وقوله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه ولا دين إلا ما شرعه وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأوامر والنواهي فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ولهذا قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام وأنزل به أشرف كتبه
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله { اليوم أكملت لكم دينكم } وهو الإسلام أخبر الله نبيه صلى الله عليه و سلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا وقال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ورجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فمات قالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل فمال رسول الله صلى الله عليه و سلم على الراحلة فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن فبركت فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي وقال ابن جرير وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما رواهما ابن جرير ثم قال : حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت { اليوم أكملت لكم دينكم } وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ ما يبكيك ؟ ] قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال [ صدقت ] ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت [ إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عون حدثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال : وأي آية ؟ قال : قوله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه و سلم : عشية عرفة في يوم جمعة ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي أيضا من طرق عن قيس بن مسلم به ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : و الله إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه الله فإن هذا أمر معلوم مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها والله أعلم وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية أخبرنا رجاء بن أبي سلمة أخبرنا عبادة بن نسي أخبرنا أميرنا إسحاق قال أبو جعفر بن جرير وهو إسحاق بن حرشة عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الاية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه : نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد وقال ابن جرير : حدثنا أبو بكر حدثنا قبيصة حدثنا حماد بن سلمة عن عمار هو مولى بني هاشم : أن ابن عباس قرأ { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ويوم جمعة وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل حدثنا موسى بن هارون حدثنا يحيى بن الحماني حدثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سليمان عن أبي عمر البزار عن أبي الحنفية عن علي قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو قائم عشية عرفة { اليوم أكملت لكم دينكم }
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الاية { اليوم أكملت لكم دينكم } حتى ختمها فقال : نزلت في يوم عرفة في يوم جمعة وروى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن موسى بن دحية عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال : نزلت هذه الاية { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه و سلم واقف على الموقف فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن حنش بن عبد الله الصغاني عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وفتح بدرا يوم الاثنين وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين ـ { اليوم أكملت لكم دينكم } ورفع الذكر يوم الاثنين فإنه أثر غريب وإسناده ضعيف وقد رواه الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصغاني عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين واستنبىء يوم الاثنين وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين هذا لفظ أحمد ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين فالله أعلم ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم فاشتبه على الراوي والله أعلم
وقال ابن جرير : وقد قيل : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ثم روي من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { اليوم أكملت لكم دينكم } يقول : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال : وقد قيل : إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسيره إلى حجة الوداع ثم رواه من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم غدير خم حين قال لعلي [ من كنت مولاه فعلي مولاه ] ثم رواه عن أبي هريرة وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع ولا يصح هذا ولا هذا بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وسمرة بن جندب رضي الله عنهم وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب وغير واحد من الأئمة والعلماء واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله
وقوله { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناوله والله غفور رحيم له لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته ] لفظ ابن حبان وفي لفظ لأحمد [ من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة ] ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها وقد يكون مندوبا وقد يكون مباحا بحسب الأحوال واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال كما هو مقرر في كتاب الأحكام وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير أو صيدا وهو محرم هل يتناول الميتة أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء أو ذلك الطعام ويضمن بدله على قولين هما قولان للشافعي رحمه الله وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم بل متى اضطر إلى ذلك جاز له
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال [ إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين وكذا رواه ابن جرير عن عبد الأعلى بن واصل عن محمد بن القاسم الأسدي عن الأوزاعي به لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن مسلم بن يزيد عن أبي واقد به ومنهم من رواه عن الأوزاعي عن حسان عن مرثد أو أبي مرثد عن أبي واقد به ورواه ابن جرير عن هناد بن السري عن عيسى بن يونس عن حسان عن رجل قد سمي له فذكره ورواه أيضا عن هناد عن ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان مرسلا وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن ابن عون قال : وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه فكان فيه : ويجزىء من الاضطرار غبوق أو صبوح
حدثنا أبو كريب حدثنا هشيم عن الخصيب بن زيد التميمي حدثنا الحسن : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : متى يحل الحرام ؟ قال : فقال [ إلى متى يروى أهلك من اللبن أو تجيء ميرتهم ] حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق حدثني عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عروة بن الزبير عن جدته : أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه و سلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه والذي أحل له فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث إلا أن تفتقر إلى طعام لك فتأكل منه حتى تستغني عنه ] فقال الرجل : وما فقري الذي يحل لي وما غنائي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا كنت ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه ] فقال الأعرابي : ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته فقال صلى الله عليه و سلم [ إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام مالك فإنه ميسور كله فليس فيه حرام ]
ومعنى قوله [ ما لم تصطبحوا ] يعني به الغداء [ وما لم تغتبقوا ] يعني به العشاء [ أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها ] فكلوا منها وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف يعني قوله [ أو تحتفئوا ] على أربعة أوجه : تحفؤا بالهمزة وتحتفيوا : بتخفيف الياء والحاء وتحتفوا بتشديد وتحتفوا بالحاء وبالتخفيف ويحتمل الهمز كذا رواه في التفسير
[ حديث آخر ] ـ قال أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا الفضل بن دكين حدثنا وهب بن عقبة العامري سمعت أبي يحدث عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما يحل لنا من الميتة ؟ قال [ ما طعامكم ] ؟ قلنا : نصطبح ونغتبق قال أبو نعيم : فسره لي عقبة قدح غدوة وقدح عشية قال : ذاك وأبي الجوع وأحل لهم الميتة على هذه الحال تفرد به أبو داود وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ولا يتقيد ذلك بسد الرمق والله أعلم
[ حديث آخر ] ـ قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا سماك عن جابر عن سمرة : أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده فقال له رجل : إن ناقتي ضلت فإن وجدتها فأمسكها فوجدها ولم يجد صاحبها فمرضت فقالت له امرأته : انحرها فأبى فنفقت فقالت له امرأته : اسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله قال : لا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتاه فسأله فقال [ هل عندك غنى يغنيك ؟ ] قال : لا قال [ فكلوها ] قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال استحييت منك تفرد به وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم
وقوله : { غير متجانف لإثم } أي متعاط لمعصية الله فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الاخر كما قال في سورة البقرة { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر لأن الرخص لا تنال بالمعاصي والله أعلم (2/19)
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها إما في بدنه أو في دينه أو فيهما واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة كما قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } قال بعدها { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } كما في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه و سلم أنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا : يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } قال سعيد : يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم وقال مقاتل : الطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال : ليس هو من الطيبات رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وهب : سئل مالك عن بيع الطير الذي يأكله الناس فقال : ليس هو من الطيبات
وقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } أي أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق وأحل لكم ما صدتموه بالجوارح وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة وممن قال ذلك علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } وهن الكلاب المعلمة والبازي وكل طير يعلم للصيد والجوارح يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وروي عن خيثمة وطاوس ومجاهد ومكحول ويحيى بن أبي كثير نحو ذلك وروي عن الحسن أنه قال : الباز والصقر من الجوارح وروي عن علي بن الحسين مثله ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله وقرأ قوله { وما علمتم من الجوارح مكلبين } قال : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك ونقله ابن جرير عن الضحاك والسدي ثم قال : حدثنا هناد حدثنا ابن أبي زائدة أخبرنا ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير البازات وغيرها من الطير فما أدركت فهو لك وإلا فلا تطعمه قلت : والمحكي عن الجمهور إن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنه تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب فلا فرق وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم واختاره ابن جرير واحتج في ذلك بما رواه عن هناد حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيد البازي فقال : [ ما أمسك عليك فكل ] واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود ] فقلت : ما بال الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال : [ الكلب الأسود شيطان ]
وفي الحديث الاخر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتل الكلاب ثم قال [ ما بالهم وبال الكلاب اقتلوا منها كل أسود بهيم ] وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن جوارح من الجرح وهو الكسب كما تقول العرب : فلان جرح أهله خيرا أي كسبهم خيرا ويقولون : فلان لا جارح له أي لا كاسب له وقال الله تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي ما كسبتم من خير وشر وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا زيد بن حباب حدثني يونس بن عبيدة حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتل الكلاب فقلت : فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فسكت فأنزل الله { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين } الآية فقال النبي صلى الله عليه و سلم إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه فليأكل ما لم يأكل [ وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن الحباب بإسناده عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليستأذن عليه فأذن له فقال : قد أذن لك يا رسول الله قال : أجل ] ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب [ قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته فجاؤوا فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فأنزل الله عز و جل { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين }
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح به وقال : صحيح ولم يخرجاه وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت الآية ورواه الحاكم من طريق سماك عن عكرمة وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزول هذه الآية : أنه في قتل الكلاب
وقوله تعالى : { مكلبين } يحتمل أن يكون حالا من الفاعل ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو الجوارح أي وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفارها فيستدل بذلك والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخلابه وظفره أنه لا يحل له كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ولهذا قال { تعلمونهن مما علمكم الله } وهو أنه إذا أرسله استرسل وإذا أشلاه استشلى وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه ولهذا قال تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } فمتى كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله حل الصيد وإن قتله بالإجماع وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله ! فقال ] إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك [ قلت : وإن قتلن ؟ قال ] وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره [ قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ فقال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله ] وفي لفظ لهما [ وإذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاته ] وفي رواية لهما [ فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه ] فهذا دليل للجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا
ذكر الاثار بذلك
قال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا وكيع عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : قال سلمان الفارسي : كل وإن أكل ثلثيه ـ يعني الصيد ـ إذا أكل منه الكلب وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وعمر بن عامر عن قتادة وكذا رواه محمد بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى عن يزيد عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم بن سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل وإن أكل ثلثيه وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه عن حميد بن مالك بن خيثم الدؤلي أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب فقال : كل وإن لم يبق منه إلا حذية يعني بضعة ورواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن بكير بن الأشج عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : كل وإن أكل ثلثيه
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا داود عن عامر عن أبي هريرة قال : إذا أرسلت كلبك فأكل منه فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكله وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر قال : سمعت عبد الله وحدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك أكل أو لم يأكل وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد عن نافع فهذه الآثار ثابتة عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عمر وهو محكي عن علي وابن عباس واختلف فيه عن عطاء والحسن البصري وهو قول الزهري وربيعة ومالك وإليه ذهب الشافعي في القديم وأومأ إليه في الجديد
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا فقال ابن جرير : حدثنا عمران بن بكار الكلاعي حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني حدثنا محمد بن دينار وهو الطاجي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي ] ثم قال ابن جرير : وفي إسناد هذا الحديث نظر وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر فقال أبو داود : حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال : يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكن عليك ] فقال : ذكيا وغير ذكي وإن أكل منه ؟ قال [ نعم وإن أكل منه ] فقال : يارسول الله أفتني في قوسي قال [ كل ما ردت عليك قوسك ] قال : ذكيا وغير ذكي ؟ [ وإن تغيب عنك ما لم يضل أو تجد فيه أثر غير سهمك ] قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها قال [ اغسلها وكل فيها ] هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي وكذا رواه أبو داود من طريق يونس بن سيف عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك ] وهذان إسنادان جيدان وقد روى الثوري عن سماك بن حرب عن عدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما كان من كلب ضار أمسك عليك فكل ] قلت : وإن أكل ؟ قال [ نعم ] وروى عبد الملك بن حبيب : حدثنا أسد بن موسى عن ابن أبي زائدة عن الشعبي عن عدي بمثله فهذه آثار دالة على أنه يغتفر وإن أكل منه الكلب وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه كما تقدم عمن حكيناه عنهم وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه و سلم [ فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه ] وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل منه لجوعه فإنه لا يؤثر في التحريم وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني وهذا تفريق حسن وجمع بين الحديثين صحيح
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه [ النهاية ] أن لو فصل مفصل هذا التفصيل وقد حقق الله أمنيته وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم وقال آخرون قولا رابعا في المسألة وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عدي وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا أسباط بن محمد حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن حماد عن إبراهيم عن ابن عباس أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل فإن الكلب إذا ضربته لم يعد وإن تعلم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل وكذا قال إبراهيم النخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا المحاربي حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فما يحل لنا منها ؟ قال [ يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ثم قال ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك ] قلت : وإن قتل ؟ قال [ وإن قتل مالم يأكل ] قلت : يا رسول الله وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها ؟ قال [ فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك ] قال : قلت : إنا قوم نرمي فما يحل لنا ؟ قال [ ما ذكرت اسم الله عليه وخزقت فكل ] فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب أن لا يأكل ولم يشترط ذلك في البزاة فدل على التفرقة بينهما في الحكم والله أعلم
وقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } أي عند إرساله له كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لعدي بن حاتم [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك ] وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا [ إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله ] ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث وهذا القول هو المشهور عن الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال كما قال السدي وغيره وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { واذكروا اسم الله عليه } يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : باسم الله وإن نسيت فلا حرج وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال [ سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ] وفي صحيح البخاري عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله إن قوما يأتوننا حديث عهدهم بكفر بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا ؟ فقال [ سموا الله أنتم وكلوا ]
[ حديث آخر ] ـ وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا هشام عن بديل عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل : باسم الله أوله وآخره ] وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون به وهذا منقطع بين عبد الله بن عبيد بن عمير وعائشة فإنه لم يسمع منها هذا الحديث بدليل ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب أخبرنا هشام يعني ابن أبي عبد الله الدستوائي عن بديل عن عبد الله بن عبيد بن عمير : أن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم حدثته عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يأكل طعاما في ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين فقال [ أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسي اسم الله في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره ] رواه أحمد أيضا وأبو داود والترمذي والنسائي من غير وجه عن هشام الدستوائي به وقال الترمذي : حسن صحيح
[ حديث آخر ] ـ وقال أحمد : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا جابر بن صبح حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي وصحبته إلى واسط فكان يسمي في أول طعامه وفي آخر لقمة يقول : باسم الله أوله وآخره فقلت له : إنك تسمي في أول ما تأكل أرأيت قولك في آخر ما تأكل باسم الله أوله وآخره فقال : أخبرك أن جدي أمية بن مخشي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم سمعته يقول : إن رجلا كان يأكل والنبي ينظر فلم يسم حتى كان آخر طعامه لقمة قال : باسم الله أوله وآخره فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه ] وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث جابر بن صبح الراسبي أبي بشر البصري ووثقه ابن معين والنسائي وقال أبو الفتح الأزدي : لا تقوم به حجة
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن خيثمة عن أبي حذيفة ـ قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب ـ من أصحاب ابن مسعود عن حذيفة قال : كنا إذا حضرنا مع النبي على طعام لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله فيضع يده وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية كأنما تدفع فذهبت تضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدها وجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب يضع يده في الطعام فأخذ رسول الله بيده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما ] يعني الشيطان وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث الأعمش به
[ حديث آخر ] ـ روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم المبيت والعشاء ] لفظ أبي داود
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إنا نأكل ولا نشبع قال [ فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه ] ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم (2/23)
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث وماأحله لهم من الطيبات قال بعده { اليوم أحل لكم الطيبات } ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى فقال { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان : يعني ذبائحهم وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولايذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس
وقد ثبت في الصحيح : عن عبد الله بن مغفل قال : أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدا والتفت فإذا النبي صلى الله عليه و سلم يبتسم فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة وهذا ظاهر واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله لقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قالوا : وهذا ليس من طعامهم واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث وفي ذلك نظر لأنه قضية عين ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما والله أعلم وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم شاة مصلية وقد سموا ذراعها وكان يعجبه الذراع فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي أبهره وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات فقتل اليهودية التي سمتها وكان اسمها زينب ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة يعني ودكا زنخا وقال ابن أبي حاتم : قرىء على العباس بن الوليد بن مزيد أخبرنا محمد بن شعيب أخبرني النعمان بن المنذر عن مكحول قال : أنزل الله { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ثم نسخه الرب عز و جل ورحم المسلمين فقال { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب } فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب وفي هذا الذي قاله مكحول رحمه الله نظر فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل مالم يذكر اسم الله عليه لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم وهم متعبدون بذلك ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة بل يأكلون الميتة بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء على أحد قولي العلماء ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن أيوب عن محمد بن عبيدة قال : قال علي : لا تأكلوا ذبائح بني تغلب لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف وقال سعيد بن أبي عروبة : عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه يعني في هذه المسألة وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] ولكن لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الذي في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ الجزية من مجوس هجر ولو سلم صحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل وقوله تعالى : { وطعامكم حل لهم } أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها والأول أظهر في المعنى أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة كما ألبس النبي صلى الله عليه و سلم ثوبه لعبد الله بن أبي ابن سلول حين مات ودفنه فيه قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه فجازاه النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بذلك فأما الحديث الذي فيه [ لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ] فمحمول على الندب والاستحباب والله أعلم
وقوله : { والمحصنات من المؤمنات } أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقيل أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء حكاه ابن جرير عن مجاهد وإنما قال مجاهد : المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما قال في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل : [ حشفا وسوء كيلة ] والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الأخرى { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة وقيل : المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي وقيل : المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الآية وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } الآية
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال نزلت هذه الآية { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } قال فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فنكح الناس نساء أهل الكتاب وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة } وكقوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا } الآية
وقوله : { إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن أي كما هن محصنات عفائف فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس وقد أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما وترد عليه ما بذل لها من المهر رواه ابن جرير عنهم
وقوله : { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } فكما شرط الإحصان في النساء وهي العفة عن الزنا كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا ولهذا قال : غير مسافحين وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ولا متخذي أخدان أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن كما تقدم في سورة النساء سواء ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذه الآية وللحديث [ لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله ] وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال عن قتادة عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة فقال له أبي بن كعب : يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك وقد يقبل منه إذا تاب وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } ولهذا قال تعالى ههنا { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } (2/28)
قال كثيرون من السلف في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة } : يعني وأنتم محدثون وقال آخرون : إذا قمتم من النوم إلى الصلاة وكلاهما قريب وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ولكن هو في حق المحدث واجب وفي حق المتطهر ندب وقد قيل : إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء الإسلام ثم نسخ وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر : يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال [ إني عمدا فعلته يا عمر ] وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد ووقع في سنن ابن ماجه عن سفيان عن محارب بن دثار بدل علقمة بن مرثد كلاهما عن سليمان بن بريدة به وقال الترمذي : حسن صحيح
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عباد بن موسى أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي حدثنا الفضل بن المبشر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد فإذا بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين فقلت : أبا عبد الله أشيء تصنعه برأيك ؟ قال : بل رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يصنعه فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه وكذا رواه ابن ماجه عن إسماعيل بن توبة عن زياد البكائي به وقال أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال : أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمن هو ؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك كان يفعله حتى مات وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عوف الحمصي عن أحمد بن خالد الذهبي عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ثم قال أبو داود : ورواه إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق فقال عبيد الله بن عمر : يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد وأيا ما كان فهو إسناد صحيح وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان فزال محذور التدليس لكن قال الحافظ ابن عساكر : رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد عن ابن إسحاق عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن محمد بن يحيى بن حبان به والله أعلم وفي فعل ابن عمر هذا ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك كما هو مذهب الجمهور
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة حدثنا أزهر عن ابن عون عن ابن سيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت مسعود بن علي الشيباني سمعت عكرمة يقول : كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية وحدثنا ابن المثنى حدثني وهب بن جرير أخبرنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال : رأيت عليا صلى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه ثم مسح برأسه ورجليه وقال : هذا وضوء من لم يحدث وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم : أن عليا اكتال من حب فتوضأ وضوءا فيه تجوز فقال : هذا وضوء من لم يحدث وهذه طرق جيدة عن علي يقوي بعضها بعضا
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن يسار حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تجوز خفيفا فقال : هذا وضوء من لم يحدث وهذا إسناد صحيح وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن أبي هلال عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء فهو غريب عن سعيد بن المسيب ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه و سلم يتوضأ عند كل صلاة قال : قلت : فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد مالم نحدث وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عمرو بن عامر به وقال ابن جرير : حدثنا أبو سعيد البغدادي حدثنا إسحاق بن منصور عن هزيم عن عبد الرحمن بن زياد هو الأفريقي عن عطيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ] ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس عن الأفريقي عن أبي عطيف عن ابن عمر فذكره وفيه قصة وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الأفريقي به نحوه وقال الترمذي : وهو إسناد ضعيف
وقال ابن جرير : وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ حدثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن جابر عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراق البول نكلمه ولا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى نزلت آية الرخصة { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم عن أبي كريب به نحوه وهو حديث غريب جدا وجابر هذا هو ابن زيد الجعفي ضعفوه
وقال أبو داود : حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا : ألا نأتيك بوضوء ؟ فقال [ إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة ] وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع والنسائي عن زياد بن أيوب عن إسماعيل وهو ابن علية به وقال الترمذي : هذا حديث حسن وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث عن ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فأتى الخلاء ثم إنه رجع فأتي بطعام فقيل : يا رسول الله ألا تتوضأ ؟ فقال [ لم أصل فأتوضأ ]
وقوله { فاغسلوا وجوهكم } قد استدل طائفة من العلماء بقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } على وجوب النية في الوضوء لأن تقدير الكلام { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } لها كما تقول العرب : إذا رأيت الأمير فقم أي له وقد ثبت في الصحيحين حديث [ الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء مانوى ] ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ] ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء ويتأكد ذلك عند القيام من النوم لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ] وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا وفي النزعتين والتحذيف خلاف : هل هما من الرأس أو الوجه ؟ وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان ( أحدهما ) أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة
وروى في حديث أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى رجلا مغطيا لحيته فقال [ اكشفها فإن اللحية من الوجه ] وقال مجاهد : هي من الوجه ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام : إذا نبتت لحيته طلع وجهه ويستحب للمتوضىء أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن عامر بن حمزة عن شقيق قال : رأيت عثمان يتوضأ فذكر الحديث قال : وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل الذي رأيتموني فعلت رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرزاق وقال الترمذي : حسن صحيح وحسنه البخاري
وقال أبو داود : حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا أبو المليح حدثنا الوليد بن زوران عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته وقال [ هكذا أمرني به ربي عز و جل ] تفرد به أبو داود وقد روي هذا الوجه من غير وجه عن أنس قال البيهقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم عن علي وغيره وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي ثم عن النخعي وجماعة من التابعين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق فاختلف الأئمة في ذلك هل هما واجبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله أو مستحبان فيهما كما هو مذهب الشافعي ومالك لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خزيمة عن رفاعة بن رافع الزرقي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : للمسيء صلاته [ توضأ كما أمرك الله ] أو يجبان في الغسل دون الوضوء كما هو مذهب أبي حنيفة أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من توضأ فليستنشق ] وفي رواية [ إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر ] والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي حدثنا سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا يعني أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ثم مسح رأسه ثم أخذ غرفة من ماء ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني يتوضأ ورواه البخاري عن محمد بن عبد الرحيم عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي به
وقوله { وأيديكم إلى المرافق } أي مع المرافق كما قال تعالى { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جده عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ولكن القاسم هذا متروك الحديث وجده ضعيف والله أعلم
ويستحب للمتوضىء أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاري ومسلم من حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ] وفي صحيح مسلم عن قتادة عن خلف بن خليفة عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي صلى الله عليه و سلم يقول [ تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ] وقوله تعالى { وامسحوا برؤوسكم } اختلفوا في هذه الباء : هل هي للإلصاق ؟ وهو الأظهر أو للتبعيض ؟ وفيه نظر على قولين ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم وهو جد عمرو بن يحيى وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوضأ ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين ثم مضمض واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه وفي حديث عبد خير عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو هذا وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه و سلم مثله ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس وهو مقدار الناصية وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ولا يقدر ذلك بحد بل لو مسح بعض شعرة من رأسه أجزأه واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة قال : تخلف النبي صلى الله عليه و سلم فتخلفت معه فلما قضى حاجته قال : هل معك ماء ؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه وذكر باقي الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره فقال لهم أصحاب الإمام أحمد : إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة ونحن نقول بذلك وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين فهذا أولى وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة والله أعلم
ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا كما هو المشهور من مذهب الشافعي أو يستحب مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه على قولين فقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن حمران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم مسح برأسه ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال [ من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ] أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة عن عثمان في صفة الوضوء : ومسح برأسه مرة واحدة وكذا من رواية عبد خير عن علي مثله واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ ثلاثا ثلاثا
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا عبد الرحمن بن وردان حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثني حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فذكر نحوه ولم يذكر المضمضة والاستنشاق قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثا ثم غسل رجليه ثلاثا ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ هكذا وقال [ من توضأ هكذا كفاه ] تفرد به أبو داود ثم قال : وأحاديث عثمان في الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة
قوله { وأرجلكم إلى الكعبين } قرىء وأرجلكم بالنصب عطفا على فاغسلوا وجوهكم وأيديكم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو سلمة حدثنا وهيب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قرأها وأرجلكم يقول : رجعت إلى الغسل وروي عن عبد الله بن مسعود وعروة وعطاء وعكرمة والحسن ومجاهد وإبراهيم والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان والزهري وإبراهيم التيمي نحو ذلك وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل كما قاله السلف ومن ههنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما هو مذهب الجمهور خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ثم وجهه أجزأه ذلك لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء والواو لا تدل على الترتيب وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا فمنهم من قال : الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة لأنه مأمور به بفاء التعقيب وهي مقتضية للترتيب ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ثم لا يجب الترتيب بعده بل القائل اثنان : أحدهما بوجوب الترتيب كما هو واقع في الآية والآخر يقول : لا يجب الترتيب مطلقا والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء فوجب الترتيب فيما بعده بالإجماع حيث لا فارق
ومنهم من قال : لا نسلم أن الواو لا تدل على الترتيب بل هي دالة كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء ثم نقول بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي هي دالة على الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه و سلم لما طاف بالبيت خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ثم قال [ أبدأ بما بدأ الله به ] لفظ مسلم ولفظ النسائي [ ابدؤوا بما بدأ الله به ] وهذا لفظ أمر وإسناده صحيح فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعا والله أعلم
ومنهم من قال لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب فقطع النظير عن النظير وأدخل الممسوح بين المغسولين دل ذلك على إرادة الترتيب ومنهم من قال : لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ مرة مرة ثم قال [ هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ] قالوا : فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب ولا قائل به فوجب ما ذكرناه
وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ : وأرجلكم بالخفض فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح فقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا حميد قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم وإنه ليس شيء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وطهورهما وعراقيبهما فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما إسناد صحيح إليه وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل حدثنا مؤمل حدثنا حماد حدثنا عاصم الأحول عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وهذا أيضا إسناد صحيح وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن قيس الخراساني عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : الوضوء غسلتان ومسحتان وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المنقري حدثنا عبد الوهاب حدثنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } قال : هو المسح ثم قال : وروي عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن علي والحسن في إحدى الروايات وجابر بن زيد ومجاهد في إحدى الروايات نحوه
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا أيوب قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه قال : وكان يقوله وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب حدثنا ابن إدريس عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح ثم قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا وحدثنا ابن أبي زياد أخبرنا إسماعيل قلت لعامر : إن ناسا يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين ؟ فقال : نزل جبريل بالمسح فهذه آثار غريبة جدا وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام كما في قول العرب : حجر ضب خرب وكقوله تعالى : { عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق } وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ
ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان قاله أبو عبد الله الشافعي رحمه الله ومنهم من قال هي دالة على مسح الرجلين ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنة وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها ومن أحسن ما يستدل على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال : أخبرنا أبو علي الروزبادي حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حمويه العسكري حدثنا جعفر بن محمد القلانسي حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عبد الملك بن ميسرة سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتى بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ثم قام فشرب فضلته وهو قائم ثم قال : إن ناسا يكرهون الشرب قائما وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم صنع كما صنعت وقال [ هذا وضوء من لم يحدث ] رواه البخاري في الصحيح عن آدم ببعض معناه ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل وأضل وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية فلم يحقق مذهبه في ذلك فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ولكنه عبر عن الدلك بالمسح فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما فحكاه من حكاه كذلك ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه وإنما أراد الرجل ما ذكرته والله أعلم ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله { وأرجلكم } خفضا على المسح وهو الدلك ونصبا على الغسل فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه
ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه
قد تقدم حديث أمير المؤمنين عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معديكرب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة وإما مرتين أو ثلاثا على اختلاف رواياتهم وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ فغسل قدميه ثم قال [ هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ]
وفي الصحيحين من رواية أبي عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته [ أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار ] وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار ] وروى الليث بن سعد عن حيوة بن شريح عن عقبة بن مسلم عن عبد الله بن الحارث بن حرز أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار ] رواه البيهقي والحاكم وهذا إسناد صحيح وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق أنه سمع سعيد بن أبي كرب أو شعيب بن أبي كرب قال : سمعت جابر بن عبد الله وهو على جبل يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ويل للعراقيب من النار ] وحدثنا أسود بن عامر أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن أبي كرب عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه و سلم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله فقال [ ويل للأعقاب من النار ] ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سعيد به نحوه
وكذا رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد عن أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن أبي كرب عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله ثم قال : حدثنا علي بن مسلم حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا حفص عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى قوما يتوضؤون لم يصب أعقابهم الماء فقال [ ويل للعراقيب من النار ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا أيوب بن عقبة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن معيقيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ويل للأعقاب من النار ] تفرد به أحمد
وقال ابن جرير : حدثني علي بن عبد الأعلى حدثنا المحاربي عن مطرح بن يزيد عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ويل للأعقاب من النار ] قال : فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما وحدثنا أبو كريب حدثنا حسين عن زائدة عن ليث حدثني عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة أو عن أخي أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أبصر قوما يصلون وفي عقب أحدهم أو كعب أحدهم مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر لم يمسه الماء فقال [ ويل للأعقاب من النار ] قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعاد وضوءه
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف وهكذا وجه هذه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى وقد روى مسلم في صحيحه من طريق أبي الزبير عن جابر عن عمر بن الخطاب : أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه و سلم وقال [ ارجع فأحسن وضوءك ] وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب حدثنا جرير بن حازم أنه سمع قتادة بن دعامة قال : حدثنا أنس بن مالك أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم قد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ارجع فأحسن وضوءك ] وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف وابن ماجه عن حرملة بن يحيى كلاهما عن ابن وهب به وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات لكن قال أبو داود : ليس هذا الحديث بمعروف لم يروه إلا ابن وهب وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا يونس وحميد عن الحسن : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بمعنى حديث قتادة
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا بقية حدثني يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم : رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعيد الوضوء ورواه أبو داود من حديث بقية وزاد : والصلاة وهذا إسناد جيد قوي صحيح والله أعلم
وفي حديث حمران عن عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه و سلم أنه خلل بين أصابعه وروى أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله أخبرني عن الوضوء فقال [ أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن المقري حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال : قال أبو أمامة : حدثنا عمرو بن عبسة قال : قلت : يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال [ مامنكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرجت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرجت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ]
قال أبو أمامة : يا عمرو انظر ما تقول سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم أيعطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ فقال عمرو بن عبسة : يا أبا أمامة لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك وهذا إسناد صحيح
وهو في صحيح مسلم من وجه آخر وفيه : ثم يغسل قدميه كما أمره الله فدل على أن القرآن يأمر بالغسل وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير عن علي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما إنما أراد غسلا خفيفا وهما في النعلين ولا مانع من إيجاد الغسل والرجل في نعلها ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين
وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير على نفسه وهو من روايته عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه وهو حديث صحيح وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال : فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه قلت : ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى عن شعبة حدثني يعلى عن أبيه عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة وقد رواه أبو داود عن مسدد وعباد بن موسى كلاهما عن هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم ثم قال : وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية ومتعارضة وقد صح عنه صلى الله عليه و سلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه ولما كان القرآن آمرا بغسل الرجلين كما في قراءة النصب وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليه توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب ولكن لم يصح إسناده ثم الثابت عنه خلافه وليس كما زعموه فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا زياد بن عبد الله بن علاثة عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن مجاهد عن جرير بن عبد الله البجلي قال : أنا أسلمت بعد نزول المائدة وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يمسح بعدما أسلمت تفرد به أحمد وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن إبراهيم عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل : تفعل هذا ؟ فقال : نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه قال الأعمش : قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة لفظ مسلم وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم مشروعية المسح على الخفين قولا منه وفعلا كما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير مع ما يحتاج إلى ذكره هناك من تأقيت المسح أو عدمه أو التفصيل فيه كما هو مبسوط في موضعه
وقد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند بل بجهل وضلال مع أنه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم على وفق ما دلت هذه الآية الكريمة وهم مخالفون لذلك كله وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر ولله الحمد وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين فعندهم أنهما في ظهر القدم فعندهم في كل رجل كعب وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم قال الربيع : قال الشافعي : لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع مفصل الساق والقدم هذا لفظه فعند الأئمة رحمهم الله : في كل قدم كعبان كما هو المعروف عند الناس وكما دلت عليه السنة ففي الصحيحين من طريق حمران عن عثمان أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين واليسرى مثل ذلك
وروى البخاري تعليقا مجزوما به وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه من رواية أبي القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي عن النعمان بن بشير قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بوجهه فقال [ أقيموا صفوفكم ـ ثلاثا ـ والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم ] قال : فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه وركبته بركبة صاحبه ومنكبه بمنكبه لفظ ابن خزيمة فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظم الناتىء في الساق حتى يحاذي كعب الآخر فدل ذلك على ما ذكرناه من أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن موسى أخبرنا شريك عن يحيى بن الحارث التيمي يعني الخابر قال : نظرت في قتلى أصحاب زيد فوجدت الكعب فوق ظهر القدم وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه (2/31)
وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } كل ذلك قد تقدم الكلام عليه في تفسير آية النساء فلا حاجة بنا إلى إعادته لئلا يطول الكلام وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك لكن البخاري روى ههنا حديثا خاصا بهذه الآية الكريمة فقال : حدثنا يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه عن عائشة قالت : سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال : حبست الناس في قلادة فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مني وقد أوجعني ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } إلى آخر الآية فقال أسيد بن الحضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم
وقوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر بل أباح التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ورحمة بكم وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه كما تقدم بيانه وكما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير وقوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما يحدث الناس فأدركت من قوله [ ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة ] قال : قلت : ما أجود هذا فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود منها فنظرت فإذا عمر رضي الله عنه فقال : إني قد رأيتك جئت آنفا قال [ ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ] لفظ مسلم
وقال مالك عن نهشل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب ] رواه مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن مالك به وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كعب بن مرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه إلا خرجت خطاياه منهما فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه ] هذا لفظه وقد رواه الإمام أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن منصور عن سالم عن مرة بن كعب أو كعب بن مرة السلمي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ وإذا توضأ العبد فغسل يديه خرجت خطاياه من بين يديه وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه وإذا غسل ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه ] قال شعبة : ولم يذكر مسح الرأس وهذا إسناد صحيح
وروى ابن جرير من طريق شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه ] وروى مسلم في صحيحه من حديث يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض والصوم جنة والصبر ضياء والصدقة برهان والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ] وفي صحيح مسلم من رواية سماك بن حرب عن مصعب بن سعد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يقبل الله صدقة من غلول ولا صلاة بغير طهور ] وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن قتادة سمعت أبا المليح الهذلي يحدث عن أبيه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيت فسمعته يقول [ إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور ولا صدقة من غلول ] وكذا رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة (2/42)
