فمن لم يؤذن له منهم فليرجع أما الأولى فليسمع الحي وأما الثانية فليأخذوا حذرهم وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم فإن للناس حاجات ولهم أشغال والله أولى بالعذر
وقال مقاتل بن حيان في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه ويقول : حييت صباحا وحييت مساء وكان ذلك تحية القوم بينهم وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول : قد دخلت ونحو ذلك فيشق ذلك على الرجل ولعله يكون مع أهله فغير الله ذلك كله في ستر وعفة وجعله نقيا نزها من الدنس والقذر والدرن فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } الاية وهذا الذي قاله مقاتل : حسن ولهذا قال تعالى : { ذلكم خير لكم } يعني الاستئذان خير لكم بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت { لعلكم تذكرون }
وقوله تعالى : { فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه فإن شاء أذن وإن شاء لم يأذن { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم } أي إذا ردوكم من الباب قبل الإذن أو بعده { فارجعوا هو أزكى لكم } أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر { والله بما تعملون عليم } وقال قتادة : قال بعض المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الاية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع وأنا مغتبط { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم } وقال سعيد بن جبير { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا } الاية أي لا تقفوا على أبواب الناس
وقوله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } الاية هذه الاية الكريمة أخص من التي قبلها وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى قال ابن جريج : قال ابن عباس { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } ثم نسخ واستثنى فقال تعالى : { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم } وكذا روي عن عكرمة والحسن البصري وقال آخرون : هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك واختار ذلك ابن جرير وحكاه عن جماعة والأول أظهر والله أعلم وقال مالك عن زيد بن أسلم : هي بيوت الشعر (3/372)
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعا كما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جده جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري وكذا رواه الإمام أحمد عن هشيم عن يونس بن عبيد به ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثه أيضا وقال الترمذي حسن صحيح وفي رواية لبعضهم فقال أطرق بصرك يعني أنظر إلى الأرض والصرف أعم فإنه قد يكون إلى الأرض وإلى جهة أخرى والله أعلم
وقال أبو داود : حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري حدثنا شريك عن أبي ربيعة الإيادي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي [ يا علي لاتتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الاخرة ] ورواه الترمذي من حديث شريك وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديثه وفي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إياكم والجلوس على الطرقات قالوا : يارسول الله لابد لنا من مجالسنا نتحدث فيها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ فقال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا طالوت بن عباد حدثنا فضل بن جبير سمعت أبا أمامة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ اكفلوا لي ستا أكفل لكم بالجنة : إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا اؤتمن فلا يخن وإذا وعد فلا يخلف وغضوا أبصاركم وكفوا أيدكم واحفظوا فروجكم ] وفي صحيح البخاري [ من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أكفل له الجنة ] وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال : كل ما عصي الله به فهو كبيرة وقد ذكر الطرفين فقال { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب كما قال بعض السلف : النظر سهم سم إلى القلب ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك فقال تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا كما قال تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون } الاية وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن [ احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ] { ذلك أزكى لهم } أي أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم كما قيل من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته ويروى في قلبه
وروى الإمام أحمد : حدثنا عتاب حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ( أول مرة ) ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها ] وروي هذا مرفوعا عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ولكن في إسنادها ضعف إلا أنها في الترغيب ومثله يتسامح فيه وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا [ لتغضن أبصاركم ولتحفظن فروجكم ولتقيمن وجوهكم أو لتكسفن وجوهكم ]
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن زهير التستري قال : قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرى حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا هريم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه ] وقوله تعالى : { إن الله خبير بما يصنعون } كما قال تعالى : { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق وزنا الأذنين الاستماع وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين الخطى والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ] رواه البخاري تعليقا ومسلم مسندا من وجه آخر بنحو ما تقدم وقد قال كثير من السلف : إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل بصره إلى الأمرد وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك وحرمه طائفة من أهل العلم لما فيه من الافتتان وشدد آخرون في ذلك كثيرا جدا وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو سعيد المدني حدثنا عمر بن سهل المازني حدثني عمر بن محمد بن صهبان عن صفوان بن سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله وعينا سهرت في سبيل الله وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عز و جل ] (3/376)
هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركين وكان سبب نزول هذه الاية ما ذكره مقاتل بن حيان قال : بلغنا ـ والله أعلم ـ أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء : ما أقبح هذا فأنزل الله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } الاية فقوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا
واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان مولى أم سلمة أنه حدث أن أم سلمة حدثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وميمونة قالت [ فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم احتجبا منه فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أوعمياوان أنتما ؟ أوألستما تبصرانه ] ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت
وقوله { ويحفظن فروجهن } قال سعيد بن جبير : عن الفواحش وقال قتادة وسفيان : عما لا يحل لهن وقال مقاتل : عن الزنا وقال أبو العالية : كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا إلا هذه الاية { ويحفظن فروجهن } أن لا يراها أحد وقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه قال ابن مسعود : كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لايمكن إخفاؤه وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم
وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال : وجهها وكفيها والخاتم وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها كما قال أبو إسحاق السبقي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال في قوله { ولا يبدين زينتهن } الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال : الزينة زينتان : فزينة لا يراها إلا الزوج : الخاتم والسوار وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب وقال الزهري لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر وأما عامة الناس فلا يبدين منها إلا الخواتم
وقال مالك عن الزهري { إلا ما ظهر منها } الخاتم والخلخال ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ماظهر منها بالوجه والكفين وهذا هو المشهور عند الجمهور ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه حدثنا يعقوب بن كعب الانطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني قالا : حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر [ دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أي يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه ] لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هذا مرسل خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها والله أعلم
وقوله تعالى : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية فإنهن لم يكن يفعلن ذلك بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن كما قال تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } وقال في هذه الاية الكريمة { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } والخمر جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس المقانع
قال سعيد بن جبير { وليضربن } وليشددن { بخمرهن على جيوبهن } يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء وقال البخاري حدثنا أحمد بن شبيب حدثنا أبي عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها وقال أيضا حدثنا أبو نعيم حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول : لما نزلت هذه الاية { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلا وإني والله مارأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه و سلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبه به
وقال ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن قرة بن عبد الرحمن أخبره عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها ورواه أبو داود من حديث ابن وهب به وقوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } أي أزواجهن { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير اقتصاء وتبهرج وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى يعني ابن هارون حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الاية { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن } حتى فرغ منها وقال لم يذكر العم ولا الخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره
وقوله { أو نسائهن } يعني تظهر بزينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة لئلا تصفهن لرجالهن وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لاتباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها ] أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود وقال سعيد بن منصور في سننه حدثنا إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغازي عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال : كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة : أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها وقال مجاهد في قوله { أو نسائهن } قال نساؤهن المسلمات ليس المشركات من نسائهن وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وروى عبد الله في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس { أو نسائهن } قال هن المسلمات لا تبديه ليهودية و لانصرانية وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلا محرم
وروى سعيد حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال لاتضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول : { أو نسائهن } فليست من نسائهن وعن مكحول وعبادة بن نسي أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة فأما مارواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عمير حدثنا ضمرة قال : قال ابن عطاء عن أبيه قال : لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بيت المقدس كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات فهذا إن صح فمحمول على حال الضرورة أو أن ذلك من باب الامتهان ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد والله أعلم
وقوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانهن } قال ابن جرير : يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها وإليه ذهب سعيد بن المسيب وقال الأكثرون : بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود : حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت عن أنس : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم ما تلقى قال [ إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ]
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية : أن عبد الله بن مسعدة الفزاري كان أسود شديد الأدمة وأنه قد كان النبي صلى الله عليه و سلم وهبه لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم قد كان بعد ذلك كله برز مع معاوية أيام صفين وكان من أشد الناس على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن نبهان عن أم سلمة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا كان إحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه ] ورواه أبو داود عن مسدد عن سفيان به وقوله تعالى : { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء وهم مع ذلك في عقولهم وله وحوب ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له
وقال مجاهد : هو الأبله وقال عكرمة : هو المخنث الذي لا يقوم ذكره وكذلك قال غير واحد من السلف وفي الصحيح من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه و سلم وهو ينعت امرأة يقول : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم ] فأخرجه فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة ليستطعم
وروى الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أنها قالت : دخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم وعندها ( أخوها ) مخنث وعندها عبد الله بن أبي أمية والمخنث يقول : يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان قال : فسمعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لأم سلمة [ لا يدخلن هذا عليك ] أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه و سلم وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم هذا ] فحجبوه ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبد الرزاق به عن أم سلمة
وقوله تعالى : { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك : فلا بأس بدخوله على النساء فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء فلا يمكن من الدخول على النساء وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إياكم والدخول على النساء قيل : يا رسول الله أفرأيت الحمو ؟ قال الحمو الموت ]
وقوله تعالى { ولا يضربن بأرجلهن } الاية كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوته ضربت برجلها الأرض فيعلم الرجال طنينه فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى : { ولا يضربن بأرجلهن } إلى آخره ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشتم الرجال طيبها فقد قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن ثابت بن عمارة الحنفي عن غنيم بن قيس عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية ] قال وفي الباب عن أبي هريرة : وهذا حسن صحيح رواه أبو داود والنسائي من حديث ثابت بن عمارة به
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار فقال : يا أمة الجبار جئت من المسجد ؟ قالت : نعم قال لها : وله تطيبت ؟ قالت : نعم قال : إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة ] ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان هو ابن عيينة به وروى الترمذي أيضا من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها ] ومن ذلك أيضا أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج
قال أبو داود : حدثنا التغلبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن ابن أبي اليمان عن شداد بن أبي عمرو بن حماس عن أبيه عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للنساء [ استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق ] فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به وقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه والله تعالى هو المستعان (3/378)
اشتملت هذه الايات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة والأوامر المبرمة فقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } إلى آخره هذا أمر بالتزويج وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام [ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ] أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ تزوجوا توالدوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ] وفي رواية : [ حتى بالسقط ] الأيامى جمع أيم ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له سواء كان قد تزوج ثم فارق أول لم يتزوج واحد منهما حكاه الجوهري عن أهل اللغة يقال رجل أيم وامرأة أيم
وقوله تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } الاية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى فقال { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد الأزرق حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد ـ يعني ابن عبد العزيز ـ قال : بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وعن ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح يقول الله تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } رواه ابن جرير وذكر البغوي عن عمر بنحوه وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله ] رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وقد زوج النبي صلى الله عليه و سلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث [ تزوجوا فقراء يغنكم الله ] فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الان وفي القرآن غنية عنه وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ولله الحمد والمنة
وقوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجا بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه و سلم [ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ] الحديث وهذه الاية مطلقة والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم } أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم لأن الولد يجيء رقيقا { والله غفور رحيم } قال عكرمة في قوله { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا } قال : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله
وقوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب لا أمر تحتم وإيجاب بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه قال الثوري عن جابر عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه وكذا قال ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح : إن يشأ يكاتبه وإن يشأ لم يكاتبه وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب أخذا بظاهر هذا الأمر
وقال البخاري : وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه قال : ما أراه إلا واجبا وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال : لا ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسا المكاتبة وكان كثير المال فأبى فانطلق إلى عمر رضي الله عنه فقال : كاتبه فأبى فضربه بالدرة ويتلو عمر رضي الله عنه { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } فكاتبه هكذا ذكره البخاري تعليقا ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبا وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن بكر حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه فتلكأ عليه فقال له عمر : لتكاتبنه إسناد صحيح وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال : هي عزمة وهذا القول القديم من قولي الشافعي وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام [ لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه ] وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ولم أسمع أحدا من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده قال مالك : وإنما ذلك أمر من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الاية
وقوله تعالى : { إن علمتم فيهم خيرا } قال بعضهم : أمانة وقال بعضهم : صدقا وقال بعضهم : مالا وقال بعضهم : حيلة وكسبا وروى أبو داود في المراسيل عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } قال [ إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس ] وقوله تعالى : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم : معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها ثم قال بعضهم : مقدار الربع وقيل الثلث وقيل النصف وقيل جزء من الكتابة من غير حد
وقال آخرون : بل المراد من قوله { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان واختاره ابن جرير وقال إبراهيم النخعي في قوله { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } قال : حث الناس عليه مولاه وغيره وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ثلاثة حق على الله عونهم ] فذكر منهم المكاتب يريد الأداء والقول الأول أشهر وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر : أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية فجاء بنجمه حين حل فقال : يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك فقال : يا أمير المؤمنين لو تركته حتى يكون من آخر نجم ؟ قال : أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } قال عكرمة : فكان أول نجم أدي في الإسلام
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } قال : يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي وقال محمد بن سيرين في قوله : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ربع الكتابة ] وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله
وقوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } الاية كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت فلماء جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك وكان سبب نزول هذه الاية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلبا لخراجهن ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم
ذكر الاثار الواردة في ذلك
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار رحمه الله في مسنده : حدثنا أحمد بن داود الواسطي حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال : كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها معاذة يكرهها على الزنا فلما جاء الإسلام نزلت { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } الاية وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الاية قال : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة كان يكرهها على الفجور وكانت لا بأس بها فتأبى فأنزل الله هذه الاية { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي حدثنا علي بن سعيد حدثنا الأعمش حدثني أبو سفيان عن جابر قال : كان لعبد الله بن أبي ابن سلول جارية يقال لها مسيكة وكان يكرهها على البغاء فأنزل الله { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان بن طلحة بن نافع فدل على بطلان قول من قال : لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار وقال أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولادا من الزنا فقال لها مالك : لتزنين قالت : والله لا أزني فضربها فأنزل الله عز و جل { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء }
وروى البزار أيضا : حدثنا أحمد بن داود الوسطي حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : كانت جارية لعبدالله بن أبي يقال لها معاذ يكرهها على الزنا فلما جاء الاسلام نزلت { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلا من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبي أسيرا وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة وكانت تمتنع منه لإسلامها وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده فقال تبارك وتعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا }
وقال السدي : أنزلت هذه الاية الكريمة في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا وقال مقاتل بن حيان : بلغني ـ والله أعلم ـ أن هذه الاية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه و سلم فذكرتا ذلك له فأنزل الله في ذلك { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } يعني الزنا
وقوله تعالى : { إن أردن تحصنا } هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له وقوله تعالى : { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن وفي رواية [ مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث ] وقوله تعالى : { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم وإثمهن على من أكرههن وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة
وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذ الاية { فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } قال لهن والله لهن والله وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه وعن زيد بن أسلم قال غفور رحيم للمكرهات حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله حدثني ابن لهيعة حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود { فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } لهن وإثمهن على من أكرههن وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ]
ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات { ومثلا من الذين خلوا من قبلكم } أي خبرا عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى { فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين } أي زاجرا عن ارتكاب المآثم والمحارم { للمتقين } أي لمن اتقى الله وخافه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن : فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله (3/382)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { الله نور السموات والأرض } يقول هادي أهل السموات والأرض قال ابن جريج : قال مجاهد وابن عباس في قوله { الله نور السموات والأرض } يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما وقال ابن جرير : حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي حدثنا وهب بن راشد عن فرقد عن أنس بن مالك قال : إن الله يقول نوري هداي واختار هذا القول ابن جرير وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى : { الله نور السموات والأرض مثل نوره } قال هو المؤمن الذي جعل الله الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال { الله نور السموات والأرض } فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال : مثل نور من آمن به قال : فكان أبي بن كعب يقرؤها مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره وهكذا قال سعيد بن جبير وقيس بن سعد عن ابن عباس أنه قرأها كذلك مثل نور من آمن بالله وقرأ بعضهم { الله نور السموات والأرض } وعن الضحاك { الله نور السماوات والأرض }
وقال السدي في قوله { الله نور السموات والأرض } فبنوره أضاءت السموات والأرض وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف [ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله ] وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام من الليل يقول : اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ومن فيهن ] الحديث وعن ابن مسعود قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور العرش من نور وجهه وقوله تعالى : { مثل نوره } في هذا الضمير قولان ( أحدهما ) أنه عائد إلى الله عز و جل أي مثل هداه في قلب المؤمن قاله ابن عباس { كمشكاة } ( والثاني ) أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه } فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف فقوله { كمشكاة } قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد : هو موضع الفتيلة من القنديل هذا هو المشهور ولهذا قال بعده { فيها مصباح } وهو الزبالة التي تضيء وقال العوفي عن ابن عباس قوله { الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه و سلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ( ذلك ) لنوره فقال { الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة } والمشكاة كوة في البيت قال وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى الله طاعته نورا ثم سماها أنواعا شتى وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هن الكوة بلغة الحبشة وزاد بعضهم فقال : المشكاة الكوة التي لا منفذ لها وعن مجاهد المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل والقول الأول أولى وهو أن المشكاة هو موضع الفتيلة من القنديل ولهذا قال { فيها مصباح } وهو النور الذي في الذبالة قال أبي بن كعب : المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره وقال السدي : هو السراج { المصباح في زجاجة } أي هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية وقال أبي بن كعب وغير واحد : وهي نظير قلب المؤمن { الزجاجة كأنها كوكب دري } قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة من الدر أي كأنها كوكب من در وقرأ آخرون دريء ودريء بكسر الدال وضمها مع الهمزة من الدرء وهو الدفع وذلك أن النجم إذا رمي به يكون أشد استنارة من سائر الأحوال والعرب تسمي مالا يعرف من الكواكب دراري قال أبي بن كعب : كوكب مضيء وقال قتادة : مضيء مبين ضخم { يوقد من شجرة مباركة } أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة { زيتونة } بدل أو عطف بيان { لا شرقية ولا غربية } أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ولا في غربيها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب بل هي في مكان وسط تقرعه الشمس من أول النهار إلى آخره فيجيء زيتها صافيا معتدلا مشرقا
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { زيتونة لا شرقية ولا غربية } قال : هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها وقال يحيى بن سعيد القطان عن عمران بن حدير عن عكرمة في قوله تعالى : { زيتونة لا شرقية ولا غربية } قال : هي بصحراء وذلك أصفى لزيتها وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا عمرو بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة وسأله رجل عن قوله تعالى : { زيتونة لا شرقية ولا غربية } قال : تلك بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها فإذا غربت غربت عليها فذلك أصفى ما يكون من الزيت وقال مجاهد في قوله تعالى : { زيتونة لا شرقية ولا غربية } قال : ليست بشرقية لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولكنها شرقية وغربية تصيبها إذا طلعت وإذا غربت
وعن سعيد بن جبير في قوله { زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء } قال هو أجود الزيت قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس فالشمس تصيبها بالغداة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية وقال السدي قوله { زيتونة لا شرقية ولا غربية } يقول ليست بشرقية يحوزها المشرق ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ولكنها على رأس جبل أو في صحراء تصيبها الشمس النهار كله وقيل المراد بقوله تعالى : { لا شرقية ولا غربية } أنها في وسط الشجر ليست بادية للمشرق ولا للمغرب
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله تعالى : { زيتونة لا شرقية ولا غربية } قال هي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها فهو بين أربع خلال إن قال صدق وإن حكم عدل وإن ابتلي صبر وإن أعطي شكر فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله { زيتونة لا شرقية ولا غربية } قال هي وسط الشجر لا تصيبها شرقا ولا غربا وقال عطية العوفي { لا شرقية ولا غربية } قال هي شجرة في موضع من الشجر يرى ظل ثمرها في ورقها وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن الدشتكي حدثنا عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { لا شرقية ولا غربية } ليست شرقية ليس فيها غرب ولا غربية ليس فيها شرق ولكنها شرقية غربية وقال محمد بن كعب القرظي { لا شرقية ولا غربية } قال هي القبلية وقال زيد بن أسلم { لا شرقية ولا غربية } قال الشام وقال الحسن البصري لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره وقال الضحاك { يوقد من شجرة مباركة } قال رجل صالح { زيتونة لا شرقية ولا غربية } قال : لا يهودي ولا نصراني وأولى هذه الأقوال القول الأول وهو أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس تفرعه من أول النهار إلى آخره ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف كما قال غير واحد ممن تقدم ولهذا قال تعالى : { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني لضوء إشراق الزيت
وقوله تعالى : { نور على نور } قال العوفي عن ابن عباس يعني بذلك إيمان العبد وعمله وقال مجاهد والسدي : يعني نور النار ونور الزيت وقال أبي بن كعب { نور على نور } فهو يتقلب في خمسة من النور : فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله تعالى : { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } قال : يكاد محمد صلى الله عليه و سلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء وقال السدي في قوله تعالى { نور على نور } قال : نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه
وقوله تعالى : { يهدي الله لنوره من يشاء } أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي حدثني ربيعة بن زيد عن عبد الله الديلمي عن عبد الله بن عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضل فلذلك أقول : جف القلم على علم الله عز و جل ]
( طريق أخرى عنه ) قال البزار : حدثنا أيوب عن سويد عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن أبيه عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم نورا من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ] ورواه البزار عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر بلفظه حروفه وقوله تعالى : { ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن ختم الاية بقوله { ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية حدثنا شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البحتري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح فأما القلب الأجرد : فقلب المؤمن سراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه ] إسناده جيد ولم يخرجوه (3/387)
لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد فقال تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع } أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية الكريمة { في بيوت أذن الله أن ترفع } قال نهى الله سبحانه عن اللغو فيها وكذا قال عكرمة وأبو صالح والضحاك ونافع بن جبير وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وسفيان بن حسين وغيرهم من العلماء المفسرين
وقال قتادة : هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وأخر بعمارتها ورفعها وتطهيرها وقد ذكر لنا أن كعبا كان يقول : مكتوب في التوراة ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ثم زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزائر رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها وذلك له محل مفرد يذكر فيه وقد كتبت في ذلك جزءا على حدة و لله الحمد والمنة ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفا من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنها قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة ] أخرجاه في الصحيحين
وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة ] و للنسائي عن عمرو بن عنبسة مثله والأحاديث في هذا كثيرة جدا وعن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه وقال البخاري : قال عمر : ابن للناس ما يكنهم وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس وروى ابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم ] وفي إسناده ضعف
وروى أبو داود عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما أمرت بتشييد المساجد ] قال ابن عباس أزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ] رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي وعن بريدة أن رجلا أنشد في المسجد فقال من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له ] رواه مسلم وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد ] رواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حسن
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا رد الله عليك ] رواه الترمذي وقال حسن غريب وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعا قال : خصال لا تنبغي في المسجد : لا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه أحد ولا يتخذ سوقا وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع ] ورواه ابن ماجه أيضا وفي إسنادهما ضعف أما أنه لا يتخذ طريقا فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وجد مندوحة عنه وفي الأثر إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل فلما يخشى من إصابة بعض الناس به لكثرة المصلين فيه ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها لئلا يؤذي أحدا كما ثبت ذلك في الصحيح وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث وأما أنه لا يضرب فيه حد أو يقتص فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع وأما أنه لا يتخذ سوقا فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد [ إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها ] ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله وفي الحديث الثاني [ جنبوا مساجدكم صبيانكم ] وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبيانا يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحدا [ ومجانينكم ] يعني لأجل ضعف عقولهم وسخر الناس بهم فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك [ وبيعكم وشراءكم ] كما تقدم [ وخصوماتكم ] يعني التحاكم والحكم فيه ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد بل يكون في موضع غيره لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والالفاظ التي لا تناسبه ولهذا قال بعده [ ورفع أصواتكم ]
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن قال : حدثني يزيد بن حفصة عن السائب بن يزيد الكندي قال : كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال : اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال من أنتما ؟ أو من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال النسائي : حدثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال : أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضا صحيح وقوله [ وإقامة حدودكم وسل سيوفكم ] تقدما وقوله [ واتخذوا على أبوابها المطاهر ] يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة وقد كانت قريبا من مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضؤون وغير ذلك
وقوله [ وجمروها في الجمع ] يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم كل جمعة إسناده حسن لا بأس به والله أعلم وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا ] وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة وعند الدار قطني مرفوعا [ لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ] وفي السنن [ بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة ] ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول [ أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ] ( قال : أقط قال نعم ) قال فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك فضلك ] ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه و سلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه و سلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم ] ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسين عن أمه فاطمة بنت حسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال : [ اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ] وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال [ اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ] ورواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة بنت حسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك كله محاذرة الطول داخل في قوله تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع }
وقوله { ويذكر فيها اسمه } أي اسم الله كقوله { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } وقوله { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } وقوله { وأن المساجد لله } الاية وقوله تعالى : { ويذكر فيها اسمه } قال ابن عباس يعني فيها يتلى كتابه وقوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصال } أي في البكرات والعشيات والاصال جمع أصيل وهو آخر النهار وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني بالغدو صلاة الغداة ويعني بالاصال صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده وكذا قال الحسن والضحاك { يسبح له فيها بالغدو والآصال } يعني الصلاة ومن قرأ من القراء { يسبح له فيها بالغدو والآصال } بفتح الباء من { يسبح } على أنه مبني لما لم يسم فاعله وقف على قوله { والآصال } وقفا تاما وابتدأ بقوله { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } وكأنه مفسر للفاعل المحذوف كما قال الشاعر :
( ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح ... )
كأنه قال : من يبكيه ؟ قال هذا يبكيه وكأنه قيل من يسبح له فيها ؟ قال رجال وأما على قراءة من قرأ { يسبح } بكسر الباء فجعله فعلا وفاعله { رجال } فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل لأنه تمام الكلام فقوله تعالى : { رجال } فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه كما قال تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الاية وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين حدثني عمرو عن أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ خير مساجد النساء قعر بيوتهن ] وقال أحمد أيضا : حدثنا هارون أخبرني عبد الله بن وهب حدثنا داود بن قيس عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إني أحب الصلاة معك قال [ قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي ] قال : فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى لم يخرجوه هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحدا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ] رواه البخاري ومسلم ولأحمد وأبي داود [ وبيوتهن خير لهن ] وفي رواية [ وليخرجن وهن تفلات ] أي لا ريح لهن وقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا ] وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بين إسرائيل
وقوله تعالى : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } الاية وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } الاية يقول تعالى لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق ولهذا قال تعالى : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم قال هشيم عن شيبان قال : حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة فقال عبد الله بن مسعود : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } الاية وهكذا روى عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر : فيهم نزلت { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } رواه ابن أبي حاتم وابن جرير
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن عبد الله بن بكير الصنعاني حدثنا أبو سعيد مولى بن هاشم حدثنا عبد الله بن بجير حدثنا أبو عبد ربه قال : قال أبو الدرداء رضي الله عنه : إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه أربح كل يوم ثلثمائة دينار أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } وقال عمرو بن دينار الأعور : كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد فتلا سالم هذه الاية { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } ثم قال هم هؤلاء وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك : لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها وقال مطر الوراق : كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } يقول عن الصلاة المكتوبة وكذا قال مقاتل بن حيان والربيع بن أنس وقال السدي : عن الصلاة في جماعة وقال مقاتل بن حيان : لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها وقوله تعالى : { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال كقوله { وأنذرهم يوم الآزفة } الاية
وقوله { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } وقال تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا } وقوله تعالى ههنا : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم وقوله { ويزيدهم من فضله } أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم كما قال تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الاية وقال تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } الاية وقال { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } الاية وقال { والله يضاعف لمن يشاء } وقال ههنا { والله يرزق من يشاء بغير حساب } وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدا واحدا فكلهم لم يشربه لأنه كان صائما فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطرا ثم تلا قوله { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } رواه النسائي وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه
وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا جمع الله الأولين والاخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل ثم يحاسب سائر الخلائق ] وروى الطبراني من حديث بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } قال : أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا (3/390)
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين : ناريا ومائيا وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين : مائيا وناريا وقد تكلمنا على كل منهما في موضعه بما أغنى عن إعادته ولله الحمد والمنة فأما الأول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات وليسوا في نفس الأمر على شيء فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بعد كأنه بحر طام والقيعة : جمع قاع كجار وجيرة والقاع أيضا واحد القيعان كما يقال جار وجيران وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار وأما الال فإنما يكون أول النهار يرى كأنه ماء بين السماء والأرض فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه فلما انتهى إليه { لم يجده شيئا } فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حصل شيئا فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئا بالكلية قد قبل إما لعدم الإخلاص أو لعدم سلوك الشرع كما قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } وقال ههنا { ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } وهكذا روي عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد
وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن الله فيقال : كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون ؟ فيقولون : يا رب عطشنا فاسقنا فيقال : ألا ترون ؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فينطلقون فيتهافتون فيها وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى : { أو كظلمات في بحر لجي } قال قتادة { لجي } هو العميق { يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها } أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده ولا يدري أين يذهب بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب ؟ قال معهم قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال لا أدري
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما { يغشاه موج } الاية يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر وهي كقوله { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم } الاية وكقوله { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } الاية وقال أبي بن كعب في قوله تعالى : { ظلمات بعضها فوق بعض } فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار وقال السدي والربيع بن أنس نحو ذلك أيضا وقوله تعالى : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائل بائر كافر كقوله { من يضلل الله فلا هادي له } وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين { يهدي الله لنوره من يشاء } فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورا وعن أيماننا نورا وعن شمائلنا نورا وأن يعظم لنا نورا (3/395)
يخبر تعالى أنه يسبح له من في السموات والأرض أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان حتى الجماد كما قال تعالى : { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } الاية وقوله تعالى : { والطير صافات } أي في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة ولهذا قال تعالى : { كل قد علم صلاته وتسبيحه } أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز و جل ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء ولهذا قال تعالى : { والله عليم بما يفعلون } ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا معقب لحكمه { وإلى الله المصير } أي يوم القيامة فيحكم فيه بما يشاء { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } الاية فهو الخالق المالك ألا له الحكم في الدنيا والأخرى وله الحمد في الأولى والأخرة (3/397)
يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الإزجاء { ثم يؤلف بينه } أي يجمعه بعد تفرقه { ثم يجعله ركاما } أي متراكما أي يركب بعضه بعضا { فترى الودق } أي المطر { يخرج من خلاله } أي من خلله وكذا قرأها ابن عباس والضحاك قال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب روواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله
وقوله { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } قال بعض النحاة { من } الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض والثالثة لبيان الجنس وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله { من جبال فيها من برد } معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب فإن من الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا لكنها بدل من الأولى والله أعلم وقوله تعالى : { فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء } يحتمل أن يكون المراد بقوله { فيصيب به } أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد فيكون قوله { فيصيب به من يشاء } رحمة لهم { ويصرفه عن من يشاء } أي يؤخر عنهم الغيث ويحتمل أن يكون المراد بقوله { فيصيب به } أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم
وقوله { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته وقوله تعالى : { يقلب الله الليل والنهار } أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } أي لدليلا على عظمته تعالى كما قال تعالى { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } وما بعدها من الايات الكريمات (3/397)
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحية وما شاكلها { ومنهم من يمشي على رجلين } كالإنسان والطير { ومنهم من يمشي على أربع } كالأنعام وسائر الحيوانات ولهذا قال { يخلق الله ما يشاء } أي بقدرته لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولهذا قال { إن الله على كل شيء قدير } (3/398)
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والحكم والأمثال البينة المحكمة كثيرا جدا وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى ولهذا قال { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (3/398)
يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يقولون قولا بألسنتهم { آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك } أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون ولهذا قال تعالى : { وما أولئك بالمؤمنين } وقوله تعال : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } الاية أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه وهذه كقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء عن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا [ من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له ]
وقوله تعالى : { وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله { مذعنين } وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه و سلم ليروج باطله ثم فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق بل لأنه موافق لهواه ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره ولهذا قال تعالى : { أفي قلوبهم مرض } الاية يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها أو قد عرض لها شك في الدين أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم وأيا ما كان فهو كفر محض والله عليم بكل منهم وما هو منطو عليه من هذه الصفات
وقوله تعالى : { بل أولئك هم الظالمون } أي بل هم الظالمون الفاجرون والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور تعالى الله ورسوله عن ذلك قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مبارك حدثنا الحسن قال : كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعي إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو محق أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم سيقضي له بالحق وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه و سلم أعرض وقال : انطلق إلى فلان فأنزل الله هذه الاية فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ من كان بينه وبين أخيه شيء فدعي إلى حكم من أحكام المسلمين فأبى أن يجيب فهو ظالم لا حق له ] وهذا حديث غريب وهو مرسل
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله فقال { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } أي سمعا وطاعة ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب فقال تعالى : { وأولئك هم المفلحون } وقال قتادة في هذه الاية { أن يقولوا سمعنا وأطعنا } ذكر لنا أن عبادة بن الصامت وكان عقبيا بدريا أحد نقباء الأنصار أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية : ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك ؟ قال : بلى قال : فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك وعليك أن تقيم لسانك بالعدل وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله
وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا الدرداء قال : لا إسلام إلا بطاعة الله ولا خير إلا في جماعة والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة قال : وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين رواه ابن أبي حاتم والأحاديث والاثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله كثير جدا أكثر من أن تحصر في هذا المكان
وقوله { ومن يطع الله ورسوله } أي فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه ويخش الله فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل وقوله { فأولئك هم الفائزون } يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والاخرة (3/398)
يقول تعالى مخبرا عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه و سلم : لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن قال الله تعالى : { قل لا تقسموا } أي لا تحلفوا وقوله { طاعة معروفة } قيل معناه طاعتكم طاعة معروفة أي قد علم طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه وكلما حلفتم كذبتم كما قال تعالى : { يحلفون لكم لترضوا عنهم } الاية وقال تعالى : { اتخذوا أيمانهم جنة } الاية فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون }
وقيل المعنى في قوله { طاعة معروفة } أي ليكن أمركم طاعة معروفة أي بالمعروف من غير حلف ولا أقسام كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف فكونوا أنتم مثلهم { إن الله خبير بما تعملون } أي هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي فالحلف وإظهار الطاعة والباطن بخلافه وإن راج على المخلوق فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى لا يروج عليه شي من التدليس بل هو خبير بضمائر عباده وإن أظهروا خلافها ثم قال تعالى : { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله
وقوله تعالى : { فإن تولوا } أي تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به { فإنما عليه ما حمل } أي إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة { وعليكم ما حملتم } أي بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه { وإن تطيعوه تهتدوا } وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم { صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } الاية وقوله تعالى : { وما على الرسول إلا البلاغ } كقوله تعالى : { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } وقوله { فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر } قال وهب بن منبه : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في بني إسرائيل فإني سأطلق لسانك بوحي فقام فقال : يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقضي شأنا ويدبر أمرا هو منفذه إنه يريد أن يحول الريف إلى الفلاة والاجام في الغيطان والأنهار في الصحارى والنعمة في الفقراء والملك في الرعاة ويريد أن يبعث أميا من الأميين ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لو يمر على السراج لم يطفئه من سكينته ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه أبعثه بشيرا ونذيرا لا يقول الخنى أفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وأسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم وأجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة منطقه والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والحق شريعته والعدل سيرته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به من الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأعرف به بعد النكرة وأكثر به القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة وأهواء مشتتة وأستنقذ به فئاما من الناس عظيما من الهلكة وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين بما جاءت به رسلي رواه ابن أبي حاتم (3/400)
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة فإنه صلى الله عليه و سلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلم شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه و سلم وأطد جزيرة العرب ومهدها وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه ففتحوا طرفا منها وقتلوا خلقا من أهلها وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام وثالثا صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عز و جل واختار له ما عنده من الكرامة
ومن على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياما تاما لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية وأنفق أموالهما في سبيل الله كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ويبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ] فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله فنسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا
قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا ] ثم تكلم النبي صلى الله عليه و سلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قال [ كلهم من قريش ] ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك وذكر معه أحاديث أخر وفي هذا الحديث دلالة على أنه لابد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنه ثم كانت بعدهم فترة ثم وجد منهم من شاء الله ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وكنيته كنيته يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا ] وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } الاية قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها فأمرهم الله بالقتال فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فغبروا بذلك ما شاء الله ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة ] وأنزل الله هذه الاية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه و سلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فغير بهم وقال بعض السلف : خلافة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الاية
وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الاية ونحن في خوف شديد وهذه الاية الكريمة كقوله تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } وقوله تعالى : { كما استخلف الذين من قبلهم } كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } الاية وقال تعالى : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } الايتين
وقوله { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } الاية كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه [ أتعرف الحيرة ؟ قال : لم أعرفها ولكن قد سمعت بها قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز قلت : كسرى بن هرمز قال نعم كسرى بن هرمز وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد ] قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قالها
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الاخرة للدنيا لم يكن له في الاخرة نصيب ] وقوله تعالى : { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال : بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه و سلم على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل قال [ يا معاذ قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : ثم سار ساعة ثم قال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا قال : ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم قال : فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم ] أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة
وقوله تعالى : { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبا عظيما فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه و سلم بأوامر الله عز و جل وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب وأيدهم تأييدا عظيما وحكموا في سائر العباد والبلاد ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة ] ـ وفي رواية [ حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ] ـ وفي رواية ـ [ حتى يقاتلوا الدجال ] ـ وفي رواية ـ [ حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون ] وكل هذه الروايات صحيحة ولا تعارض بينها (3/401)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بإقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه و سلم أي سالكين وراءه فيما به أمرهم وتاركين ما عنه زجرهم لعل الله يرحمهم بذلك ولا شك أن من فعل هذا أن الله سيرحمه كما قال تعالى في الاية الأخرى : { أولئك سيرحمهم الله } وقوله تعالى : { لا تحسبن } أي لا تظن يا محمد أن { الذين كفروا } أي خالفوك وكذبوك { معجزين في الأرض } أي لا يعجزون الله بل الله قادر عليهم وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب ولهذا قال تعالى : { ومأواهم } أي في الدار الاخرة { النار ولبئس المصير } أي بئس المآل مآل الكافرين وبئس القرار وبئس المهاد (3/403)
هذه الايات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال ( الأول ) من قبل صلاة الغداة لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } اي في وقت القيلولة لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله { ومن بعد صلاة العشاء } لأنه وقت النوم فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال ولهذا قال { ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم من ذلك إياهم ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال لأنه قد أذن لهم في الهجوم ولأنهم طوافون عليكم اي في الخدمة وغير ذلك ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في الهرة [ إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو والطوافات ] ولما كانت هذه الاية محكمة ولم تنسخ بشيء وكان عمل الناس بها قليلا جدا أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس
كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } إلى آخر الاية والاية التي في سورة النساء { وإذا حضر القسمة أولو القربى } الاية والاية في الحجرات { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وروى أيضا من حديث إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات فلم يعملوا بهن { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } إلى آخر الاية
وروى أبو داود : حدثنا ابن الصباح وابن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه : أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول : لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لامر جاريتي هذه تستأذن علي قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به وقال الثوري عن موسى بن أبي عائشة : سألت الشعبي { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } ؟ قال : لم تنسخ قلت : فإن الناس لا يعملون بها فقال : الله المستعان
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب أخبرنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ثم جاء الله بعد بالستور فبسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ورواه أبو داود عن القعنبي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به
وقال السدي : كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن وقال مقاتل بن حيان : بلغنا ـ والله أعلم ـ أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه و سلم طعاما فجعل الناس يدخلون بغير إذن فقالت أسماء : يا رسول الله ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها ـ وهما في ثوب واحد ـ غلامهما بغير إذن فأنزل الله في ذلك { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } إلى آخرها ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله { كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم } ثم قال تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته وإن لم يكن في الأحوال الثلاث
قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : إذا كان الغلام رباعيا فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال وهكذا قال سعيد بن جبير وقال في قوله { كما استأذن الذين من قبلهم } يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه وقوله { والقواعد من النساء } قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والضحاك وقتادة : هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد { اللاتي لا يرجون نكاحا } أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة } أي ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء
قال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } الاية فنسخ واستثنى من ذلك القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا الاية قال ابن مسعود في قوله { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } قال : الجلباب أو الرداء وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم وقال أبو صالح : تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار
وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود { أن يضعن ثيابهن } وهو الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد ان يكون عليها خمار صفيق وقال سعيد بن جبير في الاية { غير متبرجات بزينة } يقول : لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عبد الله حدثنا ابن المبارك حدثني سوار بن ميمون حدثنا طلحة بن عاصم عن أم الضياء أنها قالت : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت : يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق ؟ فقالت : يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة أحل الله لكن الزينة غير متبرجات أي لا يحل لكن ان يروا منكن محرما
وقال السدي : كان شريك لي يقال له مسلم وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان فجاء يوما إلى السوق وأثر الحناء في يده فسألته عن ذلك فأخبرني أنه خضب رأس مولاته وهي امرأة حذيفة فأنكرت ذلك فقال : إن شئت ادخلتك عليها ؟ فقلت : نعم فأدخلني عليها فإذا هي امرأة جليلة فقلت لها : إن مسلما حدثني أنه خضب لك رأسك ؟ فقالت : نعم يا بني إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا وقد قال الله تعالى في ذلك ما سمعت وقوله { وأن يستعففن خير لهن } أي وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزا خير وأفضل لهن { والله سميع عليم } (3/404)
اختلف المفسرون رحمهم الله في المعنى الذي لأجله رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ههنا فقال عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنها : نزلت في الجهاد وجعلوا هذه الاية ههنا كالتي في سورة الفتح وتلك في الجهاد لا محالة أي إنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم وكما قال تعالى في سورة براءة { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون } وقيل : المراد ههنا أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات فربما سبقه غيره إلى ذلك ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فيفتات عليه جليسه والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم فأنزل الله هذه الاية رخصة في ذلك وهذا قول سعيد بن جبير ومقسم
وقال الضحاك : كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرا وتعززا ولئلا يتفضلوا عليهم فأنزل الله هذه الاية وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج } الاية قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو بالأعرج أو بالمريض إلى بيت أبيه أو أخيه أو بيت أخته أو بيت عمته أو بيت خالته فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم فنزلت هذه الاية رخصة لهم وقال السدي : كان الرجل يدخل بيت أبيه أو أخيه أو ابنه فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فلا يأكل من أجل أن رب البيت ليس ثم فقال الله تعالى { ليس على الأعمى حرج } الاية
وقوله تعالى : { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } إنما ذكر هذا وهو معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ وليستأديه به ما بعده في الحكم وتضمن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينص عليهم ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أنت ومالك لأبيك ] وقوله { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه } هذا ظاهر وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما وأما قوله { أو ما ملكتم مفاتحه } فقال سعيد بن جبير والسدي : هو خادم الرجل من عبد وقهرمان فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف وقال الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان المسلمون يذهبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم وإنما نحن أمناء فأنزل الله { أو ما ملكتم مفاتحه }
وقوله { أو صديقكم } أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه وقوله { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية : وذلك لما أنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل من الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم } وكانوا أيضا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره فرخص الله لهم في ذلك فقال { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } وقال قتادة : كان هذا الحي من بني كنانة يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل
كما رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا [ قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إنا نأكل ولا نشبع قال : لعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه ] ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث الوليد بن مسلم به وقد روى ابن ماجه أيضا من حديث عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن أبيه عن عمرو [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة ]
وقوله { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري : يعني فليسلم بعضكم على بعض وقال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير سمعت جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة قال : ما رأيته إلا يوجبه قال ابن جريج : وأخبرني زياد عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخل أحدكم بيته فليسلم قال ابن جريج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم ؟ قال : لا ولا آثر وجوبه عن أحد ولكن هو أحب إلي وما أدعه إلا ناسيا
وقال مجاهد : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وروى الثوري عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل : بسم الله والحمد لله السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقال قتادة : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه كان يؤمر بذلك وحدثنا أن الملائكة ترد عليه
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عويد بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن أنس قال : [ أوصاني النبي صلى الله عليه و سلم بخمس خصال قال : يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك وإذا دخلت ـ يعني بيتك ـ فسلم على أهلك يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك يا أنس ارحم الصغير ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة ] وقوله { تحية من عند الله مباركة طيبة } قال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله سمعت الله يقول { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة } فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ثم يدعو لنفسه ويسلم وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث ابن إسحاق والذي في صحيح مسلم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يخالف هذا والله أعلم وقوله { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون } لما ذكر تعالى ما في هذه السور الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة نبه تعالى عباده على أنه يبين لعباده الايات بيانا شافيا ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون (3/406)
نما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استاذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم وهذا أيضا أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته وإن من يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء ولهذا قال { فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله } الاية وقد قال أبو داود : حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا : حدثنا بشر هو ابن المفضل عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الاخرة ] وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به وقال الترمذي : حديث حسن (3/409)
قال الضحاك عن ابن عباس : كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم الله عز و جل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه و سلم قال : فقولوا يا نبي الله يا رسول الله وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه و سلم وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود وقال مقاتل في قوله { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } يقول : لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عبد الله ولكن شرفوه فقولوا : يا نبي الله يا رسول الله
وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } قال : أمرهم الله أن يشرفوه هذا قول وهو الظاهر من السياق كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } إلى آخر الاية وقوله { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم * إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم } الاية فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه و سلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته والقول الثاني في ذلك أن المعنى في { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري وعطية العوفي والله أعلم
وقوله { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } قال مقاتل بن حيان : هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة ويعني بالحديث الخطبة فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم حتى يخرجوا من المسجد وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه و سلم في يوم الجمعة بعد ما يأخذ في الخطبة وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه و سلم يخطب بطلت جمعته وقال السدي : كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم وقال قتادة في قوله { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } يعني لواذا عن نبي الله وعن كتابه وقال سفيان { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } قال : من الصف وقال مجاهد في الاية { لواذا } خلافا
وقوله { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا وظاهرا { أن تصيبهم فتنة } أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة { أو يصيبهم عذاب أليم } أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك كما روى الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه ويقتحمن فيها ـ قال ـ فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها ] أخرجاه من حديث عبد الرزاق (3/409)
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم فقال { قد يعلم ما أنتم عليه } وقد للتحقيق كما قال قبلها { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } وقال تعالى : { قد يعلم الله المعوقين منكم } الاية وقال تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك } الاية وقال { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } وقال { قد نرى تقلب وجهك في السماء } الاية فكل هذه الايات فيها تحقيق الفعل بقد كقول المؤذن تحقيقا وثبوتا : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة فقوله تعالى : { قد يعلم ما أنتم عليه } أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة كما قال تعالى : { وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم } وقوله { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } وقال تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر وقال تعالى : { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون } وقال تعالى : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به } الاية وقال تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } وقال { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } والايات والأحاديث في هذا كثيرة جدا
وقوله { ويوم يرجعون إليه } أي ويوم ترجع الخلائق إلى الله وهو يوم القيامة { فينبئهم بما عملوا } أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير كما قال تعالى : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } وقال { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } ولهذا قال ههنا { ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم } والحمد لله رب العالمين ونسأله التمام
آخر تفسير سورة النور و لله الحمد والمنة (3/410)
سورة الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم (3/411)
يقول تعالى حامدا لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم كما قال تعالى : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات } الاية وقال ههنا { تبارك } وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة { الذي نزل الفرقان } نزل فعل من التكرر والتكثر كقوله { والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة والقرآن نزل منجما مفرقا مفصلا آيات بعد آيات وأحكاما بعد أحكام وسورا بعد سور وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } ولهذا سماه ههنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والحلال والحرام
وقوله { على عبده } هذه صفة مدح وثناء لأنه أضافه إلى عبوديته كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء فقال { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه فقال { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } وقوله { ليكون للعالمين نذيرا } أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } الذي جعله فرقانا عظيما إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء كما [ قال صلى الله عليه و سلم : بعثت إلى الأحمر والأسود ] وقال : [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي فذكر منهن أنه : كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ] كما قال تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } الاية أي الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي يحيي ويميت وهكذا قال ههنا { الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك ثم أخبر أنه { خلق كل شيء فقدره تقديرا } أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره (3/411)
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله الخالق لكل شيء المالك لأزمة الأمور الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومع هذا عبدوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة بل هم مخلوقون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فكيف يملكون لعابديهم ؟ { ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } أي ليس لهم من ذلك شيء بل ذلك كله مرجعه إلى الله عز و جل الذي هو يحيي ويميت وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } كقوله { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } وقوله { فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة } { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون } { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ولا تنبغي العبادة إلا له لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو الذي لا ولد ولا والد له ولا عديل ولا نديد ولا وزير ولا نظير بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (3/412)
يقول تعالى مخبرا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار في قولهم عن القرآن { إن هذا إلا إفك } أي كذب { افتراه } يعنون النبي صلى الله عليه و سلم { وأعانه عليه قوم آخرون } أي واستعان على جمعه بقوم آخرين فقال الله تعالى : { فقد جاؤوا ظلما وزورا } أي فقد افتروا هم قولا باطلا وهم يعلمون أنه باطل ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها } يعنون كتب الأوائل أي استنسخها { فهي تملى عليه } أي تقرأ عليه { بكرة وأصيلا } أي في أول النهار وآخره وهذا الكلام لسخافته وكذبه وبهته منهم يعلم كل أحد بطلانه فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يعاني شيئا من الكتابة لا في أول عمره ولا في آخره وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته وبره وأمانته وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره وإلى أن بعث الأمين لما يعلمون من صدقه وبره فلما أكرمه الله بما أكرمه به نصبوا له العداوة ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها وحاروا فيما يقذفونه به فتارة من إفكهم يقولون ساحر وتارة يقولون شاعر وتارة يقولون مجنون وتارة يقولون كذاب وقال الله تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } وقال تعالى في جواب ما عاندوا ههنا وافتروا { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض } الاية أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والاخرين إخبارا حقا صدقا مطابقا للواقع في الخارج ماضيا ومستقبلا { الذي يعلم السر } أي الله الذي يعلم غيب السموات والأرض ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر
وقوله تعالى : { إنه كان غفورا رحيما } دعاء لهم إلى التوبة والإنابة وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حلمه عظيم وأن من تاب إليه تاب عليه فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى كما قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } وقال تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة (3/412)
يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم وإنما تعللوا بقولهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام } يعنون كما نأكله ويحتاج إليه كما نحتاج إليه { ويمشي في الأسواق } أي يتردد فيها وإليها طلبا للتكسب والتجارة { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } يقولون : هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون له شاهدا على صدق ما يدعيه وهذا كما قال فرعون { فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } وكذلك قال هؤلاء على السواء تشابهت قلوبهم ولهذا قالوا { أو يلقى إليه كنز } أي علم كنز ينفق منه { أو تكون له جنة يأكل منها } أي تسير معه حيث سار وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك وله الحجة البالغة { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } قال الله تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا } أي جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك من قولهم ساحر مسحور مجنون كذاب شاعر وكلها أقوال باطلة كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك ولهذا قال { فضلوا } عن طريق الهدى { فلا يستطيعون سبيلا } وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال حيثما توجه لأن الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا
ثم قال تعالى مخبرا نبيه أنه إن شاء لاتاه خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن فقال { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك } الاية قال مجاهد : يعني في الدنيا قال : وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا كبيرا كان أو صغيرا قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة : [ قيل للنبي صلى الله عليه و سلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيا قبلك ولا نعطي أحدا من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله فقال : اجمعوها لي في الاخرة ] فأنزل الله عز و جل في ذلك { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك } الاية
وقوله { بل كذبوا بالساعة } أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيبا وعنادا لا أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال { وأعتدنا } أي أرصدنا { لمن كذب بالساعة سعيرا } أي عذابا أليما حارا لا يطاق في نار جهنم قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير { السعير } واد من قيح جهنم وقوله { إذا رأتهم } أي جهنم { من مكان بعيد } يعني في مقام المحشر قال السدي : من مسيرة مائة عام { سمعوا لها تغيظا وزفيرا } أي حنقا عليهم كما قال تعالى : { إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ } أي يكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غيظها على من كفر بالله
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا إدريس بن حاتم بن الأحنف الواسطي أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي عن أصبغ بن زيد عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك بإسناده عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قال رسول الله : من يقل علي ما لم أقل أو ادعى إلى غير والديه أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ـ وفي رواية ـ فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل : يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال : أما سمعتم الله يقول { إذا رأتهم من مكان بعيد } الاية ] ورواه ابن جرير عن محمد بن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي به وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو بكر بن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال : خرجنا مع عبد الله يعني ابن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم فمروا على حداد فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار ونظر الربيع بن خيثم إليها فتمايل الربيع ليسقط فمر عبد الله على أتون على شاطىء الفرات فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الاية { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } فصعق يعني الربيع وحملوه إلى أهل بيته فرابطه عبد الله إلى الظهر فلم يفق رضي الله عنه
وحدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف هكذا رواه ابن أبي حاتم بأسناده مختصرا وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض فيقول لها الرحمن : ما لك ؟ قالت : إنه يستجير مني فيقول : أرسلوا عبدي وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول : يا رب ما كان هذا الظن بك فيقول : فما كان ظنك ؟ فيقول : أن تسعني رحمتك فيقول : أرسلوا عبدي وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف وهذا إسناد صحيح
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله { سمعوا لها تغيظا وزفيرا } قال : إن جهنم لتزفر زفرة لايبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه ترتعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : رب لاأسألك اليوم إلا نفسي وقوله { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين } قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال : مثل الزج في الرمح أي من ضيقه وقال عبد الله بن وهب : أخبرني نافع بن يزيد عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنه سئل عن قول الله { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين } قال : والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ]
وقوله { مقرنين } قال أبو صالح : يعني مكتفين { دعوا هنالك ثبورا } أي بالويل والحسرة والخيبة { لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا } الاية روى الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أنس بن مالك [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي ياثبوراه وينادون ياثبورهم حتى يقفوا على النار فيقول يا ثبوراه ويقولون ياثبورهم فيقال لهم لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ] لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن عفان به ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا } الاية أي لاتدعوا اليوم ويلا واحدا وادعوا ويلا كثيرا وقال الضحاك : الثبور الهلاك والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار كما قال موسى لفرعون { وإني لأظنك يا فرعون مثبورا } أي هالكا وقال عبد الله بن الزبعري :
( إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ... ي ومن مال ميله مثبور ) (3/413)
يقول تعالى : يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم فتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ وزفير ويلقون في أماكنها الضيق مقرنين لا يستطيعون حراكا ولا استنصارا ولا فكاكا مما هم فيه أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده التي أعدها لهم وجعلها لهم جزاء ومصيرا على ماأطاعوه في الدنيا وجعل مآلهم إليها { لهم فيها ما يشاؤون } من الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ومناظر وغير ذلك مما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد وهم في ذلك خالدون أبدا دائما سرمدا بلاانقطاع ولا زوال ولا انقضاء ولا يبغون عنها حولا وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم ولهذا قال { كان على ربك وعدا مسؤولا } أي لابد أن يقع وأن يكون كما حكاه أبو جعفر بن جرير عن بعض علماء العربية أن معنى قوله { وعدا مسؤولا } أي وعدا واجبا
وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس { كان على ربك وعدا مسؤولا } يقول : سلوا الذي وعدتكم ـ أو قال وعدناكم ـ ننجز وعدهم وتنجزوه وقال محمد بن كعب القرظي في قوله { كان على ربك وعدا مسؤولا } إن الملائكة تسأل لهم ذلك { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } وقال أبو حازم : إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون : ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله { وعدا مسؤولا } وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار ثم التنبيه على حال أهل الجنة كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل الجنة وما فيها من النضرة والحبور ثم قال { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون } (3/416)
يقول تعالى مخبرا عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم فقال { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله } قال مجاهد : هوعيسى والعزير والملائكة { فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } الاية أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين : أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم ؟ كما قال الله تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } الاية ولهذا قال تعالى مخبرا عما يجيب به المعبودون يوم القيامة { قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } قرأ الأكثرون بفتح النون من قوله { نتخذ من دونك من أولياء } أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك لا نحن ولا هم فنحن ما دعوناهم إلى ذلك بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم كما قال تعالى : { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك } الاية وقرأ آخرون { ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } أي ما ينبغي لأحد أن يعبدنا فإنا عبيد لك فقراء إليك وهي قريبة المعنى من الأولى { ولكن متعتهم وآباءهم } أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك { وكانوا قوما بورا } قال ابن عباس : أي هلكى وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم وقال ابن الزبعري حين أسلم :
( يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور )
( إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ... ي ومن مال ميله مثبور )
وقال الله تعالى : { فقد كذبوكم بما تقولون } أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى كقوله تعالى { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } وقوله { فما تستطيعون صرفا ولا نصرا } أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم { ومن يظلم منكم } أي يشرك بالله { نذقه عذابا كبيرا } (3/416)
يقول تعالى مخبرا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين : أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاؤوا به من الله ونظير هذه الاية الكريمة قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } وقوله { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } الاية وقوله تعالى : { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون } أي اختبرنا بعضكم ببعض وبلونا بعضكم ببعض لنعلم من يطيع ممن يعصي ولهذا قال { أتصبرون وكان ربك بصيرا } أي بمن يستحق أن يوحي إليه كما قال تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون } قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم وفي صحيح مسلم عن عياض بن عماد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتل بك ] وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة ] وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا (3/417)
يقول تعالى مخبرا عن تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم في قولهم { لولا أنزل علينا الملائكة } أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء كما أخبر الله عنهم في الاية الأخرى { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا { لولا أنزل علينا الملائكة } فنراهم عيانا فيخبرونا أن محمدا رسول الله كقولهم { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان ولهذا قالوا : { أو نرى ربنا } ولهذا قال الله تعالى : { لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا } وقد قال تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى } الاية وقوله تعالى : { يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا } أي هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار والغضب من الجبار فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث اخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه كما قال الله تعالى : { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } الاية وقال تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم } أي بالضرب { أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } ولهذا قال في هذه الاية الكريمة { يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين } وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم فإنهم يبشرون بالخيرات وحصول المسرات قال الله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم } وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب : أن الملائكة تقول لروح المؤمن : اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب إن كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم عند قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء }
وقال آخرون : بل المراد بقوله { يوم يرون الملائكة لا بشرى } يعني يوم القيامة قاله مجاهد والضحاك وغيرهما ولا منافاة بين هذا وما تقدم فإن الملائكة في هذين اليومين : يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران فلا بشرى يومئذ للمجرمين { ويقولون حجرا محجورا } أي وتقول الملائكة للكافرين : حرام محرم عليكم الفلاح اليوم وأصل الحجر المنع ومنه يقال حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف إما لفلس أو سفه أو صغر أو نحو ذلك ومنه سمي الحجر عند البيت الحرام لأنه يمنع الطواف أن يطوفوا فيه وإنما يطاف من ورائه ومنه يقال للعقل حجر لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق والغرض أن الضمير في قوله { ويقولون } عائد على الملائكة هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني وخصيف وغير واحد واختاره ابن جرير
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا موسى يعني ابن قيس عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في الاية { ويقولون حجرا محجورا } قال : حراما محرما أن يبشر بما يبشر به المتقون وقد حكى ابن جرير عن ابن جريج أنه قال ذلك من كلام المشركين { يوم يرون الملائكة } أي يتعوذون من الملائكة وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقول { حجرا محجورا } وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه ولكن قد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله { حجرا محجورا } أي عوذا معاذا فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج ولكن في رواية ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال { حجرا محجورا } عوذا معاذا الملائكة تقول ذلك فا لله أعلم
وقوله تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل } الاية هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ ولهذا قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } قال مجاهد والثوري { وقدمنا } أي عمدنا وكذا قال السدي وبعضهم يقول : أتينا عليه
وقوله تعالى : { فجعلناه هباء منثورا } قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله { هباء منثورا } قال : شعاع الشمس إذا دخل الكوة وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك وغيرهم وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدهم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { هباء منثورا } قال : هو الماء المهراق وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي { هباء منثورا } قال : الهباء رهج الدواب وروي مثله عن ابن عباس أيضا و الضحاك وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
