أخبر تعالى : أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين كلما عاهدوا عهدا نقضوه وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه { وهم لا يتقون } أي لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الاثام { فإما تثقفنهم في الحرب } أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب { فشرد بهم من خلفهم } أي نكل بهم قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وابن عيينة ومعناه غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم ويصيروا لهم عبرة { لعلهم يذكرون } وقال السدي : يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك (2/423)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { وإما تخافن من قوم } قد عاهدتهم { خيانة } أي نقضا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود { فانبذ إليهم } أي عهدهم { على سواء } أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء أي تستوي أنت وهم في ذلك قال الراجز :
فاضرب وجوه الغدر للأعداء حتى يجيبوك إلى السواء
وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى : { فانبذ إليهم على سواء } أي على مهل { إن الله لا يحب الخائنين } أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضا قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر قال : كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء ] قال : فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة به وقال الترمذي : حسن صحيح وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري حدثنا إسرائيل عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه أنه انتهى إلى حصن أو مدينة فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوهم فقال : إنما كنت رجلا منكم فهداني الله عز و جل للإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون وإن أبيتم نابذناكم على سواء { إن الله لا يحب الخائنين } يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله (2/423)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ولا تحسبن } يا محمد { الذين كفروا سبقوا } أي فاتونا فلا نقدر عليهم بل هم تحت قهر قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا كقوله تعالى : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } أي يظنون وقوله تعالى : { لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير } وقوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة فقال : { وأعدوا لهم ما استطعتم } أي مهما أمكنكم { من قوة ومن رباط الخيل } قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي علي ثمامة بن شفي أخي عقبة بن عامر أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو على المنبر : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي [ رواه مسلم عن هارون بن معروف وأبو داود عن سعيد بن منصور وابن ماجه عن يونس بن عبد الأعلى ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب به ولهذا الحديث طرق أخر عن عقبة بن عامر منها ما رواه الترمذي من حديث صالح بن كيسان عن رجل عنه وروى الإمام أحمد وأهل السنن عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا [
وقال الإمام مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ] الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له فهي لذلك الرجل أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر [ وسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الحمر فقال ] ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الاية الجامعة الفاذة { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } رواه البخاري وهذا لفظه ومسلم كلاهما من حديث مالك وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج أخبرنا شريك عن الركين بن الربيع عن القاسم بن حسان عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن وفرس للشيطان وفرس للإنسان فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله فعلفه وروثه وبوله ـ وذكر ما شاء الله ـ وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليها وأما فرس الإنسان فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها فهي له ستر من الفقر ] وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي وقول الجمهور أقوى للحديث والله أعلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج وهشام قالا : حدثنا ليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن ابن شماسة أن معاوية بن خديج مر على أبي ذر وهو قائم عند فرس له فسأله ما تعاني من فرسك هذا ؟ فقال : إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته قال : وما دعاء بهيمة من البهائم ؟ قال : والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول : اللهم أنت خولتني عبدا من عبادك وجعلت رزقي بيده فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده قال : وحدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الحميد بن أبي جعفر حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن خديج عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين : يقول : اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه ـ أو ـ أحب أهله وماله إليه ] رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان به وقال أبوالقاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لابن الحنظلية يعني سهلا : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها ومن ربط فرسا في سبيل الله كانت النفقة عليه كالماد يده بالصدقة لا يقبضها ] والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة وفي صحيح البخاري عن عروة بن أبي الجعد البارقي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ] وقوله : { ترهبون } أي تخوفون { به عدو الله وعدوكم } أي من الكفار { وآخرين من دونهم } قال مجاهد يعني بني قريظة وقال السدي : فارس وقال سفيان الثوري : قال ابن يمان : هم الشياطين التي في الدور وقد ورد حديث بمثل ذلك
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي حدثنا أبو حيوة يعني شريح بن يزيد المقري حدثنا سعيد بن سنان عن ابن غريب يعني يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول في قول الله تعالى : { وآخرين من دونهم لا تعلمونهم } قال هم الجن ورواه الطبراني عن إبراهيم بن دحيم عن أبيه عن محمد بن شعيب عن سنان بن سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله بن غريب به وزاد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل ] وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون وهذا أشبه الأقوال ويشهد له قوله تعالى : { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } وقوله { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } أي مهما أنفقتم في الجهاد فإنه يوفى إليكم على التمام والكمال ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف كما تقدم في قوله تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي حدثنا أبي عن أبيه حدثنا الأشعث بن إسحاق عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين وهذا أيضا غريب (2/424)
يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم { وإن جنحوا } أي مالوا { للسلم } أي المسالمة والمصالحة والمهادنة { فاجنح لها } أي فمل إليها واقبل منهم ذلك ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثني فضيل بن سليمان يعني النميري حدثنا محمد بن أبي يحيى عن إياس بن عمرو الأسلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنه سيكون اختلاف أو أمر فإن استطعت أن يكون السلم فافعل ] وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة وهذا فيه نظر لأن السياق كله في وقعة بدر وذكرها مكتنف لهذا كله وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة : إن هذه الاية منسوخة بآية السيف في براءة { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الاية وفيه نظر أيضا لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الاية الكريمة وكما فعل النبي صلى الله عليه و سلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم وقوله { وتوكل على الله } أي صالحهم وتوكل على الله فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا { فإن حسبك الله } أي كافيك وحده ثم ذكر نعمته عليه مما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار فقال : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم } أي جمعها على الإيمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج وأمور يلزم منها التسلسل في الشر حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان كما قال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون }
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم : [ يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ] كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن ولهذا قال تعالى : { ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم } أي عزيز الجناب فلا يخيب رجاء من توكل عليه حكيم في أفعاله وأحكامه وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين القنديلي الاستراباذي حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار حدثنا ميمون بن الحكم حدثنا بكر بن الشرود عن محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ومنة النعمة تكفر ولم ير مثل تقارب القلوب يقول الله تعالى : { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } وذلك موجود في الشعر :
( إذا بت ذو قربى إليك بزلة ... فغشك واستغنى فليس بذي رحم )
( ولكن ذا القربى الذي إن دعوته ... أجاب وأن يرمي العدو الذي ترمي )
قال : ومن ذلك قول القائل :
( ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم ... وبلوت ما وصلوا من الأسباب )
( فإذا القرابة لا تقرب قاطعا ... وإذا المودة أقرب الأسباب )
قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس أو هو من قول من دونه من الرواة وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سمعه يقول : { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } الاية قال هم المتحابون في الله وفي رواية نزلت في المتحابين في الله رواه النسائي والحاكم في مستدركه وقال : صحيح وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع وإن النعمة لتكفر وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ثم قرأ { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } رواه الحاكم أيضا وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد ولقيته فأخذ بيدي فقال : إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير فقال : لا تقل ذلك فإن الله يقول { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن إبراهيم الجزري عن الوليد بن أبي مغيث عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما قال قلت لمجاهد بمصافحة يغفر لهما ؟ قال مجاهد : أما سمعته يقول : { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني وكذا روى طلحة بن مصرف عن مجاهد وقال ابن عون عن عمير بن إسحاق قال : كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الإلفة وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني رحمه الله : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا سالم بن غيلان سمعت جعدا أبا عثمان حدثني أبو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار ] (2/426)
يحرض تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الأقران ويخبرهم أنه حسبهم أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم ولو قل عدد المؤمنين قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبيد الله بن موسى أنبأنا سفيان عن ابن شوذب عن الشعبي في قوله : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } قال حسبك الله وحسب من شهد معك قال : وروي عن عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد مثله ولهذا قال : { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } أي حثهم أو مرهم عليه ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : [ قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ] فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نعم ] فقال : بخ بخ فقال : [ ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ ] قال : رجاء أن أكون من أهلها قال [ فإنك من أهلها ] فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم ألقى بقيتهن من يده وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وقد روي عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير أن هذه الاية نزلت حين أسلم عمر بن الخطاب وكمل به الأربعون وفي هذا نظر لأن هذه الاية مدنية وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة والله أعلم
ثم قال تعالى مبشرا للمؤمنين وآمرا : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا } كل واحد بعشرة ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة قال عبد الله بن المبارك : حدثنا جرير بن حازم حدثني الزبير بن الحريث عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } شق ذلك على المسلمين حتى فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء التخفيف فقال : { الآن خفف الله عنكم } إلى قوله { يغلبوا مائتين } قال خفف الله عنهم من العدة ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم وروى البخاري من حديث ابن المبارك نحوه وقال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في هذه الاية قال : كتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم خفف الله عنهم فقال { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين وروى البخاري عن علي بن عبد الله عن سفيان به نحوه وقال محمد بن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الاية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ومائة ألفا فخفف الله عنهم فنسخها بالاية الأخرى فقال { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } الاية فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم وروى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو ذلك قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والضحاك وغيرهم نحو ذلك وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه : من حديث المسيب بن شريك عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } قال نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي عمرو بن العلاء عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } رفع ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (2/428)
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن هاشم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال : استشار النبي صلى الله عليه و سلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال [ إن الله قد أمكنكم منهم ] فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم ثم عاد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس ] فقام عمر فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه و سلم ثم عاد النبي صلى الله عليه و سلم فقال : للناس مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء قال فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كان فيه من الغم فعفا عنهم وقبل منهم الفداء قال وأنزل الله عز و جل { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك وقال الأعمش : عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما تقولون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب أضرم الوادي عليهم نارا ثم ألقهم فيه قال فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يرد عليهم شيئا ثم قام فدخل فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس : يأخذ بقول عمر وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة
ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله عز و جل { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } ] إلى آخر الاية رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به والحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري وروى ابن مردويه أيضا واللفظ له والحاكم في مستدركه من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر قال : لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر أسره رجل من الأنصار قال وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه ] فقال له عمر أفآتهم ؟ فقال [ نعم ] فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس فقالوا : لا والله لا نرسله فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم رضى ؟ قالوا فإن كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم رضى فخذه فأخذه عمر فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم فو الله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يعجبه إسلامك قال واستشار رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر فيهم فقال أبو بكر عشيرتك فأرسلهم فاستشار عمر فقال : اقتلهم ففاداهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } الاية قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وقال سفيان الثوري عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر فقال : خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا الفداء وإن شاءوا القتل على أن يقتل عاما مقبلا منهم مثلهم قالوا : الفداء ويقتل منا رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري به وهذا حديث غريب جدا وقال ابن عون عن عبيدة عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في أسارى يوم بدر : [ إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم ] قال فكان آخر السبعين ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة رضي الله عنه ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا فالله أعلم وقال محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } فقرأ حتى بلغ عذاب عظيم قال غنائم بدر قبل أن يحلها لهم يقول : لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وكذا روى ابن أبي نجيح : عن مجاهد وقال الأعمش : سبق منه أن لا يعذب أحدا شهد بدرا وروي نحوه عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن جبير وعطاء وقال شعبة عن أبي هاشم عن مجاهد { لولا كتاب من الله سبق } أي لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري رحمه الله وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس في قوله { لولا كتاب من الله سبق } يعني في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم { لمسكم فيما أخذتم } من الأسارى { عذاب عظيم } قال الله تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } الاية وكذا روى العوفي عن ابن عباس وروي مثله عن أبي هريرة وابن مسعود وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة والأعمش أيضا أن المراد { لولا كتاب من الله سبق } لهذه الأمة بإحلال الغنائم وهو اختيار ابن جرير رحمه الله
ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ] وقال الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا ] ولهذا قال تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } الاية فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء وقد روى الإمام أبو داود في سننه : حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العبسي حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة عن أبي العنبس عن أبي الشعثاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء أن الإمام مخير فيهم إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر أو بمن أسر من المسلمين كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين وإن شاء استرق من أسر هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه (2/429)
قال محمد بن إسحاق : حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم بدر : [ إني قد عرفت أن أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا منهم ـ أي من بني هاشم ـ فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها ] فقال أبو حذيفة بن عتبة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف فبلغت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لعمر بن الخطاب [ يا أبا حفص ـ قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا حفص ـ أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسيف ؟ ] فقال عمر يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فوالله لقد نافق فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت ولا أزال منها خائفا إلا أن يكفرها الله تعالى عني بشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا رضي الله عنه وبه عن ابن عباس قال : لما أمسى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر والأسارى محبوسون بالوثاق بات رسول الله صلى الله عليه و سلم ساهرا أول الليل فقال له أصحابه يا رسول الله ما لك لا تنام ؟ وقد أسر العباس رجل من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سمعت أنين عمي العباس في وثاقه فأطلقوه ] فسكت فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم قال محمد بن إسحاق : وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب وذلك أنه كان رجلا موسرا فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا وفي صحيح البخاري من حديث موسى بن عقبة قال ابن شهاب حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار قالوا يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه قال [ لا والله لا تذرون منه درهما ] وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن الزهري عن جماعة سماهم قالوا : بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في فداء أسراهم ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا وقال العباس يا رسول الله قد كنت مسلما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك وأما ظاهرك فقد كان علينا فافتد نفسك وابني اخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر ] : قال ما ذاك عندي يا رسول الله قال : [ فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل ؟ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم ] قال : والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك ] ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه فأنزل الله عز و جل { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم } قال العباس فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله عز و جل وقد روى ابن إسحاق أيضا عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس في هذه الاية بنحو مما تقدم وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا ابن إدريس عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال العباس : في نزلت { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني فأبى فأبدلني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر مالي في يده وقال ابن إسحاق أيضا حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن جابر بن عبد الله بن رباب قال كان العباس بن عبد المطلب يقول في نزلت والله حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم إسلامي ثم ذكر نحو الحديث كالذي قبله وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } عباس وأصحابه قال : قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا فأنزل الله { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } إيمانا وتصديقا يخلف لكم خيرا مما أخذ منكم { ويغفر لكم } الشرك الذي كنتم عليه قال فكان العباس يقول ما أحب أن هذه الاية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا لقد قال { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف وقال { ويغفر لكم } وأرجو أن يكون قد غفر لي وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية كان العباس أسر يوم بدر فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب فقال العباس حين قرئت هذه الاية لقد أعطاني الله عز و جل خصلتين ما أحب أن لي بهما الدنيا : إني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية فآتاني أربعين عبدا وإني لأرجو المغفرة التي وعدنا الله عز و جل فقال قتادة في تفسير هذه الاية : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا وقد توضأ لصلاة الظهر فما أعطى يومئذ شاكيا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرقه فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي فكان العباس يقول : هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من البحرين ثمانين ألفا ما أتاه مال أكثر منه لا قبل ولا بعد قال فنثرت على حصير ونودي بالصلاة قال وجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فمثل قائما على المال وجاء أهل المسجد فما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان إلا فيضا وجاء العباس بن عبد المطلب فحثا في خميصة عليه وذهب يقوم فلم يستطع قال فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ارفع علي قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى خرج ضاحكه أو نابه وقال له : [ أعد من المال طائفة وقم بما تطيق ] قال ففعل وجعل العباس يقول : وهو منطلق أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا وما ندري ما يصنع الله في الأخرى { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } الاية ثم قال : هذا خير مما أخذ منا وما أدري ما يصنع الله في الأخرى فما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم ماثلا على ذلك المال حتى ما بقي منه درهم وما بعث إلى أهله بدرهم ثم أتى الصلاة فصلى
( حديث آخر في ذلك ) ـ قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبد الله السعيدي حدثنا محمد بن عصام حدثنا حفص بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بمال من البحرين فقال [ انثروه في مسجدي ] قال وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خذ ] فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه إلي قال [ لا ] قال فارفعه أنت علي قال [ لا ] فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق فما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم يتبعه بصره حتى خفي عنه عجبا من حرصه فما قام رسول الله صلى الله عليه و سلم وثم منها درهم وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقا بصيغة الجزم يقول : وقال إبراهيم بن طهمان ويسوقه وفي بعض السياقات أتم من هذا
وقوله { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل } أي { وإن يريدوا خيانتك } فيما أظهروا لك من الأقوال { فقد خانوا الله من قبل } أي من قبل بدر بالكفر به { فأمكن منهم } أي بالأسارى يوم بدر { والله عليم حكيم } أي عليم بفعله حكيم فيه قال قتادة نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس : نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا : لننصحن لك على قومنا وفسرها السدي على العموم وهو أشمل وأظهر والله أعلم (2/431)
ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء { بعضهم أولياء بعض } أي كل منهم أحق بالاخر من كل أحد ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عنه وقال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد : قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة ] تفرد به أحمد وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سفيان حدثنا عكرمة يعني ابن إبراهيم الأزدي حدثنا عاصم عن شقيق عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ المهاجرون والأنصار والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والاخرة ] هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود
وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه فقال : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } الاية وقال { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } الاية وقال تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } الاية وأحسن ما قيل في قوله { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم فإن ظاهر الايات تقديم المهاجرين على الأنصار وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا محمد بن معمر حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن حذيفة قال : خيرني رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الهجرة والنصرة فاخترت الهجرة ثم قال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم } قرأ حمزة ولايتهم بالكسر والباقون بالفتح وهما واحد كالدلالة والدلالة { من شيء حتى يهاجروا } هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في بواديهم فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال
كما قال أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن يزيد بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا وقال : [ اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ] انفرد به مسلم وعنده زيادات أخر وقوله { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } الاية يقول تعالى وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم فإنه واجب عليكم نصرهم لأنهم إخوانكم في الدين إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه (2/434)
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض قطع الموالاة بينهم وبين الكفار كما قال الحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن صالح بن هانىء حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي حدثنا محمد بن أبان حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما ـ ثم قرأ ـ { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } ] ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه قلت : الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ] وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يتوارث أهل ملتين شتى ] وقال الترمذي : حسن صحيح وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا محمد عن معمر عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال : [ تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب ] وهذا مرسل من هذا الوجه وقد روي متصلا من وجه آخر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين ] ثم قال : [ لا يتراءى ناراهما ]
وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد : حدثنا محمد بن داود بن سفيان أخبرني يحيى بن حسان أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب أخبرني خبيب بن سليمان عن سمرة بن جندب : أما بعد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ] وذكر الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حاتم بن إسماعيل عن عبد الله بن هرمز عن محمد وسعيد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ] قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه قال : [ إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ] ثلاث مرات وأخرجه أبو داودوالترمذي من حديث حاتم بن إسماعيل به بنحوه ثم روي من حديث عبد الحميد بن سليمان : عن ابن عجلان عن أبي وثيمة النضري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ] ومعنى قوله { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل (2/435)
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا عطف بذكر مالهم في الاخرة فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان كما تقدم في أول السورة وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الاخرة كما قال { والسابقون الأولون } الاية وقال { والذين جاؤوا من بعدهم } الاية وفي الحديث المتفق عليه بل المتواتر من طرق صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ المرء مع من أحب ] وفي الحديث الاخر [ من أحب قوما فهو منهم ] وفي رواية [ حشر معهم ] وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء لبعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة ] قال شريك : فحدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله تفرد به أحمد من هذين الوجهين وأما قوله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } أي في حكم الله وليس المراد بقوله : { وأولو الأرحام } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالاية ويعتقد ذلك صريحا في المسألة بل الحق أن الاية عامة تشمل جميع القرابات كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث [ إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ] قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا والله أعلم
آخر تفسير سورة الأنفال ولله الحمد والمنة وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل (2/436)
سورة التوبة (2/437)
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قال البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول آخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وآخر سورة نزلت براءة وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه كما قال الترمذي : حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهيل بن يوسف قالوا : حدثنا عوف بن أبي جميلة أخبرني يزيد الفارسي أخبرني ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الاية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من طرق أخر عن عوف الأعرابي به وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا وأن ينادي في الناس { براءة من الله ورسوله } فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لكونه عصبة له كما سيأتي بيانه
فقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله } أي هذه براءة أي تبرؤ من الله ورسوله { إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } اختلف المفسرون ههنا اختلافا كثيرا فقال قائلون : هذه الاية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان لقوله تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } الاية ولما سيأتي في الحديث ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد فعهده إلى مدته وهذا أحسن الأقوال وأقواها وقد اختاره ابن جرير رحمه الله وروي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } الاية قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاءوا وأجل أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى سلخ المحرم فذلك خمسون ليلة فأمر الله نبيه إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الاخر أن يضع فيهم السيف أيضا حتى يدخلوا في الإسلام
وقال أبو معشر المدني : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من براءة فقرأها على الناس يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض فقرأها عليهم يوم عرفة أجلهم عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرا من ربيع الاخر وقرأها عليهم في منازلهم وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { براءة من الله ورسوله } إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم فقفل رسول الله صلى الله عليه و سلم من تبوك حين فرغ فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم الحج ثم قال : [ إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ] فأرسل أبا بكر وعليا رضي الله عنهما فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الاخر ثم لا عهد لهم وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا وهكذا روي عن السدي وقتادة وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم وهذا القول غريب وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك ولهذا قال تعالى : (2/437)
يقول تعالى وإعلام { من الله ورسوله } وتقدم وإنذار إلى الناس { يوم الحج الأكبر } وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعا { أن الله بريء من المشركين ورسوله } أي بريء منهم أيضا ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال { فإن تبتم } أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال { فهو خير لكم وإن توليتم } أي استمررتم على ما أنتم عليه { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } أي في الدنيا بالخزي والنكال وفي الاخرة بالمقامع والأغلال قال البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال حميد : ثم أردف النبي صلى الله عليه و سلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ورواه البخاري أيضا : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم مشرك هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد وقال عبد الرزاق : عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله : { براءة من الله ورسوله } قال : لما كان النبي صلى الله عليه و سلم زمن حنين اعتمر من الجعرانة ثم أمر أبا بكر على تلك الحجة قال معمر : قال الزهري : وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمر أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر قال أبو هريرة : ثم أتبعنا النبي صلى الله عليه و سلم عليا وأمره أن يؤذن ببراءة وأبو بكر على الموسم كما هو أو قال على هيئته وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد فأما أبو بكر إنما كان أميرا سنة تسع
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن مغيرة عن الشعبي عن محرر بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل مكة ببراءة فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال : كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد فإن أجله أو مدته إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي وقال الشعبي : حدثني محرر بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه و سلم ينادي فكان إذا صحل ناديت فقلت : بأي شيء كنتم تنادون ؟ قال بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فعهده إلى مدته ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك رواه ابن جرير من غير وجه عن الشعبي ورواه شعبة عن مغيرة عن الشعبي به إلا أنه قال : ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد فعهده إلى أربعة أشهر وذكر تمام الحديث قال ابن جرير : وأخشى أن يكون وهما من بعض نقلته لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد عن سماك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال : [ لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ] فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورواه الترمذي في التفسير : عن بندار عن عفان وعبد الصمد كلاهما عن حماد بن سلمة به ثم قال : حسن غريب من حديث أنس رضي الله عنه وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثنا محمد بن سليمان ـ لوين ـ حدثنا محمد بن جابر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه و سلم دعا النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال : [ أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم ] فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله نزل في شيء ؟ فقال [ لا ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ] هذا إسناد فيه ضعف وليس المراد أن أبا بكر رضي الله عنه رجع من فوره بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم كما جاء مبينا في الرواية الأخرى وقال عبد الله أيضا : حدثني أبو بكر حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط بن نصر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بعثه ببراءة قال : يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال : [ لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت ] قال : فإن كان ولا بد فسأذهب أنا قال : [ انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك ] قال : ثم وضع يده على فيه
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع رجل من همدان سألنا عليا بأي شيء بعثت ؟ يعني يوم بعثه النبي صلى الله عليه و سلم مع أبي بكر في الحجة قال : بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم عهد فعهده إلى مدته ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا ورواه الترمذي عن قلابة عن سفيان بن عيينة وقال : حسن صحيح كذا قال ورواه شعبة عن أبي إسحاق فقال : زيد بن يثيع وهم فيه ورواه الثوري عن أبي إسحاق عن بعض أصحابه عن علي رضي الله عنه وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أنزلت براءة بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد فهو إلى مدته ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ثم رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الأعلى عن ابن ثور عن معمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : أمرت بأربع فذكره وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيغ قال : نزلت براءة فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر ثم أرسل عليا فأخذها فلما رجع أبو بكر قال : نزل في شيء ؟ قال : [ لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي ] فانطلق إلى أهل مكة فقام فيهم بأربع لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد فعهده إلى مدته وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال : لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله : لو بعثت إلى أبي بكر ؟ فقال : [ لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ] ثم دعا عليا فقال [ اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو له إلى مدته ] فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم العضباء حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور ؟ فقال بل مأمور ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو إلى مدته فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد أخبرنا حيوة بن شريح أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة فلما قضى خطبته التفت إلي فقال : قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة ونحرت البدنة ثم حلقت رأسي وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة وقال عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق سألت أبا جحيفة عن يوم الحج الأكبر قال : يوم عرفة فقلت : أمن عندك أم من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ؟ قال : كل في ذلك وقال عبد الرزاق أيضا : عن ابن جريج عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر يوم عرفة وقال عمر بن الوليد الشني : حدثنا شهاب بن عباد البصري عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا : سعيد بن المسيب فأتيته فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا سعيد بن المسيب فأخبرني عن صوم يوم عرفة فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر أو ابن عمر كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الحج الأكبر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهكذا روي عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير ومجاهد وعكرمة وطاووس أنهم قالوا : يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر
وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جريج أخبرت عن محمد بن قيس عن ابن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب يوم عرفة فقال : [ هذا يوم الحج الأكبر ] وروي من وجه آخر : عن ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : [ أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر ] والقول الثاني أنه يوم النحر قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن علي رضي الله عنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر وقال إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور : سألت عليا رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر وقال شعبة عن الحكم سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي رضي الله عنه أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته فسأله عن يوم الحج الأكبر فقال هو يومك هذا خل سبيلها وقال عبد الرزاق : عن سفيان عن شعبة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر وروى شعبة وغيره عن عبد الملك بن عمير به نحوه وهكذا رواه هشيم وغيره عن الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى وقال الأعمش عن عبد الله بن سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال : هذا يوم الأضحى وهذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر وقال حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الحج الأكبر يوم النحر وكذا روي عن أبي جحيفة وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد بن الهاد ونافع بن جبير بن مطعم والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة وأبي جعفر الباقر والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : يوم الحج الأكبر هو يوم النحر واختاره ابن جرير وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى وقد ورد في ذلك أحاديث أخر كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني سهل بن محمد الحساني حدثنا أبو جابر الحرمي حدثنا هشام بن الغازي الجرشي عن نافع عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال : [ هذا يوم الحج الأكبر ] وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي جابر واسمه محمد بن عبد الملك به ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم عن هشام بن الغازي به ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز عن نافع به وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم على ناقة حمراء مخضرمة فقال : [ أتدرون أي يوم يومكم هذا ؟ ] قالوا : يوم النحر قال : [ صدقتم يوم الحج الأكبر ]
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه فقال : [ أي يوم هذا ؟ ] قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه فقال [ أليس هذا يوم الحج الأكبر ؟ ] وهذا إسناد صحيح وأصله مخرج في الصحيح وقال أبو الأحوص عن شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع فقال : [ أي يوم هذا ؟ ] فقالوا : اليوم الحج الأكبر وعن سعيد بن المسيب أنه قال : يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر رواه ابن أبي حاتم وقال مجاهد أيضا : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها وكذا قال أبو عبيد قال سفيان : يوم الحج ويوم الجمل ويوم صفين أي أيامه كلها وقال سهل السراج : سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر ؟ فقال : ما لكم وللحج الأكبر ذاك عام حج فيه أبو بكر الذي استخلفه رسول الله صلى الله عليه و سلم فحج بالناس رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو أسامة عن ابن عون سألت محمدا يعني ابن سيرين عن يوم الحج الأكبر فقال : كان يوما وافق فيه حج رسول الله صلى الله عليه و سلم وحج أهل الوبر (2/438)
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها وقد تقدمت الأحاديث ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فعهده إلى مدته وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده ولم يظاهر على المسليمن أحدا أي يمالىء عليهم من سواهم فهذا الذي يوفي له بذمته وعهده إلى مدته ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك فقال { إن الله يحب المتقين } أي الموفين بعهدهم (2/443)
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم ههنا ما هي ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى : { منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } الاية قال أبو جعفر الباقر ولكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإليه ذهب الضحاك أيضا وفيه نظر والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } ثم قال : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة وقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } أي من الأرض وهذا عام والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } وقوله : { وخذوهم } أي وأسروهم إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا وقوله : { واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ولهذا قال : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الاية الكريمة وأمثالها حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عز و جل وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ] الحديث وقال أبو إسحاق : عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه !
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبد الله بن المبارك أنبأنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ] ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك به وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا يشرك به شيئا فارقها والله عنه راض ] قال : وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل قال الله تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } قال : توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ثم قال في آية أخرى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ورواه ابن مردويه ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنبأنا حكام بن سلمة حدثنا أبو جعفر الرازي به سواء وهذه الاية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة وقال العوفي : عن ابن عباس في هذه الاية لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الاخر وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس في هذه الاية قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ونقض ما كان سمي لهم من العهد والميثاق وأذهب الشرط الأول وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان بن عيينة : قال علي بن أبي طالب : بعث النبي صلى الله عليه و سلم بأربعة أسياف سيف في المشركين من العرب قال الله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } هكذا رواه مختصرا وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب لقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } والسيف الثالث قتال المنافقين في قوله { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } الاية والرابع قتال الباغين في قوله { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه فقال الضحاك والسدي هي منسوخة بقوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } وقال قتادة بالعكس (2/443)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه { وإن أحد من المشركين } الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم { استجارك } أي استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله أي القرآن تقرؤه عليه وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله { ثم أبلغه مأمنه } أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الاية قال : إنسان يأتيك ليسمع ما تقول وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش منهم عروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك ] وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة وكان يقال له ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة فأرسل إليه ابن مسعود فقال له : إنك الان لست في رسالة وأمر به فضربت عنقه لا رحمه الله ولعنه والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه لكن قال العلماء لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله (2/445)
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد } أي أمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } يعني يوم الحديبية كما قال تعالى : { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله } الاية { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } أي مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين { فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } وقد فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك والمسلمون استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ومالؤوا حلفاءهم وهم بنو بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتلوهم معهم في الحرم أيضا فعنذ ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان سنة ثمان ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء وكانوا قريبا من ألفين ومن استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله (2/445)
يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله صلى الله عليه و سلم ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم يذروا ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة قال علي بن أبي طلحة وعكرمة والعوفي عن ابن عباس : الإل القرابة والذمة العهد وكذا قال الضحاك والسدي كما قال تميم بن مقبل :
أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
وجدناهم كاذبا إلهم وذو الإل والعهد لا يكذب
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : لا يرقبون في مؤمن إلا قال : الإل الله وفي رواية لا يرقبون الله ولا غيره وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سليمان عن أبي مجلز في قوله تعالى : { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } مثل قوله جبريل ميكائيل إسرافيل كأنه يقول لا يرقبون الله والقول الأول أظهر وأشهر وعليه الأكثر وعن مجاهد أيضا الإل العهد وقال قتادة : الإل الحلف (2/446)
يقول تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة { فصدوا عن سبيله } أي منعوا المؤمنين من اتباع الحق { إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } تقدم تفسيره وكذا الاية التي بعدها { فإن تابوا وأقاموا الصلاة } إلى آخرها تقدمت وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن أبي بكر حدثنا أبو جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته لا يشرك به وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض ] وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء وتصديق ذلك في كتاب الله { فإن تابوا } يقول فإن خلعوا الأوثان وعبادتها { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } وقال في آية أخرى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ثم قال البزار : آخر الحديث عندي والله أعلم فارقها وهو عنه راض وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس (2/446)
يقول تعالى وإن نكث المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم { وطعنوا في دينكم } أي عابوه وانتقصوه ومن ههنا أخذ قتل من سب الرسول صلوات الله وسلامه عليه أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص ولهذا قال : { فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } أي يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال وقد قال قتادة وغيره : أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وعدد رجالا وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : مر سعد بن أبي وقاص برجل من الخوارج فقال الخارجي : هذا من أئمة الكفر فقال سعد كذبت بل أنا قاتلت أئمة الكفر رواه ابن مردويه وقال الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة أنه قال ما قوتل أهل هذه الاية بعد وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : مثله والصحيح أن الاية عامة وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم وقال : الوليد بن مسلم : حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال : إنكم ستجدون قوما محوقة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف فوالله لأن أقتل رجلا منهم أحب ألي من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله يقول : { فقاتلوا أئمة الكفر } رواه ابن أبي حاتم (2/447)
وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا بإخراج الرسول من مكة كما قال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وقال تعالى : { يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } الاية وقال تعالى : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها } الاية وقوله : { وهم بدؤوكم أول مرة } قيل المراد بذلك : يوم بدر حين خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم طلبا للقتال بغيا وتكبرا كما تقدم بسط ذلك وقيل المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح وكان ما كان ولله الحمد والمنة
وقوله : { أتخشونهم ؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } يقول تعالى لا تخشوهم واخشون فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي فبيدي الأمر وما شئت كان ومالم أشأ لم يكن ثم قال عزيمة على المؤمنين وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من عنده : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين } : وهذا عام في المؤمنين كلهم وقال مجاهد وعكرمة والسدي في هذه الاية { ويشف صدور قوم مؤمنين } يعني خزاعة وأعاد الضمير في قوله : { ويذهب غيظ قلوبهم } عليهم أيضا وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة مؤذن لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن مسلم بن يسار عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا غضبت أخذ بأنفها وقال [ يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ] ساقه من طريق أبي أحمد الحاكم عن الباغندي عن هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن أبي الجوزاء عنه { ويتوب الله على من يشاء } أي من عباده { والله عليم } أي بما يصلح عباده { حكيم } في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبدا ولا يضيع مثقال ذرة من خير وشر بل يجازي عليه في الدنيا والاخرة (2/447)
يقول تعالى : { أم حسبتم } أيها المؤمنون أن نترككم مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ولهذا قال : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } أي بطانة ودخيلة بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله فاكتفى بأحد القسمين عن الاخر كما قال الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني
وقد قال الله تعالى في الاية الأخرى : { الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } وقال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } وقال تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } الاية والحاصل أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه وهو تعالى العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه لا إله إلا هو ولا رب سواه ولا راد لما قدره وأمضاه (2/448)
يقول تعالى ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له ومن قرأ مسجد الله فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له وأسسه خليل الرحمن هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي بحالهم وبقالهم قال السدي : لو سألت النصراني ما دينك ؟ لقال نصراني ولو سألت اليهودي ما دينك ؟ لقال يهودي والصابىء لقال صابىء والمشرك لقال مشرك { أولئك حبطت أعمالهم } أي بشركهم { وفي النار هم خالدون } وقال تعالى : { وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } ولهذا قال تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد كما قال الإمام أحمد : حدثنا شريح حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ] قال الله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } ورواه الترمذي وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب به
وقال عبد الرحمن بن حميد في مسنده : حدثنا يونس بن محمد حدثنا صالح المري عن ثابت البناني عن ميمون بن سياه وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما عمار المساجد هم أهل الله ] ورواه الحافظ أبو بكر البزار : عن عبد الواحد بن غياث عن صالح بن بشير المري عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما عمار المساجد هم أهل الله ] ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح وقد روى الدار قطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار عن أبيها عن أخيه مالك بن دينار عن أنس مرفوعا [ إذا أراد الله بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم ] ثم قال : غريب وروى الحافظ البهائي في المستقصى عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي حدثنا منصور بن صقير حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس مرفوعا يقول الله : وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت ذلك عنهم ثم قال ابن عساكر : حديث غريب
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا سعيد عن قتادة حدثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد ] وقال عبد الرزاق : عن معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي قال : أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها وقال المسعودي : عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله قال الله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } الاية رواه ابن مردويه وقد روي مرفوعا من وجه آخر وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها وقوله : { وأقام الصلاة } أي التي هي أكبر عبادات البدن { وآتى الزكاة } أي التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق وقوله { ولم يخش إلا الله } أي ولم يخف إلا من الله تعالى ولم يخش سواه { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } يقول : من وحد الله وآمن باليوم الاخر يقول من آمن بما أنزل الله { وأقام الصلاة } يعني الصلوات الخمس { ولم يخش إلا الله } يقول لم يعبد إلا الله ثم قال : { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } يقول تعالى : إن أولئك هم المفلحون كقوله لنبيه صلى الله عليه و سلم : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } وهي الشفاعة وكل عسى في القرآن فهي واجبة وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله : وعسى من الله حق (2/449)
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في تفسير هذه الاية قال : إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره فذكر الله استكبارهم وإعراضهم فقال لأهل الحرم من المشركين { قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون } يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال { به سامرا } كانوا يسمرون به ويهجرون القرآن والنبي صلى الله عليه و سلم فخير الله الإيمان والجهاد مع النبي صلى الله عليه و سلم على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به وإن كانوا يعمرون بيته ويحرمون به قال الله تعالى : { لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم الله ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا
وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاية قال : قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي ونفك العاني قال الله عز و جل : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } يعني أن ذلك كله كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك وقال الضحاك بن مزاحم : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فأنزل الله { أجعلتم سقاية الحاج } الاية
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي : قال : نزلت في علي والعباس رضي الله عنهما بما تكلما في ذلك وقال ابن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه ولو أشاء بت فيه وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد فقال علي رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله عز و جل { أجعلتم سقاية الحاج ؟ } الاية كلها وهكذا قال السدي إلا أنه قال : افتخر علي والعباس وشيبة بن عثمان وذكر نحوه وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن عمرو عن الحسن قال : نزلت في علي وعباس وعثمان وشيبة تكلموا في ذلك فقال العباس : ما أراني إلا أني تارك سقايتنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا ] ورواه محمد بن ثور : عن معمر عن الحسن فذكر نحوه وقد ورد في تفسير هذه الاية حديث مرفوع فلا بد من ذكره هنا قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رجلا قال : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا على النبي صلى الله عليه و سلم فسألناه فنزلت { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون }
( طريق أخرى ) قال الوليد بن مسلم حدثني معاوية بن سلام عن جده أبي سلام الأسود عن النعمان بن بشير الأنصاري قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه قال ففعل فأنزل الله عز و جل { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } ورواه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن جرير وهذا لفظه وابن مردويه وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه (2/450)
أمر تعالى بمباينة الكفار به وإن كانوا آباء أو أبناء ونهى عن موالاتهم إن استحبوا أي اختاروا الكفر على الإيمان وتوعد على ذلك كقوله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الاية وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الالهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله فأنزل الله فيه هذه الاية { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الاية ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله فقال : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها } أي اكتسبتموها وحصلتموها { وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها } أي تحبونها لطيبها وحسنها أي إن كانت هذه الأشياء { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا } أي فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ولهذا قال { حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن زهرة بن معبد عن جده قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ] فقال عمر فأنت الان والله أحب إلي من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الان يا عمر ] انفرد بإخراجه البخاري فرواه عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب عن حيوة بن شريح عن أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام عن النبي صلى الله عليه و سلم بهذا وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال [ والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ] وروى الإمام أحمد وأبو داود واللفظ له من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ] وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون عن أبي جناب عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بنحو ذلك وهذا شاهد للذي قبله والله أعلم (2/451)
قال ابن جريج عن مجاهد هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت يونس يحدث عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة ] وهكذا رواه أبو داود والترمذي ثم قال هذا حديث حسن غريب جدا لا يسنده أحد غير جرير بن حازم وإنما روي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره عن أكثم الجوني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بنحوه والله أعلم وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة
وذلك لما فرغ صلى الله عليه و سلم من فتح مكة وتمهدت أمورها وأسلم عامة أهلها وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه وأن أميرهم مالك بن عوف بن النضر ومعه ثقيف بكمالها وبنو جشم وبنو سعد بن بكر وأوزاع من بني هلال وهم قليل وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم وجاءوا بقضهم وقضيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين فسار بهم إلى العدو فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم ورشقوا بالنبال وأصلتوا السيوف وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز و جل وثبت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحو العدو والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر يثقلانها لئلا تسرع السير وهو ينوه باسمه عليه الصلاة و السلام ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول : [ إلي عباد الله إلي أنا رسول الله ] ويقول في تلك الحال : [ أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ] وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ومنهم من قال ثمانون فمنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما والعباس وعلي والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن بن أم أيمن وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه و سلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على أن لا يفروا عنه فجعل ينادي بهم يا أصحاب السمرة ويقول تارة يا أصحاب سورة البقرة فجعلوا يقولون يا لبيك يا لبيك وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرهم عليه السلام أن يصدقوا الحملة وأخذ قبضة من تراب بعد ما دعا ربه واستنصره وقال [ اللهم أنجز لي ما وعدتني ] ثم رمى القوم بها فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينه وفمه ما يشغله عن القتال ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن يسار عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري واسمه يزيد بن أسيد ويقال يزيد بن أنيس ويقال كرز قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في فسطاطه فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته حان الرواح ؟ فقال : [ أجل ] فقال : [ يا بلال ] فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظل طائر فقال : لبيك وسعديك وأنا فداؤك فقال [ أسرج لي فرسي ] فأخرج سرجا دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر قال فأسرج فركب وركبنا فصاففناهم عشيتنا وليلتنا فتشامت الخيلان فولى المسلمون مدبرين كمال قال الله تعالى : { ثم وليتم مدبرين } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله ] ثم قال : [ يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله ] قال ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفا من تراب فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال : [ شاهت الوجوه ] فهزمهم الله تعالى قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة به وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه وأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات اليمين يقول : [ أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله ] فلا شيء وركبت الإبل بعضها بعضا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الناس قال : [ يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة ] فأجابوه لبيك لبيك فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه ثم يؤم الصوت حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم مائة فاستعرض الناس فاقتتلوا وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار ثم جعلت آخرا بالخزرج وكانوا صبراء عند الحرب وأشرف رسول الله صلى الله عليه و سلم في ركابه فنظر إلى مجتلد القوم فقال : [ الان حمي الوطيس ] قال : فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله ملقون فقتل الله منهم من قتل وانهزم منهم ما انهزم وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم
وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلا قال له : يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين ؟ فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفر إن هوازن كانوا قوما رماة فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته البيضاء وهو يقول : [ أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ] قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة إنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه وهو مع هذا على بغلة وليست سريعة الجري ولا تصلح لفر ولا لكر ولا لهرب وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه وعلما منه بأنه سينصره ويتم ما أرسله به ويظهر دينه على سائر الأديان ولهذا قال تعالى : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله } أي طمأنينته وثباته على رسوله { وعلى المؤمنين } أي الذين معه { وأنزل جنودا لم تروها } وهم الملائكة كما قال الإمام أبو جعفر ابن جرير حدثني الحسن بن عرفة قال حدثني المعتمر بن سليمان عن عوف هو ابن أبي جميلة الأعرابي قال سمعت عبد الرحمن مولى بن برثن حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا قال فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثني محمد بن أحمد بن بالويه حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحارث بن حصيرة حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة قال : ورسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلته البيضاء يمضي قدما فحادت بغلته فمال عن السرج فقلت : ارتفع رفعك الله قال : [ ناولني كفا من التراب ] فناولته قال : فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا قال : [ أين المهاجرون والأنصار ؟ ] قلت : هم هناك قال : [ اهتف بهم ] فهتفت بهم فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب وولى المشركون أدبارهم ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان به نحوه وقال الوليد بن مسلم : حدثني عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة مولى ابن عباس عن شيبة بن عثمان قال : لما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين قد عري ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائما عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج فقلت : عمه ولن يخذله قال فجئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقلت : ابن عمه ولن يخذله فجئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن تمحشني فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : [ يا شيبة يا شيبة ادن مني اللهم أذهب عنه الشيطان ] قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري فقال : [ يا شيبة قاتل الكفار ] رواه البيهقي من حديث الوليد فذكره
ثم روي من حديث أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ولكنني أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا واقف معه : يا رسول الله إني أرى خيلا بلقا فقال : [ يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر ] فضرب بيده على صدري ثم قال : [ اللهم اهد شيبة ] ثم ضربها الثانية ثم قال : [ اللهم اهد شيبة ] ثم ضربها الثالثة ثم قال : [ اللهم اهد شيبة ] قال : فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه وذكر تمام الحديث في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى هزم الله تعالى المشركين قال محمد بن إسحاق : حدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال إنا لمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين والناس يقتتلون إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم فما كنا نشك أنها الملائكة وقال سعيد بن السائب بن يسار عن أبيه قال : سمعت يزيد بن عامر السوائي وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن فيقول كنا نجد في أجوافنا مثل هذا وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد فالله أعلم وفي صحيح مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم ] ولهذا قال تعالى : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين } وقوله : { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم } قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة فرده عليهم وقسم الأموال بين الغانمين ونفل أناسا من الطلقاء لكي يتألف قلوبهم على الإسلام فأعطاهم مائة من الإبل وكان من جملة من أعطى مائة مالك بن عوف النصري واستعمله على قومه كما كان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله وسط المباءة خادر في مرصد (2/452)
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الاية وكان نزولها في سنة تسع ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة وقد روي مرفوعا من وجه آخر فقال الإمام أحمد حدثنا حسين حدثنا شريك عن الأشعث يعني ابن سوار عن الحسن عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم ] تفرد به الإمام أحمد مرفوعا والموقوف أصح إسنادا وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع نهيه قول الله تعالى : { إنما المشركون نجس } وقال عطاء : الحرم كله مسجد لقوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } ودلت هذه الاية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح [ المؤمن لا ينجس ] وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم وقال أشعث عن الحسن من صافحهم فليتوضأ رواه ابن جرير
وقوله { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } قال محمد بن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا لتقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق فأنزل الله { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } من وجه غير ذلك { إن شاء } إلى قوله { وهم صاغرون } أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق فعوضهم الله مما قطع أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم { إن الله عليم } أي بما يصلحكم { حكيم } أي فيما يأمر به وينهى عنه لأنه الكامل في أفعاله وأقواله العادل في خلقه وأمره تبارك وتعالى ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة
وقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه و سلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاءوا به وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه لا لأنه شرع الله ودينه لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه فلما جاء وكفروا به وهو أشرف الرسل علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله بل لحظوظهم وأهوائهم فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ولهذا قال : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } وهذه الاية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا واستقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه و سلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم وكان ذلك في عام جدب ووقت قيظ وحر وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك فنزل بها وأقام بها قريبا من عشرين يوما ثم استخار الله في الرجوع فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى وقد استدل بهذه الاية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب أو من أشبههم كالمجوس كما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقال أبو حنيفة رحمه الله بل تؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب
وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا والله أعلم وقوله : { حتى يعطوا الجزية } أي إن لم يسلموا { عن يد } أي عن قهر لهم وغلبة { وهم صاغرون } أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه ] ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولانكتني بكناهم لا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا باعوثا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق (2/456)
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على الله تعالى فأما اليهود فقالوا في العزير : إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه فبينما هو ذات يوم إذ مر على جبانة وإذا امرأة تبكي عند قبر وهي تقول : وامطعماه واكاسياه فقال لها : ويحك من كان يطعمك قبل هذا ؟ قالت : الله قال : فإن الله حي لا يموت قالت يا عزير فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فعرف أنه شيء قد وعظ به ثم قيل له اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه وصل هناك ركعتين فإنك ستلقى هناك شيخا فما أطعمك فكله فذهب ففعل ما أمر به فإذا الشيخ فقال له : افتح فمك ففتح فمه فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ثلاث مرات فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة فقال : يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة فقالوا يا عزير ما كنت كذابا فعمد فربط على أصبع من أصابعه قلما وكتب التوراة بأصبعه كلها فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء أخبروا بشأن عزير فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال وقابلوها بها فوجدوا ما جاء به صحيحا فقال بعض جهلتهم : إنما صنع هذا لأنه ابن الله
وأما ضلال النصارى في المسيح فظاهر ولهذا كذب الله سبحانه الطائفتين فقال : { ذلك قولهم بأفواههم } أي لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم { يضاهئون } أي يشابهون { قول الذين كفروا من قبل } أي من قبلهم من الأمم ضلوا كما ضل هؤلاء { قاتلهم الله } قال ابن عباس : لعنهم الله { أنى يؤفكون } أي كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل ؟ وقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم } روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه و سلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم من رسول الله صلى الله عليه و سلم على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدم عدي إلى المدينة وكان رئيسا في قومه طيء وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الاية { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال : [ بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ] وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ما يضرك أيضرك أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم إلها غير الله ؟ ] ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال [ إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا وقال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولهذا قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع وما حكم به نفذ { لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه (2/459)
يقول تعالى : يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب { أن يطفئوا نور الله } أي ما بعث به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفىء شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه وهذا لا سبيل إليه فكذلك ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه و سلم لابد أن يتم ويظهر ولهذا قال تعالى مقابلا لهم فيما راموه وأرادوه : { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه ومنه سمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء والزارع كافرا لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال { أعجب الكفار نباته } ثم قال تعالى { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ودين الحق هي الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والاخرة
{ ليظهره على الدين كله } أي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ] وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة ] وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا سليم بن عامر عن تميم الداري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ويذل ذليلا عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر ] فكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم حدثني ابن جابر سمعت سليم بن عامر قال سمعت المقداد بن الأسود يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزا ويذل ذليلا إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وإما يذلهم فيدينون لها ] وفي المسند أيضا حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه يقول دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا عدي أسلم تسلم ] فقلت إني من أهل دين قال : [ أنا أعلم بدينك منك ] فقلت أنت أعلم بديني مني ؟ قال : [ نعم ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت : بلى ! قال : فإن هذا لا يحل لك في دينك ] قال : فلم يعد أن قالها فتواضعت لها قال : [ أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب أتعرف الحيرة ؟ ] قلت لم أرها وقد سمعت بها قال : [ فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز ] قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : [ نعم كسرى بن هرمز وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد ] قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قالها وقال مسلم : حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرقاشي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ] فقلت : يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عز و جل { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } الاية أن ذلك تام قال : [ إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز و جل ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم ] (2/460)
قال السدي : الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وهو كما قال فإن الأحبار هم علماء اليهود كما قال تعالى : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت } والرهبان عباد النصارى والقسيسون علماؤهم كما قال تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا } والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى وفي الحديث الصحيح [ لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ] قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : [ فمن ] ؟ وفي رواية فارس والروم قال : [ فمن الناس إلا هؤلاء ؟ ] والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى : { ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه و سلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات فأطفأها الله بنور النبوة وسلبهم إياها وعوضهم الذل والصغار وباءوا بغضب من الله تعالى
وقوله تعالى : { ويصدون عن سبيل الله } أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ويلبسون الحق بالباطل ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعونه إلى الخير وليسوا كما يزعمون بل هم دعاة إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وقوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس فإن الناس عالة على العلماء وعلى العباد وعلى أرباب الأموال فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك :
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هو المال الذي لا يؤدى زكاته وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا وقال عمر بن الخطاب نحوه أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض وروى البخاري من حديث الزهري عن خالد بن أسلم قال : خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال : هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال وكذا قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك نسخها قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } الاية
وقال سعيد بن محمد بن زياد عن أبي أمامة أنه قال : حلية السيوف من الكنز ما أحدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الثوري عن أبي حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فهو كنز وهذا غريب وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما أحاديث كثيرة ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري أخبرني أبو حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه في قوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة } الاية قال النبي : [ تبا للذهب تبا للفضة ] يقولها ثلاثا قال فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر رضي الله عنه أنا أعلم لكم ذلك فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا : فأي المال نتخذ قال : [ لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبي محمد جعفر حدثنا شعبة حدثني سالم بن عبد الله أخبرنا عبد الله بن أبي الهذيل حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ تبا للذهب والفضة ] قال وحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله قولك : [ تبا للذهب والفضة ] ماذا ندخر ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين على الاخرة ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال : لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ ؟ قال عمر : فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال : يا رسول الله أي المال نتخذ ؟ قال : [ قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم على أمر الاخرة ] ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه عن سالم بن أبي الجعد وقال الترمذي حسن وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان قلت : ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم
( حديث آخر ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا حميد بن مالك حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي حدثنا أبي حدثنا غيلان بن جامع المحاربي عن عثمان أبي اليقظان عن جعفر بن أبي إياس عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الاية { والذين يكنزون الذهب والفضة } الاية كبر ذلك على المسلمين وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده مالا يبقى بعده فقال عمر : أنا أفرج عنكم فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الاية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم ] قال فكبر عمر ثم قال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته ] ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى به وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه ائتنا بالشفرة نعبث بها فأنكرت عليه فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك وأسألك قلبا سليما وأسألك لسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب ]
وقوله تعالى : { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما كما في قوله { ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم } أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ولهذا يقال من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله عذب به وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عذبوا بها كما كان أبو لهب لعنه الله جاهدا في عداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم وامرأته تعينه في ذلك كانت يوم القيامة عونا على عذابه أيضا في جيدها أي عنقها حبل من مسد أي تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه في الدنيا كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الاخرة فيحمى عليها في نار جهنم وناهيك بحرها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم قال سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته وقد رواه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح رفعه والله أعلم
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك لا يدرك منه شيئا إلا أخذه وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول [ من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده ] ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد عن سعيد به وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ] وذكر تمام الحديث وقال البخاري في تفسير هذه الاية حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض ؟
قال كنا بالشام فقرأت { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب قال : قلت إنها لفينا وفيهم ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم عن حصين عن زيد بن وهب عن أبي ذر رضي الله عنه فذكره وزاد فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقبل إليه قال فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي : تنح قريبا قلت : والله لن أدع ما كنت أقول ( قلت ) كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر الناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده هل يوافق عمله قوله فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال ويحك إنها خرجت ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به وهكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها عامة وقال السدي : هي في أهل القبلة وقال الأحنف بن قيس قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه فقام عليهم فقال : بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا قال وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي ذر : [ ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين ] فهذا والله أعلم هو الذي حدا بأبي ذر على القول بهذا
وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية فجعلت تقضي حوائجه ففضلت معها سبعة فأمرها أن تشتري به فلوسا قال : قلت لو ادخرته لحاجة بيوتك وللضيف ينزل بك قال إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكىء عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز و جل ورواه عن يزيد عن همام به وزاد إفراغا
وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته عن محمد بن مهدي حدثنا عمر بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن طلحة بن زيد عن أبي فروة الرهاوي عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا ] قال : يا رسول الله كيف لي بذلك ؟ قال : [ ما سئلت فلا تمنع وما رزقت فلا تخبىء ] قال : يا رسول الله كيف لي بذلك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هو ذاك وإلا فالنار ] إسناده ضعيف
وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عيينة عن يزيد بن الصرم قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كيتان صلوا على صاحبكم ] وقد روي هذا من طرق أخر وقال قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كية ] ثم توفي رجل في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كيتان ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي حدثنا معاوية بن يحيى الاطرابلسي حدثني أرطاة حدثني أبو عامر الهوزني سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه ] وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمود بن خداش حدثنا سيف بن محمد الثوري حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يوضع الدينار على الدينار ولا الدرهم على الدرهم ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ] سيف هذا كذاب متروك (2/461)
قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في حجته فقال : [ ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ] ثم قال [ أي يوم هذا ؟ ] قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : [ أليس يوم النحر ؟ ] قلنا بلى ثم قال : [ أي شهر هذا ؟ ] قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : [ أليس ذا الحجة ؟ ] قلنا بلى ثم قال : [ أي بلد هذا ؟ ] قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : [ أليست البلدة ؟ ] قلنا بلى قال : [ فإن دماءكم وأموالكم ـ وأحسبه قال ـ وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه ] رواه البخاري في التفسير وغيره ومسلم من حديث أيوب عن محمد وهو ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به وقد قال ابن جرير حدثنا معمر حدثنا روح حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم : ثلاثة متواليات ـ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ـ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ] ورواه البزار عن محمد بن معمر به
ثم قال لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه وقد رواه ابن عون وقرة عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به وقال ابن جرير أيضا حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا زيد بن حباب حدثنا موسى بن عبيدة الربذي حدثني صدقة بن يسار عن ابن عمر قال : خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال [ أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ] وروى ابن مردويه من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثله أو نحوه وقال حماد بن سلمة حدثني علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة قال : كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ] وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله { منها أربعة حرم } قال محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة وقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث : [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ] تقرير منه صلوات الله وسلامه عليه وتثبيت للأمر على ما جعله الله في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص ولا نسيء ولا تبديل كما قال في تحريم مكة : [ إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ] وهكذا قال ههنا [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ] أي الأمر اليوم شرعا كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض
وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث إن المراد بقوله [ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ] أنه اتفق أن حج رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك السنة في ذي الحجة وأن العرب قد كانت نسأت النسيء يحجون في كثير من السنين بل أكثرها في غير ذي الحجة وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة وفي هذا نظر كما سنبينه إذا تكلمنا عن النسيء وأغرب منه ما رواه الطبراني عن بعض السلف في جملة حديث أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد وهو يوم النحر عام حجة الوداع والله اعلم ( فصل ) ذكر الشيخ علم الدين السخاوي في جزء جمعه سماه المشهور في أسماء الأيام والشهور أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عاما وتحرمه عاما قال ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم وصفر سمي بذلك لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار يقال صفر المكان إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال وشهر ربيع الأول سمي بذلك لارتباعهم فيه والارتباع الإقامة في عمارة الربع ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء وعلى أربعة كرغيف وأرغفة وربيع الاخر كالأول جمادى سمي بذلك لجمود الماء فيه قال وكانت الشهور في حسابهم لا تدور وفي هذا نظر إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة فلا بد من دورانها فلعلهم سموه بذلك أول ما سمي عند جمود الماء في البرد كما قال الشاعر :
( وليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر العبد في ظلمائها الطنبا )
( لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خرطومه الذنبا )
ويجمع على جماديات كحبارى وحباريات وقد يذكر ويؤنث فيقال جمادى الأولى والأول جمادى الاخر والاخرة رجب من الترجيب وهو التعظيم ويجمع على أرجاب ورجاب ورجبات شعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شعابين وشعبانات رمضان من شدة الرمضاء وهو الحر يقال رمضت الفصال إذا عطشت ويجمع على رمضانات ورماضين وأرمضة قال : وقول من قال إنه اسم من أسماء الله خطأ لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه قلت : قد ورد فيه حديث ولكنه ضعيف وبينته في أول كتاب الصيام شوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق قال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات القعدة بفتح القاف قلت وكسرها لقعودهم فيه عن القتال والترحال ويجمع على ذوات القعدة الحجة بكسر الحاء قلت وفتحها سمي بذلك لإقامتهم الحج فيه ويجمع على ذوات الحجة أسماء الأيام أولها الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووجود ثم يوم الاثنين ويجمع على أثانين الثلاثاء يمد ويذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث ثم الأربعاء بالمد ويجمع على أربعاوات وأرابيع والخميس يجمع على أخمسة وأخامس ثم الجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها أيضا ويجمع على جمع وجماعات السبت مأخوذ من السبت وهو القطع لانتهاء العدد عنده وكانت العرب تسمي الأيام أول ثم أهون ثم جبار ثم دبار ثم مؤنس ثم العروبة ثم شيار قال الشاعر من العرب العرباء العاربة المتقدمين :
أرجى أن أعيش وإن يومي بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته فمؤنس أو عروبة أو شيار
وقوله تعالى : { منها أربعة حرم } فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية تحرمه وهو الذي كان عليه جمهورهم إلا طائفة منهم يقال لهم البسل كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر تعمقا وتشديدا وأما قوله [ ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ] فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم فبين صلى الله عليه و سلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل أشهر الحج شهرا وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك وحرم بعده شهرا آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا
وقوله : { ذلك الدين القيم } أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ما سبق من كتاب الله الأول قال تعالى : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الاثام ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في قوله : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } قال : في الشهور كلها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { إن عدة الشهور عند الله } الاية فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم وقال قتادة في قوله : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء وقال إن الله اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية بان لا تحرموهن كحرمتهن وقال محمد بن إسحاق : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أي لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر { يضل به الذين كفروا } الاية وهذا القول اختيار ابن جرير
وقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } أي جميعكم { كما يقاتلونكم كافة } أي جميعهم { واعلموا أن الله مع المتقين } وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين ( أحدهما ) وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال ههنا { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } وأمر بقتال المشركين وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما ولو كان محرما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ولأن رسول الله صلى الله عليه و سلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجئوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام والقول الاخر أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } وقال : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } الاية وقال { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } الاية وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة لا أشهر التسيير على أحد القولين وأما قوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير مايفعلون ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم كما قال تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } وقال تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } الاية وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال وجمعوا الرجال ودعوا إلى الحرب والنزال فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما تقدم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين وقتلوا جماعة واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما وكان ابتداؤه في شهر حلال ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وهذا أمر مقرر وله نظائر كثيرة والله أعلم ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك وقد حررنا ذلك في السيرة والله أعلم (2/465)
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان :
لقد علمت معد بأن قومي كرام الناس إن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
فأي الناس لم ندرك بوتر وأي الناس لم نعلك لجاما
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال النسيء أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس فيحرم صفرا عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قول الله { إنما النسيء زيادة في الكفر } يقول : يتركون المحرم عاما وعاما يحرمونه وروى العوفي عن ابن عباس نحوه وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : يا أيها الناس : إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما أقول إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله { ليواطئوا عدة ما حرم الله } قال يعني الأربعة فيحلوا ما حرم الله لتأخير هذا الشهر الحرام وروي عن أبي وائل والضحاك وقتادة نحو هذا وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله { إنما النسيء زيادة في الكفر } الاية قال هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده فلما كان هو قال اخرجوا بنا قالوا له هذا المحرم قال ننسئه العام هما العام صفران فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما محرمين قال ففعل ذلك فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر حرموه مع المحرم هما محرمان فهذه صفة غريبة في النسيء وفيها نظر لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر فأين هذا من قوله تعالى : { يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله } وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا فقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } الاية قال فرض الله عز و جل الحج في ذي الحجة قال وكان المشركون يسمون ذا الحجة المحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفرا ثم يسمون رجب جمادى الاخرة ثم يسمون شعبان رمضان ثم يسمون شوالا رمضان ثم يسمون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة فيحجون فيه واسمه عندهم ذا الحجة ثم عادوا بمثل هذه الصفة فكانوا يحجون في كل عام شهرين حتى إذا وافق حجة أبي بكر الاخر من العامين في ذي القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه و سلم حجته التي حج فوافق ذا الحجة فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه و سلم في خطبته : [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ] وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة وأنى هذا ؟
وقد قال الله تعالى : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله } الاية وإنما نودي به في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى : { يوم الحج الأكبر } ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل شهر عامين فإن النسيء حاصل بدون هذا فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في السنة الثانية يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه وبعده صفر وربيع وربيع إلى آخرها { يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } أي في تحريم أربعة أشهر من السنة إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن الزمان قد استدار ] الحديث أي إن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال : وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعقبة فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : [ إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ] فكانوا يحرمون المحرم عاما ويستحلون صفر ويستحلون المحرم هو النسيء
وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب السيرة كلاما جيدا مفيدا حسنا فقال : كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله وحرم منها ما أحل الله عز و جل القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان : ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ثم ابنه أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا وذا القعدة وذا الحجة ويحل المحرم عاما ويجعل مكانه صفر ويحرمه ليواطىء عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله والله أعلم (2/469)
هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة القيظ فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } أي إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله { اثاقلتم إلى الأرض } أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } أي ما لكم فعلتم هكذا أرضى منكم بالدنيا بدلا من الاخرة ؟ ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ورغب في الاخرة فقال { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما الدنيا في الاخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع ؟ ] وأشار بالسبابة انفرد بإخراجه مسلم وروى ابن أبي حاتم حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي بحمص حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الوهبي حدثنا زياد يعني الجصاص عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول : سمعت نبي الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة ] قال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة ] ثم تلا هذه الاية { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل وقال الثوري عن الأعمش في الاية { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } قال : كزاد الراكب
وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال : أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا ؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل وإن كان قليلك لقصير وإن كنا منك لفي غرور ثم توعد تعالى من ترك الجهاد فقال : { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلى الله عليه و سلم حيا من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم { ويستبدل قوما غيركم } أي لنصرة نبيه وإقامة دينه كما قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } { ولا تضروه شيئا } أي ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد ونكولكم وتثاقلكم عنه { والله على كل شيء قدير } أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم وقد قيل إن هذه الاية وقوله : { انفروا خفافا وثقالا } وقوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } إنهن منسوخات بقوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } روي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن وزيد بن أسلم ورده ابن جرير وقال : إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الجهاد فتعين عليهم ذلك فلو تركوه لعوقبوا عليه وهذا له اتجاه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (2/471)
يقول تعالى : { إلا تنصروه } أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هاربا بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يسكنه ويثبته ويقول : [ يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ] كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه و سلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال : فقال : [ يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ] أخرجاه في الصحيحين ولهذا قال تعالى : { فأنزل الله سكينته عليه } أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى الله عليه و سلم في أشهر القولين وقيل على أبي بكر وروي عن ابن عباس وغيره قالوا : لأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال : { وأيده بجنود لم تروها } أي الملائكة { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا } قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة الله هي لا إله إلا الله وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال : [ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ] وقوله : { والله عزيز } أي في انتقامه وانتصاره منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه واحتمى بالتمسك بخطابه { حكيم } في أقواله وأفعاله (2/472)
قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح : هذه الاية { انفروا خفافا وثقالا } أول ما نزل من سورة براءة وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال : زعم حضرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا وكبيرا فيقول : إني لا آثم فأنزل الله { انفروا خفافا وثقالا } الاية أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال { انفروا خفافا وثقالا }
وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة : كهولا وشبابا ما سمع الله عذر أحد ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الاية { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } فقال أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا بني فقال بنوه يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه الاية { انفروا خفافا وثقالا } كهولا وشبانا وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرواحد وقال مجاهد شبانا وشيوخا وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره وقال الحكم بن عتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } يقول انفروا نشاطا وغير نشاط وكذا قال قتادة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { انفروا خفافا وثقالا } قالوا فإن فينا الثقيل وذا الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا { خفافا وثقالا } أي على ما كان منهم وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا في العسر واليسر وهذا كله من مقتضيات العموم في الاية وهذا اختيار ابن جرير
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافا وركبانا وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة وهذا تفصيل في المسألة وقد روي عن ابن عباس ومحمد بن كعب وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الاية منسوخة بقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله وقال السدي قوله : { انفروا خفافا وثقالا } يقول غنيا وفقيرا وقويا وضعيفا فجاءه رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيما سمينا فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى فنزلت يومئذ { انفروا خفافا وثقالا } فلما نزلت هذه الاية اشتد على الناس فنسخها الله فقال : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله }
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا أيوب عن محمد قال شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاما واحدا قال وكان أبو أيوب يقول : قال الله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية حدثنا جرير حدثني عبد الرحمن بن ميسرة حدثني أبو راشد الحبراني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه و سلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت : له قد أعذر الله إليك فقال : أتت علينا سورة البعوث { انفروا خفافا وثقالا } وقال ابن جرير : حدثني حيان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا هما قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت يا عم لقد أعذر الله إليك قال فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ألا إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله عز و جل ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } أي هذا خير لكم في الدنيا والاخرة لأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الاخرة كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة ] ولهذا قال الله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرجل : [ أسلم : قال : أجدني كارها قال : أسلم وإن كنت كارها ] (2/473)
يقول تعالى موبخا للذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك وقعدوا بعدما استأذنوه في ذلك مظهرين أنهم ذوو أعذار ولم يكونوا كذلك فقال : { لو كان عرضا قريبا } قال ابن عباس : غنيمة قريبة { وسفرا قاصدا } أي قريبا أيضا { لاتبعوك } أي لكانوا جاءوا معك لذلك { ولكن بعدت عليهم الشقة } أي المسافة إلى الشام { وسيحلفون بالله } أي لكم إذا رجعتم إليهم { لو استطعنا لخرجنا معكم } أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم قال الله تعالى : { يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون } (2/474)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو حصين بن سليمان الرازي حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن عون قال : هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا ؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة فقال { عفا الله عنك لم أذنت لهم } وكذا قال مورق العجلي وغيره وقال قتادة : عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } الاية وكذا روي عن عطاء الخراساني وقال مجاهد : نزلت هذه الاية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا ولهذا قال تعالى : { حتى يتبين لك الذين صدقوا } أي في إبداء الأعذار { وتعلم الكاذبين } يقول تعالى هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه
ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله فقال : { لا يستأذنك } أي في القعود عن الغزو { الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } لأنهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا { والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك } أي في القعود ممن لا عذر له { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } أي لا يرجون ثواب الله في الدار الاخرة على أعمالهم { وارتابت قلوبهم } أي شكت في صحة ما جئتهم به { فهم في ريبهم يترددون } أي يتحيرون يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء فهم قوم حيارى هلكى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (2/475)
يقول تعالى : { ولو أرادوا الخروج } أي معك إلى الغزو { لأعدوا له عدة } أي لكانوا تأهبوا له { ولكن كره الله انبعاثهم } أي أبغض أن يخرجوا معكم قدرا { فثبطهم } أي أخرهم { وقيل اقعدوا مع القاعدين } أي قدرا ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } أي لأنهم جبناء مخذولون { ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة { وفيكم سماعون لهم } أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير : { وفيكم سماعون لهم } أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم بل هذا عام في جميع الأحوال والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين
وقال محمد بن إسحاق : كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبي ابن سلول والجد بن قيس وكانوا أشرافا في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم فقال : { وفيكم سماعون لهم } ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال : { والله عليم بالظالمين } فأخبر بأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ولهذا قال تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا كما قال تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } وقال تعالى : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } وقال تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما } والايات في هذا كثيرة (2/475)
يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين : { لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور } أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة وذلك أول مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة وحاربته يهود المدينة ومنافقوها فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه فدخلوا في الإسلام ظاهرا ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى : { حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون } (2/476)
يقول تعالى ومن المنافقين من يقول لك : يا محمد { ائذن لي } في القعود { ولا تفتني } بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم قال الله تعالى : { ألا في الفتنة سقطوا } أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا كما قال محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة : [ هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر ؟ ] فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني وإنى أخشي إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : [ قد أذنت لك ] ففي الجد بن قيس نزلت هذه : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } الاية أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنها نزلت في الجد بن قيس وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم : [ من سيدكم يا بني سلمة ؟ ] قالوا : الجد بن قيس على أنا نبخله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ وأي داء أدوأ من البخل ! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بشر بن البراء بن معرور ] وقوله تعالى : { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب (2/476)
يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة أي فتح وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه ساءهم ذلك { وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } أي قد احترزنا من متابعته من قبل هذا { ويتولوا وهم فرحون } فأرشد الله تعالى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة فقال : { قل } أي لهم { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } أي نحن تحت مشيئته وقدره { هو مولانا } أي سيدنا وملجؤنا { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل (2/477)
يقول تعالى : { قل } لهم يا محمد { هل تربصون بنا } أي تنتظرون بنا { إلا إحدى الحسنيين } شهادة أو ظفر بكم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم { ونحن نتربص بكم } أي ننتظر بكم { أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } أي ننتظر بكم هذا أو هذا إما { أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } بسبي أو بقتل { فتربصوا إنا معكم متربصون } وقوله تعالى : { قل أنفقوا طوعا أو كرها } أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين { لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين } ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم { إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } أي والأعمال إنما تصح بالإيمان { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } أي ليس لهم قصد صحيح ولا همة في العمل { ولا ينفقون } نفقة { إلا وهم كارهون } وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم أن الله لا يمل حتى تملوا وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين (2/477)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } كما قال تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } وقال { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } وقوله { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } قال الحسن البصري بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الاخرة واختار ابن جرير قول الحسن وهو القول القوي الحسن وقوله { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } أي ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم عياذا بالله من ذلك وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه (2/478)
يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم { يحلفون بالله إنهم لمنكم } يمينا مؤكدة { وما هم منكم } أي في نفس الأمر { ولكنهم قوم يفرقون } أي فهو الذي حملهم على الحلف { لو يجدون ملجأ } أي حصنا يتحصنون به وحرزا يتحرزون به { أو مغارات } وهي التي في الجبال { أو مدخلا } وهو السرب في الأرض والنفق قال ذلك في الثلاثة ابن عباس ومجاهد وقتادة { لولوا إليه وهم يجمحون } أي يسرعون في ذهابهم عنكم لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة وودوا أنهم لا يخالطونكم ولكن للضرورة أحكام ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم لأن الإسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة فلهذا كلما سر المسلمون ساءهم ذلك فهم يودون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال { لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون } (2/478)
يقول تعالى : { ومنهم } أي ومن المنافقين { من يلمزك } أي يعيب عليك { في } قسم { الصدقات } إذا فرقتها ويتهمك في ذلك وهم المتهمون المأبونون وهم مع هذا لا ينكرون للدين وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ولهذا { فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } أي يغضبون لأنفسهم قال ابن جريج : أخبرني داود بن أبي عاصم قال أتى النبي صلى الله عليه و سلم بصدقة قسمها هاهنا وههنا حتى ذهبت قال ووراءه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت هذه الاية وقال قتادة في قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم : [ ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي ؟ ] ثم قال نبي الله : [ احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ] وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن ]
وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة واسمه حرقوص لما اعترض على النبي صلى الله عليه و سلم حين قسم غنائم حنين فقال له : اعدل فإنك لم تعدل فقال : [ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد رآه مقفيا : [ إنه يخرج من ضئضىء هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء ] وذكر بقية الحديث ثم قال تعالى منبها لهم على ما هو خير لهم من ذلك فقال : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } فتضمنت هذه الاية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده وهو قوله : { وقالوا حسبنا الله } وكذلك الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسول صلى الله عليه و سلم وامتثال أوامره وترك زواجره وتصديق أخباره والاقتفاء بآثاره (2/478)
لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه و سلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين كما رواه الإمام أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وفيه ضعف عن زياد بن نعيم عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فبايعته فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : [ إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك ] وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية هل يجب استيعاب الدفع لها أو إلى ما أمكن منها ؟ على قولين ( أحدهما ) أنه يجب ذلك وهو قول الشافعي وجماعة
( والثاني ) أنه لا يجب استيعابها بل يجوز الدفع إلى واحد منها ويعطي جميع الصدقة مع وجود الباقين وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف منهم عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران قال ابن جرير : وهو قول جماعة عامة من أهل العلم وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف ههنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا والله أعلم وإنما قدم الفقراء ههنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدة فاقتهم وحاجتهم وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير وهو كما قال أحمد وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية أنبأنا ابن عون عن محمد قال : قال عمر رضي الله عنه : الفقير ليس بالذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق الكسب قال ابن علية : الأخلق المحارف عندنا والجمهور على خلافه وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابن زيد واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس وقال قتادة : الفقير من به زمانة والمسكين الصحيح الجسم وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم هم فقراء المهاجرين قال سفيان الثوري يعني ولا يعطى الأعراب منها شيئا وكذا روي عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى
وقال عكرمة : لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين إنما المساكين أهل الكتاب ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية فأما الفقراء فعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ] رواه أحمد وأبو داود والترمذي ولأحمد أيضا والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة مثله وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه و سلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر فرآهما جلدين فقال : [ إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ] رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد قوي وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل : أبو بكر العبسي قال قرأ عمر رضي الله عنه { إنما الصدقات للفقراء } قال : هم أهل الكتاب روى عنه عمر بن نافع سمعت أبي يقول ذلك { قلت } وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد فإن أبا بكر هذا وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته لكنه في حكم المجهول وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان قالوا فمن المسكين يا رسول الله ؟ قال الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا ] رواه الشيخان وأما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منه قسطا على ذلك ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين تحرم عليهم الصدقة لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليستعملهما على الصدقة فقال : [ إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لال محمد إنما هي أوساخ الناس ] وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام منهم من يعطى ليسلم كما أعطى النبي صلى الله عليه و سلم صفوان بن أمية من غنائم حنين وقد كان شهدها مشركا قال : فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي كما قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي أنبأنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي ورواه مسلم والترمذي من حديث يونس عن الزهري به ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل وقال [ إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم ] وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه و سلم بذهبية في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وعلقمة بن علاثة وزيد الخير وقال [ أتألفهم ] ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع والله أعلم
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه و سلم ؟ فيه خلاف فروي عن عمر وعامر والشعبي وجماعة : أنهم لا يعطون بعده لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وأذل لهم رقاب العباد وقال آخرون : بل يعطون لأنه عليه الصلاة و السلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم وأما الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد أنهم المكاتبون وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه وهو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما
وقال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة وهو مذهب أحمد ومالك وإسحاق أي أن الرقاب أعم من أن يعطي المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة وأن الله يعتق بكل عضو منها عضوا من معتقها حتى الفرج بالفرج وما ذاك إلا لأن الجزاء من جنس العمل { وما تجزون إلا ما كنتم تعملون } وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاثة حق على الله عونهم : الغازي في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف ] رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود وفي المسند عن البراء بن عازب قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار ؟ فقال : [ أعتق النسمة وفك الرقبة ] فقال : يا رسول الله أو ليسا واحدا ؟ قال : [ لا عتق النسمة أن تفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ] وأما الغارمون فهم أقسام فمنهم : من تحمل حمالة أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم والأصل في هذا الباب حديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أسأله فيها فقال [ أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ] قال : ثم قال : [ يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو قال سدادا من عيش ـ ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قرابة قومه فيقولون لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو قال سدادا من عيش ـ فما سواهن من المسألة سحت يأكلها صاحبها سحتا ] رواه مسلم وعن أبي سعيد قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ تصدقوا عليه ] فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه و سلم لغرمائه : [ خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ] رواه مسلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد أنبأنا صدقة بن موسى عن أبي عمران الجوني عن قيس بن يزيد عن قاضي المصرين عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه فيقول : يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين وفيم ضيعت حقوق الناس ؟ فيقول : يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة فيقول الله صدق عبدي أنا أحق من قضى عنك اليوم فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته ] وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق والحج من سبيل الله الحديث وكذلك ابن السبيل وهوالمسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه والدليل على ذلك الاية وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجه من حديث معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : العامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني ] وقد رواه السفيانان عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا ولأبي داود عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك ] وقوله : { فريضة من الله } أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه { والله عليم حكيم } أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده { حكيم } فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به لا إله إلا هو ولا رب سواه (2/479)
يقول تعالى ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم بالكلام فيه ويقولون { هو أذن } أي من قال له شيئا صدقه فينا ومن حدثه صدقه فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا روي معناه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة قال الله تعالى : { قل أذن خير لكم } أي هو أذن خير يعرف الصادق من الكاذب { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } أي ويصدق المؤمنين { ورحمة للذين آمنوا منكم } أي وهو حجة على الكافرين ولهذا قال { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } (2/482)
قال قتادة في قوله تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } الاية قال ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمير قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله ما يقول محمد لحق ولأنت أشر من الحمار قال : فسعى بها الرجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال [ ما حملك على الذي قلت ؟ ] فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله الاية وقوله تعالى : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله } الاية أي ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد الله عز و جل أي شاقه وحاربه وخالفه وكان في حد والله ورسوله في حد { فأن له نار جهنم خالدا فيها } أي مهانا معذبا { ذلك الخزي العظيم } أي وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير (2/483)
قال مجاهد : يقولون القول بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا هذا وهذه الاية شبيهة بقوله تعالى : { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } وقال في هذه الاية : { قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون } أي إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبين له أمركم كقوله تعالى : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول } الاية ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فاضحة المنافقين (2/483)
قال أبو معشر المديني : عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء فقال رجل في المسجد : كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمر أنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم تنكبه الحجارة وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } الاية وقد رواه الليث عن هشام بن سعيد بنحو من هذا
وقال ابن إسحاق وقد كان من جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وإننا نغلب أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغني لعمار بن ياسر [ أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا ] فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على راحلته فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفي عنه في هذه الاية مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مكانه فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر
وقال قتادة { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } قال : فبينما النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه صلى الله عليه و سلم على ما قالوا فقال علي بهؤلاء النفر فدعاهم فقال [ قلتم كذا وكذا ] فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب وقال عكرمة في تفسير هذه الاية : كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت قال : فأصيب يوم اليمامة فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره وقوله : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } أي بهذا المقال الذي استهزأتم به { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم { بأنهم كانوا مجرمين } أي مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة (2/483)
يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان هؤلاء { يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم } أي عن الإنفاق في سبيل الله { نسوا الله } أي نسوا ذكر الله { فنسيهم } أي عاملهم معاملة من نسيهم كقوله تعالى : { وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } { إن المنافقين هم الفاسقون } أي الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة وقوله : { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم } أي على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم { خالدين فيها } أي ماكثين فيها مخلدين هم والكفار { هي حسبهم } أي كفايتهم في العذاب { ولعنهم الله } أي طردهم وأبعدهم { ولهم عذاب مقيم } (2/484)
يقول تعالى أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا والاخرة كما أصاب من قبلهم وقوله { بخلاقهم } قال الحسن البصري : بدينهم وقوله { وخضتم كالذي خاضوا } أي في الكذب والباطل { أولئك حبطت أعمالهم } أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة { في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب قال ابن جريج عن عمرو بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { كالذين من قبلكم } الاية قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة { كالذين من قبلكم } هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال : [ والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه ] قال ابن جريج : وأخبرني زياد بن سعد عن محمد بن زياد بن مهاجر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ] قالوا : ومن هم يا رسول الله أهل الكتاب ؟ قال [ فمن ؟ ] وهكذا رواه أبو معشر عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : فذكره وزاد قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم القرآن { كالذين من قبلكم } الاية قال أبو هريرة : الخلاق الدين { وخضتم كالذي خاضوا } قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم ؟ قال [ فهل الناس إلا هم ؟ ] وهذا الحديث له شاهد في الصحيح (2/485)
يقول تعالى واعظا لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم } أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل { قوم نوح } وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض إلا من آمن بعبده ورسوله نوح عليه السلام { وعاد } كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذبوا هودا عليه السلام { وثمود } كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحا عليه السلام وعقروا الناقة { وقوم إبراهيم } كيف نصره الله عليهم وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم وأهلك ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني لعنه الله { وأصحاب مدين } وهم قوم شعيب عليه السلام وكيف أصابتهم الرجفة وعذاب يوم الظلة { والمؤتفكات } قوم لوط وقد كانوا يسكنون في مدائن وقال في الاية الأخرى { والمؤتفكة أهوى } أي الأمة المؤتكفة وقيل أم قراهم وهي سدوم والغرض أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوط عليه السلام وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين { أتتهم رسلهم بالبينات } أي بالحجج والدلائل القاطعات { فما كان الله ليظلمهم } أي بإهلاكه إياهم لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } أي بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار (2/485)
لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة فقال : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } أي يتناصرون ويتعاضدون كما جاء في الصحيح [ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ] وشبك بين أصابعه وفي الصحيح أيضا [ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ] وقوله : { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } كقوله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } الاية وقوله : { ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } أي يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه { ويطيعون الله ورسوله } أي فيما أمر وترك ما عنه زجر { أولئك سيرحمهم الله } أي سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات { إن الله عزيز } أي عز من أطاعه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين { حكيم } في قسمته هذه الصفات لهؤلاء وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة فإنه له الحكمة في جميع ما يفعله تبارك وتعالى (2/486)
يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أي ماكثين فيها أبدا { ومساكن طيبة } أي حسنة البناء طيبة القرار كما جاء في الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ] وبه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا في السماء ! للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم لا يرى بعضهم بعضا ] أخرجاه في الصحيحين وفيهما أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإن حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو حبس في أرضه التي ولد فيها ] قالوا : يا رسول الله أفلا نخبر الناس ؟ قال : [ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن ] وعند الطبراني والترمذي وابن ماجه من رواية زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول فذكر مثله
وللترمذي عن عبادة بن الصامت مثله وعن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة كما ترون الكوكب في السماء ] أخرجاه في الصحيحين ثم ليعلم أن أعلى منزلة في الجنة مكان يقال له الوسيلة لقربه من العرش وهو مسكن رسول الله صلى الله عليه و سلم من الجنة كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن ليث عن كعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة ] قيل يا رسول الله وما الوسيلة ؟ قال [ أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو ]
وفي صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة : عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة ] وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ] رواه الطبراني وفي مسند الإمام أحمد من حديث سعد بن مجاهد الطائي عن أبي المدله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال : [ لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس ويخلد لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ] وروي عن ابن عمر مرفوعا نحوه وعند الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ] فقام أعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي ؟ فقال : [ لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام ] ثم قال : حديث غريب ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري كل منهما عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه وكل من الإسنادين جيد وحسن وعنده أن السائل هو أبو مالك الأشعري فالله أعلم
وعن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا هل من مشمر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية ] قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها قال : [ قولوا إن شاء الله ] فقال القوم : إن شاء الله رواه ابن ماجه وقوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } أي رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم كما قال الإمام مالك رحمه الله عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله عز و جل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ] أخرجاه من حديث مالك وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي : حدثنا الفضل الرجائي حدثنا الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز و جل هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟ قالوا يا ربنا ما خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضواني أكبر ] ورواه البزار في مسنده من حديث الثوري وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة : هذا عندي على شرط الصحيح والله أعلم (2/486)
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الاخرة وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بأربعة أسياف : سيف للمشركين { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } وسيف لكفار أهل الكتاب { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وسيف للمنافقين { جاهد الكفار والمنافقين } وسيف للبغاة { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق وهو اختيار ابن جرير
وقال ابن مسعود في قوله تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين } قال : بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه وقال ابن عباس : أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم وقال الضحاك : جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم وعن مقاتل والربيع مثله وقال الحسن وقتادة مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم وقد يقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال والله أعلم وقوله : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي وذلك أنه اقتتل رجلان جهني وأنصاري فعلا الجهني على الأنصاري فقال عبد الله للأنصار ألا تنصروا أخاكم ؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله فيه هذه الاية وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة قال : فحدثني عبد الله بن الفضل أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : حزنت على من أصيب بالحرة من قومي فكتب إلي زيد بن أرقم وبلغه شدة حزني يذكر أنه سمع رسول الله يقول : [ اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ] وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار قال ابن الفضل : فسأل أنس بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم فقال : هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أوفى الله له بإذنه ] قال : وذلك حين سمع رجلا من المنافقين يقول ورسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب : لئن كان صادقا فنحن شر من الحمير فقال زيد بن أرقم : فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار ثم رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجحده القائل فأنزل الله هذه الاية تصديقا لزيد يعني قوله : { يحلفون بالله ما قالوا } الاية رواه البخاري في صحيحه عن إسماعيل بن أبي أويس عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ـ إلى قوله ـ هذا الذي أوفى الله له بإذنه ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة وقد رواه محمد بن فليح عن موسى بن عقبة بإسناده : ثم قال قال ابن شهاب فذكر ما بعده عن موسى عن ابن شهاب
والمشهور في هذه القصة أنه كانت في غزوة بني المصطلق فلعل الراوي وهم في ذكر الاية وأراد أن يذكر غيرها فذكرها والله أعلم قال الأموي في مغازيه : حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذني قومي فقالوا : إنك امرؤ شاعر فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ببعض العلة ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه وذكر الحديث بطوله إلى أن قال : وكان ممن تخلف من المنافقين ونزل فيه القرآن منهم ممن كان مع النبي صلى الله عليه و سلم الجلاس بن سويد بن الصامت وكان على أم عمير بن سعد وكان عمير في حجره فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير ؟ فسمعها عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم بلاء عندي وأعزهم علي أن يصله شيء يكرهه ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني ولإحداهما أهون علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ما قال الجلاس فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ولقد كذب علي فأنزل الله عز و جل فيه { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } إلى آخر الاية فوقفه رسول الله صلى الله عليه و سلم عليها فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع
هكذا جاء هذا مدرجا في الحديث متصلا به وكأنه والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه لا من كلام كعب بن مالك وقال عروة بن الزبير : نزلت هذه الاية في الجلاس بن سويد بن الصامت أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب : أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم بما قلت فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم وخفت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته فقلت : يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك قال : فدعا الجلاس فقال [ يا جلاس أقلت الذي قاله مصعب ؟ ] فحلف فأنزل الله { يحلفون بالله ما قالوا } الاية وقال محمد بن إسحاق : كان الذي قال تلك المقالة فيما بلغني الجلاس بن سويد بن الصامت فرفعها عليه رجل كان في حجره يقال له عمير بن سعد فأنكرها فحلف بالله ما قالها فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته فيما بلغني وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم جالسا في ظل شجرة فقال : [ إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم ـ بعيني الشيطان ـ فإذا جاء فلا تكلموه ] فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ ] فانطلق الرجل فجاءه بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم فأنزل الله عز و جل { يحلفون بالله ما قالوا } الاية وقوله { وهموا بما لم ينالوا } قيل أنزلت في الجلاس بن سويد وذلك أنه هم بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل في عبد الله بن أبي هم بقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال السدي : نزلت في أناس أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير وكانوا بضعة عشر رجلا قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الاية وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث محمد بن إسحاق عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم أقود به وعمار يسوق الناقة أو أنا أسوقه وعمار يقوده حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها قال فأنبهت رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هل عرفتم القوم ؟ ] قلنا : لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين ولكنا قد عرفنا الركاب قال : [ هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل تدرون ما أرادوا ؟ ] قلنا : لا قال : [ أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه و سلم في العقبة فيلقوه منها ] قلنا : يا رسول الله أفلا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال : [ لا أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ـ ثم قال ـ اللهم ارمهم بالدبيلة ] قلنا : يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال : [ شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك ] وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد فبينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لحذيفة [ قد قد ] حتى هبط رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما هبط نزل ورجع عمار فقال يا عمار : [ هل عرفت القوم ؟ ] قال : لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال [ هل تدري ما أرادوا ؟ ] قال : الله ورسوله أعلم قال : [ أرادوا أن ينفروا برسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ راحلته فيطرحوه ] قال : فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال : أربعة عشر رجلا فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر قال فعد رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم وما علمنا ما أراد القوم فقال عمار أشهد : أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وهكذا روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير نحو هذا وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون وهم متلثمون فأرادوا سلوك العقبة فأطلع الله على مرادهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر حذيفة فرجع إليهم فضرب وجوه رواحلهم ففزعوا ورجعوا مقبوحين وأعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم حذيفة وعمارا بأسمائهم وما كانوا هموا به من الفتك به صلوات الله وسلامه عليه وأمرهما أن يكتما عليهم وكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق إلا أنه سمى جماعة منهم فالله أعلم
وكذا قد حكي في معجم الطبراني قاله البيهقي ويشهد لهذه القصة بالصحة ما رواه مسلم : حدثنا زهير بن حرب حدثنا أبو أحمد الكوفي حدثنا الوليد بن جميع حدثنا أبو الطفيل قال : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك ؟ فقال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا علمنا بما أراد القوم ؟ وقد كان في حرة يمشي فقال : إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد فوجد قوما قد سبقوه فلعنهم يومئذ وما رواه مسلم أيضا من حديث قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عباد عن عمار بن ياسر قال : أخبرني حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ في أصحابي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط : ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم ] ولهذا كان حذيفة يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من تعيين جماعة من المنافقين وهم هؤلاء قد أطلعه عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم دون غيره والله أعلم وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ثم روي عن علي بن عبد العزيز عن الزبير بن بكار أنه قال : هم معتب بن قشيرة ووديعة بن ثابت وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف والحارث بن يزيد الطائي وأوس بن قيظي والحارث بن سويد وسعد بن زرارة وقيس بن فهد وسويد بن داعس من بني الحبلى وقيس بن عمرو بن سهل وزيد بن اللصيت وسلالة بن الحمام وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام
وقوله تعالى : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } أي وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته ولو تمت عليه السعادة لهداهم الله لما جاء به كما قال صلى الله عليه و سلم للأنصار : [ ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي ] كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كقوله : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله } الاية وقوله عليه السلام [ ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله ] ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال { فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة } أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا أي بالقتل والهم والغم والاخرة أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار { وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } أي وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم لا يحصل لهم خيرا ولا يدفع عنهم شرا (2/488)
يقول تعالى ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين فما وفى بما قال ولا صدق فيما ادعى فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله عز و جل يوم القيامة عياذا بالله من ذلك وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري أن سبب نزول هذه الاية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير ههنا وابن أبي حاتم من حديث معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : ادع الله أن يرزقني مالا قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ] قال : ثم قال مرة أخرى فقال : [ أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ـ فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت ] قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اللهم ارزق ثعلبة مالا ] قال فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما فعل ثعلبة ؟ ] فقالوا : يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة فأخبروه بأمره فقال : [ يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ]
وأنزل الله جل ثناؤه { خذ من أموالهم صدقة } الاية ونزلت فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلين على الصدقة من المسلمين رجلا من جهينة ورجلا من سليم وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين وقال لهما : [ مرا بثعلبة وبفلان ـ رجل من بني سليم ـ فخذا صدقاتهما ] فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا ؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بهما فلما رأوها قالوا ما يجب عليك هذا وما نريد أن نأخذ هذا منك فقال : بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي لله فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما فقرأه فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه و سلم فلما رآهما قال : [ يا ويح ثعلبة ] قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي فأنزل الله عز و جل { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } الاية قال وعند رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : [ ويحك إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ] فجعل يحثو على رأسه التراب فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ] فلما أبى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقبل صدقته رجع إلى منزله فقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يقبل منه شيئا ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف فقال قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه و سلم وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي فقال أبو بكر لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبى أن يقبلها فقبض أبو بكر ولم يقبلها
فلما ولي عمر رضي الله عنه أتاه فقال : يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أبو بكر وأنا أقبلها منك ؟ فقبض ولم يقبلها فلما ولي عثمان رضي الله عنه أتاه فقال : اقبل صدقتي فقال لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك ؟ فلم يقبلها منه فهلك ثعلبة في خلافة عثمان وقوله تعالى : { بما أخلفوا الله ما وعدوه } الاية أي أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم كما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان ] وله شواهد كثيرة والله أعلم وقوله : { ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم } الاية يخبر تعالى أنه يعلم السر وأخفى وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها فإن الله أعلم بهم من أنفسهم لأنه تعالى علام الغيوب أي يعلم كل غيب وشهادة وكل سر ونجوى ويعلم ما ظهر وما بطن (2/492)
وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا هذا مراء وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا كما روى البخاري حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبو النعمان البصري حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا : مرائي وجاء رجل فتصدق بصاع : فقالوا إن الله لغني عن صدقة هذا فنزلت { الذين يلمزون المطوعين } الاية وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه من حديث شعبة به وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا الجريري عن أبي السليل قال : وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال : حدثني أبي أو عمي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبقيع وهو يقول : [ من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة ] قال : فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين وأنا أريد أن أتصدق بهما فأدركني ما يدرك ابن آدم فعقدت على عمامتي فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد منه سوادا ولا أصغر منه ولا أدم ببعير ساقه لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها فقال : يا رسول الله أصدقة ؟ قال : [ نعم ] قال : دونك هذه الناقة قال فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه فو الله لهي خير منه قال : فسمعها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ كذبت بل هو خير منك ومنها ] ثلاث مرات ثم قال : [ ويل لأصحاب المئين من الإبل ] ثلاثا قالوا إلا من يا رسول الله ؟ قال : [ إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ] وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ثم قال : [ قد أفلح المزهد المجهد ] ثلاثا المزهد في العيش المجهد في العبادة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع
وقال العوفي عن ابن عباس : إن رسول الله خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم فجمع الناس صدقاتهم ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر فقال : يا رسول الله هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما وأتيتك بالاخر فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينثره في الصدقات فسخر منه رجال وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا وما يصنعون بصاعك من شيء ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : هل بقي أحد من أهل الصدقات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم يبق أحد غيرك ] فقال له عبد الرحمن بن عوف فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمجنون أنت ؟ قال ليس بي جنون قال أفعلت ما فعلت ؟ قال : نعم مالي ثمانية آلاف أما أربعة آلاف فأقرضها ربي وأماأربعة آلاف فلي فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ] ولمزه المنافقون فقالوا والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم كاذبون إنما كان به متطوعا فأنزل الله عز و جل عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر فقال تعالى في كتابه : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات } الاية وهكذا روي عن مجاهد وغير واحد وقال ابن إسحاق : كان من المطوعين من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم وعاصم بن عدي أخو بني العجلان وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رغب في الصدقة وحض عليها فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل أخو بني أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا طالوت بن عباد حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا ] قال فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال يا رسول الله : عندي أربعة آلاف ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت ] وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر فقال يا رسول الله : أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي قال فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء وقالوا : ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم } الاية ثم رواه عن أبي كامل عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه مرسلا قال ولم يسنده أحد إلا طالوت وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة حدثني خالد بن يسار عن ابن أبي عقيل عن أبيه قال : بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به وجئت بالاخر أتقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتيته فأخبرته فقال : [ انثره في الصدقة ] قال فسخر القوم وقالوا لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين فأنزل الله { الذين يلمزون المطوعين } الايتين وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن حباب به وقال : اسم أبي عقيل حباب ويقال عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة وقوله : { فيسخرون منهم سخر الله منهم } هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين لأن الجزاء من جنس العمل فعاملهم معاملة من سخر منهم انتصارا للمؤمنين في الدنيا وأعد للمنافقين في الاخرة عذابا أليما لأن الجزاء من جنس العمل (2/493)
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بأن هؤلاء المنافيقين ليسوا أهلا للاستغفار وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وقد قيل إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها ولا تريد التحديد بها ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها وقيل بل لها مفهوم كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لما نزلت هذه الاية أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم ] فقال الله من شدة غضبه عليهم : { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم } الاية وقال الشعبي لما ثقل عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما اسمك ؟ ] قال : الحباب بن عبد الله قال : [ بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب اسم شيطان ] فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق وصلى عليه فقيل له : أتصلي عليه وهو منافق ؟ فقال : [ إن الله قال { إن تستغفر لهم سبعين مرة } ولأستغفرن لهم سبعين و سبعين وسبعين ] وكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد بن جبير وقتادة بن دعامة ورواه ابن جرير بأسانيده (2/495)
يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك وفرحوا بقعودهم بعد خروجه { وكرهوا أن يجاهدوا } معه { بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا } أي بعضهم لبعض { لا تنفروا في الحر } وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار فلهذا قالوا { لا تنفروا في الحر } قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم : { قل } لهم { نار جهنم } التي تصيرون إليها بمخالفتكم { أشد حرا } مما فررتم منه من الحر بل أشد حرا من النار كما قال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ] فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ؟ فقال : [ فضلت عليها بتسعة وستين جزءا ] أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد ] وهذا أيضا إسناده صحيح وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه عن عباس الدوري وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء كالليل المظلم ] ثم قال الترمذي : لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى كذا قال وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم عن عبيد الله بن سعد عن عمه عن شريك وهو ابن عبد الله النخعي به
وروى أيضا ابن مردويه من رواية مبارك بن فضالة عن ثابت بن أنس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نارا وقودها الناس والحجارة ] قال : [ أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى احمرت وألف عام حتى اسودت فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نجيج وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه ] لو أن شرارة بالمشرق ـ أي من نار جهنم ـ لوجد حرها من بالمغرب [ وروى الحافظ أبو يعلى عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه [ غريب وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه وإنه أهونهم عذابا [ أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن أبي كثير حدثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ] إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه [ وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن ابن عجلان سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ] إن أدنى أهل النار عذابا رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه [ وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم والله أعلم والأحاديث والاثار النبوية في هذا كثيرة وقال الله تعالى في كتابه العزيز { كلا إنها لظى * نزاعة للشوى } وقال تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق } وقال تعالى { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } وقال تعالى في هذه الاية الكريمة { قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } أي لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم كما قال الاخر :
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال الاخر :
عمرك بالحمية أفنيته خوفا من البارد والحار
وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار
ثم قال تعالى جل جلاله متوعدا هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا : { فليضحكوا قليلا } الاية قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عز و جل استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدا وكذا قال أبو رزين والحسن وقتادة والربيع بن خثيم وعون العقيلي وزيد بن أسلم وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش حدثنا محمد بن جبير عن ابن المبارك عن عمران بن زيد حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ] يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أزجيت فيها لجرت [ ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي به وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن عباس حدثنا حماد الجزري عن زيد بن رفيع رفعه قال : إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ثم بكوا القيح زمانا قال : فتقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به ؟ قال : فيرفعون أصواتهم يا أهل الجنة يا معشر الاباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاش فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم ثم يجيبهم { إنكم ماكثون } فييأسون من كل خير ] (2/496)
يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة السلام { فإن رجعك الله } أي ردك الله من غزوتك هذه { إلى طائفة منهم } قال قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا { فاستأذنوك للخروج } أي معك إلى غزوة أخرى { فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } أي تعزيرا لهم وعقوبة ثم علل ذلك بقوله : { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } وهذا كقوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } الاية فإن جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها كقوله في عمرة الحديبية { سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها } الاية وقوله تعالى : { فاقعدوا مع الخالفين } قال ابن عباس : أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة وقال قتادة { فاقعدوا مع الخالفين } أي مع النساء قال ابن جرير وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ولو أريد النساء لقال فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما (2/498)
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم أن يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا عليه وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه وإن كان سبب نزول الاية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كما قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي [ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] إنما خيرني الله فقال { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وسأزيده على السبعين [ قال إنه منافق قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل آية { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة حماد بن أسامة به ثم رواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به وقال فصلى عليه وصلينا معه وأنزل الله { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } الاية وهكذا رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله به
وقد روي من حديث عمر بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا فقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه و سلم للصلاة عليه فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا وكذا وكذا يعدد أيامه قال ورسول الله صلى الله عليه و سلم يبتسم حتى إذا أكثرت عليه فقال : ] أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت قد قيل لي استغفر لهم [ الاية لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت ] قال ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه قال فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه و سلم والله ورسوله أعلم قال فوا لله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الايتان { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } الاية فما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز و جل وهكذا رواه الترمذي في التفسير من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري به وقال حسن صحيح ورواه البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري به فذكر مثله قال : [ أخر عني يا عمر ] فلما أكثرت عليه قال : [ إني خيرت فاخترت ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ] قال فصلى عليه رسول الله ثم انصرف فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الايتان من براءة { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الاية فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه و سلم ورسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عبيد حدثنا عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعير بهذا فأتاه النبي صلى الله عليه و سلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال : [ أفلا قبل أن تدخلوه ] فأخرج من حفرته وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه ورواه النسائي عن أبي داود الحراني عن يعلى بن عبيد عن عبدالملك وهو ابن أبي سليمان به وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عثمان أخبرنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه والله أعلم
وقد رواه أيضا في غير موضع مسلم والنسائي من غير وجه عن سفيان بن عيينة به وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا مجالد حدثنا عامر حدثنا جابر ح وحدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال : لما مات رأس المنافقين قال يحيى بن سعيد بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه و سلم فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن أبي أوصى أن يكفن بقميصك وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء قال يحيى في حديثه : فصلى عليه وألبسه قميصه فأنزل الله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } وزاد عبد الرحمن : وخلع النبي صلى الله عليه و سلم قميصه فأعطاه إياه ومشى فصلى عليه وقام على قبره فأتاه جبريل عليه السلام لما ولى قال { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } وإسناده لا بأس به وما قبله شاهد له
وقال الإمام أبو جعفر الطبري : حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أحمد حدثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذ جبريل بثوبه وقال { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث يزيد الرقاشي وهو ضعيف وقال قتادة أرسل عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو مريض فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أهلكك حب يهود ] قال : يارسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره فأنزل الله عز و جل { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } الاية وقد ذكر بعض السلف أنه إنما كساه قميصه لأن عبد الله بن أبي لما قدم العباس طلب له قميص فلم يوجد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن أبي لأنه كان ضخما طويلا ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه و سلم مكافأة له فالله أعلم ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه الاية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين ولا يقوم على قبره كما قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن أبيه حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها فإن أثني عليها خيرا قام فصلى عليها وإن كان غير ذلك قال لأهلها [ شأنكم بها ] ولم يصل عليها وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان لأنه كان يعلم أعيان المنافقين قد أخبره بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهذا كان يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة
وقال أبو عبيد في كتاب الغريب في حديث عمر أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل فمرزه حذيفة كأنه أراد أن يصده عن الصلاة عليها ثم حكى عن بعضهم أن المرز بلغة أهل اليمامة هو القرص بأطراف الأصابع ولما نهى الله عز و جل عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم كان هذه الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك وفي فعله الأجر الجزيل كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان ] قيل وما القيراطان ؟ قال [ أصغرهما مثل أحد ] وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فروى أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا هشام عن عبد الله بن بحير عن هانىء وهو أبو سعيد البربري مولى عثمان بن عفان عن عثمان رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : [ استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الان يسأل ] انفرد بإخراجه أبو داود رحمه الله (2/498)
قد تم تفسيرنظير هذه الاية الكريمة ولله الحمد والمنة (2/500)
يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا { ذرنا نكن مع القاعدين } ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء وهن الخوالف بعد خروج الجيش فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما كما قال تعالى عنهم في الاية الأخرى : { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن وفي الحرب أجبن شيء وكما قال الشاعر :
أفي السلم أعيار أجفاء وغلظة وفي الحرب أشباه النساء الفوارك ؟
وقال تعالى في الاية الأخرى { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } الاية وقوله { وطبع على قلوبهم } أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله { فهم لا يفقهون } أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه (2/501)
لما ذكر تعالى ذنب المنافقين وبين ثناءه على المؤمنين ومالهم في آخرتهم فقال { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا } إلى آخر الايتين من بيان حالهم ومآلهم وقوله : { وأولئك لهم الخيرات } أي في الدار الاخرة في جنات الفردوس والدرجات العلى (2/501)
ثم بين تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتذرون إليه ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة قال الضحاك عن ابن عباس إنه كان يقرأ { وجاء المعذرون } بالتخفيف ويقول : هم أهل العذر وكذا روى ابن عيينة عن حميد عن مجاهد سواء قال ابن إسحاق : وبلغني أنهم نفر من بني غفار خفاف بن إيماء بن رخصة وهذا : القول هو الأظهر في معنى الاية لأنه قال بعد هذا { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } أي لم يأتوا فيعتذروا وقال ابن جريج عن مجاهد { وجاء المعذرون من الأعراب } قال : نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا فلم يعذرهم الله وكذا قال الحسن وقتادة ومحمد بن إسحاق والقول الأول أظهر والله أعلم لما قدمنا من قوله بعده { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } أي وقعد آخرون من الأعراب عن المجيء للاعتذار ثم أوعدهم بالعذاب الأليم فقال : { سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } (2/501)
ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ومنه العمى والعرج ونحوهما ولهذا بدأ به ومنه ما هو عارض بسبب مرض عن له في بدنه شغله عن الخروج في سبيل الله أو بسبب فقره لا يقدر على التجهيز للحرب فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم وهم محسنون في حالهم هذا ولهذا قال : { ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم } وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة رضي الله عنه قال : قال الحواريون يا روح الله أخبرنا عن الناصح لله ؟ قال الذي يؤثر حق الله على حق الناس وإذا حدث له أمران أو بدا له أمر الدنيا وأمر الاخرة بدأ بالذي للاخرة ثم تفرغ للذي للدنيا
وقال الأوزاعي : خرج الناس إلى الاستسقاء فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة ؟ قالوا اللهم نعم فقال اللهم إنا نسمعك تقول : { ما على المحسنين من سبيل } اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقنا ورفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا وقال قتادة نزلت هذه الاية في عائذ بن عمرو المزني وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي حدثنا ابن جابر عن ابن فروة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فكنت أكتب براءة فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت { ليس على الضعفاء } الاية وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقرن المزني فقالوا : يارسول الله احملنا فقال لهم : [ والله لا أجد ما أحملكم عليه ] فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال { ليس على الضعفاء } إلى قوله { فهم لا يعلمون } وقال مجاهد في قوله : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } نزلت في بني مقرن من مزينة وقال محمد بن كعب : كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ومن بني واقف حرمي بن عمرو ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن صخر ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير وعلية بن زيد أخو بني حارثة وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن المغفل المزني وبعض الناس يقول بل هو عبد الله بن عمرو المزني وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا أهل حاجة فقال { لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن الأودي حدثنا وكيع عن الربيع عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شركوكم في الأجر ] ثم قرأ { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه } الاية وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم ] قالوا وهم بالمدينة ؟ قال : [ نعم حبسهم العذر ] وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سلكتم طريقا إلا شركوكم في الأجر حبسهم المرض ] ورواه مسلم وابن ماجه من طرق عن الأعمش به ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء وأنبهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال { وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون } (2/502)
أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم } أي لن نصدقكم { قد نبأنا الله من أخباركم } أي قد أعلمنا الله أحوالكم { وسيرى الله عملكم ورسوله } أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } أي فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها ويجزيكم عليها ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون لكم معتذرين لتعرضوا عنهم فلا تؤنبوهم فأعرضوا عنهم احتقارا لهم إنهم رجس أي خبث نجس بواطنهم واعتقاداتهم ومأواهم في آخرتهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون أي من الاثام والخطايا وأخبر أنهم إن رضوا عنهم بحلفهم لهم { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } أي الخارجين عن طاعة الله وطاعة رسوله فإن الفسق هو الخروج ومنه سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للإفساد ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها (2/503)
أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد وأجدر أي أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله كما قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني فقال زيد : ما يريبك من يدي إنها الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال ؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبي موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن ] ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه و سلم فرد عليه أضعافها حتى رضي قال : [ لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي ] لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن مكة والطائف والمدينة واليمن فهم ألطف أخلاقا من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء
( حديث الأعرابي في تقبيل الولد ) قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أبو أسامة وابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم ؟ قالوا نعم قالوا لكنا والله ما نقبل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة ] وقال ابن نمير : [ من قلبك الرحمة ] وقوله { والله عليم حكيم } أي عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم حكيم فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته وأخبر تعالى أن منهم { من يتخذ ما ينفق } أي في سبيل الله { مغرما } أي غرامة وخسارة { ويتربص بكم الدوائر } أي ينتظر بكم الحوادث والافات { عليهم دائرة السوء } أي هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم { والله سميع عليم } أي سميع لدعاء عباده عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان وقوله : { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول } هذا هو القسم الممدوح من الأعراب وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم { ألا إنها قربة لهم } أي ألا إن ذلك حاصل لهم { سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم } (2/504)
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم قال الشعبي : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية وقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال محمد بن كعب القرظي : مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الاية { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ فقال : أبي بن كعب فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر أنت أقرأت هذا هذه الاية هكذا ؟ قال : نعم قال : وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي تصديق هذه الاية في أول سورة الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } وفي سورة الحشر { والذين جاؤوا من بعدهم } الاية وفي الأنفال { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم } الاية ورواه ابن جرير قال : وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفا على والسابقون الأولون فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فياويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذا بالله من ذلك وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون (2/505)
يخبر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون وفي أهل المدينة أيضا منافقون { مردوا على النفاق } أي مرنوا واستمروا عليه ومنه يقال شيطان مريد ومارد ويقال تمرد فلان على الله أي عتا وتجبر وقوله : { لا تعلمهم نحن نعلمهم } لا ينافي قوله تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول } لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا وإن كان يراه صباحا ومساء وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن رجل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال قلت : يا رسول الله إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة فقال : [ لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب ] وأصغى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم برأسه فقال [ إن في أصحابي منافقين ] ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم وتقدم في تفسير قوله { وهموا بما لم ينالوا } أنه صلى الله عليه و سلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم والله أعلم
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عمر البيروتي من طريق هشام بن عمار : حدثنا صدقة بن خالد حدثنا ابن جابر حدثني شيخ ببيروت يكنى أبا عمر أظنه حدثني عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : الإيمان ههنا وأشار بيده إلى لسانه والنفاق ههنا وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اجعل له لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وارزقه حبي وحب من يحبني وصير أمره إلى خير ] فقال : يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم أفلا آتيك بهم ؟ قال : [ من أتانا استغفرنا له ومن أصر فالله أولى به ولا تخرقن على أحد سترا ] قال وكذا رواه أبو أحمد الحاكم عن أبي بكر الباغندي عن هشام بن عمار به وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في هذه الاية أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح عليه السلام { وما علمي بما كانوا يعملون } وقال نبي الله شعيب عليه السلام { بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ } وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم { لا تعلمهم نحن نعلمهم } وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الاية قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا يوم الجمعة فقال : [ اخرج يا فلان فإنك منافق واخرج يا فلان إنك منافق ] فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا واختبأوا هم من عمر ظنوا أنه قد علم بأمرهم فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر قد فضح الله المنافقين اليوم قال ابن عباس : فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد والعذاب الثاني عذاب القبر وكذا قال الثوري عن السدي عن أبي مالك نحو هذا
وقال مجاهد في قوله { سنعذبهم مرتين } يعني القتل والسبي وقال في رواية بالجوع وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم وقال ابن جريج عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم النار وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا وعذاب في القبر وقال عبد الرحمن بن زيد : أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد وقرأ قوله تعالى { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } فهذه المصائب لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر وعذاب في الاخرة في النار { ثم يردون إلى عذاب عظيم } قال النار وقال محمد بن إسحاق { سنعذبهم مرتين } قال : هو فيما بلغني ما هم فيه من أمر الإسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الاخرة والخلد فيه وقال سعيد عن قتادة في قوله : { سنعذبهم مرتين } عذاب الدنيا وعذاب القبر { ثم يردون إلى عذاب عظيم } وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره وستة يموتون موتا وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم نظر إلى حذيفة فإن صلى عليه وإلا تركه وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة أنشدك الله أمنهم أنا ؟ قال لا ولا أومن منها أحدا بعدك (2/506)
لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها وتكذيبا وشكا شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم بالحق فقال { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم ولهم أعمال أخر صالحة خلطوا هذه بتلك فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه وهذه الاية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة : إنه الذبح وأشار بيده إلى حلقه وقال ابن عباس { وآخرون } نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فقال بعضهم : أبو لبابة وخمسة معه وقيل وسبعة معه وقيل وتسعة معه فلما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أنزل الله هذه الاية { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } أطلقهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وعفا عنهم وقال البخاري : حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عوف حدثنا أبو رجاء حدثنا سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لنا [ أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم ] هكذا رواه البخاري مختصرا في تفسير هذه الاية (2/507)
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون وإنما كان هذا خاصا بالرسول صلى الله عليه و سلم ولهذا احتجوا بقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } الاية وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قال الصديق : والله لو منعوني عناقا ـ وفي رواية عقالا ـ كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لأقاتلنهم على منعه وقوله { وصل عليهم } أي ادع لهم واستغفر لهم كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال : [ اللهم صل على آل أبي أوفى ] وفي الحديث الاخر أن امرأة قالت : يا رسول الله صل علي وعلى زوجي فقال [ صلى الله عليك وعلى زوجك ] وقوله : { إن صلاتك سكن لهم } قرأ بعضهم صلواتك على الجمع وآخرون قرأوا إن صلاتك على الإفراد { سكن لهم } قال ابن عباس : رحمة لهم وقال قتادة وقار وقوله : { والله سميع } أي لدعائك { عليم } أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا أبو العميس عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن حذيفة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده ثم رواه عن أبي نعيم عن مسعر عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن لحذيفة قال مسعر : وقد ذكره مرة عن حذيفة إن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده
وقوله { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها حتى تصير التمرة مثل أحد كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قال الثوري ووكيع كلاهما عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه قيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتكون مثل أحد ] وتصديق ذلك في كتاب الله عز و جل { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } وقوله : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وقال الثوري والأعمش كلاهما عن عبد الله بن السائب عن عبد الله بن أبي قتادة قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن الصدقة تقع في يد الله عز و جل قبل أن تقع في يد السائل ثم قرأ هذه الاية { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } وقد روى ابن عساكر في تاريخه في ترجمة عبد الله بن الشاعر السكسكي الدمشقي وأصله حمصي وكان أحد الفقهاء روى عن معاوية وغيره وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي قال : غزا الناس في زمان معاوية رضي الله عنه وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية فلما قفل الجيش ندم وأتى الأمير فأبى أن يقبلها منه وقال : قد تفرق الناس ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة فجعل الرجل يستقري الصحابة فيقولون له مثل ذلك فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه فأبىعليه فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال له ما يبكيك ؟ فذكر له أمره فقال له : أو مطيعي أنت ؟ فقال : نعم فقال اذهب إلى معاوية فقل له اقبل مني خمسك فادفع إليه عشرين دينارا وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل فقال معاوية رضي الله عنه : لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شيء أملكه أحسن الرجل (2/508)
قال مجاهد : هذا وعيد يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه و سلم وعلى المؤمنين وهذا كائن لا محالة يوم القيامة كما قال : { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } وقال تعالى : { يوم تبلى السرائر } وقال : { وحصل ما في الصدور } وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا كما قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان ] وقد ورد : أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك ] وقال الإمام أحمد : أنبأنا عبد الرزاق عن سفيان عمن سمع أنسا يقول : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا ]
وقال البخاري قالت عائشة رضي الله عنها : إذا أعجبك حسن عمل امرىء مسلم فقل { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } وقد ورد في الحديث شبيه بهذا قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيء لو مات عليه دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا وإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته ] قالوا : يا رسول الله وكيف يستعمله ؟ قال : [ يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه ] تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه (2/509)
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغير واحد : هم الثلاثة الذين خلفوا أي عن التوبة وهم مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجي هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الاية الاتية وهي قوله { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } الاية { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } الاية كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك وقوله { إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } أي هم تحت عفو الله إن شاء فعل بهم هذا وإن شاء فعل بهم ذاك ولكن رحمته تغلب غضبه { والله عليم حكيم } أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو حكيم في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه (2/510)
سبب نزول هذه الايات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله عز و جل وكانت العاقبة للمتقين وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ونالوا منه وسبوه فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شر وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن فأبى أن يسلم وتمرد فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله عليه و سلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه و سلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه و سلم ويغلبه ويرده عما هو فيه وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى تبوك وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : [ إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله ] فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية هم أناس من الأنصار بنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا له : قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فأنزل الله عز و جل { لا تقم فيه أبدا } إلى قوله : { الظالمين } وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة وغير واحد من العلماء وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال : [ إني على جناح سفر وحال شغل ] أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه ] فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي أخا بلعجلان فقال : [ انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه ] فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا } إلى آخر القصة وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وموالي بني أمية بن زيد ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف وحارثة بن عامر وابناه مجمع بن حارثة وزيد بن حارثة ونبتل الحارث وهم من بني ضبيعة ومخرج وهم من بني ضبيعة وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة ووديعة بن ثابت وموالي بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر وقوله { وليحلفن } أي الذين بنوه { إن أردنا إلا الحسنى } أي ما أردنا ببنيانه إلا خيرا ورفقا بالناس قال الله تعالى : { والله يشهد إنهم لكاذبون } أي فيما قصدوا وفيما نووا وإنما بنوه ضرارا لمسجد قباء وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وهو أبو عامر الفاسق الذي يقال له الراهب لعنه الله وقوله { لا تقم فيه أبدا } نهي له صلى الله عليه و سلم والأمة تبع له في ذلك عن أن يقوم فيه أي يصلي فيه أبدا ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنيانه على التقوى وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله ولهذا قال تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ صلاة في مسجد قباء كعمرة ] وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة فالله أعلم
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ نزلت هذه الاية في أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } ـ قال ـ كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الاية ] ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث يونس بن الحارث وهو ضعيف وقال الترمذي غريب من هذا الوجه وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن علي المعمري حدثنا محمد بن حميد الرازي حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الاية { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عويم بن ساعدة فقال : [ ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم ؟ ] فقال : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا وغسل فرجه أو قال مقعدته فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ هو هذا ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد حدثنا أبو أويس حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة الأنصاري أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاهم في مسجد قباء فقال : [ إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ ] فقالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا ورواه ابن خزيمة في صحيحه وقال هشيم عن عبد الحميد المدني عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعويم بن ساعدة : [ ما هذا الذي أثنى الله عليكم { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } الاية قالوا : يا رسول الله إنا نغسل الأدبار بالماء ] وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عمارة الأسدي حدثنا محمد بن سعد عن إبراهيم بن محمد عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خزيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الاية { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } قال كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا مالك يعني ابن مغول سمعت سيارا أبا الحكم عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني قباء فقال [ إن الله عز و جل قد أثنى عليكم في الطهور خيرا أفلا تخبروني ؟ ] يعني قوله { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فقالوا يا رسول الله إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة الاستنجاء بالماء
وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ورواه عبد الرزاق عن معمر الزهري عن عروة بن الزبير وقال عطية العوفي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن البصري ونقله البغوي عن سعيد بن جبير وقتادة وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى وهذا صحيح ولا منافاة بين الاية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بطريق الأولى والأحرى ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا ] تفرد به أحمد
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الاخر هو مسجد قباء فأتيا النبي صلى الله عليه و سلم فسألاه فقال : [ هو مسجدي هذا ] تفرد به أحمد أيضا
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا ليث عن عمران بن أبي أنس عن سعيد بن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال أحدهما هو مسجد قباء وقال الاخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هو مسجدي هذا ] تفرد به أحمد
( طريق أخرى ) قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا ليث حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد عن أبيه أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل هو مسجد قباء وقال الاخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هو مسجدي ] وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث وصححه الترمذي ورواه مسلم كما سيأتي
( طريق أخرى ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن أنيس بن أبي يحيى حدثني أبي قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى فقال الخدري هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال العمري هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألاه عن ذلك فقال : [ هو هذا المسجد ] لمسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال في ذلك يعني مسجد قباء
( طريق أخرى ) قال الإمام أحمد : قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حميد الخراط المدني سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال إني أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه فقلت : يا رسول الله أين المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال : [ هو مسجدكم هذا ] ثم قال سمعت أباك يذكره رواه مسلم منفردا به عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد به ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط به وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من السلف والخلف وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب واختاره ابن جرير وقوله : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء والتنزه عن ملابسة القاذورات
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فيها فأوهم فلما انصرف قال : [ إنه يلبس علينا القرآن إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء ] ثم رواه من طريقين آخرين عن عبد الملك بن عمير عن شبيب أبي روح من ذي الكلاع أنه صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم فذكره فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها وقال أبو العالية في قوله تعالى : { والله يحب المطهرين } إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المطهرون من الذنوب وقال الأعمش التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك وقد ورد في الحديث المروي من طرق في السنن وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأهل قباء : [ قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون ؟ ] فقالوا نستنجي بالماء وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال : وجدته في كتاب أبي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية في أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } فسألهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا إنا نتبع الحجارة بالماء رواه البزار ثم قال : تفرد به محمد بن عبد العزيز عن الزهري ولم يرو عنه سوى ابنه { قلت } وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء ولم يعرفه كثير من المحدثين المتأخرين أو كلهم والله أعلم (2/510)
يقول تعالى لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار أي طرف حفيرة مثاله { في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يصلح عمل المفسدين قال جابر بن عبد الله : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ابن جريج : ذكر لنا أن رجالا حفروا فوجدوا الدخان يخرج منه وكذا قال قتادة وقال خلف بن ياسين الكوفي : رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة رواه ابن جرير رحمه الله وقوله تعالى : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع أورثهم نفاقا في قلوبهم كما أشرب عابدو العجل حبه وقوله : { إلا أن تقطع قلوبهم } أي بموتهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وزيد بن أسلم والسدي وحبيب بن أبي ثابت والضحاك وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف { والله عليم } أي بأعمال خلقه { حكيم } في مجازاتهم عنها من خير وشر (2/514)
يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة وهذا من فضله وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم وقال شمر بن عطية : ما من مسلم إلا ولله عز و جل في عنقه بيعة وفى بها أو مات عليها ثم تلا هذه الاية ولهذا يقال من حمل في سبيل الله بايع الله أي قبل هذا العقد ووفى به وقال محمد بن كعب القرظي وغيره قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم يعني ليلة العقبة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال [ أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ] قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال [ الجنة ] قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } الاية وقوله : { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } أي سواء قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة
ولهذا جاء في الصحيحين [ وتكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وتصديق برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة ] وقوله : { وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن } تأكيد لهذا الوعد وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه الكبار وهي التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقوله : { ومن أوفى بعهده من الله } فإنه لا يخلف الميعاد هذا كقوله : { ومن أصدق من الله حديثا } { ومن أصدق من الله قيلا } ولهذا قال { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم (2/515)
هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة { التائبون } من الذنوب كلها التاركون للفواحش { العابدون } أي القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها وهي الأقوال والأفعال فمن أخص الأقوال الحمد فلهذا قال : { الحامدون } ومن أفضل الأعمال الصيام وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع وهو المراد بالسياحة ههنا ولهذا قال : { السائحون } كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه و سلم بذلك في قوله تعالى : { سائحات } أي صائمات وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة ولهذا قال : { الراكعون الساجدون } وهم مع ذلك ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علما وعملا فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق ولهذا قال : { وبشر المؤمنين } لأن الإيمان يشمل هذا كله والسعادة كل السعادة لمن اتصف به
( بيان أن المراد بالسياحة الصيام ) قال سفيان الثوري : عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال { السائحون } الصائمون وكذا روي عن سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون وكذا قال الضحاك رحمه الله وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا إبراهيم بن يزيد عن الوليد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك بن مزاحم وسفيان بن عيينة وغيرهم أن المراد بالسائحين الصائمون وقال الحسن البصري : { السائحون } الصائمون شهر رمضان وقال أبو عمرو العبدي : { السائحون } الذين يديمون الصيام من المؤمنين وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا حكيم بن حزام حدثنا سليمان عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ السائحون هم الصائمون ] وهذا الموقوف أصح وقال أيضا حدثني يونس عن ابن وهب عن عمر بن الحارث عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال : سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن السائحين فقال [ هم الصائمون ] وهذا مرسل جيد وهذا أصح الأقوال وأشهرها
وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد وهو ما روى أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ] وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة أخبرني عمارة بن غزية أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله والتكبير على كل شرف ] وعن عكرمة أنه قال : هم طلبة العلم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المهاجرون رواهما ابن أبي حاتم وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ] وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { والحافظون لحدود الله } قال القائمون بطاعة الله وكذا قال الحسن البصري وعنه رواية { الحافظون لحدود الله } قال : لفرائض الله وفي رواية القائمون على أمر الله (2/516)
قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه و سلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال [ أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله عز و جل ] فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال : أنا على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ] فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } قال ونزلت فيه { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } أخرجاه وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الاية قال لما مات فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل أو هو في الحديث لما مات ( قلت ) : هذا ثابت عن مجاهد أنه قال لما مات وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ونحن في سفر فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال : يا رسول الله مالك ؟ قال [ إني سألت ربي عز و جل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي فدمعت عيناي رحمة لها من النار وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها لتذكركم زيارتها خيرا ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا وأمسكوا ما شئتم ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرا ]
وروى ابن جرير من حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم مكة أتى رسم قبر فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت قال : [ إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي ] فما رئي باكيا أكثر من يومئذ وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي حدثنا خالد بن خداش حدثنا عبد الله بن وهب عن ابن جريج عن أيوب بن هانىء عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب فدعاه ثم دعانا فقال [ ما أبكاكم ؟ ] فقلنا بكينا لبكائك قال : [ إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي ] ثم أورده من وجه آخر ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه وفيه [ وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل علي { ما كان للنبي والذين آمنوا } الاية فأخذني ما يأخذ الولد للوالد وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الاخرة ]
( حديث آخر ) في معناه قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم فذهب فنزل على قبر أمه فناجى ربه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه وبكى هؤلاء لبكائه وقالوا ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أحدث الله في أمته شيئا لا تطيقه فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم فقال : [ ما يبكيكم ؟ ] قالوا يا نبي الله بكينا لبكائك فقلنا لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه قال : [ لا وقد كان بعضه ولكن نزلت على قبر أمي فسألت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبى الله أن يأذن لي فرحمتها وهي أمي فبكيت ثم جاءني جبريل فقال : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه فرحمتها وهي أمي ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين ودعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج ] وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كداء وكانت عسفان لهم وهذا حديث غريب وسياق عجيب وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللاحق بسند مجهول عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت وكذلك ما رواه السهيلي في الروض بسند فيه جماعة مجهولون : إن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به وقد قال الحافظ ابن دحية في هذا الاستدلال بما حاصله أن هذه حياة جديدة كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى علي العصر قال الطحاوي : وهو حديث ثابت يعني حديث الشمس قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا قال وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب فآمن به ( قلت ) وهذا كله متوقف على صحة الحديث فإذا صح فلا مانع منه والله أعلم
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الاية أن النبي صلى الله عليه و سلم أراد أن يستغفر لأمه فنهاه الله عز و جل عن ذلك فقال [ إن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه ] فأنزل الله { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } الاية وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية كانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الاية فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } الاية وقال قتادة في الاية : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : قالوا : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ بلى والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه ] فأنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } حتى بلغ قوله { الجحيم } ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام فقال : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } الاية قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : [ قد أوحى الله إلي كلمات فدخلن في أذني وقرن في قلبي : أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركا ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ومن أمسك فهو شر له ولا يلوم الله على كفاف ]
وقال الثوري عن الشيباني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مات رجل يهودي وله ابن مسلم فلم يخرج معه فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حيا فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } لم يدع ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي الله عنه لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله : إن عمك الشيخ الضال قد مات قال : [ اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني ] فذكر تمام الحديث وروي أنه صلى الله عليه و سلم لما مرت به جنازة عمه أبي طالب قال : [ وصلتك رحمة يا عم ] وقال عطاء بن أبي رباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين يقول الله عز و جل : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الاية
وروى ابن جرير عن ابن وكيع عن أبيه عن عصمة بن زامل عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه قلت ولأبيه قال لا قال إن أبي مات مشركا وقوله : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وفي رواية لما مات تبين له أنه عدو لله وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم رحمهم الله وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير : إنه يتبرأ منه يوم القيامة حتى يلقى أباه وعلى وجه أبيه القترة والغبرة فيقول : يا إبراهيم إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك فيقول أي رب ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقال انظر إلى ما وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ أي قد مسخ ضبعا ثم يسحب بقوائمه ويلقى في النار وقوله : { إن إبراهيم لأواه حليم } قال سفيان الثوري وغير واحد : عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود أنه قال الأواه الدعاء وكذا روي من غير وجه : عن ابن مسعود وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا الحجاج بن منهال حدثني عبد الحميد بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : بينما النبي صلى الله عليه و سلم جالس قال : رجل يا رسول الله ما الأواه ؟ قال : [ المتضرع ] قال : { إن إبراهيم لأواه حليم } ورواه ابن أبي حاتم : من حديث ابن المبارك عن عبد الحميد بن بهرام به ولفظه قال الأواه المتضرع الدعاء وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي الغدير أنه سأل ابن مسعود عن الأواه فقال هو الرحيم وبه قال مجاهد وأبو ميسرة عمر بن شرحبيل والحسن البصري وقتادة وغيرهما أي الرحيم أي بعباد الله
وقال ابن المبارك عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : الأواه الموقن بلسان الحبشة وكذا قال العوفي عن ابن عباس أنه الموقن وكذا قال مجاهد والضحاك وقال علي بن أبي طلحة ومجاهد عن ابن عباس : الأواه المؤمن زاد علي بن أبي طلحة عنه : هو المؤمن التواب وقال العوفي عنه هو المؤمن بلسان الحبشة وكذا قال ابن جريج هو المؤمن بلسان الحبشة
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرجل يقال له ذو البجادين [ إنه أواه ] وذلك أنه رجل كان إذا ذكر الله في القرآن رفع صوته بالدعاء ورواه ابن جرير وقال سعيد بن جبير والشعبي : الأواه المسبح وقال ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه وقال شفي بن مانع عن أبي أيوب الأواه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها وعن مجاهد الأواه الحفيظ الوجل يذنب الذنب سرا ثم يتوب منه سرا ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم رحمه الله وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا المحاربي عن حجاج عن الحكم عن الحسن بن مسلم بن بيان أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال [ إنه أواه ]
وقال أيضا : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن هانىء حدثنا المنهال بن خليفة عن حجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم دفن ميتا فقال : [ رحمك الله إن كنت لأواها ] يعني تلاء للقرآن وقال شعبة عن أبي يونس الباهلي قال سمعت رجلا بمكة وكان أصله روميا وكان قاصا يحدث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : أوه أوه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ إنه أواه ] قال : فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح هذا حديث غريب رواه ابن جرير وروي عن كعب الأحبار أنه قال : سمعت { إن إبراهيم لأواه } قال كان إذا ذكر النار قال : أوه من النار وقال ابن جريج عن ابن عباس { إن إبراهيم لأواه } قال : فقيه قال الإمام أبو جعفر بن جرير : وأولى الأقوال قول من قال إنه الدعاء وهو المناسب للسياق وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا } فحلم عنه مع أذاه له ودعا له واستغفر ولهذا قال تعالى : { إن إبراهيم لأواه حليم } (2/517)
يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل : إنه لا يضل قوما بعد إبلاغ الرسالة إليهم حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة كما قال تعالى : { وأما ثمود فهديناهم } الاية وقال مجاهد في قوله تعالى : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم } الاية قال بيان الله عز و جل للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وفي بيانه لهم من معصيته وطاعته عامة فافعلوا أو ذروا وقال ابن جرير : يقول الله تعالى وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا فأما قبل أن يبين لكم كراهة ذلك بالنهي عنه فلم تضيعوا نهيه إلى ما نهاكم عنه فإنه لا يحكم عليه بالضلال فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه
وقوله تعالى : { إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } قال ابن جرير هذا تحريض من الله تعالى لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر وأن يثقوا بنصر الله مالك السموات والأرض ولا يرهبوا من أعدائه فإنه لا ولي لهم من دون الله ولا نصير لهم سواه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أصحابه إذ قال لهم : [ هل تسمعون ما أسمع ؟ ] قالوا ما نسمع من شيء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم ] وقال كعب الأحبار : ما من موضع خرم إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها يرفع علم ذلك إلى الله وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مخه مسيرة مائة عام (2/521)
قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الاية في غزوة تبوك وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مجدبة وحر شديد وعسر من الزاد والماء قال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد أصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عتبة بن أبي عتبة عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله عز و جل قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا فقال [ تحب ذلك ؟ ] قال نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت فملؤا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر وقال ابن جرير : في قوله { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } أي من النفقة والطهر والزاد والماء { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } أي عن الحق ويشك في دين الرسول صلى الله عليه و سلم ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم { ثم تاب عليهم } يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه { إنه بهم رؤوف رحيم } (2/521)
قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله عن عمه محمد بن مسلم الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فقال كعب بن مالك : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة غزاها قط إلا في غزاة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه و سلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز واستقبل عدوا كثيرا فخلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فأخبرهم وجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز و جل وغزا رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه و سلم والمؤمنون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذره الله عز و جل ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : [ ما فعل كعب بن مالك ] فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي [ تعال ] فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : [ ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرا ] فقلت يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز و جل والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ] فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت إلا أن تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بما اعتذر به المتخلفون فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه و سلم لك قال : فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي قال ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت فمن هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة قال : فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت قال فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فسكت فقال الله ورسوله أعلم
قال ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فإذا فيه : أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك قال : فقلت حين قرأته وهذا أيضا من البلاء قال : فتيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتيني يقول : يأمرك رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : بل اعتزلها ولا تقربها قال وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال [ لا ولكن لا يقربنك ] قالت وإنه والله ما به من حركة إلى شيء وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب
قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال : ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك قال : فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز و جل بالتوبة علينا فآذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك يومئذ غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه و سلم وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنوني بتوبة الله يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس في المسجد والناس حوله فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وهو يبرق وجهه من السرور [ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ] قال : قلت أمن عندك رسول الله أم من عند الله ؟ قال [ لا بل من عند الله ] قال وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال [ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ] قال : فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله : إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال : فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن مما أبلاني الله تعالى والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله عز و جل فيما بقي
( قال ) وأنزل الله تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } إلى آخر الايات قال كعب : فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله تعالى : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } قال : وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه فلذلك قال عز و جل { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } وليس تخليفه إيانا وارجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه
هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم من حديث الزهري بنحوه فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الاية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها كما رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } قال : هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد وكلهم قال مرارة بن ربيعة وكذا في مسلم ابن ربيعة في بعض نسخه وفي بعضها مرارة بن الربيع وفي رواية عن الضحاك مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب وقوله فسموا رجلين شهدا بدرا قيل إنه خطأ من الزهري فإنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا والله أعلم
ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي مع سعتها فسدت عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون فصبروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في تخلفهم وأنه كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم ولهذا قال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ] أخرجاه في الصحيحين وقال شعبة عن عمرو بن مرة : سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل اقروءا إن شئتم { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } هكذا قرأها ثم قال فهل تجدون لأحد فيه رخصة وعن عبد الله بن عمرو في قوله { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } قال مع محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه وقال الضحاك مع أبي بكر وعمر وأصحابهما وقال الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة (2/522)
يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر لأنهم { لا يصيبهم ظمأ } وهو العطش { ولا نصب } وهو التعب { ولا مخمصة } وهي المجاعة { ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار } أي ينزلون منزلا يرهب عدوهم { ولا ينالون } منه ظفرا وغلبة عليه { إلا كتب لهم } بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالا صالحة وثوابا جزيلا { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } كقوله { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } (2/526)
يقول تعالى : { ولا ينفقون } هؤلاء الغزاة في سبيل الله { نفقة صغيرة ولا كبيرة } أي قليلا ولا كثيرا { ولا يقطعون واديا } أي في السير إلى الأعداء { إلا كتب لهم } ولم يقل ههنا به لأن هذه أفعال صادرة عنهم ولهذا قال : { ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من هذه الاية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة كما قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا أبو موسى الغنزي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني سليمان بن المغيرة حدثني الوليد بن أبي هشام عن فرقد أبي طلحة عن عبد الرحمن بن خباب السلمي قال : خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها قال ثم حث فقال عثمان : علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث فقال عثمان بن عفان : علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها قال : فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بيده هكذا يحركها وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب [ ما على عثمان ما عمل بعد هذا ] وقال عبد الله أيضا : حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة حدثنا عبد الله بن شوذب عن عبد الله بن القاسم عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة عن عبد الرحمن بن سمرة قال : جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه و سلم بألف دينار في ثوبه حتى جهز النبي صلى الله عليه و سلم جيش العسرة قال : فصبها في حجر النبي صلى الله عليه و سلم فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم يقلبها بيده ويقول : [ ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم ] يرددها مرارا وقال قتادة في قوله تعالى : { ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم } الاية ما ازداد قوم في سبيل الله بعدا من أهليهم إلا ازدادوا قربا من الله (2/526)
هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فإنه قد ذهبت طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهذا قال تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } وقال { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } الاية قال فنسخ ذلك بهذه الاية وقد يقال إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين وبعده صلى الله عليه و سلم تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد فإنه فرض كفاية على الأحياء وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه و سلم وحده { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النبي صلى الله عليه و سلم وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخرى فذلك قوله : { ليتفقهوا في الدين } يقول : ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم { لعلهم يحذرون } وقال مجاهد : نزلت هذه الاية في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم : ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا ؟ فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه و سلم فقال الله عز و جل : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } يبغون الخير { ليتفقهوا في الدين } وليستمعوا ما في الناس وما أنزل الله فعذرهم { ولينذروا قومهم } الناس كلهم إذا رجعوا إليهم { لعلهم يحذرون } وقال قتادة في الاية : هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم الجيوش أمرهم الله أن يغزوا بنبيه صلى الله عليه و سلم وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم تتفقه في الدين وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم
وقال الضحاك : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار وكان إذا قام وأسرى السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه وكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن وتلاه نبي الله صلى الله عليه و سلم على أصحابه القاعدين معه فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين وهو قوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } يقول إذا أقام رسول الله { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله صلى الله عليه و سلم قاعد ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس في الاية قوله { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } إنها ليست في الجهاد ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجهدوهم فأنزل الله تعالى يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين فردهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله : { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } الاية
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية : كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى الله عليه و سلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتقفهون في دينهم ويقولون للنبي صلى الله عليه و سلم : ما تأمرنا أن نفعله ؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا قدمنا عليهم قال فيأمرهم نبي الله صلى الله عليه و سلم بطاعة الله ورسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة وكانوا إذا أتوا قومهم قالوا : إن من أسلم فهو منا وينذرونهم حتى إن الرجل ليفارق أباه وأمه وكان النبي صلى الله عليه و سلم يخبرهم وينذرهم قومهم فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة وقال عكرمة لما نزلت هذه الاية { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } و { ما كان لأهل المدينة } الاية قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم فأنزل الله عز و جل { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } الاية ونزلت { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } وقال الحسن البصري في الاية : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم (2/527)
أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتال المشركين في جزيرة العرب فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضرموت وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا شرع في قتال أهل الكتاب فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لأنهم أهل الكتاب فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوما فاختاره الله لما عنده وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل فثبته الله تعالى به فوطد القواعد وثبت الدعائم ورد شارد الدين وهو راغم ورد أهل الردة إلى الإسلام وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغاة وبين الحق لمن جهله وأدى عن الرسول ما حمله ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان وإلى الفرس عبدة النيران ففتح الله ببركة سفارته البلاد وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر بذلك رسول الله وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده وولي عهده الفاروق الأواب شهيد المحراب أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين وقمع الطغاة والمنافقين واستولى على الممالك شرقا وغربا وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدا وقربا ففرقها على الوجه الشرعي والسبيل المرضي ثم لما مات شهيدا وقد عاش حميدا أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار
فكسى الإسلام رياسته حلة سابغة وامتدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وعلت كلمة الله وظهر دينه وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار امتثالا لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } وقوله تعالى : { وليجدوا فيكم غلظة } أي وليجد الكفار منكم غلظة في قتالكم لهم فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن غليظا على عدوه الكافر كقوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } وقوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } وقوله تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أنا الضحوك القتال ] يعني أنه ضحوك في وجه وليه قتال لهامة عدوه وقوله : { واعلموا أن الله مع المتقين } أي قاتلوا الكفار وتوكلوا على الله واعلموا أن الله معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم ولم تزل الفتوحات كثيرة ولم تزل الأعداء في سفال وخسار ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في أطراف البلاد وتقدموا إليها فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام ولله الأمر من قبل ومن بعد فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله وتوكل على الله فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسبه وبقدر ما فيه من ولاية الله والله المسؤول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم إنه جواد كريم (2/528)
يقول تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة } فمن المنافقين { من يقول أيكم زادته هذه إيمانا } أي يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا قال الله تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وهذه الاية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول شرح البخاري رحمه الله { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } أي زادتهم شكا إلى شكهم وريبا إلى ريبهم كما قال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء } الاية وقوله تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم كما أن سيء المزاج لو غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا (2/530)
يقول : تعالى أو لا يرى هؤلاء المنافقون { أنهم يفتنون } أي يختبرون { في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } أي لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم قال مجاهد يختبرون بالسنة والجوع وقال قتادة بالغزو في السنة مرة أو مرتين وقال شريك عن جابر : هو الجعفي عن أبي الضحى عن حذيفة في قوله : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين فيضل بها فئام من الناس كثير رواه ابن جرير وفي الحديث عن أنس : لا يزداد الأمر إلا شدة ولا يزداد الناس إلا شحا وما من عام إلا والذي بعده شر منه سمعته من نبيكم صلى الله عليه و سلم وقوله : { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه و سلم { نظر بعضهم إلى بعض } أي تلفتوا { هل يراكم من أحد ثم انصرفوا } أي تولوا عن الحق وانصرفوا عنه وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه كقوله تعالى : { فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة } وقوله تعالى : { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين } أي ما لهؤلاء القوم يتفللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق وذهابا إلى الباطل وقوله : { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم } كقوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } { بأنهم قوم لا يفقهون } أي لا يفهمون عن الله خطابه ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه بل هم في شغل عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه (2/530)
يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه السلام : { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } وقال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وقال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } أي منكم وبلغتكم كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته وذكر الحديث وقال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقال صلى الله عليه و سلم [ خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ] وقد وصل هذا من وجه آخر كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد حدثنا ابن أبي عمر حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي لحدثني عن أبيه عن جده عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء ] وقوله تعالى : { عزيز عليه ما عنتم } أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : [ بعثت بالحنيفية السمحة ] وفي الصحيح [ إن هذا الدين يسر وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه ] { حريص عليكم } أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن فطن عن أبي الطفيل عن أبي ذر قال : تركنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما قال : وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ] وقال الإمام أحمد : حدثنا فطن حدثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن عبدة الهذلي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه ملكان فيما يرى النائم فقعد أحدهما عند رجليه والاخر عند رأسه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته فقال : إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ فقالوا بلى فقال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني فقالت طائفة صدق والله لنتبعه وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستعينه في شيء قال عكرمة : أراه قال في دم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا ثم قال : [ أحسنت إليك ] قال الأعرابي لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم أن كفوا فلما قام رسول الله صلى الله عليه و سلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال : [ إنك إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت ] فزاده رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا وقال : [ أحسنت إليك ؟ ] فقال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم ] فقال : نعم فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن صاحبكم كان جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي كذلك يا أعرابي ؟ ] فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار ] رواه البزار ثم قال لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ( قلت ) وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان والله أعلم وقوله : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } كقوله { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم } وهكذا أمره تعالى في هذه الاية الكريمة وهي قوله تعالى { فإن تولوا } أي تولوا عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة { فقل حسبي الله لا إله إلا هو } أي الله كافي لا إله إلا هو عليه توكلت كما قال تعالى : { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } { وهو رب العرش العظيم } أي هو مالك كل شيء وخالقه لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى وعلمه محيط بكل شيء وقدره نافذ في كل شيء وهو على كل شيء وكيل قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا بشر بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت من القرآن هذه الاية { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر السورة وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا روح بن عبد المؤمن حدثنا عمر بن شقيق حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنهم أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الاية من سورة براءة { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم } الاية فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقرأني بعدها آيتين { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر السورة قال هذا آخر ما نزل من القرآن فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وهذا غريب أيضا
وقال أحمد حدثنا علي بن بحر حدثنا علي بن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الايتين من آخر براءة { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى عمر بن الخطاب فقال : من معك على هذا ؟ قال : لا أدري والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه و سلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة وقد تقدم الكلام أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن فأمر زيد بن ثابت فجمعه وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك وفي الصحيح أن زيدا قال : فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عند رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها والله أعلم وقد روى أبو داود عن يزيد بن محمد عن عبد الرزاق بن عمر ـ وقال كان من ثقات المسلمين من المتعبدين عن مدرك بن سعد قال يزيد شيخ ثقة عن يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات إلا كفاه الله ما أهمه وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عبد الرزاق عن عمر هذا من رواية أبي زرعة الدمشقي عنه عن أبي سعد مدرك بن أبي سعد الفزاري عن يونس بن ميسرة بن حليس عن أم الدرداء سمعت أبا الدرداء يقول : ما من عبد يقول : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات صادقا كان بها أو كاذبا إلا كفاه الله ما أهمه وهذه زيادة غريبة ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق عن جده عبد الرزاق بن عمر بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة وهذا منكر والله أعلم (2/531)
سورة يونس
بسم الله الرحمن الرحيم (2/534)
أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة وقال أبو الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى : { الر } أي أنا الله أرى وكذلك قال الضحاك وغيره { تلك آيات الكتاب الحكيم } بياض في الأصل أي هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } وقال الحسن : التوراة والزبور وقال قتادة : { تلك آيات الكتاب } قال الكتب التي كانت قبل القرآن وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه وقوله { أكان للناس عجبا } الاية يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم : { أبشر يهدوننا } وقال هود وصالح لقومهما : { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } وقال الضحاك عن ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد قال فأنزل الله عز و جل { أكان للناس عجبا } الاية وقوله : { أن لهم قدم صدق عند ربهم } اختلفوا فيه فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق } يقول سبقت لهم السعادة في الذكر الأول وقال العوفي عن ابن عباس { أن لهم قدم صدق عند ربهم } يقول : أجرا حسنا بما قدموا وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا كقوله تعالى : { لينذر بأسا شديدا } الاية وقال مجاهد { أن لهم قدم صدق عند ربهم } قال الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم قال : ومحمد صلى الله عليه و سلم يشفع لهم وكذا قال زيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقال قتادة سلف صدق عند ربهم واختار ابن جرير قول مجاهد أن الأعمال الصالحة التي قدموها كما يقال له قدم في الإسلام كقول حسان :