يقول تعالى مذكرا عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه فقال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا } وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم عند إسلامهم كما قالوا : بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وقال الله تعالى : { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } وقيل : هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه و سلم والانقياد لشرعه رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
وقيل : هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } قاله مجاهد ومقاتل بن حيان والقول الأول أظهر وهو المحكي عن ابن عباس والسدي واختاره ابن جرير
ثم قال تعالى : { واتقوا الله } تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر فقال { إن الله عليم بذات الصدور } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله } أي كونوا قوامين بالحق لله عز و جل لا لأجل الناس والسمعة وكونوا { شهداء بالقسط } أي بالعدل لا بالجور وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نحلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه ليشهده على صدقتي فقال [ أكل ولدك نحلت مثله ؟ ] قال : لا فقال [ اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ] وقال [ إني لا أشهد على جور ] قال : فرجع أبي فرد تلك الصدقة
وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم بل استعملوا العدل في كل أحد صديقا كان أو عدوا ولهذا قال { اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه كما في نظائره من القرآن وغيره كما في قوله { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم }
وقوله : هو أقرب للتقوى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء كما في قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } وكقول بعض الصحابيات لعمر : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال تعالى : { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولهذا قال بعده { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة } أي لذنوبهم { وأجر عظيم } وهوالجنة التي هي من رحمته على عباده لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم وهو تعالى الذي جعلها أسبابا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه فالكل منه وله فله الحمد والمنة
ثم قال : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } وهذا من عدله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا يجور فيه بل هو الحكم العدل الحكيم القدير وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري ذكره عن أبي سلمة عن جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها وعلق النبي صلى الله عليه و سلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذه فسله ثم أقبل على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : من يمنعك مني ؟ قال : [ الله عز و جل ] قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا : من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه و سلم يقول [ الله ] قال : فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه وقال معمر : كان قتادة يذكر نحو هذا ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسلوا هذا الأعرابي وتأول { اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } الآية وقصة هذا الأعرابي وهو غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولأصحابه طعاما ليقتلوهم فأوحى الله إليه بشأنهم فلم يأت الطعام وأمر أصحابه فأتوه رواه ابن أبي حاتم وقال أبو مالك : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف رواه ابن أبي حاتم وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد وعكرمة وغير واحد أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ووكلوا عمرو بن جحاش ابن كعب بذلك وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه و سلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه فأطلع الله النبي صلى الله عليه و سلم على ما تمالؤوا عليه فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية وقوله تعالى : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه وحفظه من شر الناس وعصمه ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يغدو إليهم فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم (2/43)
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين : اليهود والنصارى فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنا منه لهم وطردا عن بابه وجنابه وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق وهو العلم النافع والعمل الصالح فقال تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه وقد ذكر ابن عباس عن ابن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب قال محمد بن إسحاق : فكان من سبط روبيل شامون بن ركون ومن سبط شمعون شافاط بن حري ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا ومن سبط أتين ميخائيل بن يوسف ومن سبط يوسف وهو سبط إفرايم يوشع بن نون ومن سبط بنيامين فلطم بن دفون ومن سبط زبولون جدي بن شورى ومن سبط منشأ بن يوسف جدي بن موسى ومن سبط دان خملائيل بن حمل ومن سبط أشار ساطور بن ملكيل ومن سبط نفثالي بحر بن وقسي ومن سبط يساخر لايل بن مكيد
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لم ذكره ابن إسحاق والله أعلم قال فيها : فعلى بني روبيل اليصور بن سادون وعلى بني شمعون شموال بن صورشكي وعلى بني يهوذا الحشون بن عمياذاب وعلى بني يساخر شال بن صاعون وعلى بني زبولون الياب بن حالوب وعلى بني إفرايم منشا بن عمنهور وعلى بني منشا حمليائيل بن يرصون وعلى بني بنيامين أبيدن بن جدعون وعلى بني دان جعيذر بن عميشذي وعلى بني أشار نحايل بن عجران وعلى بني كان السيف بن دعواييل وعلى بني نفتالي أجذع بن عمينان
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم الأنصار ليلة العقبة كان فيهم اثنا عشر نقيبا : ثلاثة من الأوس : وهم أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر ويقال بدله أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وتسعة من الخزرج وهم : أبو أمامة أسعد بن زراة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك بن العجلان والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حرام والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له كما أورده ابن إسحاق رحمه الله والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه و سلم لهم بذلك وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه و سلم كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال : نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل ] هذا حديث غريب من هذا الوجه وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول [ لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا ] ثم تكلم النبي صلى الله عليه و سلم بكلمة خفيت علي فسألت أي ماذا قال النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال [ كلهم من قريش ] وهذا لفظ مسلم ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحا يقيم الحق ويعدل فيهم ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم بل وقد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي صلى الله عليه و سلم واسم أبيه اسم أبيه فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية بل هو من هوس العقول السخيفة وتوهم الخيالات الضعيفة وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم
وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام وإن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيما وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر فيتشيع كثير منهم جهلا وسفها لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم
وقوله تعالى : { وقال الله إني معكم } أي بحفظي وكلاءتي ونصري { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي } أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي { وعزرتموهم } أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق { وأقرضتم الله قرضا حسنا } وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته { لأكفرن عنكم سيئاتكم } أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود
وقوله { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل } أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده وجحده وعامله معاملة من لا يعرفه فقد أخطأ الطريق الواضح وعدل عن الهدى إلى الضلال ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده فقال { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى { وجعلنا قلوبهم قاسية } أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها { يحرفون الكلم عن مواضعه } أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله وتأولوا كتابه على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا عليه مالم يقل عياذا بالله من ذلك { ونسوا حظا مما ذكروا به } أي وتركوا العمل به رغبة عنه وقال الحسن : تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة فلا قلوب سليمة ولا فطر مستقيمة ولا أعمال قويمة { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك وقال مجاهد وغيره : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه و سلم { فاعف عنهم واصفح } وهذا هو عين النصر والظفر كما قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ولعل الله أن يهديهم ولهذا قال تعالى : { إن الله يحب المحسنين } يعني به الصفح عمن أساء إليك وقال قتادة : هذه الآية ( فاعف عنهم واصفح ) منسوخة بقوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الآية
وقوله تعالى : { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسوا كذلك أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ففعلوا كما فعل اليهود خالفوا المواثيق ونقضوا العهود ولهذا قال تعالى : { فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها فالملكية تكفر اليعقوبية وكذلك الآخرون وكذلك النسطورية والآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ثم قال تعالى : { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله وما نسبوه إلى الرب عز و جل وتعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا من جعلهم له صاحبة وولدا تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (2/45)
يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض : عربهم وعجمهم أميهم وكتابيهم وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل فقال تعالى : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير } أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قوله { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } فكان الرجم مما أخفوه ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة { ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } أي ينجيهم من المهالك ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور ويحصل لهم أحب الأمور وينفي عنهم الضلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة (2/48)
يقول تعالى مخبرا وحاكيا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم وهو عبد من عباد الله وخلق من خلقه أنه هو الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ثم قال مخبرا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه { قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } أي لو أراد ذلك فمن ذا الذي كان يمنعه منه أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك ثم قال { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء } أي جميع الموجودات ملكه وخلقه وهو القادر على ما يشاء لا يسأل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة
ثم قال تعالى رادا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم يعني ربي وربكم ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من النبوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه وحظوتهم عنده ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه قال الله تعالى رادا عليهم { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } أي لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه فلم أعد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم ؟
وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه فلم يرد عليه فتلا عليه الصوفي هذه الآية { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } وهذا الذي قاله حسن وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال : حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني وسعت فأخذته فقال القوم : يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار قال : فحفظهم النبي صلى الله عليه و سلم فقال [ لا والله ما يلقي حبيبه في النار ] تفرد به أحمد { بل أنتم بشر ممن خلق } أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } أي هو فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه { وإليه المصير } أي المرجع والمآب إليه فيحكم في عباده بما يشاء وهو العادل الذي لا يجور
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : وأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم نعمان بن آصا وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى فأنزل الله فيهم { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } إلى آخر الآية رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } أما قولهم : { نحن أبناء الله } فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد فيدخلهم النار فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي مناد : أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فأخرجوهم فذلك قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودات (2/48)
يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم ولهذا قال : على فترة من الرسل أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي ؟ فقال أبو عثمان النهدي وقتادة في رواية عنه : كانت ستمائة سنة ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة وقال معمر عن بعض أصحابه : خمسمائة وأربعون سنة وقال الضاحك : أربعمائة وبضع وثلاثون سنة وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام عن الشعبي أنه قال : ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه و سلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة والمشهور هو القول الأول وهو أنها ستمائة سنة ومنهم من يقول : ستمائة وعشرون سنة ولا منافاة بينهما فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية والآخر أراد قمرية وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين ولهذا قال تعالى في قصة أهل الكهف { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا } أي قمرية لتكميل ثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب وكانت الفترة بين عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أولى الناس بابن مريم لأنا ليس بيني وبينه نبي ] وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان كما حكاه القضاعي وغيره والمقصود أن الله بعث محمدا صلى الله عليه و سلم على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان فكانت النعمة به أتم النعم والحاجة إليه أمر عمم فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين
كما قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حماد المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب ذات يوم فقال في خطبته [ وإن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا كل مال نحلته عبادي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ثم إن الله عز و جل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم : عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت : يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة فقال : استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق عليهم فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسا أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط موفق متصدق ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ورجل عفيف فقير ذو عيال متصدق وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا دين له والذين هم فيكم تبع أو تبعا ـ شك يحيى ـ لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك وذكر البخيل أو الكذاب والشنظير الفاحش ]
ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير وفي رواية شعبة عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده أن قتادة لم يسمعه من مطرف وإنما سمعه من أربعة عنه ثم رواه هو عن روح عن عوف عن حكيم الأثرم عن الحسن قال : حدثني مطرف عن عياض بن حماد فذكره ورواه النسائي من حديث غندر عن عوف الأعرابي به والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله [ وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل ] وفي لفظ مسلم : من أهل الكتاب وكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء ولهذا قال تعالى : { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } أي لئلا تحتجوا وتقولوا ياأيها الذين بدلوا دينهم وغيروه ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمدا صلى الله عليه و سلم { والله على كل شيء قدير } قال ابن جرير : معناه إني قادر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني
وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين * ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلآ إنا هاهنا قاعدون * قال رب إني لآ أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام فيما ذكر به قومه من نعم الله عليهم وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة : لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة فقال تعالى : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى بن مريم عليه السلام ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه و سلم
وقوله { وجعلكم ملوكا } قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن الحكم أو غيره عن ابن عباس في قوله : وجعلكم ملوكا قال : الخادم والمرأة والبيت وروى الحاكم في مستدركه من حديث الثوري أيضا عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : المرأة والخادم { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } قال : الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكا وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو هانىء أنه سمع أبا عبد الرحمن الحنبلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم قال : فأنت من الأغنياء فقال : إن لي خادما قال : فأنت من الملوك وقال الحسن البصري : هل الملك إلا مركب وخادم ودار رواه ابن جرير ثم روي عن الحكم ومجاهد ومنصور وسفيان الثوري نحوا من هذا وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران وقال ابن شوذب : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم واستؤذن عليه فهو ملك وقال قتادة : كانوا أول من اتخذ الخدم
وقال السدي في قوله { وجعلكم ملوكا } قال : يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله رواه ابن أبي حاتم وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقال ابن جرير : حدثنا الزبير بن بكار حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض سمعت زيد بن أسلم يقول : وجعلكم ملوكا فلا أعلم إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان له بيت وخادم فهو ملك وهذا مرسل غريب وقال مالك : بيت وخادم وزوجة وقد ورد في الحديث [ من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ]
وقوله { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } يعني عالمي زمانكم فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين } وقال تعالى إخبارا عن موسى لما قالوا { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين } والمقصود أنهم كانوا أفضل زمانهم وإلا فهذه الأمة أشرف منهم وأفضل عند الله وأكمل شريعة وأقوم منهاجا وأكرم نبيا وأعظم ملكا وأغزر أرزاقا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع مملكة وأدوم عزا قال الله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } من سورة آل عمران
وروى ابن جرير عن ابن عباس وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } : يعني أمة محمد صلى الله عليه و سلم فكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله { وآتاكم ما لم يؤت أحدا } مع هذه الأمة والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا وقيل : المراد وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين : يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى ويظللهم به من الغمام وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات فالله أعلم
ثم قال تعالى مخبرا عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها فأمرهم رسول الله موسى عليه السلام بالدخول إليها وبقتال أعدائهم وبشرهم بالنصرة والظفر عليهم فنكلوا وعصوا وخالفوا أمره فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال : يا قومي ادخلوا الأرض المقدسة أي المطهرة وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في قوله : ادخلوا الأرض المقدسة قال : هي الطور وما حوله وكذا قال مجاهد وغير واحد وروى سفيان الثوري عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس قال : هي أريحاء وكذا ذكر عن غير واحد من المفسرين وفي هذا نظر لأن أريحاء ليست هي المقصودة بالفتح ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس وقد قدموا من بلاد مصر حين أهلك الله عدوهم فرعون إلا أن يكون المراد بأريحاء أرض بيت المقدس كما قاله السدي فيما رواه ابن جرير عنه لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الطور شرقي بيت المقدس
وقوله تعالى : { التي كتب الله لكم } أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم { ولا ترتدوا على أدباركم } أي ولا تنكلوا عن الجهاد { فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوما جبارين أي ذوي خلق هائلة وقوى شديدة وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم ولا يمكننا الدخول إليها ماداموا فيها فإن يخرجوا منها دخلناها وإلا فلا طاقة لنا بهم وقد قال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان قال : قال أبو سعيد : قال عكرمة عن ابن عباس قال : أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين قال : فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عينا من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم قال : فدخلوا المدينة فرأوا أمرا عظيما من هيئتهم وجسمهم وعظمهم فدخلوا حائطا لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم فتبعهم فكلما أصاب واحدا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الاثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب بهم إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا فاذهبوا فأخبروا صاحبكم قال : فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم وفي هذا الإسناد نظر وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس لما نزل موسى وقومه بعث منهم اثني عشر رجلا وهم النقباء الذين ذكرهم الله فبعثهم ليأتوه بخبرهم فساروا فلقيهم رجل من الجبارين فجعلهم في كسائه فحملهم حتى أتى بهم المدينة ونادى في قومه فاجتمعوا إليه فقالوا من أنتم ؟ قالوا : نحن قوم موسى بعثنا نأتيه بخبركم فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل فقالوا لهم اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم هذا قدر فاكهتهم فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما رأوا فلما أمرهم موسى عليه السلام بالدخول عليهم وقتالهم قالوا : يا موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون رواه ابن أبي حاتم ثم قال : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهادي حدثني يحيى بن عبد الرحمن قال : رأيت أنس بن مالك أخذ عصاه فذرع فيها بشيء لا أدري كم ذرع ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمسا وخمسين ثم قال : هكذا طول العماليق وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارا من وضع بني إسرائيل في عظمة خلق هؤلاء الجبارين وأن منهم عوج بن عنق ابن بنت آدم عليه السلام وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع تحرير الحساب وهذا شيء يستحيى من ذكره ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن ] ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا وأنه كان ولد زنية وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } وقال تعالى : { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين } وقال تعالى : { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم
وقوله تعالى : { قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما } أي فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى صلى الله عليه و سلم حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وقرأ بعضهم { قال رجلان من الذين يخافون } أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس ويقال إنهما يوشع بن نون وكالب بن يوقنا قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطية والسدي والربيع بن أنس وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله فقالا { ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم فلم ينفع ذاك فيهم شيئا { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } وهذا نكول منهم عن الجهاد ومخالفة لرسولهم وتخلف عن مقاتلة الأعداء ويقال : إنهم لما نكلوا عن الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر سجد موسى وهارون عليهما السلام قدام ملأ من بني إسرائيل إعظاما لما هموا به وشق يوشع بن نون وكالب بن يوقنا ثيابهما ولاما قومهما على ذلك فيقال إنهم رجموهما وجرى أمر عظيم وخطر جليل وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين استشارهم في قتال النفير الذين جاؤوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان فلما فات اقتناص العير واقترب منهم النفير وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض واليلب فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ أشيروا علي أيها المسلمون ] وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقول سعد ونشطه ذلك
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو حاتم الرازي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين فأشار عليه عمر ثم استشارهم فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : إذا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك ورواه الإمام أحمد عن عبيدة بن حميد الطويل عن أنس به ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث عن حميد به ورواه ابن حبان عن أبي يعلى عن عبد الأعلى بن حماد عن معمر بن سليمان عن حميد به
وقال ابن مردويه : أنبأنا عبد الله بن جعفر أنبأنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا محمد بن شعيب عن الحكم بن أيوب عن عبد الله بن ناسخ عن عتبة بن عبيد السلمي قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه [ ألا تقاتلون ] ؟ قالوا نعم ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثني سفيان عن مخارق بن عبد الله الأحمسي عن طارق هو ابن شهاب أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر : يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون هكذا رواه أحمد من هذا الوجه وقد رواه من طريق أخرى فقال : حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يدعو على المشركين فقال : والله يارسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم يشرق لذلك وسر بذلك
وهكذا رواه البخاري في المغازي وفي التفسير من طرق عن مخارق به ولفظه في كتاب التفسير عن عبد الله قال : قال المقداد يوم بدر : يارسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن امض ونحن معك فكأنه سري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال البخاري : رواه وكيع عن سفيان عن مخارق عن طارق أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه و سلم وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد المشركون الهدي وحيل بينهم وبين مناسكهم [ إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت ] فقال له المقداد بن الأسود : أما والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم تتابعوا على ذلك وهذا إن كان محفوظا يوم الحديبية فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بدر
وقوله : { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام وقال داعيا عليهم { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } قال العوفي عن ابن عباس : يعني اقض بيني وبينهم وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وكذا قال الضحاك : اقض بيننا وبينهم وافتح بيننا وبينهم وقال غيره : افرق افصل بيننا وبينهم كما قال الشاعر
يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين
وقوله تعالى : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } الآية لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنة فوقعوا في التيه يسيرون دائما لا يهتدون للخروج منه وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينا تجري لكل شعب عين وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام وعملت قبة العهد ويقال لها : قبة الزمان قال يزيد بن هارون عن أصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } الآية قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ثم ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة من حديث الفتون ثم كانت وفاة هارون عليه السلام ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى عليه السلام وأقام لله فيهم يوشع بن نون عليه السلام نبيا خليفة عن موسى بن عمران ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب ومن ههنا قال بعض المفسرين في قوله { قال فإنها محرمة عليهم } هذا وقف تام وقوله { أربعين سنة } منصوب بقوله { يتيهون في الأرض } فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال : إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي فحبسها الله تعالى حتى فتحها وأمر الله يوشع بن نون أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بين المقدس أن يدخلوا بابها سجدا وهم يقولون : حطة أي حط عنا ذنوبنا فبدلوا ما أمروا به ودخلوا يزحفون على أستاههم وهو يقولون : حبة في شعرة وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن أبي عمر العبدي حدثنا سفيان عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قوله { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } قال : فتاهوا أربعين سنة قال : فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون وهو الذي قام بالأمر بعد موسى وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم الجمعة فهموا بافتتاحها ودنت الشمس للغروب فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا فنادى الشمس : إني مأمور وإنك مأمورة فوقفت حتى افتتحها فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط فقربوه إلى النار فلم تأته فقال فيكم الغلول فدعا رؤوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلا فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده فقال : الغلول عندك فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلته وهذا السياق له شاهد في الصحيح
وقد اختار ابن جرير أن قوله : { فإنها محرمة عليهم } هو العامل في أربعين سنة وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد قال : ثم خرجوا مع موسى عليه السلام ففتح بهم بيت المقدس ثم احتج على ذلك من قال بإجماع علماء أخبار الأولين أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق فدل على أنه كان بعد التيه قال : وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على موسى قال : وما ذاك إلا بعد التيه لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه هذا استدلاله ثم قال : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن عطية حدثنا قيس عن ابن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ووثبته عشرة أذرع وطوله عشرة أذرع فوثب فأصاب كعب عوج فقتله فكان جسرا لأهل النيل سنة وروي أيضا عن محمد بن بشار : حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن نوف هو البكالي قال : كان سرير عوج ثمانمائة ذراع وكان طول موسى عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع ووثب في السماء عشرة أذرع فضرب عوجا فأصاب كعبه فسقط ميتا وكان جسرا للناس يمرون عليه
وقوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } تسلية لموسى عليه السلام عنهم أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون لتقر به أعينهم وما بالعهد من قدم ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل هذا وهم في جهلهم يعمهون وفي غيهم يترددون وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه ويقولون مع ذلك : نحن أبناء الله وأحباؤه فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود ويقضي لهم فيها بتأييد الخلود وقد فعل وله الحمد في جميع الوجود (2/50)
يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور وهما قابيل وهابيل كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله بغيا عليه وحسدا له فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز و جل ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين فقال تعالى : { واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق } أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف
وقوله { بالحق } أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب ولا وهم ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان كقوله تعالى : { إن هذا لهو القصص الحق } وقوله تعالى : { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } وقال { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق } وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف أن الله تعالى : شرع لادم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ولكن قالوا : كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة فأراد أن يستأثر بها على أخيه فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قربانا فمن تقبل منه فهي له فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه
ذكر أقوال المفسرين ههنا
قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر حتى ولد له ابنان يقال لهما : هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع وكان هابيل صاحب ضرع وكان قابيل أكبرهما وكان له أخت أحسن من أخت هابيل وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه وقال هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى وأنهما قربا قربانا إلى الله عز و جل أيهما أحق بالجارية وكان آدم عليه السلام قد غاب عنهما أتى مكة ينظر إليها قال الله عز و جل : هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ؟ قال : اللهم لا قال : إن لي بيتا في مكة فأته فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت وقال للأرض فأبت وقال للجبال فأبت فقال لقابيل فقال : نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قربا قربانا وكان قابيل يفخر عليه فقال : أنا أحق بها منك هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي فقال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين رواه ابن جرير
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال : أقبلت مع سعيد بن جبير فحدثني عن ابن عباس قال : نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة فقال أخو الدميمة : أنكحني أختك وأنكحك أختي فقال لا أنا أحق بأختي فقربا قربانا فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع فقتله إسناد جيد وحدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقوله { إذ قربا قربانا } فقربا قربانهما فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض وصاحب الحرث بصبرة من طعامه فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفا وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام إسناد جيد
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو قال : إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم وإنهما أمرا أن يقربا قربانا وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان غير طيبة بها نفسه وإن الله عز و جل تقبل قربان صاحب الغنم ولم يتقبل قربان صاحب الحرث وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه قال : وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص : بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه فأحبه حتى كان يؤثره بالليل وكان يحمله على ظهره من حبه حتى لم يكن له مال أحب إليه منه فلما أمر بالقربان قربه لله عز و جل فقبله الله منه فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه السلام رواه ابن جرير
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا الأنصاري حدثنا القاسم بن عبد الرحمن حدثنا محمد بن علي بن الحسين قال : قال آدم عليه السلام لهابيل وقابيل : إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان فقربا قربانا حتى تقر عيني إذا تقبل قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله وكان قابيل صاحب زرع فقرب مشاقة من زرعه فانطلق آدم معهما ومعهما قربانهما فصعدا الجبل فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان فبعث الله نارا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل فانصرفوا وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه فقال : ويلك يا قابيل رد عليك قربانك فقال قابيل أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد علي قرباني فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح منك دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل منك وكان يتوعده بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه فقال آدم : يا قابيل أين أخوك ؟ قال : وبعثتني له راعيا لا أدري فقال آدم : ويلك يا قابيل انطلق فاطلب أخاك فقال قابيل في نفسه : الليلة أقتله وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب فقال : يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك فقال هابيل : قربت أطيب مالي وقربت أنت أخبث مالك وإن الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه بها فقال : ويلك يا قابيل أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله فطرحه في حوبة من الأرض وحثى عليه شيئا من التراب
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل وأمر هابيل أن ينكح توأمة قابيل فسلم لذلك هابيل ورضي وأبى ذلك قابيل وكره تكرما عن أخت هابيل ورغب بأخته عن هابيل وقال : نحن من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض وأنا أحق بأختي ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه : يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه قال له أبوه : يا بني قرب قربانا ويقرب أخوك هابيل قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكان قابيل على بذر الأرض وكان هابيل على رعاية الماشية فقرب قابيل قمحا وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه وبعضهم يقول : قرب بقرة فأرسل الله نارا بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله رواه ابن جرير
وروى العوفي عن ابن عباس قال : من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله أرسل إليه نارا فتأكله وإن لم يكن رضيه الله خبت النار فقربا قربانا وكان أحدهما راعيا وكان الآخر حراثا وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها وقرب الآخر بعض زرعه فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع وإن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانا فتقبل منك ورد علي فلا والله لا ينظر الناس إلي وأنت خير مني فقال : لأقتلنك فقال له أخوه : ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين رواه ابن جرير فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن { إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين } فالسياق يقتضي أنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته حتى قال ابن عباس وغيره إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب والله أعلم ولم يتقبل من قابيل كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضا ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال الذي قرب الزرع قابيل وهو المتقبل منه وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم
ومعنى قوله { إنما يتقبل الله من المتقين } أي ممن اتقى الله في فعله ذلك وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زيد حدثنا إسماعيل بن عياش حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري قال : سمعت أبا الدرداء يقول : لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول { إنما يتقبل الله من المتقين } وحدثنا أبي حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون بن أبي حمزة قال : كنت جالسا عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة : يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال : بلى سمعته يقول : يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد : أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر قلت : من المتقون ؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة
وقوله { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين } يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة { إني أخاف الله رب العالمين } أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب قال عبد الله بن عمرو : وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ] قالوا : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال [ إنه كان حريصا على قتل صاحبه ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس عن بكير بن عبد الله عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي ] قال : أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني فقال [ كن كابن آدم ] وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد وقال : هذا حديث حسن وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في الإسناد رجلا قال الحافظ ابن عساكر : الرجل هو حسين الأشجعي قلت : وقد رواه أبو داود من طريقه فقال : حدثنا يزيد بن خالد الرملي حدثنا الفضل عن عياش بن عباس عن بكير عن بشر بن سعيد عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث قال : فقلت : يارسول الله أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كن كابن آدم ] وتلا { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين }
قال أيوب السختياني : إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين } لعثمان بن عفان رضي الله عنه رواه ابن أبي حاتم وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن حزم حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال : ركب النبي صلى الله عليه و سلم حمارا أردفني خلفه وقال [ يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟ ] قال : قال الله ورسوله أعلم قال [ تعفف ] قال [ يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع ؟ ] قلت : الله ورسوله أعلم قال : { اصبر } قال [ يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟ ] قال : الله ورسوله أعلم قال [ اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك ] قال : فإن لم أترك قال [ فأت من أنت منهم فكن منهم ] قال : فآخذ سلاحي قال [ فإذا تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك ] ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت به ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر بنحوه قال أبو داود : ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان عن منصور عن ربعي قال : كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلا يقول : سمعت هذا يقول في ناس مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم ]
وقوله { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين } قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي في قوله { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك قاله ابن جرير وقال آخرون : يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي وهذا قول وجدته عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطا لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد { إني أريد أن تبوء بإثمي } قال : بقتلك إياي { وإثمك } قال : بما كان منك قبل ذلك وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح عن مجاهد بمثله وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } يقول إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعا
( قلت ) وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له [ ما ترك القاتل على المقتول من ذنب ] وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا يشبه هذا ولكن ليس به فقال : حدثنا عمرو بن علي حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني حدثنا يعقوب بن عبد الله حدثنا عتبة بن سعيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه ] وهذا بهذا لا يصح ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في المظالم كلها والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم
وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال إن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله { إني أريد أن تبوء بإثمي } وأما معنى { وإثمك } فهو إثمه يعني قتله وذلك معصية الله عز و جل في أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه وأن الله عز و جل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله هذا لفظه ثم أورد على هذا سؤالا حاصله كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله بل يكف عنه يده طالبا إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه قلت : وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ وزجرا له لو انزجر ولهذا قال { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } أي تتحمل إثمي وإثمك { فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين } وقال ابن عباس : خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر
وقوله تعالى : { فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين } أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين أنه قتله بحديدة في يده وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة بن عبد الله وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فطوعت له نفسه قتل أخيه فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء رواه ابن جرير وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقا وعضا كما تقتل السباع وقال ابن جرير : لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ثم أخذ حجرا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر ففعل بأخيه مثل ذلك رواه ابن أبي حاتم وقال عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال : أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله فجاءه إبليس فقال : أتريد أن تقتله ؟ قال : نعم قال : فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه قال : فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعا فقال : يا حواء إن قابيل قتل هابيل فقالت له : ويحك وأي شيء يكون القتل ؟ قال : لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك قالت : ذلك الموت قال : فهو الموت فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح فقال : مالك ؟ فلم تكلمه فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله فقال : عليك الصيحة وعلى بناتك وأنا وبني منها برآء رواه ابن أبي حاتم
وقوله { فأصبح من الخاسرين } أي في الدنيا والآخرة وأي خسارة أعظم من هذه ؟ وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا : حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل ] وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق عن الأعمش به وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : قال مجاهد : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ووجهه في الشمس حيثما دارت دار عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج قال : وقال عبد الله بن عمرو : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول : إن أشقى الناس رجلا لابن آدم الذي قتل أخاه ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر وذلك أنه أول من سن القتل وقال إبراهيم النخعي : ما من مقتول يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه ورواه ابن جرير أيضا
وقوله تعالى : { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين } قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم : لما مات الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثى عليه فلما رآه قال { يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : جاء غراب إلى غراب ميت فحثى عليه من التراب حتى واراه فقال الذي قتل أخاه { يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي } وقال الضحاك عن ابن عباس : مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين فرآهما يبحثان فقال { أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب } فدفن أخاه وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتا لا يدري ما يصنع به يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب فقال { يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال عطية العوفي : لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله رواه ابن جرير
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : لما قتله سقط في يده أي ولم يدر كيف يواريه وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم وأول ميت { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين } قال : وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله عز و جل : يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رقيبا فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الأرض
وقوله { فأصبح من النادمين } قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه كما هو ظاهر القرآن وكما نطق به الحديث في قوله [ إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ] وهذا ظاهر جلي ولكن قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن هو البصري قال : كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله : { واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق } من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه وإنما كان القربان من بني إسرائيل وكان آدم أول من مات وهذا غريب جدا وفي إسناده نظر وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما ] ورواه ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم ] وكذا أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني روى ذلك كله ابن جرير وقال سالم بن أبي الجعد : لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزينا لا يضحك ثم أتى فقيل له : حياك الله وبياك أي أضحكك رواه ابن جرير ثم قال : حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمداني قال : قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم أخاه بكاه آدم فقال :
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة و السلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعا وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه على خوف فجاء بها يصيح
والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ] وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا فإنا لله وإنا إليه راجعون (2/58)
يقول تعالى : من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانا { كتبنا على بني إسرائيل } أي شرعنا لهم وأعلمناهم { أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } أي من قتل نفسا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعا لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس ومن أحياها أي حرم قتلها واعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار ولهذا قال { فكأنما أحيا الناس جميعا } وقال الأعمش وغيره عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين فقال : يا أباهريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي معهم ؟ قلت : لا قال : فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا فانصرف مأذونا لك مأجورا غير مأزور قال : فانصرفت ولم أقاتل وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو كما قال الله تعالى : { من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } وإحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله فذلك الذي أحيا الناس جميعا يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه وهكذا قال مجاهد : ومن أحياها أي كف عن قتلها
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : { فكأنما قتل الناس جميعا } يقول : من قتل نفسا واحدة حرمها الله فهو مثل من قتل الناس جميعا وقال سعيد بن جبير : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا هذا قول وهو الأظهر وقال عكرمة والعوفي عن ابن عباس : من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا رواه بان جرير وقال مجاهد في رواية أخرى عنه : من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم قال ابن جريج عن الأعرج عن مجاهد في قوله : { فكأنما قتل الناس جميعا } من قتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك العذاب قال ابن جريج : قال مجاهد : { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } قال : من لم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : من قتل نفسا فكأنما قتل الناس يعني فقد وجب عليه القصاص فلا فرق بين الواحد والجماعة ومن أحياها أي عفا عن قاتل وليه فكأنما أحيا الناس جميعا وحكى ذلك عن أبيه رواه ابن جرير وقال مجاهد في رواية : ومن أحياها أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة وقال الحسن وقتادة في قوله : { أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } هذا تعظيم لتعاطي القتل قال قتادة : عظيم والله وزرها وعظيم والله أجرها : وقال ابن المبارك عن سلام بن مسكي عن سليمان بن على الربعي قال : قلت للحسن : هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال : إي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا وقال الحسن البصري : { فكأنما قتل الناس جميعا } قال : وزرا { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } قال : أجرا وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يارسول الله اجعلني على شيء أعيش به فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟ ] قال : بل نفس أحييها قال [ عليك بنفسك ]
قوله تعالى : { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات } أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة { ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه وودوا من قتلوه وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون }
وقوله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } الآية المحاربة هي المضادة والمخالفة وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب : إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض وقد قال تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } ثم قال بعضهم : نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين كما قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري قالا { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } نزلت في المشركين من تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } الآية قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه و سلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف رواه ابن جرير
وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : نزلت في الحرورية { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } رواه ابن مردويه والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك فقال [ ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها ] فقالوا : بلى فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا لفظ مسلم وفي لفظ لهما : من عكل أو عرينة وفي لفظ : وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون
وفي لفظ لمسلم : ولم يحسمهم وعند البخاري قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب وحميد عن أنس فذكر نحوه وعنده فارتدوا وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه وقال سعيد عن قتادة : من عكل وعرينة وراه مسلم من طريق سليمان التيمي عن أنس قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه و سلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه وقد وقع بالمدينة الدم وهو البرسام ثم ذكر نحو حديثهم وزاد : عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين فارسا فأرسلهم وبعث معم قائفا يقفو أثرهم وهذه كلها ألفاظ مسلم رحمه الله
وقال حماد بن سلمة : حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها فبعثهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي وساقوا الإبل فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمر أعينهم وألقاهم في الحرة قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا ونزلت { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه وقال الترمذي : حسن صحيح
وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك منها ما رواه من طريقين عن سلام بن أبي الصهباء عن ثابت عن أنس بن مالك قال : ما ندمت على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج قال : أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قلت قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم قوم من عرينة من البحرين فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم وقد اصفرت ألوانهم وضمرت بطونهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم عمدوا إلى الراعي فقتلوه واستاقوا الإبل فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا بحال ذود من الإبل فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد يعني ابن مسلم حدثني سعيد عن قتادة عن أنس قال كانوا أربعة نفر من عرينة وثلاثة نفر من عكل فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ولم يحسمهم وتركهم يلتقمون الحجارة بالحرة فأنزل الله في ذلك { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا أبو مسعود يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج حدثنا أبو سعيد يعني البقال عن أنس بن مالك قال : كان رهط من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وبهم جهد مصفرة ألوانهم عظيمة بطونهم فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصفت ألوانهم وخمصت بطونهم وسمنوا فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه و سلم في طلبهم فأتي بهم فقتل بعضهم وسمر أعين بعضهم وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم ونزلت { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } إلى آخر الآية وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أبو علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة قال أنس : فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام وقال حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الزناد عن عبد الله بن عبيد الله عن عبد الله بن عمر أو عمرو ـ شك يونس ـ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك يعني بقصة العرنيين ونزلت فيهم آية المحاربة ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد وفيه عن ابن عمر من غير شك