وقال قتادة في قوله { هباء منثورا } قال : أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح ؟ فهو ذلك الورق وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن عبيد بن يعلى قال : وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الاية وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها على شيء فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا إذا إنها لا شيء بالكلية وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية كما قال تعالى { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح } الاية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا } وقال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا } وتقدم الكلام على تفسير ذلك ولله الحمد والمنة
وقوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } أي يوم القيامة { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات الامنات فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام { خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما } وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات والحسرات المتتابعات وأنواع العذاب والعقوبات { إنها ساءت مستقرا ومقاما } أي بئس المنزل منظرا وبئس المقيل مقاما ولهذا قال تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا وصاروا إلى ما صاروا إليه بخلاف أهل النار فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء وأنه لا خير عندهم بالكلية فقال تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } قال الضحاك عن ابن عباس : إنما هي ضحوة فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين
وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قال الله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } وقال عكرمة : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة فينصرف أهل النار إلى النار وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة فكانت قيلولتهم في الجنة وأطعموا كبد حوت فأشبعهم كلهم وذلك قوله { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } وقال سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } وقرأ { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم }
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } قال : قالوا في الغرف من الجنة وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة وذلك الحساب اليسير وهو مثل قوله تعالى : { فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا } وقال قتادة { خير مستقرا وأحسن مقيلا } مأوى ومنزلا وقال قتادة : وحدث صفوان بن محرز أنه قال : يجاء برجلين يوم القيامة أحدهما كان ملكا في الدنيا إلى الحمرة والبياض فيحاسب فإذا عبد لم يعمل خيرا قط فيؤمر به إلى النار والاخر كان صاحب كساء في الدنيا فيحاسب فيقول : يا رب ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به فيقول الله : صدق عبدي فأرسلوه فيؤمر به إلى الجنة ثم يتركان ما شاء الله ثم يدعى صاحب النار فإذا هو مثل الحممة السوداء فيقال له : كيف وجدت ؟ فيقول : شر مقيل فيقال له : عد ثم يدعى بصاحب الجنة فإذا هو مثل القمر ليلة البدر فيقال له : كيف وجدت ؟ فيقول : رب خير مقيل فيقال له : عد رواها ابن أبي حاتم كلها وقال ابن جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وإنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس وذلك قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } (3/418)
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة فمنها انشقاق السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار ونزول ملائكة السموات يومئذ فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء قال مجاهد : وهذا كما قال تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } الاية
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا مؤمل حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قرأ هذه الاية { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } قال ابن عباس رضي الله : عنهما يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد : الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من الجن والإنس ومن جميع الخلق فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والإنس وجميع الخلق ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء الدنيا ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق ثم كذلك كل سماء على ذلك التضعيف حتى تنشق السماء السابعة فينزل أهلها وهم أكثر ممن نزل قبلهم من أهل السموات ومن الجن والإنس ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم من أهل السموات وبالجن والإنس وجميع الخلق كلهم وينزل ربنا عز و جل في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السموات السبع ومن الجن والإنس وجميع الخلق لهم قرون كأكعب القنا وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله عز و جل ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام وما بين كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام وما بن ركبته إلى حجزته مسيرة خمسمائة عام وما بين حجزته إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام وما بين ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام وجهنم مجنبته وهكذا رواه ابن حاتم بهذا السياق
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس يقول : إن هذه السماء إذا انشقت ينزل منها من الملائكة أكثر من الإنس والجن وهو يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض فيقول أهل الأرض : جاء ربنا ؟ فيقولون : لم يجىء وهو آت ثم تنشق السماء الثانية ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السموات ومن الجن والإنس قال : فتنزل الملائكة الكروبيون ثم يأتي ربنا في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة قال : وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه وكل ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه يقول : سبحان الملك القدوس وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القباء والعرش فوق ذلك ثم وقف فمداره على علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف وفي سياقاته غالبا وفيها نكارة شديدة وقد ورد في حديث الصور المشهور قريب من هذا والله أعلم وقد قال الله تعالى : { فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } قال شهر بن حوشب : حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ورواه ابن جرير عنه وقال أبو بكر بن عبد الله : إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم شخصت إليه أبصارهم ورجفت كلاهم في أجوافهم وطارت قلوبهم من مقرها من صدورهم إلى حناجرهم قال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا المعتمر بن سليمان عن عبد الجليل عن أبي حازم عن عبد الله بن عمرو قال : يهبط الله عز و جل حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع له القلوب وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو من كلامه ولعله من الزاملتين والله أعلم
وقوله تعالى : { الملك يومئذ الحق للرحمن } الاية كما قال تعالى : { لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار } وفي الصحيح أن الله تعالى يطوي السموات بيمينه ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ثم يقول : أنا الملك أنا الديان أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون أين المتكبرون ؟ وقوله { وكان يوما على الكافرين عسيرا } أي شديدا صعبا لأنه يوم عدل وقضاء فصل كما قال تعالى : { فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير } فهذا حال الكافرين في هذا اليوم وأما المؤمنون فكما قال تعالى : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } الاية
وروى الإمام أحمد : حدثنا حسين بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله { يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } ما أطول هذا اليوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا ] وقوله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه و سلم وما جاء به من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم وعض على يديه حسرة وأسفا وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء فإنها عامة في كل ظالم كما قال تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار } الايتين فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم ويعض على يديه قائلا { يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف أو غيرهما { لقد أضلني عن الذكر } وهو القرآن { بعد إذ جاءني } أي بعد بلوغه إلي قال الله تعالى : { وكان الشيطان للإنسان خذولا } أي يخذله عن الحق ويصرفه عنه ويستعمله في الباطل ويدعوه إليه (3/421)
يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه و سلم أنه قال [ يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ] وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } الاية فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه فهذا من هجرانه وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه وترك تدبره وتفهمه من هجرانه وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء أن يخلصنا مما يسخطه ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب
وقوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن كذلك كان في الأمم الماضين لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم كما قال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن } الايتين ولهذا قال تعالى ههنا : { وكفى بربك هاديا ونصيرا } أي لمن اتبع رسوله وآمن بكتابه وصدقه واتبعه فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والاخرة وإنما قال { هاديا ونصيرا } لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد به ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن فلهذا قال { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } الاية (3/423)
يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كقوله { وقرآنا فرقناه } الاية ولهذا قال { لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا } قال قتادة : بيناه تبيينا وقال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم : وفسرناه تفسيرا { ولا يأتونك بمثل } أي بحجة وشبهة { إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } أي ولا يقولون قولا يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس { ولا يأتونك بمثل } أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول { إلا جئناك بالحق } الاية أي إلا نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم وما هذا إلا اعتناء وكبير شرف للرسول صلى الله عليه و سلم حيث كان يأتيه الوحي من الله عز و جل بالقرآن صباحا ومساء وليلا ونهارا سفرا وحضرا وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال كتاب مما قبله من الكتب المتقدمة فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله ومحمد صلى الله عليه و سلم أعظم نبي أرسله الله تعالى وقد جمع الله للقرآن الصفتين معا ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث وقال أبو عبد الرحمن النسائي أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة قال الله تعالى : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } وقال تعالى : { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا }
ثم قال تعالى مخبرا عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا } وفي الصحيح عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال [ إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ] وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من المفسرين (3/424)
يقول تعالى متوعدا من كذب رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم من مشركي قومه ومن خالفه ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيرا أي نبيا مؤازرا ومؤيدا وناصرا فكذبهما فرعون وجنوده { دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها } وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا رسوله نوحا عليه السلام ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل إذ لا فرق بين رسول ورسول ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبون ولهذا قال تعالى : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل } ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز و جل ويحذرهم نقمه { وما آمن معه إلا قليل } ولهذا أغرقهم الله جميعا ولم يبق منهم أحدا ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط { وجعلناهم للناس آية } أي عبرة يعتبرون بها كما قال تعالى : { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية } أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج البحار لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق وجعلكم من ذرية من آمن به وصدق أمره
وقوله تعالى : { وعادا وثمود وأصحاب الرس } قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة وأما أصحاب الرس فقال ابن جريج عن ابن عباس : هم أهل قرية من قرى ثمود وقال ابن جريج : قال عكرمة : أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب يس وقال قتادة : فلج من قرى اليمامة وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله { وأصحاب الرس } قال : بئر بأذربيجان وقال الثوري عن أبي بكير عن عكرمة : الرس بئر رسوا فيها نبيهم أي دفنوه بها
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم قال : فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله تعالى عليها فيدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت قال : فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم إنه هب فتمطى فتحول لشقه الاخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ثم إنه ذهب إلى الحفيرة موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وكان قد بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه قال : فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل فيقولون له : لا ندري حتى قبض الله النبي هب الأسود من نومته بعد ذلك ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة ] وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب مرسلا وفيه غرابة ونكارة ولعل فيه إدراجا والله أعلم وقال ابن جرير : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج فا لله أعلم
وقوله تعالى : { وقرونا بين ذلك كثيرا } أي وأمما أضعاف من ذكر أهلكناهم كثيرة ولهذا قال { وكلا ضربنا له الأمثال } أي بينا لهم الحجج ووضحنا لهم الأدلة كما قال قتادة : وأزحنا الأعذار عنهم { وكلا تبرنا تتبيرا } أي أهلكنا إهلاكا كقوله تعالى : { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } والقرن هو الأمة من الناس كقوله { ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } وحده بعضهم بمائة وعشرين سنة وقيل بمائة وقيل بثمانين وقيل أربعين وقيل غير ذلك والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن آخر كما ثبت في الصحيحين [ خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] الحديث { ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء } يعني قرية قوم لوط وهي سدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل كما قال تعالى : { وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين } وقال { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون } وقال تعالى : { وإنها لبسبيل مقيم } وقال { وإنهما لبإمام مبين } ولهذا قال { أفلم يكونوا يرونها } أي فيعتبروا بما حل بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله { بل كانوا لا يرجون نشورا } يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشورا أي معادا يوم القيامة (3/424)
يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه و سلم إذا رأوه كما قال تعالى : { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا } الاية يعنونه بالعيب والنقص وقال ههنا { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا } أي على سبيل التنقيص والازدراء فقبحهم الله كما قال { ولقد استهزئ برسل من قبلك } الاية وقوله تعالى : { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا } يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا { وسوف يعلمون حين يرون العذاب } الاية
ثم قال تعالى لنبيه منبها أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال فإنه لا يهديه أحد إلا الله عز و جل { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } أي مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه كما قال تعالى : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء } الاية ولهذا قال ههنا { أفأنت تكون عليه وكيلا } قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول ثم قال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } الاية أي هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة فإن تلك تعقل ما خلقت له وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم (3/426)
من ههنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة فقال تعالى : { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ؟ } قال ابن عباس وابن عمر وأبو العالية وأبو مالك ومسروق ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغيرهم : هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس { ولو شاء لجعله ساكنا } أي دائما لا يزول كما قال تعالى : { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا } الايات وقوله تعالى : { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } أي لولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف فإن الضد لا يعرف إلا بضده وقال قتادة والسدي : دليلا تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله
وقوله تعالى : { ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا } أي الظل وقيل الشمس { يسيرا } أي سهلا قال ابن عباس : سريعا وقال مجاهد : خفيا وقال السدي : قبضا خفيا حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة وقد أظلت الشمس ما فوقه وقال أيوب بن موسى في الاية { قبضا يسيرا } قليلا قليلا وقوله { وهو الذي جعل لكم الليل لباسا } أي يلبس الوجود ويغشاه كما قال تعالى : { والليل إذا يغشى } { والنوم سباتا } أي قاطعا للحركة لراحة الأبدان فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات فاستراحت فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا { وجعل النهار نشورا } أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم كما قال تعالى : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } الاية (3/427)
وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات أي بمجيء السحاب بعدها والرياح أنواع في صفات كثيرة من التسخير فمنها ما يثير السحاب ومنها ما يحمله ومنها ما يسوقه ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشرا ومنها ما يكون قبل ذلك يقم الأرض ومنها ما يلقح السحاب ليمطر ولهذا قال تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } أي آلة يتطهر بها كالسحور والوقود وما جرى مجراهما فهذا أصح ما يقال في ذلك وأما من قال إنه فعول بمعنى فاعل أو إنه مبني للمبالغة والتعدي فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة والحكم ليس هذا موضع بسطها والله أعلم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن أبي جعفر الرازي إلى حميد الطويل عن ثابت البناني قال : دخلت مع أبي العالية في يوم مطير وطرق البصرة قذرة فصلى فقلت له فقال { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } قال : طهره ماء السماء وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا وهيب عن داود عن سعيد بن المسيب في هذه الاية قال : أنزله الله طهورا لا ينجسه شيء وعن أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها النتن ولحوم الكلاب ؟ فقال [ إن الماء طهور لا ينجسه شيء ] رواه الشافعي وأحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي
وروى ابن أبي حاتم بإسناده : حدثنا أبي حدثنا أبو الأشعث حدثنا معتمر سمعت أبي يحدث عن سيار عن خالد بن يزيد قال : كان عند عبد الملك بن مروان فذكروا الماء فقال خالد بن يزيد : منه من السماء ومنه يسقيه الغيم من البحر فيغذ به الرعد والبرق فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات فأما النبات فمما كان من السماء وروي عن عكرمة قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة وقال غيره : في البر بر وفي البحر در
وقوله تعالى : { لنحيي به بلدة ميتا } أي أرضا قد طال انتظارها للغيث فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء فلما جاءها الحياء عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان كما قال تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } الاية { ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا } أي وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم كما قال تعالى : { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } الاية وقال تعالى : { فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها } الاية
وقوله تعالى : { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا } أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه كيف يشاء ثم قرأ هذه الاية { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا } أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه فيقلع عما هو فيه
وقال عمر مولى غقبة : كان جبريل عليه السلام في موضع الجنائز فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ يا جبريل إني أحب أن أعلم أمر السحاب ] قال : فقال له جبريل : يا نبي الله هذا ملك السحاب فسله فقال : تأتينا صكاك مختمة اسق بلاد كذا وكذا كذا وكذا قطرة رواه ابن أبي حاتم وهو حديث مرسل وقوله تعالى : { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } قال عكرمة : يعني الذين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل [ أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب ] (3/427)
يقول تعالى : { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } يدعوهم إلى الله عز و جل ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض وأمرناك أن تبلغهم القرآن { لأنذركم به ومن بلغ } { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } { لتنذر أم القرى ومن حولها } { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وفي الصحيحين [ بعثت إلى الأحمر والأسود ] وفيهما [ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ] ولهذا قال تعالى : { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به } يعني القرآن قاله ابن عباس { جهادا كبيرا } كما قال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } الاية
وقوله تعالى : { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج } أي خلق الماءين : الحلو والملح فالحلو كالأنهار والعيون والابار وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات الزلال قاله ابن جريج واختاره ابن جرير وهذا المعنى لا شك فيه فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأرضيهم
وقوله تعالى : { وهذا ملح أجاج } أي مالح مر زعاق لا يستساغ وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم وبحر اليمن وبحر البصرة وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر وما شاكلها وما شابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح ومنها ما فيه مد وجزر ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى فإذا استهل الهلال من الشهر الاخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة ثم تشرع في النقص فأجرى الله سبحانه وتعالى ـ وهو ذو القدرة التامة ـ العادة بذلك فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء فيفسد الوجود بذلك ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان ولما كان ماؤها مالحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة ولهذا [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سئل عن ماء البحر : أنتوضأ به ؟ فقال ] هو الطهور ماؤه الحل ميتته [ ] رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن بإسناد جيد
وقوله تعالى : { وجعل بينهما برزخا وحجرا } أي بين العذب والمالح { برزخا } أي حاجزا وهو اليبس من الأرض { وحجرا محجورا } أي مانعا من أن يصل أحدهما إلى الاخر كقوله تعالى : { مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان } وقوله تعالى : { أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله ؟ بل أكثرهم لا يعلمون } وقوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشرا } الاية أي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله وجعله كامل الخلقة ذكرا وأنثى كما يشاء { فجعله نسبا وصهرا } فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصير صهرا ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات وكل ذلك من ماء مهين ولهذا قال تعالى : { وكان ربك قديرا } (3/429)
يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام التي لا تملك له ضرا ولا نفعا بلا دليل قادهم إلى ذلك ولا حجة أدتهم إليه بل بمجرد الاراء والتشهي والأهواء فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم ولهذا قال تعالى : { وكان الكافر على ربه ظهيرا } أي عونا في سبيل الشيطان على حزب الله وحزب الله هم الغالبون كما قال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون } أي آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصرا وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم ويذبون عن حوزتهم ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا والاخرة
قال مجاهد { وكان الكافر على ربه ظهيرا } قال : يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه وقال سعيد بن جبير : { وكان الكافر على ربه ظهيرا } يقول : عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك وقال زيد بن أسلم { وكان الكافر على ربه ظهيرا } قال : مواليا ثم قال تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه { وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا } أي بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين مبشرا بالجنة لمن أطاع الله ونذيرا بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله { قل ما أسألكم عليه من أجر } أي على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى { لمن شاء منكم أن يستقيم } { إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } أي طريقا ومسلكا ومنهجا يقتدي فيها بما جئت به
ثم قال تعالى : { وتوكل على الحي الذي لا يموت } أي في أمورك كلها كن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبدا الذي هو { الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } الدائم الباقي السرمدي الأبدي الحي القيوم ورب كل شيء ومليكه اجعله ذخرك وملجأك وهو الذي يتوكل عليه ويفزع إليه فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك كما قال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس }
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل قال : قرأت على معقل يعني ابن عبيد الله عن عبد الله بن أبي حسين عن شهر بن حوشب قال : [ لقي سلمان النبي صلى الله عليه و سلم في بعض فجاج المدينة فسجد له فقال لا تسجد لي يا سلمان واسجد للحي الذي لا يموت ] وهذا مرسل حسن وقوله تعالى : { وسبح بحمده } أي اقرن بين حمده وتسبيحه ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ] أي أخلص له العبادة والتوكل كما قال تعالى : { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } وقال تعالى : { فاعبده وتوكل عليه } وقال تعالى : { قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا }
وقوله تعالى : { وكفى به بذنوب عباده خبيرا } أي بعلمه التام الذي لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله تعالى : { الذي خلق السموات والأرض } الاية أي هو الحي الذي لا يموت وهو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي خلق بقدرته السموات السبع في ارتفاعها واتساعها والأرضين السبع في سفولها وكثافتها { في ستة أيام ثم استوى على العرش } أي يدبر الأمر ويقضي الحق وهو خير الفاصلين
وقوله { ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } أي استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والاخرة الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فما قاله فهو الحق وما أخبر به فهو الصدق وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب رد نزاعهم إليه فما وافق أقواله وأفعاله فهو الحق وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان قال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء } الاية وقال تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } وقال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } أي صدقا في الإخبار وعدلا في الأوامر والنواهي ولهذا قال تعالى : { فاسأل به خبيرا }
قال مجاهد : في قوله { فاسأل به خبيرا } قال : ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك وكذا قال ابن جريج وقال شمر بن عطية في قوله { فاسأل به خبيرا } هذا القرآن خبير به ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } أي لا نعرف الرحمن وكانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين [ قال النبي صلى الله عليه و سلم للكاتب : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ولكن اكتب كما كنت تكتب : باسمك اللهم ] ولهذا أنزل الله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } أي هو الله وهو الرحمن وقال في هذه الاية { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } أي لا نعرفه ولا نقر به { أنسجد لما تأمرنا } أي لمجرد قولك { وزادهم نفورا } فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم ويفردونه بالإلهية ويسجدون له وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجود عندها لقارئها ومستمعها كما هو مقرر في موضعه والله سبحانه وتعالى أعلم (3/430)
يقول تعالى ممجدا نفسه ومعظما على جميل ما خلق في السماوات من البروج وهي الكواكب العظام في قول مجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح والحسن وقتادة وقيل : هي قصور في السماء للحرس يروى هذا عن علي وابن عباس ومحمد بن كعب وإبراهيم النخعي وسليمان بن مهران الأعمش وهو رواية عن أبي صالح أيضا والقول الأول أظهر اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس فيجتمع القولان كما قال تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } الاية ولهذا قال تعالى : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا } وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود كما قال تعالى : { وجعلنا سراجا وهاجا } { وقمرا منيرا } أي مشرقا مضيئا بنور آخر من غير نور الشمس كما قال تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } وقال مخبرا عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } ثم قال تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } أي يخلف كل واحد منهما صاحبه يتعاقبان لا يفتران إذا ذهب هذا جاء هذا وإذا جاء هذا ذهب ذاك كما قال تعالى : { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين } الاية وقال { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا } الاية وقال { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } الاية
وقوله تعالى : { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } أي جعلهما يتعاقبان توقيتا لعبادة عباده له عز و جل فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل وقد جاء في الحديث الصحيح [ إن الله عز و جل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ] وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو حمزه عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال : إنه بقي علي من وردي شيء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الاية { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية : يقول من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار أو من النهار أدركه بالليل وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقال مجاهد وقتادة : خلفة أي مختلفين أي هذا بسواده وهذا بضيائه (3/432)
هذه صفات عباد الله المؤمنين { الذين يمشون على الأرض هونا } أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار كقوله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرحا } الاية فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح ولا أشر ولا بطر وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه و سلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب وكأنما الأرض تطوى له وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا فقال : ما بالك أأنت مريض ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا ]
وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن البصري في قوله { وعباد الرحمن } الاية قال : إن المؤمنين قوم ذلل ذلت منهم ـ والله ـ الأسماع والأبصار والجوارح حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض وإنهم والله أصحاء ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بالاخرة فقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة ولكن أبكاهم الخوف من النار إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه
وقوله تعالى : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما وكما قال تعالى : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } الاية وروى الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي عن النعمان بن مقرن المزني قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وسب رجل رجلا عنده فجعل قال : المسبوب يقول : عليك السلام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما إن ملكا بينكما يذب عنك كلما شتمك هذا قال له : بل أنت وأنت أحق به وإذا قلت له وعليك السلام قال : لا بل عليك وأنت أحق به ] إسناده حسن ولم يخرجوه
وقال مجاهد { قالوا سلاما } يعني قالوا سدادا وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفا من القول وقال الحسن البصري : { قالوا سلاما } حلماء لا يجهلون إن جهل عليهم حلموا يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون ثم ذكر أن ليلهم خير ليل فقال تعالى : { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } أي في طاعته وعبادته كما قال تعالى : { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون } وقوله { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } الاية وقال تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } الاية ولهذا قال تعالى : { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما } أي ملازما دائما كما قال الشاعر :
( إن يعذب يكن غراما وإن يعط ... جزيلا فإنه لا يبالي )
ولهذا قال الحسن في قوله { إن عذابها كان غراما } كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام وإنما الغرام الملازم ما دامت السموات والأرض وكذا قال سليمان التيمي وقال محمد بن كعب { إن عذابها كان غراما } يعني ما نعموا في الدنيا إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار { إنها ساءت مستقرا ومقاما } أي بئس المنزل منظرا وبئس المقيل مقاما وقال ابن أبي حاتم عند قوله { إنها ساءت مستقرا ومقاما } حدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال : إذا طرح الرجل في النار هوى فيها فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له : مكانك حتى تتحف قال : فيسقى كأسا من سم الأساود والعقارب قال : فيميز الجلد على حدة والشعر على حدة والعصب على حدة والعروق على حدة وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال : إن في النار لجبابا فيها حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال الدلم فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم فكشطت لحومهم إلى أقدامهم فإذا وجدت حر النار رجعت
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى حدثنا سلام يعني ابن مسكين عن أبي ظلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن عبدا في جهنم لينادي ألف سنة : يا حنان يا منان فيقول الله عز و جل لجبريل : اذهب فأتني بعبدي هذا فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون فيرجع إلى ربه عز و جل فيخبره فيقول الله عز و جل ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا فيجيء به فيوقفه على ربه عز و جل فيقول له : يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ فيقول : يا رب شر مكان وشر مقيل فيقول الله عز و جل ردوا عبدي فيقول : يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها فيقول الله عز و جل دعوا عبدي ]
وقوله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } الاية أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلا خيارا وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا { وكان بين ذلك قواما } كما قال تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } الاية وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من فقه الرجل رفقه في معيشته ] ولم يخرجوه وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا مسكين بن عبد العزيز العبدي حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما عال من اقتصد ] لم يخرجوه
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون حدثنا سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال ـ يعني العبسي ـ عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما أحسن القصد في الغنى وأحسن القصد في الفقر وأحسن القصد في العبادة ] ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه وقال الحسن البصري : ليس في النفقة في سبيل الله سرف وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف وقال غيره : السرف النفقة في معصية الله عز و جل (3/433)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الذنب أكبر ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال : ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك ] قال عبد الله : وأنزل الله تصديق ذلك { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الاية وهكذا رواه النسائي عن هناد بن السري عن أبي معاوية به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ومنصور زاد البخاري وواصل ثلاثتهم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود به فالله أعلم ولفظهما عن ابن مسعود قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ الحديث طريق غريب
قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا عامر بن مدرك حدثنا السري يعني ابن إسماعيل حدثنا الشعبي عن مسروق قال : قال عبد الله [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فاتبعته فجلس على نشز من الأرض وقعدت أسفل منه ووجهي حيال ركبتيه واغتنمت خلوته وقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله أي الذنب أكبر ؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك قلت : ثم مه ؟ قال : أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك قلت : ثم مه ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك ثم قرأ { والذين لا يدعون مع الله } ] الاية وقال النسائي : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سلمة بن قيس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع ألا إنما هي أربع فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرقوا ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن المديني رحمه الله حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان حدثنا محمد بن سعد الأنصاري سمعت أبا طيبة الكلاعي سمعت المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه ما تقولون في الزنا ؟ قالوا : حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره قال : فما تقولون في السرقة ؟ قالوا : حرمها الله ورسوله فهي حرام قال : لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي ] عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له [
وقال ابن جريج : أخبرني يعلى عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه و سلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الاية ونزلت { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي فاختة قال : ] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لرجل : إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك وينهاك أن تزني بحليلة جارك قال سفيان : وهو قوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الاية
وقوله تعالى : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : أثاما : واد في جهنم وقال عكرمة { يلق أثاما } أودية في جهنم يعذب فيها الزناة وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وقال قتادة { يلق أثاما } نكالا كنا نحدث أنه واد في جهنم
وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول : يا بني إياك والزنا فإن أوله مخافة وآخره ندامة وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره عن أبي أمامة الباهلي موقوفا ومرفوعا : أن غيا وآثاما بئران في قعر جهنم أجارنا الله منهما بمنه وكرمه وقال السدي { يلق أثاما } جزاء وهذا أشبه بظاهر الاية وبهذا فسره بما بعده مبدلا منه وهو قوله تعالى : { يضاعف له العذاب يوم القيامة } أي يكرر عليه ويغلظ { ويخلد فيه مهانا } أي حقيرا ذليلا وقوله تعالى : { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر { إلا من تاب } أي في الدنيا إلى الله عز و جل من جميع ذلك فإن الله يتوب عليه وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الاية فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة فتحمل على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة ثم قد قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } الاية قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بصحة توبة القاتل كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته وغير ذلك من الأحاديث وقوله تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } في معنى قوله { يبدل الله سيئاتهم حسنات } قولان ( أحدهما ) أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية قال : هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الاية :
( بدلن بعد حره خريفا ... وبعد طول النفس الوجيفا )
يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا يكون الرجل على هيئة قبيحة ثم يبدله الله بها خيرا وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح وأبدلهم بالشرك إخلاصا وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما وهذا قول أبي العالية وقتادة وجماعة آخرين
( والقول الثاني ) أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات وما ذلك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته كما ثبتت السنة بذلك وصحت به الاثار المروية عن السلف رضي الله عنهم وهذا سياق الحديث قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة يؤتى برجل فيقول نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها قال : فيقال له : عملت يوم كذا كذا وكذا وعملت يوم كذا كذا وكذا فيقول : نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا فيقال : فإن لك بكل سيئة حسنة فيقول : يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه ] انفرد بإخراجه مسلم
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثني هاشم بن يزيد حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان : أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة وعارم قالا : حدثنا ثابت يعني ابن يزيد أبو زيد حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال : يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عز و جل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات قيل : من هم يا أبا هريرة ؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا أبو حمزة عن أبي الضيف ـ قلت : وكان من أصحاب معاذ بن جبل ـ قال يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم أصحاب اليمين قالت : لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال : لأنهم قد عملوا الحسنات والسيئات فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا وقالوا : يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } فهم أكثر أهل الجنة
وقال علي بن الحسين زين العابدين { يبدل الله سيئاتهم حسنات } قال : في الاخرة وقال مكحول : يغفرها لهم فيجعلها حسنات رواهما ابن أبي حاتم وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب مثله قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولا يحدث قال : [ جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال : يا رسول الله رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أأسلمت ؟ فقال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال النبي : فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ومبدل سيئاتك حسنات فقال : يا رسول الله وغدراتي وفجراتي ؟ فقال : وغدراتك وفجراتك فولى الرجل يهلل ويكبر ]
وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة شطب أنه [ أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة ؟ فقال : أسلمت ؟ فقال : نعم قال : فافعل الخيرات واترك السيئات فيجعلها الله لك خيرات كلها قال : وغدراتي وفجراتي ؟ قال : نعم فما زال يكبر حتى توارى ] ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي عن ياسين الزيات عن أبي سلمة الحمصي عن يحيى بن جابر عن سلمة بن نفيل مرفوعا وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان عن فليح الشماس عن عبيد بن أبي عبيد عن [ أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءتني امرأة فقالت : هل لي من توبة ؟ إني زنيت وولدت وقتلته فقلت : لا ولا نعمت العين ولا كرامة فقامت وهي تدعو بالحسرة ثم صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم الصبح فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بئسما قلت أما تقرأ هذه الاية ؟ { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب } الاية فقرأتها عليها فخرت ساجدة وقالت : الحمد الله الذي جعل لي مخرجا ] هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي رجاله من لا يعرف والله أعلم وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه وعنده : فخرجت تدعو بالحسرة وتقول : يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار ؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم تطلبها في جميع دور المدينة فلم يجدها فلما كان من الليلة المقبلة جاءته فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرت ساجدة وقالت : الحمد لله الذي جعل لي مخرجا وتوبة مما عملت وأعتقت جارية كانت معها وابنتها وتابت إلى الله عز و جل
ثم قال تعالى مخبرا عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلا أو حقيرا كبيرا أو صغيرا فقال تعالى : { ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا } أي فإن الله يقبل توبته كما قال تعالى : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } الاية وقال تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } الاية وقال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الاية أي لمن تاب إليه (3/435)
وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور قيل : هو الشرك وعبادة الأصنام وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل وقال محمد بن الحنفية : هو اللغو والغناء وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم : هي أعياد المشركين وقال عمرو بن قيس هي مجالس السوء والخنا وقال مالك عن الزهري : شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه كما جاء في الحديث [ من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر ] وقيل المراد بقوله تعالى : { لا يشهدون الزور } أي شهادة الزور وهي الكذب متعمدا على غيره كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثا قلنا : بلى يا رسول الله قال : الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت ] والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه ولهذا قال تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } أي لا يحضرون الزور وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء ولهذا قال { مروا كراما }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سيعد الأشج حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو معروضا [ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما ] وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي حدثنا حبان أخبرنا عبد الله أخبرنا محمد بن مسلم أخبرني ميسرة قال : بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف [ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما ] ثم تلا إبراهيم بن ميسرة { وإذا مروا باللغو مروا كراما }
وقوله تعالى : { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا } وهذه أيضا من صفات المؤمنين { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } بخلاف الكافر فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله كما قال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } فقوله { لم يخروا عليها صما وعميانا } أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى
قال مجاهد قوله { لم يخروا عليها صما وعميانا } قال : لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئا وقال الحسن البصري رضي الله عنه : كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى وقال قتادة : قوله تعالى { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا } يقول : لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا عبد الله بن حمران حدثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت : الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا أيسجد معهم ؟ قال : فتلا هذه الاية : يعني أنه لا يسجد معهم لأنه لم يتدبر أمر السجود ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة بل يكون على بصيرة من أمره ويقين واضح بين
وقوله تعالى : { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له قال ابن عباس : يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والاخرة قال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين وسئل الحسن البصري عن هذه الاية فقال : أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا أو ولد ولد أو أخا أو حميما مطيعا لله عز و جل قال ابن جريج في قوله { هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } قال : يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا يجرون علينا الجرائر وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعمر بن بشر حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا صفوان بن عمرو حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما فمر به رجل فقال : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه و سلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت فاستغضب المقداد فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيرا ثم أقبل إليه فقال : ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم ؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه و سلم على أشد حال بعث عليها نبيا من الأنبياء في فترة جاهلية ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل وفرق بين الوالد وولده إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار وأنها التي قال الله تعالى : { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه
وقوله تعالى : { واجعلنا للمتقين إماما } قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس : أئمة يقتدى بنا في الخير وقال غيرهم : هداة مهتدين دعاة إلى الخير فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع وذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به من بعده أو صدقة جارية ] (3/439)
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة والأقوال والأفعال الجليلة قال بعد ذلك كله { أولئك } أي المتصفون بهذه { يجزون } يوم القيامة { الغرفة } وهي الجنة قال أبو جعفر الباقر وسعيد بن جبير والضحاك والسدي : سميت بذلك لا رتفاعها { بما صبروا } أي على القيام بذلك { ويلقون فيها } أي في الجنة { تحية وسلاما } أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام ويلقون التوقير والاحترام فلهم السلام وعليهم السلام فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وقوله تعالى : { خالدين فيها } أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى : { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } الاية
وقوله تعالى : { حسنت مستقرا ومقاما } أي حسنت منظرا وطابت مقيلا ومنزلا ثم قال تعالى : { قل ما يعبأ بكم ربي } أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا قال مجاهد وعمرو بن شعيب { قل ما يعبأ بكم ربي } يقول : ما يفعل بكم ربي وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { قل ما يعبأ بكم ربي } الاية يقول : لولا إيمانكم وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين
وقوله تعالى : { فقد كذبتم } أيها الكافرون { فسوف يكون لزاما } أي فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم يعني مقتضيا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والاخرة ويدخل في ذلك يوم بدر كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم وقال الحسن البصري { فسوف يكون لزاما } أي يوم القيامة ولا منافاة بينهما (3/441)
سورة الشعراء
( ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها سورة الجامعة )
بسم الله الرحمن الرحيم (3/441)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة وقوله تعالى : { تلك آيات الكتاب المبين } أي هذه آيات القرآن المبين أي البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد وقوله تعالى : { لعلك باخع } أي مهلك { نفسك } أي مما تحرص وتحزن عليهم { أن لا يكونوا مؤمنين } وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه و سلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار كما قال تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } كقوله { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } الاية قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحاك والحسن وغيرهم { لعلك باخع نفسك } أي قاتل نفسك قال الشاعر :
ألا أيهذا الباخع الحزن نفسه لشيذء نحته عن يديه المقادر
ثم قال تعالى : { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري وقال تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } وقال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } الاية فنفذ قدره ومضت حكمته وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم ثم قال تعالى : { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين } أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس كما قال تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقال تعالى : { يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } وقال تعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه } الاية ولهذا قال تعالى ههنا : { فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره وشأنه الذين اجترءوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم من زروع وثمار وحيوان
قال سفيان الثوري عن رجل عن الشعبي : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم { إن في ذلك لآية } أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء ومع هذا ما آمن أكثر الناس بل كذبوا به وبرسله وكتبه وخالفوا أمره وارتكبوا نهيه وقوله { وإن ربك لهو العزيز } أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه { الرحيم } أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه بل يؤجله وينظره ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن إسحاق : العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره وقال سعيد بن جبير : الرحيم بمن تاب إليه وأناب (3/441)
يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن وكلمه وناجاه وأرسله واصطفاه وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه ولهذا قال تعالى : { أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون } هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه كما قال في سورة طه { قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري } إلى قوله { قد أوتيت سؤلك يا موسى }
وقوله تعالى : { ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون } أي بسبب قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر { قال كلا } أي قال الله له : لا تخف من شيء من ذلك كقوله { سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } { فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون } كقوله { إنني معكما أسمع وأرى } أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } كقوله في الاية الأخرى { إنا رسولا ربك } أي كل منا أرسل إليك { أن أرسل معنا بني إسرائيل } أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك فإنهم عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون وهم معك في العذاب المهين فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية ونظر إليه بعين الازدراء والغمص فقال { ألم نربك فينا وليدا } الاية أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا وأنعمنا عليه مدة من السنين ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك ولهذا قال { وأنت من الكافرين } أي الجاحدين قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير { قال فعلتها إذا } أي في تلك الحال { وأنا من الضالين } أي قبل أن يوحى إلي وينعم الله علي بالرسالة والنبوة
قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم { وأنا من الضالين } أي الجاهلين قال ابن جريج : وهو كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه { ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين } الاية أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت وإن خالفته عطبت ثم قال موسى { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم (3/443)
يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله { وما رب العالمين } وذلك أنه كان يقول لقومه { ما علمت لكم من إله غيري } { فاستخف قومه فأطاعوه } وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون فلما قال له موسى : إني رسول رب العالمين قال له فرعون : ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري ؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف حتى قال السدي : هذه الاية كقوله تعالى : { قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن الماهية بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين { قال رب السموات والأرض وما بينهما } أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وإلهه لا شريك له هو الذي خلق الأشياء كلها العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار وما بين ذلك من الهواء والطير وما يحتوي عليه الجو الجميع عبيد له خاضعون ذليلون { إن كنتم موقنين } أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله { لا يسمعون } أي ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلها غيري ؟ فقال لهم موسى { ربكم ورب آبائكم الأولين } أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه { قال } أي فرعون لقومه { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } أي ليس له عقل في دعواه أن ثم ربا غيري { قال } أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة فأجاب موسى بقوله { رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } أي هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب : ثوابتها وسياراتها مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا فليعكس الأمر وليجعل المشرق مغربا والمغرب مشرقا كما قال تعالى عن { الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } الاية ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه السلام فقال ما أخبر الله تعالى عنه : (3/444)
لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال فقال { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } فعند ذلك قال موسى { أو لو جئتك بشيء مبين } أي ببرهان قاطع واضح { قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج { ونزع يده } أي من جبيه { فإذا هي بيضاء للناظرين } أي تتلألأ كقطعة من القمر فبادر فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد فقال للملإ حوله { إن هذا لساحر عليم } أي فاضل بارع في السحر فروج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به فقال { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } الاية أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم فيأخذ البلاد منكم فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به ؟ { قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم } أي أخره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم يقابلونه ويأتون بنظير ما جاء به فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد فأجابهم إلى ذلك وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك ليجتمع الناس في صعيد واحد وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة (3/445)
ذكر الله تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى عليه السلام والقبط في سورة الأعراف وفي سورة طه وفي هذه السورة وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وهذا شأن الكفر والإيمان ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون } { وقل جاء الحق وزهق الباطل } الاية ولهذا لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر وكانوا إذ ذاك من أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك وكان السحرة جمعا كثيرا وجما غفيرا قيل : كانوا اثني عشر ألفا وقيل خمسة عشر ألفا وقيل سبعة عشر ألفا وقيل تسعة عشر ألفا وقيل بضعة وثلاثين ألفا وقيل ثمانين ألفا وقيل غير ذلك والله أعلم بعدتهم قال ابن إسحاق : وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم وهم : سابور وعاذور وحطحط ويصفى واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم وقال قائلهم { لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين } ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى بل الرعية على دين ملكهم { فلما جاء السحرة } أي إلى مجلس فرعون وقد ضربوا له وطاقا وجمع خدمه وحشمه ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا أي هذا الذي جمعتنا من أجله فقالوا { أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي فعادوا إلى مقام المناطرة { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا } وقد اختصر هذا ههنا فقال لهم موسى { ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا هذ بثواب فلان وقد ذكر الله تعالى في سورة الأعراف أنهم { سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم } وقال في سورة طه { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } وقال ههنا { فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون } أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا قال الله تعالى : { فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون } فكان هذا أمرا عظيما جدا وبرهانا قاطعا للعذر وحجة دامغة وذلك أن الذي استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة سجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة فغلب فرعون غلبا لم يشاهد العالم مثله وكان وقحا جريئا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } وقال { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } الاية (3/445)
تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما وذلك إنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا أن يكون الله قد أيده به وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه ولهذا لما قال لهم فرعون { آمنتم له قبل أن آذن لكم ؟ } أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ولا تفتاتوا علي في ذلك فإن أذنت لكم فعلتم وإن منعتكم امتنعتم فإذني أنا الحاكم المطاع { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل
ثم توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب فقالوا { لا ضير } أي لاحرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به { إنا إلى ربنا منقلبون } أي المرجع إلى الله عز و جل وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء ولهذا قالوا { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا } أي ما قارفنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر { أن كنا أول المؤمنين } أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان فقتلهم كلهم (3/446)
لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون لم يبق لهم إلا العذاب والنكال فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر وأن يمضي بهم حيث يؤمر ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عز و جل خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر وذكر مجاهد رحمه الله أنه كسف القمر تلك الليلة فالله أعلم وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه فاحتمل تابوته معهم ويقال : إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما السلام وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم
وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه الله فقال : حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق عن ابن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال : [ نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بأعرابي فأكرمه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم تعاهدنا ؟ فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ما حاجتك ؟ قال : ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي فقال أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل ؟ فقال له أصحابه : وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله ؟ قال إن موسى عليه السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق فقال لبني إسرائيل : ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل : نحن نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا فقال لهم موسى : فأيكم يدري أين قبر يوسف ؟ قالوا : ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل فأرسل إليها فقال لها : دليني على قبر يوسف فقالت : والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي فقال لها : وما حكمك ؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له : أعطها حكمها ـ قال ـ فانطلقت معهم إلى بحيرة ـ مستنقع ماء ـ فقالت لهم : انضبوا هذا الماء فلما أنضبوه قالت : احفروا فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار ] وهذا حديث غريب جدا والأقرب أنه موقوف والله أعلم فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار فأرسل سريعا في بلاده حاشرين أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب ونادى فيهم { إن هؤلاء } يعني بني إسرائيل { لشرذمة قليلون } أي لطائفة قليلة { وإنهم لنا لغائظون } أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا { وإنا لجميع حاذرون } أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم وإني أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد خضراءهم فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم قال الله تعالى : { فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم } أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا { كذلك وأورثناها بني إسرائيل } كما قال تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } الاية وقال تعالى : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين } الايتين (3/447)
ذكر غير واحد من المفسرين أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير هو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه أولي الحل والعقد والدول من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود فأما ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس منها مائة ألف على خيل دهم وقال كعب الأحبار : فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم وفي ذلك نظر والظاهر أن ذلك من مجازفات بني إسرائيل والله سبحانه وتعالى أعلم والذي أخبر به القرآن هو النافع ولم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته إلا أنهم خرجوا بأجمعهم { فأتبعوهم مشرقين } أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس وهو طلوعها { فلما تراء الجمعان } أي رأى كل من الفريقين صاحبه فعند ذلك { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر وهو بحر القلزم فصار أمامهم البحر وقد أدركهم فرعون بجنوده فلهذا قالوا { إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين } أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد وكان هارون عليه السلام في المقدمة ومعه يوشع بن نون ومؤمن آل فرعون وموسى عليه السلام في الساقة وقد ذكر غير واحد من المفسرين أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون وجعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى عليه السلام : يا نبي الله ههنا أمرك ربك أن تسير ؟ فيقول نعم فاقترب فرعون وجنوده ولم يبق إلا القليل فعند ذلك أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر فضربه وقال : انفلق بإذن الله
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد حدثنا محمد بن حمزة بن محمد بن يوسف عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجا فأوحى الله إليه { أن اضرب بعصاك البحر } وقال قتادة : أوحى الله تلك الليلة إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع فبات البحر تلك الليلة وله اضطراب ولا يدري من أي جانب يضربه موسى فلما انتهى إليه موسى قال له فتاه يوشع بن نون : يا نبي الله أين أمرك ربك عز و جل ؟ قال : أمرني أن أضرب البحر قال : فاضربه وقال محمد بن إسحاق أوحى الله ـ فيما ذكر لي ـ إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له قال : فبات البحر يضطرب ويضرب بعضه بعضا فرقا من الله تعالى وانتظارا لما أمره الله وأوحى الله إلى موسى { أن اضرب بعصاك البحر } فضربه بها ففيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق ذكر غير واحد أنه جاء فكناه فقال : انفلق علي أبا خالد بحول الله
قال الله تعالى : { فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم } أي كالجبل الكبير قاله ابن مسعود وابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك وقتادة وغيرهم وقال عطاء الخراساني : هو الفج بين الجبلين وقال ابن عباس صار البحر اثني عشر طريقا لكل سبط طريق وزاد السدي : وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض وقام الماء على حيلة كالحيطان وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض قال الله تعالى : { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى } وقال في هذه القصة { وأزلفنا ثم الآخرين } أي هنالك قال ابن عباس وعطاء الخراساني وقتادة والسدي { وأزلفنا } أي قربنا من البحر فرعون وجنوده وأدنيناهم إليه { وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين } أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم فلم يهلك منهم احد وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم رجل إلا هلك
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله هو ابن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك فأمر بشاة فذبحت وقال : لا والله لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له : انفرق فقال له البحر : قد استكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأنفرق لك ؟ قال ومع موسى رجل على حصان له فقال له ذلك الرجل أين أمرت يا نبي الله ؟ قال : ما أمرت إلا بهذا الوجه قال : والله ما كذب ولا كذبت ثم اقتحم الثانية فسبح ثم خرج فقال : أين أمرت يا نبي الله ؟ قال : ما أمرت إلا بهذا الوجه قال : والله ما كذب ولا كذبت قال : فأوحى الله إلى موسى : أن اضرب بعصاك البحر فضربه موسى بعصاه فانفلق فكان فيه اثنا عشر سبطا لكل سبط طريق يتراءون فلما خرج أصحاب موسى وتتام أصحاب فرعون التقى البحر عليهم فأغرقهم
وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال : فلما خرج آخر أصحاب موسى وتكامل أصحاب فرعون انطم عليهم البحر فمارئي سواد أكثر من يومئذ وغرق فرعون لعنه الله ثم قال تعالى : { إن في ذلك لآية } أي في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة { وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } تقدم تفسيره (3/448)
هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل وعبادة الله وحده لا شريك له والتبري من الشرك وأهله فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل أي من صغره إلى كبره فإنه من وقت نشأ وشب أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله عز و جل { إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون } أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ { قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين } أي مقيمين على عبادتها ودعائها { قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون فهم على آثارهم يهرعون فعند ذلك قال لهم إبراهيم { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير فلتخلص إلي بالمساءة فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها وهذا كما قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام : { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } الاية وقال هود عليه السلام { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم فقال { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله } الاية وقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } وقال تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } يعني لا إله إلا الله (3/450)
يعني لا أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء { الذي خلقني فهو يهدين } أي هو الخالق الذي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه فكل يجري على ما قدر له وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء { والذي هو يطعمني ويسقين } أي هو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية فساق المزن وأنزل الماء وأحيا به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا
وقوله { وإذا مرضت فهو يشفين } أسند المرض إلى نفسه وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه ولكن أضافه إلى نفسه أدبا كما قال تعالى آمرا للمصلي أن يقول { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخر السورة فأسند الإنعام والهداية إلى الله تعالى والغضب حذف فاعله أدبا وأسند الضلال إلى العبيد كما قالت الجن { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } وكذا قال إبراهيم { وإذا مرضت فهو يشفين } أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه { والذي يميتني ثم يحيين } أي هو الذي يحيي ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه فإنه هو الذي يبدىء ويعيد { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدينا والاخرة إلا هو ومن يغفر الذنوب إلا الله وهو الفعال لما يشاء (3/450)
وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكما قال ابن عباس : وهو العلم وقال عكرمة : هو اللب وقال مجاهد : هو القرآن وقال السدي : هو النبوة وقوله { وألحقني بالصالحين } أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والاخرة كما [ قال النبي صلى الله عليه و سلم عند الاحتضار اللهم في الرفيق الأعلى ] قالها ثلاثا وفي الحديث في الدعاء [ اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين ] وقوله { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير كما قال تعالى : { وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين }
قال مجاهد وقتادة { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } يعني الثناء الحسن قال مجاهد : كقوله تعالى { وآتيناه في الدنيا حسنة } الاية وكقوله { وآتيناه أجره في الدنيا } الاية قال ليث بن أبي سليم : كل ملة تحبه وتتولاه وكذا قال عكرمة وقوله تعالى : { واجعلني من ورثة جنة النعيم } أي أنعم علي في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي وفي الاخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم وقوله { واغفر لأبي } الاية كقوله { ربنا اغفر لي ولوالدي } وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه فقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء }
وقوله : { ولا تخزني يوم يبعثون } أي أجرني من الخزي يوم القيامة يوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم وقال البخاري عند هذه الاية : قال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة ] وفي رواية أخرى : حدثنا إسماعيل حدثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يلقى إبراهيم أباه فيقول : يا رب إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ] هكذا رواه عند هذه الاية وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به ولفظه [ يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصيني فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال : يا إبراهيم انظر تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار ] وقال عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير
وقوله { ولا تخزني يوم يبعثون } أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد بن عبد الرحمن عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة وقال له : قد نهيتك عن هذا فعصيتني قال : لكني اليوم لا أعصيك واحدة قال : يا رب وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد قال : يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه قال : يا إبراهيم أين أبوك ؟ قال : أنت أخذته مني قال : انظر أسفل منك فنظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه فأخذ بقوائمه فألقي في النار ] وهذا إسناد غريب وفيه نكارة والذيخ هو الذكر من الضباع كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته فيلقى في النار كذلك وقد رواه البزار بإسناده من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيه غرابة ورواه أيضا من حديث قتادة عن جعفر بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه
وقوله { يوم لا ينفع مال ولا بنون } أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا { ولا بنون } أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعا ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله وإخلاص الدين له والتبري من الشرك وأهله ولهذا قال { إلا من أتى الله بقلب سليم } أي سالم من الدنس والشرك قال ابن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وقال ابن عباس { إلا من أتى الله بقلب سليم } حيي أن يشهد أن لا إله إلا الله وقال مجاهد والحسن وغيرهما { بقلب سليم } يعني من الشرك وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب المنافق مريض قال الله تعالى : { في قلوبهم مرض } قال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة (3/451)
{ أزلفت الجنة } أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا وعملوا لها في الدنيا { وبرزت الجحيم للغاوين } أي أظهرت وكشف عنها وبدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا { أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون } أي ليست الالهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئا ولا تدفع عن أنفسها فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون
وقوله { فكبكبوا فيها هم والغاوون } قال مجاهد : يعني فدهوروا فيها وقال غيره : كبوا فيها والكاف مكررة كما يقال صرصر والمراد أنه ألقى بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك { وجنود إبليس أجمعون } أي ألقوا فيها عن آخرهم { قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين } أي يقول الضعفاء للذين استكبروا : إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ؟ ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة { تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين } أي نجعل أمركم مطاعا كما يطاع أمر رب العالمين وعبدناكم مع رب العالمين { وما أضلنا إلا المجرمون } أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون { فما لنا من شافعين } قال بعضهم : يعني من الملائكة كما يقولون { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } وكذا قالوا { فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم } أي قريب
قال قتادة : يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع وأن الحميم إذا كان صالحا شفع { فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين } وذلك أنهم يتمنون أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون والله تعالى يعلم أنهم لو ردهم إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة ( ص ) ثم قال تعالى : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } ثم قال تعالى : { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد لاية أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلا الله { وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } (3/452)
هذا إخبار من الله عز و جل عن عبده ورسوله نوح عليه السلام وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد ما عبدت الأصنام والأنداد فبعثه الله ناهيا عن ذلك ومحذرا من وبيل عقابه فكذبه قومه فاستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى : ونزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل فلهذا قال تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون } أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره { إني لكم رسول أمين } أي إني رسول من الله إليكم أمين فيما بعثني الله به أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد فيها ولا أنقص منها { فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر } الاية أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم بل أدخر ثواب ذلك عند الله { فاتقوا الله وأطيعون } فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه (3/453)
يقولون : لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا ولهذا { قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون } أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ؟ ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي وأكل سرائرهم إلى الله عز و جل { إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين } كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه فأبى عليهم ذلك وقال { وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين } أي إنما بعثت نذيرا فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه سواء كان شريفا أو وضيعا أو جليلا أو حقيرا (3/454)
لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا وسرا وجهارا وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ والامتناع الشديد وقالوا في الاخر { لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } أي لئن لم تنته من دعوتك إيانا إلى دينك { لتكونن من المرجومين } أي لنرجمنك فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه فقال { رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحا } الاية كما قال في الاية الأخرى { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } إلى آخر الاية وقال ههنا { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين } والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين أي أنجينا نوحا ومن اتبعه كلهم وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } (3/454)
وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام أنه دعا قومه عادا وكان قومه يسكنون الأحقاف وهي جبال الرمل قريبا من حضرموت من جهة بلاد اليمن وكان زمانهم بعد قوم نوح كما قال في سورة الأعراف { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة } وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد والطول المديد والأرزاق الدارة والأموال والجنات والأنهار والأبناء والزروع والثمار وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه فبعث الله هودا إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرا ونذيرا فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه فقال لهم كما قال نوح لقومه إلى أن قال { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة يبنون هناك بنيانا محكما هائلا باهرا ولهذا قال { أتبنون بكل ريع آية } أي معلما بناء مشهورا { تعبثون } أي وإنما تفعلون ذلك عبثا لا للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ولهذا أنكر عليه نبيهم عليهم السلام ذلك لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الاخرة ولهذا قال { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } قال مجاهد : والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد وفي رواية عنه : بروج الحمام وقال قتادة : هي مأخذ الماء
قال قتادة : وقرأ بعض الكوفيين { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } وفي القراءة المشهورة { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } أي لكي تقيموا فيها أبدا وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال عمن كان قبلكم وروى ابن أبي حاتم رحمه الله : حدثنا أبي حدثنا الحكم بن موسى حدثنا الوليد حدثنا ابن عجلان حدثني عون بن عبد الله بن عتبة أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر قام في مسجدهم فنادى : يا أهل دمشق فاجتمعوا إليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا تستحيون ألا تستحيون تجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون ويبنون فيوثقون ويأملون فيطيلون فأصبح أملهم غرورا وأصبح جمعهم بورا وأصبحت مساكنهم قبورا ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابا فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين ؟
وقوله { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت { فاتقوا الله وأطيعون } أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } أي إن كذبتم وخالفتم فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم (3/454)
يقول تعالى مخبرا عن جواب قوم هود له بعد ما حذرهم وأنذرهم ورغبهم ورهبهم وبين لهم الحق ووضحه { قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } أي لا نرجع عما نحن عليه { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين } وهكذا الأمر فإن الله تعالى قال { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } وقال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } الاية وقولهم { إن هذا إلا خلق الأولين } قرأ بعضهم { إن هذا إلا خلق الأولين } بفتح الخاء وتسكين اللام قال ابن مسعود والعوفي عن عبد الله بن عباس وعلقمة ومجاهد : يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلاأخلاق الأولين كما قال المشركون من قريش { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } وقال { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين } وقال { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } وقرأ آخرون { إن هذا إلا خلق الأولين } بضم الخاء واللام يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأولين من الاباء والأجداد ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولامعاد ولهذا قالوا { وما نحن بمعذبين } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إن هذا إلا خلق الأولين } يقول : دين الأولين وقاله عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير
وقوله تعالى : { فكذبوه فأهلكناهم } أي استمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده فأهلكهم الله وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية أي ريحا شديدة الهبوب ذات برد شديد جدا فكان سبب إهلاكهم من جنسهم فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة كما قال تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد } وهم عاد الأولى كما قال تعالى : { وأنه أهلك عادا الأولى } وهم من نسل إرم بن سام بن نوح { ذات العماد } الذين كانو يسكنون العمد ومن زعم أن إرم مدينة فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب وليس لذلك أصل أصيل ولهذا قال { التي لم يخلق مثلها في البلاد } أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم ولو كان المراد بذلك مدينة لقال : التي لم يبن مثلها في البلاد وقال تعالى : { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون } وقد قدمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا مقدار أنف الثور عتت على الخزنة فأذن الله لها في ذلك فسلكت فحصبت بلادهم فحصبت كل شيء لهم كما قال تعالى : { تدمر كل شيء بأمر ربها } الاية وقال تعالى : { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } أي بقوا أبدانا بلا رؤوس وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه وتكسر رأسه وتلقيه كأنهم أعجاز نخل منقعر وقد كانو تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } ولهذا قال تعالى : { فكذبوه فأهلكناهم } الاية (3/455)
وهذا إخبار من الله عز و جل عن عبده ورسوله صالح عليه السلام أنه بعثه إلى قومه ثمود وكانوا عربا يسكنون مدينة الحجر التي بين وداي القرى وبلاد الشام ومساكنهم معروفة مشهورة وقد قدمنا في سورة الأعراف الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم حين أراد غزو الشام فوصل إلى تبوك ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز و جل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عز و جل ثم ذكرهم آلاء الله علهيم فقال : (3/457)
يقول لهم واعظا لهم ومحذرهم نقم الله أن تحل بهم ومذكرا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة وجعلهم في أمن من المحذورات وأنبت لهم من الجنات وفجر لهم من العيون الجاريات وأخرج لهم من الزروع والثمرات ولهذا قال { ونخل طلعها هضيم } قال العوفي عن ابن عباس : أينع وبلغ فهو هضيم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ونخل طلعها هضيم } يقول : معشبة وقال إسماعيل بن أبي خالد عن عمرو بن أبي عمرو ـ وقد أدرك الصحابة ـ عن ابن عباس في قوله { ونخل طلعها هضيم } قال : إذا رطب واسترخى رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وروي عن أبي صالح نحو هذا
وقال أبو إسحاق عن أبي العلاء { ونخل طلعها هضيم } قال : هو المذنب من الرطب وقال مجاهد : هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر وقال ابن جريج : سمعت عبد الكريم وأبا أمية سمعت مجاهدا يقول { ونخل طلعها هضيم } قال : حين يطلع تقبض عليه فتهضمه فهو من الرطب الهضيم ومن اليابس الهشيم تقبض عليه فتهشمه وقال عكرمة وقتادة : الهضيم الرطب اللين وقال الضحاك : إذا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضا فهو هضيم وقال مرة : هو الطلع حين يتفرق ويخضر وقال الحسن البصري : هو الذي لا نوى له وقال أبو صخر : ما رأيت الطلع حين ينشق عنه الكم ؟ فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض فهو الهضيم
وقوله { وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين } قال ابن عباس وغير واحد : يعني حاذقين وفي رواية عنه : شرهين أشرين وهو اختيار مجاهد وجماعة ولا منافاة بينهما فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم ولهذا قال { فاتقوا الله وأطيعون } أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والاخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا { ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون } يعني رؤساءهم وكبراءهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق (3/457)
يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز و جل أنهم { قالوا إنما أنت من المسحرين } قال مجاهد وقتادة : يعنون من المسحورين وروى أبو صالح عن ابن عباس { من المسحرين } يعني من المخلوقين واستشهد بعضهم على هذا بقول الشاعر :
( فإن تسألينا : فيم نحن ؟ فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر )
يعني الذين لهم سحور والسحر هو الرئة والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة أنهم يقولون : إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك ثم قالوا { ما أنت إلا بشر مثلنا } يعني فكيف أوحي إليك دوننا ؟ كما قالوا في الاية الأخرى { أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر * سيعلمون غدا من الكذاب الأشر } ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أن يخرج لهم الان من هذه الصخرة ناقة عشراء إلى صخرة عندهم ـ من صفتها كذا وكذا فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه فأعطوه ذلك فقام نبي الله صالح عليه السلام فصلى ثم دعا الله عز و جل أن يجيبهم إلى سؤالهم فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها فآمن بعضهم وكفر أكثرهم { قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } يعني ترد ماءكم يوما ويوما تردونه أنتم { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم } فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء فمكثت الناقة بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء وتأكل الورق والمرعى ـ وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شربا وريا فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم تمالؤوا على قتلها وعقرها { فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب } وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون وأصبحوا في ديارهم جاثمين { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } (3/458)
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله لوط عليه السلام وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكها الله بها وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك فدعاهم إلى الله عز و جل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث ولهذا قال تعالى : (3/458)
لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش وغشيانهم الذكور وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم ما كان جوابهم له إلا أن قالوا { لئن لم تنته يا لوط } أي عما جئتنا به { لتكونن من المخرجين } أي ننفيك من بين أظهرنا كما قال تعالى : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } فلما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم تبرأ منهم وقال { إني لعملكم من القالين } أي المبغضين لا أحبه ولا أرضى به وإني بريء منكم ثم دعا الله عليهم فقال { رب نجني وأهلي مما يعملون } قال الله تعالى : { فنجيناه وأهله أجمعين } أي كلهم { إلا عجوزا في الغابرين } وهي امرأته وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع من بقي من قومها وذلك كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأعراف وهود وكذا في الحجر حين أمره الله أن يسري بأهله إلا امرأته وأنهم لا يلتفتوا إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه فصبروا لأمر الله واستمروا وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ولهذا قال تعالى : { ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } (3/459)
هؤلاء ـ يعني أصحاب الأيكة ـ هم أهل مدين على الصحيح وكان نبي الله شعيب من أنفسهم وإنما لم يقل ههنا أخوهم شعيب لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة وهي شجرة وقيل شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها فلهذا لما قال : كذب أصحاب الايكة المرسلين لم يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب وإنما قال { إذ قال لهم شعيب } فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه وإن كان أخاهم نسبا ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة فظن أن أصحاب الايكة غير أهل مدين فزعم أن شعيبا عليه السلام بعثه الله إلى أمتين ومنهم من قال : ثلاث أمم وقد روى إسحاق بن بشر الكاهلي ـ وهو ضعيف ـ حدثني ابن السدي عن أبيه وزكريا بن عمر عن خصيف عن عكرمة قالا : ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة وروى أبو القاسم البغوي عن هدبة عن همام عن قتادة في قوله تعالى : { وأصحاب الرس } قوم شعيب
وقوله { وأصحاب الأيكة } قوم شعيب وقاله إسحاق بن بشر وقال غير جويبر : أصحاب الأيكة ومدين هما واحد والله أعلم وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه السلام ] وهذا غريب وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفا والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان كما في قصة مدين سواء بسواء فدل ذلك على أنهما أمة واحدة (3/459)
يأمرهم الله تعالى بإيفاء المكيال والميزان وينهاهم عن التطفيف فيهما فقال { أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين } أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصا وتأخذوه إذا كان لكم تاما وافيا ولكن خذوا كما تعطون وأعطوا كما تأخذون { وزنوا بالقسطاس المستقيم } والقسطاس هو الميزان وقيل هو القبان قال بعضهم : هو معرب من الرومية قال مجاهد : القسطاس المستقيم هو العدل بالرومية وقال قتادة القسطاس العدل وقوله { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } أي لا تنقصوهم أموالهم { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } يعني قطع الطريق كما قال في الاية الأخرى { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون }
وقوله { واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين } يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل كما قال موسى عليه السلام { ربكم ورب آبائكم الأولين } قال ابن عباس ومجاهد والسدي وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم { والجبلة الأولين } يقول : خلق الأولين وقرأ ابن زيد { ولقد أضل منكم جبلا كثيرا } (3/460)
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها تشابهت قلوبهم حيث قالوا { إنما أنت من المسحرين } يعنون من المسحورين كما تقدم { وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين } أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا { فأسقط علينا كسفا من السماء } قال الضحاك : جانبا من السماء وقال قتادة : قطعا من السماء وقال السدي : عذابا من السماء وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } إلى أن قالوا { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } وقوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الاية وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة { فأسقط علينا كسفا من السماء } الاية { قال ربي أعلم بما تعملون } يقول : الله أعلم بكم فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم وهكذا وقع بهم جزاء كما سألوا جزاء وفاقا ولهذا قال تعالى : { فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررا من نار ولهبا ووهجا عظيما ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم ولهذا قال تعالى : { إنه كان عذاب يوم عظيم }
وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وذلك لأنهم قالوا { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة وفي سورة هود قال { فأخذتهم الصيحة } وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد } قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال { فأخذتهم الصيحة } الاية وههنا قالوا { فأسقط علينا كسفا من السماء } الاية على وجه التعنت والعناد فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه { فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم }
قال قتادة : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب تحتها بردا وراحة فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعا فاستظلوا تحتها فأججت عليهم نارا وهكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : بعث الله إليهم الظلة حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى وقال محمد بن كعب القرظي : إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب : أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم فأرسل الله عليهم الظلة فدخل تحتها رجل فقال : ما رأيت كاليوم ظلا أطيب ولا أبرد من هذا هلموا أيها الناس فدخلوا جميعا تحت الظلة فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا جميعا ثم تلا محمد بن كعب { فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم }
وقال محمد بن جرير : حدثني الحارث حدثني الحسن حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد حدثنا حاتم بن أبي صغيرة حدثني يزيد الباهلي سألت ابن عباس عن هذه الاية { فأخذهم عذاب يوم الظلة } الاية قال : بعث الله عليهم رعدا وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هرابا إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا قال ابن عباس : فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي العزيز في انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين (3/460)
يقول تعالى مخبرا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم { وإنه } أي القرآن ذكره في أول السورة في قوله { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث } الاية { لتنزيل رب العالمين } أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك { نزل به الروح الأمين } وهو جبريل عليه السلام قاله غير واحد من السلف : ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريج وهذا مما لا نزاع فيه قال الزهري : وهذه كقوله { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه } وقال مجاهد : من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض { على قلبك لتكون من المنذرين } أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى { على قلبك } يا محمد سالما من الدنس والزيادة والنقص { لتكون من المنذرين } أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه وتبشر به المؤمنين المتبعين له
وقوله تعالى : { بلسان عربي مبين } أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل ليكون بينا واضحا ظاهرا قاطعا للعذر مقيما للحجة دليلا إلى المحجة قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن موسى بن محمد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : [ بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم : كيف ترون بواسقها ؟ قالوا : ما أحسنها وأشد تراكمها قال : فكيف ترون قواعدها ؟ قالوا : ما أحسنها وأشد تمكنها قال فكيف ترون جريها ؟ قالوا : ما أحسنه وأشد سواده قال فيكف ترون رحاها استدارت قالوا : ما أحسنها وأشد استدارتها قال فكيف ترون برقها : أوميض أم خفق أم يشق شقا ؟ قالوا : بل يشق شقا قال الحياء الحياء إن شاء الله قال : فقال رجل : يا رسول الله بأبي وأمي ما أفصحك ما رأيت الذي هو أعرب منك قال : فقال حق لي وإنما أنزل القرآن بلساني والله يقول { بلسان عربي مبين } ] وقال سفيان الثوري : لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه واللسان يوم القيامة بالسريانية فمن دخل الجنة تكلم بالعربية رواه ابن أبي حاتم (3/462)
يقول تعالى : وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيبا في ملئه بالبشارة بأحمد { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } والزبر ههنا هي الكتب وهي جمع زبور وكذلك الزبور وهو كتاب داود وقال الله تعالى : { وكل شيء فعلوه في الزبر } أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة ثم قال تعالى : { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } أي أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه و سلم ومبعثه وأمته كما أخبر بذلك من آمن منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي عمن أدركه منهم ومن شاكلهم قال الله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } الاية
ثم قال تعالى مخبرا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن : أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به ولهذا قال { ولو نزلناه على بعض الأعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } كما أخبر عنهم في الاية الأخرى { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا } الاية وقال تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى } الاية وقال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } الاية (3/463)
يقول تعالى : كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد أي أدخلناه في قلوب المجرمين { لا يؤمنون به } أي بالحق { حتى يروا العذاب الأليم } أي حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار { فيأتيهم بغتة } أي عذاب الله بغتة { وهم لا يشعرون * فيقولوا هل نحن منظرون } أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلا ليعملوا في زعمهم بطاعة الله كما قال الله تعالى : { وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } فكل ظالم وفاجر إذا شاهد عقوبته ندم ندما شديدا هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله { ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما } فأثرت هذه الدعوة في فرعون فما آمن حتى رأى العذاب الأليم { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } وقال تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } الايات
وقوله تعالى : { أفبعذابنا يستعجلون } إنكار عليهم وتهديد لهم فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيبا واستبعادا : ائتنا بعذاب الله كما قال تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } الايات ثم قال { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحينا من الزمان وإن طال ثم جاءهم أمر الله أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وقال تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } وقال تعالى : { وما يغني عنه ماله إذا تردى } ولهذا قال تعالى : { ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون }
وفي الحديث الصحيح [ يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط ؟ هل رأيت نعيما قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ] أي ما كأن شيئا كان ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت :
( كأنك لم تؤثر من الدهر ليلة ... إذا أنت أدركت الذي أنت تطلب )
ثم قال تعالى مخبرا عن عدله في خلقه أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم والإنذار لهم وبعثة الرسل إليهم وقيام الحجة عليهم ولهذا قال تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين } كما قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } (3/463)
يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله { وما تنزلت به الشياطين } ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها أنه ما ينبغي لهم أي ليس هو من بغيتهم ولا من طلبتهم لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونور وهدى وبرهان عظيم فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة ولهذا قال تعالى : { وما ينبغي لهم }
وقوله تعالى : { وما يستطيعون } أي ولو انبغى لهم ما استطاعوا ذلك قال الله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة إنزال القرآن على رسول الله فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه لئلا يشتبه الأمر وهذا من رحمة الله بعباده وحفظه لشرعه وتأييده لكتابه ولرسوله ولهذا قال تعالى : { إنهم عن السمع لمعزولون } كما قال تعالى مخبرا عن الجن { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا * وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } (3/464)
يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له ومخبرا أن من أشرك به عذبه ثم قال تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه و سلم أن ينذر عشيرته الأقربين أي الأدنين إليه وأنه لا يخلص أحدا منهم إلا إيمانه بربه عز و جل وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين ومن عصاه من خلق الله كائنا من كان فليتبرأ منه ولهذا قال تعالى : { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها كما قال تعالى : { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون } وقال تعالى : { لتنذر أم القرى ومن حولها } وقال تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } وقال تعالى : { لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا } وقال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } كما قال تعالى : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } وفي صحيح مسلم [ والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ] وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الاية الكريمة فلنذكرها :
( الحديث الأول ) قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما أنزل الله عز و جل { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني لؤي أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟ قالوا : نعم قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله { تبت يدا أبي لهب وتب } ] ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الأعمش به
( الحديث الثاني ) قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا فاطمة ابنة محمد يا صفية ابنة عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم ] انفرد بإخراجه مسلم
( الحديث الثالث ) قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة حدثنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الاية { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فعم وخص فقال [ يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها ] ورواه مسلم والترمذي من حديث عبد الملك بن عمير به وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا ولم يذكر فيه أبا هريرة والموصول هو الصحيح وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا محمد يعني ابن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئا سلاني من مالي ما شئتما ] تفرد به من هذا الوجه وتفرد به أيضا عن معاوية عن زائدة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ورواه أيضا عن حسن حدثنا ابن لهيعة : عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا وقال أبو يعلى : حدثنا سويد بن سعيد حدثنا همام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ يا بني قصي يا بني هاشم يا بني عبد مناف أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد ]
( الحديث الرابع ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد التيمي عن أبي عثمان عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو قالا : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد رسول الله صلى الله عليه و سلم رضمة من جبل على أعلاها حجر فجعل ينادي : [ يا بني عبد مناف إنما أنا نذير وإنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فذهب يربأ أهله يخشى أن يسبقوه فجعل ينادي ويهتف : يا صباحاه ] ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن طرخان التيمي عن أبي عثمان عبد الرحمن بن سهل النهدي عن قبيصة وزهير بن عمرو الهلالي به
( الحديث الخامس ) قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الاية { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع النبي صلى الله عليه و سلم من أهل بيته فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا قال : وقال لهم [ من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي ؟ فقال رجل لم يسمه شريك : يا رسول الله أنت كنت بحرا من يقوم بهذا قال : ثم قال الاخر ـ ثلاثا ـ قال : فعرض ذلك على أهل بيته فقال علي : أنا
( طريق أخرى بأبسط من هذا السياق ) قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ماجد عن علي رضي الله عنه قال : جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ أو دعا رسول الله ـ بني عبد المطلب وهم رهط وكلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق فصنع لهم مدا من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب وقال ] يابني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة فقد رأيتم من هذه الاية ما رأيتم فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي قال : فلم يقم إليه أحد قال : فقمت إليه وكنت أصغر القوم قال : فقال اجلس ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي [
( طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر ) قال الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل واستكتمني اسمه عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه و سلم { وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره فصمت فجاءني جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك [ قال علي رضي الله عنه فدعاني فقال : يا علي إن الله تعالى قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره فصمت عن ذلك ثم جاءني جبريل فقال : يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب ] ففعلت فاجتمعوا إليه وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا فيهم أعمامه : أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب الكافر الخبيث فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه و سلم جذبة فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال [ كلوا بسم الله فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لهدما سحركم صاحبكم فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم ففعلت ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكلمهم بدره أبو لهب بالكلام فقال : لهدما سحركم صاحبكم فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم ففعلت ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة ] قال أحمد بن عبد الجبار : بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال عن عمرو عن عبد الله بن الحارث
وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب فذكر مثله وزاد بعد قوله [ إني جئتكم بخير الدنيا والاخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعا وقلت ـ وإني لأحدثهم سنا وأمرصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ] تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم وهو متروك كذاب شيعي اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الائمة رحمهم الله
( طريق أخرى ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي أخبرنا الحسين عن عيسى بن ميسرة الحارثي حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي رضي الله عنه : لما نزلت هذه الاية { وأنذر عشيرتك الأقربين } قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا قال : ففعلت ثم قال : ادع بني هاشم قال : فدعوتهم وإنهم يومئذ أربعون غير رجل أو أربعون ورجل قال : وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذعة بإدامها قال : فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذروتها ثم قال فأكلوا حتى شبعوا وهي على هيئتها لم يزرؤوا منها إلا اليسير قال : ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رووا قال : وفضل فضل فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتكلم فبدروه الكلام فقالوا ما رأينا كاليوم في السحر فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام فصنعت قال : فدعاهم فلما أكلوا وشربوا قال : فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال لي اصنع لي رجل شاة بصاع طعام فصنعت قال : فجمعتهم فلما أكلوا وشربوا بدرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم الكلام فقال : أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ؟ قال : فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله قال : وسكت أنا لسن العباس ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس فلما رأيت ذلك قلت : أنا يا رسول الله قال : وإني يومئذ لأسوأهم هيئة وإني لأعمش العينين ضخم البطن خمش الساقين فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي رضي الله عنه ومعنى سؤاله صلى الله عليه و سلم لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ويخلفوه في أهله يعني إن قتل في سبيل الله كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل فلما أنزل الله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } فعند ذلك أمن ] وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الاية { والله يعصمك من الناس } ولم يكن أحد في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه و سلم من علي رضي الله عنه ولهذا بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم كان بعد هذا ـ والله أعلم ـ دعاؤه الناس جهرة على الصفا وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا حتى سمى من سمى من أعمامه وعماته وبناته لينبه بالأدنى على الأعلى أي إنما أنا نذير والله يهدي من يشاء إلى صرط مستقيم
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي ـ غير منسوب ـ من طريق عمرو بن سمرة عن محمد بن سوقة عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدث الناس ويفتيهم وولده إلى جنبه وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون فقيل له : ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم وأهل بيتك جلوس لاهين ؟ فقال : لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ أزهد الناس في الدنيا الأنبياء وأشدهم عليهم الأقربون ] وذلك فيما أنزل الله عز و جل قال تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون }
وقوله تعالى : { وتوكل على العزيز الرحيم } أي في جميع أمورك فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك وقوله تعالى : { الذي يراك حين تقوم } أي هو معتن بك كما قال تعالى : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } قال ابن عباس { الذي يراك حين تقوم } يعني إلى الصلاة وقال عكرمة يرى قيامه وركوعه وسجوده وقال الحسن { الذي يراك حين تقوم } إذا صليت وحدك وقال الضحاك { الذي يراك حين تقوم } أي من فراشك أو مجلسك وقال قتادة { الذي يراك } قائما وجالسا وعلى حالاتك
وقوله تعالى : { وتقلبك في الساجدين } قال قتادة { الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين } قال : في الصلاة يراك وحدك ويراك في الجمع وهذا قول عكرمة وعطاء الخراساني والحسن البصري وقال مجاهد : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرى من خلفه كما يرى من أمامه ويشهد لهذا ما صح في الحديث [ سووا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري ] وروى البزار وابن أبي حاتم من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الاية : يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبيا وقوله تعالى : { إنه هو السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم كما قال تعالى : { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } الاية (3/465)
يقول تعالى مخاطبا لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ليس بحق وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه أو أنه أتاه به رئي من الجان فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله وأنه تنزيله ووحيه نزل به ملك كريم أمين عظيم وأنه ليس من قبل الشياطين فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة ولهذا قال الله تعالى : { هل أنبئكم } أي أخبركم { على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } أي كذوب في قوله وهو الأفاك { أثيم } وهو الفاجر في أفعاله فهذا هو الذي تنزل عليه الشياطين من الكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة فإن الشياطين أيضا كذبة فسقة { يلقون السمع } أي يسترقون السمع من السماء فيسمعون الكلمة من علم الغيب فيزيدون معها مائة كذبة ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء كما صح بذلك الحديث
كما رواه البخاري من حديث الزهري : أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير يقول : قالت عائشة رضي الله عنها : سأل ناس النبي صلى الله عليه و سلم عن الكهان فقال [ إنهم ليسوا بشيء قالوا : يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقا فقال النبي صلى الله عليه و سلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة ] وروى البخاري أيضا : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ـ وصف سفيان بيده فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الاخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ] تفرد به البخاري وروى مسلم من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن رجال من الأنصار قريبا من هذا وسيأتي عند قوله تعالى في سبأ { حتى إذا فزع عن قلوبهم } الاية
وقال البخاري : وقال الليث : حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن أبا الأسود أخبره عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن الملائكة تحدث في العنان ـ والعنان : الغمام ـ بالأمر في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة ] ورواه البخاري في موضع آخر في كتاب بدء الخلق عن سعيد بن أبي مريم عن الليث عن عبد الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة بنحوه
وقوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن وكذا قال مجاهد رحمه الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وقال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس ولهذا فئام من الناس فأنزل الله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا ليث عن ابن الهاد عن يحنس مولى مصعب بن الزبير عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ خذوا الشيطان ـ أو أمسكوا الشيطان ـ لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا ]
وقوله تعالى : { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : في كل لغو يخوضون وقال الضحاك عن ابن عباس : في كل فن من الكلام وكذا قال مجاهد وغيره وقال الحسن البصري : قد والله رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها مرة في شتمه فلان ومرة في مدحة فلان وقال قتادة : الشاعر يمدح قوما بباطل ويذم قوما بباطل وقوله تعالى : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } قال العوفي عن ابن عباس : كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار والاخر من قوم آخرين وإنهما تهاجيا فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فقال الله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم فيتكثرون بما ليس لهم ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله : فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا : هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟ على قولين وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة وكان يقول الشعر فقال :
( ألا هل أتى الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقي في زجاج وحنتم )
( إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تجذوا على كل منسم )
( فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم )
( لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم )
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إي والله إنه ليسوؤني ذلك ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته وكتب إليه عمر { بسم الله الرحمن الرحيم } { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } ـ أما بعد ـ قد بلغني قولك :
( لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم )
وايم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر فقال : والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني فقال عمر : أظن ذلك ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت فلم يذكر أنه حده على الشراب وقد ضمنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون ولكنه ذمه عمر رضي الله عنه ولامه على ذلك وعزله به ولهذا جاء في الحديث [ لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا يريه خير له من أن يمتلىء شعرا ] والمراد من هذا أن الرسول صلى الله عليه و سلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة كما قال تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } وقال تعالى : { إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين } وهكذا قال ههنا : { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } إلى أن قال { وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون } إلى أن قال { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون }
وقوله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري قال : لما نزلت { والشعراء يتبعهم الغاوون } [ جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم يبكون فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الاية أنا شعراء فتلا النبي { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال : أنتم { وذكروا الله كثيرا } قال : أنتم { وانتصروا من بعد ما ظلموا } قال : أنتم ] رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من رواية ابن إسحاق وقد روى ابن أبي حاتم أيضا عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة عن الوليد بن أبي كثير عن يزيد عن عبد الله عن أبي الحسن مولى بني نوفل أن حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين نزلت هذه الاية { والشعراء يتبعهم الغاوون } يبكيان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقرؤها عليهما { والشعراء يتبعهم الغاوون } حتى بلغ { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال [ أنتم ]
وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال : لما نزلت { والشعراء يتبعهم الغاوون } إلى قوله { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله قد علم الله أني منهم فأنزل الله تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الاية وهكذا قال ابن عباس وعكرمة مجاهد وقتادة وزيد بن أسلم وغير واحد : أن هذا استثناء مما تقدم ولا شك أنه استثناء ولكن هذه السورة مكية فكيف يكون سبب نزول هذه الايات شعراء الأنصار ؟ وفي ذلك نظر ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها والله أعلم ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ثم تاب وأناب ورجع وأقلع وعمل صالحا وذكر الله كثيرا في مقابلة ما تقدم من الكلام السيء فإن الحسنات يذهبن السيئات وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه كما قال عبد الله بن الزبعري حين أسلم :
( يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور )
( إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ... ي ومن مال ميله مثبور )
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه و سلم وهو ابن عمه وأكثرهم له هجوا فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ما كان يهجوه ويتولاه بعد ما كان قد عاداه وهكذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال : [ يا رسول الله ثلاث أعطنيهن قال : نعم قال : معاوية تجعله كاتبا بين يديك ؟ قال : نعم قال وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ؟ قال : نعم وذكر الثالثة ] ولهذا قال تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا } قيل : معناه ذكروا الله كثيرا في كلامهم وقيل في شعرهم كلاهما صحيح مكفر لما سبق
وقوله تعالى : { وانتصروا من بعد ما ظلموا } قال ابن عباس : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد وهذا كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لحسان [ اهجهم ـ أو قال ـ هاجهم وجبريل معك ] وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل قد أنزل في الشعراء ما أنزل فقال [ إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ]
وقوله تعالى : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } كقوله تعالى : { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم } الاية وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ] قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } يعني من الشعراء وغيرهم وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا إياس بن أبي تميمة قال : حضرت الحسن ومر عليه بجنازة نصراني فقال : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } وقال عبد الله بن أبي رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الاية بكى حتى أقول قد اندق قضيب زوره { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }
وقال ابن وهب : أخبرنا شريح الإسكندراني عن بعض المشيخة أنهم كانوا بأرض الروم فبينما هم ليلة على نار يشتوون عليها أو يصطلون إذا بركاب قد أقبلوا فقاموا إليهم فإذا فضالة بن عبيد فيهم فأنزلوه فجلس معهم ـ قال ـ وصاحب لنا قائم قال يصلي حتى مر بهذه الاية { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } قال فضالة بن عبيد : هؤلاء الذين يخربون البيت وقيل : المراد بهم أهل مكة وقيل الذين ظلموا من المشركين والصحيح أن هذه الاية عامة في كل ظالم كما قال ابن أبي حاتم : ذكر عن زكريا بن يحيى الواسطي حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد النهدي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المحبر حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كتب أبي في وصيته سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } آخر تفسير سورة الشعراء والحمد لله رب العالمين (3/469)
تفسير سورة النمل
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم (3/473)
قد تقدم الكلام في سورة البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور وقوله تعالى : { تلك آيات } أي هذه آيات { القرآن وكتاب مبين } أي بين واضح { هدى وبشرى للمؤمنين } أي إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه وعمل بما فيه وأقام الصلاة المكتوبة وآتى الزكاة المفروضة وأيقن بالدار الاخرة والبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال : خيرها وشرها والجنة والنار كما قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر } الاية وقال تعالى : { لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا } ولهذا قال تعالى ههنا : { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي يكذبون بها ويستبعدون وقوعها { زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون } أي حسنا لهم ما هم فيه ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم وكان هذا جزاء على ما كذبوا من الدار الاخرة كما قال تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } الاية { أولئك الذين لهم سوء العذاب } أي في الدنيا والاخرة { وهم في الآخرة هم الأخسرون } أي ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر وقوله تعالى : { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } أي { وإنك } يا محمد قال قتادة : { لتلقى } أي لتأخذ { القرآن من لدن حكيم عليم } أي من عند حكيم عليم أي حكيم في أمره ونهيه عليم بالأمور : جليلها وحقيرها فخبره هو الصدق المحض وحكمه هو العدل التام كما قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } (3/473)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم مذكرا له ما كان من أمر موسى عليه السلام كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه أعطاه من الايات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة وابتعثه إلى فرعون وملئه فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له فقال تعالى : { إذ قال موسى لأهله } أي اذكر حين سار موسى بأهله فأضل الطريق وذلك في ليل وظلام فآنس من جانب الطور نارا أي رأى نارا تتأجج وتضطرم فقال { لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر } أي عن الطريق { أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون } أي تستدفئون به وكان كما قال فإنه رجع منها بخبر عظيم واقتبس منها نورا عظيما ولهذا قال تعالى : { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها } أي فلما أتاها ورأى منظرا هائلا عظيما حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقدا ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء قال ابن عباس وغيره : لم تكن نارا وإنما كانت نورا يتوهج وفي رواية عن ابن عباس : نور رب العالمين فوقف موسى متعجبا مما رأى { نودي أن بورك من في النار } قال ابن عباس : تقدس { ومن حولها } أي من الملائكة قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود هو الطيالسي حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة سمع أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل ] زاد المسعودي [ وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ] ثم قرأ أبو عبيدة { أن بورك من في النار ومن حولها } وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة به وقوله تعالى : { وسبحان الله رب العالمين } الذي يفعل ما يشاء ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ولا يحيط به شيء من مصنوعاته وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات ولا تكتنفه الأرض والسموات بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات
وقوله تعالى : { يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم } أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل شيء وقهره وغلبه الحكيم في أقواله وأفعاله ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك ولهذا قال تعالى : { فلما رآها تهتز كأنها جان } والجان ضرب من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطرابا وفي الحديث نهي عن قتل جنان البيوت فلما عاين موسى ذلك { ولى مدبرا ولم يعقب } أي لم يلتفت من شدة فرقه { يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون } أي لا تخف مما ترى فإني أريد أن أصطفيك رسولا وأجعلك نبيا وجيها
وقوله تعالى : { إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم } هذا استنثاء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر وذلك أن من كان على عمل سيء ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه كما قال تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } وقال تعالى : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الاية والايات في هذا كثيرة جدا وقوله تعالى : { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء } هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار وصدق من جعل له معجزة وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف
وقوله تعالى : { في تسع آيات } أي هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه { إنهم كانوا قوما فاسقين } وهذه هي الايات التسع التي قال الله تعالى : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } كما تقدم تقرير ذلك هنالك وقوله تعالى : { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة } أي بينة واضحة ظاهرة { قالوا هذا سحر مبين } وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين { وجحدوا بها } في ظاهر أمرهم { واستيقنتها أنفسهم } أي علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها { ظلما وعلوا } أي ظلما من أنفسهم سجية ملعونة وعلوا أي استكبارا من اتباع الحق ولهذا قال تعالى : { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة وفحوى الخطاب يقول : احذروا أيها المكذبون لمحمد الجاحدون لما جاء به من ربه أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى فإن محمدا صلى الله عليه و سلم أشرف وأعظم من موسى وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله وما سبقه من البشارات من الأنبياء به وأخذ المواثيق له عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام (3/474)
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه : داود وابنه سليمان عليهما السلام من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة والصفات الجميلة وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والاخرة والملك والتمكين التام في الدنيا والنبوة والرسالة في الدين ولهذا قال تعالى : { ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } قال ابن أبي حاتم : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام أخبرني أبي عن جدي قال : كتب عمر بن عبد العزيز : إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل قال الله تعالى : { ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام
وقوله تعالى : { وورث سليمان داود } أي في الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود فإنه قد كان لدواد مائة امرأة ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : [ نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ] وقال : { يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء } أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضا وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود كما قد يتفوه به كثير من الناس فهو قول بلا علم ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ويعرف ما تقول وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها ولهذا قال تعالى : { علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء } أي مما يحتاج إليه الملك { إن هذا لهو الفضل المبين } أي الظاهر البين لله علينا
قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع ـ قال ـ فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود فجاء داود عليه السلام فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود : من أنت ؟ فقال : الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع من الحجاب فقال داود : أنت إذا والله ملك الموت مرحبا بأمر الله فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس فقال سليمان عليه السلام للطير : أظلي داود فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الأرض فقال لها سليمان : اقبضي جناحا جناحا ] قال أبو هريرة : [ يا رسول الله كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية ] قال أبو الفرج بن الجوزي : المضرحية هن النسور الحمراء
وقوله تعالى : { وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون } أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه والجن وهم بعدهم في المنزلة والطير ومنزلتها فوق رأسه فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها وقوله : { فهم يوزعون } أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم
وقوله : { حتى إذا أتوا على واد النمل } أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون } أورد ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن سعيد عن قتادة عن الحسن أن اسم هذه النملة حرس وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان وأنها كانت عرجاء وكانت بقدر الذئب أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم ففهم ذلك سليمان عليه السلام منها { فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه } أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي من تعليمي منطق الطير والحيوان وعلى والدي بالإسلام لك والإيمان بك { وأن أعمل صالحا ترضاه } أي عملا تحبه وترضاه { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك والرفيق الأعلى من أوليائك ومن قال من المفسرين أن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل فلا حاصل لها
وعن نوف البكالي أنه قال : كان نمل سليمان أمثال الذئاب هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت وإنما هو بالباء الموحدة وذلك تصحيف والله أعلم والغرض أن سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكا من ذلك وهذا أمرعظيم جدا وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن بشار حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ولا غنى بنا عن سقياك وإلا تسقنا تهلكنا فقال سليمان : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم وقد ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قرصت نبيا من الأنبياء نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ فهلا نملة واحدة ؟ ] (3/476)
قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندسا يدل سليمان عليه السلام على الماء إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض كما يرى الإنسان الشىء الظاهر على وجه الأرض ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض فإذا دلهم عليه أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره فنزل سليمان عليه السلام يوما بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره { فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا وفي القوم رجل من الخوارج يقال له نافع بن الأزرق وكان كثير الاعتراض على ابن عباس فقال له : قف يا ابن عباس غلبت اليوم قال : ولم ؟ قال : إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ويحثو على الفخ ترابا فيجىء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي فقال ابن عباس لولا أن يذهب هذا فيقول رددت على ابن عباس لما أجبته ثم قال له : ويحك إنه إذا نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدا
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البرزي من أهل برزة في غوطة دمشق وكان من الصالحين يصوم الاثنين والخميس وكان أعور قد بلغ الثمانين فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد أنه سأله عن سبب عوره فامتنع عليه فألح عليه شهورا فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة وسألاه عن واد بها فأريتهما إياه فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخورا كثيرا حتى عجعج الوادي بالدخان فأخذا يعزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما فلا يلتفتان إلى شيء منها حتى أقبلت حية نحو الذراع وعيناها تتوقدان مثل الدينار فاستبشرا بها عظيما وقالا الحمد لله الذي لم يخيب سفرنا من سنة وكسرا المجامر وأخذا الحية فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به فسألتهما أن يكحلاني فأبيا فألححت عليهما وقلت : لا بد من ذلك وتوعدتهما بالدولة فكحلا عيني الواحدة اليمنى فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة أنظر ما تحتها كما ترى المرآة ثم قالا لي : سر معنا قليلا فسرت معهما وهما يحدثاني حتى إذا بعدت عن القرية أخذاني فكتفاني وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ورمى بها ومضيا فلم أزل كذلك ملقى مكتوفا حتى مر بي نفر ففك وثاقي فهذا ما كان من خبر عيني
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن عمرو الغساني حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن قال : اسم هدهد سليمان عليه السلام عنبر وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان عليه السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلا الهدهد { فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } أخطأه بصري من الطير أم غاب فلم يحضر
وقوله : { لأعذبنه عذابا شديدا } قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد عن ابن عباس : يعني نتف ريشه وقال عبد الله بن شداد : نتف ريشه وتشميسه وكذا قال غير واحد من السلف أنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل وقوله : { أو لأذبحنه } يعني قتله { أو ليأتيني بسلطان مبين } بعذر بين واضح وقال سفيان بن عيينة و عبد الله بن شداد : لما قدم الهدهد قالت له الطير : ما خلفك ؟ فقد نذر سليمان دمك فقال : هل استثنى ؟ قالوا : نعم قال : { لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين } قال : نجوت إذا قال مجاهد : إنما دفع الله عنه ببره بأمه (3/478)
يقول تعالى : { فمكث } الهدهد { غير بعيد } أي غاب زمانا يسيرا ثم جاء فقال لسليمان : { أحطت بما لم تحط به } أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك { وجئتك من سبإ بنبإ يقين } أي بخبر صدق حق يقين وسبأ هم حمير وهم ملوك اليمن ثم قال : { إني وجدت امرأة تملكهم } قال الحسن البصري : وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ وقال قتادة : كانت أمها جنية وكان مؤخر قدميها مثل حافر الدابة من بيت مملكة وقال زهير بن محمد : هي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان وأمها فارعة الجنية وقال ابن جريج : بلقيس بنت ذي شرخ وأمها بلتعة
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد حدثنا سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عباس قال : كان مع صاحبة سليمان ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وقال الأعمش : عن مجاهد كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : { إني وجدت امرأة تملكهم } كانت من بيت مملكة وكان أولو مشورتها ثلثمائة واثني عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل وكانت بأرض يقال لها مأرب على ثلاثة أميال من صنعاء وهذا القول هو أقرب على أنه كثير على مملكة اليمن والله أعلم
وقوله : { وأوتيت من كل شيء } أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن { ولها عرش عظيم } يعني سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللالىء قال زهير بن محمد : كان من ذهب وصفحاته مرمولة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وقال محمد بن إسحاق : كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ وكان إنما يخدمها النساء ولها ستمائة امرأة تلي الخدمة قال علماء التاريخ : وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة وتغرب من مقابلتها فيسجدون لها صباحا ومساء ولهذا قال : { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل } أي عن طريق الحق { فهم لا يهتدون }
وقوله : { أن لا يسجدوا لله } معناه { وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * أن لا يسجدوا لله } أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من الكواكب وغيرها كما قال تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } وقرأ بعض القراء { أن لا يسجدوا لله } جعلها ألا الإستفتاحية ويا للنداء وحذف المنادى تقديره عنده ألا يا قوم اسجدوا لله
وقوله : { الذي يخرج الخبء في السموات والأرض } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعلم كل خبيئة في السماء والأرض وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد وقال سعيد بن المسيب : الخبء الماء وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : خبء السموات والأرض ما جعل فيهما من الأرزاق المطر من السماء والنبات من الأرض وهذا مناسب من كلام الهدهد الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض وداخلها
وقوله : { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } أي يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال وهذا كقوله تعالى : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } وقوله : { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } أي هو المدعو وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظم منه ولما كان الهدهد داعيا إلى الخير وعبادة الله وحده والسجود له نهي عن قتله كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد والصرد ] وإسناده صحيح (3/479)
يقول تعالى مخبرا عن قيل سليمان للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم { قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } أي صدقت في إخبارك هذا { أم كنت من الكاذبين } في مقالتك لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك ؟ { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون } وذلك أن سليمان عليه السلام كتب كتابا إلى بلقيس وقومها وأعطاه ذلك الهدهد فحمله قيل في جناحه كما هي عادة الطير وقيل بمنقاره وجاء إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها ثم تولى ناحية أدبا ورياسة فتحيرت مما رأت وهالها ذلك ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ففتحت ختمه وقرأته فإذا فيه { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين } فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها ثم قالت لهم { يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم } تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره كون طائر أتى به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدبا وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك ولا سبيل لهم إلى ذلك ثم قرأته عليهم { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين } فعرفوا أنه من نبي الله سليمان عليه السلام وأنه لا قبل لهم به وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها قال العلماء : لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا في تفسيره حيث قال : حدثنا أبي حدثنا هارون بن الفضل أبو يعلى الخياط حدثنا أبو يوسف عن سلمة بن صالح عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود قلت : يا نبي الله أي آية ؟ قال : سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد قال : فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه فقلت نسي ثم التفت إلي وقال : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ] هذا حديث غريب وإسناده ضعيف وقال ميمون بن مهران : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكتب : باسمك اللهم حتى نزلت هذه الاية فكتب { بسم الله الرحمن الرحيم } وقوله : { أن لا تعلوا علي } قال قتادة : يقول لا تجبروا علي { وأتوني مسلمين } وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي وأتوني مسلمين قال ابن عباس : موحدين وقال غيره : مخلصين وقال سفيان بن عيينة : طائعين (3/481)
لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها وما قد نزل بها ولهذا قالت { يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون } أي حتى تحضرون وتشيرون { قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد } أي منوا إليها بعددهم وعددهم وقوتهم ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا : { والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين } أي نحن ليس لنا عاقة ولا بنا بأس إن شئت أن تقصديه وتحاربيه فما لنا عاقة عنه وبعد هذا فالأمر إليك مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه قال الحسن البصري رحمه الله : فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم رأيا منهم وأعلم بأمر سليمان وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمرا عجيبا بديعا فقالت لهم : إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه ويخلص إلي وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا ولهذا قالت { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها } قال ابن عباس : أي إذا دخلوا بلدا عنوة أفسدوه أي خربوه { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان إما بالقتل أو بالأسر قال ابن عباس : قالت بلقيس { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة } قال الرب عز و جل : { وكذلك يفعلون } ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة والمخادعة والمصانعة فقالت { وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون } أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه في كل عام ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا قال قتادة رحمه الله : ما كان أعقلها في إسلامها وشركها علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس وقال ابن عباس وغير واحد : قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه (3/482)
ذكر غير واحد من المفسرين من السلف وغيرهم أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولالىء وغير ذلك وقال بعضهم : أرسلت بلبنة من ذهب والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما : أرسلت جواري في زي الغلمان وغلمان في زي الجواري فقالت : إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي قالوا : فأمرهم سليمان فتوضؤا فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء وجعل الغلام يغترف فميزهم بذلك وقيل بل جعلت الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها والغلام بالعكس وقيل بل جعلت الجواري يغسلن من أكفهن إلى مرافقهن والغلمان من مرافقهم إلى كفوفهم ولا منافاة بين ذلك كله والله أعلم وذكر بعضهم أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء ولا من الأرض فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملأه من ذلك وبخرزة وسلك ليجعله فيها ففعل ذلك والله أعلم أكان ذلك أم لا وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات والظاهر أن سليمان عليه السلام لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية ولا اعتنى به بل أعرض عنه وقال منكرا عليهم { أتمدونن بمال ؟ } أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم ؟ { فما آتاني الله خير مما آتاكم } أي الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه { بل أنتم بهديتكم تفرحون } أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف
قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه : أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة فلما رأت رسلها ذلك قالوا : ما يصنع هذا بهديتنا وفي هذا جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد { ارجع إليهم } أي بهديتهم { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } أي لا طاقة لهم بقتالهم { ولنخرجنهم منها أذلة } أي ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة { وهم صاغرون } أي مهانون مدحورون فلما رجعت إليها رسلها بهديتها وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي وقومها وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة معظمة لسليمان ناوية متابعته في الإسلام ولما تحقق سليمان عليه السلام قدومهم عليه ووفودهم إليه فرح بذلك وسره (3/482)
قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : فلما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان قالت : قد والله عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة وما نصنع بمكابرته شيئا وبعثت إليه : إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه من دينك ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض ثم أقفلت عليه الأبواب ثم قالت لمن خلفت على سلطانها : احتفظ بما قبلك وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد من عباد الله و لايرينه أحد حتى آتيك ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل منهم ألوف كثيرة فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يده فقال : { يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين }
وقال قتادة : لما بلغ سليمان أنها جاثية وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه وكان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وجوهر وكان مسترا بالديباج والحرير وكانت عليه تسعة مغاليق فكره أن يأخذه بعد إسلامهم وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم فقال { يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } وهكذا قال عطاء الخراساني والسدي وزهير بن محمد { قبل أن يأتوني مسلمين } فتحرم علي أموالهم بإسلامهم { قال عفريت من الجن } قال مجاهد : أي مارد من الجن قال شعيب الجبائي : وكان اسمه كوزن وكذا قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وكذا قال أيضا وهب بن منبه قال أبو صالح وكان كأنه جبل { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } قال ابن عباس رضي الله عنه : يعني قبل أن تقوم من مجلسك
وقال مجاهد : مقعدك وقال السدي وغيره : كان يجلس للناس للقضاء والحكومات وللطعام من أول النهار إلى أن تزول الشمس { وإني عليه لقوي أمين } قال ابن عباس : أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجوهر فقال سليمان عليه الصلاة و السلام أريد أعجل من ذلك ومن ههنا يظهر أن سليمان أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من بعده وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة فلما قال سليمان أريد أعجل من ذلك { قال الذي عنده علم من الكتاب } قال ابن عباس وهو آصف كاتب سليمان وكذا روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخياء وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم
وقال قتادة : كان مؤمنا من الإنس واسمه آصف وكذا قال أبو صالح والضحاك وقتادة أنه كان من الإنس زاد قتادة من بني إسرائيل وقال مجاهد كان اسمه أسطوم وقال قتادة في رواية عنه كان اسمه بليخا وقال زهير بن محمد هو رجل من الإنس يقال له ذو النور وزعم عبد الله بن لهيعة أنه الخضر وهو غريب جدا
وقوله : { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } أي ارفع بصرك وانظر مد بصرك مما تقدر عليه فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك وقال وهب بن منبه : امدد بصرك فلا يبلغ مداه حتى آتيك به فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى قال مجاهد : قال يا ذا الجلال والإكرام وقال الزهري قال : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها قال : فمثل بين يديه قال مجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق وزهير بن محمد وغيرهم : لما دعا الله تعالى وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس وكان في اليمن وسليمان عليه السلام ببيت المقدس غاب السرير وغاص في الأرض ثم نبع من بين يدي سليمان
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه قال وكان هذا الذي جاء به من عباد البحر فلما عاين سليمان وملؤه ذلك ورآه مستقرا عنده { قال هذا من فضل ربي } أي هذا من نعم الله علي { ليبلوني } أي ليختبرني { أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } كقوله : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } وكقوله : { ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون }
وقوله : { ومن كفر فإن ربي غني كريم } أي هو غني عن العباد وعبادتهم كريم أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد وهذا كما قال موسى { إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد } وفي صحيح مسلم [ يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ] (3/483)
لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها فقال { نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون } قال ابن عباس نزع منه فصوصه ومرافقه وقال مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أحمر جعل أصفر وما كان أصفر جعل أحمر وما كان أخضر جعل أحمر غير كل شيء عن حاله وقال عكرمة زادوا فيه ونقصوا وقال قتادة جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره وزادوا فيه ونقصوا { فلما جاءت قيل أهكذا عرشك } أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه فكان فيها ثبات وعقل ولها لب ودهاء وحزم فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر فقالت { كأنه هو } أي يشبهه ويقاربه وهذا غاية في الذكاء والحزم
وقوله : { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين } قال مجاهد يقوله سليمان وقوله تعالى : { وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين } هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد وسعيد بن جبير رحمهما الله أي قال سليمان { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين } وهي كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده { ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين } وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد : حسن وقاله ابن جرير أيضا ثم قال ابن جرير ويحتمل أن يكون في قوله { وصدها } ضمير يعود إلى سليمان أو إلى الله عز و جل تقديره ومنعها { ما كانت تعبد من دون الله } أي صدها عن عبادة غير الله { إنها كانت من قوم كافرين } ( قلت ) : ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي
وقوله : { قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها } وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرا عظيما من قوارير أي من زجاج وأجري تحته الماء فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان عليه السلام إلى اتخاذه فقيل : إنه لما عزم على تزوجها واصطفائها لنفسه ذكر له جمالها وحسنها لكن في ساقيها هلب عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة فساءه ذلك فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ هكذا قول محمد بن كعب القرظي وغيره فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقا وأحسنهم قدما ولكن رأى على رجليها شعرا لأنها ملكة وليس لها زوج فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها الموسى فقالت لا أستطيع ذلك وكره سليمان ذلك وقال للجن : اصنعوا شيئا غير الموسى يذهب بهذا الشعر فصنعوا له النورة وكان أول من اتخذت له النورة قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم
وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ثم قال لها : ادخلي الصرح ليريها ملكا هو أعز من ملكها وسلطانا هو أعظم من سلطانها فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء تخوضه فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله وقال الحسن البصري : لما رأت العلجة الصرح عرفت والله أن قد رأت ملكا أعظم من ملكها وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قال : أمر سليمان بالصرح وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ثم أرسل الماء تحته ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكا هو أعز من ملكها وسلطانا هو أعظم من سلطانها { فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها } لا تشك أنه ماء تخوضه قيل لها { إنه صرح ممرد من قوارير }
فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله عز و جل وحده وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله فقالت بقول الزنادقة فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت وسجد معه الناس فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال ويحك ماذا قلت ؟ قالت أنسيت ما قلت ؟ فقالت { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فأسلمت وحسن إسلامها وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرا غريبا عن ابن عباس فقال : حدثنا الحسين بن علي عن زائدة حدثني عطاء بن السائب حدثنا مجاهد ونحن في الأزد قال حدثنا ابن عباس قال : كان سليمان عليه السلام يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله فيجلس عليها الإنس ثم يجلس الجن ثم الشياطين ثم تأتي الريح فترفعهم ثم تظلهم الطير ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرا ورواحها شهر قال فبينما هو ذات يوم في مسير له إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال { ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين } قال : وكان عذابه إياه أن ينتفه ثم يلقيه في الأرض فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض
قال عطاء وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد { فمكث غير بعيد } فقرأ حتى انتهى إلى قوله { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي هذا } وكتب بسم الله الرحمن الرحيم إلى بلقيس { أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين } فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ألقي في روعها أنه كتاب كريم وأنه من سليمان وأن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين قالوا نحن أولوا قوة قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاءت الهدية سليمان قال : أتمدونني بمال ارجع إليهم فلما نظر إلى الغبار أخبرنا ابن عباس قال وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة قال عطاء ومجاهد حينئذ في الأزد
قال سليمان أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما يجلس الأمراء ثم يقوم فقال : { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } قال سليمان أريد أعجل من ذلك فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قال فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره فنبع عرشها من تحت قدم سليمان من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ثم يصعد إلى السرير قال فلما رأى سليمان عرشها قال { هذا من فضل ربي } الاية { قال نكروا لها عرشها } فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو قال فسألته حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد ماء ليس من أرض ولا سماء وكان سليمان إذا سئل عن شيء سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين قال : فقالت الشياطين هذا هين أجر الخيل ثم خذ عرقها ثم املأ منه الانية قال فأمر بالخيل فأجريت ثم أخذ عرقها فملأ منه الانية قال وسألت عن لون الله عز و جل قال فوثب سليمان عن سريره فخر ساجدا فقال : يا رب لقد سألتني عن أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك فقال : ارجع فقد كفيتكهم قال فرجع إلى سريره قال ما سألت عنه ؟ قالت ما سألتك إلا عن الماء فقال لجنوده ما سألت عنه ؟ فقالوا ما سألتك إلا عن الماء قال ونسوه كلهم قال وقالت الشياطين إن سليمان يريد أن يتخذها لنفسه فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد لم ننفك من عبوديته قال فجعلوا صرحا ممردا من قوارير فيه السمك قال فقيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي شعراء فقال سليمان هذا قبيح فما يذهبه ؟ قالوا يذهبه الموسى فقال أثر الموسى قبيح قال فجعلت الشياطين النورة قال فهو أول من جعلت له النورة ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة ما أحسنه من حديث ( قلت ) : بل هو منكر غريب جدا ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس والله أعلم
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة أصل الصرح في كلام العرب هو القصر وكل بناء مرتفع قال الله سبحانه وتعالى إخبارا عن فرعون لعنه الله أنه قال لوزيره هامان { ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } الاية والصرح قصر في اليمن عالي البناء والممرد المبني بناء محكما أملس { من قوارير } أي زجاج وتمريد البناء تمليسه ومارد : حصن بدومة الجندل والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم وملك عظيم وأسلمت لله عز و جل وقالت { رب إني ظلمت نفسي } أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } أي متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده لا شريك له الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا (3/485)