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقول ذي الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر وقوله تعالى : { قال الكافرون إن هذا لساحر مبين } أي مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم رجلا من جنسهم بشيرا ونذيرا { قال الكافرون إن هذا لساحر مبين } أي ظاهر وهم الكاذبون في ذلك (2/534)
يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام قيل كهذه الأيام وقيل كل يوم كألف سنة مما تعدون كما سيأتي بيانه ثم على استوى العرش والعرش أعظم المخلوقات وسقفها قال ابن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا أبو أسامة حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال سمعت سعدا الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء وقال وهب بن منبه خلقه الله من نوره وهذا غريب وقوله : { يدبر الأمر } أي يدبر أمر الخلائق { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } ولا يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير في الجبال والبحار والعمران والقفار { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } الاية
{ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } وقال الدراوردي عن سعد بن إسحاق بن كعب أنه قال حين نزلت هذه الاية { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } الاية لقيهم ركب عظيم لا يرون إلا أنهم من العرب فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا : من الجن خرجنا من المدينة أخرجتنا هذه الاية رواه ابن أبي حاتم وقوله : { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } كقوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وكقوله تعالى : { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقوله { ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون } أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له { أفلا تذكرون } أي أيها المشركون في أمركم تعبدون مع الله إلها غيره وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق كقوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } وقوله : { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون } وكذا الاية التي قبلها والتي بعدها (2/534)
يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } أي بالعدل والجزاء الأوفى { والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم { هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج } { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن } (2/535)
يخبر تعالى عما خلق من الايات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وجعل شعاع القمر نورا هذا فن وهذا فن آخر ففاوت بينهما لئلا يشتبها وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل وقدر القمر منازل فأول ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر كقوله تعالى : { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } وقوله تعالى : { والشمس والقمر حسبانا } الاية وقوله في هذه الاية الكريمة : { وقدره } أي القمر { منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } فبالشمس تعرف الأيام وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } أي لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة كقوله تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } وقال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } وقوله : { نفصل الآيات } أي نبين الحجج والأدلة { لقوم يعلمون } وقوله : { إن في اختلاف الليل والنهار } أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا وإذا ذهب هذا جاء هذا لا يتأخر عنه شيئا كقوله تعالى : { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا } وقال : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } الاية
وقال تعالى : { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا } الاية وقوله : { وما خلق الله في السموات والأرض } أي من الايات الدالة على عظمته تعالى كما قال : { وكأين من آية في السموات والأرض } الاية وقوله : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } وقال : { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } وقال : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } أي العقول وقال ههنا { لآيات لقوم يتقون } أي عقاب الله وسخطه وعذابه (2/535)
يقول تعالى مخبرا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئا ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها والشرعية فلا يأتمرون بها فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الاثام والخطايا والإجرام مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الاخر (2/536)
هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم يحتمل أن تكون الباء ههنا سببية فتقديره بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد في قوله : { يهديهم ربهم بإيمانهم } قال : يكون لهم نورا يمشون به وقال ابن جريج في الاية : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك فيجعل له نورا من بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله تعالى : { يهديهم ربهم بإيمانهم } والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلزم صاحبه ويلازه حتى يقذفه في النار وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم وقوله : { دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } أي هذا حال أهل الجنة قال ابن جريج أخبرت بأن قوله : { دعواهم فيها سبحانك اللهم } قال : إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا سبحانك اللهم وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه فيسلم عليهم فيردون عليه فذلك قوله : { وتحيتهم فيها سلام } قال فإذا أكلوا حمدوا الله فذلك قوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }
وقال مقاتل بن حيان : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم { سبحانك اللهم } قال فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى قال فيأكل منهن كلهن وقال سفيان الثوري : إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال { سبحانك اللهم } وهذه الاية فيها شبه من قوله : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } الاية وقوله : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما } وقوله : { سلام قولا من رب رحيم } وقوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم } الاية وقوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا المعبود على طول المدى ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله حيث يقول تعالى : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وأنه المحمود في الأولى والاخرة في الحياة الدنيا وفي الاخرة وفي جميع الأحوال ولهذا جاء في الحديث : إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد فلا إله إلا هو ولا رب سواه (2/536)
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب له إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم وأنه يعلم منهم عدم القصد بالشر إلى إرادة ذلك فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء ولهذا قال : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } الاية أي لو استجاب لهم كلما دعوه به في ذلك لأهلكهم ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا محمد بن معمر حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد حدثنا جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم ] ورواه أبو داود من حديث حاتم بن إسماعيل به وقال البزار وتفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري لم يشاركه أحد فيه وهذا كقوله تعالى : { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير } الاية وقال مجاهد في تفسير هذه الاية { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } الاية هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنه فلو يعجل لهم بالاستجابة في ذلك ما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم (2/537)
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الشر كقوله : { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } أي كثير وهما في معنى واحد وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها وأكثر الدعاء عند ذلك فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله فإذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء { مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال : { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك كقوله تعالى : { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات } وكقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن اصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ] (2/538)
أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له واتباعهم رسوله وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء ] وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد أنبأنا حماد عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلي من السماء فانتشط رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أعيد فانتشط أبو بكر ثم ذرع الناس حول المنبر ففضل عمر بثلاثة أذرع حول المنبر فقال عمر : دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها فلما استخلف عمر قال : يا عوف رؤياك ؟ قال وهل لك في رؤياي من حاجة أو لم تنتهرني ؟ قال ويحك إني كرهت أن تنعي لخليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه فقص عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع قال : أما إحداهن فإنه كان خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم وأما الثلاثة فإنه شهيد قال : فقال يقول الله تعالى : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل ؟ وأما قوله فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله وأما قوله : { شهيد } فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به ؟ (2/538)
يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى الله عليه و سلم كتاب الله وحجته الواضحة قالوا له : ائت بقرآن غير هذا أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } أي ليس هذا إلي إنما أنا عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله { إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به } أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز و جل لا تنتقدون علي شيئا تغمصوني به ولهذا قال : { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون } أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه و سلم قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان فقلت لا وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة وعن سعيد بن المسيب ثلاثا وأربعين سنة والصحيح المشهور الأول (2/539)
يقول تعالى لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما { ممن افترى على الله كذبا } وتقول على الله وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك فليس أحد أكبر جرما ولا أعظم ظلما من هذا ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه و سلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه و سلم وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي
قال عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب قال : فكان أول ما سمعته يقول : [ يا أيها الناس افشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلون الجنة بسلام ] ولما قدم وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه و سلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله فيما قال له من رفع هذه السماء ؟ قال : [ الله ] قال : ومن نصب هذه الجبال قال [ الله ] قال : ومن سطح هذه الأرض ؟ قال : [ الله ] قال : فبالذي رفع السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض الله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ قال : [ اللهم نعم ] ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين ويحلف له رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : صدقت والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا وقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه وقال حسان بن ثابت :
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة بأقواله الركيكة التي ليست فصيحة وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة وكم من فرق بين قوله تعالى { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } إلى آخرها وبين قول مسيلمة قبحه الله ولعنه يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين وقوله قبحه الله لقد أنعم الله على الحبلى إذ أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى وقوله خلده الله في نار جهنم وقد فعل : الفيل وما أدراك ما الفيل له خرطوم طويل وقوله أبعده الله عن رحمته : والعاجنات عجنا والخابزات خبزا واللاقمات لقما إهالة وسمنا إن قريشا قوم يعتدون إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يلفظوا بها إلا على وجه السخرية والاستهزاء ولهذا أرغم الله أنفه وشرب يوم حديقة الموت حتفه ومزق شمله ولعنه صحبه وأهله وقدموا على الصديق تائبين وجاءوا في دين الله راغبين فسألهم الصديق خليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنه أن يقرأوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرأوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم فقرأوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه فلما فرغوا قال لهم الصديق رضي الله عنه : ويحكم أين كان يذهب بعقولكم ؟ والله إن هذا لم يخرج من إل
وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة وكان صديقا له في الجاهلية وكان عمرو لم يسلم بعد فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه المدة ؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرأون سورة عظيمة قصيرة فقال : وما هي ؟ فقال { والعصر * إن الإنسان لفي خسر } إلى آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال وأنا قد أنزل علي مثله فقال وما هو فقال يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه و سلم وصدقه وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه فكيف بأولي البصائر والنهى وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجا ولهذا قال تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } وقال في هذه الاية الكريمة { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون } وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وقامت عليه الحجج لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث [ أعتى الناس على الله رجل قتل نبيا أو قتله نبي ] (2/539)
ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الالهة تنفعهم شفاعتها عند الله فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبدا ولهذا قال تعالى : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } وقال ابن جرير : معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض ؟ ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال : { سبحانه وتعالى عما يشركون } ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } وقوله : { ولولا كلمة سبقت من ربك } الاية أي لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين (2/541)
أي يقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون : لولا أنزل على محمد آية من ربه يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة أو أن يحول لهم الصفا ذهبا أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا أو نحو ذلك مما الله عليه قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله كما قال تعالى : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا } وكقوله : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } الاية يقول تعالى : إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة ولهذا لما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عذبوا وبين إنظارهم اختار إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه صلى الله عليه و سلم إلى الجواب عما سألوا : { فقل إنما الغيب لله } أي الأمر كله لله وهو يعلم العواقب في الأمور
{ فانتظروا إني معكم من المنتظرين } اي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته صلى الله عليه و سلم أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنتين فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه وهذا أعظم من سائر الايات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبيتا لأجابهم ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا فتركهم فيما رابهم وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد كقوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية } الاية وقوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } الاية ولما فيهم من المكابرة كقوله تعالى : { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء } الاية وقوله تعالى : { وإن يروا كسفا من السماء ساقطا } الاية وقال تعالى : { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه لأنه لا فائدة في جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم ولهذا قال : { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } (2/541)
يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة والخصب بعد الجدب والمطر بعد القحط ونحو ذلك { إذا لهم مكر في آياتنا } قال مجاهد : استهزاء وتكذيب كقوله : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما } الاية وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم الصبح على أثر سماء كانت من الليل أي مطر ثم قال : [ هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ ] قالوا : الله ورسوله أعلم قال : [ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب ] وقوله : { قل الله أسرع مكرا } أي أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحصونه عليه ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على الجليل والحقير والنقير والقطمير
ثم أخبر تعالى أنه { هو الذي يسيركم في البر والبحر } أي يحفظكم ويكلؤكم بحراسته { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها } أي بسرعة سيرهم رافقين فبينما هم كذلك إذ { جاءتها } أي تلك السفن { ريح عاصف } أي شديدة { وجاءهم الموج من كل مكان } أي اغتلم البحر عليهم { وظنوا أنهم أحيط بهم } أي هلكوا { دعوا الله مخلصين له الدين } أي لا يدعون معه صنما ولا وثنا بل يفردونه بالدعاء والابتهال كقوله تعالى : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } وقال ههنا : { دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه } أي هذه الحال { لنكونن من الشاكرين } أي لا نشرك بك أحدا ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء ههنا قال الله تعالى : { فلما أنجاهم } أي من تلك الورطة { إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } أي كأن لم يكن من ذلك شيء { كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } ثم قال تعالى : { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم كما جاء في الحديث [ ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الاخرة من البغي وقطيعة الرحم ] وقوله : { متاع الحياة الدنيا } أي إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة { ثم إلينا مرجعكم } أي مصيركم ومآلكم { فننبئكم } أي فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه (2/542)
ضرب تبارك وتعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء أنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } أي زينتها الفانية { وازينت } أي حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان { وظن أهلها } الذين زرعوها وغرسولها { أنهم قادرون عليها } أي على جذاذها وحصادها فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها ولهذا قال تعالى : { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا } أي يابسا بعد الخضرة والنضارة { كأن لم تغن بالأمس } أي كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك وقال قتادة : كأن لم تغن كأن لم تنعم وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن
ولهذا جاء في الحديث [ يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول لا ] وقال تعالى إخبارا عن المهلكين : { فأصبحوا في دارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها } ثم قال تعالى : { كذلك نفصل الآيات } أي نبين الحجج والأدلة { لقوم يتفكرون } فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع اغترارهم بها وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها وتفلتها عنهم فإن من طبعها الهرب ممن طلبها والطلب لمن هرب منها وقد ضرب الله تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية من كتابه العزيز فقال في سورة الكهف : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا } وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان يعني ابن الحكم يقرأ على المنبر : وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكهم إلا بذنوب أهلها قال قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس هكذا يقرؤها ابن عباس فأرسلوا إلى ابن عباس فقال هكذا أقرأني أبي بن كعب وهذه قراءة غريبة وكأنها زيدت للتفسير
وقوله تعالى : { والله يدعو إلى دار السلام } الاية لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام أي من الافات والنقائص والنكبات فقال : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } قال أيوب عن أبي قلابة : عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قيل لي لتنم عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني ثم قيل لي : مثلي ومثل ما جئت كمثل سيد بنى دارا ثم صنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ولو يرض عنه السيد والله السيد والدار والإسلام والمأدبة الجنة والداعي محمد صلى الله عليه و سلم ] وهذا الحديث مرسل وقد جاء متصلا من حديث الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال [ إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها ] رواه ابن جرير وقال قتادة : حدثني خليد العصري عن أبي الدرداء مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ] قال وأنزل في قوله يا أيها الناس هلموا إلى ربكم { والله يدعو إلى دار السلام } الاية رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (2/543)
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح : الحسنى في الدار الاخرة كقوله تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } وقوله : { وزيادة } هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم وما أخفاه لهم من قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عفان أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا هذه الاية { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وقال : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : وما هو ألم يثقل موازيننا ؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ـ قال ـ فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم ] وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به
وقال ابن جرير : حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني شبيب عن أبان عن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة ـ بصوت يسمع أولهم وآخرهم ـ إن الله وعدكم الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عز و جل ] ورواه أيضا ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر الهذلي عن أبي تميمة الهجيمي به وقال ابن جرير أيضا حدثنا ابن حميد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج عن عطاء عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } قال [ النظر إلى وجه الرحمن عز و جل ] وقال أيضا حدثنا ابن عبد الرحيم حدثنا عمرو بن أبي سلمة سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية حدثنا أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله عز و جل { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } قال : [ الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عز و جل ] ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير به وقوله تعالى : { ولا يرهق وجوههم قتر } أي قتام وسواد في عرصات المحشر كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة { ولا ذلة } أي هوان وصغار أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر بل هم كما قال تعالى في حقهم : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا } أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين (2/545)
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك عطف بذكر حال الأشقياء فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك { وترهقهم } أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها كما قال : { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل } الاية وقال تعالى : { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رؤوسهم } الايات وقوله : { ما لهم من الله من عاصم } أي مانع ولا واق يقيهم العذاب كقوله تعالى : { يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر } وقوله : { كأنما أغشيت وجوههم } الاية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الاخرة كقوله تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } وقوله تعالى : { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة } الاية (2/546)
يقول تعالى : { ويوم نحشرهم } أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر كقوله : { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } { ثم نقول للذين أشركوا } الاية أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا امتازوا فيه عن مقام المؤمنين كقوله تعالى : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } وقوله : { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } وفي الاية الأخرى { يومئذ يصدعون } أي يصيرون صدعين وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ولهذا قيل ذلك بياض في الأصل يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا وفي الحديث الاخر [ نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس ] وقال الله تعالى في هذه الاية الكريمة إخبارا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة { مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم } الاية أنهم أنكروا عبادتهم وتبرؤوا منهم كقوله : { كلا سيكفرون بعبادتهم } الاية وقوله : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } وقوله : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء } الاية وقوله في هذه الاية إخبارا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم : { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم } الاية أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك
وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده بل تبرأ منهم وقت أحوج ما يكونون إليه وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير القادر على كل شيء العليم بكل شيء وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما سواه كما قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } والمشركون أنواع وأقسام كثيرون قد ذكرهم الله في كتابه وبين أحوالهم وأقوالهم ورد عليهم فيما هم فيه أتم رد وقال تعالى : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر كقوله تعالى : { يوم تبلى السرائر } وقال تعالى : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } وقال تعالى : { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } وقد قرأ بعضهم { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } وفسرها بعضهم بالقراءة وفسرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمت من خير وشر وفسرها بعضهم بحديث [ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ] الحديث وقوله : { وردوا إلى الله مولاهم الحق } أي ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار { وضل عنهم } أي ذهب عن المشركين { ما كانوا يفترون } أي ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه (2/546)
يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية إلاهيته فقال تعالى : { قل من يرزقكم من السماء والأرض } أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته فيخرج منها { حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا } أإله مع الله ؟ فسيقولون الله { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ؟ } وقوله : { أمن يملك السمع والأبصار } أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها كقوله تعالى : { قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار } الاية وقال : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } الاية وقوله : { ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك وأن الاية عامة لذلك كله وقوله : { ومن يدبر الأمر } أي من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون { يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن } فالملك كله العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه عبيد له خاضعون لديه { فسيقولون الله } أي وهم يعلمون ذلك ويعترفون به
{ فقل أفلا تتقون } أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم وقوله : { فذلكم الله ربكم الحق } الاية أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة { فماذا بعد الحق إلا الضلال } أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد لا شريك له { فأنى تصرفون } أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء وقوله : { كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا } الاية أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق المتصرف في الملك وحده الذي بعث رسله بتوحيده فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار كقوله : { قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } (2/547)
وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره وعبدوا من الأصنام والأنداد { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } أي من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشىء ما فيهما من الخلائق ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقا جديدا { قل الله } هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له { فأنى تؤفكون } أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ؟ قل الله يهدي للحق } أي أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال وإنما يهدي الحيارى والضلال ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله الذي لا إله إلا هو { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } أي أفيتبع العبد الذي يهدي إلى الحق ويبصر بعد العمى أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا أن يهدى لعماه وبكمه كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم أنه قال : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } وقال لقومه : { أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون } إلى غير ذلك من الايات وقوله : { فما لكم كيف تحكمون } أي فما بالكم أن يذهب بعقولكم كيف سويتم بين الله وبين خلقه وعدلتم هذا بهذا وعبدتم هذا وهذا وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانا وإنما هو ظن منهم أي توهم وتخيل وذلك لا يغني عنهم شيئا { إن الله عليم بما يفعلون } تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء (2/548)
هذا بيان لإعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والاخرة لا تكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولهذا قال تعالى : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر { ولكن تصديق الذي بين يديه } أي من الكتب المتقدمة ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل وقوله : { وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانا شافيا كافيا حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين كما تقدم في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه وقوله : { أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله وقلتم كذبا ومينا إن هذا من عند محمد فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان
وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاءوا وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود : { أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة : { أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } وكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار } الاية هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ولكن جاءهم من الله مالا قبل لأحد به ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا كما عرف السحرة لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليه السلام لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله وكذلك عيسى عليه السلام بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى فكان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله
ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الايات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا ] وقوله : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } يقول بل كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه { ولما يأتهم تأويله } أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفها { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي من الأمم السالفة { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلما وعلوا وكفرا وعنادا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم وقوله : { ومنهم من يؤمن به } الاية أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به { ومنهم من لا يؤمن به } بل يموت على ذلك ويبعث عليه { وربك أعلم بالمفسدين } أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ؟ ومن يستحق الضلالة فيضله وهو العادل الذي لا يجور بل يعطي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو (2/549)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم { فقل لي عملي ولكم عملكم } كقوله تعالى : { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } إلى آخرها وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين { إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } الاية وقوله : { ومنهم من يستمعون إليك } أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان وفي هذا كفاية عظيمة ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم فإنك لا تقدر على إسماع الأصم وهو الأطرش فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله { ومنهم من ينظر إليك } أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن والخلق العظيم والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنهى وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا } الاية
ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئا وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به من العمى وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وأضل به عن الإيمان آخرين فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته وعدله ولهذا قال تعالى : { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون } وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه عز و جل [ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ـ إلى أن قال في آخره ـ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ] رواه مسلم بطوله (2/550)
يقول تعالى مذكرا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة : { ويوم يحشرهم } الاية كقوله : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } وكقوله : { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وقال تعالى : { يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما } وقال تعالى : { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } الايتين وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الاخرة كقوله : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } وقوله : { يتعارفون بينهم } أي يعرف الأبناء الاباء والقرابات بعضهم لبعض كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم } الاية وقال تعالى : { ولا يسأل حميم حميما } الايات وقوله : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين } كقوله تعالى : { ويل يومئذ للمكذبين } لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة (2/551)
يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه و سلم : { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم { أو نتوفينك فإلينا مرجعهم } أي مصيرهم ومنقلبهم والله شهيد على أفعالهم بعدك وقد قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا داود بن الجارود عن أبي السليل عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عرضت علي أمتي البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها ] فقال رجل : يارسول الله عرض عليك من خلق فكيف من لم يخلق ؟ فقال : [ صوروا لي في الطين حتى أني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه ] ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن زياد بن المنذر عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد به نحوه وقوله : { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم } قال مجاهد : يعني يوم القيامة { قضي بينهم بالقسط } الاية كقوله تعالى : { وأشرقت الأرض بنور ربها } الاية فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها وكتاب أعمالها من خير وشر موضوع شاهد عليهم وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد أمة وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم ويقضي لهم كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ نحن الاخرون السابقون يوم القيامة المقضي يفصل لهم قبل الخلائق ] فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين (2/551)
يقول تعالى مخبرا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل التعيين مما لا فائدة لهم فيه كقوله : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق } أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عينا ولهذا أرشد تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم إلى جوابهم فقال : { قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا } الاية أي لا أقول إلا ما علمني ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه فأنا عبده ورسوله إليكم وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ولم يطلعني على وقتها ولكن { لكل أمة أجل } أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم { فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } كقوله : { ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها } الاية ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة فقال : { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ؟ } أي ليلا أونهارا { ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون } يعني أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا { ربنا أبصرنا وسمعنا } الاية وقال تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } { ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد } أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتا وتقريعا كقوله : { يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } (2/552)
يقول تعالى ويستخبرونك { أحق هو } أي المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا { قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين } أي ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم فـ { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وهذه الاية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } وفي التغابن { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير } ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط } أي بالحق { وهم لا يظلمون } (2/553)
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأن وعده حق كائن لا محالة وأنه يحيي ويميت وإليه مرجعهم وأنه القادر على ذلك العليم بما تفرق من الأجسام وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار (2/553)
يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم } أي زاجر عن الفواحش { وشفاء لما في الصدور } أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس وهدى ورحمة أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه كقوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } وقوله : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } الاية وقوله تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به { هو خير مما يجمعون } أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة كما قال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الاية وذكر بسنده عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول : لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك فجعل عمر يقول الحمد لله تعالى ويقول مولاه هذا والله من فضل الله ورحمته فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته } الاية وهذا مما يجمعون وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني فرواه عن أبي زرعة الدمشقي عن حيوة بن شريح عن بقية فذكره (2/553)
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم : نزلت إنكارا على المشركين فيما كانوا يحللون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل كقوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } الايات وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت أبا الأحوص وهو عوف بن مالك بن نضلة يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا رث الهيئة فقال : [ هل لك مال ؟ قلت نعم قال من أي المال ؟ قال قلت من كل المال من الإبل والرقيق والخيل والغنم فقال : إذا آتاك الله مالا فلير عليك ـ وقال ! هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر وتشق جلودها وتقول هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك قال نعم قال فإن ما آتاك الله لك حل ساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أحد من موساك ] وذكر تمام الحديث
ثم رواه عن سفيان بن عيينة عن أبي الزهراء عمرو بن عمرو عن عمه أبي الأحوص وعن بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الأحوص به وهذا حديث جيد قوي الإسناد وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم بمجرد الاراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال : { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة وقوله : { إن الله لذو فضل على الناس } قال ابن جرير : في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا ( قلت ) ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم { ولكن أكثرهم لا يشكرون } بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم ويضيقون على أنفسهم فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم
وقال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الاية حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا رباح حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا موسى بن الصباح في قوله عز و جل : { إن الله لذو فضل على الناس } قال إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية الله عز و جل فيقومون بين يدي الله عز و جل ثلاثة أصناف قال فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول : عبدي لماذا عملت ؟ فيقول يا رب خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها وحورها ونعيمها وما أعددت لأهل طاعتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليها ـ قال ! فيقول الله تعالى : عبدي إنما عملت للجنة هذه الجنة فادخلها ومن فضلي عليك قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل هو ومن معه الجنة ـ قال ـ ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني فيقول عبدي لماذا عملت فيقول يا رب خلقت نارا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمومها وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها فيقول عبدي إنما عملت ذلك خوفا من ناري فإني قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل هو ومن معه الجنة ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث فيقول عبدي لماذا عملت ؟ فيقول رب حبا لك وشوقا إليك وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك فيقول تبارك وتعالى : عبدي إنما عملت حبا لي وشوقا إلي فيتجلى له الرب جل جلاله ويقول ها أنا ذا فانظر إلي ثم يقول : من فضلي عليك أن أعتقك من النار وأبيحك جنتي وأزيرك ملائكتي وأسلم عليك بنفسي : فيدخل هو ومن معه الجنة (2/554)
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } الاية وقال تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } الاية وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة كما قال تعالى : { وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين } ولهذا قال تعالى : { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } أي إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون ولهذا قال صلى الله عليه و سلم لما سأله جبريل عن الإحسان [ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] (2/555)
يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم فكل من كان تقيا كان لله وليا { فلا خوف عليهم } أي فيما يستقبلونه من أهوال الاخرة { ولا هم يحزنون } على ما وراءهم في الدنيا وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وغير واحد من السلف أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار حدثنا علي بن حرب الرازي حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري وهو القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله من أولياء الله ؟ قال [ الذين إذا رؤوا ذكر الله ] ثم قال البزار وقد روي عن سعيد مرسلا وقال ابن جرير حدثنا أبو هشام الرفاعي حدثنا أبو فضيل حدثنا أبي عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير البجلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء ] قيل من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم ؟ قال : [ هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ] ثم قرأ { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ثم رواه أيضا أبو داود من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم بمثله وهذا أيضا إسناد جيد إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب والله أعلم وفي حديث الإمام أحمد عن أبي النضر عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها يفزع الناس ولايفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] والحديث مطول
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن ذكوان أبي صالح عن رجل عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } قال [ الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ] وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب حدثنا معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء في قوله : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } قال سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الاية فقال : لقد سألت عن شيء ما سمعت أحدا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الاخرة الجنة ] ثم رواه ابن جرير عن سفيان عن ابن المنكدر عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر أنه سأل أبا الدرداء عن هذه الاية فذكر نحو ما تقدم ثم قال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح قال : سمعت أبا الدرداء سئل عن هذه الاية { الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى } فذكر نحوه سواء وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبان حدثنا يحيى عن أبي سلمة عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فقال : [ لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي أو قال أحد قبلك ـ تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له ] وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير به ورواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير فذكره ورواه علي بن المبارك عن يحيى عن أبي سلمة قال : نبئنا عن عبادة بن الصامت سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الاية فذكره
وقال ابن جرير حدثني أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحموسي عن حميد بن عبد الله المزني قال : أتى رجل عبادة بن الصامت فقال : آية في كتاب الله أسألك عنها قول الله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } فقال عبادة ما سألني عنها أحد قبلك سألت عنها نبي الله فقال مثل ذلك [ ما سألني عنها أحد قبلك الرؤيا الصالحة يراها العبد المؤمن في المنام أو ترى له ] ثم رواه من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد بن صفوان عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فقد عرفنا بشرى الاخرة الجنة فما بشرى الدنيا ؟ قال [ الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا أو سبعين جزءا من النبوة ] وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا بهز حدثنا حماد حدثنا أبو عمران عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه قال يا رسول الله : الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تلك عاجل بشرى المؤمن ] رواه مسلم وقال أحمد أيضا حدثنا حسن يعني الأشيب حدثنا بن لهيعة حدثنا دراج عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ـ قال ـ الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة فمن رأى ذلك فليخبر بها ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه فلينفث عن يساره ثلاثا وليكبر ولا يخبر بها أحدا ] لم يخرجوه وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لهم البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ] وقال أيضا ابن جرير حدثني محمد بن أبي حاتم المؤدب حدثنا عمار بن محمد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ـ قال ـ في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له وهي في الاخرة الجنة ] ثم رواه عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال : الرؤيا الحسنة بشرى من الله وهي من المبشرات هكذا رواه من هذا الطريق موقوفا وقال أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر حدثنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له ]
وقال ابن جرير حدثني أحمد بن حماد الدولابي حدثنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كريز الكعبية سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ] وهكذا روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير ويحيى بن أبي كثير وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم أنهم فسروا ذلك بالرؤيا الصالحة وقيل : المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كقوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم } وفي حديث البراء رضي الله عنه أن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب فقالوا اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان ورب غير غضبان فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء وأما بشراهم في الاخرة فكما قال تعالى : { لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } وقال تعالى : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم } وقوله : { لا تبديل لكلمات الله } أي هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة { ذلك هو الفوز العظيم } (2/555)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم : { ولا يحزنك } قول هؤلاء المشركين واستعن بالله عليهم وتوكل عليه فإن العزة لله جميعا أي جميعها له ولرسوله وللمؤمنين { هو السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئا لا ضرا ولا نفعا ولا دليل لهم على عبادتها بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه أي يستريحون من نصبهم وكلهم وحركاتهم { والنهار مبصرا } أي مضيئا لمعاشهم وسعيهم وأسفارهم ومصالحهم { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } أي يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها (2/558)
يقول تعالى منكرا على من ادعى أن له : { ولدا سبحانه هو الغني } أي تقدس عن ذلك هو الغني عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه { له ما في السموات وما في الأرض } أي فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك له عبد له { إن عندكم من سلطان بهذا } أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان { أتقولون على الله ما لا تعلمون } إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد كقوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ممن زعم أن له ولدا بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الاخرة فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلا { ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } كما قال تعالى ههنا : { متاع في الدنيا } أي مدة قريبة { ثم إلينا مرجعهم } أي يوم القيامة { ثم نذيقهم العذاب الشديد } أي الموجع المؤلم { بما كانوا يكفرون } أي بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوا من الإفك والزور (2/558)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه : { واتل عليهم } أي أخبرهم واقصص عليهم أي على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك { نبأ نوح } أي خبره مع قومه الذين كذبوه كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك { إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم } أي عظم عليكم { مقامي } أي فيكم بين أظهركم { وتذكيري } إياكم { بآيات الله } أي بحججه وبراهينه { فعلى الله توكلت } أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } أي فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } أي لا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا بل افصلوا حالكم معي فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلي { ولا تنظرون } أي ولا تؤخروني ساعة واحدة أي مهما قدرتم فافعلوا فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء كما قال هود لقومه : { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم } الاية
وقوله { فإن توليتم } أي كذبتم وأدبرتم عن الطاعة { فما سألتكم من أجر } أي لم أطلب على نصحي إياكم شيئا { إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين } أي وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز و جل والإسلام هو دين الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم كما قال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } قال ابن عباس : سبيلا وسنة فهذا نوح يقول : { وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال تعالى عن إبراهيم الخليل : { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال يوسف : { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين } وقال موسى : { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال السحرة : { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين } وقال بلقيس : { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } وقال تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } وقال خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه و سلم : { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } أي من هذه الأمة ولهذا قال في الحديث الثابت عنه : [ نحن معشر الأنبياء أولاد علات وديننا واحد ] أي وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت شرائعنا وذلك معنى قوله أولاد علات وهم الإخوة من أمهات شتى والأب واحد
وقوله تعالى : { فكذبوه فنجيناه ومن معه } أي على دينه { في الفلك } وهي السفينة { وجعلناهم خلائف } أي في الأرض { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } أي يا محمد كيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا المكذبين (2/559)
يقول تعالى ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات أي بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } أي فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم كقوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } الاية وقوله : { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ويختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم والمراد أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح عليه السلام فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه السلام على الإسلام إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة : أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض وقال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وقال الله تعالى : { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } الاية وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العذاب والنكال فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك (2/560)
يقول تعالى : { ثم بعثنا } من بعد تلك الرسل { موسى وهارون إلى فرعون وملئه } أي قومه { بآياتنا } أي حججنا وبراهيننا { فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين } أي استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له وكانوا قوما مجرمين { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين } كأنهم قبحهم الله أقسموا على ذلك وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } الاية { قال } لهم { موسى } منكرا عليهم { أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا } أي تثنينا { عما وجدنا عليه آباءنا } أي الدين الذي كانوا عليه { وتكون لكما } أي لك ولهارون { الكبرياء } أي العظمة والرياسة { في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين }
وكثيرا ما يذكر الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون في كتابه العزيز لأنها من أعجب القصص فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر فسخره القدر أن ربى هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ورزقه النبوة والرسالة والتكليم وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه هذا مع ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان فجاءه برسالة الله تعالى وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية والنفس الخبيثة وقوى رأسه وتولى بركنه وادعى ما ليس له وتجهرم على الله وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل والله تعالى يحفظ رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون ويحوطهما بعنايته ويحرسهما بعينه التي لا تنام ولم تزل المحاجة والمجادلة والايات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب مما لا يقوم له شيء ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } وصمم فرعون وملؤه قبحهم الله على التكذيب بذلك كله والجحد والعناد والمكابرة حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } (2/560)
ذكر الله سبحانه قصة السحرة مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف وقد تقدم الكلام عليها هناك وفي هذه السورة وفي سورة طه وفي الشعراء وذلك أن فرعون لعنه الله أراد أن يتهرج على الناس ويعارض ما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين بزخارف السحرة والمشعبذين فانعكس عليه النظام ولم يحصل له من ذلك المرام وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام { وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون } فظن فرعون أنه يستنصر بالسحار على رسول الله عالم الأسرار فخاب وخسر الجنة واستوجب النار { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون } وإنما قال لهم ذلك لأنهم لما اصطفوا وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا } فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم
ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم { فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } فعند ذلك قال موسى لما ألقوا : { ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي أخبرنا أبو جعفر الرازي عن ليث وهو ابن أبي سليم قال : بلغني أن هؤلاء الايات شفاء من السحر بإذن الله تعالى تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور الاية التي من سورة يونس { فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } والاية الأخرى { فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون } إلى آخر أربع آيات وقوله { إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } (2/561)
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الايات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات إلا قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب على وجل وخوف منه ومن ملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر لأن فرعون لعنه الله كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتو وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا شديدا قال العوفي عن ابن عباس : { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } قال : فإن الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير منهم امرأة فرعون : ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } يقول بني إسرائيل وعن ابن عباس والضحاك وقتادة : الذرية القليل وقال مجاهد في قوله : { إلا ذرية من قومه } قال : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون لعود الضمير على أقرب المذكورين وفي هذا نظر لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب وأنهم من بني إسرائيل
فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة وأن الله تعالى سينقذهم من أسر فرعون ويظهرهم عليه ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر فلم يجد عنه شيئا ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل { على خوف من فرعون وملئهم } أي وأشراف قومه أن يفتنهم ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يفتن عن الإيمان سوى قارون فإنه كان من قوم موسى فبغى عليهم لكنه كان طاويا إلى فرعون متصلا به متعلقا بحباله ومن قال إن الضمير في قوله وملئهم عائد إلى فرعون وعظم الملك من أجل اتباعه أو بحذف آل فرعون وإقامة المضاف إليه مقامه فقد أبعد وإن كان ابن جرير قد حكاه عن بعض النحاة ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن قوله تعالى : (2/562)
يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل : { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } أي فإن الله كاف من توكل عليه { أليس الله بكاف عبده } { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل كقوله تعالى : { فاعبده وتوكل عليه } { قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا } { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة { إياك نعبد وإياك نستعين } وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك فقالوا : { على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } أي لا تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك هكذا روي عن أبي مجلز وأبي الضحى وقال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد لا تعذبنا بأيدي آل فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } لا تسلطهم علينا فيفتنونا وقوله : { ونجنا برحمتك } أي خلصنا برحمة منك وإحسان { من القوم الكافرين } أي الذين كفروا الحق وستروه ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك (2/563)
يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتبوءا أي يتخذا لقومهما بمصر بيوتا واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { واجعلوا بيوتكم قبلة } فقال الثوري وغيره عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس { واجعلوا بيوتكم قبلة } قال : أمروا أن يتخذوها مساجد وقال الثوري أيضا عن ابن منصور عن إبراهيم { واجعلوا بيوتكم قبلة } قال : كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم وكذا قال مجاهد وأبو مالك والربيع بن أنس والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبوه زيد بن أسلم وكأن هذا والله أعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة } وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حزبه أمر صلى أخرجه أبو داود ولهذا قال تعالى في هذه الاية : { واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين } أي بالثواب والنصر القريب وقال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الاية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة وقال مجاهد { واجعلوا بيوتكم قبلة } لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا وكذا قال قتادة والضحاك وقال سعيد بن جبير { واجعلوا بيوتكم قبلة } أي يقابل بعضها بعضا (2/563)
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى عليه السلام على فرعون وملئه لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلما وعلوا وتكبرا وعتوا قال موسى : { ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة } أي من أثاث الدنيا ومتاعها { وأموالا } أي جزيلة كثيرة { في } هذه { الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك } بفتح الياء أي أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم كقوله تعالى : { لنفتنهم فيه } وقرأ آخرون بضم الياء أي ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم { ربنا اطمس على أموالهم } قال ابن عباس ومجاهد : أي أهلكها وقال الضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس : جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت وقال قتادة بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة وقال محمد بن كعب القرظي جعل سكرهم حجارة
وقال ابن أبي حاتم حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا يحيى بن أبي بكير عن أبي معشر حدثني محمد بن قيس أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن عبد العزيز حتى بلغ { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا } إلى قوله : { ربنا اطمس على أموالهم } الاية فقال عمر : يا أبا حمزة أي شيء الطمس ؟ قال : عادت أموالهم كلها حجارة فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له : ائتني بكيس فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة وقوله : { واشدد على قلوبهم } قال ابن عباس : أي اطبع عليها { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح عليه السلام فقال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة التي أمن عليها أخوه هارون فقال تعالى : { قد أجيبت دعوتكما } قال أبو العالية وأبو صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس دعا موسى وأمن هارون أي قد أجبنا كما فيما سألتما من تدمير آل فرعون وقد يحتج بهذه الاية من يقول : إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لأن موسى دعا وهارون أمن وقال تعالى : { قد أجيبت دعوتكما فاستقيما } الاية أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري قال ابن جريج عن ابن عباس : فاستقيما فامضيا لأمري وهي الاستقامة قال ابن جريج يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة وقال محمد بن علي بن الحسين أربعين يوما (2/564)
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر بصحبة موسى عليه السلام وهم فيما قيل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية وقد كانوا استعاروا من القبط حليا كثيرا فخرجوا به معهم فاشتد حنق فرعون عليهم فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته فلحقوهم وقت شروق الشمس { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون } وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر وفرعون وراءهم ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان وألح أصحاب موسى عليه السلام عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه ؟ فيقول : إني أمرت أن أسلك ههنا { كلا إن معي ربي سيهدين } فعند ما ضاق الأمر اتسع فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل العظيم وصار اثني عشر طريقا لكل سبط واحد وأمر الله الريح فنشفت أرضه { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى } وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم الاخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا وجاوزت بنو إسرائيل البحر فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع وهيهات ولات حين مناص نفذ القدر واستجيبت الدعوة
وجاء جبريل عليه السلام على فرس وديق حائل فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها واقتحم جبريل البحر فاقتحم الحصان وراءه ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا فتجلد لأمرائه وقال لهم ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم لا يترك منهم أحدا إلا ألحقه بهم فلما استوسقوا فيه وتكاملوا وهم أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت الأمواج فوق فرعون وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } فآمن حيث لا ينفعه الإيمان { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال { آلآن وقد عصيت قبل } أي أهذا الوقت تقول وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه { وكنت من المفسدين } أي في الأرض الذين أضلوا الناس { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون } وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى الله عليه و سلم ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما قال فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ـ قال ـ قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة ]
ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم في تفاسيرهم من حديث حماد بن سلمة به وقال الترمذي : حديث حسن وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قال لي جبريل لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة ] وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا وابن جرير أيضا من غير وجه عن شعبة به فذكر مثله وقال الترمذي : حسن غريب صحيح ووقع في رواية عند ابن جرير عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن عطاء وعدي عن سعيد عن ابن عباس رفعه أحدهما فكأن الاخر لم يرفع فالله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أغرق الله فرعون أشار بأصبعه ورفع صوته { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } قال فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه وكذا رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبي خالد به موقوفا وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا فقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا حكام عن عنبسة هو ابن أبي سعيد عن كثير بن زاذان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قال لي جبريل يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له ] يعني فرعون كثير بن زاذان هذا قال ابن معين : لا أعرفه وقال أبو زرعة وأبو حاتم : مجهول وباقي رجاله ثقات
وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف قتادة وإبراهيم التيمي وميمون بن مهران ونقل عن الضحاك بن قيس أنه خطب بهذا للناس فالله أعلم وقوله : { فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية } قال ابن عباس وغيره من السلف : إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع ليتحققوا موته وهلاكه ولهذا قال تعالى : { فاليوم ننجيك } أي نرفعك على نشز من الأرض { ببدنك } قال مجاهد : بجسدك وقال الحسن : بجسم لا روح فيه وقال عبد الله بن شداد : سويا صحيحا أي لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه وقال ابو صخر : بدرعك وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها كما تقدم والله أعلم وقوله : { لتكون لمن خلفك آية } أي لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده وأنه لا يقوم لغضبه شيء ولهذا قرأ بعضهم [ لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ] أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون بها وقد كان إهلاكهم يوم عاشوراء كما قال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال : [ ماهذا اليوم الذي تصومونه ؟ ] فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه : [ أنتم أحق بموسى منهم فصوموه ] (2/565)
يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية وقوله : { مبوأ صدق } قيل هو بلاد مصر والشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها كما قال الله تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون } وقال في الاية الأخرى { فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل } وقال : { كم تركوا من جنات وعيون } الايات ولكن استمروا مع موسى عليه السلام طالبين إلى بلاد بيت المقدس وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس وكان فيه قوم من العمالقة فنكل بنو إسرائيل عن قتالهم فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة ومات فيه هارون ثم موسى عليهما السلام وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون ففتح الله عليهم بيت المقدس واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر ثم عادت إليهم ثم أخذها ملوك اليونان فكانت تحت أحكامهم مدة طويلة وبعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام في تلك المدة فاستعانت اليهود قبحهم الله على معاداة عيسى عليه السلام بملوك اليونان وكانت تحت أحكامهم ووشوا عندهم وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا من يقبض عليه فرفعه الله إليه وشبه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره فأخذوه فصلبوه واعتقدوا أنه هو [ وماقتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ] ثم بعد المسيح عليه السلام بنحو ثلثمائة سنة دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان في دين النصرانية وكان فيلسوفا قبل ذلك فدخل في دين النصارى قيل تقية وقيل حيلة ليفسده فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة بدعوها وأحدثوها فبنى لهم الكنائس والبيع الكبار والصغار والصوامع والهياكل والمعابد والقلايات وانتشر دين النصرانية في ذلك الزمان واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف ووضع وكذب ومخالفة لدين المسيح ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه والقفار
واسستحوذت يد النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية والقمامة وبيت لحم وكنائس ببلاد بيت المقدس ومدن حوران كبصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة وعبدوا الصليب من حينئذ وصلوا إلى الشرق وصوروا الكنائس وأحلوا لحم الخنزير وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول ووضعوا له الأمانة الحقيرة التي يسمونها الكبيرة وصنفوا له القوانين وبسط هذا يطول والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة رضي الله عنهم وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولله الحمد والمنة وقوله : { ورزقناهم من الطيبات } أي الحلال من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا وقوله : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } أي ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم أي ولم يكن لهم أن يختلفوا وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس وقد ورد في الحديث : [ إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار ] قيل : من هم يا رسول الله قال : [ ما أنا عليه وأصحابي ] رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ وهو في السنن والمسانيد ولهذا قال الله تعالى : { إن ربك يقضي بينهم } أي يفصل بينهم { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } (2/567)
قال قتادة بن دعامة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا أشك ولا أسأل ] وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه و سلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب كما قال تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } الاية ثم مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ولهذا قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } أي لا يؤمنون إيمانا ينفعهم بل حين لا ينفع نفسا إيمانها ولهذا لما دعا موسى عليه السلام على فرعون وملئه قال { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } كما قال تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون } ثم قال تعالى : (2/568)
يقول تعالى فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه أو أكثرهم كقوله تعالى : { يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } وفي الحديث الصحيح [ عرض علي الأنبياء فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس والنبي يمر معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد ] ثم ذكر كثرة أتباع موسى عليه السلام ثم ذكر كثرة أمته صلوات الله وسلامه عليه كثرة سدت الخافقين الشرقي والغربي والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس وهم أهل نينوى وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعدما عاينوا أسبابه وخرج رسولهم من بين أظهرهم فعندما جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا له واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم فعندها رحمهم الله وكشف عنهم العذاب وأخروا كما قال تعالى : { إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } واختلف المفسرون هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط ؟ على قولين : ( أحدهما ) إنما كان ذلك في الحياة الدنيا كما هو مقيد في هذه الاية
( والثاني ) فيهما لقوله تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين } فأطلق عليهم الإيمان والإيمان منقذ من العذاب الأخروي وهذا هو الظاهر والله أعلم وقال قتادة في تفسير هذه الاية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم قال قتادة : وذكر أن قوم يونس بنينوى أرض الموصل وكذا روي عن ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف وكان ابن مسعود يقرؤها { فلولا كانت قرية آمنت } وقال أبو عمران عن أبي الجلد قال : لما نزل بهم العذاب جعل يدور على رؤوسهم كقطع الليل المظلم فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا : علمنا دعاء ندعو به لعل الله أن يكشف عنا العذاب فقال : قولوا : يا حي حين لا حي يا حي محيي الموتى يا حي لا إله إلا أنت قال فكشف عنهم العذاب وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله (2/569)
يقول تعالى : { ولو شاء ربك } يا محمد لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به فآمنوا كلهم ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كقوله تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وقال تعالى : { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا } ولهذا قال تعالى : { أفأنت تكره الناس } أي تلزمهم وتلجئهم { حتى يكونوا مؤمنين } أي ليس ذلك عليك ولا إليك بل الله { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } { إنك لا تهدي من أحببت } { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } { فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر } إلى غير ذلك من الايات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد الهادي من يشاء المضل لمن يشاء لعلمه وحكمته وعدله ولهذا قال تعالى : { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس } وهو الخبال والضلال { على الذين لا يعقلون } أي حجج الله وأدلته وهو العادل في كل ذلك في هداية من هدى وإضلال من ضل (2/569)
يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق الله في السموات والأرض من الايات الباهرة لذوي الألباب مما في السموات من كواكب نيرات ثوابت وسيارات والشمس والقمر والليل والنهار واختلافهما وإيلاج أحدهما في الاخر حتى يطول هذا ويقصر هذا ثم يقصر هذا ويطول هذا وارتفاع السماء واتساعها وحسنها وزينتها وما أنزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات وما ذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب وما في البحر من العجائب والأمواج وهو مع هذا مسخر مذلل للسالكين يحمل سفنهم ويجري بها برفق بتسخير القدير لا إله إلا هو ولا رب سواه
وقوله : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } أي وأي شيء تغني الايات السماوية والأرضية والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها عن قوم لا يؤمنون كقوله { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } الاية وقوله : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } أي فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلهم { قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين * ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا } أي ونهلك المكذبين بالرسل { كذلك حقا علينا ننج المؤمنين } حقا أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة كقوله : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وكما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي ] (2/570)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله وحده لا شريك له وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ثم إليه مرجعكم فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني فإنها لا تضر ولا تنفع وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له وأمرت أن أكون من المؤمنين وقوله : { وأن أقم وجهك للدين حنيفا } الاية أي أخلص العبادة لله وحده حنيفا أي منحرفا عن الشرك ولهذا قال : { ولا تكونن من المشركين } وهو معطوف على قوله : { وأمرت أن أكون من المؤمنين } وقوله { وإن يمسسك الله بضر } الاية فيه بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة صفوان بن سليم من طريق عبد الله بن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوه أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم ] ثم رواه من طريق الليث عن عيسى بن موسى عن صفوان عن رجل من أشجع عن أبي هريرة مرفوعا بمثله سواء وقوله { وهو الغفور الرحيم } أي لمن تاب إليه وتوكل عليه ولو من أي ذنب كان حتى من الشرك به فإنه يتوب عليه (2/571)
يقول تعالى أمرا لرسوله صلى الله عليه و سلم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فيه فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه { وما أنا عليكم بوكيل } أي وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين وإنما أنا نذير لكم والهداية على الله تعالى وقوله : { واتبع ما يوحى إليك واصبر } أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك واصبر على مخالفة من خالفك من الناس { حتى يحكم الله } أي يفتح بينك وبينهم { وهو خير الحاكمين } أي خير الفاتحين بعدله وحكمته (2/571)
سورة هود
قال الحافظ أبو يعلى حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عكرمة قال : قال أبو بكر : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم ما شيبك ؟ قال [ شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ] وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت قال [ شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ] وفي رواية [ هود وأخواتها ] وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا حجاج بن الحسن حدثنا سعيد بن سلام حدثنا عمر بن محمد عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ شيبتني هود وأخواتها : الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت ] وفي رواية [ هود وأخواتها ] وقد روي من حديث ابن مسعود نحوه فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن طارق الرائشي حدثنا عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر قال : يا رسول الله ما شيبك ؟ قال : [ هود والواقعة ] عمرو بن ثابت متروك وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود والله أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم (2/572)
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا وبالله التوفيق وأما قوله : { أحكمت آياته ثم فصلت } أي هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها فهو كامل صورة ومعنى هذا معنى ما روي عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير ومعنى قوله { من لدن حكيم خبير } أي من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه خبير بعواقب الأمور { أن لا تعبدوا إلا الله } أي نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له كقوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقوله { إنني لكم منه نذير وبشير } أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه وبشير بالثواب إن أطعتموه كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صعد الصفا فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال : [ يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ألستم مصدقي ؟ ] فقالوا : ما جربنا عليك كذبا قال : [ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ] وقوله : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } أي وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز و جل فيما تستقبلونه وأن تستمروا على ذلك { يمتعكم متاعا حسنا } أي في الدنيا { إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } أي في الدار الاخرة قاله قتادة كقوله : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } الاية
وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لسعد [ وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك ] وقال ابن جرير : حدثني المسيب بن شريك عن أبي بكر عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله : { ويؤت كل ذي فضل فضله } قال من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول هلك من غلب آحاده على أعشاره وقوله : { وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى وكذب رسله فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة { إلى الله مرجعكم } أي معادكم يوم القيامة { وهو على كل شيء قدير } أي هو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه وإعادة الخلائق يوم القيامة وهذا مقام الترهيب كما أن الأول مقام ترغيب (2/572)
قال ابن عباس كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم فأنزل الله هذه الاية رواه البخاري من طريق ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس قرأ ألا إنهم تثنوني صدورهم الاية فقلت : يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم ؟ قال : الرجل كان يجامع امرأته فيستحي أو يتخلى فيستحي فنزلت : { ألا إنهم يثنون صدورهم } وفي لفظ آخر له قال ابن عباس : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم ثم قال : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال قرأ ابن عباس : { ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم }
قال البخاري وقال غيره عن ابن عباس { يستغشون } يغطون رؤوسهم وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الاية : يعني به الشك في الله وعمل السيئات وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهم أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئا أو عملوه فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل { يعلم ما يسرون } من القول { وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور } أي يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة :
فلا تكتمن الله ما في قلوبكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم حساب أو يعجل فينقم
فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات وبالمعاد وبالجزاء وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة وقال عبد الله بن شداد : كان أحدهم إذا مر برسول الله ثنى عنه صدره وغطى رأسه فأنزل الله ذلك وعود الضمير إلى الله أولى لقوله : { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون } وقرأ ابن عباس ألا إنهم تثنوني صدورهم برفع الصدور على الفاعلية وهو قريب المعنى (2/573)
أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها بحريها وبريها وأنه يعلم مستقرها ومستودعها أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوي إليه من وكرها وهو مستودعها وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس { ويعلم مستقرها } أي حيث تأوي { ومستودعها } حيث تموت وعن مجاهد { مستقرها } في الرحم { ومستودعها } في الصلب كالتي في الأنعام وكذا روي عن ابن عباس والضحاك وجماعة وذكر ابن أبي حاتم أقوال المفسرين ههنا كما ذكره عند تلك الاية فالله أعلم وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك كقوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } وقوله : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } (2/574)
يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اقبلوا البشرى يا بني تميم ] قالوا : قد بشرتنا فأعطنا قال : [ اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا : قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان ؟ قال : ] كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء [ قال : فأتاني آت فقال : يا عمران انحلت ناقتك من عقالها قال : فخرجت في إثرها فلا أدري ما كان بعدي وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة فمنها قالوا : جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فقال : ] كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية ـ غيره ـ وفي رواية ـ معه ـ وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ] وقال البخاري في تفسير هذه الاية : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ قال الله عز و جل أنفق أنفق عليك ] وقال : [ يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ] وقال : [ أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين واسمه لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي قال : قلت : يارسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال : [ كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق العرش بعد ذلك ] وقد رواه الترمذي في التفسير وابن ماجه في السنن من حديث يزيد بن هارون به وقال الترمذي : هذا حديث حسن وقال مجاهد { وكان عرشه على الماء } قبل أن يخلق شيئا وكذا قال وهب بن منبه وضمرة وقتادة وابن جرير وغير واحد وقال قتادة في قوله { وكان عرشه على الماء } ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض وقال الربيع بن أنس { وكان عرشه على الماء } فلما خلق السموات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش وهو البحر المسجور
وقال ابن عباس : إنما سمي العرش عرشا لارتفاعه وقال إسماعيل بن أبي خالد سمعت سعدا الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى : { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } فكان كما وصف نفسه تعالى إذ ليس إلا الماء وعليه العرش وعلى العرش ذو الجلال والإكرام والعزة والسلطان والملك والقدرة والحلم والعلم والرحمة والنعمة الفعال لما يريد وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن قول الله : { وكان عرشه على الماء } على أي شيء كان الماء ؟ قال على متن الريح وقوله تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } أي خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا ولم يخلق ذلك عبثا كقوله { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } وقال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } وقال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } الاية وقوله { ليبلوكم } أي ليختبركم { أيكم أحسن عملا } ولم يقل أكثر عملا بل أحسن عملا ولا يكون العمل حسنا حتى يكون خالصا لله عز و جل على شريعة رسول الله صلى الله عليه و سلم فمتى فقد العمل واحدا من هذين الشرطين حبط وبطل
وقوله : { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت } الاية يقول تعالى ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم مع أنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض كما قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } وهم مع هذا ينكرون البعث والمعاد يوم القيامة الذي هو بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة كما قال تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } وقال تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } وقولهم : { إن هذا إلا سحر مبين } أي يقولون كفرا وعنادا ما نصدقك على وقوع البعث وما يذكر ذلك إلا من سحرته فهو يتبعك على ما تقول وقوله : { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } الاية يقول تعالى ولئن أخرنا العذاب والمؤاخذة عن هؤلاء المشركين إلى أجل معدود وأمد محصور وأوعدناهم إلى مدة مضروبة ليقولن تكذيبا واستعجالا ما يحبسه أي يؤخر هذا العذاب عنا فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد والأمة تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة فيراد بها الأمد كقوله في هذه الاية { إلى أمة معدودة }
وقوله في يوسف : { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة } وتستعمل في الإمام المقتدى به كقوله : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين } وتستعمل في الملة والدين كقوله إخبارا عن المشركين إنهم قالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } وتستعمل في الجماعة كقوله : { ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون } وقوله : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى : { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } والمراد من الأمة ههنا الذين يبعث فيهم الرسول مؤمنهم وكافرهم كما في صحيح مسلم [ والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ] وأما أمة الأتباع فهم المصدقون للرسل كما قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وفي الصحيح [ فأقول أمتي أمتي ] وتستعمل الأمة في الفرقة والطائفة كقوله تعالى : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } وكقوله : { من أهل الكتاب أمة قائمة } الاية (2/574)
يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل وكفر وجحود لماضي الحال كأنه لم ير خيرا ولم يرج بعد ذلك فرجا وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة { ليقولن ذهب السيئات عني } أي يقول : ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء { إنه لفرح فخور } أي فرح بما في يده بطر فخور على غيره قال الله تعالى : { إلا الذين صبروا } أي على الشدائد والمكاره { وعملوا الصالحات } أي في الرخاء والعافية { أولئك لهم مغفرة } أي بما يصيبهم من الضراء { وأجر كبير } بما أسلفوه في زمن الرخاء كما جاء في الحديث [ والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه ] وفي الصحيحين [ والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد غير المؤمن ] ولهذا قال الله تعالى : { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وقال تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعا } الايات (2/576)
يقول تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه و سلم عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول كما أخبر تعالى عنهم في قوله : { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } فأمر الله تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره ولا يصدنه ذلك ولا يثنينه عن دعائهم إلى الله عز و جل آناء الليل وأطراف النهار كما قال تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } الاية وقال ههنا { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا } أي لقولهم ذلك فإنما أنت نذير ولك أسوة بإخوانك من الرسل قبلك فإنهم كذبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله عز و جل ثم بين تعالى إعجاز القرآن وأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ولا بعشر سور مثله ولا بسورة من مثله لأن كلام الرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات وذاته لا يشبهها شيء تعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو ولا رب سواه ثم قال تعالى : { فإلم يستجيبوا لكم } فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك وأن هذا الكلام منزل من عند الله متضمن علمه وأمره ونهيه { وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون } (2/577)
قال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية : إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا يقول من عمل صالحا التماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى : أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الاخرة من الخاسرين : وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد وقال أنس بن مالك والحسن : نزلت في اليهود والنصارى وقال مجاهد وغيره : نزلت في أهل الرياء وقال قتادة : من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الاخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الاخرة وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا وقال تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } وقال تعالى : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } (2/577)
يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو كما قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } الاية وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ] الحديث وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] وفي المسند والسنن [ كل مولود يولد على هذه الملة حتى يعرب عنه لسانه ] الحديث فالمؤمن باق على هذه الفطرة قوله : { ويتلوه شاهد منه } أي وجاءه شاهد من الله وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة المختتمة بشريعة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ولهذا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وغير واحد في قوله تعالى : { ويتلوه شاهد منه } : إنه جبريل عليه السلام
وعن علي رضي الله عنه والحسن وقتادة هو محمد صلى الله عليه و سلم وكلاهما قريب في المعنى لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلغ رسالة الله تعالى فجبريل إلى محمد ومحمد إلى الأمة وقيل هو علي وهو ضعيف لا يثبت له قائل والأول والثاني هو الحق وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة والتفاصيل تؤخذ من الشريعة والفطرة تصدقها وتؤمن بها ولهذا قال تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه } وهو القرآن بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم وبلغه النبي محمد صلى الله عليه و سلم إلى أمته ثم قال تعالى : { ومن قبله كتاب موسى } أي ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة { إماما ورحمة } أي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمة إماما لهم وقدوة يقتدون بها ورحمة من الله بهم فمن آمن بها حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن ولهذا قال تعالى : { أولئك يؤمنون به } ثم قال تعالى متوعدا لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } أي ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم ممن بلغه القرآن كما قال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } وقال تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وقال تعالى : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده }
وفي صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ] وقال أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال : كنت لا أسمع بحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم على وجهه إلا وجدت مصداقه أو قال تصديقه في القرآن فبلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار ] فجعلت أقول أين مصداقه في كتاب الله ؟ قال وقلما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وجدت له تصديقا في القرآن حتى وجدت هذه الاية { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } قال من الملل كلها وقوله { فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك } الاية أي القرآن حق من الله لا مرية ولا شك فيه كما قال تعالى : { الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } وقال تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه } وقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } كقوله تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقال تعالى : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } وقال تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } (2/578)
يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الاخرة على رؤوس الخلائق من الملائكة والرسل والأنبياء وسائر البشر والجان كما قال الإمام أحمد حدثنا بهز وعفان أخبرنا همام حدثنا قتادة عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل قال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعته يقول : [ إن الله عز و جل يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم ] ثم يعطى كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون فيقول : { الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } الاية أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث قتادة به وقوله : { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } أي يردون الناس عن اتباع الحق وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز و جل ويجنبونهم الجنة { ويبغونها عوجا } أي ويريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة { وهم بالآخرة هم كافرون } أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء } أي بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الاخرة { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار }
وفي الصحيحين [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ] ولهذا قال تعالى : { يضاعف لهم العذاب } الاية أي يضاعف عليهم العذاب وذلك أن الله تعالى جعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم بل كانوا صما عن سماع الحق عميا عن اتباعه كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار كقوله : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } وقال تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب } الاية ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه وعلى كل نهي ارتكبوه ولهذا كان أصح الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها بالنسبة إلى الدار الاخرة وقوله : { أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نارا حامية فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها طرفة عين كما قال تعالى : { كلما خبت زدناهم سعيرا } { وضل عنهم } أي ذهب عنهم { ما كانوا يفترون } من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئا بل ضرتهم كل الضرر كما قال تعالى : { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين }
وقال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } وقال الخليل لقومه { إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } وقوله : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } إلى غير ذلك من الايات الدالة على خسرهم ودمارهم ولهذا قال : { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } يخبر تعالى عن مآلهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الاخرة لأنهم استبدلوا الدركات عن الدرجات واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم وظل من يحموم وعن الحور العين بطعام من غسلين وعن القصور العالية بالهاوية وعن قرب الرحمن ورؤيته بغضب الديان وعقوبته فلا جرم أنهم في الاخرة هم الأخسرون (2/579)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فآمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات وبهذا ورثوا الجنات المشتملة على الغرف العاليات والسرر المصفوفات والقطوف الدانيات والفرش المرتفعات والحسان الخيرات والفواكه المتنوعات والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات والنظر إلى خالق الأرض والسموات وهم في ذلك خالدون لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ولا ينامون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يتمخطون إن هو إلا رشح مسك يعرقون ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين فقال : { مثل الفريقين } أي الذين وصفهم أولا بالشقاء والمؤمنين بالسعادة فأولئك كالأعمى والأصم وهؤلاء كالبصير والسميع فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا والأخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } الاية
وأما المؤمن ففطن ذكي لبيب بصير بالحق يميز بينه وبين الباطل فيتبع الخير ويترك الشر سميع للحجة يفرق بينها وبين الشبهة فلا يروج عليه باطل فهل يستوي هذا وهذا ؟ { أفلا تذكرون } أفلا تعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كما قال في الاية الأخرى : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ؟ أصحاب الجنة هم الفائزون } وكقوله : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير * إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } (2/581)
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه { إني لكم نذير مبين } أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ولهذا قال : { أن لا تعبدوا إلا الله } وقوله : { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذابا أليما موجعا شاقا في الدار الاخرة { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } والملأ هم السادة والكبراء من الكافرين منهم { ما نراك إلا بشرا مثلنا } أي لست بملك ولكنك بشر فكيف أوحي إليك من دوننا ثم ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن ترو منهم ولا فكر ولا نظر بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك ولهذا قالوا { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } أي في أول بادىء الرأي { وما نرى لكم علينا من فضل } يقولون ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق ولا رزق ولا حال لما دخلتم في دينكم هذا { بل نظنكم كاذبين } أي فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الاخرة إذا صرتم إليها هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه فإن الحق في نفسه صحيح سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته كما قال تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون }
ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه و سلم قال له فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم قال : بل ضغفاؤهم فقال هرقل هم أتباع الرسل وقولهم { بادي الرأي } ليس بمذمة ولا عيب لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء بل لا يفكر ههنا إلا غبي أو عيي والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جلي واضح وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم ] أي ما تردد ولا تروى لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا فبادر إليه وسارع وقوله : { وما نرى لكم علينا من فضل } هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون بل هم في ريبهم يترددون في ظلمات الجهل يعمهون وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون وهم في الاخرة هم الأخسرون (2/581)
يقول تعالى مخبرا عما رد به نوح على قومه في ذلك : { أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } أي على يقين وأمر جلي ونبوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم { فعميت عليكم } أي خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها { أنلزمكموها } أي نغضبكم بقبولها وأنتم لها كارهون (2/582)
يقول لقومه لا أسألكم على نصحي لكم مالا : أجرة آخذها منكم إنما أبتغي الأجر من الله عز و جل { وما أنا بطارد الذين آمنوا } كأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه احتشاما ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم كما سأل أمثالهم خاتم الرسل صلى الله عليه و سلم أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلسا خاصا فأنزل الله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الاية وقال تعالى : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين } الايات (2/582)
يخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له بإذن الله له في ذلك ولا يسألهم على ذلك أجرا بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع فمن استجاب له فقد نجا ويخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن الله ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه وليس هو بملك من الملائكة بل هو بشر مرسل مؤيد بالمعجزات ولا أقول عن هؤلاء الذين تحقرونهم وتزدرونهم إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم الله أعلم بما في أنفسهم فإن كانوا مؤمنين باطنا كما هو الظاهر من حالهم فلهم جزاء الحسنى ولو قطع لهم أحد بشر بعد ما آمنوا لكان ظالما قائلا ما لا علم له به (2/583)
يقول تعالى مخبرا عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه وسخطه والبلاء موكل بالمنطق { قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } أي حاججتنا فأكثرت من ذلك ونحن لا نتبعك { فأتنا بما تعدنا } أي من النقمة والعذاب ادع علينا بما شئت فليأتنا ما تدعو به { إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين } أي إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يعجزه شيء { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } أي أي شيء يجدي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي { إن كان الله يريد أن يغويكم } أي إغواؤكم ودماركم { هو ربكم وإليه ترجعون } أي هو مالك أزمة الأمور المتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور له الخلق وله الأمر وهو المبدىء المعيد مالك الدنيا والاخرة (2/583)
هذا كلام معترض في وسط هذه القصة مؤكد لها مقرر لها يقول تعالى لمحمد : أم يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون افترى هذا وافتعله من عنده { قل إن افتريته فعلي إجرامي } أي فإثم ذلك علي { وأنا بريء مما تجرمون } أي ليس ذلك مفتعلا ولا مفترى لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه (2/583)
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله تعالى مخبرا عنه أنه قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } فعند ذلك أوحى الله إليه { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم { واصنع الفلك } يعني السفينة { بأعيننا } أي بمرأى منا { ووحينا } أي تعليمنا لك ما تصنعه { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } فقال بعض السلف : أمره الله تعالى أن يغرز الخشب ويقطعه وييبسه فكان ذلك في مائة سنة ونجرها في مائة سنة أخرى وقيل في أربعين سنة والله أعلم وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة : أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار وأن يجعل لها جؤجؤا أزورا يشق الماء وقال قتادة كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين وعن الحسن طولها ستمائة ذارع وعرضها ثلثمائة وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة وقيل طولها ألفا ذارع وعرضها مائة ذراع فالله أعلم قالوا كلهم وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعا ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع فالسفلى للدواب والوحوش والوسطى للإنس والعليا للطيور وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير أثرا غريبا من حديث علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن عبد الله بن عباس أنه قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها قال فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه فقال أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه قال قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب قال له عيسى عليه السلام : أهكذا هلكت ؟ قال : لا ولكني مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت قال حدثنا عن سفينة نوح ؟ قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحوش وطبقة فيها الإنس وطبقة فيها الطير فلما كثر روث الدواب أوحى الله عز و جل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث فلما وقع الفأر بجوف السفينة يقرضها وحبالها أوحى الله إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر فقال له عيسى عليه السلام : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت ؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت
قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها فعلم أن البلاد قد غرقت قال فطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت قال فقلنا يا رسول الله : ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال فقال له : عد بإذن الله فعاد ترابا وقوله : { ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } أي يهزءون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم } الاية وعيد شديد وتهديد أكيد { من يأتيه عذاب يخزيه } أي يهينه في الدنيا { ويحل عليه عذاب مقيم } أي دائم مستمر أبدا (2/584)
هذه موعدة من الله تعالى لنوح عليه السلام إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة والهتان الذي لا يقلع ولا يفتر بل هو كما قال تعالى : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر } وأما قوله { وفار التنور } فعن ابن عباس التنور وجه الأرض أي صارت الأرض عيونا تفور حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماء وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه التنور فلق الصبح وتنوير الفجر وهو ضياؤه وإشراقه والأول أظهر وقال مجاهد والشعبي : كان هذا التنور بالكوفة وعن ابن عباس عين بالهند وعن قتادة عين بالجزيرة يقال لها عين الوردة وهذه أقوال غريبة فحينئذ أمر الله نوحا عليه السلام أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين اثنين من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح قيل وغيرها من النباتات اثنين ذكرا وأنثى فقيل كان أول من أدخل من الطيور الدرة وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار فتعلق إبليس بذنبه وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه فجعل يقول له نوح عليه السلام : مالك ويحك ادخل فينهض ولا يقدر فقال : ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة وذكر بعض السلف أنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم الأسد حتى ألقيت عليه الحمى
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه : وكيف تطمئن المواشي ومعها الأسد ؟ فسلط الله عليه الحمى فكانت أول حمى نزلت في الأرض ثم شكوا الفأر فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها ]
وقوله { وأهلك إلا من سبق عليه القول } أي واحمل فيها أهلك وهم أهل بيته وقرابته إلا من سبق عليه القول منهم ممن لم يؤمن بالله فكان منهم ابنه يام الذي انعزل وحده وامرأة نوح وكانت كافرة بالله ورسوله وقوله { ومن آمن } أي من قومك { وما آمن معه إلا قليل } أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسا منهم نساؤهم وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا وقيل كانوا عشرة وقيل إنما كان نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وكنائنه الأربع نساء هؤلاء الثلاثة وامرأة يام وقيل بل امرأة نوح كانت معهم في السفينة وهذا فيه نظر بل الظاهر أنها هلكت لأنها كانت على دين قومها فأصابها ما أصابهم كما أصاب امرأة لوط ما أصاب قومها والله أعلم وأحكم (2/585)
يقول تعالى إخبارا عن نوح عليه السلام أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة { اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها } أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها وقرأ أبو رجاء العطاردي { بسم الله مجريها ومرساها } وقال الله تعالى : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور عند الركوب على السفينة وعلى الدابة كما قال تعالى : { والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره } الاية وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه كما سيأتي في سورة الزخرف إن شاء الله وبه الثقة وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي وحدثنا زكريا بن يحيى الساجي حدثنا محمد بن موسى الحرشي قالا حدثنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا بسم الله الملك { وما قدروا الله حق قدره } ـ الاية ـ { بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم } ]
وقوله { إن ربي لغفور رحيم } مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين فذكر أنه غفور رحيم كقوله : { إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } وقال : { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب } إلى غير ذلك من الايات التي يقرن فيها بين رحمته وانتقامه وقوله : { وهي تجري بهم في موج كالجبال } أي السفينة سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبق جميع الأرض حتى طفت على رؤوس الجبال وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا وقيل بثمانين ميلا وهذه السفينة جارية على وجه الماء سائرة بإذن الله وتحت كنفه وعنايته وحراسته وامتنانه كما قال تعالى : { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية } وقال تعالى : { وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر } وقوله : { ونادى نوح ابنه } الاية هذا هو الابن الرابع واسمه يام وكان كافرا دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } وقيل إنه اتخذ له مركبا من زجاج وهذا من الإسرائيليات والله أعلم بصحته والذي نص عليه القرآن أنه قال : { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رؤوس الجبال وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجاه ذلك من الغرق فقال له أبوه نوح عليه السلام : { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } أي ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله وقيل إن عاصما بمعنى معصوم كما يقال طاعم وكاس بمعنى مطعوم ومكسو { وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } (2/586)
يخبر تعالى أنه لما اغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها وأمر السماء أن تقلع عن المطر { وغيض الماء } أي شرع في النقص { وقضي الأمر } أي فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم ديار { واستوت } السفينة بمن فيها { على الجودي } قال مجاهد : وهو جبل بالجزيرة تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت وتواضع هو لله عز و جل فلم يغرق وأرست عليه سفينة نوح عليه السلام وقال قتادة : استوت عليه شهرا حتى نزلوا منها قال قتادة : قد أبقى الله سفينة نوح عليه السلام على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى رآها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت رمادا
وقال الضحاك : الجودي جبل بالموصل وقال بعضهم : هو الطور وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا محمد بن عبيد عن توبة بن سالم قال : رأيت زر بن حبيش يصلي في الزاوية حين يدخل من أبواب كندة على يمينك فسألته إنك لكثير الصلاة ههنا يوم الجمعة قال بلغني أن سفينة نوح أرست من ههنا وقال علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم وإنهم كانوا فيها مائة وخمسين يوما وإن الله وجه السفينة إلى مكة فطافت بالبيت أربعين يوما ثم وجهها الله إلى الجودي فاستقرت عليه فبعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون فلطخت رجليها بالطين فعرف نوح عليه السلام أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحدها اللسان العربي فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم وقال كعب الأحبار : إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجودي وقال قتادة وغيره : ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوما واستقرت بهم على الجودي شهرا وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن جرير وأنهم صاموا يومهم ذلك والله أعلم
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو جعفر حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبل عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال [ ما هذا الصوم ؟ قالوا هذا اليوم الذي نجى الله به موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عز و جل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم ] فصام وقال لأصحابه : [ من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه ومن كان أصاب من غذاء أهله فليتم بقية يومه ] وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شاهد في الصحيح وقوله : { وقيل بعدا للقوم الظالمين } أي هلاكا وخسارا لهم وبعدا من رحمة الله فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير والحبر أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث موسى بن يعقوب الزمعي عن قائد مولى عبيد الله بن أبي رافع أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أخبرته أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي ] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يعني وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري ؟ قال سوف تعلمون فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي ] وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد بن جبير قصة هذا الصبي وأمه بنحو من هذا (2/587)
هذا سؤال استعلام وكشف من نوح عليه السلام عن حال ولده الذي غرق { قال رب إن ابني من أهلي } أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين { قال يا نوح إنه ليس من أهلك } أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك ولهذا قال : { وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم } فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحا عليه السلام وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه وإنما كان ابن زنية ويحكى القول بأنه ليس بابنه وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد والحسن وعبيد بن عمير وأبي جعفر الباقر وابن جرير واحتج بعضهم بقوله : { إنه عمل غير صالح } وبقوله : { فخانتاهما } فممن قاله الحسن البصري احتج بهاتين الايتين وبعضهم يقول ابن امرأته وهذا يحتمل أن يكون أراد ما أراد الحسن أو أراد أنه نسب إليه مجازا لكونه كان ربيبا عنده فالله أعلم وقال ابن عباس وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط قال : وقوله : { إنه ليس من أهلك } أي الذين وعدتك نجاتهم وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة ولهذا غضب الله على الذين رموا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبي صلى الله عليه و سلم وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه ولهذا قال تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين * لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم }
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة وغيره عن عكرمة عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية قال عكرمة في بعض الحروف إنه عمل عملا غير صالح والخيانة تكون على غير باب وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ بذلك فقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ { إنه عمل غير صالح } وسمعته يقول : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } ولا يبالي { إنه هو الغفور الرحيم } وقال أحمد أيضا حدثنا وكيع حدثنا هارون النحوي عن ثابت البناني عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأها { إنه عمل غير صالح } أعاده أحمد أيضا في مسنده أم سلمة هي أم المؤمنين والظاهر والله أعلم أنها أسماء بنت يزيد فإنها تكنى بذلك أيضا وقال عبد الرزاق أيضا أنبأنا الثوري عن ابن عيينة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قبة قال سمعت ابن عباس سئل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله : { فخانتاهما } قال : أما إنه لم يكن بالزنا ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون وكانت هذه تدل على الأضياف ثم قرأ { إنه عمل غير صالح } قال ابن عيينة وأخبرني عمار الدهني أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال : كان ابن نوح إن الله لا يكذب قال تعالى : { ونادى نوح ابنه } قال وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبي قط وكذا روي عن مجاهد أيضا وعكرمة والضحاك وميمون بن مهران وثابت بن الحجاج وهو اختيار أبي جعفر بن جرير وهو الصواب الذي لا شك فيه (2/588)
يخبر تعالى عما قيل لنوح عليه السلام حين أرست السفينة على الجودي من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة كما قال محمد بن كعب : دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة وقال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض الغمر الأكبر وأبواب السماء يقول الله تعالى : { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } الاية فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر وكان استواء الفلك على الجودي فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه في أول يوم من الشهر العاشر رأى رؤوس الجبال فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي ركب فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما صنع الماء فلم يرجع إليه فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم تجد لرجليها موضعا فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ثم مضى سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتون فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع فعلم نوح أن الأرض قد برزت فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين برز وجه الأرض وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه { قيل يا نوح اهبط بسلام منا } الاية (2/589)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم هذه القصة وأشباهها : { من أنباء الغيب } يعني من أخبارالغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها كأنك شاهدها نوحيها إليك أي نعلمك بها وحيا منا إليك { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } أي لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها حتى يقول من يكذبك إنك تعلمتها منه بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك وأذاهم لك فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والاخرة كما فعلنا بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } الاية وقال تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون } الاية وقال تعالى : { فاصبر إن العاقبة للمتقين } (2/590)
يقول تعالى { و } لقد أرسلنا { إلى عاد أخاهم هودا } آمرا لهم بعبادة الله وحده لا شريك له ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الالهة وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله إنما يبغي ثوابه من الله الذي فطره أفلا تعقلون من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والاخرة من غير أجرة ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة وبالتوبة عما يستقبلون ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه ولهذا قال : { يرسل السماء عليكم مدرارا } وفي الحديث [ من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ] (2/590)
يخبر تعالى أنهم قالوا لنبيهم { ما جئتنا ببينة } أي بحجة وبرهان على ما تدعيه { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } أي بمجرد قولك اتركوهم نتركهم { وما نحن لك بمؤمنين } بمصدقين { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } يقولون : ما نظن إلا أن بعض الالهة أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها { قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه } يقول : إني بريء من جميع الأنداد والأصنام { فكيدوني جميعا } أي أنتم وآلهتكم إن كانت حقا { ثم لا تنظرون } أي طرفة عين وقوله : { إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } أي تحت قهره وسلطانه وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه فإنه على صراط مستقيم قال الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه قال في قوله تعالى : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } قال : فيأخذ بنواصي عباده فيلقن المؤمن حتى يكون له أشفق من الوالد لولده ويقول : { ما غرك بربك الكريم } وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر بل هي جماد لا تسمع ولاتبصر ولا توالي ولا تعادي وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له الذي بيده الملك وله التصرف وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه فلا إله إلا هو ولا رب سواه (2/591)
يقول لهم هود : فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها { ويستخلف ربي قوما غيركم } يعبدونه وحده لا يشركون به ولا يبالي بكم فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم { إن ربي على كل شيء حفيظ } أي شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم ويجزيهم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر { ولما جاء أمرنا } وهو الريح العقيم فأهلكهم الله عن آخرهم ونجى هودا وأتباعه من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم } كفروا بها وعصوا رسل الله وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الإيمان به فعاد كفروا بهود فنزل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } تركوا اتباع رسولهم الرشيد ؟ واتبعوا أمر كل جبار عنيد فلهذا أتبعوا في الدنيا لعنة من الله ومن عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد { ألا إن عادا كفروا ربهم } الاية قال السدي : ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه (2/591)
يقول تعالى : { و } لقد أرسلنا { إلى ثمود } وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة وكانوا بعد عاد فبعث الله منهم { أخاهم صالحا } فأمرهم بعبادة الله وحده ولهذا قال : { هو أنشأكم من الأرض } أي ابتدأ خلقكم منها خلق منها أباكم آدم { واستعمركم فيها } أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها { فاستغفروه } لسالف ذنوبكم { ثم توبوا إليه } فيما تستقبلونه { إن ربي قريب مجيب } كما قال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } الاية (2/592)
يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح عليه السلام وبين قومه وما كان من الجهل والعناد في قولهم { قد كنت فينا مرجوا قبل هذا } أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } وما كان عليه أسلافنا { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } أي شك كثير { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان { وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته } وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني { غير تخسير } أي خسارة (2/592)
تقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته ههنا وبالله التوفيق (2/592)
يقول تعالى : { ولقد جاءت رسلنا } وهم الملائكة إبراهيم بالبشرى قيل تبشره بإسحاق وقيل بهلاك قوم لوط ويشهد للأول قوله تعالى : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط } { قالوا سلاما قال سلام } أي عليكم قال علماء البيان : هذا أحسن مما حيوه به لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } أي ذهب سريعا فأتاهم بالضيافة وهو عجل فتى البقر حنيذ : مشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة هذا معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وغير واحد كما قال في الاية الأخرى { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون } وقد تضمنت هذه الاية آداب الضيافة من وجوه كثيرة وقوله : { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم } تنكرهم { وأوجس منهم خيفة } وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به فارغين عنه بالكلية فعند ذلك نكرهم { وأوجس منهم خيفة } قال السدي : لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صور رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه فلما رآهم أجلهم { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين } فذبحه ثم شواه في الرضف وأتاهم به فقعد معهم وقامت سارة تخدمهم فذلك حين يقول ـ وامرأته قائمة وهو جالس ـ في قراءة ابن مسعود { فقربه إليهم قال ألا تأكلون } قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن قال فإن لهذا ثمنا قالوا : وما ثمنه ؟ قال تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم } يقول فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة فلما نظرت سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم وهم لا يأكلون طعامنا
وقال ابن حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا نصر بن علي حدثنا نوح بن قيس عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال كانوا أربعة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل قال نوح بن قيس فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم فقرب إليهم العجل مسحه جبريل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة : { قالوا لا تخف } أي قالوا لا تخف منا إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم فضحكت سارة استبشارا بهلاكهم لكثرة فسادهم وغلظ كفرهم فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس وقال قتادة ضحكت وعجبت أن قوما يأتيهم العذاب وهم في غفلة وقوله : { ومن وراء إسحاق يعقوب } قال العوفي عن ابن عباس فضحكت أي حاضت وقول محمد بن قيس : إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط وقول الكلبي : إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم ضعيفان ووجدا وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما فلا يلتفت إلى ذلك والله أعلم وقال وهب بن منبه : إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق وهذا مخالف لهذا السياق فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل فإن يعقوب ولد إسحاق كما قال في آية البقرة { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون }
ومن ههنا استدل من استدل بهذه الاية على أن الذبيح إنما هو إسماعيل وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به وأنه سيولد له يعقوب فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده ووعد الله حق لا خلف فيه فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه فتعين أن يكون إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه و لله الحمد { قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا } الاية حكى قولها في هذه الاية كما حكى فعلها في الاية الأخرى فإنها { قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز } وفي الذاريات { فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم } كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب { قالوا أتعجبين من أمر الله } أي قالت الملائكة لها لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزا عقيما وبعلك شيخا كبيرا فإن الله على ما يشاء قدير { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد } أي هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله محمود ممجد في صفاته وذاته ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا : [ قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك يا رسول الله ؟ قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ] (2/593)
يخبر تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الروع وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الاية قال : لما جاءه جبريل ومن معه قالوا له : { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } قال لهم : أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن ؟ قالوا : لا قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا : لا قال أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا ؟ قالوا : لا قال ثلاثون ؟ قالوا : لا حتى بلغ خمسة قالوا : لا قال : أرأيتكم إن كان فيها رجل مسلم واحد أتهلكونها ؟ قالوا : لا فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك : { إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته } الاية فسكت عنهم واطمأنت نفسه وقال قتادة وغيره قريبا من هذا زاد ابن إسحاق أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد ؟ قالوا : لا قال : فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب قالوا : { نحن أعلم بمن فيها } الاية وقوله : { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } مدح لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة وقد تقدم تفسيرها وقوله تعالى : { يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك } الاية أي أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين (2/594)
يخبر تعالى عن قدوم رسله من الملائكة بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه وأخبروه بإهلاك الله قوم لوط هذه الليلة فانطلقوا من عنده فأتوا لوطا عليه السلام وهو على ما قيل في أرض له وقيل في منزله ووردوا عليه وهم في أجمل صورة تكون على هيئة شبان حسان الوجوه ابتلاء من الله وله الحكمة والحجة البالغة فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم وخشي إن لم يضيفهم أن يضيفهم أحد من قومه فينالهم بسوء { وقال هذا يوم عصيب } قال ابن عباس وغير واحد : شديد بلاؤه وذلك أنه علم أنه سيدافع عنهم ويشق عليه ذلك وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له فتضيفوه فاستحيا منهم فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه : إنه والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات قال قتادة وقد كانوا أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك
وقال السدي خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدوم نصف النهار ولقوا بنت لوط تستقي فقالوا يا جارية هل من منزل ؟ فقالت مكانكم حتى آتيكم وفرقت عليهم من قومها فأتت أباها فقالت يا أبتاه أدرك فتيانا على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسن منهم لا يأخذهم قومك وكان قومه نهوه أن يضيف رجلا فقالوا خل عنا فلنضيف الرجال فجاء بهم فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته فأخبرت قومها فجاءوا يهرعون إليه وقوله : { يهرعون إليه } أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك وقوله : { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } أي لم يزل هذا من سجيتهم حتى أخذوا وهم على ذلك الحال وقوله : { قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } يرشدهم إلى نسائهم فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والاخرة كما قال لهم في الاية الأخرى : { أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون } وقوله في الاية الأخرى : { قالوا أولم ننهك عن العالمين } أي ألم ننهك عن ضيافة الرجال { قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } وقال في هذه الاية الكريمة : { هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } قال مجاهد لم يكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته وكذا روي عن قتادة وغير واحد
وقال ابن جريج : أمرهم أن يتزوجوا النساء ولم يعرض عليهم سفاحا وقال سعيد بن جبير : يعني نساءهم هن بناته وهو أب لهم ويقال في بعض القراءات { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } وكذا روي عن الربيع بن أنس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم وقوله : { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } أي اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم { أليس منكم رجل رشيد } أي فيه خير يقبل ما آمره به ويترك ما أنهاه عنه { قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } أي إنك لتعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن { وإنك لتعلم ما نريد } أي ليس لنا غرض إلا في الذكور وأنت تعلم ذلك فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك ؟ قال السدي { وإنك لتعلم ما نريد } إنما نريد الرجال (2/595)
يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه السلام إن لوطا توعدهم بقوله : { لو أن لي بكم قوة } الاية أي لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي ولهذا ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد ـ يعني الله عز و جل ـ فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه ] فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليهم وأنهم لا وصول لهم إليه { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل وأن يتبع أدبارهم أي يكون ساقة لأهله { ولا يلتفت منكم أحد } أي إذا سمعت ما نزل بهم ولا تهولنكم تلك الأصوات المزعجة ولكن استمروا ذاهبين { إلا امرأتك } قال الأكثرون هو استثناء من المثبت وهو قوله : { فأسر بأهلك } تقديره { إلا امرأتك } وكذلك قرأها ابن مسعود ونصب هؤلاء امرأتك لأنه من مثبت فوجب نصبه عندهم وقال آخرون من القراء والنحاة هو استثناء من قوله { ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك } فجوزوا الرفع والنصب
وذكر هؤلاء أنها خرجت معهم وأنها لما سمعت الوجبة التفتت وقالت : واقوماه فجاءها حجر من السماء فقتلها ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرا له لأنه قال لهم أهلكوهم الساعة فقالوا { إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } هذا وقوم لوط وقوف على الباب عكوف قد جاءوا يهرعون إليه من كل جانب ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه وهم لا يقبلون منه بل يتوعدونه ويتهددونه فعند ذلك خرج عليهم جبريل عليه السلام فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق كما قال تعالى : { ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر } الاية وقال معمر عن قتادة عن حذيفة بن اليمان قال : كان إبراهيم عليه السلام يأتي قوم لوط فيقول أنهاكم الله أن تعرضوا لعقوبته فلم يطيعوه حتى إذا بلغ الكتاب أجله انتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له فدعاهم إلى الضيافة فقالوا إنا ضيوفك الليلة وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة ذكر ما يعمل قومه من الشر فمشى معهم ساعة ثم التفت إليهم فقال أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم أشر خلق الله فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال احفظوها هذه واحدة ثم مشى معهم ساعة فلما توسط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم قال أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم إن قومي أشر خلق الله فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال احفظوها هاتان اثنتان فلما انتهى إلى باب االدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال : إن قومي أشر خلق الله ؟ أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم
فقال جبريل للملائكة احفظوا هذه ثلاث قد حق العذاب فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها فأتاها الفساق يهرعون سراعا قالوا ما عندك ؟ قالت ضيف لوط قوما ما رأيت قط أحسن وجوها منهم ولا أطيب ريحا منهم فهرعوا يسارعون إلى الباب فعالجهم لوط على الباب فدافعوه طويلا وهو داخل وهم خارج يناشدهم الله ويقول : { هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } فقام الملك فلز بالباب ـ يقول فشده ـ واستأذن جبريل في عقوبتهم فأذن الله له فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء فنشر جناحه ـ ولجبريل جناحان ـ وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه حبك حبك مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنه الثلج ورجلاه إلى الخضرة فقال : يا لوط { إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم فتنحى لوط عن الباب فخرج إليهم فنشر جناحه فضرب به وجوههم شدخ أعينهم فصاروا عميا لا يعرفون الطريق ثم أمر لوط فاحتمل بأهله في ليلته قال : { فأسر بأهلك بقطع من الليل } وروي عن محمد بن كعب وقتادة والسدي نحو هذا (2/596)
يقول تعالى : { فلما جاء أمرنا } وكان ذلك عند طلوع الشمس { جعلنا عاليها } وهي سدوم { سافلها } كقوله : { فغشاها ما غشى } أي أمطرنا عليها حجارة من سجيل وهي بالفارسية حجارة من طين قاله ابن عباس وغيره وقال بعضهم أي من سنك وهو الحجر وكل وهو الطين وقد قال في الاية الأخرى حجارة من طين أي مستحجرة قوية شديدة وقال بعضهم مشوية وقال البخاري سجيل : الشديد الكبير سجيل وسجين اللام والنون أختان وقال تميم بن مقبل :
ورجلة يضربون البيض صاحبة ضربا تواصت به الأبطال سجينا
وقوله : { منضود } قال بعضهم : في السماء أي معدة لذلك وقال آخرون : { منضود } أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم وقوله : { مسومة } أي معلمة مختومة عليها أسماء أصحابها كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه وقال قتادة وعكرمة : { مسومة } مطوقة بها نضح من حمرة وذكروا أنها نزلت على أهل البلد وعلى المتفرقين في القرى مما حولها فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس فدمره فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد وقال مجاهد : أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم وكان حملهم على حوافي جناحه الأيمن قال ولما قلبها كان أول ما سقط منها شرفاتها وقال قتادة بلغنا أن جبريل أخذ بعروة القرية الوسطى ثم ألوى بها إلى جو السماء حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم ثم دمر بعضهم على بعض ثم أتبع شذاذ القوم صخرا قال وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى في كل قرية مائة ألف وفي رواية ثلاث قرى الكبرى منها سدوم قال وبلغنا أن إبراهيم عليه السلام كان يشرف على سدوم ويقول : سدوم يوم هالك وفي رواية عن قتادة وغيره قال وبلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها فضمها في جناحه فحواها وطواها في جوف جناحه ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب وكانوا أربعة آلاف ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسة ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ثم أتبعها حجارة من سجيل وقال محمد بن كعب القرظي : كانت قرى قوم لوط خمس قريات سدوم وهي العظمى وصعبة وصعود وغمة ودوما احتملها جبريل بجناحه ثم صعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها وأصوات دجاجها ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها الله بالحجارة يقول الله تعالى : { جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل } فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات وقال السدي : لما أصبح قوم لوط نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ بها السماء حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها فقتلهم فذلك قوله : { والمؤتفكة أهوى } ومن لم يمت حتى سقط للأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله فذلك قوله عز و جل : { وأمطرنا عليهم } أي في القرى حجارة من سجيل هكذا قال السدي وقوله : { وما هي من الظالمين ببعيد } أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه وقد ورد في الحديث المروي في السنن عن ابن عباس مرفوعا [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل سواء كان محصنا أو غير محصن عملا بهذا الحديث وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (2/597)
يقول تعالى ولقد أرسلنا إلى مدين وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريبا من معان بلادا تعرف بهم يقال لها مدين فأرسل الله إليهم شعيبا وكان من أشرفهم نسبا ولهذا قال : { أخاهم شعيبا } يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان { إني أراكم بخير } أي في معيشتكم ورزقكم وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } أي في الدار الاخرة (2/598)
ينهاهم أولا عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق وقوله : { بقية الله خير لكم } قال ابن عباس : رزق الله خير لكم وقال الحسن رزق الله خير لكم من بخسكم الناس وقال الربيع بن أنس وصية الله خير لكم وقال مجاهد : طاعة الله وقال : قتادة حظكم من الله خير لكم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الهلاك في العذاب والبقية في الرحمة وقال أبو جعفر بن جرير { بقية الله خير لكم } أي ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس قال وقد روي هذا عن ابن عباس قلت ويشبه قوله تعالى : { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } الاية وقوله : { وما أنا عليكم بحفيظ } أي برقيب ولا حفيظ أي افعلوا ذلك لله عز و جل لا تفعلوه ليراكم الناس بل لله عز و جل (2/599)
يقولون له على سبيل التهكم قبحهم الله { أصلاتك } قال الأعمش أي قراءتك { تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } أي الأوثان والأصنام { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } فتترك التطفيف على قولك وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد قال الحسن في قوله : { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } أي والله إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم وقال الثوري في قوله : { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } يعنون الزكاة { إنك لأنت الحليم الرشيد } قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وابن أسلم وابن جرير يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء قبحهم الله ولعنهم عن رحمته وقد فعل (2/599)
يقول لهم هل رأيتم يا قوم إن كنت { على بينة من ربي } أي على بصيرة فيما أدعو إليه { ورزقني منه رزقا حسنا } قيل أراد النبوة وقيل أراد الرزق الحلال ويحتمل الأمرين وقال الثوري { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم كما قال قتادة في قوله { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } يقول : لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت } أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي { وما توفيقي } أي في إصابة الحق فيما أريده { إلا بالله عليه توكلت } في جميع أموري { وإليه أنيب } أي أرجع قاله مجاهد وغيره قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن أخاه مالكا : قال يا معاوية إن محمدا أخذ جيراني فانطلق إليه فإنه قد كلمك وعرفك فانطلقت معه فقال : دع لي جيراني فقد كانوا أسلموا فأعرض عنه فقام مغضبا فقال : أما والله لئن فعلت إن الناس يزعمون أنك لتأمرنا بالأمر وتخالف إلى غيره وجعلت أجره وهو يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ماتقول ؟ ] فقال : إنك والله لئن فعلت ذلك إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره قال : فقال [ أو قد قالوها ـ أي قائلهم ـ ولئن فعلت ما ذاك إلا علي وما عليهم من ذلك من شيء أرسلوا له جيرانه ] وقال أيضا : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : أخذ النبي صلى الله عليه و سلم ناسا من قومي في تهمة فحبسهم فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يخطب فقال : يا محمد علام تحبس جيراني ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن ناسا ليقولون إنك تنهى عن الشيء وتستخلي به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما تقول ؟ ] قال : فجعلت أعرض بينهما كلاما مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دعوة لا يفلحون بعدها أبدا فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى فهمها فقال : [ قد قالوها أو قائلها منهم والله لو فعلت لكان علي وما كان عليهم خلوا عن جيرانه ] ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو عامر حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولون عنه صلى الله عليه و سلم إنه قال : [ إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه ] إسناده صحيح وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث [ إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك ] ومعناه والله أعلم مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } وقال قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن يحيى بن الجزار عن مسروق قال : جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت تنهى عن الواصلة ؟ قال نعم قالت : فعله بعض نسائك فقال ما حفظت وصية العبد الصالح إذا { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } وقال عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي سليمان العتبي قال : كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي فيكتب في آخرها وما كنت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح : { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } (2/599)
يقول لهم { ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي } أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب وقال قتادة { ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي } يقول : لا يحملنكم فراقي وقال السدي عداوتي على أن تمادوا في الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد ابن عوف الحمصي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج حدثنا ابن أبي غنية حدثني عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي ليلى الكندي قال : كنت مع مولاي أمسك دابته وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان إذ أشرف علينا من داره فقال : { يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح } يا قوم لا تقتلوني إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه وقوله : { وما قوم لوط منكم ببعيد } قيل المراد في الزمان قال قتادة : يعني إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس وقيل في المكان ويحتمل الأمران { واستغفروا ربكم } من سالف الذنوب { ثم توبوا إليه } فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة وقوله : { إن ربي رحيم ودود } لمن تاب (2/600)
يقولون { يا شعيب ما نفقه } ما نفهم { كثيرا } من قولك { وإنا لنراك فينا ضعيفا } قال سعيد بن جبير والثوري وكان ضرير البصر وقال الثوري كان يقال له خطيب الأنبياء قال السدي { وإنا لنراك فينا ضعيفا } قال : أنت واحد وقال أبو روق : يعنون ذليلا لأن عشيرتك ليسوا على دينك { ولولا رهطك لرجمناك } أي قومك لولا معزتهم علينا لرجمناك قيل بالحجارة وقيل لسببناك { وما أنت علينا بعزيز } أي ليس عندنا لك معزة { قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله } يقول : أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاما لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيه بمساءة وقد اتخذتم كتاب الله { وراءكم ظهريا } أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه { إن ربي بما تعملون محيط } أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها (2/601)
لما يئس نبي الله شعيب من استجابتهم له قال يا قوم { اعملوا على مكانتكم } أي طريقتكم وهذا تهديد شديد { إني عامل } على طريقتي { سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب } أي مني ومنكم { وارتقبوا } أي انتظروا { إني معكم رقيب } قال الله تعالى : { ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } وقوله جاثمين اي هامدين لا حراك بهم وذكر ههنا أنه أتتهم صيحة وفي الأعراف رجفة وفي الشعراء عذاب يوم الظلة وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ففي الأعراف لما قالوا { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا } ناسب أن يذكر الرجفة الرجفة فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها وههنا لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ذكر الصيحة التي استلبثتهم وأخمدتهم وفي الشعراء لما قالوا { فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين } قال { فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } وهذا من الأسرار الدقيقة ولله الحمد والمنة كثيرا دائما وقوله : { كأن لم يغنوا فيها } أي يعيشوا في دارهم قبل ذلك { ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود } وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار وشبيها بهم في الكفر وقطع الطريق وكانوا عربا مثلهم (2/601)
يقول تعالى مخبرا عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملئه { فاتبعوا أمر فرعون } أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي { وما أمر فرعون برشيد } أي ليس فيه رشد ولا هدى وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد وكما أنهم اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم كذلك هو يقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم فأوردهم إياها وشربوا من حياض رداها وله في ذلك الحظ الأوفر من العذاب الأكبر كما قال تعالى : { فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } وقال تعالى : { فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } وقال تعالى : { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود } وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفورين في العذاب يوم القيامة كما قال تعالى : { لكل ضعف ولكن لا تعلمون } وقال تعالى إخبارا عن الكفرة أنهم يقولون في النار : { ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب } الاية وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا أبو الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار ] وقوله : { وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة } الاية أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة في الدنيا { ويوم القيامة بئس الرفد المرفود } قال مجاهد : زيدوا لعنة يوم القيامة فتلك لعنتان وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { بئس الرفد المرفود } قال : لعنة الدنيا والاخرة وكذا قال الضحاك وقتادة وهو كقوله { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين } وقال تعالى { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (2/602)
لما ذكر تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين قال : { ذلك من أنباء القرى } أي أخبارهم { نقصه عليك منها قائم } أي عامر { وحصيد } أي هالك { وما ظلمناهم } أي إذ أهلكناهم { ولكن ظلموا أنفسهم } بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم { فما أغنت عنهم آلهتهم } أوثانهم التي يعبدونها ويدعونها { من دون الله من شيء } ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإهلاكهم { وما زادوهم غير تتبيب } قال مجاهد وقتادة وغيرهما : أي غير تخسير وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الالهة فلهذا خسروا في الدنيا والاخرة (2/603)
يقول تعالى وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم { إن أخذه أليم شديد } وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } الاية (2/603)
يقول تعالى إن في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين { لاية } أي عظة واعتبارا على صدق موعودنا في الاخرة { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقال تعالى { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين } الاية وقوله : { ذلك يوم مجموع له الناس } أي أولهم وآخرهم كقوله : { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } { وذلك يوم مشهود } أي عظيم تحضره الملائكة ويجتمع فيه الرسل وتحشر الخلائق بأسرهم من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها وقوله { وما نؤخره إلا لأجل معدود } أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله في وجود أناس معدودين من ذرية آدم وضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم قامت الساعة ولهذا قال : { وما نؤخره إلا لأجل معدود } أي لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } أي يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله كقوله : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } وقال : { وخشعت الأصوات للرحمن } الاية وفي الصحيحين من حديث الشفاعة [ ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم ] وقوله : { فمنهم شقي وسعيد } أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد كما قال { فريق في الجنة وفريق في السعير } وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا موسى بن حيان حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا سليمان أبو سفيان حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر قال : لما نزلت { فمنهم شقي وسعيد } سألت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله : علام نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه فقال : [ على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام ولكن كل ميسر لما خلق له ] ثم بين تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال : (2/603)
يقول تعالى { لهم فيها زفير وشهيق } قال ابن عباس الزفير في الحلق والشهيق في الصدر أي تنفسهم زفير وأخذهم النفس شهيق لما هم فيه من العذاب عياذا بالله من ذلك { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } قال الإمام أبو جعفر بن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت هذا دائم دوام السموات والأرض وكذلك يقولون هو باق ما اختلف الليل والنهار وما سمر أبناء سمير وما لألأت العير بأذنابها يعنون بذلك كله أبدا فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم فقال : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } ( قلت ) : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض الجنس لأنه لا بد في عالم الاخرة من سموات وأرض كما قال تعالى { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } ولهذا قال الحسن البصري في قوله : { ما دامت السموات والأرض } قال : يقول : سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه فما دامت تلك السماء وتلك الأرض وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قوله : { ما دامت السموات والأرض } قال : لكل جنة سماء وأرض وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء وقوله { إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } كقوله { النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه زاد المسير وغيره من علماء التفسير ونقل كثيرا منها الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله في كتابه واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان والضحاك وقتادة وابن سنان ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضا أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والمؤمنين حتى يشفعون في أصحاب الكبائر ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط وقال يوما من الدهر لا إله إلا الله كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بمضمون ذلك من حديث أنس وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الاية الكريمة وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر وأبي سعيد من الصحابة وعن أبي مجلز والشعبي وغيرهما من التابعين وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة في أقوال غريبة وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي ولكن سنده ضعيف والله أعلم وقال قتادة : الله أعلم بثنياه وقال السدي هي منسوخة بقوله { خالدين فيها أبدا } (2/604)
يقول تعالى : { وأما الذين سعدوا } وهم أتباع الرسل { ففي الجنة } أي فمأواهم الجنة { خالدين فيها } أي ماكثين فيها أبدا { ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } معنى الاستثناء ههنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى فله المنة عليهم دائما ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وقال الضحاك والحسن البصري هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار ثم أخرجوا منها وعقب ذلك بقوله { عطاء غير مجذوذ } أي غير مقطوع قاله مجاهد وابن عباس وأبو العالية وغير واحد لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعا أو لبسا أو شيئا بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع كما بين هناك أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته وأنه بعدله وحكمته عذبهم ولهذا قال { إن ربك فعال لما يريد } كما قال : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله : { عطاء غير مجذوذ } وقد جاء في الصحيحين [ يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ] وفي الصحيح أيضا [ فيقال يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ] (2/605)
يقول تعالى : { فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } المشركون إنه باطل وجهل وضلال فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا إتباع الاباء في الجهالات وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء فيعذب كافرهم عذابا لا يعذبه أحدا وإن كان لهم حسنات فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الاخرة قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن مجاهد عن ابن عباس { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } قال ما وعدوا من خير أو شر وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة فلا يغيظنك تكذيبهم لك ولا يهمنك ذلك { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم } قال ابن جرير لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم لقضى الله بينهم ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه كما قال : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فإنه قد قال في الاية الأخرى : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى * فاصبر على ما يقولون } ثم أخبر تعالى أنه سيجمع الأولين والاخرين من الأمم ويجزيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر فقال : { وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير } أي عليم بأعمالهم جميعها جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها وفي هذه الاية قراءات كثيرة يرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه كما في قوله تعالى : { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } (2/605)
يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان وهو البغي فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء
وقوله : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تداهنوا وقال العوفي عن ابن عباس : هو الركون إلى الشرك وقال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم وقال ابن جرير عن ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم { فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } أي ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم ولا ناصر يخلصكم من عذابه (2/606)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وأقم الصلاة طرفي النهار } قال يعني الصبح والمغرب وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال الحسن في رواية وقتادة والضحاك وغيرهم هي الصبح والعصر وقال مجاهد : هي الصبح في أول النهار والظهر والعصر من آخره { وزلفا من الليل } قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم يعني صلاة العشاء وقال الحسن في رواية ابن المبارك عن مبارك بن فضالة عنه { وزلفا من الليل } يعني المغرب والعشاء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هما زلفتا الليل المغرب والعشاء ] وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والضحاك إنها صلاة المغرب والعشاء وقد يحتمل أن تكون هذه الاية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة ثم نسخ في حق الأمة وثبت وجوبه عليه ثم نسخ عنه أيضا في قول والله أعلم
وقوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } يقول إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني عنه أحد استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له ] وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوضأ وقال : [ من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ] وروى الإمام أحمد وأبو جعفر ابن جرير من حديث أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن فدعا عثمان بماء في إناء أظنه سيكون فيه قدر مد فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال [ من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما بينه وبين صلاة الصبح ثم صلى العصر غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر ثم صلى المغرب غفر له ما بينه وبين صلاة العصر ثم صلى العشاء غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهن الحسنات يذهبن السيئات ] وفي الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيئا ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا ] وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو الطاهر وهارون ابن سعيد قالا : حدثنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ] وقال الإمام أحمد حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد أن أبارهم السمعي كان يحدث أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة ] وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ جعلت الصلوات كفارات لما بينهن ] فإن الله قال { إن الحسنات يذهبن السيئات }
وقال البخاري : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فأنزل الله { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } فقال الرجل يا رسول الله ألي هذا ؟ قال : [ لجميع أمتي كلهم ] هكذا رواه في كتاب الصلاة وأخرجه في التفسير عن مسدد عن يزيد بن زريع بنحوه ورواه مسلم وأحمد وأهل السنن إلا أبا داود من طرق عن أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل به ورواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه من طرق عن سماك بن حرب أنه سمع إبراهيم بن يزيد يحدث عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت فلم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا فذهب الرجل فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه فأتبعه رسول الله صلى الله عليه و سلم بصره ثم قال : [ ردوه علي ] فردوه عليه فقرأ عليه { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } فقال معاذ وفي رواية عمر يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة ؟ قال : [ بل للناس كافة ] وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه ] قال : قلنا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال : [ غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث ] وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان فلان ابن معتب رجلا من الأنصار فقال يا رسول الله دخلت علي امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إلا أني لم أواقعها فلم يدر رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يجيبه حتى نزلت هذه الاية { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } فدعاه رسول الله فقرأها عليه وعن ابن عباس أنه عمرو بن غزية الأنصاري التمار وقال مقاتل هو أبو نفيل عامر بن قيس الأنصاري وذكر الخطيب البغدادي أنه أبو اليسر كعب بن عمرو وقال الإمام أحمد حدثنا يونس وعفان قالا : حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن علي بن زيد قال عفان أنبأنا علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رجلا أتى عمر فقال إن امرأة جاءت تبايعه فأدخلتها الدولج فأصبت منها ما دون الجماع فقال ويحك لعلها مغيبة في سبيل الله ؟ قال أجل قال فائت أبا بكر فسله قال فأتاه فسأله فقال لعلها مغيبة في سبيل الله ؟ فقال مثل قول عمر ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له مثل ذلك قال [ فلعلها مغيبة في سبيل الله ] ونزل القرآن { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } إلى آخر الاية فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة ؟ فضرب يعني عمر صدره بيده وقال لا ولا نعمة عين بل للناس عامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدق عمر ] وروى الإمام أبو جعفر بن جرير من حديث قيس بن الربيع عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرا فقلت إن في البيت تمرا أجود من هذا فدخلت فأهويت إليها فقبلتها فأتيت عمر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدا فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدا قال فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال [ أخلفت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا ] حتى ظننت أني من أهل النار حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ فأطرق رسول الله صلى الله عليه و سلم ساعة فنزل جبريل فقال أبو اليسر فجئت فقرأ علي رسول الله { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } فقال إنسان : يا رسول الله له خاصة أم للناس عامة ؟ قال [ للناس عامة ] وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أنه كان قاعدا عند النبي صلى الله عليه و سلم فجاء رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا الرجل يصيبه من امرأته إلا قد أصاب منها غير أنه لم يجامعها ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصل ] فأنزل الله عز و جل هذه الاية يعني قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار } فقال معاذ أهي له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال : [ بل للمسلمين عامة ] ورواه ابن جرير من طرق عن عبد الملك بن عمير به وقال عبد الرزاق حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأذنه لحاجة فأذن له فذهب يطلبها فلم يجدها فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي صلى الله عليه و سلم بالمطر فوجد المرأة جالسة على غدير فدفع في صدرها وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة فقام نادما حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما صنع فقال له : [ استغفر ربك وصل أربع ركعات ] قال : وتلا عليه { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } الاية
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن أحمد بن سيبويه حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثني عمرو بن الحارث حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيدي عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أقم في حد الله ـ مرة أو اثنتين ـ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ النبي صلى الله عليه و سلم من الصلاة قال : [ أين هذا الرجل القائل أقم في حد الله ؟ ] قال : أنا ذا قال : أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا ؟ قال : نعم قال : [ فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد ] وأنزل الله على رسول الله { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي بن زيد عن أبي عثمان قال كنت : مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه ثم قال : أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا قلت ولم تفعله ؟ قال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق وقال : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : يا معاذ [ أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ] وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ] وقال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شمر بن عطية عن أشياخه عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أوصني قال : [ إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها ] قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : [ هي أفضل الحسنات ] وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا هذيل بن إبراهيم الجماني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الزهري عن ولد سعد بن أبي وقاص عن الزهري عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما قال عبد لا إله إلا الله في ساعة من ليل أو نهار إلا طلست ما في الصحيفة من السيئات حتى تسكن إلى مثلها من الحسنات ] عثمان بن عبد الرحمن يقال له الوقاصي فيه ضعف وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا بشر بن آدم وزيد بن أخرم قالا حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا مستور بن عباد عن ثابت عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ما تركت من حاجة ولا داجة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ ] قال : بلى قال [ فإن هذا يأتي على ذلك ] تفرد به من هذا الوجه مستور (2/606)
يقول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض وقوله : { إلا قليلا } أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيرا وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } وفي الحديث [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ] ولهذا قال تعالى : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم } وقوله : { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب { وكانوا مجرمين } ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقال : { وما ربك بظلام للعبيد } (2/610)
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر كما قال تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } وقوله : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم وقال عكرمة : مختلفين في الهدى وقال الحسن البصري : مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضا والمشهور الصحيح الأول وقوله : { إلا من رحم ربك } أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه ففازوا بسعادة الدنيا والاخرة لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضا [ إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال ] ما أنا عليه وأصحابي [ رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة وقال عطاء : { ولا يزالون مختلفين } يعني اليهود والنصارى والمجوس { إلا من رحم ربك } يعني الحنيفية وقال قتادة أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم وقوله : { ولذلك خلقهم } قال الحسن البصري في رواية عنه وللاختلاف خلقهم وقال مكي بن أبي طلحة عن ابن عباس : خلقهم فريقين كقوله : { فمنهم شقي وسعيد } وقيل للرحمة خلقهم قال ابن وهب أخبرني مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس : أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين : لذلك خلقنا فقال طاوس : كذبت فقال أليس الله يقول : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة كما قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقيل بل المراد وللرحمة والاختلاف خلقهم كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } قال الناس مختلفون على أديان شتى { إلا من رحم ربك } فمن رحم ربك غير مختلف فقيل له لذلك خلقهم قال خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره وخلق لعذابه وكذا قال عطاء بن أبي رباح والأعمش وقال ابن وهب سألت مالكا عن قوله تعالى : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } قال فريق في الجنة وفريق في السعير وقد اختار هذا القول ابن جرير وأبو عبيد الفراء وعن مالك فيما روينا عنه من التفسير { ولذلك خلقهم } قال للرحمة وقال قوم للاختلاف وقوله : { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ومنهم من يستحق النار وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس وله الحجة البالغة والحكمة التامة وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين فقال الله عز و جل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشىء الله لها خلقا يسكن فضل الجنة وأما النار فلا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول قط قط وعزتك (2/610)
يقول تعالى وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين كل هذا مما نثبت به فؤادك أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة وقوله : { وجاءك في هذه الحق } أي هذه السورة قال ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف وعن الحسن في رواية عنه وقتادة في هذه الدنيا والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف أنجاهم الله والمؤمنين بهم وأهلك الكافرين جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون وذكرى يتذكر بها المؤمنون (2/611)
يقول تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد { اعملوا على مكانتكم } أي على طريقتكم ومنهجكم { إنا عاملون } أي على طريقتنا ومنهجنا { وانتظروا إنا منتظرون } أي { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون } وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم (2/612)
يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب فله الخلق والأمر فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه وقوله : { وما ربك بغافل عما تعملون } أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والاخرة وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن كعب قال : خاتمة التوراة خاتمة هود آخر تفسير سور هود عليه السلام ولله الحمد والمنة (2/612)
سورة يوسف
روى الثعلبي وغيره من طريق سلام بن سلم ويقال : سليم المدائني وهو متروك عن هارون بن كثير وقد نص على جهالته أبو حاتم عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ علموا أرقاكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله أو ما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه من القوة أن لا يحسد مسلما ] وهذا من هذا الوجه لا يصح لضعف إسناده بالكلية وقد ساقه الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم عن هارون بن كثير به ومن طريق شبابة عن محمد بن عبد الواحد النضري عن علي بن زيد بن جدعان وعن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكر نحوه وهو منكر من سائر طرقه وروى البيهقي في الدلائل أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
بسم الله الرحمن الرحيم (2/612)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة وقوله : { تلك آيات الكتاب } أي هذه آيات الكتاب وهو القرآن المبين أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض وابتدىء إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان فكمل من كل الوجوه ولهذا قال تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن } بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن
وقد ورد في سبب نزول هذه الاية ما رواه ابن جرير : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي حدثنا حكام الرازي عن أيوب عن عمرو هو ابن قيس الملائي عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم لو قصصت علينا ؟ فنزلت { نحن نقص عليك أحسن القصص } ورواه من وجه آخر عن عمرو بن قيس مرسلا وقال أيضا حدثنا محمد بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد أنبأنا خالد الصفار عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم القرآن قال : فتلاه عليهم زمانا فقالوا : يارسول الله لو قصصت علينا ؟ فأنزل الله عز و جل { الر تلك آيات الكتاب المبين } إلى قوله : { لعلكم تعقلون } ثم تلاه عليهم زمانا فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل الله عز و جل { الله نزل أحسن الحديث } الاية وذكر الحديث ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن راهويه عن عمرو بن محمد القرشي المنقري به وروى ابن جرير بسنده عن المسعودي عن عون بن عبد الله قال : مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ملة فقالوا : يا رسول الله حدثنا فأنزل الله { الله نزل أحسن الحديث } ثم ملوا ملة أخرى فقالوا : يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن يعنون القصص فأنزل الله عز و جل { الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص } الاية فأرادوا الحديث فدلهم على أحسن الحديث وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص
ومما يناسب ذكره عند هذه الاية الكريمة المشتملة على مدح القرآن وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان أنبأنا هشيم أنبأنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه و سلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه و سلم قال : فغضب وقال : [ أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ] وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أنبأنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا قال : فسري عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال : [ والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين ]
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير حدثنا علي بن مسعر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن خليفة بن قيس عن خالد بن عرفطة قال : كنت جالسا عند عمر إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس فقال له عمر : أنت فلان بن فلان العبدي ؟ قال : نعم قال : وأنت النازل بالسوس ؟ قال : نعم فضربه بقناة معه قال : فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر : اجلس فجلس فقرأ عليه { الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } فقرأها عليه ثلاثا وضربه ثلاثا فقال له الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال قال : مرني بأمرك أتبعه قال : انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة ثم قال له اجلس فجلس بين يديه فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما هذا في يدك يا عمر ؟ ] قال : قلت : يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة فقالت الأنصار : أغضب نبيكم الله صلى الله عليه و سلم ؟ السلاح السلاح فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون ] قال عمر : فقمت فقلت : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبك رسولا ثم نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق به وهذا حديث غريب من هذا الوجه وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي وقد ضعفوه وشيخه قال البخاري : لا يصح حديثه قلت : وقد روي له شاهد من وجه آخر فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي : أخبرني الحسن بن سفيان حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي حدثني عمرو بن الحارث حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي حدثنا سليم بن عامر أن جبير بن نفير حدثهم أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر رضي الله عنه فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين يقولون : إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة وإن نهانا عنها رفضناها فلما قدما عليه قالا : إنا بأرض أهل الكتاب وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا أفنأخذ منه أو نترك ؟ فقال : لعلكما كتبتما منه شيئا ؟ فقالا : لا قال سأحدثكما : انطلقت في حياة النبي صلى الله عليه و سلم حتى أتيت خيبر فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني فقلت : هل أنت مكتبي مما تقول ؟ قال : نعم فأتيت بأديم فأخذ يملي علي حتى كتبت في الأكرع فلما رجعت قلت : يا نبي الله وأخبرته قال [ ائتني به ] فانطلقت أرغب عن الشيء رجاء أن أكون جئت رسول الله ببعض ما يحب فلما أتيت به قال : [ اجلس اقرأ علي ] فقرأت ساعة ثم نظرت إلى وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هو يتلون فتحيرت من الفرق فما استطعت أن أجيز منه حرفا فلما رأى الذي بي رفعه ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه وهو يقول : [ لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوكوا ] حتى محا آخره حرفا حرفا قال عمر رضي الله عنه : فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئا جعلتكما نكالا لهذه الأمة قالا : والله ما نكتب منه شيئا أبدا فخرجا بصلاصفتهما فحفرا لها فلم يألوا أن يعمقا ودفناها فكان آخر العهد منها وهكذا روى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفى عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت الأنصاري عن عمر بن الخطاب بنحوه وروى أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة عن عمر نحوه والله أعلم (2/613)
يقول تعالى : اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ] انفرد بإخراجه البخاري فرواه عن عبد الله بن محمد عن عبد الصمد به وقال البخاري أيضا : حدثنا محمد أنبأنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الناس أكرم ؟ قال : [ أكرمهم عند الله أتقاهم ] قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : [ فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ] قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : [ فعن معادن العرب تسألوني ؟ ] قالوا : نعم قال [ فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ] ثم قال : تابعه أبو أسامة عن عبيد الله
وقال ابن عباس رؤيا الأنبياء وحي وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته وكانوا أحد عشر رجلا سواه والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه روي هذا عن ابن عباس والضحاك وقتادة وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة وقيل : ثمانين سنة وذلك حين رفع أبويه على العرش وهو سريره وإخوته بين يديه { وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكبا فقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني علي بن سعيد الكندي حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل من يهود يقال له بستانة اليهودي فقال له : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها ؟ قال : فسكت النبي صلى الله عليه و سلم ساعة فلم يجبه بشيء ونزل عليه جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه فقال : [ هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها ؟ ] فقال : نعم قال [ جريان والطارق والذيال وذو الكنفات وقابس ووثاب وعمودان والفيلق والمصبح والضروح وذو الفرغ والضياء والنور ] فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها
ورواه البيهقي في الدلائل من حديث سعيد بن منصور عن الحكم بن ظهير وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما وابن أبي حاتم في تفسيره أما أبو يعلى فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن ظهير به وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما رآها يوسف قصها على أبيه يعقوب فقال له أبوه : هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد ـ قال ـ والشمس أبوه والقمر أمه ] تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري وقد ضعفه الأئمة وتركه الأكثرون وقال الجوزجاني : ساقط وهو صاحب حديث حسن ثم ذكر الحديث المروي عن جابر أن يهوديا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكواكب التي رآها يوسف ما أسماؤها ؟ وأنه أجابه ثم قال : تفرد به الحكم بن ظهير وقد ضعفه الأربعة (2/615)
يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدونه على ذلك فيبغون له الغوائل حسدا منهم له ولهذا قال له : { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الاخر وليتفل عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من شرها ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ] وفي الحديث الاخر الذي رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ] ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر كما ورد في حديث [ استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود ] (2/616)
يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لولده يوسف : إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك { كذلك يجتبيك ربك } أي يختارك ويصطفيك لنبوته { ويعلمك من تأويل الأحاديث } قال مجاهد وغير واحد : يعني تعبير الرؤيا { ويتم نعمته عليك } أي بإرسالك والإيحاء إليك ولهذا قال : { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم } وهو الخليل { وإسحاق } ولده وهو الذبيح في قول وليس بالرجيح { إن ربك عليم حكيم } أي هو أعلم حيث يجعل رسالته كما قال في الاية الأخرى (2/616)
يقول تعالى : لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات أي عبرة ومواعظ للسائلين عن ذلك المستخبرين عنه فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه { إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } أي حلفوا فيما يظنون والله ليوسف وأخوه يعنون بنيامين وكان شقيقه لأمه { أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة } أي جماعة فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة { إن أبانا لفي ضلال مبين } يعنون في تقديمهما علينا ومحبته إياهما أكثر منا
واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك وفي هذا نظر ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل ولم يذكروا سوى قوله تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } وهذا فيه احتمال لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط كما يقال للعرب قبائل وللعجم شعوب يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم والله أعلم { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم } يقولون : هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم أعدموه من وجه أبيكم ليخلو لكم وحدكم إما بأن تقتلوه أو تلقوه في أرض من الأراضي تستريحوا منه وتخلوا أنتم بأبيكم { وتكونوا من بعده قوما صالحين } فأضمروا التوبة قبل الذنب { قال قائل منهم } قال قتادة ومحمد بن إسحاق : وكان أكبرهم واسمه روبيل وقال السدي : الذي قال ذلك يهوذا وقال مجاهد هو شمعون الصفا { لا تقتلوا يوسف } أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله ولم يكن لهم سبيل إلى قتله لأن الله تعالى كان يريد منه أمرا لا بد من إمضائه وإتمامه من الإيحاء إليه بالنبوة ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب وهو أسفله قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس { يلتقطه بعض السيارة } أي المارة من المسافرين فتستريحوا منه بهذا ولا حاجة إلى قتله { إن كنتم فاعلين } أي إن كنتم عازمين على ما تقولون قال محمد بن إسحاق بن يسار : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل وخطره عند الله مع حق الوالد على ولده ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين فقد احتملوا أمرا عظيما رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عنه (2/617)
لما تواطأوا على أخذه وطرحه في البئر كما أشار به عليهم أخوهم الكبير روبيل جاءوا أباهم يعقوب عليه السلام فقالوا : ما بالك { لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } وهذه توطئة ودعوى وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له { أرسله معنا } أي ابعثه معنا { غدا يرتع ويلعب } وقرأ بعضهم بالياء { يرتع ويلعب } قال ابن عباس : يسعى وينشط وكذا قال قتادة والضحاك والسدي وغيرهم { وإنا له لحافظون } يقولون : ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك (2/618)
يقول تعالى مخبرا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء { إني ليحزنني أن تذهبوا به } أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة والكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه وقوله : { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون فأخذوا من فمه هذه الكلمة وجعلوها عذرهم فيما فعلوه وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة { لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون } يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ونحن جماعة إنا إذا لهالكون عاجزون (2/618)
يقول تعالى : فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك { وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب } هذا فيه تعظيم لما فعلوه أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراما له وبسطا وشرحا لصدره وإدخالا للسرور عليه فيقال إن يعقوب عليه السلام لما بعثه معهم ضمه إليه وقبله ودعا له وذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه والفعل من ضرب ونحوه ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه فربطوه بحبل ودلوه فيه فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة فسقط في الماء فغمره فصعد إلى صخرة تكون في وسطه يقال لها الراغوفة فقام فوقها
وقوله : { وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } يقول تعالى ذاكرا لطفه ورحمته وعائدته وإنزاله اليسر في حال العسر : إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطييبا لقلبه وتثبيتا له إنك لا تحزن مما أنت فيه فإن لك من ذلك فرجا ومخرجا حسنا وسينصرك الله عليهم ويعليك ويرفع درجتك وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع وقوله : { وهم لا يشعرون } قال مجاهد وقتادة : { وهم لا يشعرون } بإيحاء الله إليه وقال ابن عباس : ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك كما قال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي عن أبيه سمعت ابن عباس يقول : لما دخل إخوة يوسف عليه فعرفهم وهم له منكرون قال : جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب قال : ثم نقره فطن قال : فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب قال : فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم قال ابن عباس : فلا نرى هذه الاية نزلت إلا فيهم { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } (2/618)
يقول تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعد ما ألقوه في غيابة الجب ثم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا { إنا ذهبنا نستبق } أي نترامى { وتركنا يوسف عند متاعنا } أي ثيابنا وأمتعتنا { فأكله الذئب } وهو الذي كان قد جزع منه وحذر عليه وقوله : { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا والحالة هذه لو كنا عندك صادقين فكيف وأنت تتهمنا في ذلك لأنك خشيت أن يأكله الذئب فأكله الذئب فأنت معذور في تكذيبك لنا لغرابة ما وقع وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا { وجاؤوا على قميصه بدم كذب } أي مكذوب مفترى وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيده وهو أنهم عمدوا إلى سخلة فيما ذكره مجاهد والسدي وغير واحد فذبحوها ولطخوا ثوب يوسف بدمها موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب وقد أصابه من دمه ولكنهم نسوا أن يخرقوه فلهذا لم يرج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب بل قال لهم معرضا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه { بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } أي فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه { والله المستعان على ما تصفون } أي على ما تذكرون من الكذب والمحال
وقال الثوري عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وجاؤوا على قميصه بدم كذب } قال : لو أكله السبع لخرق القميص وكذا قال الشعبي والحسن وقتادة وغير واحد وقال مجاهد : الصبر الجميل الذي لا جزع فيه وروى هشيم عن عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي جبلة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله : { فصبر جميل } فقال : صبر لا شكوى فيه وهذا مرسل وقال عبد الرزاق : قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال : ثلاث من الصبر : أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك وذكر البخاري ههنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها : والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } (2/619)
يقول تعالى مخبرا عما جرى ليوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيدا فريدا فمكث في البئر ثلاثة أيام فيما قاله أبو بكر بن عياش وقال محمد بن إسحاق : لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ينظرون ماذا يصنع وما يصنع به فساق الله له سيارة فنزلوا قريبا من تلك البئر وأرسلوا واردهم وهو الذي يتطلب لهم الماء فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها تشبث يوسف عليه السلام فيها فأخرجه واستبشر به وقال : { يا بشرى هذا غلام } وقرأ بعض القراء يا بشراي فزعم السدي أنه اسم رجل ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه معلما له أنه أصاب غلاما وهذا القول من السدي غريب لأنه لم يسبق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس والله أعلم وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه وحذف ياء الإضافة وهو يريدها كما تقول العرب : يا نفس اصبري ويا غلام أقبل بحذف حرف الإضافة ويجوز الكسر حينئذ والرفع وهذا منه وتفسرها القراءة الأخرى يا بشراي والله أعلم
وقوله : { وأسروه بضاعة } أي وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا : اشتريناه وتبضعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره قاله مجاهد والسدي وابن جرير : هذا قول وقال العوفي عن ابن عباس قوله : { وأسروه بضاعة } يعني إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته واختار البيع فذكره إخوته لوارد القوم فنادى أصحابه { يا بشرى هذا غلام } يباع فباعه إخوته
وقوله : { والله عليم بما يعملون } أي عليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه ولكن له حكمة وقدر سابق فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم وإعلام له بأني عالم بأذى قومك لك وأنا قادر على الإنكار عليهم ولكني سأملي لهم ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته
وقوله : { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } يقول تعالى : وباعه إخوته بثمن قليل قاله مجاهد وعكرمة والبخس : هو النقص كما قال تعالى : { فلا يخاف بخسا ولا رهقا } أي اعتاض عنه إخوته بثمن دون قليل ومع ذلك كانوا فيه من الزاهدين أي ليس لهم رغبة فيه بل لو سئلوه بلا شيء لأجابوا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : إن الضمير في قوله : { وشروه } عائد على إخوة يوسف وقال قتادة : بل هو عائد على السيارة والأول أقوى لأن قوله : { وكانوا فيه من الزاهدين } إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه فترجح من هذا أن الضمير في { شروه } إنما هو لإخوته وقيل : المراد بقوله { بخس } الحرام وقيل : الظلم هذا وإن كان كذلك لكن ليس هو المراد هنا لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال وعلى كل أحد لأنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الرحمن فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما أي إنهم إخوته وقد باعوه ومع هذا بأنقص الأثمان ولهذا قال { دراهم معدودة } فعن ابن مسعود رضي الله عنه : باعوه بعشرين درهما وكذا قال ابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي وزاد اقتسموها درهمين درهمين وقال مجاهد : اثنان وعشرون درهما وقال محمد بن إسحاق وعكرمة : أربعون درهما وقال الضحاك في قوله { وكانوا فيه من الزاهدين } وذلك أنهم لم يعلموا نبوته ومنزلته عند الله عز و جل وقال مجاهد : لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر فقال : من يبتاعني وليبشر ؟ فاشتراه الملك وكان مسلما (2/620)
يخبر تعالى بألطافه بيوسف عليه السلام أنه قيض له الذي اشتراه من مصر حتى اعتنى به وأكرمه وأوصى أهله به وتوسم فيه الخير والصلاح فقال لامرأته { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها وهو الوزير حدثنا العوفي عن ابن عباس وكان اسمه قطفير وقال محمد بن إسحاق : اسمه أطفير بن روحيب وهو العزيز وكان على خزائن مصر وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق قال : واسم امرأته راعيل بنت رعائيل وقال غيره : اسمها زليخا وقال محمد بن إسحاق أيضا عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس : كان الذي باعه بمصر مالك بن دعر بن بويب بن عنقا بن مديان بن إبراهيم فالله أعلم وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته : { أكرمي مثواه } والمرأة التي قالت لأبيها { يا أبت استأجره } الاية وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول تعالى : كما أنقذنا يوسف من إخوته { كذلك مكنا ليوسف في الأرض } يعني بلاد مصر { ولنعلمه من تأويل الأحاديث }
قال مجاهد والسدي : هو تعبير الرؤيا { والله غالب على أمره } أي إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف بل هو الغالب لما سواه قال سعيد بن جبير في قوله : { والله غالب على أمره } : أي فعال لما يشاء وقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يقول : لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد وقوله : { ولما بلغ } أي يوسف عليه السلام { أشده } أي استكمل عقله وتم خلقه { آتيناه حكما وعلما } يعني النبوة أنه حباه بها بين أولئك الأقوام { وكذلك نجزي المحسنين } أي إنه كان محسنا في عمله عاملا بطاعة الله تعالى وقد اختلف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ثلاث وثلاثون سنة وعن ابن عباس : بضع وثلاثون وقال الضحاك : عشرون وقال الحسن : أربعون سنة وقال عكرمة : خمس وعشرون سنة وقال السدي : ثلاثون سنة وقال سعيد بن جبير : ثماني عشرة سنة وقال الإمام مالك وربيعة بن زيد بن أسلم والشعبي : الأشد الحلم وقيل غير ذلك والله أعلم (2/621)
يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه فراودته عن نفسه أي حاولته على نفسه ودعته إليها وذلك انها أحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه فحملها ذلك على أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها { وقالت هيت لك } فامتنع من ذلك أشد الامتناع و { قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي } وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير أي إن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلى وأحسن إلي فلا أقابله بالفاحشة في أهله { إنه لا يفلح الظالمون } قال ذلك مجاهد والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم وقد اختلف القراء في قوله : { هيت لك } فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : معناه أنها تدعوه إلى نفسها وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس : هيت لك تقول هلم لك وكذا قال زر بن حبيش وعكرمة والحسن وقتادة قال عمرو بن عبيد عن الحسن : وهي كلمة بالسريانية أي عليك وقال السدي : هيت لك أي هلم لك وهي بالقبطية وقال مجاهد : هي لغة عربية تدعوه بها وقال البخاري : وقال عكرمة : هيت لك أي هلم لك بالحورانية وهكذا ذكره معلقا
وقد أسنده الإمام جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن سهل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا النضر بن عربي الجزري عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : { هيت لك } قال : هلم لك قال : هي بالحورانية وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : وكان الكسائي يحكي هذه القراءة يعني هيت لك ويقول : هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز ومعناها تعال وقال أبو عبيدة : سألت شيخا عالما من أهل حوران فذكر أنها لغتهم يعرفها واستشهد الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول الشاعر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه :
أبلغ أمير المؤمنـ ين أذى العراق إذا أتينا
إن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا
يقول : فتعال واقترب وقرأ ذلك آخرون هئت لك بكسر الهاء وبالهمز وضم التاء بمعنى تهيأت لك من قول القائل هئت بالأمر أهيء هئة وممن روى عنه هذه القراءة : ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو وائل وعكرمة وقتادة وكلهم يفسرها بمعنى تهيأت لك قال ابن جرير : وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة وقرأ عبد الله بن إسحاق : هيت بفتح الهاء وكسر التاء وهي غريبة وقرأ آخرون منهم عامة أهل المدينة هيت بفتح الهاء وضم التاء وأنشد قول الشاعر :
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن الأعمش عن أبي وائل قال : قال ابن مسعود وقد سمع القراء : سمعتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف وإنما هو كقول أحدكم : هلم وتعال ثم قرأ عبد الله : هيت لك فقال : يا أبا عبد الرحمن إن ناسا يقرءونها هيت قال عبد الله : أن أقرأها كما علمت أحب إلي وقال ابن جرير : حدثني ابن وكيع حدثنا ابن عيينة عن منصور عن أبي وائل قال : قال عبد الله : هيت لك فقال له مسروق : إن ناسا يقرءونها : هيت لك فقال : دعوني فإني أقرأ كما أقرئت أحب إلي وقال أيضا : حدثني المثنى حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن شقيق عن ابن مسعود قال : هيت لك بنصب الهاء والتاء ولا نهمز وقال آخرون : هيت لك بكسر الهاء وإسكان الياء وضم التاء قال أبو عبيد معمر بن المثنى : هيت لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث بل يخاطب الجميع بلفظ واحد فيقال : هيت لك وهيت لكم وهيت لكما وهيت لكن وهيت لهن (2/622)
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وطائفة من السلف في ذلك ما رواه ابن جرير وغيره والله أعلم وقيل : المراد بهمه بها خطرات حديث النفس حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق ثم أورد البغوي ههنا حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله تعالى : إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإنما تركها من جرائي فإن عملها فاكتبوها بمثلها ] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة هذا منها وقيل : هم بضربها وقيل : تمناها زوجة وقيل : هم بها لولا أن رأى برهان ربه أي فلم يهم بها وفي هذا القول نظر من حيث العربية حكاه ابن جرير وغيره وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضا فعن ابن عباس وسعيد ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة وأبي صالح والضحاك ومحمد بن إسحاق وغيرهم : رأى صورة أبيه يعقوب عليه السلام عاضا على أصبعه بفمه وقيل عنه في رواية : فضرب في صدر يوسف وقال العوفي عن ابن عباس : رأى خيال الملك يعني سيده وكذا قال محمد بن إسحاق فيما حكاه عن بعضهم : إنما هو خيال قطفير سيده حين دنا من الباب
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن أبي مودود سمعت من محمد بن كعب القرظي قال رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت فإذا كتاب في حائط البيت { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } وكذا رواه أبو معشر المدني عن محمد بن كعب وقال عبد الله بن وهب : أخبرني نافع بن يزيد عن أبي صخر قال : سمعت القرظي يقول : في البرهان الذي رآه يوسف ثلاث آيات من كتاب الله { إن عليكم لحافظين } الاية وقوله : { وما تكون في شأن } الاية وقوله : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي وزاد آية رابعة { ولا تقربوا الزنى } وقال الأوزاعي رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه عن ذلك قال ابن جرير : والصواب أن يقال : إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به وجائز أن يكون صورة يعقوب وجائز أن يكون صورة الملك وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى وقوله : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } أي كما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره : { إنه من عبادنا المخلصين } أي من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار صلوات الله وسلامه عليه (2/623)
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب : يوسف هارب والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت فلحقته في أثناء ذلك فأمسكت بقميصه من ورائه فقدته قدا فظيعا يقال : إنه سقط عنه واستمر يوسف هاربا ذاهبا وهي في أثره فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا } أي فاحشة { إلا أن يسجن } أي يحبس { أو عذاب أليم } أي يضرب ضربا شديدا موجعا فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق وتبرأ مما رمته به من الخيانة و { قال } بارا صادقا { هي راودتني عن نفسي } وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه { وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل } أي من قدامه { فصدقت } أي في قولها إنه راودها عن نفسها لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره فقدت قميصه فيصح ما قالت { وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } وذلك يكون كما وقع لما هرب منها وتطلبته أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها فقدت قميصه من ورائه وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير ؟ على قولين لعلماء السلف فقال عبد الرزاق أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس { وشهد شاهد من أهلها } قال ذو لحية وقال الثوري عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس : كان من خاصة الملك وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم : إنه كان رجلا وقال زيد بن أسلم والسدي : كان ابن عمها وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { وشهد شاهد من أهلها } قال : كان صبيا في المهد وكذا روي عن أبي هريرة وهلال بن يساف والحسن وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم أنه كان صبيا في الدار واختاره ابن جرير : وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد حدثنا عفان حدثنا حماد هو ابن سلمة أخبرني عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ تكلم أربعة وهم صغار ] فذكر فيهم شاهد يوسف ورواه غيره عن حماد بن سلمة عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس أنه قال [ تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم ] وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : كان من أمر الله تعالى ولم يكن إنسيا وهذا قول غريب
وقوله : { فلما رأى قميصه قد من دبر } أي لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به { قال إنه من كيدكن } أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن { إن كيدكن عظيم } ثم قال آمرا ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع { يوسف أعرض عن هذا } أي اضرب عن هذا صفحا أي فلا تذكره لأحد
{ واستغفري لذنبك } يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه فقال لها : استغفري لذنبك أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ثم قذفه بما هو بريء منه { إنك كنت من الخاطئين } (2/624)
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة وهي مصر حتى تحدث به الناس { وقال نسوة في المدينة } مثل نساء الكبراء والأمراء ينكرن على امرأة العزيز وهو الوزير ويعبن ذلك عليها { امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه } أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها { قد شغفها حبا } أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه قال الضحاك عن ابن عباس : الشغف الحب القاتل والشغف دون ذلك والشغاف حجاب القلب { إنا لنراها في ضلال مبين } أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه { فلما سمعت بمكرهن } قال بعضهم : بقولهن ذهب الحب بها وقال محمد بن إسحاق : بل بلغهن حسن يوسف فأحببن أن يرينه فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته فعند ذلك { أرسلت إليهن } أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن { وأعتدت لهن متكئا } قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي وغيرهم : هو المجلس المعد فيه مفارش ومخاد وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه ولهذا قال تعالى : { وآتت كل واحدة منهن سكينا } وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته { وقالت اخرج عليهن } وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر { فلما } خرج { رأينه أكبرنه } أي أعظمنه أي أعظمن شأنه وأجللن قدره وجعلن يقطعن أيديهن دهشا برؤيته وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين والمراد أنهن حززن أيديهن بها قاله غير واحد وعن مجاهد وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها فالله أعلم
وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعد ما أكلن وطابت أنفسهن ثم وضعت بين أيديهن أترجا وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن : نعم فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلا ومدبرا فرجع وهن يحززن في أيديهن فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا فكيف ألام أنا ؟ { وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا لأنهن لم يرين في البشر شبيهه ولا قريبا منه فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة قال [ فإذا هو قد أعطي شطر الحسن ] وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعطي يوسف وأمه شطر الحسن ] وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن وقال أبو إسحاق أيضا عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا وأعطي الناس الثلثين ] أو قال [ أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث ] وقال سفيان عن منصور عن مجاهد عن ربيعة الجرشي قال : قسم الحسن نصفين فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن والنصف الاخر بين سائر الخلق
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه أن يوسف عليه السلام كان على النصف من حسن آدم عليه السلام فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته { حاش لله } قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله { ما هذا بشرا } وقرأ بعضهم ما هذا بشري أي بمشترى بشراء { إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } أي فامتنع قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن وهي العفة مع هذا الجمال ثم قالت تتوعده { ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين } فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن و { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } أي من الفاحشة { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن } أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك أنت المستعان وعليك التكلان فلا تكلني إلى نفسي { أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه } الاية وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة وحماه فامتنع منها أشد الامتناع واختار السجن على ذلك وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهي امرأة عزيز مصر وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ] (2/625)
يقول تعالى : ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين أي إلى مدة وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الايات وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته وكأنهم ـ والله أعلم ـ إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة فلما تقرر ذلك خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه وذكر السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ويبرأ عرضه فيفضحها (2/627)
قال قتادة : كان أحدهما ساقي الملك والاخر خبازه قال محمد بن إسحاق : كان اسم الذي على الشراب نبوا والاخر مجلث قال السدي : كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالا على سمه في طعامه وشرابه وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة وصدق الحديث وحسن السمت وكثرة العبادة صلوات الله عليه وسلامه ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن وعيادة مرضاهم والقيام بحقوقهم ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تآلفا به وأحباه حبا شديدا وقالا له : والله لقد أحببناك حبا زائدا قال : بارك الله فيكما إنه ما أحبني أحد إلا دخل علي من محبته ضرر أحبتني عمتي فدخل علي الضرر بسببها وأحبني أبي فأوذيت بسببه وأحبتني امرأة العزيز فكذلك فقالا : والله ما نستطيع إلا ذلك ثم إنهما رأيا مناما فرأى الساقي أنه يعصر خمرا يعني عنبا وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : إني أراني أعصر عنبا
ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن يزيد بن هارون عن شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود أنه قرأها : أعصر عنبا : وقال الضحاك في قوله { إني أراني أعصر خمرا } يعني عنبا قال : وأهل عمان يسمون العنب خمرا وقال عكرمة : قال له : إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبة من عنب فنبتت فخرج فيها عناقيد فعصرتهن ثم سقيتهن الملك فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتسقيه خمرا وقال الاخر وهو الخباز { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله } الاية والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره وقال ابن جرير : حدثنا وكيع وابن حميد قالا : حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما كان تحالما ليجربا عليه (2/628)
يخبرهما يوسف عليه السلام أنهما مهما رأيا في المنام من حلم فإنه عارف بتفسيره يخبرهما بتأويله قبل وقوعه ولهذا قال : { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله } ومجاهد : يقول { لا يأتيكما طعام ترزقانه } في يومكما { إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } وكذا قال السدي وقال ابن أبي حاتم رحمه الله : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء حدثنا محمد بن يزيد شيخ له عن الحسن بن ثوبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما أدري لعل يوسف عليه السلام كان يعتاف وهو كذلك لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين : { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله } قال : إذا جاء الطعام حلوا أو مرا اعتاف عند ذلك ثم قال ابن عباس : إنما علم فعلم وهذا أثر غريب ثم قال : وهذا إنما هو من تعليم الله إياي لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الاخر فلا يرجون ثوابا ولا عقابا في المعاد { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } الاية يقول : هجرت طريق الكفر والشرك وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى واتبع طريق المرسلين وأعرض عن طريق الضالين فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم ويجعله إماما يقتدى به في الخير وداعيا إلى سبيل الرشاد { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس } هذا التوحيد وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له { من فضل الله علينا } أي أوحاه إلينا وأمرنا به { وعلى الناس } إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } أي لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم بل { بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أبا ويقول : والله فمن شاء لاعنته عند الحجر ما ذكر الله جدا ولا جدة قال الله تعالى يعني إخبارا عن يوسف : { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } (2/628)
ثم إن يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما فقال : { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } أي الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه ثم بين لهما أن التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو جهل منهم وتسمية من تلقاء أنفسهم تلقاها خلفهم عن سلفهم وليس لذلك مستند من عند الله ولهذا قال : { ما أنزل الله بها من سلطان } أي حجة ولا برهان ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه ثم قال تعالى : { ذلك الدين القيم } أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له هو الدين المستقيم الذي أمر الله به وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أي فلهذا كان أكثرهم مشركين { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقد قال ابن جرير : إنما عدل بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا لأنه عرف أنها ضارة لأحدهما فأحب أن يشغلهما بغير ذلك لئلا يعاودوه فيها فعاودوه فأعاد عليهم الموعظة وفي هذا الذي قاله نظر لأنه قد وعدهما أولا بتعبيرها ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وصلة وسببا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه والإنصات إليه ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال : (2/629)
يقول لهما { يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك ولهذا أبهمه في قوله { وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه } وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه وهو واقع لا محالة لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت وقال الثوري : عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم عن عبد الله قال : لما قالا ما قالا وأخبرهما قالا : ما رأينا شيئا فقال : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } ورواه محمد بن فضيل عن عمارة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود به وكذا فسره مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم وحاصله أن من تحلم بباطل وفسره فإنه يلزم بتأويله والله تعالى أعلم وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ] وفي مسند أبي يعلى من طريق يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا [ الرؤيا لأول عابر ] (2/630)
ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج قال له يوسف خفية عن الاخر والله أعلم ـ لئلا يشعره أنه المصلوب ـ قال له { اذكرني عند ربك } يقول : اذكر قصتي عند ربك وهو الملك فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن هذا هو الصواب أن الضمير في قوله { فأنساه الشيطان ذكر ربه } عائد على الناجي كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد ويقال : إن الضمير عائد على يوسف عليه السلام رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضا وعكرمة وغيرهم وأسند ابن جرير ههنا حديثا فقال : حدثنا ابن وكيع حدثنا عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو لم يقل ـ يعني يوسف ـ الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله ] وهذا الحديث ضعيف جدا لأن سفيان بن وكيع ضعيف وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي أضعف منه أيضا وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن والله أعلم
وأما البضع فقال مجاهد وقتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع وقال وهب بن منبه : مكث أيوب في البلاء سبعا ويوسف في السجن سبعا وعذب بختنصر سبعا وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما { فلبث في السجن بضع سنين } قال : ثنتا عشرة سنة وقال الضحاك : أربع عشرة سنة (2/630)
هذه الرؤيا من ملك مصر مما قدر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسف عليه السلام من السجن معززا مكرما وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا فهالته وتعجب من أمرها وما يكون تفسيرها فجمع الكهنة والحذاة وكبار دولته وأمراءه فقص عليهم ما رأى وسألهم عن تأويلها فلم يعرفوا ذلك واعتذروا إليه بأنها { أضغاث أحلام } أي أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } أي لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها وهو تعبيرها فعند ذلك تذكر الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين كانا في السجن مع يوسف وكان الشيطان قد أنساه ما وصاه به يوسف من ذكر أمره للملك فعند ذلك تذكر بعد أمة أي مدة وقرأ بعضهم بعد أمه أي بعد نسيان فقال لهم أي للملك والذين جمعهم لذلك { أنا أنبئكم بتأويله } أي بتأويل هذا المنام { فأرسلون } أي فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن ومعنى الكلام فبعثوه فجاءه فقال : { يوسف أيها الصديق أفتنا } وذكر المنام الذي رآه الملك فعند ذلك ذكر له يوسف عليه السلام تعبيرها من غير تعنيف للفتى في نسيانه ما وصاه به ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك بل قال : { تزرعون سبع سنين دأبا } أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ففسر البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تستغل منها الثمرات والزروع وهن السنبلات الخضر ثم أرشدهم إلى ما يعتدونه في تلك السنين فقال { فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون } أي مهما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه إلا المقدار الذي تأكلونه وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب وهن السنبلات اليابسات وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ولهذا قال : { يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون } ثم بشرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك عام فيه يغاث الناس أي يأتيهم الغيث وهو المطر وتغل البلاد ويعصر الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت ونحوه وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل فيه حلب اللبن أيضا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وفيه يعصرون } يحلبون (2/631)
يقول تعالى إخبارا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه فعرف فضل يوسف عليه السلام وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه فقال : { ائتوني به } أي أخرجوه من السجن وأحضروه فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه بل كان ظلما وعدوانا فقال : { ارجع إلى ربك } الاية وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره صلوات الله وسلامه عليه ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال { رب أرني كيف تحيي الموتى } الاية ويرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ] وفي لفظ لأحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر ]
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر ] هذا حديث مرسل وقوله تعالى : { قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه } إخبار عن الملك حين جمع النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز فقال مخاطبا لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز قال الملك للنسوة اللاتي قطعن أيديهن { ما خطبكن } أي شأنكن وخبركن { إذ راودتن يوسف عن نفسه } يعني يوم الضيافة { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء } أي قالت النسوة جوابا للملك : حاش لله أن يكون يوسف متهما والله ما علمنا عليه من سوء فعند ذلك { قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : تقول الان تبين الحق وظهر وبرز { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } أي في قوله : { هي راودتني عن نفسي } { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ولا وقع المحذور الأكبر وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي } تقول المرأة : ولست أبرىء نفسي فإن النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته لأن { النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } أي إلا من عصمه الله تعالى : { إن ربي غفور رحيم } وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام
وقد حكاه الماوردي في تفسيره وانتدب لنصره الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام يقول : { ذلك ليعلم أني لم أخنه } في زوجته { بالغيب } الايتين أي إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز { أني لم أخنه } في زوجته { بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } الاية وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة فسألهن : هل راودتن يوسف عن نفسه ؟ { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق } الاية قال يوسف { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } فقال جبريل عليه السلام : ولا يوم هممت بما هممت به ؟ فقال { وما أبرئ نفسي } الاية وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وابن أبي الهذيل والضحاك والحسن وقتادة والسدي والقول الأول أقوى وأظهر لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك (2/632)
يقول تعالى إخبارا عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه قال { ائتوني به أستخلصه لنفسي } أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي { فلما كلمه } أي خاطبه الملك وعرفه ورأى فضله وبراعته وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال قال له الملك { إنك اليوم لدينا مكين أمين } أي إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة فقال يوسف عليه السلام { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } مدح نفسه ويجوز للرجل ذلك إذا جهل أمره للحاجة وذكر أنه { حفيظ } أي خازن أمين { عليم } ذو علم وبصيرة بما يتولاه وقال شيبة بن نعامة : حفيظ لما استودعتني عليم بسني الجدب رواه ابن أبي حاتم وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه ولما فيه من المصالح للناس وإنما سأله أن يجعله على خزائن الأرض وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها فيتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد فأجيب إلى ذلك رغبة فيه وتكرمة له ولهذا قال تعالى : (2/633)
يقول تعالى : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } أي أرض مصر { يتبوأ منها حيث يشاء } قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يتصرف فيها كيف يشاء وقال ابن جرير : يتخذ منها منزلا حيث يشاء بعد الضيق والحبس والإسار { نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } أي وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز فلهذا أعقبه الله عز و جل السلام والنصر والتأييد { ولا نضيع أجر المحسنين * ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } يخبر تعالى أن ما ادخره الله تعالى لنبيه يوسف عليه السلام في الدار الاخرة أعظم وأكثر وأجل مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا كقوله في حق سليمان عليه السلام { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } والغرض أن يوسف عليه السلام ولاه ملك مصر الريان بن الوليد الوزارة في بلاد مصر مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته وأسلم الملك على يدي يوسف عليه السلام قاله مجاهد
وقال محمد بن إسحاق : لما قال يوسف للملك : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } قال الملك : قد فعلت فولاه فيما ذكروا عمل اطفير وعزل اطفير عما كان عليه يقول الله عز و جل : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } قال : فذكر لي ـ والله أعلم ـ أن اطفير هلك في تلك الليالي وأن الملك الريان بن الوليد زوج يوسف امرأة اطفير راعيل وأنها حين دخلت عليه قال لها : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين ؟ قال : فيزعمون أنها قالت : أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جميلة ناعمة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك على ما رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء فأصابها فولدت له رجلين : أفرائيم بن يوسف وميشا بن يوسف وولد لأفرائيم نون والد يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب عليه السلام وقال الفضيل بن عياض : وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق حتى مر يوسف فقالت : الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته والملوك عبيدا بمعصيته (2/634)
ذكر السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر أن يوسف عليه السلام لما باشر الوزارة بمصر ومضت السبع السنين المخصبة ثم تلتها السبع السنين المجدبة وعم القحط بلاد مصر بكمالها ووصل إلى بلاد كنعان وهي التي فيها يعقوب عليه السلام وأولاده وحينئذ احتاط يوسف عليه السلام للناس في غلاتهم وجمعها أحسن جمع فحصل من ذلك مبلغ عظيم وهدايا متعددة هائلة وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات يمتارون لأنفسهم وعيالهم فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة وكان عليه السلام لا يشبع نفسه ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار حتى يتكفا الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين وكان رحمة من الله على أهل مصر
وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال وفي الثانية بالمتاع وفي الثالثة بكذا وفي الرابعة بكذا حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعد ما تملك عليهم جميع ما يملكون ثم أعتقهم ورد عليهم أموالهم كلها الله أعلم بصحة ذلك وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوة يوسف عن أمر أبيهم لهم في ذلك فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاما وركبوا عشرة نفر واحتبس يعقوب عليه السلام عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف عليه السلام وكان أحب ولده إليه بعد يوسف فلما دخلوا على يوسف وهو جالس في أبهته ورياسته وسيادته عرفهم حين نظر إليهم وهم له منكرون أي لا يعرفونه لأنهم فارقوه وهو صغير حدث وباعوه للسيارة ولم يدروا أين يذهبون به ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه فلهذا لم يعرفوه وأما هو فعرفهم فذكر السدي وغيره أنه شرع يخاطبهم فقال لهم كالمنكر عليهم : ما أقدمكم بلادي ؟ فقالوا : أيها العزيز إنا قدمنا للميرة قال : فلعلكم عيون ؟ قالوا : معاذ الله قال : فمن أين أنتم ؟ قالوا من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبي الله قال : وله أولاد غيركم ؟ قالوا : نعم كنا اثني عشر فذهب أصغرنا هلك في البرية وكان أحبنا إلى أبيه وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه فأمر بإنزالهم وإكرامهم { ولما جهزهم بجهازهم } أي أوفى لهم كيلهم وحمل لهم أحمالهم قال : ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } يرغبهم في الرجوع إليه ثم رهبهم فقال : { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي } الاية أي إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية فليس لكم عندي ميرة { ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون } أي سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه وذكر السدي أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم وفي هذا نظر لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا وهذا لحرصه على رجوعهم { وقال لفتيانه } أي غلمانه { اجعلوا بضاعتهم } أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها { في رحالهم } أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون { لعلهم يرجعون } بها قيل : خشي يوسف عليه السلام أن لا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها وقيل : تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام وقيل أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجا وتورعا لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم (2/634)
يقول الله تعالى عنهم : إنهم رجعوا إلى أبيهم { قالوا يا أبانا منع منا الكيل } يعنون بعد هذه المرة إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين لا نكتل فأرسله معنا نكتل وإنا له لحافظون قرأ بعضهم بالياء أي يكتل هو { وإنا له لحافظون } أي لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك وهذا كما قالوا له في يوسف { أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون } ولهذا قال لهم : { هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل } أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل تغيبونه عني وتحولون بيني وبينه ؟ { فالله خير حافظا } وقرأ بعضهم حفظا { وهو أرحم الراحمين } أي هو أرحم الراحمين بي وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي وأرجو من الله أن يرده علي ويجمع شملي به إنه أرحم الراحمين (2/636)
يقول تعالى : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم فلما وجدوها في متاعهم { قالوا يا أبانا ما نبغي } أي ماذا نريد { هذه بضاعتنا ردت إلينا } كما قال قتادة : ما نبغي وراء هذا إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفى لنا الكيل { ونمير أهلنا } أي إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا { ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير } وذلك أن يوسف عليه السلام كان يعطي كل رجل حمل بعير وقال مجاهد : حمل حمار وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا كذا قال { ذلك كيل يسير } هذا من تمام الكلام وتحسينه أي إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا { قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله } أي تحلفون بالعهود والمواثيق { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه { فلما آتوه موثقهم } أكده عليهم فقال : { الله على ما نقول وكيل } قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها فبعثه معهم (2/636)
يقول تعالى إخبارا عن يعقوب عليه السلام إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر أن لا يدخلوا كلهم من باب واحد وليدخلوا من أبواب متفرقة فإنه كما قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد إنه : خشي عليهم العين وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ومنظر وبهاء فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله { وادخلوا من أبواب متفرقة } قال : علم أنه سيلقى إخوته في بعض تلك الأبواب وقوله { وما أغني عنكم من الله من شيء } أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع { إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون * ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } قالوا : هي دفع إصابة العين لهم { وإنه لذو علم لما علمناه } قال قتادة والثوري : لذو عمل بعلمه وقال ابن جرير : لذو علم لتعليمنا إياه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (2/636)
يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته وأفاض عليهم الصلة والألطاف والإحسان واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له وعرفه أنه أخوه وقال له : لا تبتئس أي لا تأسف على ما صنعوا بي وأمره بكتمان ذلك عنهم وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرما معظما (2/637)
لما جهزهم وحمل لهم أبعرتهم طعاما أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية وهي إناء من فضة في قول الأكثرين وقيل : من ذهب قال ابن زيد كان يشرب فيه ويكيل للناس به من عزة الطعام إذ ذاك قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد وقال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : صواع الملك قال : كان من فضة يشربون فيه وكان مثل المكوك وكان للعباس مثله في الجاهلية فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد ثم نادى مناد بينهم { أيتها العير إنكم لسارقون } فالتفتوا إلى المنادي وقالوا { ماذا تفقدون * قالوا نفقد صواع الملك } أي صاعه الذي يكيل به { ولمن جاء به حمل بعير } وهذا من باب الجعالة { وأنا به زعيم } وهذا من باب الضمان والكفالة (2/637)
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة قال لهم إخوة يوسف { تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين } أي لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة أنا { ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين } أي ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة فقال لهم الفتيان { فما جزاؤه } أي السارق إن كان فيكم { إن كنتم كاذبين } أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه ؟ { قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين } وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام أن السارق يدفع إلى المسروق منه وهذا هو الذي أراد يوسف عليه السلام ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه أي فتشها قبله تورية { ثم استخرجها من وعاء أخيه } فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ولهذا قال تعالى : { كذلك كدنا ليوسف } وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة
وقوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر قاله الضحاك وغيره وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ولهذا مدحه الله تعالى فقال : { نرفع درجات من نشاء } كما قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم } الاية { وفوق كل ذي علم عليم } قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز و جل وكذا روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الأعلى الثعلبي عن سعيد بن جبير قال : كما عند ابن عباس فحدث بحديث عجيب فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم فقال ابن عباس : بئس ما قلت : الله العليم فوق كل عالم وكذا روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس { وفوق كل ذي علم عليم } قال : يكون هذا أعلم من هذا وهذا أعلم من هذا والله فوق كل عالم وهكذا قال عكرمة وقال قتادة : وفوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى الله منه بدىء وتعلمت العلماء وإليه يعود وفي قراءة عبد الله وفوق كل عالم عليم (2/638)
وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } يتنصلون إلى العزيز من التشبه به ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل يعنون به يوسف عليه السلام قال سعيد بن جبير عن قتادة : كان يوسف عليه السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه فكسره وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق وكانت أكبر ولد إسحاق وكانت عندها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر فكان من اختبأها ممن وليها كان له سلما لا ينازع فيه يصنع فيه ما يشاء وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته وكان لها به وله فلم تحب أحدا حبها إياه حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام فأتاها فقال : يا أخية سلمي إلي يوسف فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة قالت : فو الله ما أنا بتاركته ثم قالت : فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه لعل ذلك يسليني عنه أو كما قالت فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ثم قالت : فقدت منطقة إسحاق عليه السلام فانظروا من أخذها ومن أصابها ؟ فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف فقالت : والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت فأتاه يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها : أنت وذلك إن كان فعل ذلك فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت قال : فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } وقوله : { فأسرها يوسف في نفسه } يعني الكلمة التي بعدها وهي قوله : { أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون } أي تذكرون قال هذا في نفسه ولم يبده لهم وهذا من باب الإضمار قبل الذكر وهو كثير كقول الشاعر :
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزي سنمار
وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة في منثورها وأخبارها وأشعارها قال العوفي عن ابن عباس { فأسرها يوسف في نفسه } قال : أسر في نفسه { أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون } (2/638)
لما تعين أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم { قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا } يعنون وهو يحبه حبا شديدا ويتسلى به عن ولده الذي فقده { فخذ أحدنا مكانه } أي بدله يكون عندك عوضا عنه { إنا نراك من المحسنين } أي العادلين المنصفين القابلين للخير { قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } أي كما قلتم واعترفتم { إنا إذا لظالمون } أي إن أخذنا بريئا بسقيم (2/639)
يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه وعاهدوه على ذلك فامتنع عليهم ذلك { خلصوا } أي انفردوا عن الناس { نجيا } يتناجون فيما بينهم { قال كبيرهم } وهو روبيل وقيل : يهوذا وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما هموا بقتله قال لهم : { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله } لتردنه إليه فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه { فلن أبرح الأرض } أي لن أفارق هذه البلدة { حتى يأذن لي أبي } في الرجوع إليه راضيا عني { أو يحكم الله لي } قيل : بالسيف وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي { وهو خير الحاكمين } ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه ويبرؤا مما وقع بقولهم وقوله : { وما كنا للغيب حافظين } قال قتادة وعكرمة : ما علمنا أن ابنك سرق وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه سرق له شيئا إنما سألنا ما جزاء السارق ؟ { واسأل القرية التي كنا فيها } : قيل المراد مصر قاله قتادة وقيل غيرها { والعير التي أقبلنا فيها } أي التي رافقناها عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا { وإنا لصادقون } فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته (2/639)
قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب { بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } قال محمد بن إسحاق : لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى اتهمهم فظن أنها كفعلتهم بيوسف قال : { بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } وقال بعض الناس : لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول سحب حكم الأول عليه وصح قوله : { بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة : يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه إما أن يرضى عنه أبوه فيأمره بالرجوع إليه وإما أن يأخذ أخاه خفية ولهذا قال : { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم } أي العليم بحالي { الحكيم } في أفعاله وقضائه وقدره { وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف } أي أعرض عن بنيه وقال متذكرا حزن يوسف القديم الأول { يا أسفى على يوسف } جدد له حزن الابنين الحزن الدفين قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري عن سعيد بن جبير أنه قال : لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام { يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق قاله قتادة وغيره وقال الضحاك : فهو كظيم كئيب حزين
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن داود عليه السلام قال : يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني لهم رابعا فأوحى الله تعالى إليه : أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر وتلك بلية لم تنلك وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر وتلك بلية لم تنلك وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر وتلك بلية لم تنلك ] وهذا مرسل وفيه نكارة فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح ولكن علي بن زيد بن جدعان له مناكير وغرائب كثيرة والله أعلم وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس رحمه الله حكاه عن بعض بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما والله أعلم فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء فإبراهيم ابتلي بالنار وإسحاق بالذبح ويعقوب بفراق يوسف في حديث طويل لا يصح والله أعلم فعند ذلك رق له بنوه وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه : { تالله تفتأ تذكر يوسف } أي لا تفارق تذكر يوسف { حتى تكون حرضا } أي ضعيف القوة { أو تكون من الهالكين } يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف { قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } أي أجابهم عما قالوا بقوله : { إنما أشكو بثي وحزني } أي همي وما أنا فيه { إلى الله } وحده { وأعلم من الله ما لا تعلمون } أي أرجو منه كل خير وعن ابن عباس { وأعلم من الله ما لا تعلمون } يعني رؤيا يوسف أنها صدق وأن الله لا بد أن يظهرها وقال العوفي عنه في الاية : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر بن أبي الزبير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان ليعقوب النبي عليه السلام أخ مؤاخ له فقال له ذات يوم : ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك ؟ قال : أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل عليه السلام فقال : يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك : أما تستحي أن تشكوني إلى غيري ؟ فقال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال جبريل عليه السلام : الله أعلم بما تشكو ] وهذا حديث غريب فيه نكارة (2/640)
يقول تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام : إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين والتحسس يكون في الخير والتجسس يكون في الشر ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وقوله { فلما دخلوا عليه } تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا مصر ودخلوا على يوسف { قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام { وجئنا ببضاعة مزجاة } أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره وهو ثمن قليل قاله مجاهد والحسن وغير واحد وقال ابن عباس : الرديء لا ينفق مثل خلق الغرارة والحبل والشيء وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان وكذا قال قتادة والسدي وقال سعيد بن جبير : هي الدراهم الفسول وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق وقال أبو صالح : جاءوا بحب البطم الأخضر والصنوبر وأصل الإخاء الإزجاء لضعف الشيء كما قال حاتم طيء :
لبيك على ملحان ضيف مدافع وأرملة تزجي مع الليل أرملا
وقال أعشى بني ثعلبة :
الواهب المائة الهجان وعبدها عوذا تزجي خلفها أطفالها
وقوله إخبارا عنهم { فأوف لنا الكيل } أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك وقرأ ابن مسعود : فأوقر ركابنا وتصدق علينا وقال ابن جريج : وتصدق علينا برد أخينا إلينا وقال سعيد بن جبير والسدي { وتصدق علينا } يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة وتجوز فيها وسئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه و سلم ؟ فقال ألم تسمع قوله : { فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين } رواه ابن جرير عن الحارث عن القاسم عنه وقال ابن جرير : حدثنا الحارث حدثنا القاسم حدثنا مروان بن معاوية عن عثمان بن الأسود سمعت مجاهدا وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي ؟ قال : نعم إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب (2/641)
يقول تعالى مخبرا عن يوسف عليه السلام أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته وبدره البكاء فتعرف إليهم فيقال : إنه رفع التاج عن جبهته وكان فيها شامة وقال { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } يعني كيف فرقوا بينه وبين أخيه { إذ أنتم جاهلون } أي إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه كما قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل وقرأ { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة } الاية والظاهر ـ والله أعلم ـ أن يوسف عليه السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك والله أعلم ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر فرج الله تعالى من ذلك الضيق كما قال تعالى : { فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } فعند ذلك قالوا { أإنك لأنت يوسف ؟ } وقرأ أبي بن كعب { أإنك لأنت يوسف } وقرأ ابن محيصن { أنت يوسف } والقراءة المشهورة هي الأولى لأن الاستفهام يدل على الاستعظام أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام : { أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي }
وقوله : { قد من الله علينا } أي بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا } الاية يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك والتصرف والنبوة أيضا على قول من لم يجعلهم أنبياء وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه { قال لا تثريب عليكم اليوم } يقول : أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال : { يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } قال السدي : اعتذروا إلى يوسف فقال : { لا تثريب عليكم اليوم } يقول : لا أذكر لكم ذنبكم : وقال ابن إسحاق والثوري { لا تثريب عليكم } أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم { يغفر الله لكم } أي يستر الله عليكم فيما فعلتم { وهو أرحم الراحمين } (2/642)
يقول : اذهبوا بهذا القميص { فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا } وكان قد عمي من كثرة البكاء { وأتوني بأهلكم أجمعين } أي بجميع بني يعقوب { ولما فصلت العير } أي خرجت من مصر { قال أبوهم } يعني يعقوب عليه السلام لمن بقي عنده من بنيه { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } تنسبوني إلى الفند والكبر قال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل قال : سمعت ابن عباس يقول : ولما فصلت العير قال : لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } قال : فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام وكذا رواه سفيان الثوري وشعبة وغيرهما عن أبي سنان به وقال الحسن وابن جريج : كان بينهما ثمانون فرسخا وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة
وقوله { لولا أن تفندون } قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة وسعيد بن جبير تسفهون وقال مجاهد أيضا والحسن : تهرمون وقولهم { إنك لفي ضلالك القديم } قال ابن عباس : لفي خطئك القديم وقال قتادة : أي من حب يوسف لا تنساه ولاتسلاه قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله صلى الله عليه و سلم وكذا قال السدي وغيره (2/643)
قال ابن عباس والضحاك : { البشير } البريد وقال مجاهد والسدي : كان يهوذا بن يعقوب قال السدي : إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كذب فأحب أن يغسل ذلك بهذا فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه فرجع بصيرا وقال لبنيه عند ذلك { ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } أي أعلم أن الله سيرده إلي وقلت لكم : { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له : { يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم } أي من تاب إليه تاب عليه قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم : أرجأهم إلى وقت السحر وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب حدثنا ابن إدريس سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال : كان عمر رضي الله عنه يأتي المسجد فيسمع إنسانا يقول : اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت وهذا السحر فاغفر لي قال فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود فسأل عبد الله عن ذلك فقال : إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله { سوف أستغفر لكم ربي } وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة الجمعة كما قال ابن جرير أيضا : حدثني المثنى حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أيوب الدمشقي حدثنا الوليد أنبأنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم { سوف أستغفر لكم ربي } يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه [ وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر والله أعلم ] (2/644)
يخبر تعالى عن ورود يعقوب عليه السلام على يوسف عليه السلام وقدومه بلاد مصر لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين فتحملوا عن آخرهم وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر فلما أخبر يوسف عليه السلام باقترابهم خرج لتلقيهم وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب عليه السلام ويقال : إن الملك خرج أيضا لتلقيه وهو الأشبه وقد أشكل قوله : { آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر } على كثير من المفسرين فقال بعضهم : هذا من المقدم والمؤخر ومعنى الكلام { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } وآوى إليه أبويه ورفعهما على العرش ورد ابن جرير هذا وأجاد في ذلك ثم اختار ما حكاه عن السدي أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما ثم لما وصلوا باب البلد قال : { ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } وفي هذا نظر أيضا لأن الإيواء إنما يكون في المنزل كقوله { آوى إليه أخاه } وفي الحديث [ من آوى محدثا ] وما المانع أن يكون قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه : ادخلوا مصر وضمنه اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين أي مما كنتم فيه من الجهد والقحط ويقال ـ والله أعلم ـ إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم على أهل مكة حين قال : [ اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ] ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه وأرسلوا أبا سفيان في ذلك فدعا لهم فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه عليه السلام
وقوله : { آوى إليه أبويه } قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنما كان أباه وخالته وكانت أمه قد ماتت قديما وقال محمد بن إسحاق وابن جرير : كان أبوه وأمه يعيشان قال ابن جرير : ولم يقم دليل على موت أمه وظاهر القرآن يدل على حياتها وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق وقوله : { ورفع أبويه على العرش } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني السرير أي أجلسهما معه على سريره { وخروا له سجدا } أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } أي التي كان قصها على أبيه من قبل { إني رأيت أحد عشر كوكبا } الاية وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام فحرم هذا في هذه الملة وجعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى هذا مضمون قول قتادة وغيره
وفي الحديث أن معاذا قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ ما هذا يا معاذ ؟ ] فقال إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله فقال : [ لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها ] وفي حديث آخر : أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه و سلم في بعض طرق المدينة وكان سلمان حديث عهد بالإسلام فسجد للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لا تسجد لي يا سلمان واسجد للحي الذي لا يموت ] والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم ولهذا خروا له سجدا فعندها قال يوسف : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } أي هذا ما آل إليه الأمر فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر كما قال تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } أي يوم القيامة يأتيتهم ما وعدوا به من خير وشر
وقوله : { قد جعلها ربي حقا } أي صحيحة صدقا يذكر نعم الله عليه { وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو } أي البادية قال ابن جريج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية وقال : كانوا يسكنون بالعربات من أرض فلسطين من غور الشام قال : وبعض يقول : كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمى وكانوا أصحاب بادية وشاء وإبل { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء } أي إذا أراد أمرا قيض له أسبابا وقدره ويسره { إنه هو العليم } بمصالح عباده { الحكيم } في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده قال أبو عثمان النهدي عن سليمان : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة قال عبد الله بن شداد : وإليها ينتهي أقصى الرؤيا رواه ابن جرير وقال أيضا : حدثنا عمر بن علي حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا هشام عن الحسن قال : كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب
وقال هشيم عن يونس عن الحسن : ثلاث وثمانون سنة وقال مبارك بن فضالة عن الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة فغاب عن أبيه ثمانين سنة وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة فمات وله عشرون ومائة سنة وقال قتادة : كان بينهما خمس وثلاثون سنة وقال محمد بن إسحاق : ذكر ـ والله أعلم ـ أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها وأن يعقوب عليه السلام بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ثم قبضه الله إليه وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاثة وستون إنسانا وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا وقال أبو إسحاق عن مسروق : دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون بين رجل وامرأة فالله أعلم وقال موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن شداد : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنسانا : صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف (2/644)
هذا دعاء من يوسف الصديق دعا به ربه عز و جل لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما من الله به عليه من النبوة والملك سأل ربه عز و جل كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الاخرة وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه قاله الضحاك : وأن يلحقه بالصالحين وهم إخوانه من النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف عليه السلام قاله عند اختصاره كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل يرفع أصبعه عند الموت ويقول : [ اللهم في الرفيق الأعلى ] ثلاثا ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله وانقضى عمره لا أنه سأله ذلك منجزا كما يقول الداعي لغيره : أماتك الله على الإسلام ويقول الداعي : اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين ويحتمل أنه سأل ذلك منجزا وكان ذلك سائغا في ملتهم كما قال قتادة قوله : { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } لما جمع الله شمله وأقر عينه وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها اشتاق إلى الصالحين قبله
وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام وكذا ذكر ابن جرير والسدي عن ابن عباس أنه أول نبي دعا بذلك وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام كما أن نوحا أول من قال : { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا } ويحتمل أنه أول من سأل إنجاز ذلك وهو ظاهر سياق قول قتادة ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان ولا بد متمنيا الموت فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ] وأخرجاه في الصحيحين وعندهما [ لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنا فيزداد وإما مسيئا فلعله يستعتب ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة حدثنا معان بن رفاعة حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا ورققنا فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء وقال : يا ليتني مت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا سعد أعندي تتمنى الموت ؟ ] فردد ذلك ثلاث مرات ثم قال : [ يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك وحسن من عملك فهو خير لك ] وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمره وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ] تفرد به أحمد وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به وأما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت كما قال الله تعالى إخبارا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهددهم بالقتل { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين } وقالت مريم لما أجاءها المخاض وهو الطلق إلى جذع النخلة : { يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت ووضعت وقد قالوا : { يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله فكان آية عظيمة ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه وفي حديث معاذ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي في قصة المنام والدعاء الذي فيه [ وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد مرفوعا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اثنتان يكرههما ابن آدم : يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتن ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب ] فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر خلافته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له ولا يزداد الأمر إلا شدة فقال : اللهم خذني إليك فقد سئمتهم وسئموني وقال البخاري رحمه الله : لما وقعت له تلك الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى قال : اللهم توفني إليك وفي الحديث [ إن الرجل ليمر بالقبر ـ أي في زمان الدجال ـ فيقول : يا ليتني مكانك ] لما يرى من الفتن والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون قال أبو جعفر بن جرير : وذكر أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا استغفر لهم أبوهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم وغفر لهم ذنوبهم
( ذكر من قال ذلك )
حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج عن صالح المري عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : إن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله بعينيه خلا ولده نجيا فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم ؟ وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا : بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم ؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جانب أبيه قاعد قالوا : يا أبانا إنا أتيناك لأمر لم نأتك لأمر مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله قط حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال : ما لكم يا بني ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف ؟ قال : بلى قالوا : أولستما قد غفرتما لنا ؟ قالا : بلى قالوا : فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا إن كان الله لم يعف عنا قال : فما تريدون يا بني ؟ قالوا : نريد أن تدعو الله لنا فإذا جاءك الوحي من الله بأنه قد عفا عنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا قال : فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين قال : فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة قال صالح المري يخيفهم قال : حتى إذا كان على رأس العشرين نزل جبريل عليه السلام على يعقوب عليه السلام فقال : إن الله تعالى قد بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأن الله تعالى قد عفا عما صنعوا وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة هذا الأثر موقوف عن أنس ويزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان جدا وذكر السدي أن يعقوب عليه السلام لما حضره الموت أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إبراهيم وإسحاق فلما مات صبره وأرسله إلى الشام فدفن عندهما عليهم السلام (2/646)
يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم لما قص عليه نبأ إخوة يوسف وكيف رفعه الله عليهم وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة { نوحيه إليك } ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك { وما كنت لديهم } حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم { إذ أجمعوا أمرهم } أي على إلقائه في الجب { وهم يمكرون } به ولكنا أعلمناك به وحيا إليك وإنزالا عليك كقوله : { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم } الاية وقال تعالى : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } الاية إلى قوله : { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } الاية وقال : { وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا } الاية وقال { ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين } يقول تعالى : إنه رسوله وإنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ومع هذا ما آمن أكثر الناس ولهذا قال : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقال : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } كقوله : { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } إلى غير ذلك من الايات وقوله : { وما تسألهم عليه من أجر } أي ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر أي من جعالة ولا أجرة على ذلك بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه { إن هو إلا ذكر للعالمين } يتذكرون به ويهتدون وينجون به في الدنيا والاخرة (2/648)
يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت وسيارات وأفلاك دائرات والجميع مسخرات وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات وبحار زاخرات وأمواج متلاطمات وقفار شاسعات وكم من أحياء وأموات وحيوان ونبات وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات فسبحان الواحد الأحد خالق أنواع المخلوقات المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات وغير ذلك
وقوله : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } قال ابن عباس : من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم : من خلق السموات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال ؟ قالوا : الله وهم مشركون به وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وفي الصحيحين : أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وفي صحيح مسلم أنهم كانوا إذا قالوا : لبيك لا شريك لك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قد قد ] أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا وقال الله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } وهذا هو الشرك الأعظم يعبد مع الله غيره كما في الصحيحين عن ابن مسعود قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : [ أن تجعل لله ندا وهو خلقك ]
وقال الحسن البصري في قوله : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } قال : ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس وهو مشرك بعمله ذلك يعني قوله تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وثم شرك آخر خفي لا يشعر به غالبا فاعله كما روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال : دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه ـ أو انتزعه ـ ثم قال { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وفي الحديث [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] رواه الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره عن ابن سعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الرقى والتمائم والتولة شرك ] وفي لفظ لهما [ الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل ] ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى الجزار عن ابن أخي زينب عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة فأدخلتها تحت السرير قالت : فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عنقي خيطا فقال : ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت : خيط رقي لي فيه فأخذه فقطعه ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الرقى والتمائم والتولة شرك ] قالت : قلت له : لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها فكان إذا رقاها سكنت فقال إنما ذاك من الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ]
وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد عن وكيع عن ابن أبي ليلى عن عيسى بن عبد الرحمن قال : دخلت على عبد الله بن عكيم وهو مريض نعوده فقيل له لو تعلقت شيئا فقال : أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تعلق شيئا وكل إليه ] ورواه النسائي عن أبي هريرة وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من علق تميمة فقد أشرك ] وفي رواية [ من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له ] وعن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ قال الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ] رواه مسلم
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا جمع الله الأولين والاخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ] رواه الإمام أحمد وقال أحمد : حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد يعني ابن الهادي عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ] قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : [ الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم : اذهبوا الى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟ ] وقد رواه إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد به وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن أنبأنا ابن لهيعة أنبأنا ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ] قالوا : يا رسول الله ما كفارة ذلك ؟ قال : [ أن يقول أحدهم : اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن أبي علي ـ رجل من بني كاهل ـ قال : خطبنا أبو موسى الأشعري فقال : يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقام عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا : والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأوذن قال : بل أخرج مما قلت خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال : [ يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ] فقال له من شاء الله أن يقول : فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : [ قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه ] وقد روي من وجه آخر وفيه أن السائل في ذلك هو الصديق كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي من حديث عبد العزيز بن مسلم عن ليث بن أبي سليم عن أبي محمد عن معقل بن يسار قال : شهدت النبي صلى الله عليه و سلم أو قال : حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل ] فقال أبو بكر : وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل ] ثم قال : [ ألا أدلك على ما يذهب عنك صغير ذلك وكبيره ؟ قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك مما لا أعلم ]
وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي عن شيبان بن فروخ عن يحيى بن كثير عن الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا ] قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله فكيف النجاة والمخرج من ذلك ؟ فقال : [ ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره ؟ ] قال : بلى يا رسول الله قال : [ قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ] قال الدارقطني : يحيى بن كثير هذا يقال له أبو النضر متروك الحديث وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي من حديث يعلى بن عطاء سمعت عمرو بن عاصم سمعت أبا هريرة قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي قال : [ قل : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه ] رواه أبو داود والنسائي وصححه وزاد الإمام أحمد في رواية له : من حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي بكر الصديق قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أقول ـ فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره ـ [ وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم ]
وقوله : { أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } الاية أي أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى : { أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم } وقوله : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } (2/649)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم إلى الثقلين : الإنس والجن آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي وقوله : { وسبحان الله } أي وأنزه الله وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبة أو وزير أو مشير تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا } (2/652)
يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء وهذا قول جمهور العلماء كما دل عليه سياق هذه الاية الكريمة أن الله تعالى لم يوح إلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع وزعم بعضهم أن سارة امرأة الخليل وأم موسى ومريم بنت عمران أم عيسى نبيات واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب وبقوله : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } الاية وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى عليه السلام وبقوله تعالى : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } وهذا القدر حاصل لهن ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف فهذا لا شك فيه ويبقى الكلام معه في أن هذا هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا ؟ الذي عليه أهل السنة والجماعة وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم أنه ليس في النساء نبية وإنما فيهن صديقات كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريم بنت عمران حيث قال تعالى : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام فهي صديقة بنص القرآن
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا } الاية أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } الاية وقوله تعالى : { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين } وقوله تعالى : { قل ما كنت بدعا من الرسل } الاية وقوله : { من أهل القرى } المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعا وأخلاقا وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرق طباعا وألطف من أهل سوادهم وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي ولهذا قال تعالى : { الأعراب أشد كفرا ونفاقا } الاية وقال قتادة في قوله { من أهل القرى } لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمور وفي الحديث الاخر أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه و سلم ناقة فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الأعمش : هو ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ] وقوله : { أفلم يسيروا في الأرض } يعني هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } أي من الأمم المكذبة للرسل كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها كقوله : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } الاية فإذا استمعوا خبر ذلك رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ولهذا قال تعالى : { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا } أي وكما نجينا المؤمنين في الدنيا كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الاخرة وهي خير لهم من الدنيا بكثير كقوله : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } وأضاف الدار إلى الاخرة فقال : { ولدار الآخرة } كما يقال : صلاة الأولى ومسجد الجامع وعام أول وبارحة الأولى ويوم الخميس وقال الشاعر :
أتمدح فقعسا وتذم عبسا ألا لله أمك من هجين
ولو أقوت عليك ديار عبس عرفت الذل عرفان اليقين (2/652)
يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه كقوله تعالى : { وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } الاية وفي قوله : { كذبوا } قراءتان إحداهما بالتشديد قد كذبوا وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقرؤها قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى : { حتى إذا استيأس الرسل } قال : قلت : أكذبوا أم كذبوا ؟ قالت عائشة كذبوا قلت فقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم فما هو بالظن ؟ : قالت : أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت لها : { وظنوا أنهم قد كذبوا } قالت معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها قلت : فما هذه الاية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر { حتى إذا استيأس الرسل } ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر الله عند ذلك حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعبة عن الزهري قال : أخبرنا عروة فقلت لها : لعلها قد كذبوا مخففة ؟ قالت : معاذ الله انتهى ما ذكره
وقال ابن جريج : أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عباس قرأها { وظنوا أنهم قد كذبوا } خفيفة قال عبد الله هو ابن أبي مليكة ثم قال لي ابن عباس : كانوا بشرا ثم تلا { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } قال ابن جريج : وقال لي ابن أبي مليكة وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته وقالت : ما وعد الله محمدا صلى الله عليه و سلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم قال ابن أبي مليكة في حديث عروة كانت عائشة تقرؤها { وظنوا أنهم قد كذبوا } مثقلة من التكذيب وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أنبأنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال : جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال : إن محمد بن كعب القرظي قرأ هذه الاية { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } فقال القاسم : أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم تقول : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } تقول : كذبهم أتباعهم إسناد صحيح أيضا
والقراءة الثانية بالتخفيف واختلفوا في تفسيرها فقال ابن عباس ما تقدم وعن ابن مسعود فيما رواه سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله أنه قرأ { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } مخففة قال عبد الله : هو الذي تكره وهذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما مخالف لما رواه آخرون عنهما أما ابن عباس فروى الأعمش عن مسلم عن ابن عباس في قوله : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك { فنجي من نشاء } وكذا روي عن سعيد بن جبير وعمران بن الحارث السلمي وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس بمثله
وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي حرة الجزري قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له : يا أبا عبد الله كيف هذا الحرف فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } ؟ قال : نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكأ ولو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلا ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك فأجابه بهذا الجواب فقام إلى سعيد فاعتنقه وقال : فرج الله عنك كما فرجت عني وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك وكذا فسرها مجاهد بن جبر وغير واحد من السلف حتى إن مجاهدا قرأها { وظنوا أنهم قد كذبوا } بفتح الذال رواه ابن جرير إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله { وظنوا أنهم قد كذبوا } إلى أتباع الرسل من المؤمنين ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم أي وظن الكفار أن الرسل قد كذبوا مخففة فيما وعدوا به من النصر وأما ابن مسعود فقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن فضيل عن جحش بن زياد الضبي عن تميم بن حذلم قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الاية { حتى إذا استيأس الرسل } من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا بالتخفيف ـ فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك وانتصر لها ابن جرير ووجه المشهور عن الجمهور وزيف القول الاخر بالكلية ورده وأباه ولم يقبله ولا ارتضاه والله أعلم (2/653)
يقول تعالى : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين { عبرة لأولي الألباب } وهي العقول { ما كان حديثا يفترى } أي وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله أي يكذب ويختلق { ولكن تصديق الذي بين يديه } أي : من الكتب المنزلة من السماء وهو يصدق ما فيها من الصحيح وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير { وتفصيل كل شيء } من تحليل وتحريم ومحبوب ومكروه وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات والإخبار عن الأمور الجلية وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية والإخبار عن الرب تبارك وتعالى وبالأسماء والصفات وتنزهه عن مماثلة المخلوقات فلهذا كان { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد ومن الضلال إلى السداد ويبتغون به الرحمة من رب العباد في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والاخرة يوم يفوز بالربح المبيضة وجوههم الناضرة ويرجع المسودة وجوههم بالصفقة الخاسرة آخر تفسير سورة يوسف عليه السلام ولله الحمد والمنة وبه المستعان (2/655)
سورة الرعد
بسم الله الرحمن الرحيم (2/655)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم في أول سورة البقرة وقدمنا أن كل سورة ابتدئت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب ولهذا قال : { تلك آيات الكتاب } أي هذه آيات الكتاب وهو القرآن وقيل : التوراة والإنجيل قاله مجاهد وقتادة وفيه نظر بل هو بعيد ثم عطف على ذلك عطف صفات فقال : { والذي أنزل إليك } أي يا محمد { من ربك الحق } خبر تقدم مبتدؤه وهو قوله : { والذي أنزل إليك من ربك } هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا واستشهد بقول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } كقوله : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق (2/655)
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمد بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعدا لا تنال ولا تدرك مداها فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها مرتفعة عليها من كل جانب على السواء وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام وسمكها خمسمائة عام وهكذا السماء الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة كما قال تعالى : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } الاية
وفي الحديث [ ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة ] وفي رواية [ والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز و جل ] وجاء عن بعض السف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة وهو من ياقوتة حمراء وقوله : { بغير عمد ترونها } روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا : لها عمد ولكن لا ترى وقال إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة يعني بلا عمد وكذا روي عن قتادة وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى : { ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه } فعلى هذا يكون قوله : { ترونها } تأكيدا لنفي ذلك أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها وهذا هو الأكمل في القدرة وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه كما ورد في الحديث ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه :
وأنت الذي من فضل من ورحمة بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له : فاذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له : هل أنت سويت هذه بلا وتد حتى استقلت كما هيا ؟
وقولا له : أأنت رفعت هذه بلا عمد أو فوق ذلك بانيا ؟
وقولا له : هل أنت سويت وسطها منيرا إذا ما جنك الليل هاديا ؟
وقولا له : من يرسل الشمس غدوة فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا ؟
وقولا له : من أنبت الحب في الثرى فيصبح منه العشب يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه ؟ ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
وقوله تعالى : { ثم استوى على العرش } تقدم تفسيره في سورة الأعراف وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل تعالى الله علوا كبيرا وقوله : { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } قيل : المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة كقوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها } وقيل : المراد إلى مستقرهما وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الاخر فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك يكونون أبعد ما يكون عن العرش لأنه على الصحيح الذي تقوم عليه الأدلة قبة مما يلي العالم من هذا الوجه وليس بمحيط كسائر الأفلاك لأن له قوائم وحملة يحملونه ولا يتصور هذا في الفلك المستدير وهذا واضح لمن تدبر ما وردت به الايات والأحاديث الصحيحة ولله الحمد والمنة
وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة التي هي أشرف وأعظم من الثوابت فإذا كان قد سخر هذه فلأن يدخل في التسخير سائر الكواكب بطريق الأولى والأحرى كما نبه بقوله تعالى : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } مع أنه صرح بذلك بقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } وقوله : { يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون } أي يوضح الايات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه (2/656)
لما ذكر تعالى العالم العلوي شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي فقال : { وهو الذي مد الأرض } أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض وأرساها بجبال راسيات شامخات وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون ليسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح { من كل زوجين اثنين } أي من كل شكل صنفان { يغشي الليل النهار } أي جعل كلا منهما يطلب الاخر طلبا حثيثا فإذا ذهب هذا غشيه هذا وإذا انقضى هذا جاء الاخر فيتصرف أيضا في الزمان كما يتصرف في المكان والسكان { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } أي في آلاء الله وحكمه ودلائله
وقوله : { وفي الأرض قطع متجاورات } أي أراض يجاور بعضها بعضا مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد ويدخل في هذه الاية اختلاف ألوان بقاع الأرض فهذه تربة حمراء وهذه بيضاء وهذه صفراء وهذه سوداء وهذه محجرة وهذه سهلة وهذه مرملة وهذه سميكة وهذه رقيقة والكل متجاورات فهذه بصفتها وهذه بصفتها الأخرى فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله : { وجنات من أعناب وزرع ونخيل } يحتمل أن تكون عاطفة على جنات فيكون { وزرع ونخيل } مرفوعين ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب فيكون مجرورا ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة
وقوله : { صنوان وغير صنوان } الصنوان : هو الأصول المجتمعة في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو ذلك وغير الصنوان : ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر : [ أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه ] وقال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه : الصنوان هي النخلات في أصل واحد وغير الصنوان المتفرقات وقاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد
وقوله : { يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } قال الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } قال [ الدقل والفارسي والحلو والحامض ] رواه الترمذي وقال : حسن غريب أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها فهذا في غاية الحلاوة وهذا في غاية الحموضة وذا في غاية المرارة وذا عفص وهذا عذب وهذا جمع هذا وهذا ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى وهذا أصفر وهذا أحمر وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء مع الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ففي ذلك آيات لمن كان واعيا وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد ولهذا قال تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } (2/657)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم : { وإن تعجب } من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلائله في خلقه على أنه القادر على ما يشاء ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالم خلقا جديدا وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به فالعجب من قولهم { أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد } وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل كما قال تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير } ثم نعت المكذبين بهذا فقال : { أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم } أي يسحبون بها في النار { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } أي ماكثون فيها أبدا لا يحولون عنها ولا يزولون (2/658)
يقول تعالى : { ويستعجلونك } أي هؤلاء المكذبون { بالسيئة قبل الحسنة } أي بالعقوبة كما أخبر عنهم في قوله : { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين * ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين } وقال تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } الايتين وقال تعالى : { سأل سائل بعذاب واقع } وقال : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق } { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا } الاية أي عقابنا وحسابنا كما قال مخبرا عنهم : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الاية فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله قال الله تعالى : { وقد خلت من قبلهم المثلات } أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم
ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كما قال : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } وقال تعالى في هذه الاية الكريمة : { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف كما قال تعالى : { فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } وقال : { إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } وقال : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم } إلى أمثال ذلك من الايات التي تجمع الرجاء والخوف وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الاية { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } الاية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد ] وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي أنه رأى رب العزة في النوم ورسول الله صلى الله عليه و سلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته فقال له : ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } قال : ثم انتبهت (2/659)
يقول تعالى إخبارا عن المشركين أنهم يقولون كفرا وعنادا : لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيح عنهم الجبال ويجعل مكانها مروجا وأنهارا قال تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } الاية قال الله تعالى : { إنما أنت منذر } أي إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } وقوله : { ولكل قوم هاد } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي لكل قوم داع وقال العوفي عن ابن عباس في الاية : يقول الله تعالى : أنت يا محمد منذر وأنا هادي كل قوم وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد وعن مجاهد { ولكل قوم هاد } أي نبي كقوله : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد وقال أبو صالح ويحيى بن رافع { ولكل قوم هاد } أي قائد وقال أبو العالية : الهادي القائد والقائد الإمام والإمام العمل وعن عكرمة وأبي الضحى { لكل قوم هاد } قالا : هو محمد صلى الله عليه و سلم وقال مالك : { ولكل قوم هاد } يدعوهم إلى الله عز و جل
وقال أبو جعفر بن جرير حدثني أحمد بن يحيى الصوفي حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري حدثنا معاذ بن مسلم حدثنا الهروي عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } قال : وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه على صدره وقال : [ أنا المنذر ولكل قوم هاد ] وأومأ بيده إلى منكب علي فقال [ أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي ] وهذا الحديث فيه نكارة شديدة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا المطلب بن زياد عن السدي عن عبد خير عن علي { ولكل قوم هاد } قال : الهادي رجل من بني هاشم قال الجنيد : هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات وعن أبي جعفر محمد بن علي نحو ذلك (2/659)
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات كما قال تعالى : { ويعلم ما في الأرحام } أي ما حملت من ذكر أو أنثى أو حسن أو قبيح أو شقي أو سعيد أو طويل العمر أو قصيره كقوله تعالى : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة } الاية وقال تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث } أي خلقكم طورا من بعد طور كما قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن خلق إحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وعمره وعمله وشقي أو سعيد ] وفي الحديث الاخر [ فيقول الملك أي رب أذكر أم أنثى ؟ أي رب أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيقول الله ويكتب الملك ]
وقوله { وما تغيض الأرحام وما تزداد } قال البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ] وقال العوفي عن ابن عباس { وما تغيض الأرحام } يعني السقط { وما تزداد } يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ومن تحمل تسعة أشهر ومنهن من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { وما تغيض الأرحام وما تزداد } قال : ما نقصت من تسعة وما زاد عليها وقال الضحاك : وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين وولدتني وقد نبتت ثنيتي وقال ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل وقال مجاهد { وما تغيض الأرحام وما تزداد } قال : ما ترى من الدم في حملها وما تزداد على تسعة أشهر وبه قال عطية العوفي والحسن البصري وقتادة والضحاك وقال مجاهد أيضا : إذا رأت المرأة الدم دون التسعة زاد على التسعة مثل أيام الحيض وقاله عكرمة وسعيد بن جبير وابن زيد وقال مجاهد أيضا : { وما تغيض الأرحام } إراقة الدم حتى يخس الولد { وما تزداد } إن لم تهرق المرأة تم الولد وعظم وقال مكحول : الجنين في بطن أمه لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل فإذا وقع إلى الأرض استهل واستهلاله استنكاره لمكانه فإذا قطعت سرته حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم ثم يصير طفلا يتناول الشيء بكفه فيأكله فإذا هو بلغ قال : هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق ؟ فيقول مكحول ياويلك : غذاك وأنت في بطن أمك وأنت طفل صغير حتى إذا اشتددت وعقلت قلت : هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق ثم قرأ مكحول { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } الاية
وقال قتادة : { وكل شيء عنده بمقدار } أي بأجل حفظ أرزاق خلقه وآجالهم وجعل لذلك أجلا معلوما وفي الحديث الصحيح أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه و سلم بعثت إليه أن ابنا لها في الموت وأنها تحب أن يحضره فبعث إليها يقول : [ إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمروها فلتصبر ولتحتسب ] الحديث بتمامه وقوله : { عالم الغيب والشهادة } أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ولا يخفى عليه منه شيء { الكبير } الذي هو أكبر من كل شيء { المتعال } أي على كل شيء { قد أحاط بكل شيء علما } وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعا وكرها (2/660)
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كقوله : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } وقال : { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } قالت عائشة رضي الله عنها : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا في جنب البيت وإنه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } وقوله { ومن هو مستخف بالليل } أي مختف في قعر بيته في ظلام الليل { وسارب بالنهار } أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه فإن كليهما في علم الله على السواء كقوله تعالى : { ألا حين يستغشون ثيابهم } الاية
وقوله تعالى : { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين }
وقوله : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من الأسواء والحادثات كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه واحد من ورائه وآخر من قدامه فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة أملاك بالليل بدلا حافظان وكاتبان كما جاء في الصحيح [ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ] وفي الحديث الاخر [ إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم ]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } والمعقبات من الله هي الملائكة وقال عكرمة عن ابن عباس { يحفظونه من أمر الله } قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدر الله خلوا عنه وقال مجاهد : ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له الملك وراءك إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه
وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه } قال : ذلك ملك من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس وقال العوفي عن ابن عباس : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه } يعني ولي الشيطان يكون عليه الحرس وقال عكرمة في تفسيرها : هؤلاء الأمراء المواكب بين يديه ومن خلفه وقال الضحاك في الاية : هو السلطان المحروس من أمر الله وهم أهل الشرك والظاهر ـ والله أعلم ـ أن مراد ابن عباس وعكرمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير ههنا حديثا غريبا جدا فقال حدثني المثنى حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ فقال [ ملك على يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أكتبها ؟ قال : لا لعله يستغفر الله ويتوب فيستأذنه ثلاث مرات فإذا قال ثلاثا قال : اكتبها أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا يقول الله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه } الاية وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه و سلم وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل ]
وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا أسود بن عامر حدثنا سفيان حدثني منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ] قالوا : وإياك يارسول الله ؟ قال : [ وإياي ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير ] انفرد بإخراجه مسلم وقوله : { يحفظونه من أمر الله } قيل : المراد حفظهم له من أمر الله رواه علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم وقال قتادة : { يحفظونه من أمر الله } قال : وفي بعض القراءات يحفظونه بأمر الله وقال كعب الأحبار : لو تجلى لابن لادم كل سهل وكل حزن لرأى كل شيء من ذلك شياطين لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتخطفتم وقال أبو أمامة : ما من آدمي ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له وقال أبو مجلز : جاء رجل من مراد إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي فقال : احترس : فإن ناسا من مراد يريدون قتلك فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه إن الأجل جنة حصينة
وقال بعضهم { يحفظونه من أمر الله } بأمر الله كما جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله أرأيت رقى نسترقي بها هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال [ هي من قدر الله ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن جهم عن إبراهيم قال : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : أن قل لقومك : إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون ثم قال : إن تصديق ذلك في كتاب الله { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } وقد ورد هذا في حديث مرفوع فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه صفة العرش : حدثنا الحسن بن علي حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي حدثنا أبو حنيفة اليماني الأنصاري عن عمير بن عبد الملك قال : خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة قال : كنت إذا أمسكت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ابتدأني وإذا سألته عن الخبر أنبأني وإنه حدثني عن ربه عز و جل قال : [ قال الرب : وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي ] وهذا غريب وفي إسناده من لا أعرفه (2/662)
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلل السحاب وروى ابن جرير أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق فقال : البرق الماء وقوله : { خوفا وطمعا } قال قتادة : خوفا للمسافر يخاف أذاه ومشقته وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله { وينشئ السحاب الثقال } أي ويخلقها منشأة جديدة وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض قال مجاهد : السحاب الثقال الذي فيه الماء قال : { ويسبح الرعد بحمده } كقوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده }
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرني أبي قال : كنت جالسا إلى جنب حميد بن عبد الرحمن في المسجد فمر شيخ من بني غفار فأرسل إليه حميد فلما أقبل قال : يا ابن أخي وسع فيما بيني وبينك فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه فقال له حميد : ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال له الشيخ : سمعت عن شيخ من بني غفار أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك ] والمراد ـ والله أعلم ـ أن نطقها الرعد وضحكها البرق وقال موسى بن عبيدة عن سعد بن إبراهيم قال : يبعث الله الغيث فلا أحسن منه مضحكا ولا آنس منه منطقا فضحكه البرق ومنطقه الرعد
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي عن محمد بن مسلم قال : بلغنا أن البرق ملك له أربعة وجوه : وجه إنسان ووجه ثور ووجه نسر ووجه أسد فإذا مصع بذنبه فذاك البرق وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحجاج حدثنا أبو مطر عن سالم عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سمع الرعد والصواعق قال [ اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ] ورواه الترمذي والبخاري في كتاب الأدب والنسائي في اليوم والليلة والحاكم في مستدركه من حديث الحجاج بن أرطاة عن أبي مطر ولم يسم به وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن أبيه عن رجل عن أبي هريرة رفعه أنه كان إذا سمع الرعد قال : [ سبحان من يسبح الرعد بحمده ] وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا سمع صوت الرعد يقول : سبحان من سبحت له وكذا روي عن ابن عباس وطاوس والأسود بن يزيد أنهم كانوا يقولون ذلك وقال الأوزاعي : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : سبحان الله وبحمده لم تصبه صاعقة وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويقول : إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض رواه مالك في موطئه والبخاري في كتاب الأدب
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الطيالسي حدثنا صدقة بن موسى حدثنا محمد بن واسع عن شتير بن نهار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ قال ربكم عز و جل : لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ولما أسمعتهم صوت الرعد ] وقال الطبراني : حدثنا زكريا بن يحيى الساجي حدثنا أبو كامل الجحدري حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر حدثنا عبد الكريم حدثنا عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكرا ] وقوله تعالى : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء ولهذا تكثر في آخر الزمان كما قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مصعب حدثنا عمارة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول : من صعق تلكم الغداة ؟ فيقولون : صعق فلان وفلان وفلان ]
وقد روي في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق حدثنا علي بن أبي سارة الشيباني حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب فقال : [ اذهب فادعه لي ] قال : فذهب إليه فقال : يدعوك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : من رسول الله وما الله أمن ذهب هو أم من فضة هو أم من نحاس هو ؟ قال : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك قال لي كذا وكذا فقال لي : [ ارجع إليه الثانية ] فذهب فقال له مثلها فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك فقال : [ ارجع إليه فادعه ] فرجع إليه الثالثة قال : فأعاد عليه ذلك الكلام فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عز و جل سحابة حيال رأسه فرعدت فوقعت منها صاعقة فذهب بقحف رأسه فأنزل الله عز و جل { ويرسل الصواعق } الاية ورواه ابن جرير من حديث علي بن أبي سارة به
ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبدة بن عبد الله عن يزيد بن هارون عن ديلم بن غزوان عن ثابت عن أنس فذكر نحوه وقال : حدثنا الحسن بن محمد حدثنا عفان حدثنا أبان بن يزيد حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه و سلم بعثه إلى جبار يدعوه فقال : أرأيتم ربكم أذهب هو ؟ أم فضة هو ؟ أم لؤلؤ هو ؟ قال : فبينما هو يجادلهم إذ بعث الله سحابة فرعدت فأرسل عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه ونزلت هذه الاية وقال أبو بكر بن عياش عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : جاء يهودي فقال : يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو ؟ من نحاس هو أم من لؤلؤ أو ياقوت ؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته وأنزل الله { ويرسل الصواعق } الاية
وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا أنكر القرآن وكذب النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل الله { ويرسل الصواعق } الاية وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة لما قدما على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له عامر بن الطفيل ـ لعنه الله : أما والله لأملأنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة ] يعني الأنصار ثم إنهما هما بالفتك برسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل أحدهما يخاطبه والاخر يستل سيفه ليقتله من ورائه فحماه الله تعالى منهما وعصمه فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة و السلام فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته وأما عامر بن الطفيل فأرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة فجعل يقول : يا آل عامر غدة كغدة البكر وموت في بيت سلولية حتى ماتا لعنهما الله وأنزل الله في مثل ذلك { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله } وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخو أربد يرثيه :
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالـ فارس يوم الكريهة النجد
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مسعدة بن سعيد العطار حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثني عبد العزيز بن عمران حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن جليد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر بن الطفيل : يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم ] قال عامر بن الطفيل : أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل ] قال : أنا الان في أعنة خيل نجد اجعل لي الوبر ولك المدر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ] فلما قفلا من عنده قال عامر : أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يمنعك الله ] فلما خرج أربد وعامر قال عامر : يا أربد أنا أشغل عنك محمدا بالحديث فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فنعطيهم الدية قال أربد : أفعل فأقبلا راجعين إليه فقال عامر : يا محمد قم معي أكلمك فقام معه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلسا إلى الجدار ووقف معه رسول الله صلى الله عليه و سلم يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف فلم يستطع سل السيف فأبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كانا بالحرة ـ حرة راقم ـ نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا : اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله فقال عامر : من هذا يا سعد ؟ قال : هذا أسيد بن حضير الكتائب فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول فجعل يمس قرحته في حلقة ويقول : غدة كغدة الجمل في بيت سلولية ترغب أن يموت في بيتها ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا فأنزل الله فيهما { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } قال : المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا صلى الله عليه و سلم ثم ذكر أربد وما قتله به فقال { ويرسل الصواعق } الاية
وقوله { وهم يجادلون في الله } أي يشكون في عظمته وأنه لا إله إلا هو { وهو شديد المحال } قال ابن جرير : شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره وهذه الاية شبيهة بقوله : { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين } وعن علي رضي الله عنه { وهو شديد المحال } أي شديد الأخذ وقال مجاهد : شديد القوة (2/664)
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه { له دعوة الحق } قال : التوحيد رواه ابن جرير وقال ابن عباس وقتادة ومالك عن محمد بن المنكدر { له دعوة الحق } لا إله إلا الله { والذين يدعون من دونه } الاية أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله { كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه } قال علي بن أبي طالب : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا بيده فكيف يبلغ فاه ؟ وقال مجاهد { كباسط كفيه } يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبدا وقيل : المراد كقابض يده على الماء فإنه لا يحكم منه على شي كما قال الشاعر :
فإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسقه أنامله
وقال الاخر :
فأصبحت مما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد
ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضا وإما متناولا له من بعد كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلا للشرب فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الاخرة ولهذا قال { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } (2/667)
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء ولهذا يسجد له كل شيء طوعا من المؤمنين وكرها على الكافرين { وظلالهم بالغدو } أي البكر { والآصال } وهو جمع أصيل وهو آخر النهار كقوله تعالى : { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله } الاية (2/667)
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو ربها ومدبرها وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم وأولئك الالهة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة فهل يستوي من عبد هذه الالهة مع الله ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه ؟ ولهذا قال : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يشابهه شيء ولا يماثله ولا ند له ولا عدل له ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وكما أخبرنا تعالى عنهم في قوله : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فأنكر تعالى عليهم ذلك حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } { وكم من ملك في السموات } الاية وقال { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } فإذا كان الجميع عبيدا فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل ولا برهان بل مجرد الرأي والاختراع والابتداع ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله فكذبوهم وخالفوهم فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة { ولا يظلم ربك أحدا } (2/668)
اشتملت هذه الاية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه والباطل في اضمحلاله وفنائه فقال تعالى : { أنزل من السماء ماء } أي مطرا { فسالت أودية بقدرها } أي أخذ كل واد بحسبه فهذا كبير وسع كثيرا من الماء وهذا صغير وسع بقدره وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها فمنها ما يسع علما كثيرا ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها { فاحتمل السيل زبدا رابيا } أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه هذا مثل
وقوله : { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع } الاية هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ابتغاء حلية أي ليجعل حلية نحاس أو حديد فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه كما يعلو ذلك زبد منه { كذلك يضرب الله الحق والباطل } أي إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك في النار بل يذهب ويضمحل ولهذا قال : { فأما الزبد فيذهب جفاء } أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء وذلك الذهب ونحوه ينتفع به ولهذا قال : { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } كقوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وقال بعض السلف : كنت إذا قرأت مثلا من القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله تعالى يقول { وما يعقلها إلا العالمون }
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } الاية هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها فأما الشك فلا ينفع معه العمل وأما اليقين فينفع الله به أهله وهو قوله : { فأما الزبد } وهو الشك { فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } وهو اليقين وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك وقال العوفي عن ابن عباس قوله : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا } يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة { ومما يوقدون عليه في النار } فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد فللنحاس والحديد خبث فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله والعمل السيء يضمحل عن أهله كما يذهب هذا الزبد وكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله فمن عمل بالحق كان له وبقي كما بقي ما ينفع الناس في الأرض وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبثه ويخرج جيده فينتفع به فكذلك يضمحل الباطل فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال فيزيغ الباطل ويهلك وينتفع أهل الحق بالحق وهكذا روي في تفسيرها عن مجاهد والحسن البصري وعطاء وقتادة وغير واحد من السلف والخلف
وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين : ناريا ومائيا وهما قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله } الاية ثم قال { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق } الاية وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين ( أحدهما ) قوله { والذين كفروا أعمالهم كسراب } الاية والسراب إنما يكون في شدة الحر ولهذا جاء في الصحيحين : فيقال لليهود يوم القيامة : فما تريدون ؟ فيقولون : أي ربنا عطشنا فاسقنا فيقال : ألا تردون ؟ فيردون النار فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا ثم قال تعالى في المثل الاخر : { أو كظلمات في بحر لجي } الاية وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ] فهذا مثل مائي وقال في الحديث الاخر الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ـ قال : فذلكم مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار فتغلبوني فتقتحمون فيها ] وأخرجاه في الصحيحين أيضا فهذا مثل ناري (2/668)
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال : { للذين استجابوا لربهم } أي أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدقوا أخباره الماضية والاتية فلهم { الحسنى } وهو الجزاء الحسن كقوله تعالى مخبرا عن ذي القرنين أنه قال : { أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا } وقال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وقوله : { والذين لم يستجيبوا له } أي لم يطيعوا الله { لو أن لهم ما في الأرض جميعا } أي في الدار الاخرة لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتدوا به ولكن لا يقبل منهم لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا { أولئك لهم سوء الحساب } أي في الدار الاخرة أي يناقشون على النقير والقطمير والجليل والحقير ومن نوقش الحساب عذب ولهذا قال { ومأواهم جهنم وبئس المهاد } (2/670)
يقول تعالى لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي { أنزل إليك } يا محمد { من ربك } هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا لا يضاد شيء منه شيئا آخر فأخباره كلها حق وأوامره ونواهيه عدل كما قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } أي صدقا في الإخبار وعدلا في الطلب فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه ولا اتبعه كقوله تعالى : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } وقال في هذه الاية الكريمة : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } أي أفهذا كهذا ؟ لا استواء وقوله : { إنما يتذكر أولو الألباب } أي إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة جعلنا الله منهم (2/670)
يقول تعالى مخبرا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والاخرة : { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر وإذا خاصم فجر وإذا حدث كذب وإذا ائتمن خان { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } من صلة الأرحام والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف { ويخشون ربهم } أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال ويراقبون الله في ذلك ويخافون سوء الحساب في الدار الاخرة فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } أي عن المحارم والمآثم ففطموا أنفسهم عنها لله عز و جل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه { وأقاموا الصلاة } بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي { وأنفقوا مما رزقناهم } أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب من فقراء ومحاويج ومساكين { سرا وعلانية } أي في السر والجهر لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال آناء الليل وأطراف النهار { ويدرؤون بالحسنة السيئة } أي يدفعون القبيح بالحسن فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا كقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } ولهذا قال مخبرا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار ثم فسر ذلك بقوله : { جنات عدن } والعدن الإقامة أي جنات إقامة يخلدون فيها وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد
وقال الضحاك في قوله : { جنات عدن } : مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس حولهم بعد والجنات حولها رواهما ابن جرير وقوله : { ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الاباء والأهلين والأبناء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بهم حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتنانا من الله وإحسانا من غير تنقيص للأعلى عن درجته كما قال تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } الاية
وقوله { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } أي وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن حدثني سعيد بن أبي أيوب حدثنا معروف بن سويد الحراني عن أبي عشانة المعافري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ ] قالوا : الله ورسوله أعلم قال : [ أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم ؟ فيقول : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ـ قال ـ : فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ]
رواه أبو القاسم الطبراني عن أحمد بن رشدين عن أحمد بن صالح عن عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي عشانة سمع عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز و جل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب : { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ]
وقال عبد الله بن المبارك عن بقية بن الوليد : حدثنا أرطاة بن المنذر سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين باب مبوب فيقبل الملك فيستأذن فيقول للذي يليه ملك يستأذن ويقول الذي يليه للذي يليه ملك يستأذن حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا فيقول أقربهم للمؤمن : ائذنوا له ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا له حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش عن أرطاة بن المنذر عن أبي الحجاج يوسف الإلهاني قال : سمعت أبا أمامة فذكر نحوه وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول فيقول لهم : { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان (2/671)
هذا حال الأشقياء وصفاتهم وذكر ما لهم في الاخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل وهؤلاء { ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض } كما ثبت في الحديث [ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ] وفي رواية [ وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ] ولهذا قال { أولئك لهم اللعنة } وهي الإبعاد عن الرحمة { ولهم سوء الدار } وهي سوء العاقبة والمآل { ومأواهم جهنم وبئس المهاد } وقال أبو العالية في قوله تعالى : { والذين ينقضون عهد الله } الاية قال : هي ست خصال في المنافقين إذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا ائتمنوا خانوا ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال : إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا اؤتمنوا خانوا (2/673)
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويقتر على من يشاء لما له في ذلك من الحكمة والعدل وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا كما قال : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الاخرة فقال : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } كما قال : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } وقال : { بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى } وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستودر أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما الدنيا في الاخرة إلا كما يجعل احدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع ] وأشار بالسبابة رواه مسلم في صحيحه وفي الحديث الاخر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بجدي أسك ميت والأسك الصغير الأذنين فقال : [ والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه ] (2/673)
يخبر تعالى عن قيل المشركين { لولا } أي هلا { أنزل عليه آية من ربه } كقولهم { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة وأن الله قادر على إجابة ما سألوا وفي الحديث إن الله أوحى إلى رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا وأن يجري لهم ينبوعا وأن يزيح الجبال من حول مكة فيصير مكانها مروج وبساتين : إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك فإن كفروا أعذبهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة فقال : [ بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة ] ولهذا قال لرسوله : { قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } أي هو المضل والهادي سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا أو لم يجبهم إلى سؤالهم فإن الهداية والإضلال ليس منوطا بذلك ولا عدمه كما قال : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } وقال : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } وقال : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون } ولهذا قال : { قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } أي ويهدي إليه من أناب إلى الله ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله } أي تطيب وتركن إلى جانب الله وتسكن عند ذكره وترضى به مولى ونصيرا ولهذا قال : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } أي هو حقيق بذلك
وقوله : { الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : فرح وقرة عين وقال عكرمة : نعم ما لهم وقال الضحاك : غبطة لهم وقال إبراهيم النخعي : خير لهم وقال قتادة : هي كلمة عربية يقول الرجل : طوبى لك أي أصبت خيرا وقال في رواية : طوبى لهم حسنى لهم { وحسن مآب } أي مرجع وهذه الأقوال شيء واحد لا منافاة بينها وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس { طوبى لهم } قال : هي أرض الجنة بالحبشية وقال سعيد بن مسجوح : طوبى اسم الجنة بالهندية وكذا روى السدي عن عكرمة : طوبى لهم هي الجنة وبه قال مجاهد وقال العوفي عن ابن عباس : لما خلق الله الجنة وفرغ منها قال : { الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب } وذلك حين أعجبته
وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر عن شهر بن حوشب قال : طوبى شجرة في الجنة كل شجر الجنة منها أغصانها من وراء سور الجنة وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس ومغيث بن سليمان وأبي إسحاق السبيعي وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار منها غصن منها وذكر بعضهم أن الرحمن تبارك وتعالى غرسها بيده من حبة لؤلؤة وأمرها أن تمتد فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة من عسل وخمر وماء ولبن وقد قال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا [ طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رجلا قال : يا رسول الله : طوبى لمن رآك وآمن بك قال : [ طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني ] قال له رجل : وما طوبى ؟ قال : [ شجرة في الجنة مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ] وروى البخاري ومسلم جميعا عن إسحاق بن راهويه عن مغيرة المخزومي عن وهيب عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ] قال : فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال : حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها ]
وفي صحيح البخاري من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول الله تعالى : { وظل ممدود } قال : [ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ] وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج حدثنا فليح عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرأوا إن شئتم { وظل ممدود } ] أخرجاه في الصحيحين وفي لفظ لأحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا : حدثنا شعبة : سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ـ أو مائة سنة ـ هي شجرة الخلد ] وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر سدرة المنتهى فقال : [ يسير في ظل الغصن منها الراكب مائة سنة ـ أو قال ـ يستظل في الفنن منها مائة راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال ] رواه الترمذي
وقال إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام الأسود قال : سمعت أبا أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى فتفتح له أكمامها فيأخذ من أي ذلك شاء إن شاء أبيض وإن شاء أحمر وإن شاء أصفر وإن شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن ] وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : طوبى شجرة في الجنة يقول الله لها : تفتقي لعبدي عما شاء فتفتق له عن الخيل بسروجها ولجمها وعن الإبل بأزمتها وعما شاء من الكسوة
وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه ههنا أثرا غريبا عجيبا قال وهب رحمه الله : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها زهرها رياط وورقها برود وقضبانها عنبر وبطحاؤها يا قوت وترابها كافور ووحلها مسك يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل وهي مجلس لأهل الجنة فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب وجوهها كالمصابيح حسنا ووبرها كخز المرعزي من لينه عليها رحال ألواحها من ياقوت ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق فينيخونها يقولون : إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال : فيركبونها فهي أسرع من الطائر وأوطأ من الفراش نجبا من غير مهنة يسير الرجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه لا تصيب أذن راحلة منها أذن الاخرى ولا برك رحلة برك الأخرى حتى إن الشجرة لتتنحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه فإذا رأوه قالوا : اللهم أنت السلام ومنك السلام وحق لك الجلال والإكرام قال : فيقول تعالى عند ذلك : أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي مرحبا بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا أمري قال : فيقولون : ربنا لم نعبدك حق عبادتك ولم نقدرك حق قدرك فأذن لنا في السجود قدامك قال : فيقول الله : إنها ليست بدار نصب ولا عبادة ولكنها دار ملك ونعيم وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم فإن لكل رجل منكم أمنيته فيسألونه حتى أن أقصرهم أمنية ليقول : ربي تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها رب فآتني مثل كل شيء كانوا فيها من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا فيقول الله تعالى : لقد قصرت بك أمنيتك ولقد سألت دون منزلتك هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد قال : ثم يقول : اعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال قال : فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة في كل قبة منها فرش من فرش الجنة متظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما ولا ريح ولا طيب إلا قد عبق بهما ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ويرى هو لهما مثل ذلك ويدخل إليهما فيحييانه ويقبلانه ويتعلقان به ويقولان له : والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد : فانظروا إلى موهوب ربكم الذي وهب لكم فإذا هو بقباب في الرفيق الأعلى وغرف مبنية من الدر والمرجان أبوابها من ذهب وسررها من ياقوت وفرشها من سندس وإستبرق ومنابرها من نور يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها فلولا أنه مسخر إذا لالتمع الأبصار فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض وما كان فيها من الياقوت الأحمر فهو مفروش بالعبقري الأحمر وما كان فيها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر وما كان فيها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء قوائمها وأركانها من الجوهر وشرفها قباب من لؤلؤ وبروجها غرف من المرجان فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح تجنبها الولدان المخلدون بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت سروجها سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم ببطن رياض الجنة فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعودا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وتمنوا وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان : جنتان ذواتا أفنان وجنتان مدهامتان وفيهما عينان نضاختان وفيهما من كل فاكهة زوجان وحور مقصورات في الخيام فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ قالوا : نعم وربنا قال : هل رضيتم ثواب ربكم ؟ قالوا : ربنا رضينا فارض عنا قال : برضاي عنكم حللتم داري ونظرتم إلى وجهي وصافحتكم ملائكتي فهنيئا لكم { عطاء غير مجذوذ } ليس فيه تنغيص ولا تصريد فعند ذلك قالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وأدخلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب إن ربنا لغفور شكور وهذا سياق غريب وأثر عجيب ولبعضه شواهد ففي الصحيحين أن الله تعالى يقول لذلك الرجل يكون آخر أهل الجنة دخولا الجنة : تمن فيتمنى حتى إذا انتهت به الأماني يقول الله تعالى : تمن من كذا وتمن من كذا يذكره ثم يقول : ذلك لك وعشرة أمثاله
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل [ يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر ] الحديث بطوله وقال خالد بن معدان : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى لها ضروع كلها ترضع صبيان أهل الجنة وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة فيبعث ابن أربعين سنة رواه ابن أبي حاتم (2/673)
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة { لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك } أي تبلغهم رسالة الله إليهم كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله وقد كذب الرسل من قبلك بهم أسوة وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم فإن تكذيبهم لك أشد من تكذيب غيرك من المرسلين قال الله تعالى : { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } الاية وقال تعالى : { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين } أي كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والاخرة
وقوله : { وهم يكفرون بالرحمن } أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم وقالوا : ما ندري ما الرحمن الرحيم قاله قتادة والحديث في صحيح البخاري وقد قال الله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن ] { قل هو ربي لا إله إلا هو } أي هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به معترف مقر له بالربوبية والألوهية هو ربي لا إله إلا هو { عليه توكلت } أي في جميع أموري { وإليه متاب } أي إليه أرجع وأنيب فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه (2/677)
يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه و سلم ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها أو تقطع به الأرض وتنشق أو تكلم به الموتى في قبورهم لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ولا بسورة من مثله ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به جاحدون له { بل لله الأمر جميعا } أي مرجع الأمور كلها إلى الله عز و جل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومن يضلل الله فلا هادي له ومن يهد الله فما له من مضل وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة لأنه مشتق من الجميع
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خففت على داود القراءة فكان يأمر بدابته أن تسرج فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته وكان لا يأكل إلا من عمل يديه ] انفرد بإخراجه البخاري والمراد بالقرآن هو الزبور وقوله { أفلم ييأس الذين آمنوا } أي من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا } فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ] معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته وهذا القرآن حجة باقية على الاباد لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث أنبأنا بشر بن عمارة حدثنا عمر بن حسان عن عطية العوفي قال : قلت له : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } الاية قالوا لمحمد صلى الله عليه و سلم : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل الله هذه الاية قال : قلت : هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم وكذا روى ابن عباس والشعبي وقتادة والثوري وغير واحد في سبب نزول هذه الاية والله أعلم وقال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم
وقوله { بل لله الأمر جميعا } قال ابن عباس : أي لا يصنع من ذلك إلا ما شاء ولم يكن ليفعل رواه ابن إسحاق بسنده عنه وقاله ابن جرير أيضا وقال غير واحد من السلف في قوله { أفلم ييأس الذين آمنوا } : أفلم يعلم الذين آمنوا وقرأ آخرون : أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وقال أبو العالية : قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا وقوله : { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم } أي بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا كما قال تعالى : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون } وقال { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون } قال قتادة عن الحسن { أو تحل قريبا من دارهم } أي القارعة وهذا هو الظاهر من السياق
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي عن قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة } قال : سرية { أو تحل قريبا من دارهم } قال محمد صلى الله عليه و سلم : { حتى يأتي وعد الله } قال [ فتح مكة ] وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في رواية وقال العوفي عن ابن عباس { تصيبهم بما صنعوا قارعة } قال : عذاب من السماء ينزل عليهم { أو تحل قريبا من دارهم } يعني نزول رسول الله صلى الله عليه و سلم بهم وقتاله إياهم وكذا قال مجاهد وقتادة وقال عكرمة في رواية عن ابن عباس { قارعة } أي نكبة وكلهم قال { حتى يأتي وعد الله } يعني فتح مكة وقال الحسن البصري : يوم القيامة وقوله : { إن الله لا يخلف الميعاد } أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والاخرة { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام } (2/678)
يقول تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه و سلم في تكذيب من كذبه من قومه : { ولقد استهزئ برسل من قبلك } أي فلك فيهم أسوة { فأمليت للذين كفروا } أي أنظرتهم وأجلتهم { ثم أخذتهم } أخذة رابية فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم وأمليت لهم كما قال تعالى : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير } وفي الصحيحين [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } (2/679)
يقول تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ولا يخفى عليه خافية { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } وقال تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } وقال : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } وقال : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } وقال : { يعلم السر وأخفى } وقال : { وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ولا تملك نفعا لأنفسها ولا لعابديها ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها ؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله : { وجعلوا لله شركاء } أي عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان { قل سموهم } أي أعلمونا بهم واكشفوا عنهم حتى يعرفوا فإنهم لا حقيقة لهم ولهذا قال : { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } أي لا وجود له لأنه لو كان له وجود في الأرض لعلمها لأنه لا تخفى عليه خافية { أم بظاهر من القول } قال مجاهد : بظن من القول وقال الضحاك وقتادة : بباطل من القول أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } { بل زين للذين كفروا مكرهم } قال مجاهد : قولهم أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار كقوله تعالى : { وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم } الاية { وصدوا عن السبيل } من قرأها بفتح الصاد معناه أنه لما زين لهم ما هم فيه وأنه حق دعوا إليه وصدوا الناس عن اتباع طريق الرسل ومن قرأها بالضم أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه صدوا به عن سبيل الله ولهذا قال : { ومن يضلل الله فما له من هاد } كما قال { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } وقال { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين } (2/679)
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك { لهم عذاب في الحياة الدنيا } أي بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا { ولعذاب الآخرة } أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا { أشق } أي من هذا بكثير كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمتلاعنين : [ إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة ] وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه فإن عذاب الدنيا له انقضاء وذاك دائم أبدا في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا ووثاق لا يتصور كثافته وشدته كما قال تعالى : { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد } وقال تعالى : { وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا * قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا } ولهذا قرن هذا بقوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي صفتها ونعتها { تجري من تحتها الأنهار } أي سارحة في أرجائها وجوانبها وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيرا أي يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا كقوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة } الاية
وقوله : { أكلها دائم وظلها } أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف وفيه قالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت فقال : [ إني رأيت الجنة ـ أو أريت الجنة ـ فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ] وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا عبيد الله حدثنا أبو عقيل عن جابر قال : بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فتقدمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب : يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه فقال : [ إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لاتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه ] وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر شاهدا لبعضه وعن عتبة بن عبد السلمي أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الجنة فقال : فيها عنب ؟ قال : [ نعم ] قال : فما عظم العنقود ؟ قال : [ مسيرة شهر للغراب الأبقع ولا يفتر ] رواه الإمام أحمد
وقال الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا علي بن المديني حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى ] وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون طعامهم جشاء كريح المسك ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس ] رواه مسلم وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن تمام بن عقبة سمعت زيد بن أرقم قال : جاء رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم : تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ؟ قال : [ نعم والذي نفس محمد بيده إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة ] قال : إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى ؟ قال : [ تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه ] رواه الإمام أحمد والنسائي
وقال الحسن بن عرفة : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فيخر بين يديك مشويا ] وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه عاد طائرا كما كان بإذن الله تعالى وقد قال الله تعالى : { وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة } وقال { ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا } وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص كما قال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا }
وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها ] ثم قرأ { وظل ممدود } وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده : { تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار } كما قال تعالى : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه : عباد الله هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من عبادتكم تقبلت منكم أو أن شيئا من خطاياكم غفرت لكم ؟ { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لا ستقللتم كلكم ما افترض عليكم أو ترغبون في طاعة الله لتعجيل دنياكم ولا تنافسون في جنة { أكلها دائم } رواه ابن أبي حاتم (2/680)
يقول تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب } وهم قائمون بمقتضاه { يفرحون بما أنزل إليك } أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كما قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته } الاية وقال تعالى : { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } أي إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى الله عليه و سلم لحقا وصدقا مفعولا لا محالة وكائنا فسبحانه ما أصدق وعده فله الحمد وحده { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } وقوله { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } أي ومن الطوائف من يكذب ببعض ما أنزل إليك وقال مجاهد { ومن الأحزاب } أي اليهود والنصارى { من ينكر بعضه } أي بعض ما جاءك من الحق وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا كما قال تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } الاية { قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به } أي إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له كما أرسل الأنبياء من قبلي { إليه أدعو } أي إلى سبيله أدعو الناس { وإليه مآب } أي مرجعي ومصيري
وقوله : { وكذلك أنزلناه حكما عربيا } أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب من السماء كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا شرفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } وقوله : { ولئن اتبعت أهواءهم } أي آراءهم { بعد ما جاءك من العلم } أي من الله سبحانه { ما لك من الله من ولي ولا واق } وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام (2/682)
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشريا كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم وجعلنا لهم أزواجا وذرية وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي } وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أنبأنا الحجاج بن أرطاة عن مكحول قال : قال أبو أيوب : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أربع من سنن المرسلين : التعطر والنكاح والسواك والحناء ] وقد رواه أبو عيسى الترمذي عن سفيان بن وكيع عن حفص بن غياث عن الحجاج عن مكحول عن أبي الشمال عن أبي أيوب فذكره ثم قال : وهذا أصح من الحديث الذي لم يذكر فيه أبو الشمال
وقوله : { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } أي لم يكن يأتي قومه بخارق إلا إذا أذن له فيه ليس ذلك إليه بل إلى الله عز و جل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد { لكل أجل كتاب } أي لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها وكل شيء عنده بمقدار { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { لكل أجل كتاب } أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا { يمحو الله ما يشاء } منها { ويثبت } يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صوات الله وسلامه عليه وقوله { يمحو الله ما يشاء ويثبت } اختلف المفسرون في ذلك فقال الثوري ووكيع وهشيم عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير ! عن ابن عباس : يدبر أمر السنة فيمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت وفي رواية { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قال : كل شيء إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة فإنهما قد فرغ منهما
وقال مجاهد { يمحو الله ما يشاء ويثبت } إلا الحياة والموت والشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران وقال منصور : سألت مجاهدا فقلت : أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم واجعله في السعداء ؟ فقال : حسن : ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر فسألته عن ذلك فقال : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } الايتين قال : يقضي في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء فأما كتاب السعادة والشقاوة فهو ثابت لا يغير وقال الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة : إنه كان كثيرا ما يدعو بهذا الدعاء : اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه واكتبنا سعداء وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب رواه ابن جرير وقال ابن جرير أيضا : حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن أبي حكيمة عصمة عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة
وقال حماد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضا ورواه شريك عن هلال بن حميد عن عبد الله بن عكيم عن ابن مسعود بمثله وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا حجاج حدثنا خصاف عن أبي حمزة عن إبراهيم أن كعبا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة قال : وما هي ؟ قال : قول الله تعالى : { يمحو الله ما يشاء } الاية ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء وقد يستأنس لهذا القول بما ورواه الإمام احمد : حدثنا وكيع وحدثنا سفيان هو الثوري عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعد عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ] ورواه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان الثوري به
وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر وفي حديث آخر [ إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض ] وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سهل بن عسكر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت ـ والدفتان : لوحان ـ لله عز و جل كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وقال الليث بن سعد عن زيادة بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ] وذكر تمام الحديث رواه ابن جرير
وقال الكلبي : يمحو الله ما يشاء ويثبت قال : يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه فقيل له : من حدثك بهذا ؟ فقال : أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم سئل بعد ذلك عن هذه الاية فقال : يكتب القول كله حتى إذ كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب مثل قولك : أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحو ذلك من الكلام وهو صادق ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب وقال عكرمة عن ابن عباس : الكتاب كتابان فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } يقول : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله وهو الذي يثبت وروي عن سعيد بن جبير أنها بمعنى { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { يمحو الله ما يشاء ويثبت } يقول : يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله { وعنده أم الكتاب } وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب وقال قتادة في قوله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } كقوله : { ما ننسخ من آية أو ننسها } الاية وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قال : قالت كفار قريش لما نزلت { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } : ما نرى محمدا يملك شيئا وقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه الاية تخويفا ووعيدا لهم إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ونحدث في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم
وقال الحسن البصري { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قال : من جاء أجله يذهب ويثبت الذي هو حي يجري إلى أجله وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه الله وقوله : { وعنده أم الكتاب } قال : الحلال والحرام وقال قتادة : أي جملة الكتاب وأصله وقال الضحاك { وعنده أم الكتاب } قال : كتاب عند رب العالمين وقال سنيد بن داود : حدثني معتمر عن أبيه عن يسار عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أم الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون ثم قال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا وقال ابن جريج عن ابن عباس { وعنده أم الكتاب } قال : الذكر (2/683)
يقول تعالى لرسوله { وإما نرينك } يا محمد بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا { أو نتوفينك } أي قبل ذلك { فإنما عليك البلاغ } أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله وقد فعلت ما أمرت به { وعلينا الحساب } أي حسابهم وجزاؤهم كقوله تعالى : { فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر * إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } وقوله : { أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } قال ابن عباس : أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه و سلم الأرض بعد الأرض وقال في رواية : أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية وقال مجاهد وعكرمة : ننقصها من أطرافها قال : خرابها وقال الحسن والضحاك : هو ظهور المسلمين على المشركين وقال العوفي عن ابن عباس : نقصان أهلها وبركتها وقال مجاهد : نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض وقال الشعبي : لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك ولكن تنقص الأنفس والثمرات وكذا قال عكرمة : لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكانا تقعد فيه ولكن هو الموت وقال ابن عباس في رواية : خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها وكذا قال مجاهد أيضا : هو موت العلماء وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم المصري الواعظ سكن أصبهان حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق أنشدنا أبو بكر الاجري بمكة قال : أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه :
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
والقول الأول أولى وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية كقوله : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } الاية وهذا اختيار ابن جرير (2/685)
يقول تعالى : { وقد مكر الذين من قبلهم } برسلهم وأرادوا إخراجهم من بلادهم فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين كقوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وقوله تعالى : { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } الايتين وقوله : { يعلم ما تكسب كل نفس } أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله { وسيعلم الكفار } والقراءة الأخرى الكفار { لمن عقبى الدار } أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل كلا بل هي لأتباع الرسل في الدنيا والاخرة ولله الحمد والمنة (2/686)
يقول تعالى : يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون : { لست مرسلا } أي ما أرسلك الله { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان وقوله : { ومن عنده علم الكتاب } قيل : نزلت في عبد الله بن سلام قاله مجاهد وهذا القول غريب لأن هذه الاية مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال : هم من اليهود والنصارى وقال قتادة : منهم ابن سلام وسلمان وتميم الداري وقال مجاهد في رواية عنه : هو الله تعالى وكان سعيد بن جبير ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ويقول : هي مكية وكان يقرؤها { ومن عنده علم الكتاب } ويقول : من عند الله وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري
وقد روى ابن جرير من حديث هارون الأعور عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأها { ومن عنده علم الكتاب } ثم قال : لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات قلت وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من طريق هارون بن موسى هذا عن سليمان بن أرقم وهو ضعيف عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا كذلك ولا يثبت والله أعلم والصحيح في هذا أن { ومن عنده } اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه و سلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به كما قال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } الاية : وقال تعالى : { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } الاية وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة وقد ورد في حديث الأحبار عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة وهو كتاب جليل : حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا محمد بن مصفى حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام أنه قال لأحبار اليهود : إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عيدا فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بمكة فوافاهم وقد انصرفوا من الحج فوجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بمنى والناس حوله فقام مع الناس فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أنت عبد الله بن سلام ؟ ] قال قلت : نعم قال [ ادن ] قال : فدنوت منه قال : [ أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام أما تجدني في التوراة رسول الله ؟ ] فقلت له : انعت ربنا قال : فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : { قل هو الله أحد * الله الصمد } إلى آخرها فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ابن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة فكتم إسلامه فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجذها فألقيت نفسي فقالت أمي : لله أنت لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة فقلت : والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم من موسى بن عمران إذ بعث وهذا حديث غريب جدا آخر تفسير سورة الرعد ولله الحمد والمنة (2/686)
سورة إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم (2/687)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور { كتاب أنزلناه إليك } أي هذا كتاب أنزلنا إليك يا محمد وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد كما قال تعالى : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } الاية وقال تعالى : { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور } الاية
وقوله : { بإذن ربهم } أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم { إلى صراط العزيز } أي العزيز الذين لا يمانع ولا يغالب بل هو القاهر لكل ما سواه { الحميد } أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وأمره ونهيه الصادق في خبره وقوله : { الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } قرأ بعضهم مستأنفا مرفوعا وقرأ آخرون على الإتباع صفة للجلالة كقوله تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض } الاية وقوله : { وويل للكافرين من عذاب شديد } أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا ونسوا الاخرة وتركوها وراء ظهورهم { ويصدون عن سبيل الله } وهي اتباع الرسل { ويبغونها عوجا } أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة عائلة وهي مستقيمة في نفسها لا يضرها من خالفها ولا من خذلها فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح (2/687)
هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم كما روى الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن عمر بن ذر قال : قال مجاهد عن أبي ذر : قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم يبعث الله عز و جل نبيا إلا بلغة قومه ] وقوله : { فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يضل الله من يشاء عن وجه الهدى ويهدي من يشاء إلى الحق { وهو العزيز } الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن { الحكيم } في أفعاله فيضل من يستحق الإضلال ويهدي من هو أهل لذلك وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم واختص محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه و سلم بعموم الرسالة إلى سائر الناس كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ] وله شواهد من وجوه كثيرة وقال تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } (2/688)
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا قال مجاهد : هي التسع الايات { أن أخرج قومك } أي أمرناه قائلين له { أخرج قومك من الظلمات إلى النور } أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان { وذكرهم بأيام الله } أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه وإنجائه إياهم من عدوهم وفلقه لهم البحر وتظليله إياهم بالغمام وإنزاله عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من النعم قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم حدثنا محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { وذكرهم بأيام الله } قال : بنعم الله ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث محمد بن أبان به ورواه عبد الله ابنه أيضا موقوفا وهو أشبه
وقوله : { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } أي إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة لكل صبار أي في الضراء شكور أي في السراء كما قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر وإذا أعطي شكر وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن أمر المؤمن كله عجب لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ] (2/688)
يقول تعالى مخبرا عن موسى حين ذكر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم إذ أنجاهم من آل فرعون وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم ويتركون إناثهم فأنقذهم الله من ذلك وهذه نعمة عظيمة ولهذا قال : { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك أنتم عاجزون عن القيام بشكرها وقيل : وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل { بلاء } أي اختبار عظيم ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا والله أعلم كقوله تعالى : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } وقوله : { وإذ تأذن ربكم } أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم ويحتمل أن يكون المعنى : وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه كقوله تعالى : { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة }
وقوله : { لئن شكرتم لأزيدنكم } أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها { ولئن كفرتم } أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها { إن عذابي لشديد } وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها وقد جاء في الحديث [ إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ] وفي المسند أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر به سائل فأعطاه تمرة فسخطها ولم يقبلها ثم مر به آخر فأعطاه إياها فقبلها وقال : تمرة من رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر له بأربعين درهما أو كما قال : قال الإمام أحمد : حدثنا أسود حدثنا عمارة الصيدلاني عن ثابت عن أنس قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها أو وحش بها ـ قال : وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقال : سبحان الله تمرة من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال للجارية : [ اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها ] تفرد به الإمام أحمد وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبان وأحمد ويعقوب بن سفيان وقال ابن معين : صالح وقال أبو زرعة : لا بأس به وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالمتين وقال البخاري : ربما يضطرب في حديثه وعن أحمد أيضا أنه قال : روى أحاديث منكرة وقال أبو داود : ليس بذاك وضعفه الدارقطني وقال ابن عدي : لا بأس به ممن يكتب حديثه
وقوله تعالى : { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد } أي هو غني عن شكر عباده وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره كقوله : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } الاية وقوله : { فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد } وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه عز و جل أنه قال : [ يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ] فسبحانه وتعالى الغني الحميد (2/689)
قال ابن جرير : هذا من تمام قول موسى لقومه يعني وتذكيره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة والله أعلم وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا الله عز و جل { جاءتهم رسلهم بالبينات } أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات وقال ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله أنه قال في قوله : { لا يعلمهم إلا الله } كذب النسابون وقال عروة بن الزبير : ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان
وقوله : { فردوا أيديهم في أفواههم } اختلف المفسرون في معناه قيل : معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل بأمرهم بالسكوت عنهم لما دعوهم إلى الله عز و جل وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبا لهم وقيل : بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل وقال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة : ومعناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم قال ابن جرير : وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء قال : وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة وقال الشاعر :
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب
يريد أرغب بها قلت : ويؤيد مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام { وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } فكأن هذا ـ والله أعلم ـ تفسير لمعنى { فردوا أيديهم في أفواههم } وقال سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله : { فردوا أيديهم في أفواههم } قال : عضوا عليها غيظا وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي هبيرة بن يريم عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ووجهه ابن جرير مختارا له بقوله تعالى عن المنافقين { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } وقال العوفي عن ابن عباس : لما سمعوا كلام الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به الاية يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكا قويا (2/690)
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له قالت الرسل : { أفي الله شك } وهذا يحتمل شيئين ( أحدهما ) أفي وجوده شك فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه { فاطر السموات والأرض } الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا الله هو خالق كل شيء وإلاهه ومليكه ( والمعنى الثاني ) في قولهم : { أفي الله شك } أي أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى وقالت لهم رسلهم : { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم } أي في الدار الاخرة { ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي في الدنيا كما قال تعالى : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } الاية فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة بعد تقدير تسليمهم المقام الأول وحاصل ما قالوه { إن أنتم إلا بشر مثلنا } أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر منكم معجزة { فأتونا بسلطان مبين } أي خارق نقترحه عليكم { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم } أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية { ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } أي بالرسالة والنبوة { وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان } على وفق ما سألتم { إلا بإذن الله } أي بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي في جميع أمورهم ثم قالت الرسل : { وما لنا أن لا نتوكل على الله } أي وما يمنعنا من التوكل عليه وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها { ولنصبرن على ما آذيتمونا } أي من الكلام السيء والأفعال السخيفة { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } (2/691)
يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا } الاية وكما قال قوم لوط : { أخرجوا آل لوط من قريتكم } الاية وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } وقال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصارا وأعوانا وجندا يقاتلون في سبيل الله تعالى ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته ومكن له فيها وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان ولهذا قال تعالى : { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم } وكما قال : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } وقال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وقال تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } الاية { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } وقال تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون } وقوله : { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } أي وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى : { فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى } وقال { ولمن خاف مقام ربه جنتان }
وقوله : { واستفتحوا } أي استنصرت الرسل ربها على قومها قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } ويحتمل أن يكون هذا مرادا وهذا مرادا كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول الله صلى الله عليه و سلم واستنصر وقال الله تعالى للمشركين : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم } الاية والله أعلم { وخاب كل جبار عنيد } أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق كقوله تعالى : { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد } وفي الحديث [ إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة فتنادي الخلائق فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد ] الحديث أي خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر
وقوله : { من ورائه جهنم } وراء هنا بمعنى أمام كقوله تعالى : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } وكان ابن عباس يقرؤها : وكان أمامهم ملك أي من وراء الجبار العنيد جهنم أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلدا يوم المعاد ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد { ويسقى من ماء صديد } أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق فهذا حار في غاية الحرارة وهذا بارد في غاية البرد والنتن كما قال : { هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج } وقال مجاهد وعكرمة : الصديد من القيح والدم وقال قتادة : هو ما يسيل من لحمه وجلده وفي رواية عنه : الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : قلت يا رسول الله ما طينة الخبال ؟ قال [ صديد أهل النار ] وفي رواية [ عصارة أهل النار ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبد الله أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { ويسقى من ماء صديد * يتجرعه } قال : [ يقرب إليه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره ] يقول الله تعالى : { وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } ويقول : { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه } الاية وهكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن المبارك به ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به
وقوله : { يتجرعه } أي يتغصصه ويتكرهه أي يشربه قهرا وقسرا لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد كما قال تعالى : { ولهم مقامع من حديد } { ولا يكاد يسيغه } أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع { ويأتيه الموت من كل مكان } أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه قال عمرو بن ميمون بن مهران : من كل عظم وعصب وعرق وقال عكرمة : حتى من أطراف شعره وقال إبراهيم التيمي : من موضع كل شعرة أي من جسده حتى من أطراف شعره وقال ابن جرير : { ويأتيه الموت من كل مكان } أي من أمامه وخلفه وفي رواية : وعن يمينه وشماله ومن فوقه ومن تحت أرجله ومن سائر أعضاء جسده
وقال الضحاك عن ابن عباس { ويأتيه الموت من كل مكان } قال : أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال : { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال ولهذا قال تعالى : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت }
وقوله : { ومن ورائه عذاب غليظ } أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم : { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم وتارة في شرب حميم وتارة يردون إلى جحيم عياذا بالله من ذلك وهكذا قال تعالى : { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن } وقال تعالى : { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون } وقال : { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم } وقال تعالى : { هذا وإن للطاغين لشر مآب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج } إلى غير ذلك من الايات الدالة على تنوع العذاب عليهم وتكراره وأنواعه وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عز و جل جزاء وفاقا { وما ربك بظلام للعبيد } (2/692)
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه غيره وكذبوا رسله وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها فقال تعالى : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم } أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء فلم يجدو شيئا ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة { في يوم عاصف } أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم كقوله تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } وقوله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين } وقوله في هذه الاية { ذلك هو الضلال البعيد } أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه { ذلك هو الضلال البعيد } (2/694)
يقول تعالى مخبرا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والحركات المختلفات والايات الباهرات وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد وبراري وصحارى وقفار وبحار وأشجار ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير } وقال تعالى : { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون } وقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز } أي بعظيم ولا ممتنع بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم كما قال : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز } وقال : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } وقال : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } وقال : { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا } (2/695)
يقول تعالى : { وبرزوا } أي برزت الخلائق كلها برها وفاجرها لله الواحد القهار أي اجتمعوا له في براز من الأرض وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا { فقال الضعفاء } وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم { للذين استكبروا } عن عبادة الله وحده لا شريك له وعن موافقة الرسل قالوا لهم : { إنا كنا لكم تبعا } أي مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا { فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء } أي فهل تدفعون عنا شيئا من عذاب الله كما كنتم تعدوننا وتمنوننا فقالت القادة لهم : { لو هدانا الله لهديناكم } ولكن حق علينا قول ربنا وسبق فينا وفيكم قدر الله وحقت كلمة العذاب على الكافرين { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } أي ليس لنا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله عز و جل تعالوا نبك ونتضرع إلى الله فبكوا وتضرعوا فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا : إنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله فلم ينفعهم ذلك فعند ذلك قالوا { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } الاية قلت : والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها كما قال تعالى : { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد } وقال تعالى : { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } وقال تعالى : { ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } وأما تخاصمهم في المحشر فقال تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } (2/696)
يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعدما قضى الله بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات وأسكن الكافرين الدركات فقام فيهم إبليس لعنه الله يومئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغبنا إلى غبنهم وحسرة إلى حسرتهم فقال : { إن الله وعدكم وعد الحق } أي على ألسنة رسله ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة وكان وعدا حقا وخبرا صدقا وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم كما قال الله تعالى : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } ثم قال : { وما كان لي عليكم من سلطان } أي ما كان لي دليل فيما دعوتكم إليه ولا حجة فيما وعدتكم به { إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } بمجرد ذلك هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه { فلا تلوموني } اليوم { ولوموا أنفسكم } فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل { ما أنا بمصرخكم } أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه { وما أنتم بمصرخي } أي بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال { إني كفرت بما أشركتمون من قبل } قال قتادة : أي بسبب ما أشركتمون من قبل وقال ابن جرير : يقول : إني جحدت أن أكون شريكا لله عز و جل وهذا الذي قاله هو الراجح كما قال تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } قال : { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا }
وقوله : { إن الظالمين } أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل لهم عذاب أليم والظاهر من سياق الاية أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار كما قدمنا ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وهذا لفظه وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد : حدثني دخين الحجري عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا جمع الله الأولين والاخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء قال المؤمنون : قد قضى بيننا ربنا فمن يشفع لنا ؟ فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم وذكر نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول عيسى : أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون : هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتون إبليس فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ثم يعظم نحيبهم { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } ] وهذا سياق ابن أبي حاتم ورواه المبارك عن رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن نعيم عن دخين عن عقبة به مرفوعا
وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله : لما قال أهل النار { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } قال لهم إبليس { إن الله وعدكم وعد الحق } الاية فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودوا { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } وقال عامر الشعبي : يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس يقول الله تعالى لعيسى ابن مريم : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ } إلى قوله { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } قال : ويقوم إبليس لعنه الله فيقول { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } الاية ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال وأن خطيبهم إبليس عطف بمآل السعداء فقال { وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا { خالدين فيها } ماكثين أبدا لا يحولون ولا يزولون { بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام } كما قال تعالى : { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم } وقال تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم } وقال تعالى : { ويلقون فيها تحية وسلاما } وقال تعالى : { دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } (2/697)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { مثلا كلمة طيبة } شهادة أن لا إله إلا الله { كشجرة طيبة } وهو المؤمن { أصلها ثابت } يقول : لا إله إلا الله في قلب المؤمن { وفرعها في السماء } يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء وهكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد : إن ذلك عبارة عن عمل المؤمن وقوله الطيب وعمله الصالح وإن المؤمن كشجرة من النخل لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت وصباح ومساء وهكذا رواه السدي عن مرة عن ابن مسعود قال : هي النخلة وشعبة عن معاوية بن قرة عن أنس : هي النخلة وحماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتي بقناع بسر فقرأ { مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } قال : هي النخلة وروي من هذا الوجه ومن غيره عن أنس موقوفا وكذا نص عليه مسروق ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وغيرهم
وقال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أخبروني عن شجرة تشبه ـ أو ـ كالرجل المسلم لا يتحات ورقها صيفا ولا شتاء وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ] قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هي النخلة ] فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة قال : ما منعك أن تتكلم ؟ قلت : لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا قال عمر : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا
وقال أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا حديثا واحدا قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتي بجمار فقال : [ من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم ] فأردت أن أقول هي النخلة فنظرت فإذا أنا أصغر القوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هي النخلة ] أخرجاه وقال مالك وعبد العزيز عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما لأصحابه : [ إن من الشجر شجرة لا يطرح ورقها مثل المؤمن ] قال : فوقع في شجر الوادي ووقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هي النخلة ] أخرجاه أيضا
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان يعني ابن زيد العطار حدثنا قتادة أن رجلا قال : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور فقال : [ أرأيت لو عمد إلى متاع الدنيا فركب بعضه على بعض أكان يبلغ السماء أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء ؟ ] قال : ما هو يا رسول الله ؟ قال : [ تقول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله عشر مرات في دبر كل صلاة فذاك أصله في الأرض وفرعه في السماء ] وعن ابن عباس { كشجرة طيبة } قال : هي شجرة في الجنة وقوله : { تؤتي أكلها كل حين } قيل : غدوة وعشيا وقيل : كل شهر وقيل : كل شهرين وقيل : كل ستة أشهر وقيل : كل سبعة أشهر وقيل : كل سنة والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين { بإذن ربها } أي كاملا حسنا كثيرا طيبا مباركا { ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون }
وقوله تعالى : { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } هذا مثل كفر الكافر لا أصل له ولا ثبات مشبه بشجرة الحنظل ويقال لها الشريان رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك : أنها شجرة الحنظل وقال أبو بكر البزار الحافظ : حدثنا يحيى بن محمد السكن حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس أحسبه رفعه قال { مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } قال : هي النخلة { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } قال : هي الشريان ثم رواه عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن معاوية عن أنس موقوفا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد هو ابن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } هي الحنظلة ] فأخبرت بذلك أبا العالية فقال : هكذا كنا نسمع ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به
ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط من هذا فقال : حدثنا غسان عن حماد عن شعيب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتي بقناع عليه بسر فقال : { مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } فقال [ هي النخلة ] { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } قال : [ هي الحنظل ] قال شعيب : فأخبرت بذلك أبا العالية فقال : كذلك كنا نسمع وقوله : { اجتثت } أي استؤصلت { من فوق الأرض ما لها من قرار } أي لا أصل لها ولا ثبات كذلك الكفر لا أصل له ولافرع ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شيء (2/698)
قال البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أخبرني علقمة بن مرثد قال : سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ] ورواه مسلم أيضا وبقية الجماعة كلهم من حديث شعبة به
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال : [ استعيذوا بالله من عذاب القبر ] مرتين أو ثلاثا ثم قال : [ إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال : فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام فيقولان له : ما هذا الرجل الذين بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة ـ قال : فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له : من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير ؟ فيقول : أنا عملك الصالح فيقول : رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ـ قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الاخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح فجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ـ قال : فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } فيقول الله : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ـ ثم قرأ { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء : أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول : ومن أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث فيقول : رب لا تقم الساعة ] ورواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرو به
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن يونس بن حبيب عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنازة فذكر نحوه وفيه [ فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز و جل أن يعرج بروحه من قبلهم ] وفي آخره [ ثم يقيض له أعمى أصم أبكم وفي يده مرزبة لو ضرب بها جبل لكان ترابا فيضربه ضربة فيصير ترابا ثم يعيده الله عز و جل كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين ] قال البراء : ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار وقال سفيان الثوري عن أبيه عن خيثمة عن البراء في قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } قال عذاب القبر
وقال المسعودي عن عبد الله بن مخارق عن أبيه عن عبد الله قال : إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له : ما ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ فيثبته الله فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه و سلم وقرأ عبد الله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } وقال الإمام عبد بن حميد رحمه الله في مسنده حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال : فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله قال : فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ] قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ فيراهما جميعا ] قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم القيامة رواه مسلم عن عبد بن حميد وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب به
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني القبر فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه جاءه ملك شديد الانتهار فيقول له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فأما المؤمن فيقول : إنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وعبده فيقول له الملك : انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة فيراهما كليهما فيقول المؤمن : دعوني أبشر أهلي فيقال له : اسكن وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري أقول كما يقول الناس فيقال له : لا دريت هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة قد أبدلت مكانه مقعدك من النار ] قال جابر : فسمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ يبعث كل عبد في القبر على ما مات المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه ] إسناده صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم جنازة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمنا قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له : صدقت ثم يفتح له بابا إلى النار فيقول : كان هذا منزلك لو كفرت بربك فأما إذ آمنت فهذا منزلك فيفتح له بابا إلى الجنة فيريد أن ينهض إليه فيقول له : اسكن ويفسح له في قبره وإن كان كافرا أو منافقا فيقول له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فيقول : لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له بابا إلى الجنة فيقول له : هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت به فإن الله عز و جل أبدلك به هذا فيفتح له بابا إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز و جل كلهم غير الثقلين فقال بعض القوم : يا رسول الله ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } وهذا أيضا إسناد لا بأس به فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقرونا ولكن ضعفه بعضهم
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ] إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان قال فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان فيقولون : مرحبا بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان قال : فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز و جل وإذا كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء فيرسل من السماء ثم يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول ورواه النسائي وابن ماجه من طريق ابن أبي ذئب بنحوه
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها قال حماد : فذكر من طيب ريحها وذكر المسك ـ قال : ويقول أهل السماء : روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه فينطلق به إلى ربه عز و جل فيقال : انطلقوا به إلى آخر الأجل وإن الكافر إذا خرجت روحه ـ قال حماد ـ وذكر من نتنها وذكر مقتا ويقول أهل السماء : روح خبيثة جاءت من قبل الأرض فيقال : انطلقوا به إلى آخر الأجل ـ قال أبو هريرة : فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا
وقال ابن حبان في صحيحه : حدثنا عمر بن محمد الهمداني حدثنا زيد بن أخرم حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن قسام بن زهير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : اخرجي إلى روح الله فتخرج كأطيب ريح مسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون : ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب بغائبهم فيقولون : ما فعل فلان ؟ فيقولون : دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم فيقول : قد مات أما أتاكم ؟ فيقولون : ذهب به إلى أمه الهاوية وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي إلى غضب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة فيذهب به إلى باب الأرض ]
وقد روي أيضا من طريق همام بن يحيي عن أبي الجوزاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه قال [ فيسأل : ما فعل فلان ما فعل فلان ما فعلت فلانة ؟ قال : وأما الكافر فإذا قبضت نفسه وذهب بها إلى باب الأرض تقول خزنة الأرض : ما وجدنا ريحا أنتن من هذه فيبلغ بها الأرض السفلى ] قال قتادة وحدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وأرواح الكفار تجتمع ببرهوت سبخة بحضرموت ثم يضيق عليه قبره وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله : حدثنا يحيى بن خلف حدثنا بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا قبر الميت ـ أو قال : أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر والاخر نكير فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين وينور له فيه ثم يقال له : نم فيقول : أرجع الى أهلي فأخبرهم فيقولان : نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون : فقلت مثلهم لا أدري فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا فيقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ] ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب
وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ـ قال ـ : ذلك إذا قيل له في القبر من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت فيقال له : صدقت على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث ] وقال ابن جرير : حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن محمد قالا : حدثنا يزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ والذي نفسي بيده إن الميت ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه مدبرين فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصوم عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة : ما قبلي مدخل فيؤتى عن يساره فيقول الصيام : ما قبلي مدخل فيؤتى عند رجليه فيقول : فعل الخيرات ما قبلي مدخل فيقال له : اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب فيقال له : أخبرنا عما نسألك فيقول : دعني حتى أصلي فيقال له : إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك فيقول : وعم تسألوني ؟ فيقال : أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول به وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول : أمحمد ؟ فيقال له : نعم فيقول : أشهد أنه رسول الله وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ويفتح له باب إلى الجنة فيقال له : انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم تجعل نسمته في النسم الطيب وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة ويعاد الجسد إلى ما بدىء من التراب ] وذلك قول الله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } رواه ابن حبان من طريق المعتمر بن سليمان عن محمد بن عمر وذكر جواب الكافر وعذابه
وقال البزار : حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي حدثنا الوليد بن القاسم حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة أحسبه رفعه قال : [ إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين فيود لو خرجت يعني نفسه والله يحب لقاءه وإن المؤمن يصعد بروحه الى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض فإذا قال : تركت فلانا في الأرض أعجبهم ذلك وإذا قال : إن فلانا قد مات قالوا : ما جيء به إلينا وإن المؤمن يجلس في قبره فيسأل من ربك ؟ فيقول : ربي الله ويسأل : من نبيك ؟ فيقول : محمد نبيي فيقال : ماذا دينك ؟ قال : ديني الإسلام فيفتح له باب في قبره فيقول ـ أو يقال ـ انظر إلى مجلسك ثم يرى القبر فكأنما كانت رقدة وإذا كان عدو الله نزل به الموت وعاين ما عاين فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبدا والله يبغض لقاءه فإذا جلس في قبره أو أجلس فيقال له : من ربك ؟ فيقول : لا أدري فيقال : لا دريت فيفتح له باب إلى جهنم ثم يضرب ضربة تسمعها كل دابة إلا الثقلين ثم يقال له : نم كما ينام المنهوش ] قلت لأبي هريرة : ما المنهوش ؟ قال : الذي تنهشه الدواب والحيات ثم يضيق عليه قبره ثم قال : لا نعلم من رواه إلا الوليد بن القاسم
وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن محمد بن المنكدر قال : كانت أسماء يعني بنت الصديق رضي الله عنها تحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم قالت : قال : [ إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا أحف به عمله الصلاة والصيام قال : فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ومن نحو الصيام فيرده قال : فيناديه اجلس فيجلس فيقول له : ماذا تقول في هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : من ؟ قال : محمد قال : أشهد أنه رسول الله قال : وما يدريك أدركته ؟ قال : اشهد أنه رسول الله قال : يقول على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث وإن كان فاجرا أو كافرا جاءه الملك ليس بينه وبينه شيء يرده فأجلسه فيقول له : ماذا تقول في هذا الرجل ؟ قال : أي رجل ؟ قال : محمد ؟ قال : يقول : والله ما أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته قال له الملك : على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث قال ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل غرب البعير تضربه ما شاء الله صماء لا تسمع صوته فترحمه ]
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاية قال : إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته ثم صلوا عليه مع الناس فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله فيقال له : من رسولك ؟ فيقول : محمد صلى الله عليه و سلم فيقال له : ما شهادتك ؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيوسع له في قبره مد بصره وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم والبسط هو الضرب { يضربون وجوههم وأدبارهم } عند الموت فإذا أدخل قبره أقعد فقيل له : من ربك ؟ فلم يرجع إليهم شيئا وأنساه الله ذكر ذلك وإذا قيل : من الرسول الذي بعث إليك ؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا { كذلك يضل الله الكافرين }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد البجلي عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } الاية قال : إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له : من ربك ؟ فيقول : الله فيقال له : من نبيك ؟ فيقول : محمد بن عبد الله فيقال له ذلك مرات ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له : انظر إلى منزلك من النار لو زغت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له : انظر إلى منزلك من الجنة إذا ثبت وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له : من ربك ؟ من نبيك ؟ فيقول : لا أدري كنت أسمع الناس يقولون فيقال له : لا دريت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له : انظر إلى منزلك إذا ثبت ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له : انظر إلى منزلك إذ زغت فذلك قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }
وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا } قال : لا إله إلا الله { وفي الآخرة } المسألة في القبر وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح { وفي الآخرة } في القبر وكذا روي عن غير واحد من السلف وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي فديك عن عبدالرحمن بن عبد الله عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال : [ إني رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيامه فسقاه وأرواه ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة وهو متحير فيها فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت : يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت له سترا على وجهه وظلا على رأسه ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز و جل ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا فجاءته صلاته علي فأخذت بيده فأقامته ومضى على الصراط ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى باب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة ] قال القرطبي بعد إيراده هذا الحديث من هذا الوجه : هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة أورده هكذا في كتابة التذكرة
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في هذا حديثا غريبا مطولا فقال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم النكري حدثنا محمد بن بكر البرساني أبو عثمان حدثنا أبو عاصم الحبطي وكان من أخيار أهل البصرة وكان من أصحاب حزم وسلام بن أبي مطيع حدثنا بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله عز و جل لملك الموت : انطلق إلى وليي فأتني به فإني قد ضربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ائتني به فلأريحنه فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة ومعهم ضبائر الريحان أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر فيجلس ملك الموت عند رأسه وتحف به الملائكة ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويبسط ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر تحت ذقنه ويفتح له باب إلى الجنة فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة تارة بأزواجها وتارة بكسوتها ومرة بثمارها كما يعلل الصبي أهله إذا بكى قال : إن أزواجه ليبتهشن عند ذلك ابتهاشا قال : وتبرز الروح قال البرساني : يريد أن تخرج من العجل إلى ما تحب قال : ويقول ملك الموت اخرجي يا أيتها الروح الطيبة إلى سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب قال : ولملك الموت أشد به لطفا من الوالدة بولدها يعرف أن تلك الروح حبيب لربه فهو يتلمس بلطفه تحببا لديه رضاء للرب عنه فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين قال : وقال الله عز و جل : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } وقال : { فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم } قال : روح من جهة الموت وريحان يتلقى به وجنة نعيم تقابله قال : فإذا قبض ملك الموت روحه قالت الروح للجسد : جزاك الله عني خيرا فقد كنت سريعا بي إلى طاعة الله بطيئا بي عن معصية الله فقد نجيت وأنجيت قال : ويقول الجسد للروح مثل ذلك قال : وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها وكل باب من السماء يصعد منه عمله وينزل منه رزقه أربعين ليلة قال : فإذا قبض ملك الموت روحه أقامت الخمسمائة من الملائكة عند جسده فلا يقلبه بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم وغسلته وكفنته بأكفان قبل أكفان بني آدم وحنوط قبل حنوط بني آدم ويقوم من باب بيته إلى قبره صفان من الملائكة يستقبلونه بالاستغفار فيصيح عند ذلك إبليس صيحة تتصدع منها عظام جسده قال : ويقول لجنوده : الويل لكم كيف خلص هذا العبد منكم ؟ فيقولون : إن هذا كان عبدا معصوما قال : فإذا صعد ملك الموت بروحه يستقبله جبريل في سبعين ألفا من الملائكة كل يأتيه ببشارة من ربه سوى بشارة صاحبه قال : فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش خر الروح ساجدا قال : يقول الله عز و جل لملك الموت : انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب قال : فإذا وضع في قبره جاءته الصلاة فكانت عن يمينه وجاءه الصيام فكان عن يساره وجاءه القرآن فكان عند رأسه وجاءه مشيه الى الصلاة فكان عند رجليه وجاءه الصبر فكان ناحية القبر قال : فيبعث الله عز و جل عنقا من العذاب قالوا : فيأتيه عن يمينه قال : فتقول الصلاة وراءك : والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الان حين وضع في قبره قال : فيأتيه عن يساره فيقول الصيام مثل ذلك قال : ثم يأتيه من عند رأسه فيقول القرآن والذكر مثل ذلك قال : ثم يأتيه من عند رجليه فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد إليه مساغا إلا وجد ولي الله قد أخذ جنته قال : فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج قال : ويقول الصبر لسائر الأعمال أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم فإن عجزتم كنت أنا صاحبه فأما إذا أجزأتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان قال : ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب يطآن في أشعارهما بين منكب كل واحد مسيرة كذا وكذا وقد نزعت منهما الرأفة والرحمة يقال لهما منكر ونكير في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها قال : فيقولان له : اجلس قال : فيجلس فيستوي جالسا قال : وتقع أكفانه في حقويه قال : فيقولان له : من ربك ومادينك ومن نبيك ؟ قال قالوا : يا رسول الله ومن يطيق الكلام عند ذلك وأنت تصف من الملكين ما تصف ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } قال فيقول : ربي الله وحده لا شريك له وديني الإسلام الذي دانت به الملائكة ونبيي محمد خاتم النبيين قال : فيقولان له : صدقت قال : فيدفعان القبر فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعا وعن يمينه أربعين ذراعا وعن شماله أربعين ذراعا ومن عند رأسه أربعين ذراعا ومن عند رجليه أربعين ذراعا قال : فيوسعان له مائتي ذراع قال البرساني : فأحسبه وأربعين ذراعا تحاط به قال : ثم يقولان له : انظر فوقك فإذا باب مفتوح إلى الجنة قال فيقولان له : ولي الله هذا منزلك إذ أطعت الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفس محمد بيده إنه يصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا ] ثم يقال له : انظر تحتك قال : فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار ـ قال ـ فيقولان : ولي الله نجوت آخر ما عليك ـ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا [ قال : قالت عائشة : يفتح له سبعة وسبعون بابا إلى الجنة يأتيه ريحها وبردها حتى يبعثه الله عز و جل
وبالإسناد المتقدم إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : ] ويقول الله تعالى لملك الموت : انطلق إلى عدوي فأتني به فإني قد بسطت له رزقي ويسرت له نعمتي فأبى إلا معصيتي فأتني به لأنتقم منه قال : فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة رآها أحد من الناس قط له ثنتا عشر عينا ومعه سفود من النار كثير الشوك ومعه خمسمائة من الملائكة معهم نحاس وجمر من جمر جهنم ومعهم سياط من نار لينهالين السياط وهي نار تأجج قال : فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيب كل أصل شوكة من ذلك السفود في أصل كل شعرة وعرق وظفر قال : ثم يلويه ليا شديدا قال : فينزع روحه من أظفار قدميه قال : فيلقيها في عقبيه قال : فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه قال : وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط قال : فيشده ملك الموت شدة فينزع روحه من عقبيه فيلقيها في ركبتيه ثم يسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه قال : فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط قال : فيشده ملك الموت شدة فينزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه قال : فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط قال كذلك : إلى صدره ثم كذلك إلى حلقه قال : ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه قال : ويقول ملك الموت : اخرجي أيتها الروح اللعينة إلى سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ـ قال : فإذا قبض ملك الموت روحه قال الروح للجسد : جزاك الله عني شرا فقد كنت سريعا بي إلى معصية الله بطيئا بي عن طاعة الله فقد هلكت وأهلكت ـ قال ـ ويقول الجسد للروح مثل ذلك وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها وتنطلق جنود إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبدا من ولد آدم النار قال : فإذا وضع في قبره ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه حتى تدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى قال : ويبعث الله إليه أفاعي دهما كأعناق الإبل يأخذن بأرنبته وإبهامي قدميه فيقرضنه حتى يلتقين في وسطه قال : ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب يطآن في أشعارهما بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا قد نزعت منهما الرأفة والرحمة يقال لهما منكر ونكير في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها قال فيقولان له اجلس فيستوي جالسا وتقع أكفانه في حقويه قال فيقولان له : من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول : لا أدري فيقولان له : لا دريت ولا تليت فيضربانه ضربة يتطاير شررها في قبره ثم يعودان قال : فيقولان : انظر فوقك فينظر فإذا باب مفتوح من الجنة فيقولان : عدو الله هذا منزلك لو أطعت الله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدا ] ـ قال ـ ويقولان له : انظر تحتك فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار ـ فيقولان له : عدو الله هذا منزلك إذ عصيت الله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدا ] قال : وقالت عائشة : ويفتح له سبعة وسبعون بابا إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه الله إليها هذا حديث غريب جدا وسياق عجيب ويزيد الرقاشي راويه عن أنس له غرائب ومنكرات وهو ضعيف الرواية عند الأئمة والله أعلم ولهذا قال أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا هشام هو ابن يوسف عن عبد الله بن بحير عن هانى مولى عثمان عن عثمان رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال [ استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الان يسأل ] تفرد به أبو داود وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه عند قوله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم } الاية حديثا مطولا جدا من طرق غريبة عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا وفيه غرائب أيضا (2/700)
قال البخاري : قوله { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } ألم تعلم كقوله : { ألم تر كيف } { ألم تر إلى الذين خرجوا } البوار الهلاك بار يبور بورا { قوما بورا } هالكين حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء سمع ابن عباس { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } قال : هم كفار أهل مكة وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية هو جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول : وإن كان المعنى يعم جميع الكفار فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين ونعمة للناس فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ومن ردها وكفرها دخل النار وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا عن { الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار } قال : هم كفار قريش يوم بدر حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا بسام هو الصيرفي عن أبي الطفيل قال : جاء رجل إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال : منافقو قريش وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن نفيل قال : قرأت على معقل عن ابن أبي حسين قال : قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : ألا أحد يسألني عن القرآن فوالله لو أعلم اليوم أحدا أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته فقام عبد الله بن الكواء فقال : من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال : مشركو قريش أتتهم نعمة الله الإيمان فبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار
وقال السدي في قوله : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } الاية ذكر مسلم المستوفى عن علي أنه قال : هم الأفجران من قريش : بنو أمية وبنو المغيرة فأما بنو المغيرة فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد وكان أبو جهل يوم بدر وأبو سفيان يوم أحد وأما دار البوار فهي جهنم
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله : حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحارث أبو منصور عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن مرة قالا : سمعت عليا قرأ هذه الاية { وأحلوا قومهم دار البوار } قال : هم الأفجران من قريش : بنو أمية وبنو المغيرة فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ورواه أبو إسحاق عن عمرو بن مرة عن علي نحوه وروي من غير وجه عنه وقال سفيان الثوري عن علي بن زيد عن يوسف بن سعد عن عمر بن الخطاب في قوله : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال : قال ابن عباس لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين هذه الاية { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار } ؟ قال : هم الأفجران من قريش : أخوالي وأعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر وكذا رواه مالك في تفسيره عن نافع عن ابن عمر
وقوله : { وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله } أي جعلوا له شركاء عبدوهم معه ودعوا الناس إلى ذلك ثم قال تعالى مهددا لهم ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم : { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا فمهما يكن من شيء { فإن مصيركم إلى النار } أي مرجعكم وموئلكم إلينا كما قال تعالى : { نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } وقال تعالى : { متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } (2/709)
يقول تعالى آمرا عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه بأن يقيموا الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر أي في الخفية والعلانية وهي الجهر وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم { من قبل أن يأتي يوم } وهو يوم القيامة { لا بيع فيه ولا خلال } أي ولا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه كما قال تعالى : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } وقوله : { ولا خلال } قال ابن جرير : يقول ليس هناك مخالة خليل فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالفته بل هناك العدل والقسط والخلال مصدر من قول القائل : خاللت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلالا ومنه قول امرىء القيس :
رفت الهوى عنهن من خشية الردى ولست بمقل للخلال ولا قالي
وقال قتادة : إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا فينظر رجل من يخالل وعلام يصاحب فإن كان لله فليداوم وإن كان لغير الله فسيقطع عنه قلت : والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحدا بيع ولا فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا لو وجده ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافرا قال الله تعالى : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون } (2/711)
يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السموات سقفا محفوظا والأرض فرشا { وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى } ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك وما هناك إلى هنا وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر رزقا للعباد من شرب وسقي وغير ذلك من أنواع المنافع { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين } أي يسيران لا يفتران ليلا ولا نهارا { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } فالشمس والقمر يتعاقبان والليل والنهار يتعارضان فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول ثم يأخذ الاخر من هذا فيقصر { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم }
وقوله { وآتاكم من كل ما سألتموه } يقول هيأ لكم ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقال بعض السلف : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه وقرأ بعضهم { وآتاكم من كل ما سألتموه } وقوله { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها كما قال طلق بن حبيب رحمه الله : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ]
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه فيقول الله تعالى لأصغر نعمه ـ أحسبه قال في ديوان النعم ـ خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح كله ثم تنحى وتقول : وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم فإذا أراد الله أن يرحمه قال : يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت لك عن سيئاتك ـ أحسبه قال : ووهبت لك نعمي ] غريب وسنده ضعيف وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي ؟ فقال الله تعالى : الان شكرتني يا داود أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم وقال الإمام الشافعي رحمه الله : الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها وقال القائل في ذلك :
لو كل جارحة مني لها لغة تثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به إليك أبلغ في الإحسان والمنن (2/711)
يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممن عبد غير الله وأنه دعا لمكة بالأمن فقال : { رب اجعل هذا البلد آمنا } وقد استجاب الله له فقال تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } الاية وقال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } وقال في هذه القصة { رب اجعل هذا البلد آمنا } فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها ولهذا قال : { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضا فقال : { رب اجعل هذا البلد آمنا } كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولا
وقوله : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم كقول عيسى عليه السلام { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك وقال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جرير عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا قول إبراهيم عليه السلام { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } الاية وقول عيسى عليه السلام { إن تعذبهم فإنهم عبادك } الاية ثم رفع يديه ثم قال : [ اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي ] وبكى فقال الله : اذهب يا جبريل إلى محمد وربك أعلم وسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قال فقال الله : اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك (2/712)
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها وذلك قبل بناء البيت وهذا كان بعد بنائه تأكيدا ورغبة إلى الله عز و جل ولهذا قال : { عند بيتك المحرم } وقوله : { ربنا ليقيموا الصلاة } قال ابن جرير : هو متعلق بقوله { المحرم } أي إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره : لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم ولكن قال : { من الناس } فاختص به المسلمون وقوله : { وارزقهم من الثمرات } أي ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل له ثمارا يأكلونها وقد استجاب الله ذلك كما قال : { أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا } وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام (2/713)
قال ابن جرير : يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم خليله أنه قال : { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } أي أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء ثم حمد ربه عز و جل على ما رزقه من الولد بعد الكبر فقال : { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء } أي إنه يستجيب لمن دعاه وقد استجاب لي فيما سألته من الولد ثم قال : { رب اجعلني مقيم الصلاة } أي محافظا عليها مقيما لحدودها { ومن ذريتي } أي واجعلهم كذلك مقيمين لها { ربنا وتقبل دعاء } أي فيما سألتك فيه كله { ربنا اغفر لي ولوالدي } وقرأ بعضهم : ولوالدي بالإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عز و جل { وللمؤمنين } أي كلهم { يوم يقوم الحساب } أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر (2/713)
يقول تعالى : ولا تحسبن الله يا محمد غافلا عما يعمل الظالمون أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم بل هو يحصي ذلك ويعده عليهم عدا { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } أي من شدة الأهوال يوم القيامة ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر فقال : { مهطعين } أي مسرعين كما قال تعالى : { مهطعين إلى الداع } الاية وقال تعالى : { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما * وعنت الوجوه للحي القيوم } وقال تعالى : { يوم يخرجون من الأجداث سراعا } الاية وقوله { مقنعي رؤوسهم } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : رافعي رؤوسهم { لا يرتد إليهم طرفهم } أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم عياذا بالله العظيم من ذلك ولهذا قال : { وأفئدتهم هواء } أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف ولهذا قال قتادة وجماعة : إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف وقال بعضهم : هي خراب لا تعي شيئا لشدة ما أخبر به تعالى عنهم ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم : (2/714)
يقول تعالى مخبرا عن الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب : { ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل } كقوله { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون } الاية وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم } الايتين وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } الاية وقال : { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا } الاية وقال تعالى : { وهم يصطرخون فيها } الاية قال تعالى ردا عليهم في قولهم هذا { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك قال مجاهد وغيره { ما لكم من زوال } أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الاخرة كقوله { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } الاية { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال } أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر { حكمة بالغة فما تغن النذر } وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن أن عليا رضي الله عنه قال في هذه الاية { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } قال : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما حتى استغلظا واستفحلا وشبا قال : فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت وجوعهما وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال : ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم فطارا وجعل يقول لصاحبه : انظر ما ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا حتى قال أرى الدنيا كلها كأنها ذباب قال : فصوب العصا فصوبها فهبطا جميعا قال : فهو قوله عز و جل : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال }
قال أبو إسحاق : وكذلك هي في قراءة عبد الله { وإن كان مكرهم } قلت : وكذا روي عن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قرآ { وإن كاد } كما قرأ علي وكذا رواه سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي فذكر نحوه وكذا روي عن عكرمة أن سياق هذه القصة للنمروذ ملك كنعان أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر كما رام فرعون ملك القبط في بناء الصرح فعجزا وضعفا وهما أقل وأحقر وأصغر وأدحر وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها نودي أيها الطاغية أين تريد ؟ ففرق ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح فصوبت النسور ففزعت الجبال من هدتها وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك فذلك قوله : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال }
ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها { لتزول منه الجبال } بفتح اللام الأولى وضم الثانية وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال وكذا قال الحسن البصري ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ما ضر شيئا من الجبال ولا غيرها وإنما عاد وبال ذلك عليهم قلت : ويشبه هذا قول الله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا } والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } يقول : شركهم كقوله : { تكاد السموات يتفطرن منه } الاية وهكذا قال الضحاك وقتادة (2/714)
يقول تعالى مقررا لوعده ومؤكدا : { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يغالب وذو انتقام ممن كفر به وجحده { ويل يومئذ للمكذبين } ولهذا قال : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة كما جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت : أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الاية { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } قالت : قلت أين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال : [ على الصراط ] رواه مسلم منفردا به دون البخاري والترمذي وابن ماجه من حديث داود بن أبي هند به وقال الترمذي : حسن صحيح ورواه أحمد أيضا عن عفان عن وهيب عن داود عن الشعبي عنها ولم يذكر مسروقا وقال قتادة عن حسان بن بلال المزني عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } قالت : قلت يا رسول الله فأين الناس يومئذ ؟ قال : [ لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي ذاك أن الناس على جسر جهنم ]
وروى الإمام أحمد من حديث حبيب بن أبي عمرة عن مجاهد عن ابن عباس حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } فأين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال : [ هم على متن جهنم ] وقال ابن جرير : حدثنا الحسن حدثنا علي بن الجعد أخبرنا القاسم سمعت الحسن قال : قالت عائشة : يا رسول الله { يوم تبدل الأرض غير الأرض } فأين الناس يومئذ ؟ قال : [ إن هذا شيء ما سألني عنه أحد ـ قال ـ على الصراط يا عائشة ] ورواه أحمد عن عفان عن القاسم بن الفضل عن الحسن به
وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني الحسن بن علي الحلواني حدثني أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثه قال : كنت نائما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال : السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال : لم تدفعني ؟ فقلت : ألا تقول يا رسول الله ؟ فقال اليهودي : إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي ] فقال اليهودي : جئت أسألك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أينفعك شيئا إن حدثتك ؟ ] قال : أسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعود معه فقال : [ سل ] فقال اليهودي : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هم في الظلمة دون الجسر ] قال : فمن أول الناس إجازة ؟ فقال : [ فقراء المهاجرين ] فقال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ قال : [ زيادة كبد النون ] قال : فما غذائهم في أثرها ؟ قال : [ ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ] قال : فما شرابهم عليه ؟ قال [ من عين فيها تسمى سلسبيلا ] قال : صدقت قال : وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال [ أينفعك إن حدثتك ؟ ] قال : أسمع بأذني قال : جئت أسألك عن الولد قال : [ ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله تعالى وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله ] قال اليهودي : لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به ]
قال أبو جعفر بن جرير الطبري : حدثنا ابن عوف حدثنا أبو المغيرة حدثنا ابن أبي مريم حدثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي عن أبي أيوب الأنصاري أن حبرا من اليهود سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أرأيت إذ يقول الله تعالى في كتابه : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } فأين الخلق عند ذلك ؟ فقال : [ أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه ] ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به وقال شعبة : أخبرنا أبو إسحاق سمعت عمرو بن ميمون وربما قال : قال عبد الله وربما لم يقل فقلت له عن عبد الله فقال : سمعت عمرو بن ميمون يقول : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } قال : أرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا قال : أراه قال قياما حتى يلجمهم العرق وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود بنحوه وكذا رواه عاصم عن زر عن ابن مسعود به وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون : لم يخبر به أورد ذلك كله ابن جرير
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب حدثنا جرير بن أيوب عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم في قول الله عز و جل : [ { يوم تبدل الأرض غير الأرض } قال : أرض بيضاء لم يسفك عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة ] ثم قال : لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب وليس بالقوي ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن هشام عن سنان عن جابر الجعفي عن أبي جبيرة عن زيد قال : أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليهود فقال : [ هل تدرون لم أرسلت إليهم ؟ ] قالوا : الله ورسوله أعلم قال : [ فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله { يوم تبدل الأرض غير الأرض } إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة ] فلما جاءوا سألهم فقالوا : تكون بيضاء مثل النقي وهكذا روي عن علي وابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد بن جبر أنها تبدل يوم القيامة بأرض بيضاء من فضة وعن علي رضي الله عنه أنه قال : تصير الأرض فضة والسموات ذهبا وقال الربيع عن أبي العالية بن كعب قال : تصير السموات جنانا وقال أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي أو عن محمد بن قيس في قوله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } قال : خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم وكذا روى وكيع عن عمر بن بشير الهمداني عن سعيد بن جبير في قوله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } قال : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه
وقال الأعمش عن خيثمة قال : قال عبد الله بن مسعود : الأرض يوم القيامة كلها نار والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها ويلجم الناس العرق أو يبلغ منهم العرق ولم يبلغوا الحساب وقال الأعمش أيضا عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن قال : قال عبد الله : الأرض كلها نار يوم القيامة والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليفيض عرقا حتى ترسخ في الأرض قدمه ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب قالوا : مم ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : مما يرى الناس ويلقون وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن كعب في قوله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } قال : تصير السموات جنانا ويصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها وفي الحديث الذي رواه أبو داود [ لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر فإن تحت البحر نارا ـ أو تحت النار بحرا ] وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة ] وقوله : { وبرزوا لله } أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله { الواحد القهار } أي الذي قهر كل شيء وغلبه ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب (2/716)
يقول تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } وتبرز الخلائق لديانها ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم { مقرنين } أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف كما قال تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } وقال : { وإذا النفوس زوجت } وقال : { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا } وقال : { والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد } والأصفاد هي القيود قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد وهو مشهور في اللغة قال عمرو بن كلثوم :
آبوا بالثياب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله : { سرابيلهم من قطران } أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران وهو الذي تهنأ به الإبل أي تطلى قال قتادة : وهو ألصق شيء بالنار ويقال فيه : قطران بفتح القاف وكسر الطاء وتسكينها وبكسر القاف وتسكين الطاء ومنه قول أبي النجم :
كأن قطرانا إذا تلاها ترمي به الريح إلى مجراها
وكان ابن عباس يقول : القطران هنا النحاس المذاب وربما قرأها { سرابيلهم من قطران } أي من نحاس حار قد انتهى حره وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وقوله : { وتغشى وجوههم النار } كقوله : { تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون } وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يحيى بن إسحاق أنبأنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أربع من أمر الجاهلية لا يتركن : الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ] انفرد بإخراجه مسلم وفي حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين الجنة والنار سرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار ]
وقوله : { ليجزي الله كل نفس ما كسبت } أي يوم القيامة كما قال : { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } الاية { إن الله سريع الحساب } يحتمل أن يكون كقوله تعالى : { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز لأنه يعلم كل شيء ولا يخفى عليه خافية وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم كقوله تعالى : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } وهذا معنى قول مجاهد { سريع الحساب } إحصاء ويحتمل ان يكون المعنيان مرادين والله أعلم (2/718)
يقول تعالى هذا القرآن بلاغ للناس كقوله : { لأنذركم به ومن بلغ } أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما قال في أول السورة : { الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } الاية { ولينذروا به } أي ليتعظوا به { وليعلموا أنما هو إله واحد } أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو { وليذكر أولو الألباب } أي ذوي العقول
آخر تفسير سورة إبراهيم عليه الصلاة و السلام والحمد لله رب العالمين (2/719)
سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم (2/719)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور وقوله تعالى { ربما يود الذين كفروا } الاية إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين ونقل السدي في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين وقيل : إن المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا وقيل : هذا إخبار عن يوم القيامة كقوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله في قوله : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } قال : هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا مسلم حدثنا القاسم حدثنا ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الاية { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } يتأولانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار قال : فيقول لهم المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا قال : فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم فذلك حين يقول : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين }
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن حماد عن إبراهيم وعن خصيف عن مجاهد قالا : يقول أهل النار للموحدين : ما أغنى عنكم إيمانكم ؟ فإذا قالوا ذلك قال الله : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان قال : فعند ذلك قوله : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } وهكذا روي عن الضحاك وقتادة وأبي العالية وغيرهم وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن العباس هو الأخرم حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذ وابن علية يحيى بن موسى حدثنا معروف بن واصل عن يعقوب بن نباتة عن عبد الرحمن الأغر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قولكم لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار ؟ فيغضب الله لهم فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين ] فقال رجل : يا أنس أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] نعم أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول هذا ثم قال الطبراني : تفرد به الجهبذ
( الحديث الثاني ) ـ قال الطبراني أيضا : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبو الشعثاء علي بن حسن الواسطي حدثنا خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين ؟ قالوا : بلى قالوا : فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار ؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فسمع الله ما قالوا فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا : ياليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا ـ قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ] ورواه ابن أبي حاتم من حديث خالد بن نافع به وزاد فيه : بسم الله الرحمن الرحيم عوض الاستعاذة
( الحديث الثالث ) قال الطبراني أيضا : حدثنا موسى بن هارون حدثنا إسحاق بن راهويه قال : قلت لأبي أسامة أحدثكم أبو روق واسمه عطية بن الحارث حدثني صالح بن أبي طريف قال : سألت أبا سعيد الخدري فقلت له : هل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في هذه الاية { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ؟ قال : نعم سمعته يقول : [ يخرج الله ناسا من المؤمنين من النار بعدما يأخذ نقمته منهم ] وقال : [ لما أدخلهم الله النار مع المشركين قال لهم المشركون : تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا فيما بلاكم معنا في النار فإذا سمع الله ذلك منهم أذن في الشفاعة لهم فتشفع لهم الملائكة والنبيون ويشفع المؤمنون حتى يخرجوا بإذن الله فإذا رأى المشركون ذلك قالوا : ياليتنا كنا مثلهم فتدركنا الشفاعة فنخرج معهم ـ قال ـ فذلك قول الله { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } فيسمون في الجنة الجهنميين من أجل سواد في وجوههم فيقولون : يا رب أذهب عنا هذا الاسم فيأمرهم فيغتسلون في نهر في الجنة فيذهب ذلك الاسم عنهم ] فأقر به أبو أسامة وقال نعم
( الحديث الرابع ) قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا العباس بن الوليد النرسي حدثنا مسكين أبو فاطمة حدثني اليمان بن يزيد عن محمد بن جبر عن محمد بن علي عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم وأعمالهم ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد : آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى فيخرجهم إلى عين في الجنة وهو قوله : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ] وقوله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } تهديد شديد لهم ووعيد أكيد كقوله تعالى : { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } وقوله : { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون } ولهذا قال : { ويلههم الأمل } أي عن التوبة والإنابة { فسوف يعلمون } أي عاقبة أمرهم (2/719)
يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك (2/721)
يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } أي الذي تدعي ذلك { إنك لمجنون } أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا { لو ما } أي هلا { تأتينا بالملائكة } أي يشهدون لك بصحة ما جئت به إن كنت من الصادقين كما قال فرعون { فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا * يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا } وكذا قال في هذه الاية : { ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين } وقال مجاهد في قوله : { ما ننزل الملائكة إلا بالحق } بالرسالة والعذاب ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن وهو الحافظ له من التغيير والتبديل ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى : { له لحافظون } على النبي صلى الله عليه و سلم كقوله { والله يعصمك من الناس } والمعنى الأول أولى وهو ظاهر السياق (2/721)
يقول تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه و سلم في تكذيب من كذبه من كفار قريش : إنه أرسل من قبله في الأمم الماضية وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى قال أنس والحسن البصري { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } يعني الشرك وقوله { قد خلت سنة الأولين } أي قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والاخرة (2/722)
يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم بابا من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك بل قالوا : { إنما سكرت أبصارنا } قال مجاهد وابن كثير والضحاك : سدت أبصارنا وقال قتادة عن ابن عباس : أخذت أبصارنا وقال العوفي عن ابن عباس : شبه علينا وإنما سحرنا وقال الكلبي : عميت أبصارنا وقال ابن زيد : { سكرت أبصارنا } السكران الذي لا يعقل (2/722)
يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والايات الباهرات ما يحار نظره فيه وبهذا قال مجاهد وقتادة : البروج ههنا هي الكواكب ( قلت ) : وهذا كقوله تبارك وتعالى { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } الاية ومنهم من قال : البروج هي منازل الشمس والقمر وقال عطية العوفي : البروج ههنا هي قصور الحرس وجعل الشهب حرسا لها من مردة الشياطين لئلا يسمعوا إلى الملأ الأعلى فمن تمرد وتقدم منهم لاستراق السمع جاءه شهاب مبين فأتلفه فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه فيأخذها الاخر ويأتي بها إلى وليه كما جاء مصرحا به في الصحيح
كما قال البخاري في تفسير هذه الاية : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ] قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر ووصف سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الأرض وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على فم الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدق فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها وما جعل فيها من الجبال الرواسي والأودية والأراضي والرمال وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة
وقال ابن عباس { من كل شيء موزون } أي معلوم وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك ومجاهد والحكم بن عتيبة والحسن بن محمد وأبو صالح وقتادة ومنهم من يقول : مقدر بقدر وقال ابن زيد : من كل شيء يوزن ويقدر بقدر وقال ابن زيد : ما يزنه أهل الأسواق وقوله : { وجعلنا لكم فيها معايش } يذكر تعالى أنه صرفهم في الأرض في صنوف الأسباب والمعايش وهي جمع معيشة وقوله : { ومن لستم له برازقين } قال مجاهد : هي الدواب والأنعام وقال ابن جرير : هم العبيد والإماء والدواب والأنعام والقصد أنه تعالى يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها والأنعام التي يأكلونها والعبيد والإماء التي يستخدمونها ورزقهم على خالقهم لا عليهم فلهم هم المنفعة والرزق على الله تعالى (2/722)
يخبر تعالى أنه مالك كل شيء وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف { وما ننزله إلا بقدر معلوم } كما يشاء وكما يريد ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة قال يزيد بن أبي زياد عن أبي جحيفة عن عبد الله : ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يقسمه بينهم حيث شاء عاما ههنا وعاما ههنا ثم قرأ { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } الاية رواه ابن جرير وقال أيضا : حدثنا القاسم حدثنا هشيم أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عتيبة في قوله : { وما ننزله إلا بقدر معلوم } قال : ما عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون بما كان في البحر قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت
وقال البزار : حدثنا داود هو ابن بكير حدثنا حيان بن أغلب بن تميم حدثني أبي عن هشام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئا قال له كن فكان ] ثم قال : لا يرويه إلا أغلب وليس بالقوي وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين ولم يروه عنه إلا ابنه وقوله تعالى : { وأرسلنا الرياح لواقح } أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها وذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها ووصفها بالعقيم وهو عدم الإنتاج لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعدا
وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود في قوله : { وأرسلنا الرياح لواقح } قال : ترسل الريح فتحمل الماء من السماء ثم تمرى السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة وقال الضحاك : يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء وقال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ثم تلا { وأرسلنا الرياح لواقح }
وقد روى ابن جرير من حديث عبيس بن ميمون عن أبي المهزم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الريح الجنوب من الجنة وهي التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس ] وهذا إسناد ضعيف وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني يزيد بن جعدية الليثي أنه سمع عبد الرحمن بن مخراق يحدث عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين وإن من دونها بابا مغلقا وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء وهي عند الله الأذيب وهي فيكم الجنوب ]
وقوله : { فأسقيناكموه } أي أنزلناه لكم عذبا يمكنكم أن تشربوا منه لو نشاء جعلناه أجاجا كما نبه على ذلك في الاية الأخرى في سورة الواقعة وهو قوله تعالى : { أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ؟ * لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون } وفي قوله : { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون } وقوله : { وما أنتم له بخازنين } قال سفيان الثوري : بما نعين ويحتمل أن المراد وما أنتم له بحافظين بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معينا وينابيع في الأرض ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا وحفظه في العيون والابار والأنهار وغير ذلك ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم
وقوله : { وإنا لنحن نحيي ونميت } إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع وأخبر أنه تعالى يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم فقال : { ولقد علمنا المستقدمين منكم } الاية قال ابن عباس رضي الله عنهما : المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة وروي نحوه عن عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي وغيرهم وهو اختيار ابن جرير رحمه الله
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن رجل عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } وقد ورد فيه حديث غريب جدا فقال ابن جرير : حدثني محمد بن موسى الجرشي حدثنا نوح بن قيس حدثنا عمرو بن قيس حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه و سلم امرأة حسناء قال ابن عباس : لا والله ما رأيت مثلها قط وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا يعني لئلا يروها وبعض يستأخرون فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فأنزل الله { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما وابن ماجه من طرق عن نوح بن قيس الحداني وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما وحكي عن ابن معين تضعيفه وأخرجه مسلم وأهل السنن وهذا الحديث فيه نكارة شديدة وقد رواه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله : { ولقد علمنا المستقدمين منكم } في الصفوف في الصلاة { المستأخرين } فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر وقد قال الترمذي : هذا أشبه من رواية نوح بن قيس والله أعلم وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذكر محمد بن كعب في قوله : { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } وأنها في صفوف الصلاة فقال محمد بن كعب : ليس هكذا { ولقد علمنا المستقدمين منكم } الميت والمقتول { المستأخرين } من يخلق بعد { وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم } فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيرا (2/723)
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : المراد بالصلصال ههنا التراب اليابس والظاهر أنه كقوله تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار } وعن مجاهد أيضا { صلصال } المنتن وتفسير الاية بالاية أولى قوله : { من حمإ مسنون } أي الصلصال من حمأ وهو الطين والمسنون : الأملس كما قال الشاعر :
ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ راء تمشي في مرمر مسنون
أي أملس صقيل ولهذا روي عن ابن عباس أنه قال : هو التراب الرطب وعن ابن عباس ومجاهد أيضا والضحاك : أن الحمأ المسنون هو المنتن وقيل : المراد بالمسنون ههنا المصبوب وقوله : { والجان خلقناه من قبل } أي من قبل الإنسان { من نار السموم } قال ابن عباس : هي السموم التي تقتل وقال بعضهم : السموم بالليل والنهار ومنهم من يقول : السموم بالليل والحرور بالنهار وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : دخلت على عمر الأصم أعوده فقال : ألا أحدثك حديثا سمعته من عبد الله بن مسعود يقول هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان ثم قرأ { والجان خلقناه من قبل من نار السموم } وعن ابن عباس : أن الجان خلق من لهب النار وفي رواية : من أحسن النار وعن عمرو بن دينار : من نار الشمس وقد ورد في الصحيح [ خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ] والمقصود من الاية التنبيه على شرف آدم عليه السلام وطيب عنصره وطهارة محتده (2/725)
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة حسدا وكفرا وعنادا واستكبارا وافتخارا بالباطل ولهذا قال : { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون } كقوله { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } وقوله : { أرأيتك هذا الذي كرمت علي } الاية وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا من حديث شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : { إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } قالوا : لا نفعل فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق ملائكة أخرى فقال لهم مثل ذلك فقالوا : لا نفعل فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق ملائكة أخرى فقال : إني خالق بشرا من طين فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق ملائكة فقال : إني خالق بشرا من طين فإذا أنا خلقته فاسجدوا له قالوا : سمعنا وأطعنا إلا إبليس كان من الكافرين الأولين وفي ثبوت هذا عنه بعد والظاهر أنه إسرائيلي والله أعلم (2/726)
يذكر تعالى أنه أمر إبليس أمرا كونيا لا يخالف ولا يمانع بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى وأنه رجيم أي مرجوم وأنه قد أتبعه لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة وعن سعيد بن جبير أنه قال : لما لعن الله إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة ورن رنة فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها رواه ابن أبي حاتم وأنه لما تحقق الغضب الذي لا مرد له سأل من تمام حسده لادم وذريته النظرة إلى يوم القيامة وهو يوم البعث وأنه أجيب إلى ذلك استدراجا له وإمهالا فلما تحقق النظرة قبحه الله (2/726)
يقول تعالى مخبرا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب : { بما أغويتني } قال بعضهم : أقسم بإغواء الله له { قلت } ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني { لأزينن لهم } أي لذرية آدم عليه السلام { في الأرض } أي أحبب إليهم المعاصي وأرغبهم فيها وأؤزهم إليها وأزعجهم إليها إزعاجا { ولأغوينهم أجمعين } أي كما أغويتني وقدرت علي ذلك { إلا عبادك منهم المخلصين } كقوله : { أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا } { قال } الله تعالى له متهددا ومتوعدا { هذا صراط علي مستقيم } أي مرجعكم كلكم إلي فأجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر كقوله تعالى : { إن ربك لبالمرصاد } وقيل : طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى وإليه تنتهي قاله مجاهد والحسن وقتادة كقوله : { وعلى الله قصد السبيل } وقرأ قيس بن عبادة ومحمد بن سيرين وقتادة { هذا صراط علي مستقيم } كقوله : { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } أي رفيع والمشهور القراءة الأولى
وقوله { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } أي الذي قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم ولا وصول لك إليهم { إلا من اتبعك من الغاوين } استثناء منقطع وقد أورد ابن جرير ههنا من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن موهب حدثنا يزيد بن قسيط قال : كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد النبي أن يستنبىء ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له ثم سأله ما بدا له فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله ـ يعني إبليس ـ حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال : فردد ذلك ثلاث مرات فقال عدو الله : أخبرني بأي شيء تنجو مني ؟ فقال النبي : بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم مرتين ؟ فأخذ كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي : إن الله تعالى يقول : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } قال عدو الله : قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي : ويقول الله : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } وإني و الله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك قال عدو الله : صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي : أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم ؟ قال آخذه عند الغضب والهوى
قوله : { وإن جهنم لموعدهم أجمعين } أي جهنم موعد جميع من اتبع إبليس كما قال عن القرآن { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب { لكل باب منهم جزء مقسوم } أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه أجارنا الله منها وكل يدخل من باب بحسب عمله ويستقر في درك بقدر عمله قال إسماعيل بن علية وشعبة كلاهما عن أبي هارون الغنوي عن حطان بن عبد الله أنه قال : سمعت علي بن أبي طالب وهو يخطب قال : إن أبواب جهنم هكذا ـ قال أبو هارون ـ أطباقا بعضها فوق بعض وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن هبيرة بن أبي يريم عن علي رضي الله عنه قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيمتلىء الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تمتلىء كلها
وقال عكرمة : سبعة أبواب سبعة أطباق وقال ابن جريج : سبعة أبواب : أولها جنهم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية وروى الضحاك عن ابن عباس نحوه : وكذا روي عن الأعمش بنحوه أيضا وقال قتادة : { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } هي والله منازل بأعمالهم رواهن ابن جرير وقال جويبر عن الضحاك { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } قال : باب لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للذين أشركوا وهم كفار العرب وباب للمنافقين وباب لأهل التوحيد فأهل التوحيد يرجى لهم ولا يرجى لأولئك أبدا
وقال الترمذي : حدثنا عبد بن جنيد حدثنا عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن حميد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي ـ أو قال على أمة محمد ] ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عباس بن الوليد الخلال حدثنا زيد ـ يعني ابن يحيى ـ حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي نضرة عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { لكل باب منهم جزء مقسوم } قال [ إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه وإن منهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه منازلهم بأعمالهم فذلك قوله : { لكل باب منهم جزء مقسوم } ] (2/727)
لما ذكر تعالى حال أهل النار عطف على ذكر أهل الجنة وأنهم في جنات وعيون وقوله : { ادخلوها بسلام } أي سالمين من الافات مسلم عليكم { آمنين } أي من كل خوف وفزغ ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء وقوله : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } روى القاسم عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ثم قرأ { ونزعنا ما في صدورهم من غل } هكذا في هذه الرواية والقاسم بن عبد الرحمن في روايته عن أبي أمامة ضعيف وقد روى سنيد في تفسيره : حدثنا ابن فضالة عن لقمان عن أبي أمامة قال : لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري وهذا موافق لما في الصحيح من رواية قتادة : حدثنا أبو المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يخلص المؤمن من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ]
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام عن محمد هو ابن سيرين قال : استأذن الأشتر على علي رضي الله عنه وعنده ابن لطلحة فحبسه ثم أذن له فلما دخل قال : إني لأراك إنما حبستني لهذا قال : أجل قال : إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني قال : أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } وقال ابن جرير أيضا : حدثنا الحسن حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا أبو مالك الأشجعي عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال : دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعدما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين }
وقال : ورجلان جالسان إلى ناحية البساط فقالا : الله أعدل من ذلك تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا فقال علي رضي الله عنه : قوما أبعد أرض وأسحقها فمن هم إذا إن لم أكن أنا وطلحة ؟ وذكر أبو معاوية الحديث بطوله وروى وكيع عن أبان بن عبد الله البجلي عن نعيم بن أبي هند عن ربعي بن جراش عن علي نحوه وقال فيه فقام رجل من همدان فقال : الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين قال : فصاح به علي صيحة فظننت أن القصر تدهده لها ثم قال : إذا لم نكن نحن فمن هم ؟
وقال سعيد بن مسروق عن أبي طلحة وذكره وفيه : فقال الحارث الأعور ذلك فقام إليه علي رضي الله عنه فضربه بشيء كان في يده في رأسه وقال : فمن هم يا أعور إذا لم نكن نحن ؟ وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له فقال له : أما أهل البلاء فتجفوهم فقال علي : بفيك التراب إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } وكذا روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بنحوه وقال سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن أبي موسى سمع الحسن البصري يقول : قال علي : فينا والله أهل بدر نزلت هذه الاية { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } وقال كثير النواء : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت : وليي وليكم وسلمي سلمكم وعدوي عدوكم وحربي حربكم أنا أسألك بالله أتبرأ من أبي بكر وعمر فقال : { قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } تولهما يا كثير فما أدركك فهو في رقبتي هذه ثم تلا هذه الاية { إخوانا على سرر متقابلين } قال : أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح في قوله : { إخوانا على سرر متقابلين } قال : هم عشرة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقوله : { متقابلين } قال مجاهد : لا ينظر بعضهم في قفا بعض وفيه حديث مرفوع
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني حدثنا حسان بن حسان حدثنا إبراهيم بن بشير حدثنا يحيى بن معين عن إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فتلا هذه الاية { إخوانا على سرر متقابلين } في الله ينظر بعضهم إلى بعض وقوله : { لا يمسهم فيها نصب } يعني المشقة والأذى كما جاء في الصحيحين [ أن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ] وقوله : { وما هم منها بمخرجين } كما جاء في الحديث [ يقال يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدا وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا ] وقال الله تعالى : { خالدين فيها لا يبغون عنها حولا }
وقوله : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم } أي أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عذاب أليم وقد تقدم ذكر نظير هذه الاية الكريمة وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف وذكر في سبب نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال : مر رسول الله صلى الله عليه و سلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال [ اذكروا الجنة واذكروا النار ] فنزلت { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم } رواه ابن أبي حاتم وهو مرسل
وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا إسحاق أخبرنا ابن المكي أخبرنا ابن المبارك أخبرنا مصعب بن ثابت حدثنا عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رياح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : طلع علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال [ ألا أراكم تضحكون ] ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : [ إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن الله يقول لك لم تقنط عبادي { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم } ] وقال شعبة عن قتادة في قوله : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه ] (2/728)
يقول تعالى : وأخبرهم يا محمد عن قصة { ضيف إبراهيم } والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر وكيف { دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون } أي خائفون وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة وهو العجل السمين الحنيذ { قالوا لا توجل } أي لا تخف { وبشروه بغلام عليم } أي إسحاق عليه السلام كما تقدم في سورة هود ثم { قال } متعجبا من كبره وكبر زوجته ومتحققا للوعد { أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون } فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقا وبشارة بعد بشارة { قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين } وقرأ بعضهم القنطين فأجابهم بأنه ليس يقنط ولكن يرجو من الله الولد وإن كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك (2/730)
يقول تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى أنه شرع يسألهم عما جاءوا له فقالوا : { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } يعنون قوم لوط وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين ولهذا قالوا : { إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين } أي الباقين المهلكين (2/731)
يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فدخلوا عليه داره قال : { إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم وحلوله بساحتهم { وأتيناك بالحق } كقوله تعالى : { ما ننزل الملائكة إلا بالحق } وقوله : { وإنا لصادقون } تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه (2/731)
يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل وأن يكون لوط عليه السلام يمشي وراءهم ليكون أحفظ لهم وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يمشي في الغزو إنما يكون ساقة يزجي الضعيف ويحمل المنقطع وقوله : { ولا يلتفت منكم أحد } أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال { وامضوا حيث تؤمرون } كأنه كان معهم من يهديهم السبيل { وقضينا إليه ذلك الأمر } أي تقدمنا إليه في هذا { أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } أي وقت الصباح كقوله في الاية الأخرى : { إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } (2/731)
يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحة وجوههم وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين { قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون } وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم أنهم رسل الله كما قال في سورة هود وأما ههنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيما إذا دل دليل على خلافه فقالوا له مجيبين : { أولم ننهك عن العالمين } أي أو ما نهيناك أن تضيف أحدا ؟ فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة وقد تقدم إيضاح القول في ذلك بما أغنى عن إعادته هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء وماذا يصبحهم من العذاب المنتظر ولهذا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض قال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه و سلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال الله تعالى : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } يقول : وحياتك وعمرك وبقاؤك في الدنيا { إنهم لفي سكرتهم يعمهون } رواه ابن جرير وقال قتادة : { في سكرتهم } أي في ضلالهم { يعمهون } أي يلعبون وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { لعمرك } لعيشك { إنهم لفي سكرتهم يعمهون } قال يترددون (2/731)
يقول تعالى : { فأخذتهم الصيحة } وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها وإرسال حجارة السجيل عليهم وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية وقوله : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته كما قال مجاهد في قوله : { للمتوسمين } قال : المتفرسين وعن ابن عباس والضحاك : للناظرين وقال قتادة : للمعتبرين وقال مالك عن بعض أهل المدينة { للمتوسمين } للمتأملين وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمد بن كثير العبدي عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ] ثم قرأ النبي صلى الله عليه و سلم { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } رواه الترمذي : وابن جرير من حديث عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد وقال الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وقال ابن جرير أيضا : حدثني أحمد بن محمد الطوسي حدثنا الحسن بن محمد حدثنا الفرات بن السائب حدثنا ميمون بن مهران عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله ] وقال ابن جرير : حدثني أبو شرحبيل الحمصي حدثنا سليمان بن سلمة حدثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبي حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي حدثنا وهب بن منبه عن طاوس بن كيسان عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وبتوفيق الله ] وقال أيضا : حدثنا عبد الأعلى بن واصل حدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا عبد الواحد بن واصل حدثنا أبو بشر المزلق عن ثابت عن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم ] ورواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر حدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو بشر يقال له ابن المزلق قال : وكان ثقة عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم ] وقوله : { وإنها لبسبيل مقيم } أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي والقذف بالحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة بطريق مهيع مسالكه مستمرة إلى اليوم كقوله : { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون * وإن يونس لمن المرسلين } وقال مجاهد والضحاك { وإنها لبسبيل مقيم } قال : معلم وقال قتادة : بطريق واضح وقال قتادة أيضا : بصقع من الأرض واحد وقال السدي : بكتاب مبين يعني كقوله : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } ولكن ليس المعنى على ما قال ههنا والله أعلم وقوله : { إن في ذلك لآية للمؤمنين } اي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله (2/732)
أصحاب الأيكة هم قوم شعيب قال الضحاك وقتادة وغيرهما : الأيكة الشجر الملتف وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة وقد كانوا قريبا من قوم لوط بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان ولهذا قال تعالى : { وإنهما لبإمام مبين } أي طريق مبين قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيره : طريق ظاهر ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم { وما قوم لوط منكم ببعيد } (2/733)
أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم عليهم السلام ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين وذكر تعالى أنه أتاهم من الايات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم فلما عتوا وعقروها قال لهم { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } وقال تعالى : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } وذكر تعالى أنهم { كانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين } أي من غير خوف ولا احتياج إليها بل أشرا وبطرا وعبثا كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مر به رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه وأسرع دابته وقال لأصحابه : [ لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم ] وقوله : { فأخذتهم الصيحة مصبحين } أي وقت الصباح من اليوم الرابع { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه فما دفعت عنهم تلك الأموال ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك (2/733)
يقول تعالى : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية } أي بالعدل { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } الاية وقال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } وقال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } ثم أخبر نبيه بقيام الساعة وأنها كائنة لا محالة ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به كقوله : { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } وقال مجاهد وقتادة وغيرهما : كان هذا قبل القتال وهو كما قالا فإن هذه مكية والقتال إنما شرع بعد الهجرة
وقوله : { إن ربك هو الخلاق العليم } تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض كقوله : { أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون } (2/734)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه فلا تغبطهم بما هم فيه ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك ومخالفتهم دينك { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أي ألن لهم جانبك كقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } وقد اختلف في السبع المثاني ما هي ؟ فقال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم : هي السبع الطوال يعنون البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس نص عليه ابن عباس وسعيد بن جبير وقال سعيد : بين فيهن الفرائض والحدود والقصص والأحكام وقال ابن عباس : بين الأمثال والخبر والعبر
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان : المثاني : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة سورة واحدة قال ابن عباس : ولم يعطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه و سلم وأعطي موسى منهن ثنتين رواه هشيم عن الحجاج عن الوليد بن العيذار عن سعيد بن جبير عنه وقال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أوتي النبي صلى الله عليه و سلم سبعا من المثاني الطوال وأوتي موسى عليه السلام ستا فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان وبقيت أربع وقال مجاهد : هي السبع الطوال ويقال : هي القرآن العظيم وقال خصيف عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى : { سبعا من المثاني } قال : أعطيتك سبعة أجزاء آمر وأنه وأبشر وأنذر وأضرب الأمثال وأعدد النعم وأنبئك بنبأ القرآن رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ( والقول الثاني ) أنها الفاتحة وهي سبع آيات وروي ذلك عن علي وعمر وابن مسعود وابن عباس قال ابن عباس : والبسملة هي الاية السابعة وقد خصكم الله بها وبه قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن عبيد بن عمير وابن أبي مليكة وشهر بن حوشب والحسن البصري ومجاهد
وقال قتادة : ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع واختاره ابن جرير واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك وقد قدمناها في فضائل سورة الفاتحة في أول التفسير ولله الحمد وقد أورد البخاري رحمه الله ههنا حديثين : ( أحدهما ) قال : حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى قال : مر بي النبي صلى الله عليه و سلم وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته فقال : [ ما منعك أن تأتيني ؟ ] فقلت : كنت أصلي فقال : [ ألم يقل الله { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ] فذهب النبي صلى الله عليه و سلم ليخرج فذكرت فقال : [ { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن الذي أوتيته ] ( الثاني ) قال : حدثنا آدم حدثنا ابن أبي ذئب حدثنا المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم ] فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك لما فيها من هذه الصفة كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا كما قال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه وهو القرآن العظيم أيضا كما أنه عليه الصلاة و السلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فأشار إلى مسجده والاية نزلت في مسجد قباء فلا تنافي فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة والله أعلم وقوله : { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } أي استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية ومن ههنا ذهب ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح [ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] إلى أنه يستغني به عما عداه وهو تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن وكيع بن الجراح حدثنا موسى بن عبيدة عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه و سلم قال : ضاف النبي صلى الله عليه و سلم ضيف ولم يكن عند النبي صلى الله عليه و سلم شيء يصلحه فأرسل إلى رجل من اليهود [ يقول لك محمد رسول لله : أسلفني دقيقا إلى هلال رجب ] قال : لا إلا برهن فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : [ أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه ] فلما خرجت من عنده نزلت هذه الاية { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا } إلى آخر الاية كأنه يعزيه عن الدنيا قال العوفي عن ابن عباس { لا تمدن عينيك } قال : نهى الرجل أن يتمنى ما لصاحبه وقال مجاهد { إلى ما متعنا به أزواجا منهم } هم الأغنياء (2/734)
يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم أن يقول للناس : { إني أنا النذير المبين } البين النذارة نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام وقوله : { المقتسمين } أي المتحالفين أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم كقوله تعالى إخبارا عن قوم صالح إنهم { قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله } الاية أي نقتلهم ليلا قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } { أولم تكونوا أقسمتم من قبل } الاية { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق ]
وقوله : { الذين جعلوا القرآن عضين } أي جزءوا كتبهم المنزلة عليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أنبأنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { جعلوا القرآن عضين } قال : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس { جعلوا القرآن عضين } قال : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : { جعلوا القرآن عضين } قال هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال { كما أنزلنا على المقتسمين } قال : آمنوا ببعض وكفروا ببعض اليهود والنصارى قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم نحو ذلك وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس { جعلوا القرآن عضين } قال : السحر وقال عكرمة : العضه السحر بلسان قريش تقول للساحرة إنها العاضهة وقال مجاهد : عضوه أعضاء قالوا سحر وقالوا كهانة وقالوا أساطير الأولين وقال عطاء : قال بعضهم ساحر وقالوا مجنون وقال كاهن فذلك العضين وكذا روي عن الضحاك وغيره
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا شرف فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا فقالوا : وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به قال : بل أنتم قولوا لأسمع قالوا : نقول كاهن قال : ما هو بكاهن قالوا : فنقول مجنون قال : ما هو بمجنون قالوا : فنقول شاعر قال : ما هو بشاعر قالوا : فنقول ساحر قال : ما هو بساحر قالوا : فماذا نقول ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر فتفرقوا عنه بذلك وأنزل الله فيهم { الذين جعلوا القرآن عضين } أصنافا { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } أولئك النفر الذين قالوا لرسول لله
وقال عطية العوفي عن ابن عمر في قوله : { لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } قال : عن لا إله إلا الله وقال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن ليث هو ابن أبي سليم عن مجاهد في قوله تعالى : { لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } قال : عن لا إله إلا الله وقد روى الترمذي وأبو يعلى الموصلي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن ليث بن أبي سليم عن بشير بن نهيك عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم { فوربك لنسألنهم أجمعين } قال : عن لا إله إلا الله ورواه ابن إدريس عن ليث عن بشير عن أنس موقوفا وقال ابن جرير : حدثنا أحمد حدثنا أبو أحمد حدثنا شريك عن هلال عن عبد الله بن عكيم قال : ورواه الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعا وقال عبد الله هو ابن مسعود : والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر فيقول : ابن آدم ماذا غرك مني بي ؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟
وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } قال : يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين وقال ابن عيينة عن عملك وعن مالك وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة الشيباني عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه وعن فتات الطينة بأصبعه فلا ألفينك يوم القيامة واحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك ] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } ثم قال : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } قال : لا يسألهم هل عملتم كذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا ؟ (2/736)
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه و سلم بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به وهو مواجهة المشركين به كما قال ابن عباس في قوله : { فاصدع بما تؤمر } أي أمضه وفي رواية { افعل ما تؤمر } وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود : ما زال النبي صلى الله عليه و سلم مستخفيا حتى نزلت { فاصدع بما تؤمر } فخرج هو وأصحابه وقوله : { وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين } أي بلغ ما أنزل إليك من ربك ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله { ودوا لو تدهن فيدهنون } ولا تخفهم فإن لله كافيك إياهم وحافظك منهم كقوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس }
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم عن أنس قال : سمعت أنسا يقول في هذه الاية { إنا كفيناك المستهزئين * الذين يجعلون مع الله إلها آخر } قال : مر رسول الله صلى الله عليه و سلم فغمزه بعضهم فجاء جبريل أحسبه قال : فغمزهم فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا قال محمد بن إسحاق : كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب أبي زمعة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه فقال : [ اللهم أعم بصره وأثكله ولده ] ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ومن بني سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن ـ عمرو بن ملكان ـ فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه و سلم الاستهزاء أنزل الله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين * الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون }
وقال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يطوف بالبيت فقام وقام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنبه فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله وكان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجز إزاره وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش وليس بشيء فانتفض به فقتله ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه فقتلته ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل عن ابن عباس قال : كان رأسهم الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به عن يزيد عن عروة بطوله إلا أن سعيدا يقول : الحارث بن غيطلة وعكرمة يقول الحارث بن قيس قال الزهري : وصدقا هو الحارث بن قيس وأمه غيطلة وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة وقال الشعبي : كانوا سبعة والمشهور الأول : وقوله : { الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون } تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع لله معبودا آخر
وقوله : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض فلا يهيدنك ذلك ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله وتوكل عليه فإنه كافيك وناصرك عليهم فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة ولهذا قال : { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ] ورواه أبو داود والنسائي من حديث مكحول عن كثير بن مرة بنحوه ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حزبه أمر صلى
وقوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } قال البخاري : قال سالم : الموت وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر كما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } قال : الموت وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارا عن أهل النار أنهم قالوا { لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين } وفي الصحيح من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات قالت أم العلاء : رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وما يدريك أن الله أكرمه ؟ ] فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله فمن ؟ فقال : [ أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير ] ويستدل بهذه الاية الكريمة وهي قوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا فيصلي بحسب حاله
كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ] ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم وهذا كفر وضلال وجهل فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة وإنما المراد باليقين ههنا الموت كما قدمناه ولله الحمد والمنة والحمد لله على الهداية وعليه الاستعانة والتوكل وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها فإنه جواد كريم
آخر تفسير سورة الحجر والحمد لله رب العالمين (2/737)
سورة النحل
بسم الله الرحمن الرحيم (2/740)
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرا بصيغة الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة كقوله : { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } وقال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } وقوله : { فلا تستعجلوه } أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه يحتمل أن يعود الضمير على الله ويحتمل أن يعود على العذاب وكلاهما متلازم كما قال تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الاية إلى قول عجيب فقال في قوله : { أتى أمر الله } أي فرائضه وحدوده وقد رده ابن جرير فقال : لا نعلم أحدا استعجل بالفرائض وبالشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعادا وتكذيبا قلت : كما قال تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد }
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن محمد بن عبد الله مولى المغيرة بن شعبة عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن حجيرة عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها : يا أيها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض : هل سمعتم فمنهم من يقول : نعم ومنهم من يشك ثم ينادي الثانية : يا أيها الناس فيقول الناس بعضهم لبعض : هل سمعتم فيقولون : نعم ثم ينادي الثالثة : يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه ] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فو الذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئا ابدا وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا ـ قال ـ ويشتغل الناس ] ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد تعالى وتقدس علوا كبيرا وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال : { سبحانه وتعالى عما يشركون } (2/740)
يقول تعالى : { ينزل الملائكة بالروح } أي الوحي كقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقوله : { على من يشاء من عباده } وهم الأنبياء كما قال تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقال : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وقال : { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } وقوله : { أن أنذروا } أي لينذروا { أنه لا إله إلا أنا فاتقون } أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري (2/740)
يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السموات والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث بل { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له ثم نبه على خلق جنس الإنسان من نطفة أي مهينة ضعيفة فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا كقوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا * ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا } وقوله : { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بسر بن جحاش قال : بصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في كفه ثم قال : [ يقول الله تعالى : ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ] (2/741)
يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون ومن ألبانها يشربون ويأكلون من أولادها وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ولهذا قال : { ولكم فيها جمال حين تريحون } وهو وقت رجوعها عشيا من المرعى فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعا وأعلاه أسنمة { وحين تسرحون } أي غدوة حين تبعثونها إلى المرعى { وتحمل أثقالكم } وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها { إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل كقوله : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى الفلك تحملون } وقال تعالى : { الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون } ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم { إن ربكم لرؤوف رحيم } أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كقوله : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } وقال : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } قال ابن عباس : { لكم فيها دفء } أي ثياب { ومنافع } ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : دفء ومنافع نسل كل دابة وقال مجاهد : لكم فيها دفء أي لباس ينسج ومنافع مركب ولحم ولبن وقال قتادة : دفء ومنافع يقول : لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة (2/741)
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده يمتن به عليهم وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها وذلك أكبر المقاصد منها ولما فصلها من الأنعام وأفردها بالذكر استدل من استدل من العلماء ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذلك على ما ذهب إليه فيها كالإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه من الفقهاء بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير وهي حرام كما ثبتت به السنة النبوية وذهب إليه أكثر العلماء وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية أنبأنا هشام الدستوائي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن مولى نافع بن علقمة أن ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير وكان يقول : قال الله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } فهذه للأكل { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } فهذه للركوب وكذا روي من طريق سعيد بن جبير وغيره عن ابن عباس بمثله وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة أيضا رضي الله عنه واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا بقية بن الوليد حدثنا ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث صالح بن يحيى بن المقدام وفيه كلام
ورواه أحمد أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال : حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا محمد بن حرب حدثنا سليمان بن سليم عن صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام بن معد يكرب قال : غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة فقرم أصحابنا إلى اللحم فسألوني رمكة فدفعتها إليهم فحبلوها وقلت : مكانكم حتى آتي خالدا فأسأله فأتيته فسألته فقال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة خيبر فأسرع الناس في حظائر يهود فأمرني أن أنادي الصلاة جامعة ولا يدخل الجنة إلا مسلم ثم قال : [ أيها الناس : إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها وحرام عليكم لحوم الأتن الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ] والرمكة هي الحجرة وقوله حبلوها أي أوثقوها في الحبل ليذبحوها والحظائر والبساتين القريبة من العمران وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر والله أعلم فلو صح هذا الحديث لكان نصا في تحريم لحوم الخيل ولكن لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل
ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة فهذه أدل وأقوى وأثبت وإلى ذلك صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف والله أعلم وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشية فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب والله أعلم فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ومنها البغال وقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بغلة فكان يركبها مع أنه قد نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل قال الإمام أحمد : حدثني محمد بن عبيد حدثنا عمر من آل حذيفة عن الشعبي عن دحية الكلبي قال : قلت يا رسول الله ألا أحمل لك حمارا على فرس فتنتج لك بغلا فتركبها ؟ قال : [ إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ] (2/742)
لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية نبه على الطرق المعنوية الدينية وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية كقوله تعالى : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } وقال تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير } ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه فقال : { وعلى الله قصد السبيل } كقوله { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقال : { قال هذا صراط علي مستقيم }
قال مجاهد في قوله : { وعلى الله قصد السبيل } قال : طريق الحق على الله وقال السدي { وعلى الله قصد السبيل } الإسلام وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : { وعلى الله قصد السبيل } يقول : وعلى الله البيان أي يبين الهدى والضلالة وكذا روى علي بن أبي طلحة عنه وكذا قال قتادة والضحاك وقول مجاهد ههنا أقوى من حيث السياق لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقا تسلك إليه فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق وهي الطريق التي شرعها ورضيها وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة ولهذا قال تعالى : { ومنها جائر } أي حائد مائل زائغ عن الحق قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة والاراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية وقرأ ابن مسعود { ومنها جائر } ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته فقال : { ولو شاء لهداكم أجمعين } كما قال تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } وقال : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } (2/743)
لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء وهو العلو مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم فقال : { لكم منه شراب } أي جعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه ولم يجعله ملحا أجاجا { ومنه شجر فيه تسيمون } : أي وأخرج لكم منه شجرا ترعون فيه أنعامكم كما قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد في قوله فيه تسيمون أي ترعون ومنه الإبل السائمة والسوم : الرعي وروى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس
وقوله : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات } أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها ولهذا قال : { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى : { أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون } ثم قال تعالى : (2/744)
ينبه تعالى عباده على آياته العظام ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان والشمس والقمر يدوران والنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السموات نورا وضياء ليهتدى بها في الظلمات وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله كقوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } ولهذا قال : { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } أي لدلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه
وقوله : { وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه } لما نبه تعالى على معالم السموات نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات على اختلاف ألوانها وأشكالها وما فيها من المنافع والخواص { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها (2/744)
يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه وجعله السمك والحيتان فيه وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها في الحل والإحرام وما يخلقه فيه من اللالىء والجواهر النفيسة وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه وقيل تمخر الرياح وكلاهما صحيح وقيل تمخره بجؤجئها وهو صدرها المسنم ـ الذي أرشد العباد إلى صنعتها وهداهم إلى ذلك إرثا عن أبيهم نوح عليه السلام فإنه أول من ركب السفن وله كان تعليم صنعتها ثم أخذها الناس عنه قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل يسيرون من قطر إلى قطر ومن بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك إلى ما هنا وما هنا إلى ما هناك ولهذا قال تعالى : { ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } أي نعمه وإحسانه
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : كلم الله البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادا من عبادي فكيف أنت صانع فيهم ؟ قال : أغرقهم فقال : بأسك في نواحيك وأحملهم على يدي وحرمت الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم ؟ فقال : أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه الحلية والصيد ثم قال البزار : لا نعلم من رواه عن سهل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو وهو منكر الحديث وقد رواه سهل عن النعمان بن أبي عياش عن عبد الله بن عمر موقوفا
ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات لتقر الأرض ولا تميد أي تضطرب بما عليها من الحيوانات فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك ولهذا قال : { والجبال أرساها } وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن قتادة سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كانت تميد فقالوا : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال وقال سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحت صبحا وفيها رواسيها وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثني حجاج بن منهال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : أي رب تجعل علي بني آدم يعملون الخطايا ويجعلون علي الخبث ؟ قال : فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون فكان إقرارها كاللحم يترجرج
وقوله : { وأنهارا وسبلا } أي جعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى مكان آخر رزقا للعباد ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر فيقطع البقاع والبراري والقفار ويخترق الجبال والاكام فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة وجنوبا وشمالا وشرقا وغربا ما بين صغار وكبار وأودية تجري حينا وتنقطع في وقت وما بين نبع وجمع وقوي السير وبطئه بحسب ما أراد وقدر وسخر ويسر فلا إله إلا هو ولا رب سواه وكذلك جعل فيها سبلا أي طرقا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممرا ومسلكا كما قال تعالى : { وجعلنا فيها فجاجا سبلا } الاية
وقوله : { وعلامات } أي دلائل من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك يستدل بها المسافرون برا وبحرا إذا ضلوا الطرق وقوله : { وبالنجم هم يهتدون } أي في ظلام الليل قاله ابن عباس وعن مالك في قوله : { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } يقول : النجوم وهي الجبال ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئا بل هم يخلقون ولهذا قال : { أفمن يخلق كمن لا يخلق ؟ أفلا تذكرون } ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم فقال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم } أي يتجاوز عنكم ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ولكنه غفور رحيم يغفر الكثير ويجازي على اليسير وقال ابن جرير : يقول إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة (2/745)
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة إن خيرا فخير وإن شرا فشر ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون كما قال الخليل : { أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون } وقوله : { أموات غير أحياء } أي هي جمادات لا أرواح فيها فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل { وما يشعرون أيان يبعثون } أي لا يدرون متى تكون الساعة فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء ؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء (2/746)
يخبر تعالى أنه لا إله هو الواحد الأحد الفرد الصمد وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } وقال تعالى : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } وقوله : { وهم مستكبرون } أي عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } ولهذا قال ههنا { لا جرم } أي حقا { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء { إنه لا يحب المستكبرين } (2/747)
يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء المكذبين { ماذا أنزل ربكم قالوا } معرضين عن الجواب { أساطير الأولين } أي لم ينزل شيئا إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين أي مأخوذ من كتب المتقدمين كما قال تعالى : { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالا متضادة مختلفة كلها باطلة كما قال تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ وكانوا يقولون : ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي لما { فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر } أي ينقل ويحكى فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله قال تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم كما جاء في الحديث [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ] وقال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } وهكذا روى العوفي عن ابن عباس في الاية { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } أنها كقوله : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } وقال مجاهد : يحملون أثقالهم ذنوبهم وذنوب من أطاعهم ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئا (2/747)
قال العوفي عن ابن عباس في قوله : { قد مكر الذين من قبلهم } قال : هو النمرود الذي بنى الصرح قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد نحوه وقال عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض النمرود فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه وكان جبارا أربعمائة سنة فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ثم أماته وهو الذي بنى الصرح إلى السماء الذي قال الله تعالى : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } وقال آخرون : بل هو بختنصر وذكروا من المكر الذي حكاه الله ههنا كما قال في سورة إبراهيم { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } وقال آخرون : هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره كما قال نوح عليه السلام : { ومكروا مكرا كبارا } أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا } الاية
وقوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم كقوله تعالى : { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } وقوله : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } وقال الله ههنا : { فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم } أي يظهر فضائحهم وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية كقوله تعالى : { يوم تبلى السرائر } أي تظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان بن فلان ] وهكذا يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا { أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم } تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا ؟ { هل ينصرونكم أو ينتصرون } { فما له من قوة ولا ناصر } فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار { قال الذين أوتوا العلم } وهم السادة في الدنيا والاخرة والمخبرون عن الحق في الدنيا والاخرة فيقولون حينئذ : { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه (2/748)
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة { فألقوا السلم } أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين { ما كنا نعمل من سوء } كما يقولون يوم المعاد { والله ربنا ما كنا مشركين } { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم } قال الله مكذبا لهم في قيلهم ذلك { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } أي بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } كما قال الله تعالى : { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (2/749)
هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء فإن أولئك قيل لهم : { ماذا أنزل ربكم } قالوا معرضين عن الجواب : لم ينزل شيئا إنما هذا أساطير الأولين وهؤلاء قالوا : خيرا أي أنزل خيرا أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله فقال : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } الاية كقوله تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } أي من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والاخرة ثم أخبر بأن دار الاخرة خير أي من الحياة الدنيا والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا كقوله : { وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير } الاية وقال تعالى : { وما عند الله خير للأبرار } وقال تعالى : { والآخرة خير وأبقى } وقال لرسوله صلى الله عليه و سلم { وللآخرة خير لك من الأولى } ثم وصف الدار الاخرة فقال : { ولنعم دار المتقين }
وقوله : { جنات عدن } بدل من دار المتقين أي لهم في الاخرة جنات عدن أي مقام يدخلونها { تجري من تحتها الأنهار } أي بين أشجارها وقصورها { لهم فيها ما يشاؤون } كقوله تعالى : { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } وفي الحديث [ إن السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم فلا يشتهي أحد منهم شيئا إلا أمطرته عليه حتى إن منهم لمن يقول أمطرينا كواعب أترابا فيكون ذلك ] { كذلك يجزي الله المتقين } أي كذلك يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون أي مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة كقوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم } وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } (2/749)
يقول تعالى مهددا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا : هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم قاله قتادة { أو يأتي أمر ربك } أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال وقوله : { كذلك فعل الذين من قبلهم } أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى ذاقوا بأس الله وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال { وما ظلمهم الله } لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ذلك { وحاق بهم } أي أحاط بهم من العذاب الأليم { ما كانوا به يستهزئون } أي يسخرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله فلهذا يقال لهم يوم القيامة : { هذه النار التي كنتم بها تكذبون } (2/750)
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطانا ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارها لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكننا منه قال الله تعالى رادا عليهم شبهتهم : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ونهاكم عنه آكد النهي وبعث في كل أمة أي في كل قرن وطائفة رسولا وكلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح وكان أول رسول بعثه الله الى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه و سلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب وكلهم كما قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقوله تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى في هذه الاية الكريمة : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فيكف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرا فلا حجة لهم فيها لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة وهو لا يرضى لعباده الكفر وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل فلهذا قال : { فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف { دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها } فقال : { ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير } ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم كقوله تعالى : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } وقال نوح لقومه : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } وقال في هذه الاية الكريمة : { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } كما قال الله تعالى : { من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون } وقال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } وقوله : { فإن الله } أي شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلهذا قال : { لا يهدي من يضل } أي من أضله فمن ذا الذي يهديه من بعد الله ؟ أي لا أحد { وما لهم من ناصرين } أي ينقذونهم من عذابه ووثاقه { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } (2/750)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا بالله جهد أيمانهم أي اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت أي استبعدوا ذلك وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك وحلفوا على نقيضه فقال تعالى مكذبا لهم ورادا عليهم { بلى } أي بلى سيكون ذلك { وعدا عليه حقا } أي لا بد منه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أي فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد فقال : { ليبين لهم } أي للناس { الذي يختلفون فيه } أي من كل شيء { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } أي في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث الله من يموت ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا وتقول لهم الزبانية : { هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون كما يشاء كقوله : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } وقال { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } وقال : في هذه الاية الكريمة { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } أي أن نأمر به مرة واحدة فإذا هو كائن كما قال الشاعر :
إذا ما أراد الله أمرا فإنما يقول له كن كائنا فيكون
أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف لأنه الواحد القهار العظيم الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء فلا إله إلا هو ولا رب سواه وقال ابن أبي حاتم : ذكر الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول قال الله تعالى : شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك فأما تكذيبه إياي فقال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } قال وقلت : { بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وأما شتمه إياي فقال : { إن الله ثالث ثلاثة } وقلت : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } هكذا ذكره موقوفا وهو في الصحيحين مرفوعا بلفظ آخر (2/751)
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صديق وصديقة رضي الله عنهم وأرضاهم وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والاخرة فقال : { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } قال ابن عباس والشعبي وقتادة : المدينة وقيل : الرزق الطيب قاله مجاهد ولا منافاة بين القولين فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا فإن من ترك شيئا لله عوضه الله بما هو خير له منه وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد وحكمهم على رقاب العباد وصاروا أمراء حكاما وكل منهم للمتقين إماما وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الاخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا فقال : { ولأجر الآخرة أكبر } أي مما أعطيناهم في الدنيا { لو كانوا يعلمون } أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ولهذا قال هشيم عن العوام عمن حدثه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الاخرة أفضل ثم قرأ هذه الاية { لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } ثم وصفهم تعالى فقال : { الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والاخرة (2/752)
قال الضحاك : عن ابن عباس : لما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فأنزل { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } الاية وقال : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } يعني أهل الكتب الماضية أبشرا كانت الرسل إليهم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه و سلم رسولا قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } ليسوا من أهل السماء كما قلتم وكذا روي عن مجاهد عن ابن عباس أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب وقاله مجاهد والأعمش وقول عبد الرحمن بن زيد : الذكر القرآن واستشهد بقوله : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } صحيح لكن ليس هو المراد ههنا لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه وكذا قول أبي جعفر الباقر : نحن أهل الذكر ومراده أن هذه الأمة أهل الذكر صحيح فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة وعلماء أهل بيت رسول الله عليهم السلام والرحمة من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة كعلي وابن عباس وابني علي الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعلي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس وأبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين وجعفر ابنه وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم وعرف لكل ذي حق حقه ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمعت عليه قلوب عباده المؤمنين والغرض أن هذه الاية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضين قبل محمد صلى الله عليه و سلم كانوا بشرا كما هو بشر كما قال تعالى : { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا } وقال تعالى : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } وقال تعالى : { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين } وقال : { قل ما كنت بدعا من الرسل } وقال تعالى : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي } ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرا إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا هل كان أنبياؤهم بشرا أو ملائكة ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم { بالبينات } أي بالحجج والدلائل { والزبر } وهي الكتب قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم والزبر جمع زبور تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته وقال تعالى : { وكل شيء فعلوه في الزبر } وقال { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ثم قال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر } يعني القرآن { لتبين للناس ما نزل إليهم } أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله وحرصك عليه واتباعك له ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل { ولعلهم يتفكرون } أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين (2/753)
يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض أو يأتيهم العذاب { من حيث لا يشعرون } أي من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم كقوله تعالى : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير } وقوله : { أو يأخذهم في تقلبهم } أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية قال قتادة والسدي : تقلبهم أي أسفارهم وقال مجاهد والضحاك وقتادة { في تقلبهم } في الليل والنهار كقوله { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون }
وقوله : { فما هم بمعجزين } أي لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه وقوله : { أو يأخذهم على تخوف } أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم فإنه يكون أبلغ وأشد فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ولهذا قال العوفي عن ابن عباس : { أو يأخذهم على تخوف } يقول : إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك وكذا روي عن مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم ثم قال تعالى : { فإن ربكم لرؤوف رحيم } أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة كما ثبت في الصحيحين [ لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ] وفيهما [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } وقال تعالى : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير } (2/754)
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها : جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال أي بكرة وعشيا فإنه ساجد بظله لله تعالى قال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عز و جل وكذا قال قتادة والضحاك وغيرهم وقوله { وهم داخرون } أي صاغرون وقال مجاهد أيضا : سجود كل شيء فيؤه وذكر الجبال قال : سجودها فيؤها وقال أبو غالب الشيباني : أمواج البحر صلاته ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم فقال : { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة } كما قال : { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال } وقوله : { والملائكة وهم لا يستكبرون } أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته { يخافون ربهم من فوقهم } أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله { ويفعلون ما يؤمرون } أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره وترك زواجره (2/755)
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه { وله الدين واصبا } قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير واحد : أي دائما وعن ابن عباس أيضا : أي واجبا وقال مجاهد : أي خالصا له أي له العبادة وحده ممن في السموات والأرض كقوله : { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون } هذا على قول ابن عباس وعكرمة فيكون من باب الخبر وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئا وأخلصوا لي الطاعة كقوله تعالى : { ألا لله الدين الخالص } ثم أخبر أنه مالك النفع والضر وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم وإحسانه إليهم { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به كقوله تعالى : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } وقال ههنا : { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم } قيل : اللام ههنا لام العاقبة وقيل : لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم وأنه المسدي إليهم النعم الكاشف عنهم النقم ثم توعدهم قائلا { فتمتعوا } أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا { فسوف تعلمون } أي عاقبة ذلك (2/755)
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم و { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون } أي جعلوا لالهتهم نصيبا مع الله وفضلوها على جانبه فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم فقال : { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وجعلوها بنات الله فعبدوها معه فأخطأوا خطأ كبيرا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ولا ولد له ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم كما قال : { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى }
وقوله ههنا : { ويجعلون لله البنات سبحانه } أي عن قولهم وإفكهم { ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون } وقوله : { ولهم ما يشتهون } أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا فإنه { إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا } أي كئيبا من الهم { وهو كظيم } ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن { يتوارى من القوم } أي يكره أن يراه الناس { من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب } أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها ويفضل أولاده الذكور عليها { أم يدسه في التراب } أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله ؟ { ألا ساء ما يحكمون } أي بئس ما قالوا وبئس ما قسموا وبئس ما نسبوه إليه كقوله تعالى : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم } وقوله ههنا : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } أي النقص إنما ينسب إليهم { ولله المثل الأعلى } اي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه { وهو العزيز الحكيم } (2/756)
يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بني آدم ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص أنه قال : كاد الجعل أن يعذب بذنب بني آدم وقرأ الاية { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } وكذا روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي حدثنا محمد بن جابر الحنفي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال : سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه قال : فالتفت إليه فقال : بلى والله حتى إن الحباري لتموت في وكرها بظلم الظالم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين أنبأنا الوليد بن عبد الملك حدثنا عبيد الله بن شرحبيل حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة بن ربيعة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحه يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر ]
وقوله : { ويجعلون لله ما يكرهون } أي من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله
وقوله : { وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى } إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضا لهم الحسنى وإخبار عن قيل من قال منهم كقوله : { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور } وقوله : { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ } وقوله : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا } وقال إخبارا عن أحد الرجلين أنه { دخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا } فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل كما ذكر ابن إسحاق إنه وجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حكم ومواعظ فمن ذلك : تعلمون السيئات وتجوزن الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب
وقال مجاهد وقتادة : { وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى } أي الغلمان وقال ابن جرير : { أن لهم الحسنى } أي يوم القيامة كما قدمنا بيانه وهو الصواب ولله الحمد ولهذا قال تعالى رادا عليهم في تمنيهم ذلك : { لا جرم } أي حقا لا بد منه { أن لهم النار } أي يوم القيامة { وأنهم مفرطون } قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون وهذا كقوله تعالى : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } وعن قتادة أيضا : مفرطون أي معجلون إلى النار من الفرط وهو السابق إلى الورد ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون (2/757)
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلا فكذبت الرسل فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة فلا يهيدنك تكذيب قومك لك وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه { فهو وليهم اليوم } أي هم تحت العقوبة والنكال والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصا ولا صريخ لهم ولهم عذاب أليم ثم قال تعالى لرسوله : إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه ؟ فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه { وهدى } أي للقلوب { ورحمة } أي لمن تمسك به { لقوم يؤمنون } وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } أي يفهمون الكلام ومعناه (2/758)
يقول تعالى : { وإن لكم } أيها الناس { في الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم { لعبرة } أي لاية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه { نسقيكم مما في بطونه } أفردها ههنا عودا على معنى النعم أو الضمير عائد على الحيوان فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان وفي الاية الأخرى مما في بطونها ويجوز هذا وهذا كما في قوله تعالى : { كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره } وفي قوله تعالى : { وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان } أي المال
وقوله : { من بين فرث ودم لبنا خالصا } أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته ما بين فرث ودم في باطن الحيوان فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته فيصرف منه دم إلى العروق ولبن إلى الضرع وبول إلى المثانة وروث إلى المخرج وكل منها لا يشوب الاخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به وقوله : { لبنا خالصا سائغا للشاربين } أي لا يغص به أحد ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه ولهذا امتن به عليهم فقال : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا } دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل كما جاءت السنة بتفصيل ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك
كما قال ابن عباس في قوله : { سكرا ورزقا حسنا } السكر ما حرم من ثمرتيهما والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما وفي رواية : السكر حرامه والرزق الحسن حلاله يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها قال الله تعالى : { وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } (2/758)
المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها ومن الشجر ومما يعرشون ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل فتبني الشمع من أجنحتها وتقيء العسل من فيها وتبيض الفراخ من دبرها ثم تصبح إلى مراعيها
وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فاسلكي سبل ربك ذللا } أي مطيعة فجعلاه حالا من السالكة قال ابن زيد : وهو كقول الله تعالى : { وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } قال : ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم والقول الأول هو الأظهر وهو أنه حال من الطريق أي فاسلكيها مذللة لك نص عليه مجاهد وقال ابن جرير : كلا القولين صحيح وقد قال أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا مكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عمر الذباب أربعون يوما والذباب كله في النار إلا النحل ]
وقوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها وقوله : { فيه شفاء للناس } أي في العسل شفاء للناس أي من أدواء تعرض لهم قال بعض من تكلم على الطب النبوي : لو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء ولكن قال فيه شفاء للناس أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة فإنه حار والشيء يداوى بضده
وقال مجاهد وابن جرير في قوله : { فيه شفاء للناس } يعني القرآن وهذا قول صحيح في نفسه ولكن ليس هو الظاهر ههنا من سياق الاية فإن الاية إنما ذكر فيها العسل ولم يتابع مجاهد على قوله ههنا وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } وقوله تعالى : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } والدليل على أن المراد بقوله تعالى : { فيه شفاء للناس } هو العسل الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال [ اسقه عسلا ] فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يارسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال : [ اذهب فاسقه عسلا ] فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يارسول الله ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا ] فذهب فسقاه عسلا فبرىء قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالا فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ثم سقاه فكذلك فلما اندفعت الفضلات الفاسده المضرة بالبدن استمسك بطنه وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والالام ببركة إشارته عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام
وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعجبه الحلواء والعسل هذا لفظ البخاري : وفي صحيح البخاري من حديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنهى أمتي عن الكي ]
وقال البخاري : حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة سمعت جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي ] ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبد الله أنبأنا سعيد بن أبي أيوب حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاث إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم أو شربة عسل أو كية تصيب ألما وأنا أكره الكي ولا أحبه ] ورواه الطبراني عن هارون بن سلول المصري عن أبي عبد الرحمن المقري عن عبد الله بن الوليد به ولفظه [ إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم ] وذكره وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه : حدثنا علي بن سلمة هو التغلبي حدثنا زيد بن حباب حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن ] وهذا إسناد جيد تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعا وقد رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن سفيان هو الثوري به موقوفا وله شبه
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها فليشتر به عسلا فليشربه بذلك فإنه شفاء : أي من وجوه وقال الله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } وقال : { ونزلنا من السماء ماء مباركا } وقال : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } وقال في العسل : { فيه شفاء للناس }
وقال ابن ماجه أيضا : حدثنا محمود بن خداش حدثنا سعيد بن زكريا القرشي حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي عن عبد الحميد بن سالم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله [ من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء ] الزبير بن سعيد متروك وقال ابن ماجه أيضا : حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سرح الفريابي حدثنا عمرو بن بكير السكسكي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة سمعت أبا أبي بن أم حرام وكان قد صلى القبلتين يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام ] قيل : يارسول الله وما السام ؟ قال { الموت } قال عمرو : قال ابن أبي عبلة : السنوت الشبت وقال آخرون : بل هو العسل الذي في زقاق السمن وهو قول الشاعر :
هم السمن بالسنوت لا لبس فيهم وهم يمنعون الجار أن يقردا
كذا رواه ابن ماجه وقوله : لا لبس فيهم أي لا خلط وقوله : يمنعون الجار أن يقردا أي يضطهد ويظلم وقوله : { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه والاجتناء من سائر الثمار ثم جمعها للشمع والعسل وهو من أطيب الأشياء لاية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم (2/759)
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم وهو الضعف في الخلقة كما قال الله تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة } الاية وقد روي عن علي رضي الله عنه : أرذل العمر خمس وسبعون سنة وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم ولهذا قال : { لكي لا يعلم بعد علم شيئا } أي بعد ما كان عالما أصبح لا يدري شيئا من الفند والخرف ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الاية : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور عن شعيب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو [ أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات ] وقال زهير بن أبي سلمة في معلقته المشهورة
( سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين عاما لا أبا لك يسأم )
( رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم ) (2/761)
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء وهم يعترفون أنها عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فقال تعالى منكرا عليهم : أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم كما قال في الاية الأخرى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } الاية قال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية : يقول لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني فذلك قوله : { أفبنعمة الله يجحدون } وقال في الرواية الأخرى عنه : فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم وقال مجاهد في هذه الاية : هذا مثل الالهة الباطلة وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه منك
وقوله : { أفبنعمة الله يجحدون } أي أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فجحدوا نعمته وأشركوا معه غيره وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري : واقنع برزقك من الدنيا فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق بلاء يبتلي به كلا فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله رواه ابن أبي حاتم (2/762)
يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا وجعل الإناث أزواجا للذكور ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك وابن زيد قال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : بنين وحفدة وهم الولد وولد الولد وقال سنيد : حدثنا حجاج عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس قال : بنوك حيث يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك قال جميل :
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال
وقال مجاهد : بنين وحفدة ابنه وخادمه وقال في رواية : الحفدة الأنصار والأعوان والخدام وقال طاوس وغير واحد : الحفدة الخدم وكذا قال قتادة وأبو مالك والحسن البصري وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال : الحفدة من خدمك من ولدك وولد ولدك قال الضحاك : إنما كانت العرب تخدمها بنوها وقال العوفي عن ابن عباس قوله : { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } يقول : بنو امرأة الرجل ليسوا منه ويقال : الحفدة الرجل يعمل بين يدي الرجل يقال : فلان يحفد لنا أي يعمل لنا قال : وزعم رجال أن الحفدة أختان الرجل وهذا الأخير الذي ذكره ابن عباس قاله ابن مسعود ومسروق وأبو الضحى وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والقرظي ورواه عكرمة عن ابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الأصهار
قال ابن جرير : وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة وهو الخدمة الذي منه قوله في القنوت : وإليك نسعى ونحفد ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار فالنعمة حاصلة بهذا كله ولهذا قال : { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } قلت : فمن جعل { وحفدة } متعلقا بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد والأصهار لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة وكذا قال الشعبي والضحاك فإنهم يكونون غالبا تحت كنف الرجل وفي حجره وفي خدمته وقد يكون هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة و السلام في حديث نضرة بن أكثم [ والولد عبد لك ] رواه أبو داود وأما من جعل الحفدة الخدم فعنده أنه معطوف على قوله : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا } أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدما
وقوله : { ورزقكم من الطيبات } أي من المطاعم والمشارب ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة المنعم غيره : { أفبالباطل يؤمنون } وهم الأنداد والأصنام { وبنعمة الله هم يكفرون } أي يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره وفي الحديث الصحيح [ إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه : ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ ] (2/762)
يقول تعالى إخبارا عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر ولا يملكون ذلك لأنفسهم أي ليس لهم ذلك ولا يقدرون عليه لو أرادوه ولهذا قال تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } أي لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالا { إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو وأنتم بجهلكم تشركون به غيره (2/763)
قال العوفي عن ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سرا وجهرا هو المؤمن وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى فهل يستوي هذا وهذا ؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهرا واضحا بينا لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى : { الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } (2/764)
قال مجاهد : وهذا أيضا المراد به الوثن والحق تعالى يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية فلا مقال ولا فعال وهو مع هذا كل أي عيال وكلفة على مولاه { أينما يوجهه } أي يبعثه { لا يأت بخير } ولا ينجح مسعاه { هل يستوي } من هذه صفاته { ومن يأمر بالعدل } أي بالقسط فمقاله حق وفعاله مستقيمة { وهو على صراط مستقيم } وقيل : الأبكم مولى لعثمان وبهذا قال السدي وقتادة وعطاء الخراساني واختار هذا القول ابن جرير
وقال العوفي عن ابن عباس : هو مثل للكافر والمؤمن أيضا كما تقدم وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني حدثنا حماد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن إبراهيم عن عكرمة عن يعلى بن أمية عن ابن عباس في قوله : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } قال : نزلت في رجل من قريش وعبده يعني قوله { عبدا مملوكا } الاية وفي قوله : { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } قال : هو عثمان بن عفان : قال : والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير قال : هو مولى لعثمان بن عفان كان عثمان ينفق عليه ويكلفه ويكفيه المؤونه وكان الاخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما (2/764)
يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السموات والأرض واختصاصه بعلم الغيب فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون كما قال : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } أي فيكون ما يريد كطرف العين وهكذا قال ههنا : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير } كما قال : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات والأبصار التي بها يحسون المرئيات والأفئدة وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح وقيل : الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه
كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقول تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن دعاني لأجيبنه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ] فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عز و جل فلا يسمع إلا لله ولا يبصر إلا لله أي ما شرعه الله له ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز و جل مستعينا بالله في ذلك كله ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله ورجله التي يمشي بها [ فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ] ولهذا قال تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } كقوله تعالى في الاية الأخرى : { قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون * قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك وسخر الهواء يحملها ويسير الطير كذلك كما قال تعالى في سورة الملك : { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير } وقال ههنا : { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } (2/764)
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها ويستترون بها وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع وجعل لهم أيضا من جلود الأنعام بيوتا أي من الأدم يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال : { تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها } أي الغنم { وأوبارها } أي الإبل { وأشعارها } أي المعز والضمير عائد على الأنعام { أثاثا } أي تتخذون منه أثاثا وهو المال وقيل : المتاع وقيل : الثياب والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ويتخذ مالا وتجارة وقال ابن عباس : الأثاث المتاع وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة وقوله : { إلى حين } أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم
وقوله : { والله جعل لكم مما خلق ظلالا } قال قتادة : يعني الشجر { وجعل لكم من الجبال أكنانا } أي حصونا ومعاقل كما { جعل لكم سرابيل تقيكم الحر } وهي الثياب من القطن والكتان والصوف { وسرابيل تقيكم بأسكم } كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك { كذلك يتم نعمته عليكم } أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته { لعلكم تسلمون } هكذا فسره الجمهور وقرءوه بكسر اللام من { تسلمون } أي من الإسلام
وقال قتادة في قوله : { كذلك يتم نعمته عليكم } هذه السورة تسمى سورة النعم وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام عن حنظلة السدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه كان يقرؤها { تسلمون } بفتح اللام يعني من الجراح رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عباد أخرجه ابن جرير من الوجهين ورد هذه القراءة وقال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ألا ترى إلى قوله تعالى : { والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا } وما جعل من السهل أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب جبال ؟ ألا ترى إلى قوله : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين } وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر ؟ ألا ترى إلى قوله : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } لعجبهم من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } وما تقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر
وقوله : { فإن تولوا } أي بعد هذ البيان وهذا الامتنان فلا عليك منهم { فإنما عليك البلاغ المبين } وقد أديته إليهم { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره { وأكثرهم الكافرون } كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مجاهد أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } فقال الأعرابي : نعم قال : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا } الاية قال الأعرابي : نعم ثم قرأ عليه كل ذلك يقول الأعرابي : نعم حتى بلغ { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } فولى الأعرابي فأنزل الله { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } الاية (2/765)
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الاخرة وأنه يبعث من كل أمة شهيدا وهو نبيها يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى : { ثم لا يؤذن للذين كفروا } أي في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه كقوله : { هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون } فلهذا قال : { ولا هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا } أي الذين أشركوا { العذاب فلا يخفف عنهم } أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة { ولا هم ينظرون } أي لا يؤخر عنهم بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك فيشرف عنق منها على الخلائق وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا وتذكر أصنافا من الناس كما جاء في الحديث ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من الموقف كما يلتقط الطائر الحب قال الله تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا } وقال تعالى : { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا } وقال تعالى : { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون }
ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال : { وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } أي الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا { قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } أي قالت لهم الالهه : كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا كما قال تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } وقال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } وقال الخليل عليه الصلاة و السلام { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } الاية وقال تعالى : { وقيل ادعوا شركاءكم } الاية والايات في هذا كثيرة
وقوله : { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } قال قتادة وعكرمة : ذلوا واستسلموا يومئذ أي استسلموا لله جميعهم فلا أحد إلا سامع مطيع وكقوله تعالى : { أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا } أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ وقال : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا } الاية وقال : { وعنت الوجوه للحي القيوم } أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت وقوله { وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على لله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير
ثم قال تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا } الاية أي عذابا على كفرهم وعذابا على صدهم الناس عن اتباع الحق كقوله تعالى : { وهم ينهون عنه وينأون عنه } أي ينهون الناس عن اتباعه ويبتعدون هم منه أيضا { وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم كما قال تعالى : { قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سريج بن يونس حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله في قول الله : { زدناهم عذابا فوق العذاب } قال : زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال وحدثنا شريح بن يونس حدثنا إبراهيم بن سليمان حدثنا الأعمش عن الحسن عن ابن عباس في الاية أنه قال : { زدناهم عذابا فوق العذاب } قال : هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل وببعضها في النهار (2/767)
يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم : { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء } يعني أمتك أي اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع وهذه الاية شبيهة بالاية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم صدر سورة النساء فلما وصل إلى قوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ حسبك ] فقال ابن مسعود رضي الله عنه : فالتفت فإذا عيناه تذرفان
وقوله : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } قال ابن مسعود : قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء وقال مجاهد : كل حلال وكل حرام وقول ابن مسعود أعم وأشمل فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم { وهدى } أي للقلوب { ورحمة وبشرى للمسلمين } وقال الأوزاعي : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } أي : بالسنة ووجه اقتران قوله : { ونزلنا عليك الكتاب } مع قوله : { وجئنا بك شهيدا على هؤلاء } أن المراد ـ والله أعلم ـ إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك سائلك عن ذلك يوم القيامة { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } وقال تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك هذا أحد الأقوال وهو متجه حسن (2/768)
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل وهو القسط والموازنه ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } وقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقال : { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } إلى غير ذلك من الايات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إن الله يأمر بالعدل } قال : شهادة أن لا إله إلا الله وقال سفيان بن عيينة العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته
وقوله : { وإيتاء ذي القربى } أي يأمر بصلة الأرحام كما قال : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا } وقوله : { وينهى عن الفحشاء والمنكر } فالفواحش المحرمات والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها ولهذ قال في الموضع الاخر : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وأما البغي فهو العدوان على الناس وقد جاء في الحديث [ ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الاخرة من البغي وقطيعة الرحم ] وقوله : { يعظكم } أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر { لعلكم تذكرون } وقال الشعبي عن شتير بن شكل : سمعت ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الاية رواه ابن جرير وقال سعيد عن قتادة قوله : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الاية ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها ( قلت ) ولهذا جاء في الحديث [ إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ]
وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة : حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم حدثنا الحسن بن داود المنكدري حدثنا عمر بن علي المقدمي عن علي بن عبد الله بن عمير عن أبيه قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه و سلم فأراد أن يأيته فأبى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه قال : فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه و سلم فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك من أنت وما أنت ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله وأما ما أنا ؟ فأنا عبد الله ورسوله ] قال : ثم تلا عليهم هذه الاية { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الاية قالوا : اردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطا في مضر ـ أي شريفا ـ وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها فلما سمعهن أكثم قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا أذنابا وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد حدثنا شهر حدثني عبد الله بن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون فكشر إلى رسول الله فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا تجلس ؟ فقال : بلى قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم مستقبله فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم ببصره إلى السماء فنظر ساعة إلى السماء فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض فتحرف رسول الله صلى الله عليه و سلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له شخص بصر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السماء كما شخص أول مرة فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال : يامحمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة فقال : ] وما رأيتني فعلت ؟ [ قال : رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك فتحرفت إليه وتركتني فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك قال : ] وفطنت لذلك ؟ [ فقال عثمان : نعم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس [ قال : رسول الله ؟ قال ] نعم [ قال : فما قال لك ؟ قال : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الاية قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه و سلم إسناد جيد متصل حسن قد بين فيه السماع المتصل ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصرا حديث آخر عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا هريم عن ليث عن شهر بن حوشب عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم جالسا إذ شخص بصره فقال : ] أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الاية بهذا الموضع من هذه السورة { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الاية وهذا إسناد لا بأس به ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين والله أعلم (2/769)
هذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة ولهذا قال : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } ولا تعارض بين هذا وبين قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } الاية وبين قوله تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } أي لا تتركوها بلا كفارة وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة و السلام قال [ إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني ] لا تعارض بين هذا كله ولا بين الاية المذكورة ههنا وهي قوله : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع ولهذا قال مجاهد في قوله { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } يعني الحلف أي حلف الجاهلية ويؤيد ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو ابن أبي شيبة ـ حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا هو ابن أبي زائدة ـ عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة ] وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه
وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال : حالف رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك والله أعلم وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عمارة الأسدي حدثنا عبد الله بن موسى أخبرنا أبو ليلى عن فريدة في قوله : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } قال : نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه و سلم كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه و سلم على الإسلام فقال : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال : أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان وإن من أعظم الغدر ـ إلا أن يكون الإشراك بالله ـ أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله ثم ينكث بيعته فلا يخلعن أحد منكم يدا ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر فيكون صيلم بيني وبينه ] المرفوع منه في الصحيحين وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن عباس عن أبيه عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به فهو كالمدلي جاره إلى غير منفعة ]
وقوله : { إن الله يعلم ما تفعلون } تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها وقوله { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } قال عبد الله بن كثير والسدي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده وهذا القول أرجح وأظهر سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا وقوله : { أنكاثا } يحتمل أن يكون اسم مصدر { نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } أي أنقاضا ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان أي لا تكونوا أنكاثا جمع نكث من ناكث ولهذا قال بعده : { تتخذون أيمانكم دخلا بينكم } أي خديعة ومكرا { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم فنهى الله عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى
وقد قدمنا ـ ولله الحمد ـ في سورة الأنفال قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد فسار معاوية إليهم في آخر الأجل حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون فقال له عمرو بن عبسة : الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدر سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها ] فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش قال ابن عباس : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي أكثر وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز فنهوا عن ذلك وقال الضحاك وقتادة وابن زيد نحوه وقوله : { إنما يبلوكم الله به } قال سعيد بن جبير : يعني بالكثرة رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير : أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر (2/770)
يقول الله تعالى : { ولو شاء الله لجعلكم } أيها الناس { أمة واحدة } كقوله تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافا ولا تباغض ولا شحناء { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } وهكذا قال ههنا : { ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء } ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرا لئلا تزل قدم بعد ثبوتها مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام ولهذا قال { وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم }
ثم قال تعالى : { ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا } أي لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها فإنها قليلة ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده ولهذا قال : { إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد } أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه { وما عند الله باق } أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له فإنه دائم لا يحول ولا يزول { ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } قسم من الرب تعالى مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم أي ويتجاوز عن سيئها (2/772)
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الاخرة والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أنها هي السعادة وقال الحسن ومجاهد وقتادة : لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا وقال الضحاك أيضا : هي العمل بالطاعة والانشراح بها والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني شرحبيل بن أبي شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ] ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانىء عن أبي علي الجنبي عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به ] وقال الترمذي : هذا حديث صحيح وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الاخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الاخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا ] انفر بإخراجه مسلم (2/772)
هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم وهذا أمر ندب ليس بواجب حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ولله الحمد والمنة والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارىء قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة واحتجا بهذه الاية ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضا ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي والصحيح الأول لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة والله أعلم
وقوله : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه وقال آخرون : معناه لا حجة له عليهم وقال آخرون كقوله : { إلا عبادك منهم المخلصين } { إنما سلطانه على الذين يتولونه } قال مجاهد : يطيعونه وقال آخرون : اتخذوه وليا من دون الله { والذين هم به مشركون } أي أشركوا في عبادة الله تعالى أي أشركوه في عبادة الله ويحتمل أن تكون الباء سببة أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى وقال آخرون : معناه أنه شركهم في الأموال والأولاد (2/773)
يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم : { إنما أنت مفتر } أي كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقال مجاهد : { بدلنا آية مكان آية } أي رفعناها وأثبتنا غيرها وقال قتادة : هو كقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } الاية فقال تعالى مجيبا لهم { قل نزله روح القدس } أي جبريل { من ربك بالحق } أي بالصدق والعدل { ليثبت الذين آمنوا } فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا وتخبت له قلوبهم { وهدى وبشرى للمسلمين } أي وجعله هاديا وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله (2/774)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمدا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض بطون قريش وكان بياعا يبيع عند الصفا وربما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه فلهذا قال الله تعالى : رادا عليهم في افترائهم ذلك { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } أي القرآن أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني أرسل كيف يتعلم من رجل أعجمي ؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فيما بلغني ـ كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر عبد لبعض بني الحضرمي فأنزل الله { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } وكذا قال عبد الله بن كثير وعن عكرمة وقتادة : كان اسمه يعيش وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن محمد الطوسي حدثنا أبو عامر حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مسلم بن عبد الله الملائي عن مجاهد عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم قينا بمكة وكان اسمه بلعام وكان أعجمي اللسان وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا : إنما يعلمه بلعام فأنزل الله هذه الاية { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } وقال الضحاك بن مزاحم : هو سلمان الفارسي وهذا القول ضعيف لأن هذه الاية مكية وسلمان إنما أسلم بالمدينة وقال عبيد الله بن مسلم : كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا لهما بلسانهما فكان النبي صلى الله عليه و سلم يمر بهما فيقوم فيسمع منهما فقال المشركون : يتعلم منهما فأنزل الله هذه الاية وقال الزهري عن سعيد بن المسيب : الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فارتد بعد ذلك عن الإسلام وافترى هذه المقالة قبحه الله (2/774)
يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله صلى الله عليه و سلم ولم يكن له قصد إلى الايمان بما جاء من عند الله فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الايمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا ولهم عذاب أليم موجع في الاخرة ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه و سلم ليس بمفتر ولا كذاب لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه و سلم شرار الخلق { الذين لا يؤمنون بآيات الله } من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس والرسول محمد صلى الله عليه و سلم كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا معروفا بالصدق في قومه لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمد صلى الله عليه و سلم ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم كان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا فقال هرقل : فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز و جل (2/775)
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر وشرح صدره بالكفر واطمأن به أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه وأن لهم عذابا عظيما في الدار الاخرة لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق فطبع على قلوبهم فهم لا يعقلون بها شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ولا أغنت عنهم شيئا فهم غافلون عما يراد بهم { لا جرم } أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته { أنهم في الآخرة هم الخاسرون } أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ـ وأما قوله : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله
وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الاية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم فوافقهم على ذلك مكرها وجاء معتذرا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله هذه الاية وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كيف تجد قلبك ؟ ] قال : مطمئنا بالإيمان قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن عادوا فعد ] ورواه البيهقي بأبسط من ذلك وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه و سلم وذكر آلهتهم بخير فشكا ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يارسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير قال : [ كيف تجد قلبك ؟ ] قال : مطمئنا بالإيمان فقال [ إن عادوا فعد ] وفي ذلك أنزل الله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول : أحد أحد ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها رضي الله عنه وأرضاه وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول : نعم فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق ناسا ارتدوا عن الأسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لم أكن لأحرقهم بالنار إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تعذبوا بعذاب الله ] وكنت أقاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] فبلغ ذلك عليا فقال : ويح أم ابن عباس رواه البخاري
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن أيوب عن حميد بن هلال العدوي عن أبي بردة قال : قدم على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن فإذا رجل عنده قال : ما هذا ؟ قال : رجل كان يهوديا فأسلم ثم تهود ونحن نريده على الإسلام منذ قال أحسبه شهرين فقال : والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه فضربت عنقه فقال : قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه أو قال : [ من بدل دينه فاقتلوه ] وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه و سلم طرفة عين ما فعلت فقال : إذا أقتلك فقال : أنت وذاك قال : فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى ثم أمر به فأنزل ثم أمر بقدر وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح وعرض عليه فأبى فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه ودعاه فقال : إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياما ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما إنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشمتك بي فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك فقال : وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال : نعم فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما (2/775)
هؤلاء صنف آخر كانو مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه وانتظموا في سلك المؤمنين وجاهدوا معهم الكافرين وصبروا فأخبر تعالى أنه من بعدها أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم { يوم تأتي كل نفس تجادل } أي تحاج { عن نفسها } ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة { وتوفى كل نفس ما عملت } أي من خير وشر { وهم لا يظلمون } أي لا ينقص من ثواب الخير ولا يزاد على ثواب الشر ولا يظلمون نقيرا (2/777)
هذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمنا لا يخاف كما قال تعالى : { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا } وهكذا قال ههنا : { يأتيها رزقها رغدا } أي هنيئا سهلا { من كل مكان فكفرت بأنعم الله } أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه و سلم إليهم كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار } ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأيتها رزقها رغدا من كل مكان وذلك لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه
وقوله : { والخوف } وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه وجعل كل ما لهم في دمار وسفال حتى فتحها الله على رسوله صلى الله عليه و سلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه و سلم الذي بعثه الله فيهم منهم وامتن به عليهم في قوله : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } الاية وقوله تعالى : { فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا } الاية وقوله : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن وجاعوا بعد الرغد فبدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ورزقهم بعد العيلة وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله العوفي عن ابن عباس وإليه ذهب مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله
وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرحيم البرقي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد حدثنا عبد الرحمن بن شريح أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه أنه سمع مشرح بن هاعان يقول : سمعت سليم بن عتر يقول : صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صلى الله عليه و سلم وعثمان رضي الله عنه محصور بالمدينة فكانت تسأل عنه ما فعل ؟ حتى رأت راكبين فأرسلت إليهما تسألهما فقالا : قتل فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها القرية ـ تعني المدينة ـ التي قال الله تعالى : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله } قال ابن شريح : وأخبرني عبيد الله بن المغيرة عمن حدثه أنه كان يقول إنها المدينة (2/777)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك فإنه المنعم المتفضل به ابتداء الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة والدم ولحم الخنزير { وما أهل لغير الله به } أي ذبح على غير اسم الله ومع هذا { فمن اضطر } إليه أي احتاج من غير بغي ولا عدوان { فإن الله غفور رحيم } وقد تقدم الكلام على مثل هذه الاية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته ولله الحمد
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم فقال : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي أو حلل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه وما في قوله : { لما تصف } مصدرية أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ثم توعد على ذلك فقال : { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } أي في الدنيا ولا في الاخرة أما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الاخرة فلهم عذاب أليم كما قال : { نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } وقال { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } (2/778)
لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما أرخص فيه عند الضرورة ـ وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسرى ولا يريد بها العسرى ـ ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها وما كانوا فيه من الاصار والتضييق والأغلال والحرج فقال : { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } أي في سورة الأنعام في قوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } ولهذا قال ههنا : { وما ظلمناهم } أي فيما ضيقنا عليهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } أي فاستحقوا ذلك كقوله : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا } ثم أخبر تعالى تكرما وامتنانا في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه فقال : { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة } قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل { ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات { إن ربك من بعدها } أي تلك الفعلة والزلة { لغفور رحيم } (2/779)
يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية فقال : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا } فأما الأمة : فهو الإمام الذي يقتدى به والقانت : هو الخاشع المطيع والحنيف : المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد ولهذا قال : { ولم يك من المشركين } قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيدين : أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت فقال : الأمة معلم الخير والقانت : المطيع لله ورسوله وعن مالك قال : قال ابن عمر : الأمة الذي يعلم الناس دينهم وقال الأعمش عن يحيى بن الجزار عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال : من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال : أخبرني عن الأمة فقال : الذي يعلم الناس الخير
وقال الشعبي : حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود : إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن وقال إنما قال الله : { إن إبراهيم كان أمة } فقال : أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت : الله أعلم فقال : الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله ورسوله وكذلك كان معاذ وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود أخرجه ابن جرير وقال مجاهد : أمة أي أمة وحده والقانت المطيع وقال مجاهد أيضا : كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار وقال قتادة : كان إمام هدى والقانت المطيع لله وقوله : { شاكرا لأنعمه } أي قائما بشكر نعم الله عليه كقوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفى } أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به
وقوله : { اجتباه } أي اختاره واصطفاه كقوله : { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين } ثم قال : { وهداه إلى صراط مستقيم } وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي وقوله : { وآتيناه في الدنيا حسنة } أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } وقال مجاهد في قوله : { وآتيناه في الدنيا حسنة } أي لسان صدق وقوله : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك ياخاتم الرسل وسيد الأنبياء { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } كقوله في الأنعام : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } ثم قال تعالى منكرا على اليهود (2/779)
لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوما من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده ويقال : إن الله تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى فعدلوا عنه واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى الله عليه و سلم إذا بعثه وأخذه مواثيقهم وعهودهم على ذلك ولهذا قال تعالى : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } قال مجاهد : اتبعوه وتركوا الجمعة ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به حتى بعث الله عيسى ابن مريم فيقال : إنه حولهم إلى يوم الأحد ويقال إنه لم يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها وإنه لم يزل محافظا على السبت حتى رفع وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد مخالفة لليهود وتحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة والله أعلم
وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول لله صلى الله عليه و سلم قال : [ نحن الاخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع : اليهود غدا والنصارى بعد غد ] لفظ البخاري وعن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الاخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة والمقضى بينهم قبل الخلائق ] رواه مسلم (2/780)
يقول تعالى آمرا رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة قال ابن جرير : وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة { والموعظة الحسنة } أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى وقوله : { وجادلهم بالتي هي أحسن } أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } الاية فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله : { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى }
وقوله : { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } الاية أي قد علم الشقي منهم والسعيد وكتب ذلك عنده وفرغ منه فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب { إنك لا تهدي من أحببت } { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } (2/781)
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى : { فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } إن أخذ منكم رجل شيئا فخذوا مثله وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير وقال ابن زيد : كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا : يارسول الله لو أذن الله لنا لا نتصرنا من هؤلاء الكلاب فنزلت هذه الاية ثم نسخ ذلك بالجهاد
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلا منهم ] فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فأنزل الله { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } إلى آخر السورة وهذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم
وقد روي هذا من وجه آخر متصل فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسن بن يحيى حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه و سلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه أو قال لقلبه فنظر إليه وقد مثل به فقال : [ رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولا للرحم فعولا للخيرات والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع ـ أو كلمة نحوها ـ أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك ] فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه و سلم بهذه السورة وقرأ { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } إلى آخر الاية فكفر رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك وهذا إسناد فيه ضعف لأن صالحا هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة وقال البخاري : هو منكر الحديث وقال الشعبي وابن جريج : نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي حدثنا الفضل بن موسى حدثنا عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم فنادى مناد : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا ـ ناسا سماهم ـ فأنزل الله تبارك وتعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } إلى آخر السورة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نصبر ولا نعاقب ] وهذه الاية الكريمة لها أمثال في القرآن فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ثم قال : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } الاية وقال : { والجروح قصاص } ثم قال { فمن تصدق به فهو كفارة له } وقال في هذه الاية : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ثم قال { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين }
وقوله تعالى : { واصبر وما صبرك إلا بالله } تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته وحوله وقوته ثم قال تعالى : { ولا تحزن عليهم } أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك { ولا تك في ضيق } أي غم { مما يمكرون } أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم وقوله : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } وقوله لموسى وهارون : { لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } وقول النبي صلى الله عليه و سلم للصديق وهما في الغار : [ لا تحزن إن الله معنا ] وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم كقوله تعالى : { وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } وكقوله تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } وكما قال تعالى : { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا } الاية ومعنى { الذين اتقوا } أي تركوا المحرمات { والذين هم محسنون } أي فعلوا الطاعات فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب : كان عثمان رضي الله عنه من الذين اتقوا والذين هم محسنون
آخر تفسير سورة النحل ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما (2/781)
تفسير سورة الإسراء وهي مكية
قال الإمام الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري : حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد سمعت ابن مسعود رضي الله عنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا حماد بن زيد عن مروان أبي لبابة سمعت عائشة تقول : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم وكان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر ]
بسم الله الرحمن الرحيم (3/5)
يمجد تعالى نفسه ويعظم شأنه لقدرته على ما لايقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره ولا رب سواه { الذي أسرى بعبده } يعني محمدا صلى الله عليه و سلم { ليلا } أي في جنح الليل { من المسجد الحرام } وهو مسجد مكة { إلى المسجد الأقصى } وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم فدل على أنه هو الإمام الأعظم والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله تعالى : { الذي باركنا حوله } أي في الزروع والثمار { لنريه } أي محمدا { من آياتنا } أي العظام كما قال تعالى : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه صلى الله عليه و سلم وقوله تعالى : { إنه هو السميع البصير } أي السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم مصدقهم ومكذبهم البصير بهم فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والاخرة (3/5)
قال الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثني عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان ـ هو ابن بلال ـ عن شريك بن عبد الله قال : [ سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم من مسجد الكعبة : إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم فقال آخرهم : خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ـ وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ـ فلم يكلموه حتى يحتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيمانا وحكمة فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه ـ ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء : من هذا ؟ فقال : جبريل قالوا : ومن معك ؟ قال : معي محمد قالوا : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم قالوا : فمرحبا به وأهلا يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلم عليه ورد عليه آدم فقال : مرحبا وأهلا بابني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال : ما هذان النهران يا جبريل ؟ قال : هذان النيل والفرات عنصرهما
ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأه لك ربك ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى : من هذا ؟ قال : جبريل قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه و سلم قالوا : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم قالوا : مرحبا به وأهلا ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية ثم عرج به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى فقال موسى : رب لم أظن أن يرفع علي أحد ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عز و جل حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال : يا محمد ماذا عهد إليك ربك ؟ قال : عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلى الله عليه و سلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس فقال وهو في مكانه : يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يرده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه و سلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا فقال الجبار تبارك وتعالى : يا محمد قال لبيك وسعديك قال : إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال : كيف فعلت ؟ فقال خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها قال موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا موسى قد والله استحييت من ربي عز و جل مما أختلف إليه قال : فاهبط باسم الله ]
قال : واستيقظ وهو في المسجد الحرام هكذا ساقه البخاري في كتاب التوحيد ورواه في صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد عن سليمان بن بلال ورواه مسلم عن هارون بن سعيد عن ابن وهب عن سليمان قال فزاد ونقص وقدم وأخر وهو كما قال مسلم فإن شريك بن عبد الله بن أبي نمر اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه ولم يضبطه كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الأحاديث الأخر ومنهم من يجعل هذا مناما توطئة لما وقع بعد ذلك والله أعلم وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي في حديث شريك زيادة تفرد بها على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه و سلم رأى الله عز و جل يعني قوله { ثم دنا } الجبار رب العزة { فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى } قال وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الايات على رؤيته جبريل أصح وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق فإن أبا ذر قال : [ يا رسوله الله هل رأيت ربك ؟ قال : نور أنى أراه ] وفي رواية : [ رأيت نورا ] أخرجه مسلم وقوله : { ثم دنا فتدلى } إنما هو جبريل عليه السلام كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين وعن ابن مسعود وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الاية بهذا
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبت فسار بي حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل : أصبت الفطرة قال : ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل له من أنت ؟ قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرح بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت قال : جبريل فقيل ومن معك فقال محمد فقيل وقد أرسل له قال قد أرسل له ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير ثم يقول الله تعالى : { ورفعناه مكانا عليا } ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل من أنت ؟ قال جبريل فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد فقيل : قد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل من أنت ؟ قال جبريل قيل ومن معك ؟ قال : محمد فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل من أنت ؟ قال : جبريل قيل ومن معك ؟ قال : محمد فقيل وقد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام وإذا هو مستند إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها
قال : فأوحى الله إلي ما أوحى وقد فرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى قال ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت خمسين صلاة في كل يوم وليلة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال فرجعت إلى ربي فقلت أي رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال ما فعلت ؟ فقلت قد حط عني خمسا فقال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمسا خمسا حتى قال : يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن علمها كتبت عشرا ومن هم بسيئة فلم يعلمها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت ] ورواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة بهذا السياق وهو أصح من سياق شريك
قال البيهقي : وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به عليه الصلاة و السلام من مكة إلى بيت المقدس وهذا الذي قاله هو الحق الذي لاشك فيه ولا مرية وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجا ملجما ليركبه فاستصعب عليه فقال له جبريل : ما يحملك على هذا فوالله ما ركبك قط أكرم على الله منه ؟ قال : فارفض عرقا ] ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني راشد بن سعيد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما عرج بي إلى ربي عز و جل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ] وأخرجه أبو داود من حديث صفوان بن عمرو به ومن وجه آخر ليس فيه أنس فالله أعلم وقال أيضا : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مررت ليلة أسري بي على موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ]
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن سليمان بن طرخان التيمي وثابت البناني كلاهما عن أنس قال النسائي : هذا أصح من رواية من قال سليمان عن ثابت عن أنس وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن التيمي عن أنس قال : أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن النبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به مر على موسى وهو يصلي في قبره وقال أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة حدثنا معتمر عن أبيه قال : سمعت أنسا أن النبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به مر بموسى وهو يصلي في قبره قال أنس ذكر أنه حمل على البراق فأوثق الدابة أو قال الفرس قال أبو بكر : [ صفها لي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هي كذه وذه فقال : أشهد أنك رسول الله ] وكان أبو بكر رضي الله عنه قد رآها وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده : حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن منصور حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الاخر فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاط فعرفت فضل علمه بالله علي وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت وأوحي إلي ما شاء الله أن يوحى ] ثم قال ولا نعلم روى هذا الحديث إلا أنس ولا نعلم رواه عن أبي عمران الجوني إلا الحارث بن عبيد وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة
ورواه الحافظ البيهقي في الدلائل عن أبي بكر القاضي عن أبي جعفر محمد بن علي بن دحيم عن محمد بن الحسين بن أبي الحسين عن سعيد بن منصور فذكره بسنده مثله ثم قال وقال غيره في هذا الحديث في آخره ولط دوني أو قال دون الحجاب رفرف الدر والياقوت ثم قال هكذا رواه الحارث بن عبيد ورواه حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن محمد بن عمير بن عطارد أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في ملإ من أصحابه فجاءه جبريل فنكت في ظهره فذهب به إلى الشجرة وفيها مثل وكري الطير فقعد في أحدهما وقعد جبريل في الاخر فنشأت بنا حتى بلغت الأفق فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها فدلي بسبب وهبط النور فوقع جبريل مغشيا عليه كأنه حلس فعرفت فضل خشيته على خشيتي فأوحي إلي نبيا : ملكا أو نبيا عبدا وإلى الجنة ما أنت فأومأ إلي جبريل وهو مضطجع أن تواضع قال قلت لا بل نبيا عبدا قلت وهذا إن صح يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس ولا الصعود إلى السماء فهي كائنة غير ما نحن فيه والله أعلم وقال البزار أيضا : حدثنا عمرو بن عيسى حدثنا أبو بحر حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس أن محمدا صلى الله عليه و سلم رأى ربه عز و جل وهذا غريب
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يونس حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال : [ لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبراق فكأنها حركت ذنبها فقال لها جبريل مه يا براق فوالله ما ركبك مثله وسار رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هو بعجوز على جانب الطريق فقال : ما هذه يا جبريل ؟ قال : سر يا محمد قال فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق فقال هلم يا محمد فقال له جبريل : سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير قال فلقيه خلق من خلق الله فقالوا السلام عليك ( يا أول ) السلام عليك ( يا آخر ) السلام عليك يا حاشر فقال له جبريل اردد السلام يا محمد فرد السلام ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى ثم الثالثة كذلك حتى انتهى إلى بيت المقدس فعرض عليه الخمر والماء واللبن فتناول رسول الله صلى الله عليه و سلم اللبن فقال له جبريل أصبت الفطرة ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ولو شربت الخمر لغويت ولغوت أمتك ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم السلام فأمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الليلة ثم قاله له جبريل : أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا كما بقي من عمر تلك العجوز وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ] وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن وهب وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة
( طريق أخرى ) عن أنس بن مالك وفيها غرابة ونكارة جدا وفي سنن النسائي والمجتبى ولم أرها في الكبير قال : حدثنا عمرو بن هشام حدثنا مخلد هو ابن الحسين عن سعيد بن عبد العزيز حدثنا يزيد بن أبي مالك حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوها عند منتهى طرفها فركبت ومعي جبريل عليه السلام فسرت فقال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت بطيبة وإليها المهاجر ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام فقدمني جبريل عليه السلام حتى أممتهم ثم صعد بي إلى السماء الدنيا فإذا فيها آدم عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها يوسف عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها هارون عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها إدريس عليه السلام
ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها موسى عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا فيها إبراهيم عليه السلام ثم صعدبي فوق سبع سموات وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة فخررت ساجدا فقيل لي إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك فرجعت بذلك حتى أمر بموسى عليه السلام فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال فإنك لا تستطيع أن تقوم بها لا أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فرجعت إلى ربي فخفف عني عشرا ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع فرجعت فخفف عني عشرا ثم ردت إلى خمس صلوات قال فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما فرجعت إلى ربي عز و جل فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك قال فعرفت أنها من الله عز و جل صري فرجعت إلى موسى عليه السلام فقال ارجع فعرفت أنها من الله عز و جل صرى ـ يقول أي حتم ـ فلم أرجع ]
( طريق أخرى ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : [ لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل حمله جبريل عليها ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها فلما بلغ بيت المقدس وبلغ المكان الذي يقال له باب محمد صلى الله عليه و سلم أتى إلى الحجر الذي ثمة فغمزه جبريل بأصبعه فثقبه ثم ربطها ثم صعد فلما استويا في صرحة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين ؟ فقال نعم فقال فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن وهن جلوس عن يسار الصخرة قال : فأتيتهن فسلمت عليهن فرددن علي السلام فقلت من أنتن ؟ فقلن : نحن خيرات حسان نساء قوم أبرار نقوا فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظعنوا وخلدوا فلم يموتوا قال ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة قال فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا فأخذ بيدي جبريل عليه السلام فقدمني فصليت بهم فلما انصرفت قال جبريل : يا محمد أتدري من صلى خلفك ؟ ـ قال ـ قلت لا ـ قال صلى خلفك كل نبي بعثه الله عز و جل
قال : ثم أخذ بيدي جبريل فصعد بي إلى السماء فلما انتهينا إلى الباب استفتح فقالوا من أنت ؟ قال أنا جبريل قالوا ومن معك ؟ قال محمد قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم ـ قال ـ ففتحوا له وقالوا مرحبا بك وبمن معك ـ قال ـ فلما استوى على ظهرها إذا فيها آدم فقال لي جبريل يا محمد ألا تسلم على أبيك آدم ـ قال ـ قلت بلى فأتيته فسلمت عليه فرد علي وقال مرحبا بابني الصالح والنبي الصالح ـ قال ـ ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم ففتحوا له وقال مرحبا بك وبمن معك فإذا فيها عيسى وابن خالته يحيى عليهما السلام ـ قال ـ ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قالوا من أنت ؟ قال جبريل قالوا ومن معك ؟ قال محمد قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم ففتحوا له وقالوا مرحبا بك وبمن معك فإذا فيها يوسف عليه السلام ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا من أنت ؟ قال جبريل فقالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم ـ قال ـ ففتحوا له وقالوا مرحبا بك وبمن معك فإذا فيها إدريس عليه السلام ـ قال ـ فعرج بي إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم ـ قال ـ ففتحوا وقالوا مرحبا بك وبمن معك وإذا فيها هارون عليه السلام
ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم ـ قال ـ ففتحوا وقالوا مرحبا بك وبمن معك وإذا فيها موسى عليه السلام ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت ؟ قال جبريل قالوا ومن معك ؟ قال محمد قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم ففتحوا له وقالوا مرحبا بك وبمن معك وإذا فيها إبراهيم عليه السلام فقال جبريل يا محمد ألا تسلم على أبيك إبراهيم ؟ قلت بلى فأتيته فسلمت عليه فرد علي السلام وقال مرحبا بابني الصالح والنبي الصالح ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى بي إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وعليه طير أخضر أنعم طير رأيت فقلت يا جبريل إن هذا الطير لناعم قال يا محمد آكله أنعم منه ثم قال يا محمد أتدري أي نهر هذا ـ قال ـ قلت لا قال هذا الكوثر الذي أعطاك الله أياه فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد ماؤه أشد بياضا من اللبن ـ قال ـ فأخذت من آنيته آنية من الذهب فاغترفت من ذلك الماء فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك
ثم انطلق بي حتى انتهيت إلى الشجرة فغشيتني سحابة فيها من كل لون ( فرفضني ) جبريل وخررت ساجدا لله عز و جل فقال الله لي : يا محمد إني يوم خلقت السموات والأرض افترضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك ـ قال ـ ثم انجلت عني السحابة فأخذ بيدي جبريل فانصرفت سريعا فأتيت على إبراهيم فلم يقل شيئا ثم أتيت على موسى فقال ما صنعت يا محمد ؟ فقلت فرض ربي علي وعلى أمتي خمسين صلاة قال فلن تستطيعها أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك فرجعت سريعا حتى انتهيت إلى الشجرة فغشيتني السحابة ورفضني جبريل وخررت ساجدا وقلت ربي إنك فرضت علي وعلى أمتي خمسين صلاة ولن أستطيعها أنا ولا أمتي فخفف عنا قال وضعت عنكم عشرا ـ قال ـ ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل ـ قال ـ فانصرفت سريعا حتى أتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئا ثم أتيت على موسى فقال لي ما صنعت يا محمد ؟ فقلت وضع عني ربي عشرا قال فأربعون صلاة لن تستطيعها أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنكم فذكر الحديث كذلك إلى خمس صلوات وخمس بخمسين ثم أمره موسى أن يرجع فيسأله التخفيف فقال إني استحييت منه تعالى ]
قال ثم انحدر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لجبريل : [ ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا لي غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي ولم يضحك لي قال : يا محمد ذاك مالك خازن جهنم لم يضحك منذ خلق ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك قال ثم ركب منصرفا فبينا هو في بعض الطريق مر بعير لقريش تحمل طعاما منها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فلما حاذى بالعير نفرت منه واستدارت وصرع ذلك البعير وانكسر ثم إنه مضى فأصبح فأخبر عما كان ] فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا يا أبا بكر هل لك في صاحبك ؟ يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ورجع في ليلته فقال أبو بكر رضي الله عنه إن كان قاله فقد صدق وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا لنصدقه على خبر السماء فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما علامة ما تقول قال مررت بعير لقريش وهي في مكان كذا وكذا فنفرت الإبل منا واستدارت وفيها بعير عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فصرع فانكسر فلما قدمت العير سألوهم فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن ذلك سمي أبو بكر الصديق وسألوه وقالوا هل كان فيمن حضر معك موسى وعيسى ؟ قال نعم قالوا فصفهم لنا قال : أما موسى فرجل آدم كأنه من رجال أزد عمان وأما عيسى فرجل ربعة سبط تعلوه حمرة كأنما يتحادر من شعره الجمان ] هذا سياق فيه غرائب عجيبة (3/5)
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا همام قال : سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك أن مالك بن صعصعة حدثه أن نبي الله صلى الله عليه و سلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : [ بينما أنا في الحطيم ـ وربما قال قتادة في الحجر ـ مضطجعا إذ أتاني آت فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة ـ قال ـ فأتاني فقد ـ سمعت قتادة يقول فشق ـ ما بين هذه إلى هذه وقال قتادة فقلت للجارود وهو إلى جنبي : ما يعني ؟ قال : من ثغرة نحره إلى شعرته وقد سمعته يقول من قصته إلى شعرته قال : فاستخرج قلبي ـ قال ـ فأتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض قال فقال الجارود : هو البراق يا أبا حمزة ؟ قال نعم يقع خطوه عند أقصى طرفه قال : فحملت عليه فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى بي إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أوقد أرسل إليه ؟ قال نعم فقيل : مرحبا به ولنعم المجيء عليه ـ قال ـ فتح لنا فلما خلصت فإذا فيها آدم عليه السلام قال هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح فقيل من هذا ؟ فقال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء قال ففتح لنا فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا الخالة قال هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما ـ قال ـ فسلمت عليهما فردا السلام ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح فقيل من هذا ؟ فقال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ـ قال ـ قال ففتح لنا فلما خلصت فإذا إذا يوسف عليه السلام قال هذا يوسف ـ قال ـ فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ـ قال ـ ففتح لنا فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام قال هذا إدريس قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ـ قال ـ ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ففتح لنا فلما خلصت فإذا هارون عليه السلام قال هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ـ قال ـ ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ففتح لنا فلما خلصت فإذا بموسى عليه السلام قال هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ـ قال ـ فلما تجاوزته بكى قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي قال ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أو قد بعث إليه ؟ قال نعم قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ففتح لنا فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام فقال هذا إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ـ قال ـ ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة فقال هذه سدرة المنتهى قال وإذا أربعة أنهار : نهران باطنان ونهران ظاهران فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ـ قال ـ ثم رفع إلى البيت المعمور ]
قال قتادة : وحدثنا الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفا ثم لا يعودون فيه ثم رجع إلى حديث أنس قال : [ ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل ـ قال ـ فأخذت اللبن قال هذه الفطرة أنت عليها وأمتك ـ قال ـ ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم ـ قال ـ فنزلت حتى أتيت موسى فقال ما فرض ربك على أمتك ؟ قال فقلت خمسين صلاة كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة وإني خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ فرجعت فوضع عني عشرا ـ قال ـ فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت ؟ قلت بأربعين صلاة كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ فرجعت فوضع عشرا أخر فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت ؟ فقلت أمرت بثلاثين صلاة قال إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ فرجعت فوضع عشرا أخر فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت ؟ فقلت أمرت بعشرين صلاة كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ فرجعت فوضع عشرا عني أخر فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت ؟ فقلت أمرت بعشر صلوات كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى فقال بما أمرت قال أمرت بخمس صلوات كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ قلت قد سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم فنفذت فنادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ] وأخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة بنحوه (3/12)
قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فلما جئت إلى السماء قال جبريل لخازن السماء : افتح قال : من هذا ؟ قال : جبريل قال هل معك أحد ؟ قال : نعم معي محمد صلى الله عليه و سلم فقال : أرسل إليه ؟ قال : نعم فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قال : قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها افتح فقال له خازنها مثل ما قاله الأول ففتح ] قال أنس فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السادسة قال أنس : [ فلما مر جبريل والنبي صلى الله عليه و سلم بإدريس قال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فقلت : من هذا ؟ قال : إدريس ثم مررت بموسى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فقلت : من هذا ؟ قال : هذا موسى ثم مررت بعيسى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت : من هذا ؟ قال : هذا عيسى ثم مررت بإبراهيم فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت : من هذا ؟ قال : هذا إبراهيم ] قال الزهري : فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه و سلم [ ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ]
قال ابن حزم وأنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ففرض الله على أمتي خمسين صلاة فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام فقال : ما فرض الله على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة قال موسى : فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت : وضع شطرها فقال : ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فوضع شطرها فرجعت إليه فقال : ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعته فقال : هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك قلت : قد استحييت من ربي ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها من المسك ] وهذا لفظ البخاري في كتاب الصلاة ورواه في ذكر بني إسرائيل وفي الحج وفي أحاديث الأنبياء من طرق أخرى عن يونس به ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان منه عن حرملة عن ابن وهب عن يونس به نحوه
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم لسألته قال : وما كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله : هل رأى ربه ؟ فقال : إني قد سألته فقال : قد رأيته نورا أنى أراه هكذا قد وقع في رواية الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم هل رأيت ربك ؟ قال : نور أنى أراه ] وعن محمد بن بشار عن معاذ بن هشام : حدثنا أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم لسألته فقال : عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال رأيت نورا (3/14)
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن إسحاق بن محمد المسيني حدثنا أنس بن عياض حدثنا يونس بن يزيد قال : قال ابن شهاب : قال أنس بن مالك : كان أبي بن كعب يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جاء السماء الدنيا إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه تبسم وإذا نظر قبل يساره بكى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قال : قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل يمينه هم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله هم أهل النار فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى ـ قال ـ ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها : افتح فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح له ] قال أنس : فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وإبراهيم وعيسى ولم يثبت لي كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم عليه السلام في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة قال أنس : [ فلما مر جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه و سلم بإدريس قال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قال قلت من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا إدريس ـ قال ثم مررت بموسى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فقلت من هذا ؟ قال : موسى ثم مررت بعيسى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا ؟ قال : هذا عيسى ابن مريم ـ قال ـ ثم مررت بإبراهيم فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت : من هذا ؟ قال : هذا إبراهيم ]
قال ابن شهاب : وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع صريف الأقلام ] قال ابن حزم وأنس بن مالك : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض الله على أمتي خمسين صلاة قال : فرجعت بذلك حتى أمر على موسى فقال موسى : ماذا فرض ربك على أمتك ؟ قلت : فرض عليهم خمسين صلاة فقال لي موسى : راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال : فراجعت ربي فوضع شطرها فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فقال : هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي قال : فرجعت إلى موسى فقال راجع ربك فقلت : قد استحييت من ربي قال : ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى قال : فغشيها ألوان ما أدري ما هي قال : ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ] هكذا رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وليس هو في شيء من الكتب الستة وقد تقدم في الصحيحين من طريق يونس عن الزهري عن أبي ذر مثل هذا السياق سواء فالله أعلم (3/15)
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل ويعقوب بن إبراهيم واللفظ له قالا : حدثنا أبو نميلة حدثنا الزبير بن جنادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كان ليلة أسري بي ـ قال ـ فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس ـ قال ـ فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق ] ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو نميلة ولا نعلم هذا الحديث إلا عن بريدة وقد رواه الترمذي في التفسير من جامعه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي به وقال غريب (3/16)
قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال : قال أبو سلمة : سمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه ] أخرجاه في الصحيحين من طرق عن حديث الزهري به وقال البيهقي : حدثنا أحمد بن الحسن القاضي حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا العباس بن محمد الدوري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى وأنه أتي بقدحين : قدح من لبن وقدح من خمر فنظر إليهما ثم أخذ قدح اللبن فقال جبريل : أصبت هديت للفطرة لو أخذت الخمر لغوت أمتك ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه ] وقال ابن شهاب : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : فتجهز أو كلمة نحوها ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا : هل لك في صاحبك يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة ؟ فقال أبو بكر : أو قال ذلك ؟ قالوا : نعم قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا : فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ؟ قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء قال أبو سلمة : فبها سمي أبو بكر الصديق قال أبو سلمة : فسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث [ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه ] (3/16)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا سليمان عن شيبان عن عاصم عن زر بن حبيش قال : أتيت على حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو يحدث عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه و سلم وهو يقول : فانطلقا حتى أتيا بيت المقدس فلم يدخلاه قال : قلت : بل دخله رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلتئذ وصلى فيه قال : ما اسمك يا أصلع ؟ فأنا أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك قال : قلت أنا زر بن حبيش قال : فما علمك بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى فيه ليلتئذ ؟ قال : قلت القرآن يخبرني بذلك قال : فمن تكلم بالقرآن فلج اقرأ قال : فقلت : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } قال : يا أصلع هل تجد صلى فيه ؟ قلت : لا قال : والله ما صلى فيه رسول الله ليلتئذ لو صلى فيه لكتبت عليكم صلاة فيه كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة والنار ووعد الاخرة أجمع ثم عادا عودهما على بدئهما قال : ثم ضحك حتى رأيت نواجذه قال : ويحدثونه أنه ربطه لا يفر منه وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة قلت : يا عبد الله أي دابة البراق ؟ قال : دابة أبيض طويل هكذا خطوه مد البصر ورواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن عاصم به ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث عاصم وهو ابن أبي النجود به وقال الترمذي : حسن وهذا الذي قاله حذيفة رضي الله عنه وما أثبته غيره عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من ربط الدابة بالحلقة ومن الصلاة ببيت المقدس مما سبق وما سيأتي مقدم على قوله والله أعلم بالصواب (3/17)
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة : حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا أبو محمد راشد الحماني عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال له أصحابه : [ يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها قال : قال الله عز و جل { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } الاية : قال : فأخبرهم قال : فبينما أنا نائم عشاء في المسجد الحرام إذ أتاني آت فأيقظني فاستيقظت فلم أر شيئا فإذا أنا بكهيئة خيال فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد الحرام فإذا أنا بدابة أدنى شبها بدوابكم هذه بغالكم هذه غير أنه مضطرب الأذنين يقال له البراق وكانت الأنبياء تركبه قبلي يقع حافره عند مد بصره فركبته فبينما أنا أسير عليه إذ دعاني داع من يميني : يا محمد انظرني أسألك يا محمد انظرني أسألك يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم عليه فبينما أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يساري : يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم عليه فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله فقالت : يا محمد انظرني أسألك فلم ألتفت إليها ولم أقم عليها حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها
ثم أتاني جبريل عليه السلام بإنائين : أحدهما خمر والاخر لبن فشربت اللبن وأبيت الخمر فقال جبريل : أصبت الفطرة أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك فقلت : الله أكبر الله أكبر فقال جبريل : ما أريت في وجهك هذا ؟ قال : فقلت بينما أنا أسير إذا دعاني داع عن يميني : يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم عليه قال ذاك داعي اليهود أما إنك لو أجبته أو وقفت عليه لتهودت أمتك ـ قال ـ فبينما أنا أسير إذ دعاني داع عن يساري قال : يا محمد انظرني أسألك فلم ألتفت ولم أقم عليه قال : ذاك داعي النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك ـ قال ـ فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله تقول : يا محمد انظرني أسألك فلم أجبها ولم أقم عليها قال : تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها أو قمت عليها لاختارت أمتك الدنيا على الاخرة
قال : ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين ثم أتيت بالمعراج الذي كانت تعرج عليه أرواح بني آدم فلم ير الخلائق أحسن من المعراج أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء فإنما يشق بصره طامحا إلى السماء عجبه بالمعراج قال : فصعدت أنا وجبريل فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب السماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنوده مائة ألف ملك قال : قال الله عز و جل : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } قال : فاستفتح جبريل باب السماء قيل : من هذا ؟ قال جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد قيل : أوقد بعث إليه ؟ قال : نعم فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله عز و جل على صورته فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته من المؤمنين فيقول : روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول : روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين فمضيت هنيهة فإذا أنا بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد وإذا أنا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح وأنتن عندها أناس يأكلون منها قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك يأتون الحرام ويتركون الحلال قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل قال : فتفتح أفواههم فيلقمون من ذلك الجمر ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عز و جل فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء من أمتك { الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء تعلقن بثديهن فسمعتهن يضججن إلى الله عز و جل قلت : يا جبريل من هؤلاء النساء ؟ قال : هؤلاء الزناة من أمتك قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر فيقول : اللهم لاتقم الساعة قال : وهم على سابلة آل فرعون قال : فتجيء السابلة فتطؤهم قال فسمعتهم يضجون إلى الله ـ قال ـ قلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه فيقال له : كل كما كنت تأكل من لحم أخيك قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون
قال : ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله عز و جل قد فضل الناس في الحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت : ياجبريل من هذا ؟ قال : هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه فسلمت عليه فرد علي
ثم صعدنا إلى السماء الثالثة واستفتح فإذا أنا بيحيى وعيسى عليهما السلام ومعهما نفر من قومهما فسلمت عليهما وسلما علي ثم صعدنا إلى السماء الرابعة فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه فسلم علي