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن خلف حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم عن موسى بن عبيدة عن محمد بن إبراهيم عن جرير قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم قوم من عرينة حفاة مضرورين فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعاء اللقاح ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم قال جرير فبعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم فجعلوا يقولون : الماء ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : النار حتى هلكوا قال : وكره الله عز و جل سمل الأعين فأنزل الله هذه الآية { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } إلى آخر الآية هذا حديث غريب وفي إسناده الربذي وهو ضعيف وفي إسناده فائدة وهو ذكر أمير هذه السرية وهو جرير بن عبد الله البجلي وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسا من الأنصار وأما قوله : فكره الله سمل الأعين فأنزل الله هذه الآية فإنه منكر وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء فكان ما فعل بهم قصاصا والله أعلم
وقال عبد الزراق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلا فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى لقاحه فشربوا منها حتى صحوا ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها فطلبوا فأتي بهم النبي صلى الله عليه و سلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم قال أبو هريرة ففيهم نزلت هذه الآية { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } فترك النبي صلى الله عليه و سلم سمر الأعين بعد وروي من وجه آخر عن أبي هريرة
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد عن عمرو بن محمد المديني حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال : كان للنبي صلى الله عليه و سلم غلام يقال له يسار فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها قال : فأظهر قوم الإسلام من عرينة وجاؤوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم قال : فبعث بهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى يسار فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم ثم عدوا على يسار فذبحوه وجعلوا الشوك في عينيه ثم أطردوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه و سلم في آثارهم خيلا من المسلمين كبيرهم كرز بن جابر الفهري فلحقهم فجاء بهم إليه فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم غريب جدا وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة منهم جابر وعائشة وغير واحد وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جدا فC وأثابه
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي يقول : سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال : حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال : كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : نبايعك على الإسلام فبايعوه وهم كذبة وليس الإسلام يريدون ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة فقال النبي صلى الله عليه و سلم هذه اللقاح تغدوا عليكم وتروح فاشربوا من أبوالها وألبانها قال : فبينما هم كذلك إذ جاءهم الصريخ فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قتلوا الراعي واستاقوا النعم فأمر النبي صلى الله عليه و سلم فنودي في الناس [ أن يا خيل الله اركبي ] قال : فركبوا لا ينتظر فارس فارسا قال : وركب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أثرهم فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أسروا منهم فأتوا بهم النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ونفوهم من أرض المسلمين وقتل نبي الله صلى الله عليه و سلم منهم وصلب وقطع وسمر الأعين قال : فما مثل رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ولا بعد قال : ونهى عن المثلة وقال [ ولا تمثلوا بشيء ] قال : وكان أنس يقول ذلك غير أنه قال : أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم قال : وبعضهم يقول : هم ناس من بني سليم ومنهم من عرينة وناس من بجيلة
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين : هل هو منسوخ أو محكم ؟ فقال بعضهم : هو منسوخ بهذه الآية وزعموا أن فيها عتابا للنبي صلى الله عليه و سلم كما في قوله { عفا الله عنك لم أذنت لهم } ومنهم من قال : هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن المثلة وهذا القول فيه نظر ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ وقال بعضهم : كان هذا قبل أن تنزل الحدود قاله محمد بن سيرين وفيه نظر فإن قصته متأخرة وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها فإنه أسلم بعد نزول المائدة ومنهم من قال لم يسمل النبي صلى الله عليه و سلم أعينهم وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين وهذا القول أيضا فيه نظر فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل وفي رواية سمر أعينهم
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل النبي صلى الله عليه و سلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم معاتبة في ذلك وعلمه عقوبة مثلهم من القتل والقطع والنفي ولم يسمل بعدهم غيرهم قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو يعني الأوزاعي فأنكر أن يكون نزلت معاتبة وقال : بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم ورفع عنهم السمل ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور من العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله { ويسعون في الأرض فسادا } وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تكون المحاربة إلا في الطرقات فأما في الأمصار فلا لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه
وقوله تعالى { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : من شهر السلاح في فئة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير وحكى مثله عن مالك بن أنس رحمه الله ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله في جزاء الصيد { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } وكقوله في كفارة الفدية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وكقوله في كفارة اليمين { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } هذه كلها على التخيير فكذلك فلتكن هذه الآية
وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي : أنبأنا إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن عطية عن ابن عباس بنحوه وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة واختلفوا : هل يصلب حيا ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب أو بقتله برمح أو نحوه أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من المفسدين وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده ؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه وبالله الثقة وعليه التكلان
ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده فقال : حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة قال أنس : فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام قال أنس : فسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال : من سرق مالا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته ومن قتل فاقتله ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه
وأما قوله تعالى : { أو ينفوا من الأرض } قال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام رواه ابن جرير عن ابن عباس وأنس بن مالك وسعيد بن جبير والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس وقال آخرون : هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي : ينفيه ـ كما قال ابن هبيرة ـ من عمله كله وقال عطاء الخراساني ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام وقال آخرون : المراد بالنفي ههنا السجن وهو قول أبي حنيفة وأصحابه واختار ابن جرير أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه
وقوله تعالى : { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة وهذا يؤيد قول من قال : إنها نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له ومن ستره الله فأمره إلى الله : إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه وعن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه ] رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي : حسن غريب وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث فقال : روي مرفوعا وموقوفا قال ورفعه صحيح
وقال ابن جرير في قوله : { ذلك لهم خزي في الدنيا } يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا لهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها { عذاب عظيم } يعني عذاب جهنم وقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } أما على قول من قال : إنها في أهل الشرك فظاهر وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل وهل يسقط قطع اليد أم لا ؟ فيه قولان للعلماء وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن مجالد عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة وكان قد أفسد في الأرض وحارب فكلم رجالا من قريش منهم الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فقرأ حتى بلغ { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } قال : فكتب له أمانا قال سعيد بن قيس : فإنه حارثة بن بدر وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي به وزاد فقال حارثة بن بدر :
ألا بلغن همدان أما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي الإ له ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن السدي ومن طريق أشعث كلاهما عن عامر الشعبي قال : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المرادي وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا وإني تبت من قبل أن تقدروا علي فقال أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير فإن يك صادقا فسبيل من صدق وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه فأقام الرجل ما شاء الله ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله ثم قال ابن جرير : حدثني علي حدثنا الوليد بن مسلم قال : قال الليث : وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني وهو الأمير عندنا أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبه الأئمة والعامة فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائبا وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } فوقف عليه فقال : يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر فاغتسل ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه فقال : لا سبيل لكم علي جئت تائبا من قبل أن تقدورا علي فقال أبو هريرة : صدق وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال : هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل فترك من ذلك كله قال وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر فلقوا الروم فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر فمالت به وبهم فغرقوا جميعا (2/65)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات وقد قال بعدها { وابتغوا إليه الوسيلة } قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس : أي القربة وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد وقال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه وقرأ ابن زيد { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه وأنشد عليه ابن جرير قول الشاعر :
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود والوسيلة أيضا علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه و سلم وداره في الجنة وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش وقد ثبت في صحيح البخاري من طريق محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة ]
[ حديث آخر ] ـ في صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول [ إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ]
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن ليث عن كعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا صليتم علي فسلوا لي الوسيلة ] قيل : يا رسول الله وما الوسيلة ؟ قال [ أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو ] ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن كعب قال : حدثني أبو هريرة ثم قال : غريب وكعب ليس بمعروف لا نعرف أحدا روى عنه غير ليث بن أبي سليم
[ حديث آخر ] ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا محمد بن نصر الترمذي حدثنا عبد الحميد بن صالح حدثنا ابن شهاب عن ليث عن المعلى عن محمد بن كعب عن أبي هريرة رفعه قال [ صلوا علي صلاتكم وسلوا الله لي الوسيلة ] فسألوه أو أخبرهم أن الوسيلة درجة في الجنة ليس ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا
[ حديث آخر ] ـ قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : أخبرنا أحمد بن علي الأبار حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ] ثم قال الطبراني لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى بن أعين كذا قال وقد رواه ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن عمرو بن عطاء فذكر بإسناده نحوه
[ حديث آخر ] ـ روى ابن مردويه بإسناده عن عمارة بن غزية عن موسى بن وردان أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه ]
[ حديث آخر ] ـ روى ابن مردويه أيضا من طريقين عن عبد الحميد بن بحر حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة ] قالوا : يا رسول الله من يسكن معك ؟ قال : [ علي وفاطمة والحسن والحسين ] هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا الحسن الدشتكي حدثنا أبو زهير حدثنا سعيد بن طريف عن علي بن الحسين الأزدي مولى سالم بن ثوبان قال : سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة : يا أيها الناس إن في الجنة لؤلؤتين : إحداهما بيضاء والأخرى صفراء أما البيضاء فإنها إلى بطنان العرش والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة كل بيت منها ثلاثة أميال وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد واسمها الوسيلة هي لمحمد صلى الله عليه و سلم وأهل بيته والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته وهذا أثر غريب أيضا
وقوله { وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون } لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم والتاركين للدين القويم ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة الآمنة الحسنة مناظرها الطيبة مساكنها التي من سكنها ينعم لا يبأس ويحيى لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه
ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم } أي لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبا وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به وتيقن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه بل لا مندوحة عنه ولا محيص ولا مناص ولهذا قال { ولهم عذاب أليم } أي موجع { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم } كما قال تعالى : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } الآية فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك وكلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها { ولهم عذاب مقيم } أي دائم مستمر لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها وقد قال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له : يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك ؟ فيقول : شر مضجع فيقال : هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا ؟ قال : فيقول : نعم يارب فيقول الله : كذبت قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار ] رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه وكذا رواه البخاري ومسلم من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن أنس به وكذا أخرجاه من طريق أبي عمران الجوني واسمه عبد الملك بن حبيب عن أنس بن مالك به ورواه مطر الوراق عن أنس بن مالك ورواه ابن مردويه من طريقه عنه
ثم روى ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن صهيب الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة ] قال : فقلت لجابر بن عبد الله : يقول الله { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } قال : اتل أول الآية { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به } الآية ألا إنهم الذين كفروا وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث : من وجه آخر عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط سياقا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن أبي شيبة الواسطي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مبارك بن فضالة حدثني يزيد الفقير قال : جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدث فحدث أن ناسا يخرجون من النار قال : وأنا يومئذ أنكر ذلك فغضبت وقلت : ما أعجب من الناس ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد تزعمون أن الله يخرج ناسا من النار والله يقول { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } الآية فانتهرني أصحابه وكان أحلمهم فقال : دعوا الرجل إنما ذلك للكفار فقرأ { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة } حتى بلغ { ولهم عذاب مقيم } أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى قد جمعته قال أليس الله يقول { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } فهو ذلك المقام فإن الله تعالى يحتبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء لا يكلمهم فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم قال : فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به
ثم قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا عمرو بن حفص السدوسي حدثنا عاصم بن علي أخبرنا العباس بن الفضل حدثنا سعيد بن المهلب حدثني طلق بن حبيب قال : كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله فيها خلود أهل النار فقال : يا طلق أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله مني ؟ إن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذبوا ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه فقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ يخرجون من النار بعدما دخلوا ] ونحن نقرأ كما قرأت (2/73)
يقول تعالى حاكما وآمرا بقطع يد السارق والسارقة وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وهذه قراءة شاذة وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها لا بها بل هو مستفاد من دليل آخر وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش قطعوا رجلا يقال له : دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة كان قد سرق كنز الكعبة ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به سواء كان قليلا أو كثيرا لعموم هذه الآية { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا بل أخذوا بمجرد السرقة
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس عن قوله { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } أخاص أم عام ؟ فقال : بل عام وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ويحتمل غير ذلك فالله أعلم وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده ] وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة فعند الإمام مالك بن أنس رحمه الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم أخرجاه في الصحيحين قال مالك رحمه الله : وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قومت بثلاثة دراهم وهو أحب ما سمعت في ذلك وهذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقا سرق في زمن عثمان أترجة فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما فقطع عثمان يده قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع يشتهر ولم ينكر فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافا للحنفية وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم وللشافعية في اعتبار ربع دينار والله أعلم
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا ] ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ] قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه قالوا : وحديث ثمن المجن وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق ويروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه وإسحاق بن راهويه في رواية عنه وأبو ثور وداود بن علي الظاهري رحمهم الله
وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية عنه إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنها ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ] وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهما وفي لفظ للنسائي [ لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن ] قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم والله أعلم
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر وكذا سفيان الثوري رحمهم الله فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ثمنه عشرة دراهم وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه و سلم عشرة دراهم ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن ] وكان ثمن المجن عشرة دراهم قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن فالاحتياط الأخذ بالأكثر لأن الحدود تدرأ بالشبهات
وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحدا منهما يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم الله تعالى وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس أي في خمسة دنانير أو خمسين درهما وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة [ يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده ] بأجوبة [ أحدها ] أنه منسوخ بحديث عائشة وفي هذا نظر لأنه لا بد من بيان التاريخ [ والثاني ] أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه [ والثالث ] أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله فقال :
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم وقد أجابه الناس في ذلك فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أن قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ولما خانت هانت ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ولهذا قال : { جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم } أي مجازاة على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نكالا من الله أي تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك { والله عزيز } أي في انتقامه { حكيم } أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره
ثم قال تعالى { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فما بينه وبينه فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتي بسارق قد سرق شملة فقال : ما إخاله سرق فقال السارق : بلى يا رسول الله قال [ اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به ] فقطع فأتي به فقال [ تب إلى الله ] فقال : تبت إلى الله فقال [ تاب الله عليك ] وقد روي من وجه آخر مرسلا ورجح إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما الله
وروى ابن ماجه من حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه أن عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا فأمر به فقطعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك أردت أن تدخلي جسدي النار وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حليا فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اقطعوا يدها اليمنى ] فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك ] قال : فأنزل الله عز و جل { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم }
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء بها إلى الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا قال قومها : فنحن نفديها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اقطعوا يدها ] فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار فقال [ اقطعوا يدها ] فقطعت يدها اليمنى فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال [ نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك ] فأنزل الله في سورة المائدة { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة الفتح فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالوا : ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ أتشفع في حد من حدود الله عز و جل ؟ ] فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال [ أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ] ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها قالت عائشة : فحسنت توبتها بعد وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا لفظ مسلم وفي لفظ له عن عائشة قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقطع يدها
وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقطع يدها رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وهذا لفظه وفي لفظ له أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لتتب هذه المرأة إلى الله وإلى رسوله وترد ما تأخذ على القوم ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها ] وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة ثم قال تعالى : { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } أي هو المالك لجميع ذلك الحاكم فيه الذي لا معقب لحكمه وهو الفعال لما يريد { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } (2/76)
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر الخارجين عن طاعة الله ورسوله المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز و جل { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } أي أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون { من الذين هادوا } أعداء الإسلام وأهله وهؤلاء كلهم { سماعون للكذب } أي مستجيبون له منفعلون عنه { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ماعقلوه وهم يعلمون { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } قيل : نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد فإن حكم بالدية فاقبلوه وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك
وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ ] فقالوا : نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة أخرجاه وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له : فقال لليهود [ ما تصنعون بهما ؟ ] قالوا : نسخم وجوههما ونخزيهما قال { فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور : اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه فقال : ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم تلوح قال : يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما فرجما
وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاء يهود فقال [ ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ ] قالوا : نسود وجوههما ونحممهما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال { فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } قال : فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم : مره فليرفع يده فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا : يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم قال : ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وسادة فجلس عليها ثم قال [ ائتوني بالتوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال ] آمنت بك وبمن أنزلك [ ثم قال ] ائتوني بأعلمكم [ فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع
وقال الزهري : سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ونحن عند ابن المسيب عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث التخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله قلنا : فتيا نبي من أنبيائك قال : فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدارسهم فقام على الباب فقال ] أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ [ قالوا : يحمم ويجبه ويجلد والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال : وسكت شاب منهم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم سكت ألظ به رسول الله صلى الله عليه و سلم النشدة فقال : اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه و سلم ] فما أول ما ارتخصتم أمر الله [ قال : زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في إثره من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا : لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم ] فإني أحكم بما في التوراة [ فأمر بهما فرجما قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } فكان النبي صلى الله عليه و سلم منهم رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه وابن جرير
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه و سلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال ] أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ [ فقالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال ] أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ [ فقال : لا والله ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد فقال النبي صلى الله عليه و سلم ] اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه [ قال : فأمر به فرجم قال : فأنزل الله عز و جل { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } إلى قوله { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } أي يقولون : ائتوا محمدا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا إلى قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال في اليهود إلى قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } قال في اليهود { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } قال : في الكفار كلها انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه عن ذلك فقال ] أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم [ فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا وآخر فقال لهما النبي صلى الله عليه و سلم ] أنتما أعلم من قبلكما [ فقالا : قد دعانا قومنا لذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم لهما ] أليس عندكما التوراة فيها حكم الله [ قالا : بلى فقال النبي صلى الله عليه و سلم ] فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام وأنجاكم من آل فرعون وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقال أحدهما للاخر : ما نشدت بمثله قط ثم قالا : نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية والتقبيل زنية فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدى ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ هو ذاك ] فأمر به فرجم فنزلت { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه
ولفظ أبي داود عن جابر قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا فقال [ ائتوني بأعلم رجلين منكم ] فأتوه بابني صوريا فنشدهما [ كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ ] قالا : نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما قال [ فما يمنعكم أن ترجموهما ؟ ] قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشهود فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجمهما ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلا ولم يذكر فيه : فدعا بالشهود فشهدوا فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حكم بموافقة حكم التوراة وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ولكن هذا بوحي خاص من الله عز و جل إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ولهذا قالوا { إن أوتيتم هذا } أي : الجلد والتحميم فخذوه أي اقبلوه { وإن لم تؤتوه فاحذروا } أي من قبوله واتباعه
وقال الله تعالى : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم * سماعون للكذب } أي الباطل { أكالون للسحت } أي الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له ثم قال لنبيه { فإن جاؤوك } أي يتحاكمون إليك { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد : هي منسوخة بقوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل { إن الله يحب المقسطين }
ثم قال تعالى منكرا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم فقال { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها { والربانيون والأحبار } أي وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء العباد والأحبار وهم العلماء { بما استحفظوا من كتاب الله } أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون } أي لا تخافوا منهم وخافوا مني { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فيه قولان سيأتي بيانهما
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { فأولئك هم الظالمون } { فأولئك هم الفاسقون } قال قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه و سلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهم ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بأمرهم كله وما أرادوا فأنزل الله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } إلى قوله { الفاسقون } ففيهم والله أنزل وإياهم عنى الله عز و جل ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : أن الايات التي في المائدة قوله { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدى لهم الدية كاملة وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحق في ذلك فجعل الدية في ذلك سواء والله أعلم أي ذلك كان ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير وكانت النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل القرظي رجلا من النضير قتل به وإذا قتل النضيري رجلا من قريظة ودي بمائة وسق من تمر فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوا إليه فقالو : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الايات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا كما تقدمت الأحاديث بذلك وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد فنزلت هذه الايات في ذلك كله والله أعلم ولهذا قال بعد ذلك { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } إلى آخرها وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص والله سبحانه وتعالى أعلم وقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال نزلت هذه الايات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها رواه ابن جرير
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال : من السحت فقالا : وفي الحكم قال : ذاك الكفر ثم تلا { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقال السدي { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يقول : ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق رواه ابن جرير ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب وقال عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا عن الشعبي : ومن لم يحكم بما أنزل الله قال للمسلمين
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر عن الشعبي { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : هذا في المسلمين { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } قال : هذا في اليهود { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } قال : هذا في النصارى وكذا رواه هشيم والثوري عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله { ومن لم يحكم } الآية قال : هي به كفر قال ابن طاوس : وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله وقال الثوري عن ابن جريج عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق رواه ابن جرير وقال وكيع عن سعيد المكي عن طاوس { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : ليس بكفر ينقل عن الملة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس في قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (2/80)
وهذا أيضا مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس وهم يخالفون حكم ذلك عمدا وعنادا ويقيدون النضري من القرظي ولا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ولهذا قال هناك { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا وقال ههنا { فأولئك هم الظالمون } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضا
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن يونس بن يزيد عن علي بن يزيد أخي يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأها { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } نصب النفس ورفع العين وكذا رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن المبارك وقال الترمذي حسن غريب وقال البخاري تفرد ابن المبارك بهذا الحديث وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقررا ولم ينسخ كما هو المشهور عن الجمهور وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة رواه ابن أبي حاتم : وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره : وصحح منها عدم الحجية نقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا فالله أعلم
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه الله في كتابه [ الشامل ] إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب في كتاب عمرو بن حزم [ أن الرجل يقتل بالمرأة ] وفي الحديث الآخر [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ] وهذا قول جمهور العلماء وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية لأن ديتها على النصف من دية الرجل وإليه ذهب أحمد في رواية وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي ورواية عن أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها بل تجب ديتها وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي وعلى قتل الحر بالعبد وقد خالفه الجمهور فيهما ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يقتل مسلم بكافر ] وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر ولا يقتلون حرا بعبد وجاء في ذلك أحاديث لا تصح وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة
ويؤيد ماقاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ القصاص ] فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله تكسر ثنية فلانة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا أنس كتاب الله القصاص ] قال فقال : لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة قال : فرضي القوم فعفوا وتركوا القصاص فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ] أخرجاه في الصحيحين وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري في الجزء المشهور من حديثه عن حميد عن أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعوضوا عليهم الأرش فأبوا فطلبوا الأرش والعفو فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرهم بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ يا أنس كتاب الله القصاص ] فعفا القوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ] رواه البخاري عن الأنصاري بنحوه وروى أبو داود : حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن حصين أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتى أهله النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئا وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة به وهذا إسناد قوي رجاله كلهم ثقات وهو حديث مشكل اللهم إلا أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه
وقوله تعالى : { والجروح قصاص } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : تقتل النفس بالنفس وتفقأ العين بالعين ويقطع الأنف بالأنف وتنزع السن بالسن وتقتص الجراح بالجراح فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس رواه ابن جرير وابن أبي حاتم
قاعدة مهمة
الجراح تارة تكون في مفصل فيجب فيه القصاص بالإجماع كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم فقال مالك رحمه الله : فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها لأنه مخوف خطر وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن وقال الشافعي : لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقا وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وبه يقول عطاء والشعبي والحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب سفيان الثوري والليث بن سعد وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بحديث الربيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية وجائز أن تكون سقطت من غير كسر فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع وتمموا الدلالة مما رواه ابن ماجه عن طريق أبي بكر بن عياش عن دهشم بن قران عن نمران بن جارية عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي : أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها فاستعدى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر له بالدية فقال : يا رسول الله أريد القصاص فقال : خذ الدية بارك الله لك فيها ولم يقض له بالقصاص وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ودهشم بن قران العكلي ضعيف أعرابي ليس حديثه مما يحتج به ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضا وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه فلا شيء له والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أقدني فقال [ حتى تبرأ ] ثم جاء إليه فقال : أقدني فأقاده فقال : يا رسول الله عرجت فقال [ قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ] ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه تفرد به أحمد
[ مسألة ] فلو اقتص المجني عليه من الجاني فمات من القصاص فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص وقال عامر الشعبي وعطاء وطاوس وعمر بن دينار والحارث العكلي وابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان والزهري والثوري تجب الدية على عاقلة المقتص له وقال ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وعثمان البستي : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ويجب الباقي في ماله
وقوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { فمن تصدق به } يقول : فمن عفا وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : فمن تصدق به فهو كفارة للجارح وأجر المجروح على الله عز و جل رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ومجاهد وإبراهيم في أحد قوليه وعامر الشعبي وجابر بن زيد نحو ذلك
[ الوجه الثاني ] ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا حماد بن زاذان حدثنا حرمي يعني ابن عمارة حدثنا شعبة عن عمارة يعني ابن أبي حفصة عن رجل عن جابر بن عبد الله في قول الله عز و جل { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح وروى عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي في أحد قوليه وأبي إسحاق الهمداني نحو ذلك وروى ابن جرير عن عامر الشعبي وقتادة مثله وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن قيس يعني ابن مسلم قال : سمعت طارق بن شهاب يحدث عن الهيثم بن العريان النخعي قال : رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيها بالموالي فسألته عن قول الله { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة
وقال ابن مردويه : حدثني محمد بن علي حدثنا عبد الرحيم بن محمد المجاشعي حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي حدثنا معلى يعني ابن هلال أنه سمع أبان بن ثعلب عن العريان بن الهيثم بن الأسود عن عبد الله بن عمرو عن أبان بن ثعلب عن الشعبي عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : [ هو الذي تكسر سنه أو تقطع يده أو يقطع الشيء منه أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك ] ـ قال ـ فيحط عنه قدر خطاياه فإن كان ربع الدية فربع خطاياه وإن كان الثلث فثلث خطاياه وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك ثم قال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار فاندقت ثنيته فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألح عليه الرجل قال : شأنك وصاحبك قال : وأبو الدرداء عند معاوية فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة ] فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي فخلى سبيل القرشي فقال معاوية : مروا له بمال هكذا رواه ابن جرير
ورواه الإمام أحمد فقال : حدثنا وكيع حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر قال : كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال معاوية : إنا سنرضيه فألح الأنصاري فقال معاوية : شأنك بصاحبك وأبو الدرداء جالس فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط به عنه خطيئة ] فقال الأنصاري : فإني قد عفوت وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك وابن ماجه من حديث وكيع كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق به ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء
وقال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا محمد بن علي بن زيد حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمران بن ظبيان عن عدي بن ثابت أن رجلا أهتم فمه رجل على عهد معاوية رضي الله عنه فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص فأعطي ديتين فأبى فأعطي ثلاثا فأبى فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت ] وقال الإمام أحمد : حدثنا شريح بن النعمان حدثنا هشيم عن المغيرة عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به ] ورواه النسائي عن علي بن حجر عن جرير بن عبد الحميد ورواه ابن جرير عن محمود بن خداش عن هشيم كلاهما عن المغيرة به
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد عن عامر عن المحرر ابن أبي هريرة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفارة له ] وقوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا : كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق (2/86)
يقول تعالى : { وقفينا } أي أتبعنا على آثارهم يعني أنبياء بني إسرائيل { بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة } أي مؤمنا بها حاكما بما فيها { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور } أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات { ومصدقا لما بين يديه من التوراة } أي متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه كما قال تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } ولهذا كان المشهور من قول العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة وقوله تعالى : { وهدى وموعظة للمتقين } أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به وموعظة أي زاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم للمتقين أي لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه
وقوله تعالى : { وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } قرىء وليحكم أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم وقرىء وليحكم بالجزم على أن اللام لام الأمر أي ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه ومما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد كما قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } الآية وقال تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة } إلى قوله { المفلحون } ولهذا قال ههنا { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } أي الخارجون عن طاعة ربهم المائلون إلى الباطل التاركون للحق وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى وهو ظاهر من السياق (2/90)
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه كما تقدم بيانه شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم فقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله وصدقوا رسل الله كما قال تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولا أي لكائنا لا محالة ولا بد
قوله تعالى : { ومهيمنا عليه } قال سفيان الثوري وغيره عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : أي مؤتمنا عليه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المهيمن الأمين قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك وقال ابن جرير : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله فما وافقه منها فهو حق وما خالفه منها فهو باطل وعن الوالبي عن ابن عباس { ومهيمنا } أي شهيدا وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وقال العوفي عن ابن عباس { ومهيمنا } أي حاكما على ما قبله من الكتب وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمهاأشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ماليس في غيره فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة فقال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد أنهم قالوا في قوله { ومهيمنا عليه } يعني محمدا صلى الله عليه و سلم أمين على القرآن فإنه صحيح في المعنى ولكن في تفسير هذا بهذا نظر وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضا نظر وبالجملة فالصحيح الأول وقال أبو جعفر بن جرير بعد حكايته له عن مجاهد : وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب بل هو خطأ وذلك أن المهيمن عطف على المصدق فلا يكون إلا صفة لما كان المصدق صفة له قال : ولو كان الأمر كما قال مجاهد لقال : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه يعني من غير عطف
وقوله تعالى : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي فاحكم يا محمد بين الناس عربهم وعجمهم أميهم وكتابيهم بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك هكذا وجهه ابن جرير بمعناه قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم فنزلت { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا
وقوله { ولا تتبع أهواءهم } أي آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله ولهذا قال تعالى : { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء وقوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن يوسف بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس { لكل جعلنا منكم شرعة } قال : سبيلا وحدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس { ومنهاجا } قال : وسنة كذا روى العوفي عن ابن عباس { شرعة ومنهاجا } سبيلا وسنة وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي أنهم قالوا في قوله { شرعة ومنهاجا } أي سبيلا وسنة وعن ابن عباس أيضا ومجاهد أي وعطاء الخراساني عكسه { شرعة ومنهاجا } أي سنة وسبيلا والأول أنسب فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال : شرع في كذا أي ابتدأ فيه كذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل والسنن الطرائق
فتفسير قوله : { شرعة ومنهاجا } بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد ] يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كما قال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } الآية وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس وخفيفا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الدامغة
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : قوله { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } يقول : سبيلا وسنة والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام وقيل : المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به وحذف الضمير المنصوب في قوله { لكل جعلنا منكم } أي جعلناه يعني القرآن شرعة ومنهاجا أي سبيلا إلى المقاصد الصحيحة وسنة أي طريقا ومسلكا واضحا بينا هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد رحمه الله والصحيح القول الأول ويدل على ذلك قوله تعالى بعده { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } فلو كان هذا خطابا لهذه الأمة لما صح أن يقول { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم ولهذا قال تعالى : { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم } أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله وقال عبد الله بن كثير { في ما آتاكم } يعني من الكتاب
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال { فاستبقوا الخيرات } وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله ثم قال تعالى : { إلى الله مرجعكم } أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان بل هم معاندون للبراهين القاطعة والحجج البالغة والأدلة الدامغة وقال الضحاك { فاستبقوا الخيرات } يعني أمة محمد صلى الله عليه و سلم والأول أظهر وقوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه ثم قال { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من أمور فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة { فإن تولوا } أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم { وإن كثيرا من الناس لفاسقون } أي إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه كما قال تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقال تعالى : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } الآية
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وابن صلوبا وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل فيهم { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } إلى قوله { لقوم يوقنون } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم
وقوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى : من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير قال تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون } أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هلال بن فياض حدثنا أبو عبيدة الناجي قال : سمعت الحسن يقول : من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال : كان طاوس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل ؟ قرأ { أفحكم الجاهلية يبغون } الآية وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أبغض الناس إلى الله عز و جل من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه ] وروى البخاري عن أبي اليمان بإسناده نحوه بزيادة (2/90)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله ـ قاتلهم الله ـ ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } الاية قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب حدثنا محمد يعني ابن سعيد بن سابق حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عياض أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد وكان له كاتب نصراني فرفع إليه ذلك فعجب عمر وقال : إن هذا لحفيظ هل أنت قارىء لنا كتابا في المسجد جاء من الشام ؟ فقال : إنه لا يستطيع فقال عمر : أجنب هو ؟ قال : لا بل نصراني قال : فانتهرني وضرب فخذي ثم قال : أخرجوه ثم قرأ { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } الآية ثم قال : حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عثمان بن عمر أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين قال : قال عبد الله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر قال : فظنناه يريد هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } الآية وحدثنا أبو سعيد الآشج حدثنا ابن فضيل عن عاصم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال : كل قال الله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وروي عن أبي الزناد نحو ذلك
وقوله تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض } أي شك وريب ونفاق يسارعون فيهم أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك قال الله تعالى : { فعسى الله أن يأتي بالفتح } قال السدي : يعني فتح مكة وقال غيره : يعني القضاء والفصل { أو أمر من عنده } قال السدي : يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى { فيصبحوا } يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين { على ما أسروا في أنفسهم } من الموالاة { نادمين } أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئا ولا دفع عنهم محذورا بل كان عين المفسدة فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين ويحلفون على ذلك ويتأولون فبان كذبهم وافتراؤهم ولهذا قال تعالى : { ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين }
وقد اختلف القراء في هذا الحرف فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله { ويقول } ثم منهم من رفع ويقول : على الابتداء ومنهم من نصب عطفا على قوله { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } فتقديره أن يأتي وأن يقول وقرأ أهل المدينة { يقول الذين آمنوا } بغير واو وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير قال ابن جرير عن مجاهد { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } تقديره حينئذ { يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات فذكر السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد : أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث وقال الآخر أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } الآيات وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني قريظة فسألوه : ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه أي أنه الذبح رواه ابن جرير
وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول كما قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يارسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايه يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن أبي [ يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه ] قال : قد قبلت فأنزل الله عز و جل { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } الآيتين
ثم قال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا يونس بن بكير حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري : قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود : أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك بن الصيف : أغركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا فقال عبادة بن الصامت : يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي : لكني لا أبرأ من ولاية يهود إني رجل لا بد لي منهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه ] فقال : إذا أقبل قال : فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } إلى قوله { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس }
وقال : محمد بن إسحاق : فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم بنو قينقاع فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم فقال : يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج قال : فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد أحسن في موالي قال : فأعرض عنه قال : فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أرسلني ] وغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال [ ويحك أرسلني ] قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدني في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هم لك ] قال محمد بن إسحاق : فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه و سلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وقال : يا رسول الله أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم على عبد الله بن أبي نعوده فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ قد كنت أنهاك عن حب يهود ] فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زراة فمات وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق (2/94)
يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } وقال تعالى : { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز } أي بممتنع ولا صعب وقال تعالى ههنا { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } أي يرجع عن الحق إلى الباطل قال محمد بن كعب : نزلت في الولاة من قريش وقال الحسن البصري : نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قال الحسن : هو والله أبو بكر وأصحابه رواه ابن أبي حاتم وقال أبو بكر بن أبي شيبة : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : في قوله { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } هم أهل القادسية وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : هم قوم من سبأ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبد الله بن الأجلح عن محمد بن عمرو عن سالم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قال : ناس من أهل اليمن ثم من كندة من السكون
وحدثنا أبي حدثنا محمد بن المصفى حدثنا معاوية يعني ابن حفص عن أبي زياد الحلفاني عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قال [ هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم من كندة ثم من السكون ثم من تجيب ] وهذا حديث غريب جدا
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شبة حدثنا عبد الصمد يعني ابن عبد الوارث حدثنا شعبة عن سماك سمعت عياضا يحدث عن أبي موسى الأشعري قال : لما نزلت { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هم قوم هذا ] ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه وقوله تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه متعززا على خصمه وعدوه كما قال تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } وفي صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه الضحوك القتال فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه
وقوله عز و جل { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله وإقامة الحدود وقتال أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يردهم عن ذلك راد ولا يصدهم عنه صاد ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا سلام أبو المنذر عن محمد بن واسع عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال : أمرني خليلي صلى الله عليه و سلم بسبع : أمرني بحب المساكين والدنو منهم وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن من كنز تحت العرش
قال البخاري تفرد ابن المبارك بهذا الحديث وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقررا ولم ينسخ كما هو المشهور عن الجمهور وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة رواه ابن أبي حاتم : وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره : وصحح منها عدم الحجية نقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا فالله أعلم
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه الله في كتابه [ الشامل ] إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب في كتاب عمرو بن حزم [ أن الرجل يقتل بالمرأة ] وفي الحديث الاخر [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ] وهذا قول جمهور العلماء وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية لأن ديتها على النصف من دية الرجل وإليه ذهب أحمد في رواية وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي { والله واسع عليم } أي واسع الفضل عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه
وقوله تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } أي ليس اليهود بأوليائكم بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين وقوله { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين والمساكين وأما قوله { وهم راكعون } فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله { ويؤتون الزكاة } أي في حال ركوعهم ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرا عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان المرادي حدثنا أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم في قوله { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } قال : هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب وحدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول حدثنا موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل قال : تصدق علي بخاتمه وهو راكع فنزلت { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا غالب بن عبيد الله سمعت مجاهدا يقول في قوله { إنما وليكم الله ورسوله } الآية نزلت في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع وقال عبد الرزاق : حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس في قوله { إنما وليكم الله ورسوله } الآية نزلت في علي بن أبي طالب عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به
وروى ابن مردويه من طريق سفيان الثوري عن أبي سنان عن الضحاك عن ابن عباس قال : كان علي بن أبي طالب قائما يصلي فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت { إنما وليكم الله ورسوله } الآية الضحاك لم يلق ابن عباس وروى ابن مردويه أيضا من طريق محمد بن السائب الكلبي وهو متروك عن أبي صالح عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد وإذا مسكين يسأل فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أعطاك أحد شيئا ؟ ] قال : نعم قال [ من ؟ ] قال : ذلك الرجل القائم قال [ على أي حال أعطاكه ؟ ] قال : وهو راكع قال [ وذلك علي بن أبي طالب ] قال فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك وهو يقول { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وهذا إسناد لا يفرح به
ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه وعمار بن ياسر وأبي رافع وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها ثم روى بإسناده عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله { إنما وليكم الله ورسوله } نزلت في المؤمنين وعلي بن أبي طالب أولهم وقال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبد الملك عن أبي جعفر قال : سألته عن هذه الآية { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } قلنا : من الذين آمنوا ؟ قال : الذين آمنوا قلنا بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب قال : علي من الذين آمنوا وقال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه
وقال علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس : من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا رواه ابن جرير وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين ولهذا قال تعالى بعد هذا كله { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } كما قال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز * لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } (2/97)
هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون : وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي يتخذونها هزوا يستهزئون بها ولعبا يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد وفكرهم البارد كما قال القائل :
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
وقوله تعالى : { من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار } من ههنا لبيان الجنس كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } وقرأ بعضهم : والكفار بالخفض عطفا وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول { لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } تقديره ولا { الكفار أولياء } أي لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء والمراد بالكفار ههنا المشركون وكذلك وقع في قراءة ابن مسعود فيما رواه ابن جرير { لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار }
وقوله { واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء إن كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا كما قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير }
وقوله : { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا } أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب { اتخذوها } أيضا { هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } معاني عبادة الله وشرائعه وهذه صفات أتباع الشيطان الذي [ إذا سمع الأذان أدبر وله حصاص أي ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين أقبل فإذا ثوب للصلاة أدبر فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه فيقول : اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل السلام ] متفق عليه وقال الزهري : قد ذكر الله التأذين في كتابه فقال { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } رواه ابن أبي حاتم
وقال أسباط عن السدي في قوله { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا } قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمدا رسول الله قال : حرق الكاذب فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب بن أسيد لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه وقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته فقال أبو سفيان : لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى فخرج عليهم النبي صلى الله عليه و سلم فقال [ قد علمت الذي قلتم ] ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول : أخبرك
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج أخبرنا عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره وكان يتيما في حجر أبي محذورة قال : قلت لأبي محذورة : يا عم إني خارج إلى الشام وأخشى أن أسأل عن تأذينك فأخبرني أن أبا محذورة قال له : نعم خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين مقفل رسول الله صلى الله عليه و سلم من حنين فلقينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ببعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكيه ونستهزىء به فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ] ؟ فأشار القوم كلهم إلي وصدقوا فأرسل كلهم وحبسني وقال [ قم فأذن ] فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فألقى علي رسول الله صلى الله عليه و سلم التأذين هو بنفسه قال [ قل الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ] ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه ثم بين ثدييه ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه و سلم سرة أبي محذورة ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بارك الله فيك وبارك عليك ] فقلت : يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة فقال [ قد أمرتك به ] وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم من كراهة وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة على نحو ما أخبرني عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة واسمه سمرة بن معير بن لوذان أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه و سلم الأربعة وهو مؤذن أهل مكة وامتدت أيامه رضي الله عنه وأرضاه (2/100)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب : { هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل } أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة فيكون الاستثناء منقطعا كما في قوله تعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } وكقوله : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } وفي الحديث المتفق عليه [ ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله ] وقوله { وأن أكثركم فاسقون } معطوف على { أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل } أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون أي خارجون عن الطريق المستقيم
ثم قال { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله { من لعنه الله } أي أبعده من رحمته { وغضب عليه } أي غضبا لا يرضى بعده أبدا { وجعل منهم القردة والخنازير } كما تقدم بيانه في سورة البقرة وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف وقد قال سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله عن المعرور بن سويد عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القردة والخنازير : أهي مما مسخ الله ؟ فقال [ إن الله لم يهلك قوما أو لم يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عقبا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك ] وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا داود بن أبي الفرات عن محمد بن زيد عن أبي الأعين العبدي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القردة والخنازير : أهي من نسل اليهود ؟ فقال [ لا إن الله لم يلعن قوما قط فيمسخهم فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم ] ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي حدثنا أحمد بن صالح حدثنا الحسن بن محبوب حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير ] هذا حديث غريب جدا
وقوله تعالى : { وعبد الطاغوت } قرىء : وعبد الطاغوت على أنه فعل ماض والطاغوت منصوب به أي وجعل منهم من عبد الطاغوت وقرىء : وعبد الطاغوت بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت أي خدامه وعبيده وقرىء : وعبد الطاغوت على أنه جمع الجمع عبد وعبيد وعبد مثل ثمار وثمر حكاها ابن جرير عن الأعمش وحكى عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت وعن أبي وابن مسعود : وعبدوا وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرؤها : وعبد الطاغوت على أنه مفعول ما لم يسم فاعله ثم استبعد معناها والظاهر أنه لا بعد في ذلك لأن هذا من باب التعريض بهم أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال { أولئك شر مكانا } أي مما تظنون بنا { وأضل عن سواء السبيل } وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة كقوله عز و جل : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا }
وقوله تعالى : { وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر ولهذا قال { وقد دخلوا } أي عندك يا محمد { بالكفر } أي مستصحبين الكفر في قلوبهم ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال { وهم قد خرجوا به } فخصهم به دون غيرهم وقوله تعالى : { والله أعلم بما كانوا يكتمون } أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك وتزينوا بما ليس فيهم فإن الله عالم الغيب و الشهادة أعلم بهم منهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء وقوله { وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت } أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل { لبئس ما كانوا يعملون } أي لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم
وقوله تعالى : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم والأحبار هم العلماء فقط { لبئس ما كانوا يصنعون } يعني من تركهم ذلك قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا قال : وذلك الأمر كان قال : ويعملون ويصنعون واحد رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن عطية حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } قال : كذا قرأ وكذا قال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى رواه ابن جرير
وقال ابن أبي حاتم ذكره يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال : خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب ] تفرد به أحمد من هذاالوجه ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير عن جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا ] وقد رواه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبيد الله بن جرير عن أبيه به قال الحافظ المزي : وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به (2/101)
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عز و جل وتعالى عن قولهم علوا كبيرا بأنه بخيل كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا { يد الله مغلولة } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال : قال ابن عباس { مغلولة } أي بخيلة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله { وقالت اليهود يد الله مغلولة } قال : لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون : بخيل يعني أمسك ما عنده تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وقرأ { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير وهو زيادة الإنفاق في غير محله وعبر عن البخل بقوله { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله وقد قال عكرمة : إنها نزلت في فنحاص اليهودي عليه لعنة الله وقد تقدم أنه الذي قال { إن الله فقير ونحن أغنياء } فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } وقد رد الله عز و جل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه فقال { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } وهكذا وقع لهم فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم كما قال تعالى : { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } الآية وقال تعالى : { ضربت عليهم الذلة } الآية
ثم قال تعالى : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } أي بل هو الواسع الفضل الجزيل العطاء الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه في ليلنا ونهارنا وحضرنا وسفرنا وفي جميع أحوالنا كما قال { وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } والآيات في هذا كثيرة وقد قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال : وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض وقال : يقول الله تعالى : أنفق أنفق عليك ] أخرجاه في الصحيحين البخاري في التوحيد عن علي بن المديني ومسلم فيه عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق به
وقوله تعالى : { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغيانا وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء وكفرا أي تكذيبا كما قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } وقال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } وقوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائما لأنهم لا يجتمعون على حق وقد خالفوك وكذبوك وقال إبراهيم النخعي : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } قال : الخصومات والجدال في الدين رواه ابن أبي حاتم
وقوله { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } أي كلما عقدوا أسبابا يكيدونك بها وكلما أبرموا أمورا يحاربونك بها أبطلها الله ورد كيدهم عليهم وحاق مكرهم السيء بهم { ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين } أي من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض والله لا يحب من هذه صفته ثم قال جلا وعلا : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا } أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم { لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم } أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم } قال ابن عباس وغيره : هو القرآن { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتما لا محالة
وقوله تعالى : { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { لأكلوا من فوقهم } يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا { ومن تحت أرجلهم } يعني يخرج من الأرض بركاتها وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي كما قال تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } الآية
وقال تعالى : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } الآية وقال بعضهم معناه { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء وقال ابن جرير : قال بعضهم : معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل : هو في الخير من فرقه إلى قدمه ثم رد هذا القول لمخالفته أقوال السلف
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } حديث علقمة عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ يوشك أن يرفع العلم ] فقال زياد بن لبيد : يا رسول الله وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال [ ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله ] ثم قرأ { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقا من أول إسناده مرسلا في آخره وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال : حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي صلى الله عليه و سلم شيئا فقال [ وذاك عند ذهاب العلم ] قال : قلنا : يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا وأبناؤنا يقرؤونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال [ ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ] هكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع بإسناده نحوه هذا إسناد صحيح
وقوله تعالى : { منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون } كقوله { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } وكقوله عن أتباع عيسى { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } الآية فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين كما في قوله عز و جل : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها } الآية والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن يونس الضبي حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر عن يعقوب بن يزيد بن طلحة عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة : سبعون منها في النار وواحدة في الجنة وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة : واحدة في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار ] قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال [ الجماعات الجماعات ] قال يعقوب بن زيد : كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا فيه قرآنا قال { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم } إلى قوله تعالى : { منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون } وتلا أيضا قوله تعالى : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } يعني أمة محمد صلى الله عليه و سلم وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه وبهذا السياق وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة (2/104)
يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم باسم الرسالة وآمرا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك وقام به أتم القيام قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب الله يقول { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } الآية هكذا رواه هاهنا مختصرا وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا وكذا رواه مسلم في كتابي الإيمان والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننهما من طرق عن عامر الشعبي عن مسروق بن الأجدع عنها رضي الله عنها وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت : لو كان محمدا صلى الله عليه و سلم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي : حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : كنا عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناسا يأتونا فيخبروننا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى الله عليه و سلم للناس فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم سوداء في بيضاء وهذا إسناد جيد وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر
وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في خطبته يومئذ [ أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟ ] قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول [ اللهم هل بلغت ] ؟ قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل يعني ابن غزوان عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع [ يا أيها الناس ] أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام قال أي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام قال أي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام قال : [ فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ] ثم أعادها مرارا ثم رفع أصبعه إلى السماء فقال [ اللهم هل بلغت ؟ ] مرارا قال : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عز و جل ثم قال [ ألا فليبلغ الشاهد الغائب : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ] وقد روى البخاري عن علي بن المديني عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان به نحوه
وقوله تعالى : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان عن رجل عن مجاهد قال : لما نزلت { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } قال : يا رب كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي ؟ فنزلت { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } ورواه ابن جرير من طريق سفيان وهو الثوري به
وقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم فلا تخف ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم قبل نزول هذه الآية يحرس كما قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا يحيى قال : سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث أن عائشة رضي الله عنها كانت تحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت : فقلت ما شأنك يا رسول الله ؟ قال [ ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة ] قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال [ من هذا ؟ ] فقال : أنا سعد بن مالك فقال : [ ما جاء بك ؟ ] قال : جئت لأحرسك يا رسول الله قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه و سلم في نومه أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به وفي لفظ : سهر رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة مقدمه المدينة يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها وكان ذلك في سنة ثنتين منها
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نزيل مصر حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الحارث بن عبيد يعني أبا قدامة عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم يحرس حتى نزلت هذه الآية { والله يعصمك من الناس } قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه و سلم رأسه من القبة وقال [ يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عز و جل ] وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد وعن نصر بن علي الجهضمي كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به ثم قال : وهذا حديث غريب وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق مسلم بن إبراهيم به قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وكذا رواه سعيد بن منصور عن الحارث بن عبيد أبي قدامة عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشة به ثم قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا عن الجريري عن ابن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يحرس حتى نزلت هذه الآية ولم يذكر عائشة قلت : هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية وابن مردويه من طريق وهيب كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلا وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي رواهما ابن جرير والربيع بن أنس رواه ابن مردويه ثم قال : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن رشدين المصري حدثنا خالد بن عبد السلام الصدفي حدثنا الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب عن عصمة بن مالك الخظمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه و سلم بالليل حتى نزلت { والله يعصمك من الناس } فترك الحرس حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي حدثنا كردوس بن محمد الواسطي حدثنا يعلى بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيمن يحرسه فلما نزلت هذه الآية { والله يعصمك من الناس } ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم الحرس حدثنا علي بن أبي حامد المديني حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري حدثنا أبي حدثنا محمد بن معاوية بن عمار حدثنا أبي قال : سمعت أبا الزبير المكي يحدث عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت { والله يعصمك من الناس } فذهب ليبعث معه فقال [ يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث ] وهذا حديث غريب وفيه نكارة فإن هذه الآية مدنية وهذا الحديث يقتضي أنها مكية ثم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو كريب حدثنا عبد الحميد الحماني عن النضر عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : [ إن الله قد عصمني من الجن والإنس ] ورواه الطبراني عن يعقوب بن غيلان العماني عن أبي كريب به
وهذا أيضا حديث غريب والصحيح أن هذه الآية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها والله أعلم ومن عصمة الله لرسوله حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه و سلم لا شرعية ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه كما كاده اليهود بالسحر فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه الله به وحماه منه ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها فمن ذلك ماذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :
فقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال [ الله عز و جل ] فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله عز و جل : { والله يعصمك من الناس } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثنا موسى بن عبيدة حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه فقال غورث بن الحارث من بني النجار : لأقتلن محمدا فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له : أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به قال : فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشيمه فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط السيف من يده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ حال الله بينك وبين ما تريد ] فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أبو عمرو بن أحمد بن محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الوهاب حدثنا آدم حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الله يمنعني منك ضع السيف ] فوضعه فأنزل الله عز و جل : { والله يعصمك من الناس } وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد عن إسحاق بن إبراهيم عن المؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا إسرائيل يعني الجشمي سمعت جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم ورأى رجلا سمينا فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يومىء إلى بطنه بيده ويقول [ لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك ] قال : وأتي النبي صلى الله عليه و سلم برجل فقيل : هذا أراد أن يقتلك فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي ] وقوله { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء كما قال تعالى : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } وقال { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } (2/106)
يقول تعالى : قل يا محمد { يا أهل الكتاب لستم على شيء } أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء وتعملوا بما فيها ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى الله عليه و سلم والإيمان بمبعثه والاقتداء بشريعته ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : في قوله { وما أنزل إليكم من ربكم } : يعني القرآن العظيم وقوله { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } تقدم تفسيره { فلا تأس على القوم الكافرين } أي فلا تحزن عليهم ولا يهيدنك ذلك منهم ثم قال { إن الذين آمنوا } وهم المسلمون { والذين هادوا } وهم حملة التوراة { والصابئون } لما طال الفصل حسن العطف بالرفع والصابئون طائفة من النصارى والمجوس ليس لهم دين قاله مجاهد وعنه : من اليهود والمجوس وقال سعيد بن جبير : من اليهود والنصارى وعن الحسن والحكم : إنهم كالمجوس وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى غير القبلة ويقرءون الزبور
وقال وهب بن منبه : هم قوم يعرفون الله وحده وليست لهم شريعة يعملون بها ولم يحدثوا كفرا وقال ابن وهب : أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال : الصابئون هم قوم مما يلي العراق وهم بكوثى وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات وقيل غير ذلك وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله واليوم الاخر وهو الميعاد والجزاء يوم الدين وعملت عملا صالحا ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ولا هم يحزنون وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا (2/110)
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه ولهذا قال تعالى : { كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون * وحسبوا أن لا تكون فتنة } أي وحسبوا أن لايترتب لهم شر على ما صنعوا فترتب وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقا ولا يهتدون إليه ثم تاب الله عليهم أي مما كانوا فيه ثم { عموا وصموا } أي بعد ذلك { كثير منهم والله بصير بما يعملون } أي مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم (2/111)
يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنسطورية ممن قال منهم : بأن المسيح هو الله تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوا كبيرا هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله وكان أول كلمة نطق وهو صغير في المهد أن قال : إني عبد الله ولم يقل أنا الله ولا ابن الله بل قال { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } إلى أن قال { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمرا لهم بعبادة ربه وربهم وحده لا شريك له ولهذا قال تعالى : { وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله } أي فيعبد معه غيره { فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال تعالى : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث مناديا ينادي في الناس : إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وفي لفظ : مؤمنة وتقدم في أول سورة النساء عند قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به حديث يزيد بن بابنوس عن عائشة : الدواوين ثلاثة فذكر منه ديوانا لا يغفره الله وهو الشرك بالله قال الله تعالى : { من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة } والحديث في مسند أحمد ولهذا قال تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه
وقوله { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم حدثنا الفضل حدثني أبو صخر في قول الله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } قال : هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى : المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا قول غريب في تفسير الآية أن المراد بذلك طائفتا اليهود والنصارى والصحيح أنها نزلت في النصارى خاصة قاله مجاهد وغير واحد ثم اختلفوا في ذلك فقيل : المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة : وهو أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا قال ابن جرير وغيره : والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم وهم مختلفون فيها اختلافا متباينا ليس هذا موضع بسطه وكل فرقة منهم تكفر الأخرى والحق أن الثلاثة كافرة
وقال السدي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار قال السدي : وهي كقوله تعالى في آخر السورة { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك } الآية وهذا القول هو الأظهر ـ والله أعلم ـ قال الله تعالى : { وما من إله إلا إله واحد } أي ليس متعددا بل هو وحده لا شريك له إله جميع الكائنات وسائر الموجودات ثم قال تعالى متوعدا لهم ومتهددا { وإن لم ينتهوا عما يقولون } أي من هذا الافتراء والكذب { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } أي في الآخرة من الأغلال والنكال ثم قال { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة فكل من تاب إليه تاب عليه
وقوله تعالى : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي له سوية أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام كما قال { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } وقوله { وأمه صديقة } أي مؤمنة به مصدقة له وهذا أعلى مقاماتها فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } وهذا معنى النبوة والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك
وقوله تعالى : { كانا يأكلان الطعام } أي يحتاجان إلى التغذية به وإلى خروجه منهما فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ثم قال تعالى : { انظر كيف نبين لهم الآيات } أي نوضحها ونظهرها { ثم انظر أنى يؤفكون } أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون وبأي قول يتمسكون وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون (2/111)
يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الإلهية فقال تعالى : { قل } أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم { أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم { والله هو السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده العليم بكل شيء فلم عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا ولا يملك ضرا ولا نفعا لغيره ولا لنفسه ؟ ثم قال { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما { وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس قال : وقد كان قائم قام عليهم فأخذ بالكتاب والسنة زمانا فأتاه الشيطان فقال : إنما تركت أثرا أو أمرا قد عمل قبلك فلا تحمد عليه ولكن ابتدع أمرا من قبل نفسك وادع إليه وأجبر الناس عليه ففعل ثم ادكر بعد فعله زمانا فأراد أن يتوب منه فخلع سلطانه وملكه وأراد أن يتعبد فلبث في عبادته أياما فأتي فقيل له : لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سبيلك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة فكيف لك بهداهم فلا توبة لك أبدا ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } (2/113)
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام وعلى لسان عيسى ابن مريم بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه قال العوفي عن ابن عباس : لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم فقال تعالى { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } أي كان لا ينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه فقال : { لبئس ما كانوا يفعلون } وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يزيد حدثنا شريك بن عبد الله عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا : فجالسوهم في مجالسهم ] قال يزيد : وأحسبه قال : [ وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم متكئا فجلس فقال ] لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا [
وقال أبو داود : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ـ ثم قال : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } إلى قوله { فاسقون } ـ ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو تقصرنه على الحق قصرا [ وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق علي بن بذيمة به وقال الترمذي : حسن غريب ثم رواه هو وابن ماجه عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة مرسلا
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن العلاء بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن سالم الأفطس عن ابن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه [ وفي حديث هارون ] وشريبه [ ثم اتفقا في المتن ] فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون [ ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد المسيء ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم [ والسياق لأبي سعيد كذا قال في رواية هذا الحديث وقد رواه أبو داود أيضا عن خلف بن هشام عن أبي شهاب الخياط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم وهو ابن عجلان الأفطس عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ثم قال أبو داود : كذا رواه خالد عن العلاء عن عمرو بن مرة به ورواه المحاربي عن العلاء بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن سالم الأفطس عن أبي عبيدة عن عبد الله قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : وقد رواه خالد بن عبد الله الواسطي عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي موسى
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام قد تقدم حديث جابر عند قوله { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } وسيأتي عند قوله { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } حديث أبي بكر الصديق وأبي ثعلبة الخشني فقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان الهاشمي أنبأنا إسماعيل بن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ] والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم [ ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر به وقال : هذا حديث حسن وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام عن هشام بن سعد عن عمرو بن عثمان عن عاصم بن عمر بن عثمان عن عروة عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ] مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم [ تفرد به وعاصم هذا مجهول
وفي الصحيح من طريق الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان [ رواه مسلم وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا سيف هو ابن أبي سليمان سمعت عدي بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد قال : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن عميرة رضي الله عنه يقول : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول ] إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة [ ثم رواه أحمد عن أحمد بن الحجاج عن عبد الله بن المبارك عن سيف بن أبي سليمان عن عيسى بن عدي الكندي حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول فذكره هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين
قال أبو داود : حدثنا أبو العلاء حدثنا أبو بكر حدثنا المغيرة بن زياد الموصلي عن عدي بن عدي عن العرس يعني ابن عميرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ] إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ وقال مرة فأنكرها ـ كان كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها [ تفرد به أبو داود ثم رواه عن أحمد بن يونس عن ابن شهاب عن مغيرة بن زياد عن عدي بن عدي مرسلا وقال أبو داود : حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا : حدثنا شعبة وهذا لفظه عن عمرو بن مرة عن أبي البحتري قال : أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه و سلم وقال سليمان حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ] لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم [ وقال ابن ماجه : حدثنا عمران بن موسى حدثنا حماد بن زيد حدثنا علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام خطيبا فكان فيما قال ] ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه [ قال : فبكى أبو سعيد وقال : قد والله رأينا أشياء فهبنا
وفي حديث إسرائيل عن عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر [ ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه وقال ابن ماجه : حدثنا راشد بن سعيد الرملي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن أبي غالب عن أبي أمامة : قال : عرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم رجل عند الجمرة الأولى فقال : يا رسول الله أي الجهاد أفضل ؟ فسكت عنه فلما رمى الجمرة الثانية سأله فسكت عنه فلما رمى جمرة العقبة ووضع رجله في الغرز ليركب قال ] أين السائل ؟ [ قال : أنا يا رسول الله قال ] كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر [ تفرد به وقال ابن ماجه : حدثنا أبو كريب حدثنا عبد الله بن نمير وأبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البحتري عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] لا يحقر أحدكم نفسه [ قالوا يا رسول الله : كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال ] يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقول فيه فيقول الله له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا وكذا ؟ فيقول : خشية الناس فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى [ تفرد به وقال أيضا : حدثنا علي بن محمد حدثنا محمد بن فضيل حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عبد الله بن عبدالرحمن أبو طوالة حدثنا نهار العبدي أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله يسأل العبد يوم القيامة حتى يقول : ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال : يا رب رجوتك وفرقت الناس ] تفرد به أيضا ابن ماجه وإسناده لا بأس به
وقال الإمام أحمد : حدثنا عمرو بن عاصم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه ] قيل : وكيف يذل نفسه ؟ قال [ يتعرض من البلاء لما لا يطيق ] وكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا عن محمد بن بشار عن عمرو بن عاصم به وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب وقال ابن ماجه : حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي حدثنا الهيثم بن حميد حدثنا أبو معبد حفص بن غيلان الرعيني عن مكحول عن أنس بن مالك قال : قيل : يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال [ إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم ] قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا ؟ قال [ الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالكم ] قال زيد : تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم والعلم في رذالكم إذا كان العلم في الفساق تفرد به ابن ماجة وسيأتي في حديث أبي ثعلبة عند قوله { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } شاهد لهذا إن شاء الله تعالى وبه الثقة
وقوله تعالى : { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا } قال مجاهد : يعني بذلك المنافقين وقوله { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } يعني بذلك موالاتهم للكافرين وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقا في قلوبهم وأسخطت الله عليهم سخطا مستمرا إلى يوم معادهم ولهذا قال { أن سخط الله عليهم } وفسر بذلك ما ذمهم به ثم أخبر عنهم أنهم { وفي العذاب هم خالدون } يعني يوم القيامة قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا مسلم بن علي عن الأعمش بإسناد ذكره قال [ يا معشر المسلمين إياكم والزنا فإن فيه ست خصال : ثلاثا في الدنيا وثلاثا في الاخرة فأما التي في الدنيا فإنه يذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما التي في الآخرة فإنه يوجب سخط الرب وسوء الحساب والخلود في النار ] ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } هكذا ذكره ابن أبي حاتم
وقد رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عمار عن مسلمة عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره وساقه أيضا من طريق سعيد بن غفير عن مسلمة عن أبي عبد الرحمن الكوفي عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكر مثله وهذا حديث ضعيف على كل حال والله أعلم
وقوله تعالى : { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } أي لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسول والقرآن لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه { ولكن كثيرا منهم فاسقون } أي خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله (2/113)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم وهذا القول فيه نظر لأن هذه الآية مدنية وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما : نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه قال السدي : فهاجر النجاشي فمات بالطريق وهذا من أفراد السدي فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة وصلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم يوم مات وأخبر به أصحابه وأخبر أنه مات بأرض الحبشة ثم اختلف في عدة هذا الوفد فقيل : اثنا عشر : سبعة قساوسة وخمسة رهابين وقيل : بالعكس وقيل : خمسون وقيل : بضع وستون وقيل : سبعون رجلا فالله أعلم وقال عطاء بن أبي رباح : هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيس ابن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها
فقوله تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم غير مرة وسموه وسحروه وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عند تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن محمد بن السري حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرقي حدثنا علي بن سعيد العلاف حدثنا أبو النضر عن الأشجعي عن سفيان عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ماخلا يهودي بمسلم قط إلا هم بقتله ] ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري حدثنا أحمد بن أيو ب الأهوازي حدثنا فرج بن عبيد حدثنا عباد بن العوام عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ماخلا يهودي بمسلم إلا حدث نفسه بقتله ] وهذا حديث غريب جدا
وقوله تعالى : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة كما قال تعالى { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية } وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر وليس القتال مشروعا في ملتهم ولهذا قال تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم واحدهم قسيس وقس أيضا وقد يجمع على قسوس والرهبان جمع راهب وهو العابد مشتق من الرهبة وهي الخوف كراكب وركبان وفرسان قال ابن جرير : وقد يكون الرهبان واحدا وجمعه رهابين مثل قربان وقرابين وجردان وجرادين وقد يجمع على رهابنة ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحدا قول الشاعر :
لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا بشر بن آدم حدثنا نصير بن أبي الأشعث حدثني الصلت الدهان عن جاثمة بن رئاب قال : سألت سلمان عن قول الله تعالى { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا } فقال : دع القسيسين في البيع والخرب أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا ] وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الخاني عن نضير بن زياد الطائي عن صلت الدهان عن جاثمة بن رئاب عن سلمان به قال ابن أبي حاتم : ذكره أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الخاني حدثنا نضير بن زياد الطائي حدثنا صلت الدهان عن جاثمة بن رئاب قال : سمعت سلمان وسئل عن قوله { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا } فقال هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب فدعوهم فيها قال سلمان : وقرأت على النبي صلى الله عليه و سلم { ذلك بأن منهم قسيسين } فأقرأني [ ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا ] فقوله { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف فقال { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه و سلم { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به
وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفلاس عن عمر بن علي بن مقدم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { فاكتبنا مع الشاهدين } أي مع محمد صلى الله عليه و سلم وأمته هم الشاهدون يشهدون لنبيهم صلى الله عليه و سلم أنه قد بلغ وللرسل أنهم قد بلغوا ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وقال الطبراني حدثنا أبو شبيل عبد الله بن عبد الرحمن بن واقد حدثنا أبي حدثنا العباس بن الفضل عن عبد الجبار بن نافع الضبي عن قتادة وجعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع } قال : إنهم كانوا كرابين يعني فلاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم ] فقالوا : لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله ذلك من قولهم { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله } الآية وهم الذين قال الله فيهم { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين } إلى قوله { لا نبتغي الجاهلين } ولهذا قال تعالى ههنا : { فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار } أي فجزاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أي ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون { وذلك جزاء المحسنين } أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } أي جحدوا بها وخالفوها { أولئك أصحاب الجحيم } أي هم أهلها والداخلون فيها (2/117)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني ] رواه ابن أبي حاتم وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه و سلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام على الفراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال [ ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن عثمان يعني ابن سعيد أخبرني عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء وإني حرمت علي اللحم فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعا عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم النبيل به وقال حسن غريب وقد روي من وجه آخر مرسلا وروي موقوفا على ابن عباس فالله أعلم وقال سفيان الثوري ووكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه و سلم وليس معنا نساء فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية أخرجاه من حديث إسماعيل وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة والله أعلم
وقال الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث عن عمرو بن شرحبيل قال : جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله بن مسعود فقال : إني حرمت فراشي فتلا هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود فجيء بضرع فتنحى رجل فقال له عبد الله : ادن فقال : إني حرمت أن آكله فقال عبد الله : ادن فاطعم وكفر عن يمينك وتلا هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الاية : رواهن ابن أبي حاتم وروى الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه من طريق إسحاق بن راهويه عن جرير عن منصور به ثم قال : على شرط الشيخين ولم يخرجاه ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه و سلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له فقال لامرأته حبست ضيفي من أجلي هو علي حرام فقالت امرأته : هو علي حرام وقال الضيف : هو علي حرام فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا باسم الله ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر الذي كان منهم ثم أنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وهذا أثر منقطع
وفي صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه شبيه بهذا وفيه وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ولا كفارة عليه أيضا ولقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ولأن الذي حرم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدم لم يأمره النبي صلى الله عليه و سلم بكفارة وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا أو مشربا أو ملبسا أو شيئا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه كما أفتى بذلك ابن عباس وكما في قوله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } ثم قال { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } الاية وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقبه بالاية المبينة لتكفير اليمين فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير والله أعلم
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح فنزلت هذه الاية إلى قوله { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } قال ابن جريج عن عكرمة : أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يؤكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } يقول لا تسيروا بغير سنة المسلمين يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار وما هموا به من الاختصاء فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ إن لأنفسكم حقا وإن لأعينكم حقا صوموا وأفطروا وصلوا وناموا فليس منا من ترك سنتنا ] فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين كما تقدم ذلك ولله الحمد والمنة وقال أسباط عن السدي في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس يوما فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخويف فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون : ما حقنا إن لم نحدث عملا فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك وأن يأكل بالنهار وحرم بعضهم النوم وحرم بعضهم النساء فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها وكان يقال لها الحولاء فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم : ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين ؟ فقالت : وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي وما وقع عني ثوبا منذ كذا وكذا قال : فجعلن يضحكن من كلامها فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهن يضحكن فقال [ ما يضحككن ؟ ] قالت : يا رسول الله إن الحولاء سألتها عن أمرها فقالت : ما وقع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا فأرسل إليه فدعاه فقال [ مالك يا عثمان ؟ ] قال : إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة وقص عليه أمره وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك ] فقال : يا رسول الله إني صائم فقال [ أفطر ] فأفطر وأتى أهله فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت فضحكت عائشة وقالت : مالك يا حولاء ؟ فقالت : إنه أتاها أمس
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني ] فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } يقول لعثمان : لا تجب نفسك فإن هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم فقال { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } رواه ابن جرير وقوله تعالى : { ولا تعتدوا } يحتمل أن يكون المراد منه ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم كما قاله من قاله من السلف ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه : كما قال تعالى : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } الاية وقال { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه لا إفراط ولا تفريط ولهذا قال { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } ثم قال { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } أي في حال كونه حلالا طيبا { واتقوا الله } أي في جميع أموركم واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته وعصيانه { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } (2/119)
وقد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة وأنه قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله وبلى والله وهذا مذهب الشافعي وقيل هو في الهزل وقيل : في المعصية وقيل : على غلبة الظن وهو قول أبي حنيفة وأحمد وقيل : اليمين في الغضب وقيل : في النسيان وقيل : هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك واستدلوا بقوله { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها { فكفارته إطعام عشرة مساكين } يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه
وقوله { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة : أي من أعدل ما تطعمون أهليكم وقال عطاء الخراساني : من أمثل ما تطعمون أهليكم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي قال : خبز ولبن وخبز وسمن وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان يعني ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون وبعضهم قوتا فيه سعة فقال الله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } أي من الخبز والزيت وحدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن جابر عن عامر عن ابن عباس { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال : من عسرهم ويسرهم وحدثنا عبد الرحمن بن خلف الحمصي حدثنا محمد بن شعيب يعني ابن شابور وحدثنا شيبان بن عبد الرحمن التميمي عن ليث بن أبي سليم عن عاصم الأحول عن رجل يقال له عبد الرحمن التميمي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال : الخبز واللحم والخبز والسمن والخبز واللبن والخبز والزيت والخبز والخل
وحدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن ابن سيرين عن ابن عمر في قوله { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال : الخبز والسمن والخبز واللبن والخبز والزيت والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم ورواه ابن جرير عن هناد وابن وكيع كلاهما عن أبي معاوية ثم روى ابن جرير عن عبيدة والأسود وشريح القاضي ومحمد بن سيرين والحسن والضحاك وأبي رزين أنهم قالوا نحو ذلك وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول أيضا
واختار ابن جرير أن المراد بقوله { من أوسط ما تطعمون أهليكم } أي في القلة والكثرة ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن حصين الحارثي عن الشعبي عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال : يغديهم ويعشيهم وقال الحسن ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما زاد الحسن : فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا فإن لم يجد فخبزا وزيتا وخلا حتى يشبعوا وقال آخرون : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما فهذا قول عمر وعلي وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبي مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبي قلابة ومقاتل بن حيان وقال أبو حنيفة : نصف صاع بر وصاع مما عداه
وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف حدثنا محمد بن معاوية حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل بن سخبرة بن أخي عائشة لأمه حدثنا عمر بن يعلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كفر رسول الله صلى الله عليه و سلم بصاع من تمر وأمر الناس به ومن لم يجد فنصف صاع من بر ورواه ابن ماجه عن العباس بن يزيد عن زياد بن عبد الله البكاء عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي عن المنهال بن عمرو به لا يصح هذا الحديث لحال عمر بن عبد الله هذا فإنه مجمع على ضعفه وذكروا أنه كان يشرب الخمر وقال الدارقطني : متروك وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن داود يعني ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : مد من بر يعني لكل مسكين ومعه إدامه ثم قال : وروي عن ابن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وعكرمة وأبي الشعثاء والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والحسن ومحمد بن سيرين والزهري نحو ذلك
وقال الشافعي : الواجب في كفارة اليمين مد بمد النبي صلى الله عليه و سلم لكل مسكين ولم يتعرض للأدم واحتج بأمر النبي صلى الله عليه و سلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكينا من مكتل يسع خمسة عشر صاعا لكل واحد منهم مد وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري حدثنا محمد بن إسحاق السراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا النضر بن زرارة الكوفي عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقيم كفارة اليمين مدا من حنطة بالمد الأول إسناده ضعيف لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بلخ قال فيه أبو حاتم الرازي : هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد وذكره ابن حبان في الثقات وقال : روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة فالله أعلم ثم إن شيخه العمري ضعيف أيضا وقال أحمد بن حنبل : الواجب مد من بر أو مدان من غيره والله أعلم
وقوله تعالى : { أو كسوتهم } قال الشافعي رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك واختلف أصحابه في القلنسوة : هل تجزىء أم لا ؟ على وجهين فمنهم من ذهب إلى الجواز احتجاجا بما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمار بن خالد الواسطي : قالا : حدثنا القاسم بن مالك عن محمد بن الزبير عن أبيه قال : سألت عمران بن الحصين عن قوله { أو كسوتهم } قال : لو أن وفدا قدموا على أميركم فكساهم قلنسوة قلنسوة قلتم قد كسوا ولكن هذا إسناد ضعيف لحال محمد بن الزبير هذا والله أعلم وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني : في الخف وجهين أيضا والصحيح عدم الإجزاء وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلا أو امرأة كل بحسبه والله أعلم
وقال العوفي عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين أو شملة وقال مجاهد : أدناه ثوب وأعلاه ما شئت وقال ليث عن مجاهد : يجزىء في كفارة اليمين كل شيء إلا التبان وقال الحسن وأبو جعفر الباقر وعطاء وطاوس وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو مالك ثوب ثوب وعن إبراهيم النخعي أيضا : ثوب جامع كالملحفة والرداء ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعا وقال الأنصاري عن أشعث عن ابن سيرين : والحسن ثوبان ثوبان وقال الثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب : عمامة يلف بها رأسه وعباءة يلتحف بها وقال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن ابن سيرين عن أبي موسى أنه حلف على يمين فكسا ثوبين من معقدة البحرين وقال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن المعلى حدثنا هشام بن عمار حدثنا إسماعيل بن عياش عن مقاتل بن سليمان عن أبي عثمان عن أبي عياض عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله { أو كسوتهم } قال [ عباءة لكل مسكين ] حديث غريب
وقوله { أو تحرير رقبة } أخذ أبو حنيفة بإطلاقها فقال : تجزىء الكافرة كما تجزىء المؤمنة وقال الشافعي وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم أنه ذكر أن عليه عتق رقبة وجاء معه بجارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أين الله ؟ ] قالت : في السماء قال [ من أنا ؟ ] قالت : رسول الله قال [ أعتقها فإنها مؤمنة ] الحديث بطوله فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع وقد بدأ بالأسهل فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة كما أن الكسوة أيسر من العتق فترقى فيها من الأدنى إلى الأعلى فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام كما قال تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام }
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام وقال ابن جرير حاكيا عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه جائز لمن لم يكن له فضل عن رأس مال يتصرف فيه لمعاشه ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه ثم اختار ابن جرير أنه الذي لا يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين واختلف العلماء : هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب ويجزىء التفريق ؟ قولان : أحدهما لا يجب وهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان وهو قول مالك لإطلاق قوله { فصيام ثلاثة أيام } وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله { فعدة من أيام أخر } ونص الشافعي في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع كما هو قول الحنفية والحنابلة لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيره أنهم كانوا يقرؤونها { فصيام ثلاثة أيام } قال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها { فصيام ثلاثة أيام } وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود وقال إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله بن مسعود { فصيام ثلاثة أيام } وقال الأعمش كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك وهذه إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل أن يكون خبرا واحدا أو تفسيرا من الصحابة وهو في حكم المرفوع وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي حدثنا محمد بن جعفر الأشعري حدثنا الهيثم بن خالد القرشي حدثنا يزيد بن قيس عن إسماعيل بن يحيى عن ابن جريج عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله نحن بالخيار ؟ قال [ أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت وإن شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات ] وهذا حديث غريب جدا وقوله { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي هذه كفارة اليمين الشرعية { واحفظوا أيمانكم } قال ابن جرير : معناه لا تتركوها بغير تكفير { كذلك يبين الله لكم آياته } أي يوضحها ويفسرها { لعلكم تشكرون } (2/122)
يقول تعالى : ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : الشطرنج من الميسر ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عيسى بن مرحوم عن حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي به وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن سفيان عن ليث عن عطاء ومجاهد وطاوس قال : سفيان أو اثنين منهم قالوا : كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز : وروي عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب مثله وقالا : حتى الكعاب والجوز والبيض التي تلعب بها الصبيان وقال موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : الميسر هو القمار وقال الضحاك عن ابن عباس قال : الميسر هو القمار كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة وقال مالك عن داود بن الحصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين
وقال الزهري عن الأعرج قال : الميسر الضرب بالقداح على الأموال والشمار وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر رواهن ابن أبي حاتم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر ] حديث غريب وكأن المراد بهذا هو النرد الذي ورد الحديث به في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه ] وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ] وروي موقوفا عن أبي موسى من قوله فالله أعلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إبراهيم حدثنا الجعيد عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول : أخبرني ما سمعت أباك يقول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عبد الرحمن : سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي ] وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر إنه شر من النرد وتقدم عن علي أنه قال : هو من الميسر ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد وكرهه الشافعي رحمهم الله تعالى وأما الأنصاب فقال ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وغير واحد : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها وأما الأزلام فقالوا أيضا : هي قداح كانوا يستقسمون بها رواه ابن أبي حاتم
وقوله تعالى : { رجس من عمل الشيطان } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي سخط من عمل الشيطان وقال سعيد بن جبير : إثم وقال زيد بن أسلم : أي شر من عمل الشيطان { فاجتنبوه } الضمير عائد إلى الرجس أي اتركوه { لعلكم تفلحون } وهذا ترغيب ثم قال تعالى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } وهذا تهديد وترهيب
ذكر الأحاديث الواردة في بيان تحريم الخمر
قال الإمام أحمد : حدثنا شريح حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهما فأنزل الله { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } إلى آخر الاية فقال الناس : ما حرما علينا إنما قال { فيهما إثم كبير ومنافع للناس } وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه في المغرب فخلط في قراءته فأنزل الله أغلظ منها { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مغبق ثم أنزلت آية أغلظ منها { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } قالوا : انتهينا ربنا وقال الناس : يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان فأنزل الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } إلى آخر الاية فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم ] انفرد به أحمد
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عن عمر بن الخطاب أنه قال لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الاية التي في البقرة { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الاية التي في سورة النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قال : حي على الصلاة نادى : لا يقربن الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الاية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى : { فهل أنتم منتهون } قال عمر : انتهينا انتهينا وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن إسرائيل عن أبي إسحاق عمر بن عبد الله السبيعي وعن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني عن عمر به وليس له عنه سواه قال أبو زرعة : ولم يسمع منه وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل وقال البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا محمد بن بشر حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز حدثني نافع عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب
[ حديث آخر ] قال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن أبي حميد عن المصري يعني أبا طعمة قارىء مصر قال : سمعت ابن عمر يقول : نزلت في الخمر ثلاث آيات فأول شيء نزل { يسألونك عن الخمر والميسر } الاية فقيل : حرمت الخمر فقالوا : يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله تعالى قال : فسكت عنهم ثم نزلت هذه الاية { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقيل : حرمت الخمر فقالوا : يا رسول الله إنا لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } الايتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ حرمت الخمر ]
[ حديث آخر ] قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى حدثنا محمد بن إسحاق عن القعقاع بن حكيم أن عبد الرحمن بن وعلة قال : سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال : كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم صديق من ثقيف أو من دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا فلان أما علمت أن الله حرمها ؟ ] فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا فلان بماذا أمرته ؟ فقال : أمرته أن يبيعها قال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ] فأمر بها فأفرغت في البطحاء ورواه مسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم ومن طريق ابن وهب أيضا عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد كلاهما عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس به ورواه النسائي عن قتيبة عن مالك به
[ حديث آخر ] قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن شهر بن حوشب عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه و سلم كل عام راوية من خمر فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك وقال [ إنها قد حرمت بعدك ] قال : يا رسول الله فأبيعها وأنتفع بثمنها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لعن الله اليهود حرمت عليهم شحوم البقر والغنم فأذابوه وباعوه والله حرم الخمر وثمنها ] وقد رواه أيضا الإمام أحمد فقال : حدثنا روح حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال : سمعت شهر بن حوشب قال : حدثني عبد الرحمن بن غنم أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه و سلم كل عام راوية من خمر فلما كان عام حرمت جاء براوية فلما نظر إليه ضحك فقال [ أشعرت أنها قد حرمت بعدك ] فقال : يا رسول الله ألا أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لعن الله اليهود انطلقوا إلى ما حرم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه فباعوا به ما يأكلون وإن الخمر حرام وثمنها حرام وإن الخمر حرام وثمنها حرام وإن الخمر حرام وثمنها حرام ]
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن سليمان بن عبد الرحمن عن نافع بن كيسان أن أباه أخبره أنه كانه يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق يريد بها التجارة فأتى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني جئتك بشراب طيب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا كيسان إنها قد حرمت بعدك ] قال : فأبيعها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنها قد حرمت وحرم ثمنها ] فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم هراقها
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد عن أنس قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسعيد بن بيضاء ونفرا من أصحابه عند أبي طلحة حتى كاد الشراب يأخذ منهم فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ فقالوا : حتى ننظر ونسأل فقالوا : يا أنس اسكب ما بقي في إنائك فوالله ما عادوا فيها وما هي إلا التمر والبسر وهي خمرهم يومئذ أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن أنس وفي رواية حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر فإذا مناد ينادي قال : اخرج فانظر فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت فجرت في سكك المدينة قال : فقال لي أبو طلحة : اخرج فأهرقها فهرقتها فقالوا أو قال بعضهم : قتل فلان وفلان وهي في بطونهم قال : فأنزل الله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الاية
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال : بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر فسمعت مناديا ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا وأصبنا من طيب أم سليم ثم خرجنا إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } إلى قوله تعالى { فهل أنتم منتهون } فقال رجل : يا رسول الله فما ترى فيمن مات وهو يشربها ؟ فأنزل الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الاية فقال رجل لقتادة : أنت سمعته من أنس بن مالك قال : نعم وقال رجل لأنس بن مالك أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم أو حدثني من لم يكذب ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب
[ حديث آخر ] قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس بن سعيد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن ربي تبارك وتعالى حرم الخمر والكوبة والقنين وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم ]
[ حديث آخر ] قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا فرج بن فضالة عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين وزادني صلاة الوتر ] قال يزيد : القنين البرابط تفرد به أحمد وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو عاصم وهو النبيل أخبرنا عبد الحميد بن جعفر حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم ] قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام ] تفرد به أحمد أيضا
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبي طعمة مولاهم عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لعنت الخمر على عشرة أوجه : لعنت الخمر بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها ] ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث وكيع به وقال أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو طعمة سمعت ابن عمر يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المربد فخرجت معه فكنت معه فكنت عن يمينه وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه فكان عن يمينه وكنت عن يساره ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم المربد فإذا بزقاق على المربد فيها خمر قال ابن عمر : فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدية قال ابن عمر : وما عرفت المدية إلا يومئذ فأمر بالزقاق فشقت ثم قال [ لعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها ] وقال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب قال : قال عبد الله بن عمر : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال [ اغد علي بها ] ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته
[ حديث آخر ] ـ قال عبد الله بن وهب : أخبرني عبد الرحمن بن شريح وابن لهيعة والليث بن سعد عن خالد بن زيد عن ثابت أن يزيد الخولاني أخبره أنه كان له عم يبيع الخمر وكان يتصدق قال : فنهيته عنها فلم ينته فقدمت المدينة فلقيت ابن عباس فسألته عن الخمر وثمنها فقال : هي حرام وثمنها حرام ثم قال ابن عباس رضي الله عنه : يا معشر أمة محمد إنه لو كان كتاب بعد كتابكم ونبي بعد نبيكم لأنزل فيكم كما أنزل قبلكم ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة ولعمري لهو أشد عليكم قال ثابت : فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر فقال : سأخبرك عن الخمر إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد فبينما هو محتب على حبوته ثم قال [ من كان عنده من هذه الخمر شيء فليأتنا بها ] فجعلوا يأتونه فيقول أحدهم : عندي راوية ويقول الاخر : عندي زق أو ما شاء الله أن يكون عنده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اجمعوه ببقيع كذا وكذا ثم آذنوني ] ففعلوا ثم آذنوه فقام وقمت معه ومشيت عن يمينه وهو متكىء علي فلحقنا أبو بكر رضي الله عنه فأخرني رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعلني عن شماله وجعل أبا بكر في مكاني ثم لحقنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخرني وجعله عن يساره فمشى بينهما حتى إذا وقف على الخمر قال للناس [ أتعرفون هذه ؟ قالوا نعم يا رسول الله هذه الخمر قال ] صدقتم [ ثم قال ] فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها [ ثم دعا بسكين فقال ] اشحذوها [ ففعلوا ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم يخرق بها الزقاق قال : فقال الناس : في هذه الزقاق منفعة فقال ] أجل ولكني إنما أفعل ذلك غضبا لله عز و جل لما فيها من سخطه [ فقال عمر : انا أكفيك يا رسول الله قال ] لا [ قال ابن وهب : وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث رواه البيهقي
[ حديث آخر ] قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو الحسين بن بشر أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن سماك عن مصعب بن سعد عن سعد قال : أنزلت في الخمر أربع آيات فذكر الحديث قال : وصنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا فتفاخرنا فقالت الأنصار : نحن أفضل وقالت قريش : نحن أفضل فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور فضرب به أنف سعد ففزره وكانت أنف سعد مفزورة فنزلت { إنما الخمر والميسر } إلى قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } أخرجه مسلم من حديث شعبة
[ حديث آخر ] ـ قال البيهقي : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة أنبأنا أبو علي الرفاء حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن منهال حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته فيقول صنع بي هذا أخي فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فيقول : والله لو كان بي رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله تعالى هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } إلى قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } فقال أناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد : فأنزل الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } إلى آخر الاية ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة عن حجاج بن منهال
[ حديث آخر ] ـ قال ابن جرير : حدثني محمد بن خلف حدثنا سعيد بن محمد الحرمي عن أبي نميلة عن سلام مولى حفص أبي القاسم عن أبي بريدة عن أبيه قال بينا نحن قعود على شراب لنا ونحن على رملة ونحن ثلاثة أو أربعة وعندنا باطية لنا ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم عليه إذ نزل تحريم الخمر { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى آخر الايتين { فهل أنتم منتهون } فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله { فهل أنتم منتهون } قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء فقال : بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا : انتهينا ربنا
[ حديث آخر ] ـ قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا ابن عيينة عن عمرو عن جابر قال صبح أناس غداة أحد الخمر فقتلوا من يومهم جميعا شهداء وذلك قبل تحريمها هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول : اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم فأنزل الله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } ثم قال : وهذا إسناد صحيح وهو كما قال ولكن في سياقه غرابة
[ حديث آخر ] ـ قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم ؟ فنزلت { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الاية ورواه الترمذي عن بندار غندر عن شعبة به نحوه وقال : حسن صحيح
[ حديث آخر ] ـ قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا جعفر بن حميد الكوفي حدثنا يعقوب القمي عن عيسى بن جارية عن جابر بن عبد الله قال : كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين فحمل منها بمال فقدم بها المدينة فلقيه رجل من المسلمين فقال يا فلان إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تل وسجى عليها بأكسية ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله بلغني أن الخمر قد حرمت ؟ قال ] أجل [ قال لي أن أردها على من ابتعتها منه ؟ قال لا يصلح ردها ] قال : لي أن أهديها إلى من يكافئني منها ؟ قال [ لا ] قال : فإن فيها مالا ليتامى في حجري قال [ إذا أتانا مال البحرين فأتنا نعوض أيتامك من مالهم ] ثم نادى بالمدينة فقال رجل : يا رسول الله الأوعية ننتفع بها ؟ قال [ فحلوا أوكيتها ] فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي هذا حديث غريب
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن السدي عن أبي هبيرة وهو يحيى بن عباد الأنصاري عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال [ أهرقها ] قال : أفلا نجعلها خلا ؟ قال [ لا ] ورواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث الثوري به نحوه
[ حديث آخر ] قال ابن أبي حاتم حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا عبد العزيز بن سلمة حدثنا هلال بن أبي هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال : إن هذه الاية التي في القرآن { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } قال : هي في التوراة إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب والمزامير والزفن والكبارات يعني البرابط والزمارات يعني به الدف والطنابير والشعر والخمر مرة لمن طعمها أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس وهذا إسناد صحيح
[ حديث آخر ] ـ قال عبد الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن شعيب حدثهم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من ترك الصلاة سكرا مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ومن ترك الصلاة سكرا أربع مرات كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ] قيل : وما طينة الخبال ؟ قال [ عصارة أهل جهنم ] ورواه أحمد من طريق عمرو بن شعيب
[ حديث آخر ] ـ قال أبو داود : حدثنا محمد بن رافع حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني قال : سمعت النعمان هو ابن أبي شيبة الجندي يقول عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ كل مخمر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ] قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال [ صديد أهل النار ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ] تفرد به أبو داود
[ حديث آخر ] ـ قال الشافعي رحمه الله : أنبأنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من شرب الخمر في الدنيا لم يتب منها حرمها في الاخرة ] أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك به وروى مسلم عن أبي الربيع عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الاخرة ]
[ حديث آخر ] ـ قال ابن وهب : أخبرني عمر بن محمد عن عبد الله بن يسار أنه سمع سالم بن عبد الله يقول : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى ] ورواه النسائي عن عمرو بن علي عن يزيد بن زريع عن عمر بن محمد العمري به وروى أحمد عن غندر عن شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر ] ورواه أحمد أيضا عن عبد الصمد عن عبد العزيز بن مسلم عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد به وعن مروان بن شجاع عن حصيف عن مجاهد به ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا عن حسين الجعفي عن زائدة عن يزيد بن أبي زيادة عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد كلاهما عن أبي سعيد به
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابان عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر ولا منان ولا ولد زنية ] وكذا رواه عن يزيد عن همام عن منصور عن سالم عن جابان عن عبد الله بن عمرو به وقد رواه أيضا عن غندر وغيره عن شعبة عن منصور عن سالم عن نبيط بن شريط عن جابان عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا يدخل الجنة منان ولا عاق والديه ولا مدمن خمر ] ورواه النسائي من حديث شعبة كذلك ثم قال : ولا نعلم أحدا تابع شعبة عن نبيط بن شريط وقال البخاري : لا يعرف لجابان سماع عن عبد الله ولا لسالم من جابان ولا نبيط وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد عن ابن عباس ومن طريقه أيضا عن أبي هريرة فالله أعلم
وقال الزهري : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه قال : سمعت عثمان بن عفان يقول اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت إنا ندعوك لشهادة فدخل معها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر فقالت إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هذا الغلام أو تشرب هذا الخمر فسقته كأسا فقال زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه رواه البيهقي وهذا إسناد صحيح وقد رواه أبوبكر بن أبي الدنيا في كتابه ذم المسكر عن محمد بن عبد الله بن بزيع عن الفضيل بن سليمان النميري عن عمر بن سعيد عن الزهري به مرفوعا والموقوف أصح والله أعلم وله شاهد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ]
وقال أحمد بن حنبل : حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما حرمت الخمر قال ناس : يا رسول الله أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها فأنزل الله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } إلى آخر الاية ولما حولت القبلة قال ناس : يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } وقال الإمام أحمد : حدثنا داود بن مهران الدباغ حدثنا داود يعني العطار عن أبي خثيم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول [ من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة إن مات مات كافرا وإن تاب تاب الله عليه وإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال ] قالت : قلت : يارسول الله وما طينة الخبال ؟ قال [ صديد أهل النار ] وقال الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لما نزلت { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا } فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ قيل لي : أنت منهم ] وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريقه وقال عبد الله بن الإمام أحمد : قرأت على أبي حدثنا علي بن عاصم حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجرا فإنهما ميسر العجم ] (2/125)
قال الوالبي عن ابن عباس قوله { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه وقال مجاهد { تناله أيديكم } يعني صغار الصيد وفراخه { ورماحكم } يعني كباره وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الاية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون { ليعلم الله من يخافه بالغيب } يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرا وجهرا لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره كما قال تعالى : { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير } وقوله ههنا { فمن اعتدى بعد ذلك } قال السدي وغيره : يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم { فله عذاب أليم } أي لمخالفته أمر الله وشرعه
ثم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ونهي عن تعاطيه فيه وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره فأما غير المأكول من حيوانات البر فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها والجمهور على تحريم قتلها أيضا ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ] وقال مالك عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ] أخرجاه ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله قال أيوب : فقلت لنافع : فالحية ؟ قال الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد لأنها أشد ضررا منه فالله أعلم
وقال زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة : الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال [ اللهم سلط عليه كلبك بالشام ] فأكله السبع بالزرقاء قالوا : فإن قتل ما عداهن فداه كالضبع والثعلب وهر البر ونحو ذلك قال مالك : وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها وصغار الملحق بها من السباع العوادي وقال الشافعي : يجوز للمحرم قتل كل مالا يؤكل لحمه ولا فرق بين صغاره وكباره وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل وقال أبو حنيفة : يقتل المحرم الكلب العقور والذئب لأنه كلب بري فإن قتل غيرهما فداه إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه وهذا قول الأوزاعي والحسن بن صالح بن حيي وقال زفر بن الهذيل : يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه
وقال بعض الناس : المراد بالغراب ههنا الأبقع وهو الذي في بطنه وظهره بياض دون الأدرع وهو الأسود والأعصم وهو الأبيض لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ خمس يقتلهن المحرم : الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور ] والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه وقال مالك رحمه الله : لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه وقال مجاهد بن جبر وطائفة : لا يقتله بل يرميه ويروى مثله عن علي وقد روى هشيم : حدثنا يزيد بن أبي زياد : عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال [ الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي ] رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي عن أحمد بن منيع كلاهما عن هشيم وابن ماجه عن أبي كريم وعن محمد بن فضيل كلاهما عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف به وقال الترمذي : هذا حديث حسن
وقوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن علية عن أيوب قال : نبئت عن طاوس أنه قال : لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ إنما يحكم على من أصابه متعمدا وهذا مذهب غريب عن طاوس وهو متمسك بظاهر الاية وقال مجاهد بن جبر : المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد الناسي لإحرامه فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه فذاك أمره أعظم من أن يكفر وقد بطل إحرامه ورواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نجيح وليث بن أبي سليم وغيرهما عنه وهو قول غريب أيضا والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه وقال الزهري : دل الكتاب على العامد وجرت السنة على الناسي ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله { ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه } وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه و سلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ كما دل الكتاب عليه في العمد وأيضا فإن قتل الصيد إتلاف والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان لكن المتعمد مأثوم والمخطىء غير ملوم
وقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } قرأ بعضهم بالإضافة وقرأ آخرون بعطفها { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأها { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وفي قوله { فجزاء مثل ما قتل من النعم } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي خلافا لأبي حنيفة رحمه الله حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليا أو غير مثلي قال : وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه وإن شاء اشترى به هديا والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع فإنهم حكموا في النعامة ببدنة وفي بقرة الوحش ببقرة وفي الغزال بعنز وذكر قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب الأحكام وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة رواه البيهقي
وقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من المسلمين واختلف العلماء في القاتل : هل يجوز أن يكون أحد الحكمين ؟ على قولين ( أحدهما ) لا لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه وهذا مذهب مالك ( والثاني ) نعم لعموم الاية وهو مذهب الشافعي وأحمد واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكوما عليه في صورة واحدة قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا جعفر هو ابن برقان عن ميمون بن مهران أن أعرابيا أتى أبا بكر فقال : قتلت صيدا وأنا محرم فما ترى علي من الجزاء ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده : ما ترى فيما قال ؟ فقال الأعرابي : أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم أسألك فإذا أنت تسأل غيرك ؟ فقال أبو بكر : وما تنكر ؟ يقول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به وهذا إسناد جيد لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق ومثله يحتمل ههنا فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم فأما إذا كان المعترض منسوبا إلى العلم فقد قال ابن جرير : حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا : حدثنا وكيع بن الجراح عن المسعودي عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجا فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا فنتماشى نتحدث قال : فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه ( وهو العظم الناتى خلف الأذن ) فركب ردعه ميتا قال : فعظمنا عليه فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقص عليه القصة فقال : وإذا إلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة يعني عبد الرحمن بن عوف فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال : ثم أقبل على الرجل فقال : أعمدا قتلته أم خطأ ؟ فقال الرجل : لقد تعمدت رميه وما أردت قتله فقال عمر : ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها قال : فقمنا من عنده فقلت لصاحبي : أيها الرجل عظم شعائر الله فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه اعمد إلى ناقتك فانحرها فلعل ذلك يعني أن يجزىء عنك قال قبيصة : ولا أذكر الاية من سورة المائدة { يحكم به ذوا عدل منكم } فبلغ عمر مقالتي فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة قال : فعلا صاحبي ضربا بالدرة أقتلت في الحرم وسفهت في الحكم قال : ثم أقبل علي فقلت : يا أمير المؤمنين لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني فقال : يا قبيصة بن جابر إني أراك شاب السن فسيح الصدر بين اللسان وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيء فيفسد الخلق السيء الأخلاق الحسنة فإياك وعثرات الشباب
وروى هشيم هذه القصة عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بنحوه ورواها أيضا عن حصين عن الشعبي عن قبيصة بنحوه وذكرها مرسلة عن عمر بن بكر بن عبد الله المزني ومحمد بن سيرين بنحوه وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا شعبة عن منصور عن أبي وائل أخبرني ابن جرير البجلي قال : أصبت ظبيا وأنا محرم فذكرت ذلك لعمر فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك فأتيت عبد الرحمن وسعدا فحكما علي بتيس أعفر وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا ابن عيينة عن مخارق عن طارق قال : أوطأ أربد ظبيا فقتله وهو محرم فأتى عمر ليحكم عليه فقال له عمر : احكم معي فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر ثم قال عمر { يحكم به ذوا عدل منكم } وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين كما قاله الشافعي وأحمد رحمهما الله واختلفوا : هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل وإن كان قد حكم في مثله الصحابة أو يكتفى بأحكام الصحابة المتقدمة ؟ على قولين فقال الشافعي وأحمد : يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة وجعلاه شرعا مقررا لا يعدل عنه ومالم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين وقال مالك وأبو حنيفة : بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا لقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم }
وقوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } أي واصلا إلى الكعبة والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة وقوله { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأحد قولي الشافعي والمشهور عن أحمد رحمهم الله لظاهر [ أو ] بأنها للتخيير والقول الاخر أنها على الترتيب فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم وقال الشافعي : يقوم مثله من النعم لو كان موجودا ثم يشترى به طعام فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز واختاره ابن جرير وقال أبو حنيفة وأصحابه : يطعم كل مسكين مدين وهو قول مجاهد وقال أحمد : مد من حنطة أو مدان من غيره فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير صام عن إطعام كل مسكين يوما وقال ابن جرير : وقال آخرون : يصوم مكان كل صاع يوما كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه فإن الشارع أمر كعب بن عجرة أن يقسم فرقا بين ستة أو يصوم ثلاثة أيام والفرق ثلاثة آصع واختلفوا في مكان هذا الإطعام فقال الشافعي : مكانه الحرم وهو قول عطاء وقال مالك يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه وقال أبو حنيفة : إن شاء أطعم في الحرم وإن شاء أطعم في غيره
ذكر أقوال السلف في هذا المقام
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة حدثنا جرير عن منصور عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } قال : إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم فإن لم يجد نظر كم ثمنه ثم قوم ثمنه طعاما قال الله تعالى : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } قال : إنما أريد بالطعام والصيام أنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه ورواه ابن جرير من طريق جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } فإذا قتل المحرم شيئا من الصيد حكم عليه فيه فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فإن قتل أيلا أو نحوه فعليه بقرة فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا فإن لم يجد صام عشرين يوما وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة من الإبل فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا فإن لم يجد صام ثلاثين يوما [ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد : الطعام مد مد يشبعهم وقال جابر الجعفي عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد { أو عدل ذلك صياما } قالوا إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي رواه ابن جرير وكذا روى ابن جريج عن مجاهد وأسباط عن السدي أنها على الترتيب وقال عطاء وعكرمة ومجاهد في رواية الضحاك وإبراهيم النخعي : هي على الخيار وهي رواية الليث عن مجاهد عن ابن عباس واختار ذلك ابن جرير رحمه الله
وقوله { ليذوق وبال أمره } أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة { عفا الله عما سلف } أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله ولم يرتكب المعصية ثم قال { ومن عاد فينتقم الله منه } أي ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه { فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما { عفا الله عما سلف } ؟ قال : عما كان في الجاهلية قال : قلت : وما { ومن عاد فينتقم الله منه } ؟ قال : ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه وعليه مع ذلك الكفارة قال : قلت : فهل في العود من حد تعلمه ؟ قال : لا قال قلت : فترى حقا على الإمام أن يعاقبه ؟ قال : لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عز و جل ولكن يفتدي ] رواه ابن جرير وقيل : معناه فينتقم الله منه بالكفارة قاله سعيد بن جبير وعطاء ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله فإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة فإن عاد يقال له : ينتقم الله منك كما قال الله عز و جل وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعا عن هشام هو ابن حسان عن عكرمة عن ابن عباس فيمن أصاب صيدا يحكم عليه ثم عاد قال : لا يحكم عليه ينتقم الله منه وهكذا قال شريح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي رواهن ابن جرير ثم اختار القول الأول وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا المعتمر بن سليمان عن زيد بن أبي المعلى عن الحسن البصري أن رجلا أصاب صيدا فتجوز عنه ثم عاد فأصاب صيدا آخر فنزلت نار من السماء فأحرقته فهو قوله { ومن عاد فينتقم الله منه } وقال ابن جرير في قوله { والله عزيز ذو انتقام } يقول عز ذكره : والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع لأن الخلق خلقه والأمر أمره له العزة والمنعة وقوله { ذو انتقام } يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه (2/134)
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في رواية عنه وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم في قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر } يعني ما يصطاد منه طريا { وطعامه } ما يتزود منه مليحا يابسا وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه : صيده ما أخذ منه حيا { وطعامه } ما لفظه ميتا وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم وعكرمة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي والحسن البصري قال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي بكر الصديق أنه قال { طعامه } كل ما فيه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن مغيرة عن سماك قال : حدثت عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم } وطعامه ما قذف قال : وحدثنا ابن علية عن سليمان التيمي عن أبي مجلز عن ابن عباس في قوله { أحل لكم صيد البحر وطعامه } قال { طعامه } ما قذف
وقال عكرمة عن ابن عباس قال : طعامه ما لفظ من ميتة ورواه ابن جرير أيضا وقال سعيد بن المسيب : طعامه ما لفظه حيا أو حسر عنه فمات رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن نافع أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال : إن البحر قد قذف حيتانا كثيرة ميتة أفنأكلها ؟ فقال : لا تأكلوها فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة فأتى هذه الاية { وطعامه متاعا لكم وللسيارة } فقال : اذهب فقل له : فليأكله فإنه طعامه وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه وقد روي في ذلك خبر وإن بعضهم يرويه موقوفا حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم } قال [ طعامه ما لفظه ميتا ] ثم قال : وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة حدثنا هناد حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة في قوله { أحل لكم صيد البحر وطعامه } قال : طعامه ما لفظه ميتا
وقوله { متاعا لكم وللسيارة } أي منفعة وقوتا لكم أيها المخاطبون { وللسيارة } وهم جمع سيار قال عكرمة : لمن كان بحضرة البحر والسفر وقال غيره : الطري منه لمن يصطاده من حاضرة البحر وطعامه ما مات فيه أو اصطيد منه وملح وقدد زادا للمسافرين والنائين عن البحر وقد روي نحوه عن ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم وقد استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الاية الكريمة وبما رواه الإمام مالك بن أنس عن ابن وهب وابن كيسان عن جابر بن عبد الله قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثا قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلثمائة وأنا فيهم قال فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر قال : فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة فقال : فقد وجدنا فقدها حين فنيت قال : ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة فرحلت ومرت تحتهما فلم تصبهما وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله طرق عن جابر
وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم فأتيناه فإذا بدابة يقال لها العنبر قال : قال أبو عبيدة : ميتة ثم قال : لا نحن رسل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد اضطررتم فكلوا قال : فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن ويقتطع منه الفدر كالثور قال : ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحته وتزودنا من لحمه وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا ذلك له فقال [ هو رزق أخرجه الله لكم هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ ] قال فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منه فأكله
وفي بعض روايات مسلم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه و سلم حين وجدوا هذه السمكة فقال بعضهم : هي واقعة أخرى وقال بعضهم : بل هي قضية واحدة ولكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة والله أعلم وقال مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق : أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل وأهل السنن الأربع وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وغيرهم وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن حماد بن سلمة حدثنا أبو المهزم هو يزيد بن سفيان سمعت أبا هريرة يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حج أو عمرة فاستقبلنا جراد فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن فسقط في أيدينا فقلنا : ما نصنع ونحن محرمون ؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ لا بأس بصيد البحر ] أبو المهزم ضعيف والله أعلم وقال ابن ماجة : حدثنا هارون بن عبد الله الجمال حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا زياد بن عبد الله عن علام عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه عن جابر وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا دعا على الجراد قال [ اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء ] فقال خالد : يا رسول الله كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال [ إن الجراد نثرة الحوت : في البحر ] قال هاشم : قال زياد : فحدثني من رأى الحوت ينثره تفرد به ابن ماجه
وقد روى الشافعي عن سعيد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أنه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم وقد احتج بهذه الاية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ولم يستثن من ذلك شيئا قد تقدم عن الصديق أنه قال : طعامه كل ما فيه وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها لما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل الضفدع وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل الضفدع وقال : نقيقها تسبيح وقال آخرون : يؤكل من صيد البحر السمك ولا يؤكل الضفدع واختلفوا فيما سواهما فقيل : يؤكل سائر ذلك وقيل : لا يؤكل وقيل : ما أكل شبهه من البر أكل مثله في البحر وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : لا يؤكل مامات في البحر كما لا يؤكل مامات في البر لعموم قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } وقد ورد حديث بنحو ذلك فقال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي هو ابن قانع حدثنا الحسين بن إسحاق التستري وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان قالا : حدثنا الحسين بن يزيد الطحان حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما صدتموه وهو حي فمات فكلوه وما ألقى البحر ميتا طافيا فلا تأكلوه ] ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية ويحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر به وهو منكر وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل بحديث العنبر المتقدم ذكره وبحديث [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] وقد تقدم أيضا
وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان : فالحوت والجراد وأما الدمان : فالكبد والطحال ] ورواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وله شواهد وروي موقوفا والله أعلم
وقوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } أي في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد ففيه دلالة على تحريم ذلك فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدا أثم وغرم أو مخطئا غرم وحرم عليه أكله لأنه في حقه كالميتة وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك والشافعي في أحد قوليه وبه يقول عطاء والقاسم وسالم وأبو سيف ومحمد بن الحسن وغيرهم فإن أكله أو شيئا منه فهل يلزمه جزاء ثان ؟ فيه قولان للعلماء ( أحدهما ) نعم قال : عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : إن ذبحه ثم أكله فكفارتان وإليه ذهب طائفة ( والثاني ) لا جزاء عليه في أكله نص عليه مالك بن أنس قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار وجمهور العلماء ثم وجهه أبو عمر بما لو وطىء ثم وطىء ثم وطىء قبل أن يحد فإنما عليه حد واحد وقال أبو حنيفة : عليه قيمة ما أكل وقال أبو ثور : إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه وحلال أكل ذلك الصيد إلا أنني أكرهه للذي قتله للخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ] وهذا الحديث سيأتي بيانه وقوله بإباحته للقاتل غريب وأما لغيره ففيه خلاف قد ذكرنا المنع عمن تقدم وقال آخرون بإباحته لغير القاتل سواء المحرمون والمحلون لهذا الحديث والله أعلم
وأما إذا صاد حلال صيدا فأهداه إلى محرم فقد ذهب ذاهبون إلى إباحته مطلقا ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده من أجله أم لا حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة والزبير بن العوام وكعب الأحبار ومجاهد وعطاء في رواية وسعيد بن جبير وبه قال الكوفيون قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا بشر بن الفضل حدثنا سعيد عن قتادة أن سعيد بن المسيب حدثه عن أبي هريرة أنه سئل عن لحم صيد صاده حلال أيأكله المحرم ؟ قال : فأفتاهم بأكله ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره فقال : لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعت لك رأسك وقال آخرون : لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية ومنعوا من ذلك مطلقا لعموم هذه الاية الكريمة
وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس وعبد الكريم عن ابن أبي آسية عن طاوس عن ابن عباس أنه كره أكل الصيد للمحرم وقال : هي مبهمة يعني قوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } قال : وأخبرني معمر عن الزهري عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال قال معمر : وأخبرني أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله قال ابن عبد البر : وبه قال طاوس وجابر بن زيد وإليه ذهب الثوري وإسحاق بن راهويه في رواية وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب رواه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن عليا كره أكل لحم الصيد للمحرم على كل حال
وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية والجمهور : إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد لم يجز للمحرم أكله لحديث الصعب بن جثامة أنه أهدى للنبي صلى الله عليه و سلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال [ إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة قالوا : فوجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله فرده لذلك فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالا لم يحرم وكان أصحابه محرمين فتوقفوا في أكله ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها ؟ ] قالوا : لا قال [ فكلوا ] وأكل منها رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين بألفاظ كثيرة
وقال الإمام أحمد : حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال قتيبة في حديثه : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ صيد البر لكم حلال ] قال سعيد ـ وأنتم حرم ـ ما لم تصيدوه أو يصد لكم وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة وقال الترمذي : لا نعرف للمطلب سماعا من جابر ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه من طريق عمرو بن أبي عمرو عن مولاه المطلب عن جابر ثم قال : وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس وقال مالك رضي الله عنه عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : رأيت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ثم أتى بلحم صيد فقال لأصحابه : كلوا فقالوا : أولا تأكل أنت ؟ فقال : إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي (2/139)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم { قل } يا محمد { لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك } أي يا أيها الإنسان { كثرة الخبيث } يعني أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار كما جاء في الحديث [ ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ] وقال أبوالقاسم البغوي في معجمه : حدثنا أحمد بن زهير حدثنا الحوطي حدثنا محمد بن شعيب حدثنا معان بن رفاعة عن أبي عبد الملك علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ] { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة وتجنبوا الحرام ودعوه واقنعوا بالحلال واكتفوا به لعلكم تفلحون أي في الدنيا والاخرة
ثم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا يبلغني أحد عن أحد شيئا إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ] وقال البخاري : حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي حدثنا أبي حدثنا شعبة عن موسى بن أنس عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم خطبة ما سمعت مثلها قط وقال فيها [ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ] قال : فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وجوههم لهم حنين فقال رجل : من أبي ؟ قال [ فلان ] فنزلت هذه الاية { لا تسألوا عن أشياء } رواه النضر وروح بن عبادة عن شعبة وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج به
وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الاية قال : فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال [ لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ] فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه فقال : يا نبي الله من أبي ؟ قال [ أبوك حذافة ] قال : ثم قام عمر ـ أو قال : فأنشأ عمر ـ فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله ـ أو قال : أعوذ بالله من شر الفتن ـ قال : وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لم أر في الخير والشر كاليوم قط صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط ] أخرجاه من طريق سعيد ورواه معمر عن الزهري عن أنس بنحو ذلك أو قريبا منه قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك قط أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ؟ فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا قيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال : أين أبي ؟ قال : [ في النار ] فقام آخر فقال : من أبي ؟ فقال [ أبوك حذافة ] فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا وبالقرآن إماما إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك والله أعلم من آباؤنا قال : فسكن غضبه ونزلت هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الاية إسناده جيد وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف منهم أسباط عن السدي أنه قال في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } قال : غضب رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما من الأيام فقام خطيبا فقال [ سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به ] فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة وكان يطعن فيه فقال : يا رسول الله من أبي ؟ فقال : أبوك فلان فدعاه لأبيه فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله وقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا وبك نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي فيومئذ قال [ الولد للفراش وللعاهر الحجر ]
ثم قال البخاري : حدثنا الفضل بن سهل حدثنا أبو النضر حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } حتى فرغ من الاية كلها تفرد به البخاري وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وردان الأسدي حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز عن علي قال : لما نزلت هذه الاية { و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت قال : ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال [ لا ] ولو قلت : نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الاية وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من طريق منصور بن وردان به وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه وسمعت البخاري يقول : أبوالبختري لم يدرك عليا
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله كتب عليكم الحج ] فقال رجل : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا فقال [ من السائل ؟ ] فقال : فلان فقال [ والذي نفسي بيده لو قلت : نعم لوجبت ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ولو تركتموه لكفرتم ] فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } حتى ختم الاية ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة وقال : فقام محصن الأسدي وفي رواية من هذه الطريق عكاشة بن محصن وهو أشبه وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف
وقال ابن جرير أيضا : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري حدثنا أبو يزيد عبد الرحمن أبي الغمر حدثنا ابن مطيع معاوية بن يحيى عن صفوان بن عمرو حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس فقال [ كتب عليكم الحج ] فقام رجل من الأعراب فقال : أفي كل عام ؟ قال : فغلق كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأسكت وأغضب واستغضب ومكث طويلا ثم تكلم فقال [ من السائل ؟ ] فقال الأعرابي : أناذا فقال [ ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم ؟ والله لو قلت : نعم لو جبت ولو وجبت لكفرتم ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحرج والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض وحرمت عليكم منها موضع خف لوقعتم فيه ] قال : فأنزل الله عند ذلك { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } إلى آخر الاية في إسناده ضعف وظاهر الاية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته فالأولى الإعراض عنها وتركها وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا حجاج قال : سمعت إسرائيل بن يونس عن الوليد بن أبي هاشم مولى الهمداني عن زيد بن زائد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه [ لا يبلغني أحد عن أحد شيئا فإني أحب أي أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ] الحديث وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل قال أبو داود عن الوليد وقال الترمذي عن إسرائيل عن السدي عن الوليد بن أبي هاشم به ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه
وقوله تعالى : { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } أي وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه و سلم تبين لكم { وذلك على الله يسير } ثم قال { عفا الله عنها } أي عما كان منكم قبل ذلك { والله غفور حليم } وقيل : المراد بقوله { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق وقد ورد في الحديث [ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ] ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها تبيت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها { عفا الله عنها } أي ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ] وفي الحديث الصحيح أيضا [ أن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ]
ثم قال تعالى : { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها فأصبحوا بها كافرين أي بسببها أي بينت لهم فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد وقال العوفي : عن ابن عباس في الاية : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن في الناس فقال [ يا قوم كتب عليكم الحج ] فقام رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم غضبا شديدا فقال [ والذي نفسي بيده لو قلت : نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم وإذا لكفرتم فاتركوني ما تركتكم وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ] فأنزل هذه الاية نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت عنه النصارى من المائدة فأصبحوا بها كافرين فنهى الله عن ذلك وقال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه رواه ابن جرير
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } قال : لما نزلت آية الحج نادى النبي صلى الله عليه و سلم في الناس فقال [ يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا ] فقالوا : يا رسول الله أعاما واحدا أم كل عام ؟ فقال [ لا بل عاما واحدا ولو قلت : كل عام لوجبت ولو وجبت لكفرتم ] ثم قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } إلى قوله { ثم أصبحوا بها كافرين } رواه ابن جرير وقال خصيف عن مجاهد عن ابن عباس { لا تسألوا عن أشياء } قال : هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ألا ترى أنه قال بعدها { ما جعل الله من بحيرة } ولا كذا ولا كذا قال : وأما عكرمة فقال : إنهم كانوا يسألونه عن الايات فنهوا عن ذلك ثم قال { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } رواه ابن جرير يعني عكرمة رحمه الله أن المراد من هذا النهي عن سؤال وقوع الايات كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارا وأن يجعل لهم الصفا ذهبا وغير ذلك وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء وقد قال الله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } وقال تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون } (2/143)
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لالهتهم لا يحمل عليها شيء قال : وقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب ] والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج إبل بل تثني بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينها ذكر والحام : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث إبراهيم بن سعد به ثم قال البخاري : قال لي أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال : سمعت سعيدا يخبر بهذا قال : وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه ورواه ابن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الحاكم : أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزي في الأطراف وسكت ولم ينبه عليه وفيما قاله الحاكم نظر فإن الإمام أحمد وأبو جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد عن ابن الهاد عن الزهري نفسه والله أعلم
ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا يونس عن الزهري عن عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمروا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب ] تفرد به البخاري وقال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لأكثم بن الجون : [ يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ] فقال أكثم : تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إبراهيم وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي ] ثم رواه عن هناد عن عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه أو مثله ليس هذان الطريقان في الكتب
وقال الإمام أحمد : حدثنا عمرو بن مجمع حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني لأعرف أول من سيب السوائب وأول من غير دين إبراهيم عليه السلام ] قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال [ عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار تؤذي رائحته أهل النار وإني لأعرف أول من بحر البحائر ] قالوا : ومن هو يا رسول الله ؟ قال [ رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما ثم شرب ألبانهما بعد ذلك فلقد رأيته في النار وهما يعضانه بأفواههما ويطآنه بأخفافهما ] عمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } إلى آخر الايات في ذلك
فأما البحيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه فأكله الرجال دون النساء وإن كان أنثى جدعوا آذانها فقالوا : هذه بحيرة وذكر السدي وغيره قريبا من هذا وأما السائبة فقال مجاهد هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد كانت على هيئتها فإذا ولدت السابع ذكرا أو ذكرين ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم وقال محمد بن إسحاق السائبة هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يحلب لبنها إلا لضيف وقال أبو روق : السائبة كان الرجل إذا خرج فقضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها فجعلها للطواغيت فما ولدت من شيء كان لها وقال السدي : كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته أو عوفي من مرض أو كثر ماله سيب شيئا من ماله للأوثان فمن عرض له من الناس عوقب بعقوبة في الدنيا
وأما الوصيلة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع فإن كان ذكرا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء وإن كان أنثى استحيوها وإن كان ذكرا وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا رواه ابن أبي حاتم وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب { ولا وصيلة } قال : فالوصيلة من الإبل كانت الناقة تبتكر بالأنثى ثم ثنت بأنثى فسموها الوصيلة ويقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر فكانوا يجدعونها لطواغيتهم وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وقال محمد بن إسحاق : الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن توأمين توأمين في كل بطن سميت الوصيلة وتركت فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث وإن كانت ميتة اشتركوا فيها
وأما الحامي : فقال العوفي عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا لقح فحله عشرا قيل : حام فاتركوه وكذا قال أبو روق وقتادة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا : حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئا ولا يجزون له وبرا ولا يمنعونه من حمى رعي ومن حوض يشرب منه وإن كان الحوض لغير صاحبه وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيبوه وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الاية
وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص الجشمي عن أبيه مالك بن نضلة قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم في خلقان من الثياب فقال لي [ هل لك من مال ؟ ] فقلت : نعم قال [ من أي المال ؟ ] قال : فقلت : من كل المال : من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال [ فإذا آتاك الله مالا فكثر عليك ] ثم قال [ تنتج إبلك وافية آذانها ؟ ] قال : قلت : نعم وهل تنتج الإبل إلا كذلك ؟ قال [ فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحيرة تشق آذان طائفة منها وتقول : هذه حرم ] قلت : نعم قال [ فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل ] ثم قال { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولابناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها فإذا ماتت اشتركوا فيها
وأما السائبة فهي التي يسيبون لالهتهم ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة أبطن فإذا ولدت السابع جدعت وقطع قرنها فيقولون : قد وصلت فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض هكذايذكر تفسير ذلك مدرجا في الحديث
وقد روي وجه آخر عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك من قوله وهو أشبه وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن أبيه به وليس فيه تفسير هذه والله أعلم
وقوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } أي ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم وقربة يتقربون بها إليه وليس ذلك بحاصل لهم بل هو وبال عليهم { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وترك ما حرمه قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه الاباء والأجداد من الطرائق والمسالك قال الله تعالى : { أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا } أي لا يفهمون حقا ولا يعرفونه ولا يهتدون إليه فكيف يتبعونهم والحالة هذه لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا (2/146)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ومخبرا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس سواء كان قريبا منه أو بعيدا قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الاية يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال ونهيته عنه من الحرام فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به كذا روى الوالبي عنه وهكذا قال مقاتل بن حيان فقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } نصب على الإغراء { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } أي فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنا
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا زهير يعني ابن معاوية حدثنا إسماعيل بن أبي خالد حدثنا قيس قال : قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرءون هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز و جل أن يعمهم بعقابه ] قال : سمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصديق وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق رضي الله عنه
وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا عتبة بن أبي حكيم حدثنا عمرو بن جارية اللخمي عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الاية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم ] قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة قيل : يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم ؟ قال [ بل أجر خمسين منكم ] ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عتبة بن أبي حكيم
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله عنه سأله رجل عن قول الله { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } فقال : إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا أو قال : فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل } الاية قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك فإن الله يقول { عليكم أنفسكم } الاية قال : فسمعها ابن مسعود فقال : مه لم يجىء تأويل هذه بعد إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه و سلم بيسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الاية ورواه ابن جرير
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا الربيع بن صبيح عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله قال { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ألا فليبلغ الشاهد الغائب ] فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الاية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم وقال أيضا : حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا : حدثنا عوف عن سوار بن شبيب قال : كنت عند ابن عمر إذ أتاه رجل جليد العين شديد اللسان فقال : يا أبا عبد الرحمن نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه وكلهم مجتهد لا يألو وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك فقال رجل من القوم : وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم بالشرك ؟ فقال رجل : إني لست إياك أسأل إنما أسأل الشيخ فأعاد على عبد الله الحديث فقال عبد الله : لعلك ترى ـ لا أبا لك ـ إني سآمرك أن تذهب فتقتلهم عظهم وانههم وإن عصوك فعليك بنفسك فإن الله عز و جل يقول { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } الاية
وقال أيضا : حدثني أحمد بن المقدام حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا قتادة عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة فإذا قوم من المسلمين جلوس فقرأ أحدهم هذه الاية { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل } فقال أكثرهم : لم يجىء تأويل هذه الاية اليوم وقال : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا ابن فضالة عن معاوية بن صالح عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإني لأصغر القوم فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ؟ فأقبلوا علي بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها ؟ فتمنيت أني لم أكن تكلمت وأقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية ولا تدري ماهي وعسى أن تدرك ذلك الزمان إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة قال : تلا الحسن هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } فقال الحسن : الحمد لله بها والحمد لله عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فلا يضرك من ضل إذا اهتديت رواه ابن جرير وكذا روي من طريق سفيان الثوري عن أبي العميس عن أبي البختري عن حذيفة مثله وكذا قال غير واحد من السلف وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد الدمشقي حدثنا الوليد حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن كعب في قوله { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال : إذا هدمت كنيسة دمشق فجعلت مسجدا وظهر لبس العصب فحينئذ تأويل هذه الاية (2/149)
اشتملت هذه الاية الكريمة على حكم عزيز قيل إنه منسوخ رواه العوفي عن ابن عباس وقال حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم : أنها منسوخة وقال آخرون : وهم الأكثرون فيما قاله ابن جرير بل هو محكم ومن ادعى نسخه فعليه البيان فقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان } هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم فقيل : تقديره شهادة اثنين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل : دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان وقوله تعالى : { ذوا عدل } وصف الاثنين بأن يكونا عدلين وقوله { منكم } أي من المسلمين قاله الجمهور قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله { ذوا عدل منكم } قال : من المسلمين رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم نحو ذلك قال ابن جرير : وقال آخرون : غير ذلك { ذوا عدل منكم } أي من أهل الموصي وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما
وقوله { أو آخران من غيركم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سعيد بن عون حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله { أو آخران من غيركم } قال : من غير المسلمين يعني أهل الكتاب ثم قال وروي عن عبيدة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم نحو ذلك وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله منكم أن المراد من قبيلة الموصي يكون المراد ههنا { أو آخران من غيركم } أي من غير قبيلة الموصي وروى ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري والزهري رحمهما الله
وقوله تعالى : { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي سافرتم { فأصابتكم مصيبة الموت } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر وأن يكون في وصية كما صرح بذلك شريح القاضي قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا : حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر ولا تجوز في سفر إلا في الوصية ثم رواه عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي قال : قال شريح فذكر مثله وقد روي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وهذه المسألة من أفراده وخالفه الثلاثة فقالوا : لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضا
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو داود حدثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري قال : مضت السنة أنه لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر إنما هي في المسلمين وقال ابن زيد : نزلت هذه الاية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام وذلك في أول الإسلام والأرض حرب والناس كفار وكان الناس يتوارثون بالوصية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل الناس بها رواه ابن جرير وفي هذا نظر والله أعلم وقال ابن جرير : اختلف في قوله { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما ؟ على قولين ( أحدهما ) أن يوصي إليهما كما قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال : سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الاية قال : هذا رجل سافر ومعه مال فأدركه قدره فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع ( والقول الثاني ) أنهما يكونان شاهدين وهو ظاهر سياق الاية الكريمة فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان : الوصاية والشهادة كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كما سيأتي ذكرهما آنفا إن شاء الله وبه التوفيق
وقد استشكل ابن جرير كونهما شاهدين قال : لأنا لا نعلم حكما يحلف فيه الشاهد وهذا لايمنع الحكم الذي تضمنته هذه الاية الكريمة وهو حكم مستقل بنفسه لا يلزم أن يكون جاريا على قياس جميع الأحكام على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص وقد اغتفر فيه من الأمور مالم يغتفر في غيره فإذا قامت قرينة الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الاية الكريمة وقوله تعالى { تحبسونهما من بعد الصلاة } قال العوفي قال ابن عباس يعني صلاة العصر وكذا قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وعكرمة ومحمد بن سيرين وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين وقال السدي عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما وروي عن عبد الرزاق عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة وكذا قال إبراهيم وقتادة وغير واحد والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم { فيقسمان بالله } أي فيحلفان بالله { إن ارتبتم } أي إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله { لا نشتري به } أي بأيماننا قاله مقاتل بن حيان { ثمنا } أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة { ولو كان ذا قربى } أي ولو كان المشهود عليه قريبا لنا لا نحابيه { ولا نكتم شهادة الله } أضافها إلى الله تشريفا لها وتعظيما لأمرها وقرأ بعضهم { ولا نكتم شهادة الله } مجرورا على القسم رواها ابن جرير عن عامر الشعبي وحكي عن بعضهم أنه قرأها { ولا نكتم شهادة الله } والقراءة الأولى هي المشهورة { إنا إذا لمن الأثمين } أي إن فعلنا شيئا من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية
ثم قال تعالى : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئا من المال الموصى به إليهما وظهر عليهما بذلك { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } هذه قراءة الجمهور { استحق عليهم الأوليان } وروي عن علي وأبي الحسن البصري أنهم قرؤوها { استحق عليهم الأوليان } وروى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفروي عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ { من الذين استحق عليهم الأوليان } ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وقرأ بعضهم ومنهم ابن عباس { من الذين استحق عليهم الأوليان } وقرأ الحسن { من الذين استحق عليهم الأوليان } حكاه ابن جرير فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } أي لقولنا أنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة { وما اعتدينا } أي فيما قلنا فيهما من الخيانة { إنا إذا لمن الظالمين } أي إن كنا قد كذبنا عليهما وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الاية الكريمة فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا الحسين بن زياد حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبي النضر عن باذان يعني أبا صالح مولى أم هانىء بنت أبي طالب عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } قال : برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة معه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم واقتسمناه أنا وعدي فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه قلنا : ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ودفعت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا عليه فأمرهم النبي أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فنزلت { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } إلى قوله { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق به فذكره وعنده : فأتوا به رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله هذه الاية إلى قوله { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء ثم قال : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر وقد تركه أهل العلم بالحديث وهو صاحب التفسير سمعت محمد بن إسماعيل يقول : محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر ثم قال : ولا نعرف لأبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانىء
وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا يحيى بن آدم عن ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجد الجام بمكة فقيل : اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وفيهم نزلت { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الاية وكذا رواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يحيى بن آدم به ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وهو حديث ابن أبي زائدة وأحمد بن أبي القاسم الكوفي قيل : إنه صالح الحديث
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين منهم عكرمة ومحمد بن سيرين وقتادة وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر رواه ابن جرير وكذا ذكرها مرسلة مجاهد والحسن والضحاك وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب حدثنا هشيم قال : أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه قال : فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب قال : فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه وقدما الكوفة بتركته ووصيته فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته قال : فأمضى شهادتها ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي داود الطيالسي عن شعبة عن مغيرة الأزرق عن الشعبي أن أبا موسى قضى بدقوقا وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي عن أبي موسى الأشعري فقوله : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم الظاهر ـ والله أعلم ـ أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام والله أعلم
وقال أسباط عن السدي في الاية { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } قال : هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه قال : هذا في الحضر { أو آخران من غيركم } في السفر { إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان فذلك قوله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم } قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه : كأني أنظر إلى العلجين حتى انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخوفوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر فقلت : إنهما لا يباليان صلاة العصر ولكن أستحلفهما بعد صلاتهما في دينهما فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين أن صاحبهم بهذا أوصى وأن هذه لتركته فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما فإذا قال لهما ذلك { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } رواه ابن جرير
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الاية قالا : إذا حضر الرجل الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة قبل قولهما وإن اتهموهما حلفا بعد صلاة العصر بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاية : فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر : بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا : بالله أن شهادة الكافرين باطلة وأنا لم نعتد فذلك قوله تعالى : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا { فآخران يقومان مقامهما } يقول : من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة وأنا لم نعتد فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء وهكذا روى العوفي عن ابن عباس رواهما ابن جرير وهكذاقرر هذا الحكم على مقتضى هذه الاية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله
وقوله { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين واستريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي وقوله { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله والخوف من الفضيحة بين الناس إن ردت اليمين على الورثة فيحلفون ويستحقون ما يدعون ولهذا قال { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } ثم قال { واتقوا الله } أي في جميع أموركم { واسمعوا } أي وأطيعوا { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته (2/152)
هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم كما قال تعالى : { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } وقال تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } وقول الرسل { لا علم لنا } قال مجاهد والحسن البصري والسدي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم قال عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مجاهد { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } فيفزعون فيقولون { لا علم لنا } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا حكام حدثنا عنبسة قال : سمعت شيخا يقول : سمعت الحسن يقول في قوله { يوم يجمع الله الرسل } الاية قال : من هول ذلك اليوم
وقال أسباط عن السدي { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا } ذلك أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا { لا علم لنا } ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم رواه ابن جرير ثم قال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا الحجاج عن ابن جريج قوله { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } أي ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا { لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } يقولون للرب عز و جل : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا رواه ابن جرير ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة ولا شك أنه قول حسن وهو من باب التأدب مع الرب جل جلاله أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا من أجابنا ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه وأنت العليم بكل شيء المطلع على كل شيء فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم فإنك { أنت علام الغيوب } (2/156)
يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات الباهرات وخوارق العادات فقال { اذكر نعمتي عليك } أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء { وعلى والدتك } حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة { إذ أيدتك بروح القدس } وهو جبريل عليه السلام وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك فأنطقتك في المهد صغيرا فشهدت ببراءة أمك من كل عيب واعترفت لي بالعبودية وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوت إلى عبادتي ولهذا قال { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك وضمن تكلم تدعو لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب
وقوله { وإذ علمتك الكتاب والحكمة } أي الخط والفهم { والتوراة } وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم وقد يرد لفظ التوراة في الحديث ويراد به ما هو أعم من ذلك وقوله { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني } أي تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فتكون طيرا بإذني أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك فتكون طيرا ذا روح تطير بإذن الله وخلقه
وقوله تعالى : { وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني } قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته وقوله { وإذ تخرج الموتى بإذني } أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا محمد بن طلحة يعني ابن مصرف عن أبي بشر عن أبي الهذيل قال : كان عيسى ابن مريم عليه السلام إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى { تبارك الذي بيده الملك } وفي الثانية { الم * تنزيل } السجدة فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم يا خفي يا دائم يا فرد يا وتر يا أحد يا صمد وكان إذا أصابته شديدة دعا بسبعة أخر : يا حي يا قيوم يا الله يا رحمن يا ذا الجلال والإكرام يا نور السموات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم يا رب وهذا أثر عجيب جدا
وقوله تعالى : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم فكذبوك واتهموك بأنك ساحر وسعوا في قتلك وصلبك فنجيتك منهم ورفعتك إلي وطهرتك من دنسهم وكفيتك شرهم وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا أو يكون هذا الامتنان واقعا يوم القيامة وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها نبيه محمدا صلى الله عليه و سلم
وقوله { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } وهذا أيضا من الامتنان عليه عليه السلام بأن جعل له أصحابا وأنصارا ثم قيل : إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام كما قال تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } الاية وهو وحي إلهام بلا خلاف وكما قال تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا } الاية وهكذا قال بعض السلف في هذه الاية { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا قال الحسن البصري : ألهمهم الله عز و جل ذلك وقال السدي : قذف في قلوبهم ذلك ويحتمل أن يكون المراد وإذ أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان با لله وبرسوله واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك فقالوا { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } (2/157)
هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة فيقال سورة المائدة وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين فالله أعلم فقوله تعالى : { إذ قال الحواريون } وهم أتباع عيسى عليه السلام { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } هذه قراءة كثيرين وقرأ آخرون { هل يستطيع ربك } أي هل تستطيع أن تسأل ربك { أن ينزل علينا مائدة من السماء } والمائدة هي الخوان عليه الطعام وذكر بعضهم : أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة { قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلا لهم : اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين { قالوا نريد أن نأكل منها } أي نحن محتاجون إلى الأكل منها { وتطمئن قلوبنا } إذا شاهدنا نزولها رزقا لنا من السماء { ونعلم أن قد صدقتنا } أي ونزداد إيمانا بك وعلما برسالتك { ونكون عليها من الشاهدين } أي ونشهد أنها الاية من عند الله ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به { قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا } قال السدي : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا وقال سفيان الثوري : يعني يوما نصلي فيه وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم وعن سلمان الفارسي : عظة لنا ولمن بعدنا وقيل : كافية لأولنا وآخرنا { وآية منك } أي دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي فيصدقوني فيما أبلغه عنك { وارزقنا } أي من عندك رزقا هنيئا بلا كلفة ولا تعب { وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم } أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها { فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } أي من عالمي زمانكم كقوله تعالى : { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } وقوله { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } وقد روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي المغيرة القواس عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون
ذكر أخبار رويت عن السلف
في نزول المائدة على الحواريين
قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم : حدثنا الحسين حدثني حجاج عن ليث عن عقيل عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم كذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال : كان ابن عباس يحدث فذكر نحوه
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء قال : فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار عن ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن جلاس عن عمار قال : نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا قال : فخان القوم وخبأوا وادخروا فمسخهم الله قردة وخنازير
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا داود عن سماك بن حرب عن رجل من بني عجل قال : صليت إلى جانب عمار بن ياسر فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال : قلت : لا قال : إنهم سألوا عيسى بن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد قال : فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا فإن فعلتم فإني معذبكم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين قال : فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا فعذبوا عذابا لم يعذبه أحد من العالمين وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذابا أليما وقال : حدثنا القاسم حدثنا حسين حدثني حجاج عن أبي معشر عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة نزلت على عيسى بن مريم عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات يأكلون منها ما شاؤوا قال : فسرق بعضهم منها وقال : لعلها لا تنزل غدا فرفعت
وقال العوفي عن ابن عباس : نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا وقال خصيف عن عكرمة ومقسم عن ابن عباس : كانت المائدة سمكة وأرغفة وقال مجاهد : هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا وقال أبو عبد الرحمن السلمي : نزلت المائدة خبزا وسمكا وقال عطية العوفي : المائدة سمك فيه طعم كل شيء وقال وهب بن منبه : أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى فكان يقعد عليها أربعة آلاف وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز و جل وقال وهب بن منبه : نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات وحشا الله بين أضعافهن البركة فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون حتى أكل جميعهم وأفضلوا
وقال الأعمش عن مسلم عن سعيد بن جبير : أنزل عليها كل شيء إلا اللحم وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير عن عطاء عن ميسرة قال : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم وعن عكرمة : كان خبز المائدة من الأرز رواه ابن أبي حاتم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار عن إبراهيم بن عمر عن وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الخير أنه قال : لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك جدا فقال : اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ولا تسألوا المائدة من السماء فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها فأبوا إلا أن يأتيهم بها فلذلك { قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا } الاية فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود وجبة من شعر وعباءة من شعر ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاة فصلى ما شاء الله فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه فلما رأى ذلك دعا الله فقال : { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم وعيسى يبكي خوفا من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين وهو يدعو الله في مكانه ويقول : اللهم اجعلها رحمة لهم ولا تجعلها عذابا إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني إلهي اجعلنا لك شاكرين اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا ورجزا إلهي اجعلها سلامة وعافية ولا تجعلها فتنة ومثلة فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسي والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط وخر عيسى والحواريون لله سجدا شكرا له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرا عجيبا أورثهم كمدا وغما ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى : من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه فليكشف عن هذه الاية حتى نراها ونحمد ربنا ونذكر باسمه ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته أنت أولانا بذلك وأحقنا بالكشف عنها فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءا جديدا ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين وكشف عن السفرة فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير ليس في جوفها شوك يسيل السمن منها سيلا قد نضد بها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الاخر تمرات وعلى الاخر خمس رمانات فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى : يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الايات وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الاية ؟ فقال له شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه السلام : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له : كن فكان أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر فقالوا : يا روح الله وكلمته إنا نحب ان يرينا الله آية في هذه الاية فقال عيسى : سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الاية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة فقال : يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت فأحياها الله بقدرته فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسيرها ففزع القوم منها وانحازوا فلما رأى عيسى منهم ذلك قال : ما لكم تسألون الاية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول فقالوا : يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد فقال عيسى : معاذ الله من ذلك يبدأ بالأكل من طلبها فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمنى وقال : كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرىء كل زمن أكل منها فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات قال : وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضا الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضا فلما رأى ذلك جعلها نوبا بينهم تنزل يوما ولا تنزل يوما فلبثوا على ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم قال : فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه السلام : أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى والزمنى دون الأغنياء من الناس وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير ؟ فقال عيسى عليه السلام : هلكتم وإله المسيح طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة لكم ورزقا وأراكم فيها الايات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله فأوحى الله إلى عيسى : إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين قال : فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات هذا أثر غريب جدا قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل والله سبحانه وتعالى أعلم وكل هذه الاثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم إجابة من الله لدعوته كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم { قال الله إني منزلها عليكم } الاية
وقد قال قائلون : إنها لم تنزل فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله : أنزل علينا مائدة من السماء قال : هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ثم قال ابن جرير : حدثنا الحارث حدثنا القاسم هو ابن سلام حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا فأبوا أن تنزل عليهم وقال أيضا : حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول لما قيل لهم { فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } قالوا : لا حاجة لنا فيها فلم تنزل وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى وليس هو في كتابهم ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا ولا أقل من الاحاد والله أعلم ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت وهو الذي اختاره ابن جرير قال : لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى { إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } قال : ووعد الله ووعيده حق وصدق وهذا القول هو ـ والله أعلم ـ الصواب كما دلت عليه الأخبار والاثار عن السلف وغيرهم
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب وجد المائدة هنالك مرصعة باللالىء وأنواع الجواهر فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق فمات وهي في الطريق فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده فرآها الناس فتعجبوا منها كثيرا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة ويقال : إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما السلام فالله أعلم وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه و سلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك قال [ وتفعلون ؟ ] قالوا نعم قال فدعا فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة قال [ بل باب التوبة والرحمة ] ثم رواه أحمد وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري به (2/158)
هذا أيضا مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد هكذا قاله قتادة وغيره واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقال السدي : هذا الخطاب والجواب في الدنيا وصوبه ابن جرير قال : وكان ذلك حين رفعه إلى سماء الدنيا واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين ( أحدهما ) أن الكلام بلفظ المضي ( والثاني ) قوله : { إن تعذبهم } و { وإن تغفر لهم } وهذان الدليلان فيهما نظر لأن كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت ومعنى قوله { إن تعذبهم فإنهم عبادك } الاية التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه كما في نظائر ذلك من الايات والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر والله أعلم أن ذلك كائن يوم القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة
وقد روي بذلك حديث مرفوع رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز وكان ثقة قال : سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقر بها فيقول { يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } الاية ثم يقول { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } فينكر أن يكون قال ذلك فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون : نعم هو أمرنا بذلك قال : فيطول شعر عيسى عليه السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز و جل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار ] وهذا حديث غريب عزيز
وقوله { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس عن أبي هريرة قال : يلقى عيسى حجته ولقاه الله تعالى في قوله { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : فلقاه الله { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } إلى آخر الاية وقد رواه الثوري عن معمر عن ابن طاوس عن طاوس بنحوه
وقوله { إن كنت قلته فقد علمته } أي إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب فإنه لا يخفى عليك شيء فما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته ولهذا قال { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } بإبلاغه { أن اعبدوا الله ربي وربكم } أي ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه { أن اعبدوا الله ربي وربكم } أي هذا هو الذي قلت لهم وقوله { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم { فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة قال : انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان فأملى على سفيان وأنا معه فلما قام انتسخت من سفيان فحدثنا قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بموعظة فقال [ يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عز و جل حفاة عراة غرلا { كما بدأنا أول خلق نعيده } وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ] ورواه البخاري عند هذه الاية عن أبي الوليد عن شعبة وعن محمد بن كثير عن سفيان الثوري كلاهما عن المغيرة بن النعمان به
وقوله { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز و جل فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وهذه الاية لها شأن عظيم ونبأ عجيب وقد ورد في الحديث : أن النبي صلى الله عليه و سلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل حدثني فليت العامري عن جسرة العامرية عن أبي ذر رضي الله عنه قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فلما أصبح قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الاية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ؟ قال [ إني سألت ربي عز و جل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا ]
[ طريق أخرى وسياق آخر [ ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى حدثنا قدامة بن عبد الله حدثتني جسرة بنت دجاجة أنها انطلقت معتمرة فانتهت إلى الربذة فسمعت أبا ذر يقول : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء فصلى بالقوم ثم تخلف أصحاب له يصلون فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه يصلي فجئت فقمت خلفه فأومأ إلي بيمينه فقمت عن يمينه ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة فقال ابن مسعود بيده : لا أسأله عن شيء حتى يحدث إلي فقلت : بأبي وأمي قمت بآية من القرآن ومع القرآن لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه قال [ دعوت لأمتي ] قلت : فماذا أجبت أو ماذا رد عليك ؟ قال [ أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة ] قلت : أفلا أبشر الناس ؟ قال [ بلى ] فانطلقت معنقا قريبا من قذفة بحجر فقال عمر : يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادات فناداه أن [ ارجع ] فرجع وتلك الاية { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه و سلم تلا قول عيسى { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فرفع يديه فقال [ اللهم أمتي ] وبكى فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فاسأله ما يبكيه فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم بما قال وهو أعلم فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين قال : حدثنا ابن لهيعة حدثنا ابن هبيرة أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول : حدثني سعيد بن المسيب سمعت حذيفة بن اليمان يقول : غاب عنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نفسه قد قبضت فيها فلما رفع رأسه قال [ إن ربي عز و جل استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم ؟ فقلت : ما شئت أي رب هم خلقك وعبادك فاستشارني الثانية فقلت له كذلك فقال لي : لا أخزيك في أمتك يا محمد وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفا مع كل ألف سبعون ألفا ليس عليهم حساب ثم أرسل إلي فقال : ادع تجب وسل تعط فقلت لرسوله : أومعطي ربي سؤلي ؟ فقال : ما أرسلني إليك إلا ليعطيك ولقد أعطاني ربي ولا فخر وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وأنا أمشي حيا صحيحا وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب وأعطاني الكوثر وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرا وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة وطيب لي ولأمتي الغنيمة وأحل لنا كثيرا مما شدد على من قبلنا ولم يجعل علينا في الدين من حرج ] (2/164)
يقول تعالى مجيبا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام فيما أنهاه إليه من التبري من النصاري الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عز و جل فعند ذلك يقول تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } قال الضحاك : عن ابن عباس يقول : يوم ينفع الموحدين توحيدهم { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا } أي ماكثين فيها لا يحولون ولا يزولون رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } وسيأتي ما يتعلق بتلك الاية من الحديث وروى ابن أبي حاتم ها هنا حديثا عن أنس فقال : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا المحاربي عن ليث عن عثمان يعني ابن عمير أخبرنا اليقظان عن أنس مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه [ ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله فيقول : سلوني سلوني أعطكم ـ قال ـ فيسألونه الرضا فيقول رضاي أحلكم داري وأنالكم كرامتي فسلوني أعطكم فيسألونه الرضا ـ قال ـ فيشهدهم أنه قد رضي عنهم سبحانه وتعالى ]
وقوله { ذلك الفوز العظيم } أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه كما قال تعالى : { لمثل هذا فليعمل العاملون } وكما قال { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } وقوله { لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير } أي هو الخالق للأشياء المالك لها المتصرف فيها القادر عليها فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته فلا نظير له ولا وزير ولا عديل ولا والد ولا ولد ولا صاحبة ولا إله غيره ولا رب سواه قال ابن وهب : سمعت حيي بن عبد الله يحدث عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال آخر سورة أنزلت سورة المائدة (2/166)
سورة الأنعام
قال العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس أنزلت سورة الأنعام بمكة وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح وقال سفيان الثوري عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه و سلم جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه و سلم إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة وقال شريك عن ليث عن شهر عن أسماء قالت : نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد طبقوا ما بين السماء والأرض وقال السدي عن مرة عن عبد الله قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة وروي نحوه من وجه آخر عن ابن مسعود وقال الحاكم في مستدركه حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا : حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي أخبرنا جعفر بن عون حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال [ لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ] ثم قال صحيح على شرط مسلم وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر حدثنا إبراهيم ابن درستويه الفارسي حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم حدثنا ابن أبي فديك حدثني عمر بن طلحة الرقاشي عن نافع بن مالك بن أبي سهيل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض بهم ترتج ] ورسول الله يقول [ سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم ] ثم روى ابن مردويه عن الطبراني عن ابراهيم بن نائلة عن إسماعيل بن عمر عن يوسف بن عطية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد ]
بسم الله الرحمن الرحيم (2/167)
يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة وحامدا لها على خلقه السموات والأرض قرارا لعباده وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم فجمع لفظ الظلمات ووحد لفظ النور لكونه أشرف كقوله تعالى : { عن اليمين والشمائل } وكما قال في آخر هذه السورة { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } ثم قال تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده وجعلوا له شريكا وعدلا واتخذوا له صاحبة وولدا تعالى الله عز و جل عن ذلك علوا كبيرا وقوله تعالى : { هو الذي خلقكم من طين } يعني أباهم آدم الذي هو أصلهم ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب ! وقوله { ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده } قال سعيد بن جبير عن ابن عباس { ثم قضى أجلا } يعني الموت { وأجل مسمى عنده } يعني الاخرة وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم وعطية والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم وقول الحسن في رواية عنه { ثم قضى أجلا } وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت { وأجل مسمى عنده } وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث هو يرجع إلى ما تقدم وهو تقدير الأجل الخاص وهو عمر كل إنسان وتقدير الأجل العام وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها ! وانتقالها والمصير إلى الدار الاخرة وعن ابن عباس ومجاهد { ثم قضى أجلا } يعني مدة الدنيا { وأجل مسمى عنده } يعني عمر الإنسان إلى حين موته وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار } الاية وقال عطية : عن ابن عباس { ثم قضى أجلا } يعني النوم يقبض فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة { وأجل مسمى عنده } يعني أجل موت الإنسان وهذا قول غريب ومعنى قوله { عنده } أي لا يعلمه إلا هو كقوله { إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو } وكقوله { يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها } وقوله تعالى : { ثم أنتم تمترون } قال السدي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة وقوله تعالى : { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } اختلف مفسرو هذه الاية على أقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول القائلين تعالى عن قولهم علوا كبيرا بأنه في كل مكان حيث حملوا الاية على ذلك فالأصح من الأقوال : أنه المدعو الله في السموات وفي الأرض أي يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ويسمونه الله ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس وهذه الاية على هذا القول كقوله تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض وعلى هذا فيكون قوله { يعلم سركم وجهركم } خبرا أو حالا ( والقول الثاني ) أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر فيكون قوله يعلم متعلقا بقوله { في السموات وفي الأرض } تقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون ( والقول الثالث ) أن قوله { وهو الله في السموات } وقف تام ثم استأنف الخبر فقال { وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } وهذا اختيار ابن جرير وقوله { ويعلم ما تكسبون } أي جميع أعمالكم خيرها وشرها (2/168)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين المكذبين المعاندين أنهم مهما أتتهم من آية أي دلالة ومعجزة وحجة من الدلالات على وحدانية الله وصدق رسله الكرام فإنهم يعرضون عنها فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها قال الله تعالى : { فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب وليجدن غبه وليذوقن وباله ثم قال تعالى واعظا لهم ومحذرا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا وأكثر أموالا وأولادا واستغلالا للأرض وعمارة لها فقال { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود ولهذا قال { وأرسلنا السماء عليهم مدرارا } أي شيئا بعد شيء { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } أي أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض أي استدراجا وإملاء لهم { فأهلكناهم بذنوبهم } أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترحوها { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } أي فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } أي جيلا آخر لنختبرهم فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم فما أنتم بأعز على الله منهم والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم لولا لطفه وإحسانه (2/169)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهتتهم ومنازعتهم فيه { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم } أي عاينوه ورأوا نزوله وباشروا ذلك { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } وهذا كما قال تعالى مخبرا عن مكابرتهم للمحسوسات { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } وكقوله تعالى : { وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم } { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } أي ليكون معه نذيرا قال الله تعالى : { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون } أي لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب كما قال الله تعالى : { ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين } وقوله { يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين } الاية وقوله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } أي ولو أنزلنا مع الرسول البشري ملكا أي لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري كقوله تعالى : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا } فمن رحمته تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم ليدعو بعضهم بعضا وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال كما قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم } الاية قال الضحاك عن ابن عباس في الاية يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور { وللبسنا عليهم ما يلبسون } أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون وقال الوالبي عنه : ولشبهنا عليهم وقوله { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } هذه تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم في تكذيب من كذبه من قومه ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والاخرة ثم قال تعالى : { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي فكروا في أنفسكم وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم من العذاب والنكال والعقوبة في الدنيا مع ما ادخر لهم من العذاب الأليم في الاخرة وكيف نجى رسله وعباده المؤمنين (2/169)