قال : ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته تصيب سرته من طولها قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا المحبب في قومه هذا هارون بن عمران ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي
ثم صعدت إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى بن عمران رجل آدم كثير الشعر لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص فإذا هو يقول : يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا بل هذا أكرم على الله مني قال : قلت يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران عليه السلام ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي
ثم صعدت إلى السماء السابعة فإذا أنا بأبينا إبراهيم خليل الرحمن ساند ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ومعه نفر من قومه فسلمت عليه فسلم علي وإذا أنا بأمتي شطرين : شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمد قال ـ فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الاخرون الذين عليهم الثياب السود وهم على خير فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور ثم خرجت أنا ومن معي
قال والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة قال : ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا كل ورقة منها تكاد تغطي هذه الأمة وإذا فيها عين تجري يقال لها سلسبيل فينشق منها نهران ( أحدهما ) الكوثر ( والاخر ) يقال له نهر الرحمة فاغتسلت فيه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر
قال إني رفعت إلى الجنة فاستقبلتني جارية فقلت : لمن أنت يا جارية ؟ قالت : لزيد بن حارثة وإذا بأنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وإذا رمانها كالدلاء عظما وإذا أنا بطيرها كأنها بختكم هذه فقال عندها صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ قال ـ ثم عرضت علي النار فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها ثم أغلقت دوني
ثم إني رفعت إلى سدرة المنتهى فتغشاني فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى قال وينزل على كل ورقة منها ملك من الملائكة ـ قال ـ وفرضت علي خمسون صلاة وقال لك بكل حسنة عشر فإذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة فإذا عملتها كتبت لك عشرا وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء فإن عملتها كتبت عليك سيئة واحدة
ثم رجعت إلى موسى فقال بم أمرك ربك ؟ فقلت : بخمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك ومتى لا تطيقه تكفر فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف عن أمتى فإنها أضعف الأمم فوضع عني عشرا وجعلها أربعين فما زلت أختلف بين موسى وربي كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته حتى رجعت إليه فقال لي : بم أمرت ؟ فقلت أمرت بعشر صلوات قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فناداني عندها تممت فريضتي وخففت عن عبادي وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها
ثم رجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت بخمس صلوات قال : ارجع إلى ربك فإنه لا يؤوده شيء فاسأله التخفيف لأمتك فقلت : رجعت إلى ربي حتى استحييت ثم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب : إني أتيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا وكذا فقال أبو جهل يعني ابن هشام : ألا تعجبون مما قال محمد ؟ يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس ثم أصبح فينا وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهرا ومقفلة شهرا فهذه مسيرة شهرين في ليلة واحدة قال : فأخبرتهم بعير لقريش لما كنت في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا وأنها نفرت فلما رجعت وجدتها عند العقبة وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا ومتاعه كذا وكذا فقال أبو جهل : يخبرنا بأشياء فقال رجل منهم : أنا أعلم الناس ببيت المقدس وكيف بناؤه وهيئته وكيف قربه من الجبل فإن يك محمد صادقا فسأخبركم وإن يك كاذبا فسأخبركم فجاء ذلك المشرك فقال : يا محمد أنا أعلم الناس ببيت المقدس فأخبرني : كيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل ؟ قال فرفع لرسول الله صلى الله عليه و سلم بيت المقدس من مقعده فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته قال : بناؤه كذا وكذا وهيئته كذا وكذا وقربه من الجبل كذا وكذا فقال الاخر : صدقت فرجع إليهم فقال : صدق محمد فيما قال أو نحوا من هذا الكلام ]
وكذا رواه الإمام أبو جعفر بن جرير بطوله عن محمد بن عبد الأعلى عن محمد بن ثور عن معمر عن أبي هارون العبدي وعن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي هارون العبدي به ورواه أيضا من حديث ابن إسحاق حدثني روح بن القاسم عن أبي هارون به نحو سياقه المتقدم ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أحمد بن عبدة عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري فذكره بسياق طويل حسن أنيق أجود مما ساقه غيره على غرابته وما فيه من النكارة ثم ذكره البيهقي أيضا من رواية نوح بن قيس الحداني وهشيم ومعمر عن أبي هارون العبدي واسمه عمارة بن جوين وهو مضعف عند الأئمة وإنما سقنا حديثه ههنا لما فيه من الشواهد لغيره ولما رواه البيهقي : أخبرنا الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن أنبأنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزار حدثنا أبو حامد بن بلال حدثنا أبو الأزهر حدثنا يزيد بن أبي حكيم قال : [ رأيت في النوم رسول الله صلى الله عليه و سلم قلت : يا رسول الله رجل من أمتك يقال له سفيان الثوري لا بأس به فقال رسول الله لا بأس به ] حدثنا عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عنك يا رسول الله ليلة أسري بك [ قلت رأيت في السماء فحدثته بالحديث فقال لي نعم فقلت له : يا رسول الله إن ناسا من أمتك يحدثون عنك في السرى بعجائب ؟ قال لي ذلك حديث القصاص ] (3/18)
قال الإمام أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزبيدي حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم الأشعري عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي حدثنا الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير حدثنا شداد بن أوس قال : [ قلنا يا رسول الله كيف أسري بك ؟ قال صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما فأتاني جبريل عليه السلام بدابة أبيض أو قال بيضاء فوق الحمار ودون البغل فقال اركب فاستصعب علي فرازها بأذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى طرفها حتى بلغنا أرضا ذات نخل فأنزلني فقال صل فصليت ثم ركبت فقال أتدري أين صليت ؟ قلت الله أعلم قال صليت بيثرب صليت بطيبة
فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها عند منتهى طرفها ثم بلغنا أرضا قال انزل ثم قال صل فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت ؟ قلت الله أعلم قال صليت بمدين عند شجرة موسى ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور فقال انزل فنزلت فقال صل فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت ؟ قلت الله أعلم قال صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشمس والقمر فصليت من المسجد حيث شاء الله وأخذني من العطش أشد ما أخذني فأتيت بإنائين في أحدهما لبن وفي الاخر عسل أرسل إلي بهما جميعا فعدلت بينهما ثم هداني الله عز و جل فأخذت اللبن فشربت حتى قرعت به جبيني وبين يدي شيخ متكىء على مثواة له فقال أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى
ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي فيه المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي قلت يا رسول الله كيف وجدتها ؟ قال وجدتها مثل الحمة السخنة ثم انصرف بي فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة فأتاني أبو بكر رضي الله عنه فقال يا رسول الله أين كنت الليلة فقد التمستك في مظانك فقال علمت أني أتيت من بيت المقدس الليلة فقال يا رسول الله إنه مسيرة شهر فصفه لي قال ففتح لي صراط كأني إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته به فقال أبو بكر أشهد أنك لرسول الله وقال المشركون انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة قال فقال إن من آية ما أقول لكم أني مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا وقد أضلوا بعيرا لهم فجمعه فلان وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغراراتان سوداوان
فلما كان ذلك اليوم قد أشرف الناس ينظرون حين كان قريبا من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه و سلم ] هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي به ثم قال بعد تمامه هذا إسناد صحيح وروى ذلك مفرقا من أحاديث غيره ونحن نذكر من ذلك إن شاء الله ما حضرنا ثم ساق أحاديث كثيرة في الإسراء كالشاهد لهذا الحديث وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي به ولا شك أن هذا الحديث أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك والله أعلم (3/21)
قال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه قال : حدثنا ابن عباس قال : [ ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم دخل الجنة فسمع في جانبها وخشا فقال : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا بلال المؤذن فقال النبي صلى الله عليه و سلم حين جاء إلى الناس قد أفلح بلال رأيت له كذا وكذا قال : فلقيه موسى عليه السلام فرحب به قال : مرحبا بالنبي الأمي قال : وهو رجل آدم طويل سبط شعره مع أذنيه أو فوقهما فقال : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا موسى قال : فمضى فلقيه شيخ جليل متهيب فرحب به وسلم عليه وكلهم يسلم عليه قال : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم ـ قال ـ ونظر في النار فإذا قوم يأكلون الجيف قال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ورأى رجلا أحمر أزرق جدا قال : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا عاقر الناقة ـ قال ـ فلما أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجدالأقصى قام يصلي فإذا النبيون أجمعون يصلون معه فلما انصرف جيء بقدحين أحدهما عن اليمين والاخر عن الشمال في أحدهما لبن وفي الاخر عسل فأخذ اللبن فشرب منه فقال الذي كان معه القدح : أصبت الفطرة ] إسناد صحيح ولم يخرجوه
( طريق أخرى ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ثابت أبو زيد حدثنا هلال حدثني عكرمة عن ابن عباس قال : أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم فقال الناس : نحن لا نصدق محمدا بما يقول فارتدوا كفارا فضرب الله رقابهم مع أبي جهل وقال أبو جهل : يخوفنا محمد بشجرة الزقوم هاتوا تمرا وزبدا فتزقموا ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس برؤيا منام وعيسى وموسى وإبراهيم [ وسئل النبي صلى الله عليه و سلم عن الدجال فقال رأيته فيلمانيا أقمر هجانا إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري كأن شعر رأسه أغصان شجرة ورأيت عيسى عليه السلام أبيض جعد الرأس حديد البصر ومبطن الخلق ورأيت موسى عليه السلام أسحم آدم كثير الشعر شديد الخلق ونظرت إلى إبراهيم عليه السلام فلم أنظر إلى أرب منه إلا نظرت إليه مني حتى كأنه صاحبكم قال جبريل : سلم على مالك فسلمت عليه ] ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت عن هلال وهو ابن خباب به وهو إسناد صحيح
( طريق أخرى ) قال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر الشافعي أنبأنا إسحاق بن الحسن حدثنا الحسين بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة عن أبي العالية قال : حدثنا ابن عم نبيكم صلى الله عليه و سلم ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى بن مريم عليه السلام مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس وأرى مالكا خازن جهنم والدجال في آيات أراهن الله إياه ] قال : { فلا تكن في مرية من لقائه } فكان قتادة يفسرها أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قد لقي موسى عليه السلام { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } قال : جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد عن يونس بن محمد عن شيبان وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة مختصرا
( طريق أخرى ) وقال البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا دبيس المعدل حدثنا عفان قال : حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت : ما هذه الرائحة ؟ قالوا : ماشطة بنت فرعون وأولادها سقط المشط من يدها فقالت : باسم الله فقالت بنت فرعون أبي قالت ربي وربك ورب أبيك قالت أولك رب غير أبي ؟ قالت نعم ربي وربك ورب أبيك الله قال : فدعاها فقال : ألك رب غيري ؟ قالت نعم ربي وربك الله عز و جل قال فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها أن تلقى فيها قالت : إن لي إليك حاجة قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع قال : ذاك لك لما لك علينا من الحق قال : فأمر بهم فألقوا واحدا واحدا حتى بلغ رضيعا فيهم فقال : يا أمه قعي ولا تقاعسي فإنك على الحق ] قال : وتكلم أربعة في المهد وهم صغار : هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم عليه السلام إسناد لا بأس به ولم يخرجوه
( طريق أخرى ) قال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر وروح بن المعين قالا : حدثنا عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما كان ليلة أسري بي فأصحبت بمكة فظعت وعرفت أن الناس مكذبي فقعد معتزلا حزينا فمر به عدوالله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزىء : هل كان من شيء فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم نعم قال : وما هو ؟ قال : إني أسري بي الليلة قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال نعم قال فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه فقال : أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم نعم فقال : يا معشر بني كعب بن لؤي قال : فانفضت إليه المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما قال : حدث قومك بما حدثتني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني أسري بي الليلة فقالوا : إلى أين ؟ قال إلى بيت المقدس قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال نعم قال فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب قالوا : وتستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ وفيهم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال فنعته وأنا أنظر إليه قال وكان مع هذا نعت لم أحفظه قال فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب فيه ] وأخرجه النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة وهو الأعرابي به ورواه البيهقي من حديث النضر بن شميل وهوذة عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي أحد الأئمة الثقات (3/22)
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب حدثنا السري بن خزيمة حدثنا يوسف بن بهلول حدثنا عبد الله بن نمير عن مالك بن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة بن مصرف عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم فانتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يصعد به حتى يقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها حتى يقبض { إذ يغشى السدرة ما يغشى } قال : غشيها فراش من ذهب وأعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا المقحمات يعني الكبائر
ورواه مسلم في صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب كلاهما عن عبد الله بن نمير به ثم قال البيهقي وهذا الذي ذكره عبد الله بن مسعود طرف من حديث المعراج وقد رواه أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم رواه مرة مرسلا من دون ذكرهما ثم إن البيهقي ساق الأحاديث الثلاثة كما تقدم قلت : وقد روي عن ابن مسعود بأبسط من هذا وفيه غرابة وذلك فيما رواه الحسن ابن عرفة في جزئه المشهور : حدثنا مروان بن معاوية عن قتادة بن عبد الله النهمي حدثنا أبو ظبيان الجنبي قال : كنا جلوسا عند أبي عبيدة بن عبد الله يعني ابن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وهما جالسان فقال محمد بن سعد لأبي عبيدة : حدثنا عن أبيك ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه و سلم فقال أبوعبيدة : لا بل حدثنا أنت عن أبيك فقال محمد : لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت قال فأنشأ أبو عبيدة يحدث يعني عن أبيه كما سئل قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتاني جبريل عليه السلام بدابة فوق الحمار ودون البغل فحملني عليه ثم انطلق يهوي بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه كذلك يديه وإذا هبط استوت يداه مع رجليه حتى مررنا برجل طوال سبط آدم كأنه من رجال أزد شنوءة فيرفع صوته يقول أكرمته وفضلته قال : فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام فقال من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا أحمد قال مرحبا بالنبي الأمي العربي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته قال ثم اندفعنا فقلت من هذا يا جبريل ؟ قال هذا موسى بن عمران قال قلت ومن يعاتب ؟ قال يعاتب ربه فيك قلت : ويرفع صوته على ربه ؟ قال : إن الله قد عرف له حدته قال : ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرج تحتها شيخ وعياله قال : فقال لي جبريل : اعمد إلى أبيك إبراهيم فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام فقال إبراهيم : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا ابنك أحمد قال : فقال مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته يا بني إنك لاق ربك الليلة وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل
قال : ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى فنزلت فربطت الدابة في الحقلة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد قال : ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن فأخذت اللبن فشربت فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال : أصبت الفطرة ورب محمد قال : ثم أقيمت الصلاة فأممتهم ثم انصرفنا فأقبلنا ] إسناد غريب ولم يخرجوه فيه من الغرائب سؤال الأنبياء عنه عليه السلام ابتداء ثم سؤاله عنهم بعد انصرافه والمشهور في الصحاح كما تقدم أن جبريل كان يعلمه بهم أولا ليسلم عليهم سلام معرفة وفيه أنه اجتمع بالأنبياء عليهم السلام قبل دخوله المسجد الأقصى والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السموات ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيا وهم معه وصلى بهم فيه ثم أنه ركب البراق وكر راجعا إلى مكة والله أعلم
( طريق أخرى ) قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا العوام عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن عفازة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا أمر الساعة قال : فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام فقال : لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى موسى فقال : لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال : ما أوحيتها فلا يعلم بها أحد إلا الله عز و جل وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج قال : ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال : فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال : فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم قال : فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه قال : ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجري الأرض من نتن ريحهم أي تنتن قال : فينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا ]
وأخرجه ابن ماجه عن بندار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب رواية عبد الرحمن بن قرظ أخي عبد الله بن قرظ الثمالي قال سعيد بن منصور : حدثنا مسكين ميمون بن مؤذن مسجد الرملة حدثني عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرظ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من بين زمزم والمقام جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فطارا به حتى بلغ السموات العلى فلما رجع قال : سمعت تسبيحا في السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات من ذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ونذكر ههنا الحديث عند قوله تعالى من هذه السورة { تسبح له السموات السبع } الاية (3/24)
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس قال : قال أبو سلمة : فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب : أين ترى أن أصلي ؟ فقال : إن أخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ضاهيت اليهودية ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فتقدم إلى القبلة فصلى ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس فلم يعظم الصخرة تعظيما يصلي وراءها وهي بين يديه كما أشار كعب الأحبار وهو من قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم ولكن من الله عليه بالإسلام فهدي إلى الحق ولهذا لما أشار بذلك قال له أمير المؤمنين عمر : ضاهيت اليهودية ولا أهانها إهانة النصارى الذين كانوا قد جعلوها مزبلة من أجل أنها قبلة اليهود ولكن أماط عنها الأذى وكنس عنها الكناسة بردائه وهذا شبيه بما جاء في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ] (3/26)
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير سورة سبحان : حدثنا علي بن سهل حدثنا حجاج حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية الرياحي عن أبي هريرة أو غيره شك أبو جعفر في قول الله عز و جل { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } الاية قال : [ جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم ومعه ميكائيل فقال جبريل لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر له قلبه وأشرح له صدره قال : فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم فشرح صدره فنزع ما كان فيه من غل وملأه علما وحلما وإيمانا ويقينا وإسلاما وختم بين كتفيه بخاتم النبوة ثم أتاه بفرس فحمله عليه كل خطوة منه منتهى بصره أو أقصى بصره قال : فسار وسار معه جبريل عليهما السلام قال : فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا جبريل ما هذا ؟ قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال ما هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والنعم ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها قال فما هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذي لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله تعالى شيئا وما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر ولحم نيء في قدر خبيث فجعلوا يأكلون من اللحم النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال : ما هؤلاء يا جبريل ؟ فقال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيبة فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا فتبيت معه حتى تصبح قال : ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا مثل أقوام أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونها ثم تلا { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون } الاية قال : ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات للناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال : ما هذا يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء خطباء الفتنة ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع فقال : ما هذا يا جبريل ؟ فقال هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها
ثم أتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح مسك وسمع صوتا فقال يا جبريل ما هذه الريح الطيبة الباردة وما هذا المسك وما هذا الصوت ؟ قال : هذا صوت الجنة تقول : يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت غرفي وإستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وأكؤسي وعسلي ومائي ولبني وخمري فائتني بما وعدتني فقال : لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحا ولم يشرك بي شيئا ولم يتخذ من دوني أندادا ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل علي كفيته إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد وقد أفلح المؤمنون تبارك الله أحسن الخالقين قالت : قد رضيت
قال : ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة فقال : ما هذا يا جبريل وما هذا الصوت ؟ فقال : هذا صوت جهنم تقول : يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي وقد بعد قعري واشتد حري فائتني بما وعدتني قال : لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب قالت : قد رضيت
قال : ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى الصخرة ثم دخل فصلى مع الملائكة فلما قضيت الصلاة قالوا يا جبريل من هذا معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه و سلم قالوا : أوقد أرسل إليه فقال : نعم قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال : ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم فقال إبراهيم عليه السلام : الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها علي بردا وسلاما ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي كلمني تكليما وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب
ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلا وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير وفضلني على كثير من عباده المؤمنين وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي طيبا ليس فيه حساب
ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه عز و جل فقال : الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وجعلني أبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل
قال : ثم إن محمدا صلى الله عليه و سلم أثنى على ربه عز و جل فقال : كلكم أثنى على ربه وإني مثن على ربي فقال : الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا وأنزل علي الفرقان فيه بيان كل شيء وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس وجعل أمتي أمة وسطا وجعل أمتي هم الأولون وهم الاخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما فقال إبراهيم عليه السلام : بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه و سلم
قال أبو جعفر الرازي : خاتم بالنبوة فاتح بالشفاعة يوم القيامة ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها فأتي بإناء منها فيه ماء فقيل له : اشرب فشرب منه يسيرا ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له : اشرب فشرب منه حتى روي ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له : اشرب فقال : لا أريده قد رويت فقال له جبريل : أما إنها ستحرم على أمتك ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل
قال : ثم صعد به إلى السماء فاستفتح فقيل : من هذا يا جبريل ؟ فقال : محمد فقالوا : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح لهما فدخل فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خلق الناس عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن فقلت : يا جبريل من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص من خلقه شيء وما هذان البابان ؟ فقال : هذا أبوك آدم وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة إذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخلها من ذريته بكى وحزن
ثم صعد به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح فقيل : من هذا معك ؟ فقال : محمد رسول الله فقالوا : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم فقالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال : فدخل فإذا هو بشابين فقال : يا جبريل من هذان الشابان ؟ قال : هذا عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا الخالة عليهما السلام
قال : فصعد به إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد فقالوا : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم فقالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال : فدخل فإذا هو برجل قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب قال : من هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن ؟ قال : هذا أخوك يوسف عليه السلام
قال : ثم صعد به إلى السماء الرابعة فاستفتح فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد فقالوا : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم فقالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال : فدخل فإذا هو برجل قال : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا إدريس عليه السلام رفعه الله مكانا عليا
قال : فصعد به إلى السماء الخامسة فاستفتح فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد فقالوا : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم فقالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال : فدخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم قال : بمن هذا يا جبريل ومن هؤلاء حولهب ؟ قال : هذا هارون المحبب وهؤلاء بنو إسرائيل
قال : ثم صعد به إلى السماء السادسة فاستفتح فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد فقالوا : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم فقالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال : فدخل فإذا هو برجل جالس فجاوزه فبكى الرجل فقال : يا جبريل من هذا ؟ قال : موسى قال : فما باله يبكي ؟ قال : يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عز و جل وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا وأنا في أخرى فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته
قال : ثم صعد به إلى السماء السابعة فاستفتح فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد فقالوا : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم فقالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس وقوم في ألوانهم شيء فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلصت ألوانهم فصارت مثل ألوان أصحابهم جاؤوا فجلسوا إلى أصحابهم فقال : يا جبريل من هذا الأشمط ثم من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء وما هذه الأنهار التي دخلوا فيها فجاؤوا وقد صفت ألوانهم ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم أول من شمط على وجه الأرض وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم وأما الأنهار فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا
قال : ثم انتهى إلى السدرة فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها والورقة منها تغطي الأمة كلها قال : فغشيها نور الخلاق عز و جل وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة من حب الرب تبارك وتعالى قالوا : فكلمه الله عند ذلك فقال له : سل فقال : إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما وكلمت موسى تكليما وأعطيت داود ملكا عظيما وألنت له الحديد وسخرت له الجبال وأعطيت سليمان ملكا وسخرت له الجن والإنس والشياطين وسخرت له الرياح وأعطيت له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وعلمت عيسى التوراة والإنجيل وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان عليهما سبيل فقال له الرب عز و جل : وقد اتخذتك خليلا ـ وهو مكتوب في التوراة حبيب الرحمن ـ وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلت أمتك أمة وسطا وجعلت أمتك هم الأولين وهم الاخرين وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا وأولهم يقضى له وأعطيتك سبعا من المثاني لم يعطها نبي قبلك وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيا قبلك وأعطيتك الكوثر وأعطيتك ثمانية أسهم : الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلتك فاتحا خاتما فقال النبي صلى الله عليه و سلم فضلني ربي بست : أعطاني فواتح الكلام وخواتيمه وجوامع الحديث وأرسلني إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وقذف في قلوب أعدائي الرعب من مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا قال : وفرض عليه خمسين صلاة
فلما رجع إلى موسى قال : بم أمرت يا محمد ؟ قال : بخمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فقد لقيت من بني إسرائيل شدة قال : فرجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى ربه عز و جل فسأله التخفيف فوضع عنه عشرا ثم رجع إلى موسى فقال له : بكم أمرت ؟ قال بأربعين قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم ولقد لقيت من بني إسرائيل شدة قال : فرجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى ربه فسأله التخفيف فوضع عنه عشرا فرجع إلى موسى فقال : بكم أمرت : قال أمرت بثلاثين فقال له موسى ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فقد لقيت من بني إسرائيل شدة فرجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى ربه عز و جل فسأله التخفيف فوضع عنه عشرا فرجع إلى موسى فقال له : بكم أمرت ؟ قال بعشرين قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فقد لقيت من بني إسرائيل شدة قال : فرجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى ربه عز و جل فسأله التخفيف فوضع عنه عشرا فرجع إلى موسى عليه السلام فقال له : بكم أمرت ؟ قال بعشر قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فقد لقيت من بني إسرائيل شدة قال : فرجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى ربه عز و جل فسأله التخفيف فوضع عنه خمسا فرجع إلى موسى عليه السلام فقال له : بكم أمرت ؟ قال بخمس قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة قال : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت فماأنا براجع إليه قيل : أما إنك كما صبرت نفسك خمس صلوات فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة فإن كل حسنة بعشر أمثالها قال : فرضي محمد صلى الله عليه و سلم كل الرضا قال : وكان موسى عليه السلام من أشدهم عليه حين مر به وخيرهم له حين رجع إليه ]
ثم رواه ابن جرير عن محمد بن عبيد الله عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره شك أبو جعفر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره بمعناه وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الماليني عن ابن عدي عن محمد بن الحسن السكوني البالسي بالرملة حدثنا علي بن سهل فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني عن جده عن إبراهيم بن حمزة الزبيري عن حاتم بن إسماعيل حدثني عيسى بن ماهان يعني أبا جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره
وقال ابن أبي حاتم : ذكر أبو زرعة حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس البكري عن أبي العالية أو غيره شك عيسى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال في قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه { قلت } و أبو جعفر الرازي : قال : فيه الحافظ أبو زرعة الرازي : يهم في الحديث كثيرا وقد ضعفه غيره أيضا ووثقه بعضهم والظاهر أنه سيء الحفظ ففيما تفرد به نظر وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري ويشبه أن يكون مجموعا من أحاديث شتى أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء والله أعلم
وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام ـ فنعته فإذا رجل حسبته قال ـ مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة قال : ولقيت عيسى ـ فنعته النبي صلى الله عليه و سلم قال ـ ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس ـ يعني حمام قال ـ ولقيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به قال : وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الاخر خمر قيل لي : خذ أيهما شئت فأخذت اللبن فشربت فقيل لي : هديت الفطرة ـ أو أصبت الفطرة ـ أما إنك لو أخذت خمرا غوت أمتك ] وأخرجاه من وجه آخر عن الزهري به نحوه
وفي صحيح مسلم عن محمد بن رافع عن الحجين بن المثنى عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط فرفعه الله إلي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء وإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبها به صاحبكم ـ يعني نفسه ـ فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت قال قائل : يا محمد هذا مالك خازن جهنم فالتفت إليه فبدأني بالسلام ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة فنظرت فوق فإذا رعد وبرق وصواعق قال : وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء آكلو الربا فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض ولولا ذلك لرأوا العجائب ] ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة به ورواه ابن ماجه من حديث حماد به (3/26)
قال الحافظ البيهقي : حدثنا أبو عبد الله يعني الحاكم حدثنا عبد الله بن زيد بن يعقوب الدقاق الهمداني حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني حدثنا أبو محمد هو إسماعيل بن موسى الفزاري حدثنا عمر بن سعد النضري من بني نصر بن معين حدثني عبد العزيز وليث ابن أبي سليم و سلمان الأعمش وعطاء بن السائب بعضهم يزيد في الحديث على بعض عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومحمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن ابن عباس وعن سليم بن مسلم العقيلي عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مسعود وجويبر الضحاك بن مزاحم قالوا : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيت أم هانىء راقدا وقد صلى العشاء الاخرة قال أبو عبد الله الحاكم : قال لنا هذا الشيخ وذكر الحديث فكتبت المتن من نسخة مسموعة منه فذكر حديثا طويلا يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة الله إن صحت الرواية قال البيهقي فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الإسراء والمعراج كفاية وبالله التوفيق { قلت } وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين (3/32)
قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني مكرم بن أحمد القاضي حدثني إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثني محمد بن كثير الصنعاني حدثنا معمر بن راشد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : [ لما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا : هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس فقال : أو قال ذلك ؟ قالوا : نعم قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق ] (3/33)
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذان عن أم هانىء بنت أبي طالب في مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنها كانت تقول : [ ما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى العشاء الاخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبيل الفجر أهبنا برسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : يا أم هانىء لقد صليت معكم العشاء الاخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الان كما ترين ] الكلبي متروك بمرة ساقط لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري عن ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي صالح عن أم هانىء بأبسط من هذا السياق فليكتب ههنا وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة عن أم هانىء قالت : بات رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به في بيتي ففقدته من الليل فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن جبريل عليه السلام أتاني فأخذ بيدي فأخرجني فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار فحملني عليها ثم انطلق حتى أتى بي إلى بيت المقدس فأراني إبراهيم عليه السلام يشبه خلقه خلقي ويشبه خلقي خلقه وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر شبهته برجال أزد شنوءة وأراني عيسى بن مريم ربعة أبيض يضرب إلى الحمرة شبهته بعروة بن مسعود الثقفي وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى شبهته بقطن بن عبد العزى ـ قال ـ وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت فأخذت بثوبه فقلت : إني أذكرك الله إنك تأتي قومك يكذبوك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك قالت : فضرب ثوبه من يدي ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس فأخبرهم ما أخبرني فقام جبير بن مطعم فقال يا محمد ان لو كنت لك شأن كما كنت ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا فقال رجل من القوم : يا محمد هل مررت بإبل لنا في مكان كذا كذا ؟ قال : نعم والله قد وجدتهم قد أضلوا بعيرا لهم فهم في طلبه قال : هل مررت بإبل فلان ؟ قال : نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا وقد انكسرت لهم ناقة حمراء وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها قالوا : فأخبرنا عدتها من الرعاة ؟ قال قد كنت عن عدتها مشغولا فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة ثم أتى قريشا فقال لهم سألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاة فلان وفلان وسألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان وهي تصبحكم بالغداة على الثنية قال : فقعدوا على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال فاستقبلوا الإبل فسألوهم : هل ضل لكم بعير ؟ فقالوا : نعم فسألوا الاخر هل انكسرت لكم ناقة حمراء ؟ قالوا : نعم قالوا : فهل كانت عندكم قصعة ؟ قال أبو بكر : أنا والله وضعتها فما شربها أحد ولا أهرقوه في الأرض فصدقه أبو بكر وآمن به فسمي يومئذ الصديق ]
( فصل ) وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل على مطلب وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط ومرة من مكة إلى السماء فقط ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء وفرح بهذا المسلك وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات وهذا بعيد جدا ولم ينقل هذا عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه و سلم به أمته ولنقله الناس على التعدد والتكرر
قال موسى بن عقبة الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وكذا قال عروة وقال السدي : بستة عشر شهرا والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السموات السبع فتلقاه من كل سماء مقربوها وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم حتى مر بموسى الكليم في السادسة وإبراهيم الخليل في السابعة ثم جاوز منزلتهما صلى الله عليه و سلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلام القدر بما هو كائن ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق ورأى البيت المعمور وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ورأى الجنة والنار فرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها
ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ويحتمل أنها الصبح من يومئذ ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا وهو يخبره بهم وهذا هو اللائق لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك
ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس والله سبحانه وتعالى أعلم وأما عرض الانية عليه من اللبن والعسل أو اللبن والخمر أو اللبن والماء أو الجميع فقد ورد أنه في بيت المقدس وجاء أنه في السماء ويحتمل أن يكون ههنا وههنا لأنه كالضيافة للقادم والله أعلم ثم اختلف الناس : هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط ؟ على قولين فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى قبل ذلك مناما ثم رآه بعد يقظة لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح والدليل على هذا قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظما ولما بادرت كفار قريش إلى تكذبيه ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم وأيضا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقال تعالى { أسرى بعبده ليلا } وقال تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم رواه البخاري وقال تعالى : { ما زاغ البصر وما طغى } والبصر من آلات الذات لا الروح وأيضا فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم
وقال آخرون بل أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم بروحه لا بجسده قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : حدثني يعقوب بن عبتة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن أسري بروحه قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها لقول الحسن إن هذه الاية نزلت { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ولقول الله في الخبر عن إبراهيم { إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } قال : ثم مضى على ذلك فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظا ونياما فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ تنام عيناي وقلبي يقظان ] والله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين من الله فيه ما عاين على أي حالاته كان نائما أو يقظانا كل ذاك حق وصدق انتهى كلام ابن إسحاق وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم والله أعلم (3/33)
روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي : حدثني مالك بن أبي الرجال عن عمرو بن عبد الله عن محمد بن كعب القرظي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم دحية بن خليفة إلى قيصر فذكر وروده عليه وقدومه إليه وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره وتصغره عنده قال في هذا السياق عن أبي سفيان : والله ما منعني من أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به قال : فقلت أيها الملك ألا أخبرك خبرا تعرف أنه قد كذب ؟ قال : وما هو ؟ قال : قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح قال وبطريق إيلياء عند رأس قيصر فقال بطريق إيلياء : قد علمت تلك الليلة قال : فنظر إليه قيصر وقال : وما علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته فغلبنا فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلا فدعوت إليه النجاجرة فنظروا إليه فقالوا : إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين فلما أصبحت غدوت عليها فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب وإذا فيه أثر مربط دابة قال : فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي وقد صلى الليلة في مسجدنا وذكر تمام الحديث
( فائدة ) قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه ( التنوير في مولد السراج المنير ) وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد ثم قال : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانىء وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة والملحدون { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } (3/36)
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه و سلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضا فإنه تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام وبين ذكر التوراة والقرآن ولهذا قال بعد ذكر الإسراء { وآتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { وجعلناه } أي الكتاب { هدى } أي هاديا { لبني إسرائيل أن لا تتخذوا } أي لئلا تتخذوا { من دوني وكيلا } أي وليا ولا نصيرا ولا معبودا دوني لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له
ثم قال : { ذرية من حملنا مع نوح } تقديره يا ذرية من حملنا مع نوح فيه تهييج وتنبيه على المنة أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم { إنه كان عبدا شكورا } فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدا صلى الله عليه و سلم وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحا عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله فلهذا سمي عبدا شكورا قال الطبراني : حدثني علي بن عبد العزيز حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن أبي حصين عن عبد الله بن سنان عن سعد بن مسعود الثقفي قال : إنما سمي نوح عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أسامة حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها ] وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة به وقال مالك عن زيد بن أسلم : كان يحمد الله على كل حال وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ـ بطوله وفيه ـ فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا فاشفع لنا إلى ربك ] وذكر الحديث بكامله (3/36)
يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كقوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } أي تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به وقوله { فإذا جاء وعد أولاهما } أي أولى الإفسادتين { بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد } أي سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد¹ أي قوة وعدة وسلطنة شديدة فجاسوا خلال الديار أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم أي بينها ووسطها وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا وكان وعدا مفعولا وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم ؟ فعن ابن عباس وقتادة أنه جالوت الجزري وجنوده سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك وقتل داود جالوت ولهذا قال { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } الاية وعن سعيد بن جبير أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده وعنه أيضا وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أنه ملك البلاد وأنه كان فقيرا مقعدا ضعيفا يستعطي الناس ويستطعمهم ثم آل به الحال إلى ما آل وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثا أسنده عن حذيفة مرفوعا مطولا وهو حديث موضوع لا محالة لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذورب وكتب ذلك على حاشية الكتاب وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها لأن منها ما هو موضوع ومن وضع بعض زنادقتهم ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ونحن في غنية عنها ولله الحمد وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم وقد أخبره الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء وقد روى ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبار فسألهم ما هذا الدم ؟ فقالوا : أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبار ظهر قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم فسكن وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب وهذا هو المشهور وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة وأخذ منهم خلقا كثيرا أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته والله أعلم ثم قال تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } أي فعليها كما قال تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } وقوله : { فإذا جاء وعد الآخرة } أي الكرة الاخرة أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعداؤكم { ليسوءوا وجوهكم } أي يهينوكم ويقهروكم { وليدخلوا المسجد } أي بيت المقدس { كما دخلوه أول مرة } أي في التي جاسوا فيها خلال الديار { وليتبروا } أي يدمروا ويخربوا { ما علوا } أي ما ظهروا عليه { تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم } أي فيصرفهم عنكم { وإن عدتم عدنا } أي متى عدتم إلى الإفساد { عدنا } إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الاخرة من العذاب والنكال ولهذا قال : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا } أي مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه قال ابن عباس : حصيرا أي سجنا وقال مجاهد : يحصرون فيها وكذا قال غيره وقال الحسن : فرشا ومهادا وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل فسلط الله عليهم هذا الحي محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون (3/37)
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه و سلم وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل ويبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه أن لهم أجرا كبيرا أي يوم القيامة وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة أي ويبشر الذين لا يؤمنون بالاخرة أن لهم عذابا أليما أي يوم القيامة كما قال تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } (3/39)
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر أي بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه كما قال تعالى { ولو يعجل الله للناس الشر } الاية وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة وقد تقدم في الحديث [ لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها ] وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته ولهذا قال تعالى : { وكان الإنسان عجولا } وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس ههنا قصة آدم عليه السلام حين هم بالنهوض قائما قبل أن تصل الروح إلى رجليه وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه فلما وصلت إلى دماغه عطس فقال : الحمد لله فقال الله : يرحمك ربك يا آدم فلما وصلت إلى عينيه فتحهما فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه ويعجبه فهم بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع وقال : يا رب عجل قبل الليل (3/39)
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع والأعمال والأسفار وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ويعرفوا مضي الاجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك ولهذا قال : { لتبتغوا فضلا من ربكم } أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك { ولتعلموا عدد السنين والحساب } فإنه لو كان الزمان كله نسقا واحدا وأسلوبا متساويا لما عرف شيء من ذلك كما قال تعالى : { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ؟ أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } وقال تعالى : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } وقال تعالى : { وله اختلاف الليل والنهار } وقال : { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار } وقال تعالى : { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم } وقال تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } ثم إنه تعالى جعل لليل آية أي علامة يعرف بها وهي الظلام وظهور القمر فيه وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا من هذا كما قال تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون * إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون } وقال تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } الاية
قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله : { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } قال : ظلمة الليلة وسدف النهار وقال ابن جريج عن مجاهد : الشمس آية النهار والقمر آية الليل { فمحونا آية الليل } قال : السواد الذي في القمر وكذلك خلقه الله تعالى وقال ابن جريج : قال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس والقمر آية الليل والشمس آية النهار فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر ؟ فقال : ويحك أما تقرأ القرآن ؟ فقال : فمحونا آية الليل فهذه محوه وقال قتادة في قوله : { فمحونا آية الليل } كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس { وجعلنا الليل والنهار آيتين } قال ليلا ونهارا كذلك خلقهما الله عز و جل (3/39)
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } وطائره هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما من خير وشر ويلزم به ويجازى عليه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وقال تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وقال : { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون } وقال : { إنما تجزون ما كنتم تعملون } وقال { من يعمل سوءا يجز به } الاية والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره ويكتب عليه ليلا ونهارا صباحا ومساء
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ طائر كل إنسان في عنقه ] قال ابن لهيعة : يعني الطيرة وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث غريب جدا والله أعلم
وقوله : { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيدا أو بشماله إن كان شقيا منشورا أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر * بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره } ولهذا قال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي إنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلا ما عملت لأنك ذكرت جميع ما كان منك ولا ينسى أحد شيئا مما كان منه وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي وقوله : { ألزمناه طائره في عنقه } إنما ذكر العنق لأنه عضو من الأعضاء لا نظير له في الجسد ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه كما قال الشاعر
( اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمام )
قال قتادة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا عدوى ولا طيرة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ] كذا رواه ابن جرير وقد رواه الإمام عبد بن حميد في مسنده متصلا فقال : حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ طير كل عبد في عنقه ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق حدثنا عبد الله حدثنا ابن ليهعة حدثني يزيد أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة : يا ربنا عبدك فلان قد حبسته فيقول الرب جل جلاله : اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت ] إسناده جيد قوي ولم يخرجوه وقال معمر عن قتادة : { ألزمناه طائره في عنقه } قال عمله { ونخرج له يوم القيامة } قال : نخرج ذلك العمل { كتابا يلقاه منشورا } قال معمر وتلا الحسن البصري { عن اليمين وعن الشمال قعيد } يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والاخر عن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا اقرأ كتابك الاية فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك هذا من أحسن كلام الحسن رحمه الله (3/40)
يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى أثر النبوة فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه { ومن ضل } أي عن الحق وزاغ عن سبيل الرشاد فإنما يجني على نفسه وإنما يعود وبال ذلك عليه ثم قال : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا يحمل أحد ذنب أحد ولا يجني جان إلا على نفسه كما قال تعالى : { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء } ولا منافاة بين هذا وبين وقوله : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } ) وقوله : { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك ولا يحمل عنهم شيئا وهذا من عدل الله ورحمته بعباده وكذا قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه كقوله تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } وكذا قوله : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } وقال تعالى : { وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير } إلى غير ذلك من الايات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين }
حدثنا عبد الله بن سعد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج بإسناده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اختصمت الجنة والنار ] فذكر الحديث إلى أن قال [ وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدا وإنه ينشىء للنار خلقا فيلقون فيها فتقول هل من مزيد ؟ ثلاثا ] وذكر تمام الحديث فهذا إنما جاء في الجنة لأنها دار فضل وأما النار فإنها دار عدل لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا : لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ تحاجت الجنة والنار ] فذكر الحديث إلى أن قال : [ فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع فيها قدمه فتقول : قط قط فهناك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقا ]
بقي ههنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديما وحديثا وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار : ماذا حكمهم ؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة ؟ وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه ثم نذكر فصلا ملخصا من كلام الأئمة في ذلك والله المستعان
( فالحديث الأول ) عن الأسود بن سريع قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول : رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ] وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله غير أنه قال في آخره : [ فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها ] وكذا رواه إسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد من حديث أحمد بن إسحاق عن علي بن عبد الله المديني به وقال : هذا إسناد صحيح وكذا رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أربعة كلهم يدلي على الله بحجة ] فذكر نحوه ورواه ابن جرير من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة فذكره موقوفا ثم قال أبو هريرة : فاقرؤوا إن شئتم { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا
( الحديث الثاني ) عن أنس بن مالك قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الربيع عن يزيد بن أبان قال : قلنا لأنس : يا أبا حمزة ما تقول في أطفال المشركين ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم يكن لهم سيئات فيعذبوا بها فيكونوا من أهل النار ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من أهل الجنة ]
( الحديث الثالث ) عن أنس أيضا قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن ليث عن عبد الوارث عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يؤتى بأربعة يوم القيامة : بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الفاني الهرم كلهم يتكلم بحجته ] فيقول الرب تبارك وتعالى : لعنق من النار ابرز ويقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه قال : فيقول من كتب عليه الشقاء : يا رب أنى ندخلها ومنها كنا نفر ؟ قال : ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا فقال : فيقول الله تعالى : أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يوسف بن موسى عن جرير بن عبد الحميد بإسناده مثله
( الحديث الرابع ) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضا : حدثنا قاسم بن أبي شيبة حدثنا عبد الله يعني ابن داود عن عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن البراء قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أطفال المسلمين قال : [ هم مع آبائهم وسئل عن أولاد المشركين فقال : هم مع آبائهم فقيل : يا رسول الله ما يعملون ؟ قال : الله أعلم بهم ] ورواه عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن رجل عن البراء عن عائشة فذكره
( الحديث الخامس ) عن ثوبان قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا ريحان بن سعيد حدثنا عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه و سلم عظم شأن المسألة قال [ إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلين يحملون أوزارهم على ظهورهم فيسأهلم ربهم فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم ياتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني ؟ فيقولون : نعم فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا فرجعوا إلى ربهم فيقولون : ربنا أخرجنا أو أجرنا منها فيقول لهم : ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم فيقول : اعمدوا إليها فادخلوها فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا وقالوا : ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول : ادخلوها داخرين ] فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم : [ لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما ] ثم قال البزار : ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه لم يروه عن أيوب إلا عباد ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد قلت : وقد ذكره ابن حيان في ثقاته وقال يحيى بن معين والنسائي : لا بأس به ولم يرضه أبو داود وقال أبو حاتم : شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به
( الحديث السادس ) عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري قال الإمام محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الهالك في الفترة والمعتوه والمولود يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب ويقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود : رب لم أدرك العقل فترفع لهم نار فيقال لهم : ردوها قال : فيردها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول : إياي عصيتم فكيف لو أن رسلي أتتكم ؟ ! ] وكذا رواه البزار عن محمد بن عمر بن هياج الكوفي عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق به ثم قال : لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه عن عطية عنه وقال في آخره [ فيقول الله إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب ؟ ]
( الحديث السابع ) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال هشام بن عمار ومحمد بن المبارك الصوري : حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل عن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ : يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني ] وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك [ فيقول الرب عز و جل : إني آمركم بأمر فتطيعوني ؟ فيقولون : نعم فيقول : اذهبوا فادخلوا النار قال : ولو دخلوها ما ضرتهم فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعا ثم يأمرهم ثانية فيرجعون كذلك فيقول الرب عز و جل : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون ضميهم فتأخذهم النار ]
( الحديث الثامن ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ] وفي رواية قالوا : [ يارسول الله أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا عبد الرحمن بن ثابت عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما أعلم ـ شك موسى ـ قال : [ ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام ] وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل أنه قال [ إني خلقت عبادي حنفاء ] وفي رواية لغيره [ مسلمين ]
( الحديث التاسع ) عن سمرة رضي الله عنه رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه المستخرج على البخاري من حديث عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : وأولاد المشركين ] وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم الضبي عن عيسى بن شعيب عن عباد بن منصور عن أبي رجاء عن سمرة قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أطفال المشركين فقال : [ هم خدم أهل الجنة ]
( الحديث العاشر ) عن عم حسناء قال أحمد : حدثنا روح حدثنا عوف عن حسناء بنت معاوية من بني صريم قالت : حدثني عمي قال : قلت : [ يا رسول الله من في الجنة ؟ قال النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة ] فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث ومنهم من جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة و السلام قال في جملة ذلك المنام حين مر على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان فقال له جبريل : هذا إبراهيم عليه السلام وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : [ نعم وأولاد المشركين ] ومنهم من جزم لهم بالنار لقوله عليه السلام : [ هم مع آبائهم ] ومنهم من ذهب إلى أنهم ( يمتحنون يوم القيامة في العرصات ) فمن أطاع دخل الجنة وانكشف على الله فيهم بسابق السعادة ومن عصى دخل النار داخرا وانكشف علم الله به بسابق الشقاوة وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد وقد ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان ثم قال : وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها لأن الاخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ؟
( والجواب ) عما قال أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها وأما قوله إن الدار الاخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال وقد قال تعالى : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود } الاية
وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقا واحدا كلما أراد السجود خر لقفاه وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه ويتكرر ذلك مرارا ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك ثم يأذن له في دخول الجنة وأما قوله : فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم فليس هذا بمانع من صحة الحديث فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب ومنهم الساعي ومنهم الماشي ومنهم من يحبو حبوا ومنهم المكدوش على وجهه في النار وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم
وأيضا فقد أثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه بردا وسلاما فهذا نظير ذاك وأيضا فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل وهذا أيضا شاق على النفوس جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور والله أعلم
( فصل ) إذا تقرر هذا فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال ( أحدها ) أنهم في الجنة واحتجوا بحديث سمرة أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ والمولود في الجنة ] وهذا استدلال صحيح ولكن أحاديث الامتحان أخص منه فمن علم الله منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة ومن علم منه أنه لا يجيب فأمره إلى الله تعالى يوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الامتحان ونقله الأشعري عن أهل السنة ثم إن هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة منهم من جعلهم مستقلين فيها ومنهم من جعلهم خدما لهم كما جاء في حديث علي بن زيد عن أنس عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف والله أعلم
( والقول الثاني ) أنهم مع آبائهم في النار واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب حدثني عبد الله بن أبي قيس مولى غطيف أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم تبع لابائهم فقلت : يارسول الله بلا أعمال ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب عن محمد بن زياد الألهاني سمعت عبد الله بن أبي قيس سمعت عائشة تقول : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذراري المؤمنين قال : هم مع آبائهم قلت : فذراري المشركين ؟ قال : هم مع آبائهم فقلت بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] ورواه أحمد أيضا عن وكيع عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل وهو متروك عن مولاته بهية عن عائشة أنها ذكرت أطفال المشركين لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار ]
وروى عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي رضي الله عنه قال : [ سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال : هما في النار قال : فلما رأى الكراهية في وجهها فقال لها : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قال : فولدي منك ؟ قال : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار ـ ثم قرأ ـ { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } ] وهذا حديث غريب فإن في إسناده محمد بن عثمان مجهول الحال وشيخه زاذان لم يدرك عليا والله أعلم
وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة عن أبيه عن الشعبي قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الوائدة والموؤودة في النار ] ثم قال الشعبي : حدثني به علقمة عن أبي وائل عن ابن مسعود وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعي قال : أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه و سلم فقلنا : [ إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وإنها وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال : الوائدة الموؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم ] وهذا إسناد حسن
( والقول الثالث ) التوقف فيهم واعتمدوا على قوله صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهو في الصحيحين من حديث جعفر بن أبي إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أولاد المشركين قال : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وكذلك هو في الصحيحين من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد وعن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن أطفال المشركين فقال : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة لأن الأعراف ليس دار قرار ومآل أهلها الجنة كما تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف والله أعلم
( فصل ) وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال : لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة وهذا هو المشهور بين الناس وهو الذي نقطع به إن شاء الله عز و جل فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن بعض العلماء أنهم توقفوا في ذلك وأن الولدان كلهم تحت المشيئة قال أبو عمر : ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم قالوا : وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر وما أورده من الأحاديث في ذلك وعلى ذلك أكثر أصحابه وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة انتهى كلامه وهو غريب جدا وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب التذكرة نحو ذلك أيضا والله أعلم
وقد ذكروا في ذلك أيضا حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : [ دعي النبي صلى الله عليه و سلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال : أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ] رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه
ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع كره جماعة من العلماء الكلام فيها روي ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن الحنفية وغيرهم وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جرير بن حازم : سمعت أبا رجاء العطاردي سمعت ابن عباس رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا ما لم يتكلموا في الوالدان والقدر ] قال ابن حبان : يعني أطفال المشركين وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير بن حازم ثم قال : وقد رواه جماعة عن أبي رجاء عن ابن عباس موقوفا (3/41)
اختلف القراء في قراءة قوله { أمرنا } فالمشهور قراءة التخفيف واختلف المفسرون فيها معناها فقيل : معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا كقوله تعالى : { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا } فإن الله لا يأمر بالفحشاء قالوا : معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب وقيل : معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة رواه ابن جريج عن ابن عباس وقاله سعيد بن جبير أيضا وقال ابن جرير : يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء قلت إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ { أمرنا مترفيها } قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله : { أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب وهو قوله : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } الاية وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس
وقال العوفي عن ابن عباس { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } يقول أكثرنا عددهم وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعن مالك عن الزهري { أمرنا مترفيها } أكثرنا وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو نعيم العدوي عن مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ خير مال امرىء له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة ] قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب : [ المأمورة كثيرة النسل والسكة الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة من التأبير ] وقال بعضهم : إنما جاء هذا متناسبا كقوله [ مأزورات غير مأجورات ] (3/48)
يقول تعالى منذرا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بأنه قد أهلك من المكذبين للرسل من بعد نوح ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام كما قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعقوبتكم أولى وأحرى وقوله : { وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا } أي هو عالم بجميع أعمالهم : خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى (3/48)
يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل عليه بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الايات فإنه قال : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم } أي في الدار الاخرة { يصلاها } أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه { مذموما } أي في حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه إذ اختار الفاني على الباقي { مدحورا } مبعدا مقصيا ذليلا مهانا
روى الإمام أحمد : حدثنا حسين حدثنا رويد عن أبي إسحاق عن زرعة عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له ] وقوله : { ومن أراد الآخرة } أي أراد الدار الاخرة وما فيها من النعيم والسرور { وسعى لها سعيها } أي طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم { وهو مؤمن } أي قلبه مؤمن أي مصدق بالثواب والجزاء { فأولئك كان سعيهم مشكورا } (3/48)
يقول تعالى : { كلا } أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الاخرة نمدهم فيما فيه { من عطاء ربك } أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور فيعطي كلا ما يستحقه من السعادة والشقاوة فلا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى ولا مغير لما أراد ولهذا قال { وما كان عطاء ربك محظورا } أي لا يمنعه أحد ولا يرده راد قال قتادة { وما كان عطاء ربك محظورا } أي منقوصا وقال الحسن وغيره : أي ممنوعا ثم قال تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } أي في الدنيا فمنهم الغني والفقير وبين ذلك والحسن والقبيح وبين ذلك ومن يموت صغيرا ومن يعمر حتى يبقى شيخا كبيرا وبين ذلك { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } أي ولتفاوتهم في الدار الاخرة أكبر من الدنيا فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ومنهم من يكون في الدرجات العليا ونعيمها وسرورها ثم أهل الدركات يتفاتون في ما هم فيه كما أن أهل الدرجات يتفاوتون فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض وفي الصحيحين [ إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء ] ولهذا قال تعالى : { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } وفي الطبراني من رواية زاذان عن سلمان مرفوعا [ ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع إلا وضعه الله في الاخرة أكبر منها ] ثم قرأ { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } (3/49)
يقول تعالى والمراد المكلفون من الأمة : لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكا { فتقعد مذموما } أي على إشراكك به { مخذولا } لأن الرب تعالى لا ينصرك بل يكلك إلى الذي عبدت معه وهو لا يملك لك ضرا ولا نفعا لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أرسل الله له بالغنى إما آجلا وإما غنى عاجلا ] رواه أبو داود والترمذي من حديث بشير بن سلمان به وقال الترمذي : حسن صحيح غريب (3/49)
يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر قال مجاهد { وقضى } يعني وصى وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال : { وبالوالدين إحسانا } أي وأمر بالوالدين إحسانا كقوله في الاية الأخرى { أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } وقوله { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف } أي لا تسمعهما قولا سيئا حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء { ولا تنهرهما } أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح كما قال عطاء بن رباح في قوله { ولا تنهرهما } أي لا تنفض يدك عليهما ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح أمره بالقول والفعل الحسن فقال : { وقل لهما قولا كريما } أي لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } أي تواضع لهما بفعلك { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } أي في كبرهما وعند وفاتهما قال ابن عباس : ثم أنزل الله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الاية
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم لما صعد المنبر قال : [ آمين آمين آمين قيل يا رسول الله علام أمنت ؟ قال : أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك قل : آمين فقلت آمين ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل : آمين فقلت آمين ثم قال : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل : آمين فقلت آمين ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا علي بن زيد أخبرنا زرارة بن أوفى عن مالك بن الحارث عن رجل منهم أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ من ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة البتة ومن أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزى بكل عضو منه عضوا منه ] ثم قال : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت علي بن زيد فذكر معناه إلا أنه قال عن رجل من قومه يقال له مالك أو ابن مالك وزاد [ ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله ]
( حديث آخر ) وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان عن حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن زرارة بن أوفى عن مالك بن عمرو القشيري سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز و جل ومن ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله وجبت له الجنة ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا شعبة عن قتادة سمعت زرارة بن أوفى يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه ] ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبة به وفيه زيادات أخر
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة ] صحيح من هذا الوجه ولم يخرجوه سوى مسلم من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال عن سهيل به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا ربعي بن إبراهيم قال أحمد وهو أخو إسماعيل بن علية وكان يفضل على أخيه عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة ] قال ربعي : ولا أعلمه إلا قال [ أو أحدهما ] ورواه الترمذي عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن ربعي بن إبراهيم ثم قال : غريب من هذا الوجه
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل حدثنا أسيد بن علي عن أبيه علي بن عبيد عن أبي أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدي قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال : [ نعم خصال أربع : الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما ] ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن سليمان وهو ابن الغسيل به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا ابن جريج أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال : [ فهل لك من أم قال نعم قال : فالزمها فإن الجنة عند رجليها ] ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول ورواه النسائي وابن ماجه من حديث ابن جريج به
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله يوصيكم بآبائكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب ] وأخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عياش به
( حديث آخر ) قال أحمد : حدثنا يونس حدثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم عن أبيه عن رجل من بني يربوع قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول : [ يد المعطي العليا أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك ]
( حديث آخر ) قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي حدثنا عمرو بن سفيان حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن ليث بن أبي سليم عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه [ أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه و سلم : هل أديت حقها ؟ قال لا ولا بزفرة واحدة ] أو كما قال ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه قلت : و الحسن بن أبي جعفر ضعيف والله أعلم (3/50)
قال سعيد بن جبير : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به وفي رواية : لا يريد إلا الخير بذلك فقال : { ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين } وقوله : { فإنه كان للأوابين غفورا } قال قتادة : للمطيعين أهل الصلاة وعن ابن عباس : المسبحين وفي رواية عنه : المطيعين المحسنين وقال بعضهم : هم الذين يصلون بين العشاءين وقال بعضهم : هم الذين يصلون الضحى وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في قوله : { فإنه كان للأوابين غفورا } قال : الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون ويصيبون الذنب ثم يتوبون وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب بنحوه وكذا رواه الليث وابن جرير عن ابن المسيب به
وقال عطاء بن يسار بن جبير ومجاهد : هم الراجعون إلى الخير وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في الاية : هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها ووافقه مجاهد في ذلك وقال عبد الرزاق : حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير في قوله : { فإنه كان للأوابين غفورا } قال : كنا نعد الأواب الحفيظ أن يقول : اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا وقال ابن جرير : والأولى في ذلك قول من قال : هو التائب من الذنب الراجع من المعصية إلى الطاعة مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه وهذا الذي قاله هو الصواب لأن الأواب مشتق من الأوب وهو الرجوع يقال : آب فلان إذا رجع قال تعالى : { إن إلينا إيابهم } وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا رجع من سفر قال : [ آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ] (3/52)
لما ذكر تعالى بر الوالدين عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام وفي الحديث [ أمك وأباك ثم أدناك أدناك ] وفي رواية [ ثم الأقرب فالأقرب ] وفي الحديث [ من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه ] وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن يعقوب حدثنا أبو يحيى التميمي حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال : لما نزلت { وآت ذا القربى حقه } دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة فأعطاها فدك ثم قال : لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التميمي وحميد بن حماد بن أبي الخوار وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده لأن الاية مكية وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا ؟ فهو إذا حديث منكر والأشبه أنه من وضع الرافضة والله أعلم وقد تقدم الكلام على المساكين وأبناء السبيل في سورة براءة بما أغنى عن إعادته ههنا
وقوله { ولا تبذر تبذيرا } لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه بل يكون وسطا كما قال في الاية الأخرى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } الاية ثم قال منفرا عن التبذير والسرف { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } أي أشباههم في ذلك قال ابن مسعود : التبذير الإنفاق في غير حق وكذا قال ابن عباس وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا وقال قتادة : التبذير النفقة في معصية الله تعالى وفي غير الحق والفساد
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : [ أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تخرج الزكاة من مالك إن كان فإنها طهرة تطهرك وتصل أقرباءك وتعرف حق السائل والجار والمسكين فقال : يا رسول الله أقلل لي ؟ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا فقال : حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها وإثمها على من بدلها ]
وقوله : { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته ولهذا قال { وكان الشيطان لربه كفورا } أي جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته بل أقبل على معصيته ومخالفته وقوله : { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك } الاية أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء أعرضت عنهم لفقد النفقة { فقل لهم قولا ميسورا } أي عدهم وعدا بسهولة ولين إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله هكذا فسر قوله : { فقل لهم قولا ميسورا } بالوعد مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغير واحد (3/52)
يقول تعالى آمرا بالاقتصاد في العيش ذاما للبخل ناهيا عن السرف { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا شيئا كما قالت اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ يد الله مغلولة أي نسبوه إلى البخل تعالى وتقدس الكريم الوهاب وقوله { ولا تبسطها كل البسط } أي ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوما محسورا وهذا من باب اللف والنشر أي فتقعد إن بخلت ملوما يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سلمى في المعلقة :
( ومن كان ذا مال فيبخل بماله ... على قومه يستغن عنه ويذمم )
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شيء تنفقه فتكون كالحسير وهو الدابة التي عجزت عن السير فوقفت ضعفا وعجزا فإنها تسمى الحسير وهو مأخوذ من الكلال كما قال { فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } أي كليل عن أن يرى عيبا هكذا فسر هذه الاية بأن المراد هنا البخل والسرف : ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة منها مكانها فهو يوسعها فلا تتسع ] هذا لفظ البخاري في الزكاة
وفي الصحيحين من طريق هشام بن عروة عن زوجته فاطمة بنت المنذر عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنفقي هكذا وهكذا وهكذا ولا توعي فيوعي الله عليك ولا توكي فيوكي الله عليك ] وفي لفظ [ ولا تحصي فيحصي الله عليك ] وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله قال لي : أنفق أنفق عليك ] وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الاخر : اللهم أعط ممسكا تلفا ]
وروى مسلم عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا [ ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا ومن تواضع لله رفعه الله ] وفي حديث أبي كثير عن عبد الله بن عمرو مرفوعا [ إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا ] وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما يخرج رجل صدقة حتى يفك لحي سبعين شيطانا ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا سكين بن عبد العزيز حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما عال من اقتصد ] وقوله : { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } إخبارا أنه تعالى هو الرزاق القابض الباسط المتصرف في خلقه بما يشاء فيغني من يشاء ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة ولهذا قال : { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } أي خبيرا بصيرا بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر كما جاء في الحديث [ إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ] وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجا والفقر عقوبة عياذا بالله من هذا وهذا (3/53)
هذه الاية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده لأنه نهى عن قتل الأولاد كما أوصى الاباء بالأولاد في الميراث وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عليلته فنهى الله تعالى عن ذلك وقال { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } أي خوف أن تفتقروا في ثاني حال ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال : { نحن نرزقهم وإياكم } وفي الأنعام { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } أي من فقر { نحن نرزقكم وإياهم } وقوله { إن قتلهم كان خطأ كبيرا } أي ذنبا عظيما وقرأ بعضهم : كان خطأ كبيرا وهو بمعناه وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم : قال [ أن تجعل لله ندا وهو خلقك ـ قلت : ثم أي ؟ ـ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ـ قلت : ثم أي ؟ ـ قال : أن تزاني بحليلة جارك ] (3/55)
يقول تعالى ناهيا عباده عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } أي ذنبا عظيما { وساء سبيلا } أي بئس طريقا ومسلكا
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة [ أن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا : مه مه فقال ادنه فدنا منه قريبا فقال اجلس فجلس فقال أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال : أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم قال : أفتحبه لأختك ؟ قال : لا والله جعلني الله فداك قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال أفتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم قال أفتحبه لخالتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال فوضع يده عليه وقال اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه قال : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ] وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له ] (3/55)
يقول تعالى ناهيا عن قتل النفس بغير حق شرعي كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة ] وفي السنن [ لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم ] وقوله : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } أي سلطة على القاتل فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قودا وإن شاء عفا عنه على الدية وإن شاء عفا عنه مجانا كما ثبتت السنة بذلك فإنه بالخيار الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الاية الكريمة ولاية معاوية السلطنة أنه سيملك لأنه كان ولي عثمان وقد قتل مظلوما رضي الله عنه وكان معاوية يطالب عليا رضي الله عنه أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم لأنه أموي وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك حتى يسمله القتلة وأبى أن يبايع عليا هو وأهل الشام ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الاية الكريمة وهذا من الأمر العجب
وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال : حدثنا يحيى بن عبد الباقي حدثنا أبوعمير بن النحاس حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شودب عن مطر الوراق عن زهدم الجرمي قال : كنا في سمر ابن عباس فقال : إني محدثكم بحديث ليس بسر ولا علانية إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان ( يعني عثمان ) قلت لعلي : اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج فعصاني وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية وذلك أن الله يقول : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } الاية وليحملنكم قريش على سنة فارس والروم وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا ومن ترك ـ وأنتم تاركون ـ كنتم كقرن من القرون هلك فيمن هلك وقوله : { فلا يسرف في القتل } قالوا : معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل وقوله : { إنه كان منصورا } أي إن الولي منصور على القاتل شرعا وغالبا قدرا (3/55)
يقول تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالغبطة { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وقد جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي ذر : [ يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال اليتيم ] وقوله { وأوفوا بالعهد } أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه { إن العهد كان مسؤولا } أي عنه
وقوله : { وأوفوا الكيل إذا كلتم } أي من غير تطفيف ولا تبخسوا الناس أشياءهم { وزنوا بالقسطاس } قرىء بضم القاف وكسرها كالقرطاس وهو الميزان وقال مجاهد : هو العدل بالرومية وقوله : { المستقيم } أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب { ذلك خير } أي لكم في معاشكم ومعادكم ولهذا قال { وأحسن تأويلا } أي مآلا ومنقلبا في آخرتكم قال سعيد عن قتادة { ذلك خير وأحسن تأويلا } أي خير ثوابا وأحسن عاقبة و ابن عباس كان يقول : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم هذا المكيال وهذا الميزان قال : وذكر لنا أن نبي الله عليه الصلاة و السلام كان يقول [ لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الاخرة ما هو خير له من ذلك ] (3/56)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول : لا تقل وقال العوفي : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم وقال محمد بن الحنفية : يعني شهادة الزور وقال قتادة : لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو التوهم والخيال كما قال تعالى : { اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } وفي الحديث [ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ] وفي سنن أبي داود [ بئس مطية الرجل زعموا ] وفي الحديث الاخر [ إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا ] وفي الصحيح [ من تحلم حلما كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل ]
وقوله : { كل أولئك } أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد { كان عنه مسؤولا } أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة وتسأل عنه عما عمل فيها ويصح استعمال أولئك مكان تلك كما قال الشاعر :
( ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام ) (3/57)
يقول تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر في المشية { ولا تمش في الأرض مرحا } أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين { إنك لن تخرق الأرض } أي لن تقطع بمشيك قاله ابن جرير واستشهد عليه بقول رؤبة بن العجاج :
( وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... )
وقوله : { ولن تبلغ الجبال طولا } أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في الصحيح [ بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ] وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض وفي الحديث [ من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير ومن استكبر وضعه الله فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير ] وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير حدثنا حجاج بن محمد عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه ابن الأهيم يريد المنصور وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي ويتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال : أف أف شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق ينظر في عطفه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله فيها ولا المؤدي حق الله منها والله أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة وللشيطان به لعنة فسمعه ابن الأهيم فرجع يعتذر إليه فقال : لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا }
ورأى البختري العابد رجلا من آل علي يمشي وهو يخطر في مشيته فقال له : يا هذا إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته قال : فتركها ورأى ابن عمر رجلا يخطر في مشيته فقال : إن للشياطين إخوانا وقال خالد بن معدان : إياكم والخطر فإن الرجل يده من سائر جسده رواهما ابن أبي الدنيا وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا حماد بن زيد عن يحيى عن سعيد عن بحنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض ]
وقوله : { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } أما من قرأ سيئة أي فاحشة فمعناه عنده كل هذا الذي نهيناه عنه من قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } إلى هنا فهو سيئه مؤاخذ عليها مكروه عند الله لا يحبه ولا يرضاه وأما من قرأ سيئه على الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } إلى هنا فسيئه أي فقبيحه مكروه عند الله هكذا وجه ذلك ابن جرير رحمه الله (3/57)
يقول تعالى : هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما } أي تلومك نفسك ويلومك الله والخلق { مدحورا } أي مبعدا من كل خير قال ابن عباس وقتادة : مطرودا والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم (3/58)
يقول تعالى رادا على المشركين الكاذبين الزاعمين عليهم لعائن الله : أن الملائكة بنات الله فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ثم ادعوا أنهم بنات الله ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيما فقال تعالى منكرا عليهم { أفأصفاكم ربكم بالبنين } أي خصصكم بالذكور { واتخذ من الملائكة إناثا } أي واختار لنفسه على زعمكم البنات ثم شدد الإنكار عليهم فقال : { إنكم لتقولون قولا عظيما } أي في زعمكم أن لله ولدا ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد فتلك إدا قسمة ضيزى وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } (3/58)
يقول تعالى : { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك { وما يزيدهم } أي الظالمين منهم { إلا نفورا } أي عن الحق وبعدا منه (3/59)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفى لو كان الأمر كما يقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه ولا حاجة لكم إلى معبود يكون وساطة بينكم وبينه فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه بل يكرهه ويأباه وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه ثم نزه نفسه الكريمة وقدسها فقال : { سبحانه وتعالى عما يقولون } أي هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى { علوا كبيرا } أي تعاليا كبيرا بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (3/59)
يقول تعالى : تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن أي من المخلوقات وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته :
( ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد )
كما قال تعالى : { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا } وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا سعيد بن منصور حدثنا مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة حدثنا عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى كان بين المقام وزمزم جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فطارا حتى بلغ السموات السبع فلما رجع قال : [ سمعت تسبيحا في السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ]
وقوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس لأنها بخلاف لغاتكم وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات وهذا أشهر القولين كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وهو حديث مشهور في المسانيد وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن ابن أنس عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم : اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه ]
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل الضفدع وقال نقيقها تسبيح ] وقال قتادة عن عبد الله بن أبي عن عبد الله بن عمرو أن الرجل إذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها وإذا قال : الحمد لله فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها وإذا قال : الله أكبر فهي تملأ ما بين السماء والأرض وإذا قال : سبحان الله فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحدا من خلقه إلا قرره بالصلاة والتسبيح وإذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله قال : أسلم عبدي واستسلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت الصقعب بن زهير يحدث عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال : [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج أو مزورة بديباج فقال : إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع بن راع ويضع كل رأس بن رأس فقام إليه النبي صلى الله عليه و سلم مغضبا فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه فقال : لا أرى عليك ثياب من لا يعقل ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلس فقال : إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال : إني قاص عليكما الوصية آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك بالله والكبر وآمركما بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض وما فيها لو وضعت لا إله إلا الله عليهما لقصمتهما أو لفصمتهما وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء ] ورواه الإمام أحمد أيضا عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مصعب بن زهير به أطول من هذا وتفرد به
وقال ابن جرير : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي حدثنا محمد بن يعلى عن موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم بشيء امر به نوح ابنه ؟ إن نوحا عليه السلام قال لابنه : يا بني آمرك أن تقول : سبحان الله فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق وبها يزرق الخلق ] قال الله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } إسناده فيه ضعف فإن الاودي ضعيف عند الأكثرين وقال عكرمة في قوله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } قال الأسطوانة تسبح والشجرة تسبح ـ الأسطوانة ـ السارية وقال بعض السلف : صرير الباب تسبيحه وخرير الماء تسبيحه قال الله تعالى { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : الطعام يسبح ويشهد لهذا القول آية السجدة في الحج وقال آخرون : إنما يسبح ما كان فيه روح يعنون من حيوان ونبات
قال قتادة في قوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } قال : كل شيء فيه روح يسبح من شجر أو شيء فيه وقال الحسن والضحاك في قوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } قالا : كل شيء فيه الروح وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن حميد حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب قالا : حدثنا جرير أبو الخطاب قال كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام فقدموا الخوان فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعد يسبح هذا الخوان ؟ فقال : كان يسبح مرة ـ قلت : الخوان هو المائدة من الخشب ـ فكأن الحسن رحمه الله ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة كان يسبح فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بقبرين فقال [ إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الاخر فكان يمشي بالنميمة ] ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة ثم قال [ لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ] أخرجاه في الصحيحين قال بعض من تكلم على هذ الحديث من العلماء : إنما قال ما لم ييبسا لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة فإذا يبسا انقطع تسبيحهما والله أعلم
وقوله { إنه كان حليما غفورا } أي لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بل يؤجله وينظره فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر كما جاء في الصحيحين [ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } الاية وقال تعالى : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة } الاية وقال { كأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة } الايتين ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان ورجع إلى الله تاب إليه وتاب عليه كما قال تعالى : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله } الاية وقال ههنا { إنه كان حليما غفورا } كما قال في آخر فاطر { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } إلى أن قال { ولو يؤاخذ الله الناس } إلى آخر السورة (3/59)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم : وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا قال قتادة وابن زيد : هو الأكنة على قلوبهم كما قال تعالى : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } أي مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء وقوله { حجابا مستورا } بمعنى ساتر كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم لأنه من يمنهم وشؤمهم وقيل : مستورا عن الأبصار فلا تراه وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى ومال إلى ترجيحه ابن جرير رحمه الله
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم حدثنا سفيان عن الوليد بن كثير عن يزيد بن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت : [ لما نزلت { تبت يدا أبي لهب } جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول : مذمما أتينا ـ أو أبينا ـ قال أبو موسى : الشك مني ودينه قلينا وأمره عصينا ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس و أبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر رضي الله عنه : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال إنها لن تراني وقرأ قرآنا اعتصم به منها { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } قال : فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني قال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك قال : فانصرفت وهي تقول : لقد علمت قريش أني بنت سيدها ]
وقوله : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } وهي جمع كنان الذي يغشى القلب { أن يفقهوه } أي لئلا يفهموا القرآن { وفي آذانهم وقرا } وهو الثقل الذي منعهم من سماع القرآن سماعا ينفعهم ويهتدون به وقوله تعالى : { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } أي إذا وحدت الله في تلاوتك وقلت لا إله إلا الله { ولوا } أي أدبروا راجعين { على أدبارهم نفورا } ونفور جمع نافر وكقعود جمع قاعد ويجوز أن يكون مصدرا من غير الفعل والله أعلم كما قال تعالى : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } الاية قال قتادة في قوله { وإذا ذكرت ربك في القرآن } الاية إن المسلمين لما قالوا لا إله إلا الله أنكر ذلك المشركون كبرت عليهم وضاقها إبليس وجنوده فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها إنها كلمة من خاصم بها فلح ومن قاتل بها نصر إنما يعرفها أهل هذه الجريزة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها
( قول آخر في الاية )
روى ابن جرير : حدثني الحسين بن محمد الذارع حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي وحدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله : { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } هم الشياطين وهذا غريب جدا في تفسيرها وإلا فالشياطين إذا قرىء القرآن أو نودي بالأذان أو ذكر الله انصرفوا (3/61)
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بما يتناجى به رؤساء قريش حين جاؤوا يستمعون قراءته صلى الله عليه و سلم سرا من قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور من السحر على المشهور أو من السحر وهو الرئة أي إن تتبعون إن اتبعتم محمدا إلا بشرا يأكل كما قال الشاعر :
( فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر )
وقال الراجز :
( نسحر بالطعام وبالشراب )
أي يغذي وقد صوب هذا القول ابن جرير وفيه نظر لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه ومنهم من قال : شاعر ومنهم من قال : كاهن ومنهم من قال : مجنون ومنهم من قال : ساحر ولهذا قال تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصا قال محمد بن إسحاق في السيرة : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه قال : فقام عنه الأخنس وتركه (3/62)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام إنكار منهم لذلك { أإذا كنا عظاما ورفاتا } أي ترابا قاله مجاهد وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : غبارا { أإنا لمبعوثون خلقا جديدا } أي يوم القيامة بعدما بلينا وصرنا عدما لا نذكر كما أخبر عنهم في الموضع الاخر { يقولون أإنا لمردودون في الحافرة * أإذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة } وقوله تعالى : { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه } الايتين فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجيبهم فقال : { قل كونوا حجارة أو حديدا } إذ هما أشد امتناعا من العظام والرفات { أو خلقا مما يكبر في صدوركم } قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : سألت ابن عباس عن ذلك فقال : هو الموت وروى عطية عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الاية : لو كنتم موتى لأحييتكم وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده
وقد ذكر ابن جرير ههنا حديثا [ يجاء بالموت يوم القيامة وكأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يقال : يا أهل الجنة أتعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم ثم يقال : يا أهل النار أتعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت ] وقال مجاهد { أو خلقا مما يكبر في صدوركم } يعني السماء والأرض والجبال وفي رواية : ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك عن الزهري في قوله : { أو خلقا مما يكبر في صدوركم } قال النبي صلى الله عليه و سلم : قال مالك ويقولون هو الموت
وقوله تعالى : { فسيقولون من يعيدنا } أي من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا { قل الذي فطركم أول مرة } أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا ثم صرتم بشرا تنتشرون فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } الاية وقوله تعالى : { ينغضون إليك رؤوسهم } قال ابن عباس وقتادة : يحركونها استهزاء وهذا الذي قالاه هو الذي تعرفه العرب من لغاتها لأن إنغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل ومنه قيل للظليم وهو ولد النعامة نغض لأنه إذا مشى عجل بمشيته وحرك رأسه ويقال : نفصت سنه إذا تحركت وارتفعت من منبتها وقال الراجز :
( ونغضت من هرم أسنانها ... )
وقوله : { ويقولون متى هو } إخبار عنهم بالإستبعاد منهم لوقوع ذلك كما قال تعالى : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } وقال تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } وقوله : { قل عسى أن يكون قريبا } أي احذروا ذلك فإنه قريب سيأتيكم لا محالة فكل ما هو آت آت وقوله تعالى : { يوم يدعوكم } أي الرب تبارك وتعالى : { إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } أي إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يخالف ولا يمانع بل كما قال تعالى : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وقوله { فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة } أي إنما هو أمر واحد بانتهار فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها كما قال تعالى : { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } أي تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : فتستجيبون بحمده أي بأمره وكذا قال ابن جريج : وقال قتادة بمعرفته وطاعته
وقال بعضهم { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } أي وله الحمد في كل حال وقد جاء في الحديث [ ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون لا إله إلا الله ] وفي رواية يقولون { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } وسيأتي في سورة فاطر وقوله تعالى : { وتظنون } أي يوم تقومون من قبوركم { إن لبثتم } أي في الدار الدنيا { إلا قليلا } وكقوله تعالى : { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وقال تعالى : { يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما } وقال تعالى : { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون } وقال تعالى : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } (3/63)
يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى الله عليه و سلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاورتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزع الشيطان بينهم وأخرج الكلام إلى الفعال وأوقع الشر والمخاصمة والمقاتلة فإنه عدو لادم وذريته من حين امتنع عن السجود لادم وعداوته ظاهرة بينة ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة فإن الشيطان ينزع في يده أي فربما أصابه بها
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار ] أخرجاه من حديث عبد الرزاق وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا علي بن زيد عن الحسن قال : حدثني رجل من بني سليط قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو في أزفلة من الناس فسمعته يقول [ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله التقوى ههنا ] قال حماد : وقال بيده إلى صدره [ وما تواد رجلان في الله ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما المحدث شر والمحدث شر والمحدث شر ] (3/65)
يقول تعالى : { ربكم أعلم بكم } أيها الناس أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق { إن يشأ يرحمكم } بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه { أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا } أي إنما أرسلناك نذيرا فمن أطاعك دخل الجنة ومن عصاك دخل النار وقوله { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } وكما قال تعالى { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تفضلوا بين الأنبياء ] فإن المراد من ذاك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية لا بمقتضى الدليل فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء وأن أولي العزم منهم أفضلهم وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } وفي الشورى قوله : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ولا خلاف أن محمدا صلى الله عليه و سلم أفضلهم ثم بعده إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام على المشهور وقد بسطناه بدلائله في غير هذا الموضع والله الموفق وقوله تعالى : { وآتينا داود زبورا } تنبيه على فضله وشرفه قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خفف على داود القرآن فكان يأمر بدابته فتسرج فكان يقرؤه قبل أن يفرغ ] يعني القرآن (3/65)
يقول تعالى : { قل } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله { ادعوا الذين زعمتم من دونه } من الأصنام والأنداد فارغبوا إليهم { ف } إنهم { لا يملكون كشف الضر عنكم } أي بالكلية { ولا تحويلا } أي بأن يحولوه إلى غيركم والمعنى أن الذي يقدر ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر قال العوفي عن ابن عباس في قوله : { قل ادعوا الذين زعمتم } الاية قال : كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا وهم الذين يدعون يعني في الملائكة والمسيح وعزيرا
وقوله تعالى : { أولئك الذين يدعون } الاية روى البخاري من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله في قوله { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } قال : ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا وفي رواية : قال : كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم وقال قتادة عن معبد بن عبد الله الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود في قوله { أولئك الذين يدعون } الاية قال : نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم فنزلت هذه الاية وفي رواية عن ابن مسعود كانوا يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن فذكره
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب } قال : عيسى وأمه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم : كان ابن عباس يقول في هذه الاية : هم عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد : عيسى والعزير والملائكة واختار ابن جرير قول ابن مسعود لقوله { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } وهذا لا يعبر به عن الماضي فلا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة وقال والوسيلة هي القربة كما قال قتادة ولهذا قال : { أيهم أقرب } وقوله تعالى : { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء فبالخوف ينكف عن المناهي وبالرجاء يكثر من الطاعات وقوله تعالى : { إن عذاب ربك كان محذورا } أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله عياذا بالله منه (3/66)
هذا إخبار من الله عز و جل بأنه قد حتم وقضى بما عنده في اللوح المحفوظ : أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم { عذابا شديدا } إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال تعالى عن الأمم الماضين { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقال تعالى : { فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا } وقال { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } الايات (3/67)
قال سنيد عن حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير قال : قال المشركون : يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فإن سرك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا فأوحى الله إليه : إني قد سمعت الذي قالوا فإن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العذاب فإنه ليس بعد نزول الاية مناظرة وإن شئت أن نستأني بقومك استأنيت بهم قال : [ يا رب استأن بهم ] وكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما وروى الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم وقال [ لا بل استأن بهم ] وأنزل الله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } الاية ورواه النسائي وابن جرير به
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن حكيم عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه و سلم : [ ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك قال وتفعلون ؟ قالوا : نعم قال : فدعا فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة فقال : بل باب التوبة والرحمة ]
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري حدثنا خلف بن تميم المصيصي عن عبد الجبار بن عمر الأيلي عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت : [ سمعت الزبير يقول لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } صاح رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي قبيس يا آل عبد مناف إني نذير فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك وإن سليمان سخر له الريح والجبال وإن موسى سخر له البحر وإن عيسى كان يحيي الموتى فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا فنتخذها محارث فنزرع ونأكل وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا وإلا فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهبا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فإنك تزعم أنك كهيئتهم وقال : فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي فلما سري عنه قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة فلا يؤمن منكم أحد فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أنه يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ] ونزلت { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } وقرأ ثلاث آيات ونزلت { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } الاية ولهذا قال تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات } أي نبعث الايات ونأتي بها على ما سأل قومك منك فإنه سهل علينا يسير لدينا إلا أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها كما قال الله تعالى في المائدة { قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } وقال تعالى عن ثمود حين سألوا آية ناقة تخرج من صخرة عينوها فدعا صالح عليه السلام ربه فأخرج لهم منها ناقة على ما سألوه فلما ظلموا بها أي كفروا بمن خلقها وكذبوا رسوله وعقروها فقال { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } ولهذا قال تعالى : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها } أي دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها { فظلموا بها } أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر
وقوله تعالى : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } قال قتادة : إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الايات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال : يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات فقال عمر : أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن وكذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق عليه [ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز و جل يخوف بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ـ ثم قال ـ يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ] (3/67)