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهما وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة كما ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش : عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي ] وقوله { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } هذه اللام هي الموطئة للقسم فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده { إلى ميقات يوم معلوم } وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه أي لا شك فيه عند عباده المؤمنين فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون وقال ابن مردويه عند تفسير هذه الاية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عقبة حدثنا عباس بن محمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا محصن بن عتبة اليماني عن الزبير بن شبيب عن عثمان بن حاضر عن ابن عباس قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين هل فيه ماء ؟ قال والذي نفسي بيده إن فيه لماء إن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك في أيديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء ] هذا حديث غريب وفي الترمذي [ إن لكل نبي حوضا وأرجو أن أكون أكثرهم واردا ] وقوله { الذين خسروا أنفسهم } أي يوم القيامة { فهم لا يؤمنون } أي لا يصدقون بالمعاد ولا يخافون شر ذلك اليوم ثم قال تعالى : { وله ما سكن في الليل والنهار } أي كل دابة في السموات والأرض الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره لا إله إلا هو { وهو السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم ثم قال تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله المستقيم { قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض } كقوله { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } والمعنى لا أتخذ وليا إلا الله وحده لا شريك له فإنه فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق { وهو يطعم ولا يطعم } أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } الاية وقرأ بعضهم ههنا { وهو يطعم ولا يطعم } أي لا يأكل وفي حديث سهيل بن صالح : عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه و سلم على طعام فانطلقنا معه فلما طعم النبي صلى الله عليه و سلم وغسل يديه قال [ الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم ومن علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا من الشراب وكسانا من العري وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله غير مودع ربي ولا مكافا ولا مكفور ولا مستغنى عنه الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام وسقانا من الشراب وكسانا من العري وهدانا من الضلال وبصرنا من العمى وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين ] { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } أي من هذه الأمة { ولا تكونن من المشركين * قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } يعني يوم القيامة { من يصرف عنه } أي العذاب { يومئذ فقد رحمه } يعني رحمه الله { وذلك الفوز المبين } كقوله { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } والفوز حصول الربح ونفي الخسارة (2/170)
يقول تعالى مخبرا : أنه مالك الضر والنفع وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } كقوله تعالى : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } الاية وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول [ اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] ولهذا قال تعالى { وهو القاهر فوق عباده } أي وهو الذي خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة وعنت له الوجوه وقهر كل شيء ودانت له الخلائق وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته على الأشياء واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه { وهو الحكيم } أي في جميع أفعاله { الخبير } بمواضع الأشياء ومحالها فلا يعطي إلا من يستحق ولا يمنح إلا من يستحق ثم قال { قل أي شيء أكبر شهادة } أي من أعظم الأشياء شهادة { قل الله شهيد بيني وبينكم } أي هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلون لي { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } أي وهو نذير لكل من بلغه كقوله تعالى : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب في قوله : { ومن بلغ } من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه و سلم زاد أبو خالد وكلمه ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر : عن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه و سلم وقال عبد الرزاق : عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله ] وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن ينذر بالذي أنذر وقوله { أإنكم لتشهدون } أيها المشركون { أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد } كقوله { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } { قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } ثم قال تعالى مخبرا عن أهل الكتاب : أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه و سلم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته ولهذا قال بعده { الذين خسروا أنفسهم } أي خسروا كل الخسارة { فهم لا يؤمنون } بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ونوهت به في قديم الزمان وحديثه ثم قال { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته } أي لا أظلم ممن تقول على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته { إنه لا يفلح الظالمون } أي لا يفلح هذا ولا هذا لا المفتري ولا المكذب (2/172)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين { ويوم نحشرهم جميعا } يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا لهم { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } كقوله تعالى في سورة القصص { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } وقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم } أي حجتهم وقال عطاء الخراساني عنه : أي معذرتهم وكذا قال قتادة وقال ابن جريج عن ابن عباس : أي قيلهم وكذا قال الضحاك وقال عطاء الخراساني { ثم لم تكن فتنتهم } بليتهم حين ابتلوا { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } وقال جرير : والصواب ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا عما سلف منهم من الشرك بالله { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو يحيى الرازي عن عمرو ابن أبي قيس عن مطرف عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال : يا ابن عباس سمعت الله يقول { والله ربنا ما كنا مشركين } قال أما قوله { والله ربنا ما كنا مشركين } فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة فقالوا : تعالوا فلنجحد فيجحدون فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا فهل في قلبك الان شيء ؟ إنه ليس من القرآن إلا ونزل فيه شيء ولكن لا تعلمون وجهه وقال الضحاك عن ابن عباس : هذه في المنافقين وفيه نظر فإن هذه الاية مكية والمنافقون إنما كانوا بالمدينة والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له } الاية وهكذا قال في حق هؤلاء { انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } كقوله { ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا } الاية وقوله { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } أي يجيئون ليستمعوا قراءتك ولا تجزي عنهم شيئا لأن الله { وجعلنا على قلوبهم أكنة } أي أغطية لئلا يفقهوا القرآن { وفي آذانهم وقرا } أي صمما عن السماع النافع لهم كما قال تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } الاية وقوله { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } أي مهما رأوا من الايات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها فلا فهم عندهم ولا إنصاف كقوله تعالى : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } الاية وقوله تعالى : { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل { يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين } أي ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذا من كتب الأوائل ومنقول عنهم وقوله { وهم ينهون عنه وينأون عنه } في معنى ينهون عنه قولان ( أحدهما ) : أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول والانقياد للقرآن { وينأون عنه } أي ويبعدون هم عنه فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وهم ينهون عنه } يردون الناس عن محمد صلى الله عليه و سلم أن يؤمنوا به وقال محمد بن الحنفية : كان كفار قريش لا يأتون النبي صلى الله عليه و سلم وينهون عنه وكذا قال قتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد وهذا القول أظهر والله أعلم وهو اختيار ابن جرير ( والقول الثاني ) رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس يقول في قوله { وهم ينهون عنه } قال : نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن النبي صلى الله عليه و سلم أن يؤذى وكذا قال القاسم بن مخيمرة وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار وغيره أنها نزلت في أبي طالب وقال سعيد بن أبي هلال : نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه و سلم وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر رواه ابن أبي حاتم وقال محمد بن كعب القرظي { وهم ينهون عنه } أي ينهون الناس عن قتله وقوله { وينأون عنه } أي يتباعدون منه { وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } أي وما يهلكون بهذا الصنيع ولا يعود وباله إلا عليهم وهم لا يشعرون (2/173)
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال فعند ذلك قالوا { يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملا صالحا ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين قال الله تعالى : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } أي بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الاخرة كما قال قبله بيسير { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين * انظر كيف كذبوا على أنفسهم } ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه كقوله مخبرا عن موسى أنه قال لفرعون { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر } الاية وقوله تعالى مخبرا عن فرعون وقومه { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت فقال { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } وعلى هذا فيكون إخبارا عن قول المنافقين في الدار الاخرة حين يعاينون العذاب فظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق والله أعلم وأما معنى الإضراب في قوله { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان بل خوفا من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار ولهذا قال { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } أي في طلبهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان ثم قال مخبرا عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة { وإنهم لكاذبون } أي في قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين أي لعادوا لما نهوا عنه ولقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها ولهذا قال وما نحن بمبعوثين ثم قال { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } أي أوقفوا بين يديه قال { أليس هذا بالحق ؟ } أي أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون { قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي بما كنتم تكذبون به فذوقوا اليوم مسه { أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون } (2/174)
يقول تعالى مخبرا عن خسارة من كذب بلقائه وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة وعن ندامته على ما فرط من العمل وما أسلف من قبيح الفعل ولهذا قال { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة وعلى الأعمال وعلى الدار الاخرة أي في أمرها وقوله { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون } أي يحملون وقال قتادة يعملون وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن أبي مرزوق قال : يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره كأقبح صورة رأيتها وأنتنه ريحا فيقول من أنت ؟ فيقول أو ما تعرفني فيقول : لا والله إلا أن الله قبح وجهك وأنتن ريحك فيقول : أنا عملك الخبيث هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه فطالما ركبتني في الدنيا هلم أركبك فهو قوله { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } الاية وقال أسباط عن السدي أنه قال : ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح وعليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال : ما أقبح وجهك ؟ قال : كذلك كان عملك قبيحا قال : ما أنتن ريحك ؟ قال : كذلك كان عملك منتنا قال : ما أدنس ثيابك ؟ قال : فيقول : إن عملك كان دنسا قال له : من أنت ؟ قال : عملك قال : فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات وأنت اليوم تحملني قال : فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار فذلك قوله { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون } وقوله { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } أي إنما غالبها كذلك { وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } (2/175)
يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه و سلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } أي قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم كقوله { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } كما قال تعالى في الاية الأخرى { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } وقوله { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه و سلم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ورواه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة حدثنا بشر بن المبشر الواسطي عن سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه و سلم لقي أبا جهل فصافحه فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابىء ؟ فقال : والله إني لأعلم إنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا ؟ وتلا أبو يزيد { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } وقال أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه و سلم من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق ولا يشعر أحد منهم بالاخر فاستمعوها إلى الصباح فلما هجم الصبح تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال كل منهم للاخر : ما جاء بك ؟ فذكر له ما جاء به ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود فلما أصبحوا جمعتهم الطريق فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضا فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه قال : فقام عنه الأخنس وتركه
وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين وإن غلب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا ـ فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبي ـ فالتقى الأخنس وأبو جهل فخلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل : ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } فآيات الله محمد صلى الله عليه و سلم
وقوله { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } هذه تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم وتعزية له فيمن كذبه من قومه وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ووعد له بالنصر كما نصروا وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الاخرة ولهذا قال { ولا مبدل لكلمات الله } أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والاخرة لعباده المؤمنين كما قال { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } وقال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وقوله { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } أي من خبرهم كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم فلك فيهم أسوة وبهم قدوة ثم قال تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : النفق السرب فتذهب فيه فتأتيهم بآية أو تجعل لك سلما في السماء فتصعد فيه فتأتيهم بآية أفضل مما آتيتهم به فافعل وكذا قال قتادة والسدي وغيرهما وقوله { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } كقوله تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } الاية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول وقوله تعالى { إنما يستجيب الذين يسمعون } أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه كقوله { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين } وقوله { والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } يعني بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم الله بأموات الأجساد فقال { والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } وهذا من باب التهكم بهم والازدراء عليهم (2/176)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون كقولهم { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } الايات { قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي هو تعالى قادر على ذلك ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة كما قال تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } وقال تعالى : { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } وقوله { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } قال مجاهد : أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها وقال قتادة : الطير أمة والإنس أمة والجن أمة وقال السدي { إلا أمم أمثالكم } أي خلق أمثالكم
وقوله { ما فرطنا في الكتاب من شيء } أي الجميع علمهم عند الله ولا ينسى واحدا من جميعها من رزقه وتدبيره سواء كان بريا أو بحريا كقوله { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها وحاصر لحركاتها وسكناتها وقال تعالى : { وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم } وقد قال الحافظ أبو يعلى حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكبا إلى كذا وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء أم لا ؟ قال : فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثلاثا ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ خلق الله عز و جل ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه ] وقوله { ثم إلى ربهم يحشرون } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { ثم إلى ربهم يحشرون } قال : حشرها الموت وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل عن سعيد عن مسروق عن عكرمة عن ابن عباس قال : موت البهائم حشرها وكذا رواه العوفي عنه قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والضحاك مثله : ( والقول الثاني ) إن حشرها هو يوم بعثها يوم القيامة لقوله { وإذا الوحوش حشرت } وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سليمان عن منذر الثوري عن أشياخ لهم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى شاتين تنتطحان فقال [ يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟ ] قال : لا قال [ لكن الله يدري وسيقضي بينهما ] ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عمن ذكره عن أبي ذر قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ انتطحت عنزان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أتدرون فيم انتطحتا ؟ ] قالوا : لا ندري قال [ لكن الله يدري وسيقضي بينهما ] رواه ابن جرير ثم رواه من طريق منذر الثوري عن أبي ذر فذكره وزاد : قال أبو ذر : ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثني عباس بن محمد وأبو يحيى البزار قالا : حدثنا حجاج بن نصير حدثنا شعبة عن العوام بن مراجم من بني قيس بن ثعلبة عن أبي عثمان النهدي عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة ] وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة في قوله { إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فلذلك يقول الكافر { يا ليتني كنت ترابا } وقد روي هذا مرفوعا في حديث الصور
وقوله { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات } أي مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم وهو الذي لا يسمع أبكم وهو الذي لا يتكلم وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه كقوله { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون } وكما قال تعالى : { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } ولهذا قال { من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء (2/178)
يخبر تعالى أنه الفعال لما يريد المتصرف في خلقه بما يشاء وأنه لا معقب لحكمه ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء ولهذا قال { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } أي أتاكم هذا أو هذا { أغير الله تدعون إن كنتم صادقين } أي لا تدعون غيره لعلمكم أنه لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه ولهذا قال { إن كنتم صادقين } أي في اتخاذكم آلهة معه { بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } أي في وقت الضرورة لا تدعون أحدا سواه وتذهب عنكم أصنامكم وأندادكم كقوله { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } الاية وقوله { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء } يعني الفقر والضيق في العيش { والضراء } وهي الأمراض والأسقام والالام { لعلهم يتضرعون } أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون قال الله تعالى : { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } أي فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا ولكن { قست قلوبهم } أي ما رقت ولا خشعت { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } أي من الشرك والمعاندة والمعاصي { فلما نسوا ما ذكروا به } أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم عياذا بالله من مكره ولهذا قال { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } أي من الأموال والأولاد والأرزاق { أخذناهم بغتة } أي على غفلة { فإذا هم مبلسون } أي آيسون من كل خير قال الوالبي عن ابن عباس : المبلس الايس وقال الحسن البصري : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له ثم قرأ { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } قال : مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا رواه ابن أبي حاتم وقال قتادة : بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون رواه ابن أبي حاتم أيضا
وقال مالك عن الزهري { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } قال : رخاء الدنيا ويسرها وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين ـ يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري ـ عن حرملة بن عمران التجيبي ! عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ] ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حرملة وابن لهيعة عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر به وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا عراك بن خالد بن يزيد حدثني أبي عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : إذا أراد الله بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف وإذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم ـ أو فتح عليهم ـ باب خيانة { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } كما قال { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } ورواه أحمد وغيره (2/179)
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم قل لهؤلاء المكذبين المعاندين { أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } أي سلبكم إياها كما أعطاكموها كما قال تعالى : { هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار } الاية ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما الانتفاع الشرعي ولهذا قال { وختم على قلوبكم } كما قال { أمن يملك السمع والأبصار } وقال { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } وقوله { من إله غير الله يأتيكم به } أي هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم لا يقدر على ذلك أحد سواه ولهذا قال { انظر كيف نصرف الآيات } أي نبينها ونوضحها ونفسرها دالة على أنه لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال { ثم هم يصدفون } أي ثم هم مع هذا البيان يصدفون أي يعرضون عن الحق ويصدون الناس عن اتباعه قال العوفي عن ابن عباس : يصدفون أي يعدلون وقال مجاهد وقتادة : يعرضون وقال السدي : يصدون وقوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة } أي وأنتم لا تشعرون به حتى بغتكم وفجأكم { أو جهرة } أي ظاهرا عيانا { هل يهلك إلا القوم الظالمون } أي إنما كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله وينجوا الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون كقوله { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } الاية وقوله { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } أي مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات ولهذا قال { فمن آمن وأصلح } أي فمن آمن قلبه بما جاؤوا به وأصلح عمله باتباعه إياهم { فلا خوف عليهم } أي بالنسبة لما يستقبلونه { ولا هم يحزنون } أي بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها الله وليهم فيما خلفوه وحافظهم فيما تركوه ثم قال { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون } أي ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل وخرجوا عن أوامر الله وطاعته وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته (2/180)
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } أي لست أملكها ولا أتصرف فيها { ولا أعلم الغيب } أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله عز و جل ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه { ولا أقول لكم إني ملك } أي ولا أدعي أني ملك إنما أنا بشر من البشر يوحى إلي من الله عز و جل شرفني بذلك وأنعم علي به ولهذا قال { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه { قل هل يستوي الأعمى والبصير } أي هل يستوي من اتبع الحق وهدي إليه ومن ضل عنه فلم ينقد له { أفلا تتفكرون } وهذه كقوله تعالى : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب } وقوله { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } أي وأنذر بهذا القرآن يا محمد { الذين هم من خشية ربهم مشفقون } { ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب } { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } أي يوم القيامة { ليس لهم } أي يومئذ { من دونه ولي ولا شفيع } أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم { لعلهم يتقون } أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز و جل { لعلهم يتقون } فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه وقوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } أي لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك كقوله { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } وقوله { يدعون ربهم } أي يعبدونه ويسألونه { بالغداة والعشي } قال سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة : المراد به الصلاة المكتوبة وهذا كقوله { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } أي أتقبل منكم وقوله { يريدون وجهه } أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات وقوله { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } كقول نوح عليه السلام : في جواب الذين قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال : وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون أي إنما حسابهم على الله عز و جل وليس علي من حسابهم من شيء كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء وقوله { فتطردهم فتكون من الظالمين } أي إن فعلت هذا والحالة هذه قال الإمام أحمد : حدثنا أسباط هو ابن محمد حدثني أشعث عن كردوس عن ابن مسعود : قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء فنزل فيهم القرآن { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون * ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } ورواه ابن جرير من طريق أشعث عن كردوس عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الاية { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } إلى آخر الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط بن نصر عن السدي عن أبي سعيد الأزدي ـ وكان قارى الأزد ـ عن أبي الكنود عن خباب في قول الله عز و جل : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } قال جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه و سلم حقروهم في نفر في أصحابه فأتوه فخلوا به وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال : [ نعم ] قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا قال : فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل فقال { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } الاية فرمى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه ورواه ابن جرير من حديث أسباط به وهذا حديث غريب فإن هذه الاية مكية والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح عن أبيه قال : قال سعد : نزلت هذه الاية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم منهم ابن مسعود قال : كنا نستبق إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وندنو منه فقالت قريش : تدني هؤلاء دوننا فنزلت { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان وقال : على شرط الشيخين وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح به
وقوله { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } أي ابتلينا واختبرنا وامتحنا ببعض { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل كما قال قوم نوح لنوح { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } الاية وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل فقال له : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم فقال : هم أتباع الرسل والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ويعذبون من يقدرون عليه منهم وكانوا يقولون : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ أي ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير لو كان ما صاروا إليه خيرا ويدعنا كقولهم { لو كان خيرا ما سبقونا إليه } وكقوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا } قال الله تعالى في جواب ذلك { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا } وقال في جوابهم حين قالوا : { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } أي أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم كما قال تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } وفي الحديث الصحيح : [ إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ] وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين عن حجاج عن ابن جريج عن عكرمة في قوله : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } الاية قال : جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له قال : فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه و سلم فحدثه بذلك فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون من قولهم فأنزل الله عز و جل هذه الاية { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } إلى قوله { أليس الله بأعلم بالشاكرين } قال : وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارى وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو وذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب وأشباههم من الحلفاء فنزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } الاية فلما نزلت أقبل عمر رضي الله عنه فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فاعتذر من مقالته فأنزل الله عز و جل { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } الاية وقوله { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } أي فأكرمهم برد السلام عليهم وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم ولهذا قال { كتب ربكم على نفسه الرحمة } أي أوجبها على نفسه الكريمة تفضلا منه وإحسانا وامتنانا { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة } قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل وقال معتمر بن سليمان : عن الحكم بن أبان بن عكرمة في قوله { من عمل منكم سوءا بجهالة } قال : الدنيا كلها جهالة رواه ابن أبي حاتم { ثم تاب من بعده وأصلح } أي رجع عما كان عليه من المعاصي وأقلع وعزم على أن لا يعود وأصلح العمل في المستقبل { فأنه غفور رحيم } قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي ] أخرجاه في الصحيحين وهكذا رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ورواه موسى عن عقبة : عن الأعرج عن أبي هريرة وكذا رواه الليث وغيره عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بذلك وقد روى ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان : عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق أخرج كتابا من تحت العرش إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقا لم يعملوا خيرا مكتوب بين أعينهم عتقاء الله ] وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن عاصم بن سليمان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان في قوله { كتب ربكم على نفسه الرحمة } قال : إنا نجد في التوراة عطفتين أن الله خلق السموات والأرض وخلق مائة رحمة أو جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة قال : فبها يتراحمون وبها يتعاطفون وبها يتباذلون وبها يتزاورون وبها تحن الناقة وبها تبح البقرة وبها تثغو الشاة وبها تتتابع الطير وبها تتتابع الحيتان في البحر فإذا كان يوم القيامة جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده ورحمته أفضل وأوسع وقد روي هذا مرفوعا من وجه آخر وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله { ورحمتي وسعت كل شيء } ومما يناسب هذه الاية من الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل : [ أتدري ما حق الله على العباد ؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ] ثم قال : [ أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ؟ أن لا يعذبهم ] وقد رواه الإمام أحمد : من طريق كميل بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه (2/181)
يقول تعالى : وكما بينا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد { كذلك نفصل الآيات } أي التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها { ولتستبين سبيل المجرمين } أي ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل وقرىء { ولتستبين سبيل المجرمين } أي ولتستبين يا محمد أو يا مخاطب سبيل المجرمين وقوله { قل إني على بينة من ربي } أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إلي { وكذبتم به } أي بالحق الذي جاءني من الله { ما عندي ما تستعجلون به } أي من العذاب { إن الحكم إلا لله } أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك وإن شاء أنظركم وأجلكم لما له في ذلك من الحكمة العظيمة ولهذا قال { يقص الحق وهو خير الفاصلين } أي وهو خير من فصل القضايا وخير الفاتحين في الحكم بين عباده وقوله { قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم } أي لو كان مرجع ذلك إلي لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك والله أعلم بالظالمين فإن قيل : فما الجمع بين هذه الاية وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال : فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ] وهذا لفظ مسلم فقد عرض عليهم عذابهم واستئصالهم فاستأنى بهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الاية الكريمة { قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين } فالجواب والله أعلم أن هذه الاية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم وقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ] { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } وفي حديث عمر : أن جبريل حين تبدى له في صورة أعرابي فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان فقال له النبي صلى الله عليه و سلم فيما قاله له : [ خمس لا يعلمهن إلا الله ] ثم قرأ { إن الله عنده علم الساعة } الاية وقوله { ويعلم ما في البر والبحر } أي محيط علمه الكريم بجميع الموجودات بريها وبحريها لا يخفى عليه من ذلك شيء ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وما أحسن ما قال الصرصري :
فلا يفخى عليه الذر إما تراءى للنواظر أو توارى
وقوله { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } أي ويعلم الحركات حتى من الجمادات فما ظنك بالحيوانات ولا سيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم كما قال تعالى : { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق حدثنا حسان النمري عن ابن عباس في قوله { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها يكتب ما يسقط منها رواه ابن أبي حاتم وقوله { ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري حدثنا مالك بن سعير حدثنا الأعمش عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث قال : ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة إلا وعليها ملك موكل يأتي الله بعلمها رطوبتها إذا رطبت ويبوستها إذا يبست وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني عن مالك بن سعير به ثم قال ابن أبي حاتم : ذكر عن أبي حذيفة حدثنا سفيان عن عمرو بن قيس عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خلق الله النون وهي الدواة وخلق الألواح فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق أو رزق حلال أو حرام أو عمل بر أو فجور وقرأ هذه الاية { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } إلى آخر الاية قال محمد بن إسحاق : عن يحيى بن النضر عن أبيه سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن مالو أنهم ظهروا يعني لكم لم تروا معهم نورا على كل زاوية من زوايا الأرض خاتم من خواتيم الله عز و جل على كل خاتم ملك من الملائكة يبعث الله عز و جل إليه في كل يوم ملكا من عنده أن احتفظ بما عندك (2/184)
يقول تعالى إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل وهذا هو التوفي الأصغر كما قال تعالى : { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } وقال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } فذكر في هذه الاية الوفاتين الكبرى والصغرى وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى فقال { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم في حال سكونهم وحال حركتهم كما قال { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } وكما قال تعالى : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه } أي في الليل { ولتبتغوا من فضله } أي في النهار كما قال { وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا } ولهذا قال تعالى ههنا { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي ما كسبتم من الأعمال فيه { ثم يبعثكم فيه } أي في النهار قاله مجاهد وقتادة والسدي وقال ابن جريج : عن عبد الله بن كثير أي في المنام والأول أظهر وقد روى ابن مردويه بسند : عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ويرده إليه فإن أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا رد إليه ] فذلك قوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل }
وقوله { ليقضى أجل مسمى } يعني به أجل كل واحد من الناس { ثم إليه مرجعكم } أي يوم القيامة { ثم ينبئكم } أي فيخبركم { بما كنتم تعملون } أي ويجزيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر وقوله { وهو القاهر فوق عباده } أي وهو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء { ويرسل عليكم حفظة } أي من الملائكة يحفظون بدن الإنسان كقوله { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } وحفظة يحفظون عمله ويحصونه كقوله { وإن عليكم لحافظين } الاية وكقوله { عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وقوله { إذ يتلقى المتلقيان } الاية وقوله { حتى إذا جاء أحدكم الموت } أي احتضر وحان أجله { توفته رسلنا } أي ملائكة موكلون بذلك قال ابن عباس وغير واحد : لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم وسيأتي عند قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الأحاديث المتعلقة بذلك الشاهدة لهذا المروي عن ابن عباس وغيره بالصحة وقوله { وهم لا يفرطون } أي في حفظ روح المتوفى بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عز و جل إن كان من الأبرار ففي عليين وإن كان من الفجار ففي سجين عياذا بالله من ذلك وقوله { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } قال ابن جرير : { ثم ردوا } يعني الملائكة { إلى الله مولاهم الحق } ونذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا حسين بن محمد حدثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقال فلان فيقال مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز و جل وإذا كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل في الحديث الثاني ] هذا حديث غريب ويحتمل أن يكون المراد بقوله { ثم ردوا } يعني الخلائق كلهم إلى الله يوم القيامة فيحكم فيهم بعدله كما قال { قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } وقال { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } إلى قوله { ولا يظلم ربك أحدا } ولهذا قال { مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } (2/186)
يقول تعالى ممتنا على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر أي الحائرين الواقعين في المهامه البرية وفي اللجج البحرية إذا هاجت الرياح العاصفة فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له كقوله { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } الاية وقوله { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } الاية وقوله { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون } وقال في هذه الاية الكريمة { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية } أي جهرا وسرا { لئن أنجانا } أي من هذه الضائقة { لنكونن من الشاكرين } أي بعدها قال الله { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون } أي تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى وقوله { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } لما قال ثم أنتم تشركون عقبه بقوله { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا } أي بعد إنجائه إياكم كقوله في سورة سبحان { ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما * وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } قال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم حدثنا هارون الأعور عن جعفر بن سليمان عن الحسن في قوله { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } قال : هذه للمشركين وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } لأمة محمد صلى الله عليه و سلم وعفا عنهم ونذكر هنا الأحاديث الواردة في ذلك والاثار وبالله المستعان وعليه التكلان وبه الثقة
قال البخاري رحمه الله تعالى في قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } يلبسكم يخلطكم من الالتباس يلبسوا يخلطوا شيعا فرقا حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الاية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعوذ بوجهك ] { أو من تحت أرجلكم } قال [ أعوذ بوجهك ] { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هذه أهون ـ أو أيسر ] وهكذا رواه أيضا في كتاب التوحيد عن قتيبة عن حماد به ورواه النسائي أيضا في التفسير عن قتيبة ومحمد بن النضر بن مساور ويحيى بن حبيب بن عدي أربعتهم عن حماد بن زيد به وقد رواه الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع جابرا عن النبي صلى الله عليه و سلم به ورواه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى الموصلي عن أبي خيثمة عن سفيان بن عيينة به ورواه ابن جرير في تفسيره عن أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع وسفيان بن وكيع كلهم عن سفيان بن عيينة به ورواه أبو بكر بن مردويه من حديث آدم بن أبي إياس ويحيى بن عبد الحميد وعاصم بن علي عن سفيان بن عيينة به ورواه سعيد بن منصور عن حماد بن زيد كلاهما عن عمرو بن دينار به
[ طريق آخر ] ـ قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا مقدام بن داود حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا عبد الله بن لهيعة عن خالد بن يزيد عن أبي الزبير عن جابر قال : لما نزلت { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعوذ بالله من ذلك ] { أو من تحت أرجلكم } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعوذ بالله من ذلك ] { أو يلبسكم شيعا } قال [ هذا أيسر ] ولو استعاذه لأعاذه ويتعلق بهذه الاية أحاديث كثيرة ( أحدها ) قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا أبو اليمان حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي مريم عن راشد هو ابن سعد المقرائي عن سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الاية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } فقال [ أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ] وأخرجه الترمذي عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن أبي مريم به ثم قال هذا حديث غريب
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى هو ابن عبيد حدثنا عثمان بن حكيم عن عامر بن سعيد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين فصلينا معه فناجى ربه عز و جل طويلا ثم قال [ سألت ربي ثلاثا : سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ] انفرد بإخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن عبد الله بن نمير وعن محمد بن يحيى بن أبي عمرو عن مروان بن معاوية كلاهما عن عثمان بن حكيم به
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : قرأت على عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر في حرة بني معاوية ـ قرية من قرى الأنصار ـ فقال لي : هل تدري أين صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسجدكم هذا ؟ فقلت : نعم فأشرت إلى ناحية منه فقال : هل تدري ما الثلاث التي دعاهن فيه ؟ فقلت : نعم فقال : أخبرني بهن فقلت : دعا أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما : ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها قال : صدقت فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة ليس هو في شيء من الكتب الستة إسناده جيد قوي ولله الحمد والمنة
[ حديث آخر ] ـ قال محمد بن إسحاق : عن حكيم بن عباد عن خصيف عن عبادة بن حنيف عن علي بن عبد الرحمن أخبرني حذيفة بن اليمان قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حرة بني معاوية قال : فصلى ثماني ركعات فأطال فيهن ثم التفت إلي فقال [ حبستك يا حذيفة ] قلت الله ورسوله أعلم قال [ إني سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فأعطاني وسألته أن لا يهلكهم بغرق فأعطاني وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ] رواه ابن مردويه من حديث محمد بن إسحاق
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبيدة بن حميد حدثني سليمان بن الأعمش عن رجاء الأنصاري عن عبد الله بن شداد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل لي : خرج قبل قال : فجعلت لا أمر بأحد إلا قال : مر قبل حتى مررت فوجدته قائما يصلي قال : فجئت حتى قمت خلفه قال : فأطال الصلاة فلما قضى صلاته قلت : يا رسول الله قد صليت صلاة طويلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني صليت صلاة رغبة ورهبة إني سألت الله عز و جل ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يهلك أمتي غرقا فأعطاني وسألته أن لا يظهر عليهم عدوا ليس منهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردها علي ] ورواه ابن ماجه في الفتن عن محمد بن عبد الله بن نمير وعلي بن محمد كلاهما عن أبي معاوية عن الأعمش به ورواه ابن مردويه : من حديث أبي عوانة عن عبد الله بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه و سلم بمثله أو نحوه
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن الضحاك بن عبد الله القرشي حدثه عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات فلما انصرف قال [ إني صليت صلاة رغبة ورهبة وسألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل وسألته أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل وسألته أن لا يلبسهم شيعا فأبى علي ] ورواه النسائي في الصلاة عن محمد بن سلمة عن ابن وهب به
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب بن أبي حمزة قال : قال الزهري حدثني عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن خباب عن أبيه خباب بن الأرت مولى بني زهرة وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : وافيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في ليلة صلاها كلها حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله صلى الله عليه و سلم من صلاته فقلت : يا رسول الله لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت ربي عز و جل فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز و جل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها وسألت ربي عز و جل أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز و جل أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها ] ورواه النسائي : من حديث شعيب بن أبي حمزة به ومن وجه آخر وابن حبان في صحيحه بإسناديهما عن صالح بن كيسان والترمذي في الفتن من حديث النعمان بن راشد كلاهما عن الزهري به وقال : حسن صحيح
[ حديث آخر ] ـ قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره : حدثني زياد بن عبد الله المزني حدثنا مروان بن معاوية الفزاري حدثنا أبو مالك حدثني نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود فقال [ قد كانت صلاة رغبة ورهبة سألت الله عز و جل فيها ثلاثا أعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به من كان قبلكم فأعطانيها وسألت الله أن لا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم فأعطانيها وسألت الله أن لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها ] قال أبو مالك : فقلت له أبوك سمع هذا من في رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : نعم سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها من في رسول الله صلى الله عليه و سلم
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق قال : قال معمر : أخبرني أيوب عن أبي قلابة عن الأشعث الصنعاني عن أبي أسماء الرحبي عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر وإني سألت ربي عز و جل أن لا يهلك أمتى بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا فيهلكهم بعامة وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضا وبعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا قال : وقال النبي صلى الله عليه و سلم : إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ] ليس في شيء من الكتب الستة وإسناده جيد قوي وقد رواه ابن مردويه من حديث حماد بن زيد وعباد بن منصور وقتادة ثلاثتهم عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بنحوه والله أعلم
[ حديث آخر ] ـ قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي وميمون بن إسحاق بن الحسن الحنفي قالا : حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه قال : وكان أبوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان من أصحاب الشجرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى والناس حوله صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود قال فجلس يوما فأطال الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض أن اسكتوا إنه ينزل عليه فلما فرغ قال له بعض القوم : يا رسول الله لقد أطلت الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض أنه ينزل عليك قال [ لا ولكنها كانت صلاة رغبة ورهبة سألت الله فيها ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت الله أن لا يعذبكم بعذاب عذب به من كان قبلكم فأعطانيها وسألت الله أن لا يسلط على أمتي عدوا يستبيحها فأعطانيها وسألته أن لا يلبسكم شيعا وأن لا يذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها ] قال : قلت له : أبوك سمعها من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم سمعته يقول : إنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه و سلم عدد أصابعي هذه عشر أصابع
[ حديث آخر ] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يونس هو ابن محمد المؤدب حدثنا ليث هو ابن سعد عن أبي وهب الخولاني عن رجل قد سماه عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ سألت ربي عز و جل أربعا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها وسألت الله عز و جل أن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها ] لم يخرجه أحد من أصحاب الكتاب الستة
[ حديث آخر ] ـ قال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا أبو حذيفة الثعلبي عن زياد بن علاقة عن جابر بن سمرة السوائي عن علي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة فقلت : يا رب لا تهلك أمتي جوعا فقال هذه لك قلت : يا رب لا تسلط عليهم عدوا من غيرهم يعني أهل الشرك فيجتاحهم قال : ذلك لك قلت : يا رب لا تجعل بأسهم بينهم ـ قال ـ فمنعني هذه ]
[ حديث آخر ] قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم عن أحمد بن محمد بن عاصم حدثنا أبو الدرداء المروزي حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان حدثني أبي عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ دعوت ربي عز و جل أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع الله عنهم اثنتين وأبى علي أن يرفع عنهم اثنتين دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأبى الله أن يرفع اثنتين القتل والهرج ]
[ طريق أخرى ] عن ابن عباس أيضا قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن يزيد حدثني الوليد بن أبان حدثنا جعفر بن منير حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد حدثنا عمرو بن قيس عن رجل عن ابن عباس قال : نزلت هذه الاية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال : فقام النبي صلى الله عليه و سلم فتوضأ ثم قال [ اللهم لا ترسل على أمتي عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا تلبسهم شيعا ولا تذق بعضهم بأس بعض ] قال : فأتاه جبريل فقال : يا محمد إن الله قد أجار أمتك أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم
[ حديث آخر ] ـ قال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله البزاز حدثنا عبد الله بن أحمد بن موسى حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط عن السدي عن أبي المنهال عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سألت ربي لأمتي أربع خصال فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها وسألته أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ] ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد بن يحيى بن سعيد القطان عن عمرو بن محمد العنقزي به نحوه
[ طريق أخرى ] ـ وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن الحباب حدثنا كثير بن زيد الليثي المدني حدثني الوليد بن رباح مولى آل أبي ذباب سمع أبا هريرة يقول : قال النبي صلى الله عليه و سلم [ سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فأعطاني وسألته أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاني وسألته أن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعني ] ثم رواه ابن مردويه بإسناده عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ورواه البزار من طريق عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه
[ أثر آخر ] قال سفيان الثوري عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : أربع في هذه الأمة قد مضت اثنتان وبقيت اثنتان { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال : الرجم { أو من تحت أرجلكم } قال : الخسف { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال سفيان : يعني الرجم والخسف وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال : فهي أربع خلال منها اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعا وذاق بعضهم بأس بعض وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان الرجم والخسف ورواه أحمد عن وكيع عن أبي جعفر ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو الأشهب عن الحسن في قوله { قل هو القادر على أن يبعث } الاية قال : حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها فلما عمل ذنبها أرسلت عقوبتها وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك والسدي وابن زيد وغير واحد في قوله { عذابا من فوقكم } يعني الرجم { أو من تحت أرجلكم } يعني الخسف وهذا هو اختيار ابن جرير وروى ابن جرير : عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } قال : كان عبد الله بن مسعود يصيح وهو في المسجد أو على المنبر يقول : ألا أيها الناس إنه قد نزل بكم إن الله يقول { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } لو جاءكم عذاب السماء لم يبق منكم أحدا { أو من تحت أرجلكم } لو خسف بكم الأرض أهلككم ولم يبق منكم أحدا { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث ( قول ثان ) ـ قال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب سمعت خلاد بن سليمان يقول : سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول : إن ابن عباس كان يقول : في هذه الاية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } فأئمة السوء { أو من تحت أرجلكم } فخدم السوء وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { عذابا من فوقكم } يعني أمرءاكم { أو من تحت أرجلكم } يعني عبيدكم وسفلتكم وحكى ابن أبي حاتم عن أبي سنان وعمرو بن هانىء نحو ذلك قال ابن جرير : وهذا القول وإن كان له وجه صحيح لكن الأول أظهر وأقوى وهو كما قال ابن جرير رحمه الله ويشهد له بالصحة قوله تعالى : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير } وفي الحديث [ ليكونن في هذه الأمة قذف وخسف ومسخ ] وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها وظهور الايات قبل يوم القيامة وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى وقوله { أو يلبسكم شيعا } يعني يجعلكم متلبسين شيعا فرقا متخالفين وقال الوالبي عن ابن عباس : يعني الأهواء وكذا قال مجاهد وغير واحد وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال [ وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ] وقوله تعالى : { ويذيق بعضكم بأس بعض } قال ابن عباس وغير واحد : يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل وقوله تعالى : { انظر كيف نصرف الآيات } أي نبينها ونوضحها مرة ونفسرها { لعلهم يفقهون } أي يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه قال زيد بن أسلم : لما نزلت { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } الاية قالرسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ] قالوا ونحن ونشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال [ نعم ] فقال بعضهم : لا يكون هذا أبدا أن يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون فنزلت { انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون * وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل * لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون } رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (2/188)
يقول تعالى : { وكذب به } أي بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان { قومك } يعني قريشا { وهو الحق } أي الذي ليس وراءه حق { قل لست عليكم بوكيل } أي لست عليكم بحفيظ ولست بموكل بكم كقوله { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } أي إنما علي البلاغ وعليكم السمع والطاعة فمن اتبعني سعد في الدنيا والاخرة ومن خالفني فقد شقي في الدنيا والاخرة ولهذا قال { لكل نبإ مستقر } قال ابن عباس وغير واحد : أي لكل نبأ حقيقة أي لكل خبر وقوع ولو بعد حين كما قال { ولتعلمن نبأه بعد حين } وقال { لكل أجل كتاب } وهذا تهديد ووعيد أكيد ولهذا قال بعده { وسوف تعلمون } وقوله { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } أي بالتكذيب والاستهزاء { فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } أي حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب { وإما ينسينك الشيطان } والمراد بذلك كل فرد من آحاد الأمة أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها فإن جلس أحد معهم ناسيا { فلا تقعد بعد الذكرى } بعد التذكر { مع القوم الظالمين } ولهذا ورد في الحديث [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وقال السدي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله { وإما ينسينك الشيطان } قال : إن نسيت فذكرت { فلا تقعد } معهم وكذا قال مقاتل بن حيان وهذه الاية هي المشار إليها في قوله { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } الاية أي إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم فيما هم فيه وقوله { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } أي إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برئوا من عهدتهم وتخلصوا من إثمهم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن سعيد بن جبير قوله { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك أي إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم وقال آخرون : بل معناه وإن جلسوا معهم فليس عليهم من حسابهم من شيء وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية وهي قوله { إنكم إذا مثلهم } قاله مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم وعلى قولهم يكون قوله { ولكن ذكرى لعلهم يتقون } أي ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه لعلهم يتقون ذلك ولا يعودون إليه (2/194)
يقول تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا } أي دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلا فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم ولهذا قال وذكر به أي ذكر الناس بهذا القرآن وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة وقوله تعالى { أن تبسل نفس بما كسبت } أي لئلا تبسل قال الضحاك عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي : تبسل تسلم وقال الوالبي عن ابن عباس : تفتضح وقال قتادة : تحبس وقال مرة وابن زيد : تؤاخذ وقال الكلبي : تجزى وكل هذه الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى وحاصلها الإسلام للهلكة والحبس عن الخير والارتهان عن درك المطلوب كقوله { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين } وقوله { ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع } وقوله { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } أي ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها كقوله { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } الاية وكذا قال ههنا { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } (2/195)
قال السدي : قال المشركون للمسلمين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فأنزل الله عز و جل { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا } أي في الكفر { بعد إذ هدانا الله } فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض يقول : مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : ائتنا فإنا على الطريق فأبى أن يأتيهم فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه و سلم ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق والطريق هو الإسلام رواه ابن جرير وقال قتادة { استهوته الشياطين في الأرض } أضلته في الأرض يعني استهوته سيرته كقوله { تهوي إليهم } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } الاية هذا مثل ضربه الله للالهة ومن يدعو إليها والدعاة الذين يدعون إلى هدى الله عز و جل كمثل رجل ضل عن طريق تائها إذ ناداه مناد : يا فلان بن فلان هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان يقول : مثل من يعبد هذه الالهة من دون الله فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الندامة والهلكة وقوله { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } هم الغيلان { يدعونه } باسمه واسم أبيه وجده فيتبعها وهو يرى أنه في شيء فيصبح وقد رمته في هلكة وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا فهذا مثل من أجاب الالهة التي تعبد من دون الله عز و جل رواه ابن جرير وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران } قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق وذلك مثل من يضل بعد أن هدي وقال العوفي عن ابن عباس قوله { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب } هو الذي لا يستجيب لهدى الله وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس { إن الهدى هدى الله } والضلال ما يدعو إليه الجن رواه ابن جرير ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ويزعمون أنه هدى قال وهذا خلاف ظاهر الاية فإن الله أخبر أنهم يدعونه إلى الهدى فغير جائز أن يكون ضلالا وقد أخبر الله أنه هدى وهو كما قال ابن جرير : فإن السياق يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران وهو منصوب على الحال أي في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة وله أصحاب على المحجة سائرون فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى وتقدير الكلام فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم ولو شاء الله لهداه ولرد به إلى الطريق ولهذا قال { قل إن هدى الله هو الهدى } كما قال { ومن يهد الله فما له من مضل } وقال { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين } وقوله { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له { وأن أقيموا الصلاة واتقوه } أي وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال { وهو الذي إليه تحشرون } أي يوم القيامة { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } أي بالعدل فهو خالقهما ومالكهما والمدبر لهما ولمن فيهما وقوله { ويوم يقول كن فيكون } يعني يوم القيامة الذي يقول الله كن فيكون عن أمره كلمح البصر أو هو أقرب ويوم منصوب إما على العطف على قوله واتقوه وتقديره واتقوا يوم يقول كن فيكون وإما على قوله { خلق السموات والأرض } أي وخلق يوم يقول كن فيكون فذكر بدء الخلق وإعادته وهذا مناسب وإما على إضمار فعل تقديره واذكر يوم يقول كن فيكون وقوله { قوله الحق وله الملك } جملتان محلهما الجر على أنهما صفتان لرب العالمين وقوله { يوم ينفخ في الصور } يحتمل أن يكون بدلا من قوله ويوم يقول كن فيكون يوم ينفخ في الصور ويحتمل أن يكون ظرفا لقوله { وله الملك يوم ينفخ في الصور } كقوله { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } كقوله { الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا } وما أشبه ذلك واختلف المفسرون في قوله { يوم ينفخ في الصور } فقال بعضهم : المراد بالصور هنا جمع صورة أي يوم ينفخ فيها فتحيا قال ابن جرير : كما يقال : سور لسور البلد وهو جمع سورة والصحيح أن المرد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام قال ابن جرير : والصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ ] رواه مسلم في صحيحه وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان التيمي عن أسلم العجلي عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو قال : قال أعرابي يا رسول الله ما الصور ؟ قال [ قرن ينفخ فيه ]
وقد روينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ ابن القاسم الطبراني في كتابه المطولات قال : حدثنا أحمد بن الحسن المقري الأيلي حدثنا أبو عاصم النبيل حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في طائفة من أصحابه فقال [ إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخصا بصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر ] قلت : يا رسول الله وما الصور ؟ قال : [ القرن ] قلت : كيف هو ؟ قال : [ عظيم والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض ينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض إلا من شاء الله ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر وهي كقول الله { وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق } فيسير الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة المرمية في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق في العرش ترجرجه الرياح وهو الذي يقول { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة } فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ويولي الناس مدبرين ما لهم من أمن الله من عاصم ينادي بعضهم بعضا وهو الذي يقول الله تعالى : { يوم التناد } فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت السماء فانتثرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها ] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك ] قال أبو هريرة : يا رسول الله من استثنى الله عز و جل حين يقول { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } ؟ قال [ أولئك الشهداء ] وإنما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ـ قال ـ وهو الذي يقول الله عز و جل : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } فيكونون في ذلك العذاب ما شاء الله إلا أنه يطول ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق فينفخ نفخة الصعق فيصعق أهل السموات والأرض إلا من شاء الله فإذا هم قد خمدوا وجاء ملك الموت إلى الجبار عز و جل فيقول : يا رب قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئت فيقول الله وهو أعلم بمن بقي فمن بقي ؟ فيقول : يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت حملة العرش وبقي جبريل وميكائيل وبقيت أنا فيقول الله عز و جل : ليمت جبريل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول يا رب يموت جبريل وميكائيل فيقول اسكت فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي فيموتان ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول يا رب : قد مات جبريل وميكائيل فيقول الله وهو أعلم بمن بقي : فمن بقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا تموت بقيت حملة عرشك وبقيت أنا فيقول الله : لتمت حملة العرش فتموت ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا رب قد مات حملة عرشك فيقول الله وهو أعلم بمن بقي : فمن بقي ؟ فيقول : يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا فيقول الله : أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد كان آخرا كما كان أولا طوى السموات والأرض طي السجل للكتب ثم دحاهما ثم يلقفهما ثلاث مرات ثم يقول : أنا الجبار أنا الجبار أنا الجبار ثلاثا ثم هتف بصوته { لمن الملك اليوم } ثلاث مرات فلا يجيبه أحد ثم يقول لنفسه { لله الواحد القهار } يقول الله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } فيبسطهما ويسطحهما ثم يمدهما مد الأديم العكاظي { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة مثل ما كانوا فيها من الأولى من كان في بطنها كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ثم ينزل الله عليهم ماء من تحت العرش ثم يأمر الله السماء أن تمطر فتمطر أربعين يوما حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث أو كنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت قال الله عز و جل : ليحي حملة عرشي فيحيون ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ثم يقول : ليحي جبريل وميكائيل فيحييان ثم يدعو الله بالأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا وأرواح الكافرين ظلمة فيقبضها جميعا ثم يلقيها في الصور ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث فينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد فتدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنهم وأنا أول من تنشق الأرض عنه فتخرجون سراعا إلى ربكم تنسلون { مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر } حفاة عراة غلفا غرلا فتقفون موقفا واحدا مقداره سبعون عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم فتبكون حتى تنقطع الدموع ثم تدمعون دما وتعرقون حتى يلجمكم العرق أو يبلغ الذقان وتقولون : من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا فتقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأبى ويقول ما أنا بصاحب ذلك فيستقرئون الأنبياء نبيا نبيا كلما جاؤوا نبيا أبى عليهم ـ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يأتوني فأنطلق إلى الفحص فأخر ساجدا قال أبو هريرة يا رسول الله وما الفحص ؟ قال ـ قدام العرش حتى يبعث الله إلي ملكا فيأخذ بعضدي ويرفعني فيقول لي : يا محمد فأقول : نعم يا رب فيقول الله عز و جل : ما شأنك ؟ وهو أعلم ـ فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم قال الله : قد شفعتك أنا آتيكم أقضي بينكم ـ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف إذ سمعنا من السماء حسا شديدا فهالنا فينزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ فيقولون : لا وهو آت ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة وبمثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ فيقولون : لا وهو آت ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار عز و جل في ظلل من الغمام والملائكة فيحمل عرشه يومئذ ثمانية ـ وهم اليوم أربعة ـ أقدامهم في تخوم الأرض السفلى والأرض والسموات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم ولهم زجل في تسبيحهم يقولون : سبحان ذي العرش والجبروت وسبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه ثم يهتف بصوته فيقول : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فأنصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم ثم يقول { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون * هذه جهنم التي كنتم توعدون } أو ـ بها تكذبون ـ شك أبو عاصم { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } فيميز الله الناس وتجثو الأمم يقول الله تعالى : { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون } فيقضي الله عز و جل بين خلقه إلا الثقلين الجن والإنس فيقضي بين الوحوش والبهائم حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن فإذا فرغ من ذلك فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى قال الله لها : كوني ترابا فعند ذلك يقول الكافر { يا ليتني كنت ترابا } ثم يقضي الله بين العباد فكان أول ما يقضي فيه الدماء ويأتي كل قتيل في سبيل الله ويأمر الله عز و جل كل من قتل فيحمل رأسه تشخب أوداجه فيقول : يارب فيم قتلني هذا ؟ فيقول ـ وهو أعلم ـ فيم قتلتهم ؟ فيقول : قتلتهم لتكون العزة لك فيقول الله له : صدقت فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس ثم تمر به الملائكة إلى الجنة ثم يأتي كل من قتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه فيقول : يا رب فيم قتلني هذا ؟ فيقول ـ وهو أعلم ـ لم قتلتهم ؟ فيقول : يا رب قتلتهم لتكون العزة لي فيقول : تعست ثم لا تبقى نفس قتلها إلا قتل بها ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها وكان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء رحمه ثم يقضي الله تعالى بين من بقي من خلفه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها الله للمظلوم من الظالم حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء فإذا فرغ الله من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق كلهم : ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله فلا يبقى أحد عبد من دون الله إلا مثلت له آلهته بين يديه ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى بن مريم ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى ثم قادتهم آلهتهم إلى النار وهو الذي يقول { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } فإذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون جاءهم الله فيما شاء من هيئته فقال : يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون فيقولون : والله ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد غيره فينصرف عنهم وهو الله الذي يأتيهم فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يأتيهم فيقول : يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون فيقولون : والله ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد غيره فيكشف لهم عن ساقه ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم فيخرون للأذقان سجدا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر ثم يأذن الله لهم فيرفعون ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم كحد الشفرة أو كحد السيف عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان دونه جسر دحض مزلة فيمرون كطرف العين أو كلمح البرق أو كمر الريح أو كجياد الخيل أو كجياد الركاب أو كجياد الرجال فناج سالم وناج مخدوش ومكردس على وجهه في جهنم فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا : من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم عليه السلام خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا فيأتون آدم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بنوح فإنه أول رسل الله فيؤتى نوح فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ويقول : عليكم بإبراهيم فإن الله اتخذه خليلا فيؤتى إبراهيم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ويقول : عليكم بموسى فإن الله قربه نجيا وكلمه وأنزل عليه التوراة فيؤتى موسى فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : لست بصاحب ذلك ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى ابن مريم فيؤتى عيسى ابن مريم فيطلب ذلك إليه فيقول : [ ما أنا بصاحبكم ولكن عليكم بمحمد ] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فيأتوني ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن فأنطلق فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب فأستفتح فيفتح لي فأحيا ويرحب بي فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا فيأذن الله لي من تحميده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ثم يقول : ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع وسل تعطه فإذا رفعت رأسي يقول الله ـ وهو أعلم : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة فيقول الله : قد شفعتك وقد أذنت لهم في دخول الجنة ] وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ والذي نفسي بيده ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة سبعين مما ينشىء الله عز و جل وثنتين آدميتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله لعبادتهما الله في الدنيا فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليها سبعون زوجا من سندس وإستبرق ثم إنه يضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبدها له مرآة وكبده لها مرآة فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ما يفتر ذكره وما تشتكي قبلها فبينا هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل إلا أنه لا مني ولا منية إلا أن لك أزواجا غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما أتى واحدة قالت له : والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ولا في الجنة شيء أحب إلي منك وإذا وقع أهل النار في النار وقع فيها خلق من خلق ربك أوبقتهم أعمالهم فمنهم من تأخذه النار قدميه لا تجاوز ذلك ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حقويه ومنهم من تأخذ جسده كله إلا وجهه حرم الله صورته عليها ] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فأقول يا رب شفعني فيمن وقع في النار من أمتي فيقول : أخرجوا من عرفتم فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ثم يأذن الله في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع فيقول الله : أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار إيمانا فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ثم يشفع الله فيقول : أخرجوا من في قلبه إيمانا ثلثي دينار ثم يقول : ثلث دينار ثم يقول : ربع دينار ثم يقول : قيراطا ثم يقول : حبة من خردل فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيرا قط ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع حتى إن إبليس يتطاول مما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له ثم يقول : بقيت وأنا أرحم الراحمين فيدخل يده في جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره كأنهم حمم فيلقون على نهر يقال له : نهر الحيوان فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل فما يلي الشمس منها أخيضر وما يلي الظل منها أصيفر فينبتون كنبات الطراثيث حتى يكونوا أمثال الذر مكتوب في رقابهم الجهنميون عتقاء الرحمن يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب وما عملوا خيرا لله قط فيمكثون في الجنة ما شاء الله وذلك الكتاب في رقابهم ثم يقولون : ربنا امح عنا هذا الكتاب فيمحوه الله عز و جل عنهم ]
ثم ذكره بطوله ثم قال : هذا حديث مشهور وهو غريب جدا ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه نكارة تفرد به إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة وقد اختلف فيه فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن علي الفلاس ومنهم من قال فيه هو متروك وقال ابن عدي : أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء قلت : وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة وأما سياقه فغريب جدا ويقال : إنه جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقا واحدا فأنكر عليه بسبب ذلك وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول : إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث فالله أعلم (2/196)
قال الضحاك عن ابن عباس : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما كان اسمه تارح رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل حدثنا أبي حدثنا أبو عاصم شبيب حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } يعني بآزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه تارح وأمه اسمها مثاني وامرأته اسمها سارة وأم إسماعيل اسمها هاجر وهي سرية إبراهيم وهكذا قال غير واحد من علماء النسب أن اسمه تارح وقال مجاهد والسدي : آزر اسم صنم قلت : كأنه غلب عليه آزر لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم وقال ابن جرير وقال آخرون : هو سب وعيب بكلامهم ومعناه معوج ولم يسنده ولا حكاه عن أحد وقد قال ابن أبي حاتم : ذكر عن معتمر بن سليمان سمعت أبي يقرأ { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } قال : بلغني أنها أعوج وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم عليه السلام ثم قال ابن جرير : والصواب أن اسم أبيه آزر ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان كما لكثير من الناس أو يكون أحدهما لقبا وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم واختلف القراء في أداء قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني أنهما كانا يقرآن { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة } معناه يا آزر أتتخذ أصناما آلهة وقرأ الجمهور بالفتح إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف أيضا كأحمر وأسود فأما من زعم أنه منصوب لكونه معمولا لقوله { أتتخذ أصناما } تقديره يا أبت أتتخذ آزر أصناما آلهة فإنه قول بعيد في اللغة فإن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله لأن له صدر الكلام كذا قرره ابن جرير وغيره وهو مشهور في قواعد العربية والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها ونهاه فلم ينته كما قال { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ؟ } أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله { إني أراك وقومك } أي السالكين مسلكك { في ضلال مبين } أي تائهين لا يهتدون أين يسلكون بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم وقال تعالى : { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا } فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه مدة حياته فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه كما قال تعالى : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } وثبت في الصحيح أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له آزر يا بني اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقال يا إبراهيم انظر ما وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار قوله { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله عز و جل في ملكه وخلقه وأنه لا إله غيره ولا رب سواه كقوله { قل انظروا ماذا في السموات والأرض } وقال { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب } وأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم قالوا : واللفظ لمجاهد : فرجت له السموات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن وزاد غيره فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي ويدعو عليهم فقال الله له إني أرحم بعبادي منك لعلهم أن يتوبوا أو يرجعوا وروى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين عن معاذ وعلي ولكن لا يصح إسنادهما والله أعلم وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } فإنه تعالى جلا له الأمر سره وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله إنك لا تستطيع هذا فرده كما كان قبل ذلك فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عيانا ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة كما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه عن معاذ بن جبل في حديث المنام [ أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت لا أدري يا رب فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك ] وذكر الحديث قوله { وليكون من الموقنين } قيل الواو زائدة تقديره وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين كقوله { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } وقيل بل هي على بابها أي نريه ذلك ليكون عالما وموقنا وقوله تعالى : { فلما جن عليه الليل } أي تغشاه وستره { رأى كوكبا } أي نجما { قال هذا ربي فلما أفل } أي غاب قال محمد بن إسحاق بن يسار : الأفول الذهاب وقال ابن جرير : يقال : أفل النجم يأفل ويأفل أفولا وأفلا إذا غاب ومنه قول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي تقودها دياج ولا بالافلات الزوائل
ويقال : أين أفلت عنا ؟ بمعنى أين غبت عنا قال { لا أحب الأفلين } قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول { فلما رأى القمر بازغا } أي طالعا { قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } أي هذا المنير الطالع ربي { هذا أكبر } أي جرما من النجم ومن القمر وأكثر إضاءة { فلما أفلت } أي غابت { قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي { للذي فطر السموات والأرض } أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق { حنيفا } أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد ولهذا قال { وما أنا من المشركين } وقد اختلف المفسرون في هذا المقام : هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير : من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر واختاره ابن جرير مستدلا بقوله { لئن لم يهدني ربي } الاية وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه فأمر بقتل الغلمان عامئذ فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك وذكر أشياء من خوارق العادات كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف والحق أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة وهي : القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر ثم الزهرة فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال ومثل هذه لا تصلح للإلهية ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم ثم انتقل إلى الشمس كذلك فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع { قال يا قوم إني بريء مما تشركون } أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه كما قال تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرا في هذا المقام وهو الذي قال الله في حقه { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } الايات وقال تعالى : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وقال تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل مولود يولد على الفطرة ] وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ قال الله إني خلقت عبادي حنفاء ] وقال الله في كتابه العزيز { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } وقال تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى } ومعناه على أحد القولين كقوله { فطرة الله التي فطر الناس عليها } كما سيأتي بيانه فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ناظرا في هذا المقام بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا شك ولا ريب وما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى (2/202)
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد وناظروه بشبه من القول أنه قال { أتحاجوني في الله وقد هدان } أي تجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا هو وقد بصرني وهداني إلى الحق وأنا على بينة منه فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة وقوله { ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا } أي ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه أن هذه الالهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا وأنا لا أخافها ولا أباليها فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون بل عاجلوني بذلك وقوله تعالى : { إلا أن يشاء ربي شيئا } استثناء منقطع أي لا يضر ولا ينفع إلا الله عز و جل { وسع ربي كل شيء علما } أي أحاط علمه بجميع الأشياء فلا يخفى عليه خافية { أفلا تتذكرون } أي فيما بينته لكم أفلا تعتبرون أن هذه الالهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها وهذه الحجة نظير ما احتج بها نبي الله هود عليه السلام على قومه عاد فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول { قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } الاية وقوله { وكيف أخاف ما أشركتم } أي كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا } قال ابن عباس وغير واحد من السلف : أي حجة وهذا كقوله تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقوله تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } وقوله { فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } أي فأي طائفتين أصوب الذي عبد من بيده الضر والنفع أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة قال الله تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ولم يشركوا به شيئا هم الامنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والاخرة
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : لما نزلت { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } قال أصحابه وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت { إن الشرك لظلم عظيم } وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : لما نزلت هذه الاية { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه ؟ قال [ إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } إنما هو الشرك
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع وابن إدريس عن الأعمش عن علقمة عن عبد الله قال : لما نزلت { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ليس كما تظنون إنما قال لابنه { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } وحدثنا عمر بن تغلب النمري حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الاية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت { إن الشرك لظلم عظيم } رواه البخاري وفي لفظ قالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ ليس بالذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح { إن الشرك لظلم عظيم } إنما هو الشرك ] ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعا قال { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } قال [ بشرك ] قال وروي عن أبي بكر الصديق وعمر وأبي بن كعب وسلمان وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد نحو ذلك وقال ابن مردويه : حدثنا الشافعي حدثنا محمد بن شداد المسمعي حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : لما نزلت { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قيل لي أنت منهم ] وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا أبو جناب عن زاذان عن جرير بن عبد الله قال : [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كأن هذا الراكب إياكم يريد فانتهى إلينا الرجل فسلم فرددنا عليه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم من أين أقبلت ؟ قال من أهلي وولدي وعشيرتي قال : فأين تريد ؟ قال : أريد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فقد أصبته قال : يا رسول الله علمني ما الإيمان ؟ قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت قال : قد أقررت قال ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جرذان فهوى بعيره وهوى الرجل فوقع على هامته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بالرجل فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه فقالا : يا رسول الله قبض الرجل قال فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم أما رأيتما إعراضي عن الرجل فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة فعلمت أنه مات جائعا ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا من الذين قال الله عز و جل فيهم { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } الاية ثم قال دونكم أخاكم فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه وحملناه إلى القبر فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جلس على شفير القبر فقال ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا ] ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر عن عبد الحميد بن جعفر الفراء عن ثابت عن زاذان عن جرير بن عبد الله فذكر نحوه وقال فيه : هذا ممن عمل قليلا وأجر كثيرا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يوسف بن موسى القطان حدثنا مهران بن أبي عمر حدثنا علي بن عبد الله عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسير ساره إذ عرض له أعرابي فقال : يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك وآخذ من قولك وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض فاعرض علي فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقبل فازدحمنا حوله فدخل خف بكره في بيت جرذان فتردى الأعرابي فانكسرت عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ صدق والذي بعثني بالحق لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي وما بلغني حتى ماله طعام إلا من خضر الأرض أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر كثيرا ؟ هذا منهم أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ؟ فإن هذا منهم ] وفي لفظ قال [ هذا عمل قليلا وأجر كثيرا ] وروى ابن مردويه من حديث محمد بن يعلى الكوفي وكان نزل الري حدثنا زياد بن خيثمة عن أبي داود عن عبد الله بن سخبرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر ] وسكت قال : فقالوا يا رسول الله ما له ؟ قال { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وقوله { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } أي وجهنا حجته عليهم قال مجاهد وغيره : يعني بذلك قوله { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن } الاية وقد صدقه الله وحكم له بالأمن والهداية فقال { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ثم قال بعد ذلك كله { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء } قرىء بالإضافة وبلا إضافة كما في سورة يوسف وكلاهما قريب في المعنى وقوله { إن ربك حكيم عليم } أي حكيم في أقواله وأفعاله عليم أي بمن يهديه ومن يضله وإن قامت عليه الحجج والبراهين كما قال { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } ولهذا قال ههنا { إن ربك حكيم عليم } (2/205)
يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق بعد أن طعن في السن وأيس هو وامرأته سارة من الولد فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط فبشروهما بإسحاق فتعجبت المرأة من ذلك وقالت { يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله ؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد } فبشروهما مع وجوده بنبوته وبأن له نسلا وعقبا كما قال تعالى : { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين } وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة وقال { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما فتقر أعينكما به كما قرت بوالده فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض فعوضه الله عز و جل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه لتقر بهم عينه كما قال تعالى : { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا } وقال ههنا { ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا } وقوله { ونوحا هدينا من قبل } أي من قبله هديناه كما هديناه ووهبنا له ذرية صالحة وكل منهما له خصوصية عظيمة أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه في السفينة جعل الله ذريته هم الباقين فالناس كلهم من ذريته وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله عز و جل بعده نبيا إلا من ذريته كما قال تعالى : { وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } الاية وقال تعالى { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } وقال تعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } وقوله في هذه الاية الكريمة { ومن ذريته } أي وهدينا من ذريته { داود وسليمان } الاية وعود الضمير إلى نوح لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه وهو اختيار ابن جرير وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن لكن يشكل عليه لوط فإنه ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه ماران بن آزر اللهم إلا أن يقال إنه دخل في الذرية تغليبا وكما قال في قوله { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون } فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليبا وكما قال في قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس } فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة لأنه كان في تشبه بهم فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليبا وإلا فهو كان من الجن وطبيعته من النار والملائكة من النور وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح على القول الاخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام بأمه عليها السلام فإنه لا أب له قال ابن أبي حاتم : حدثنا سهل بن يحيى العسكري حدثنا عبد الرحمن بن صالح حدثنا علي بن عابس عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي حرب بن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه و سلم تجده في كتاب الله ـ وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال أليس تقرأ سورة الأنعام { ومن ذريته داود وسليمان } حتى بلغ { ويحيى وعيسى } قال بلى قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب ؟ قال صدقت فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم فأما إذا أعطى الرجل بنيه دخل أولاد البنات فيهم فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه واحتجوا بقول الشاعر العربي :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيهم أيضا لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للحسن بن علي [ إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ] فسماه ابنا فدل على دخوله في الأبناء وقال آخرون : هذا تجوز وقوله { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } ذكر أصولهم وفروعهم وذوي طبقتهم وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم ولهذا قال { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } ثم قال تعالى : { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده } أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته كقوله تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك } الاية وهذا شرط والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وكقوله { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين } وكقوله { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار } وقوله تعالى : { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } أي أنعمنا عليه - بذلك رحمة للعباد بهم ولطفا منا بالخليقة { فإن يكفر بها } أي بالنبوة ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على هذه الأشياء الثلاثة الكتاب والحكم والنبوة وقوله { هؤلاء } يعني أهل مكة قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد { فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } أي إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض من عرب وعجم ومليين وكتابيين فقد وكلنا بها قوما آخرين أي المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة { ليسوا بها بكافرين } أي لا يجحدون منها شيئا ولا يردون منها حرفا واحدا بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وإحسانه ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم { أولئك } يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الاباء والذرية والإخوان وهم الأشباه { الذين هدى الله } أي هم أهل الهدى لا غيرهم { فبهداهم اقتده } أي اقتد واتبع وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى الله عليه و سلم فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به قال البخاري عند هذه الاية : حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني سليمان الأحول أن مجاهدا أخبره أنه سأل ابن عباس أفي ( ص ) سجدة ؟ فقال نعم ثم تلا { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } إلى قوله { فبهداهم اقتده } ثم قال هو منهم زاد يزيد بن هارون ومحمد بن عبيد وسهل بن يوسف عن العوام عن مجاهد قلت لابن عباس فقال نبيكم صلى الله عليه و سلم ممن أمر أن يقتدي بهم وقوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا } أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجرا أي أجرة ولا أريد منكم شيئا { إن هو إلا ذكرى للعالمين } أي يتذكرون به فيرشدوا من العمى إلى الهدى ومن الغي إلى الرشاد ومن الكفر إلى الإيمان (2/208)
يقول الله تعالى وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير : نزلت في قريش واختاره ابن جرير وقيل نزلت في طائفة من اليهود وقيل في فنحاص رجل منهم وقيل في مالك بن الصيف { قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } والأول أصح لأن الاية مكية واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه و سلم لأنه من البشر كما قال { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } وكقوله تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا } وقال ههنا { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } قال الله تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } وهو التوراة التي قد علمتم وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورا وهدى للناس أي ليستضاء بها في كشف المشكلات ويهتدى بها من ظلم الشبهات وقوله { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا } أي تجعلون جملتها قراطيس أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم وتحرفون منها ما تحرفون وتبدلون وتتأولون وتقولون هذا من عند الله أي في كتابه المنزل وما هو من عند الله ولهذا قال { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا } وقوله تعالى : { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } أي ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق ونبأ ما يأتي مالم تكونوا تعلمون ذلك لا أنتم ولا آباؤكم وقد قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب وقال مجاهد هذه للمسلمين وقوله تعالى : { قل الله } قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس أي قل الله أنزله وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة لا ما قاله بعض المتأخرين من أن معنى { قل الله } أي لا يكون خطابك لهم إلا هذه الكلمة كلمة [ الله ] وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمرا بكلمة مفردة من غير تركيب والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها وقوله { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين ؟ وقوله { وهذا كتاب } يعني القرآن { أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى } يعني مكة { ومن حولها } من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم ومن عرب وعجم كما قال في الاية الأخرى { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وقال { لأنذركم به ومن بلغ } وقال { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } وقال { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } وقال { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد } وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ] وذكر منهن [ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ] ولهذا قال { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } أي كل من آمن بالله واليوم الاخر يؤمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن { وهم على صلاتهم يحافظون } أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها (2/210)
يقول تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء أو ولدا أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله ولهذا قال تعالى : { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } قال عكرمة وقتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول كقوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } الاية قال الله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } أي في سكراته وغمراته وكرباته { والملائكة باسطوا أيديهم } أي بالضرب كقوله { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني } الاية وقوله { يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } الاية وقال الضحاك وأبو صالح باسطو أيديهم أي بالعذاب كقوله { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } ولهذا قال { والملائكة باسطوا أيديهم } أي بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم ولهذا يقولون لهم { أخرجوا أنفسكم } وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتتفرق روحه في جسده وتعصي وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم { أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق } الاية أي اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله
وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند الموت وهي مقررة عند قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } وقد ذكر ابن مردويه ههنا حديثا مطولا جدا من طريق غريبة عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا فالله أعلم وقوله { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } أي يقال لهم يوم معادهم هذا كما قال { وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } أي كما بدأناكم أعدناكم وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه فهذا يوم البعث وقوله { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا وراء ظهوركم وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس ] وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول الله عز و جل : أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول له : يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئا وتلا هذه الاية { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } الاية رواه ابن أبي حاتم وقوله { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثم معاد فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب وانزاح الضلال وضل عنهم ما كانوا يفترون ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق { أين شركائي الذين كنتم تزعمون } ويقال لهم { أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون } ولهذا قال ههنا { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } أي في العبادة لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم
ثم قال تعالى : { لقد تقطع بينكم } قرىء بالرفع أي شملكم وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل { وضل عنكم } أي ذهب عنكم { ما كنتم تزعمون } من رجاء الأصنام والأنداد كقوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } وقال تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } وقال تعالى : { إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } وقال { وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } الاية وقال { ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا } إلى قوله { وضل عنهم ما كانوا يفترون } والايات في هذا كثيرة جدا (2/211)
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى أي يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوى ولهذا فسر قوله { فالق الحب والنوى } بقوله { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي } أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت كقوله { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون } إلى قوله { ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } وقوله { ويخرج الميت من الحي } معطوف على { فالق الحب والنوى } ثم فسره ثم عطف عليه قوله { ومخرج الميت من الحي } وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى فمن قائل : يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه ومن قائل : يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الاية وتشملها
ثم قال تعالى : { ذلكم الله } أي فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له { فأنى تؤفكون } أي كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون معه غيره وقوله { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا } أي خالق الضياء والظلام كما قال في أول السورة { وجعل الظلمات والنور } أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح فيضيء الوجود ويستنير الأفق ويضمحل الظلام ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه ويجيء النهار بضيائه وإشراقه كقوله { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا } فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه فذكر أنه فالق الإصباح وقابل ذلك بقوله { وجعل الليل سكنا } أي ساجيا مظلما لتسكن فيه الأشياء كما قال { والضحى * والليل إذا سجى } وقال { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى } وقال { والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها } وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره : إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه وإذا ذكر النار طار نومه رواه ابن أبي حاتم وقوله { والشمس والقمر حسبانا } أي يجريان بحساب مقنن مقدر لا يتغير ولا يضطرب بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا كما قال { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل } الاية وكما قال { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } وقال { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } وقوله { ذلك تقدير العزيز العليم } أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وكثيرا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر في هذه الاية وكما في قوله { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة حم السجدة قال { وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم } وقوله تعالى : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه أن الله جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين ويهتدى بها في الظلمات البر والبحر وقوله { قد فصلنا الآيات } أي قد بيناها ووضحناها { لقوم يعلمون } أي يعقلون ويعرفون الحق ويتجنبون الباطل (2/213)
يقول تعالى : { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } يعني آدم عليه السلام كما قال { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } وقوله { فمستقر ومستودع } اختلفوا في معنى ذلك فعن ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي وقيس بن أبي حازم ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والسدي وعطاء الخراساني وغيرهم { فمستقر } أي في الأرحام قالوا أو أكثرهم { ومستودع } أي في الأصلاب وعن ابن مسعود وطائفة عكسه وعن ابن مسعود أيضا وطائفة فمستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت وقال سعيد بن جبير : فمستقر في الأرحام وعلى ظهر الأرض وحيث يموت وقال الحسن البصري : المستقر الذي قد مات فاستقر به عمله وعن ابن مسعود : ومستودع في الدار الاخرة والقول الأول أظهر والله أعلم
وقوله تعالى : { قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } أي يفهمون ويعون كلام الله ومعناه وقوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء } أي بقدر مباركا ورزقا للعباد وإحياء وغياثا للخلائق رحمة من الله بخلقه { فأخرجنا به نبات كل شيء } كقوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } { فأخرجنا منه خضرا } أي زرعا وشجرا أخضر ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر ولهذا قال تعالى : { نخرج منه حبا متراكبا } أي يركب بعضه بعضا كالسنابل ونحوها { ومن النخل من طلعها قنوان } أي جمع قنو وهي عذوق الرطب { دانية } أي قريبة من المتناول كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس { قنوان دانية } يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض رواه ابن جرير قال ابن جرير : وأهل الحجاز يقولون قنوان وقيس يقول قنوان قال امرؤ القيس :
فأثت أعاليه وآدت أصوله ومال بقنوان من البسر أحمرا
قال : وتميم يقولون قنيان بالياء قال : وهي جمع قنو كما أن صنوان جمع صنو وقوله تعالى : { وجنات من أعناب } أي ونخرج منه جنات من أعناب وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز وربما كانا خيار الثمار في الدنيا كما امتن الله بهما على عباده في قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } وكان ذلك قبل تحريم الخمر وقال { وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب } وقوله تعالى : { والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه } قال قتادة وغيره : متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض ومتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا وقوله تعالى : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } أي نضجه قاله البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي وقتادة وغيرهم أي فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود بعد أن كان حطبا صار عنبا ورطبا وغير ذلك مما خلق سبحانه وتعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح كقوله تعالى : { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } الاية ولهذا قال ههنا { إن في ذلكم } أيها الناس { لآيات } أي دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته { لقوم يؤمنون } أي يصدقون به ويتبعون رسله (2/214)
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن فجعلوهم شركاء له في العبادة تعالى الله عن شركهم وكفرهم فإن قيل : فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام ؟ فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك كقوله { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } وكقوله تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني } الاية
وقال إبراهيم لأبيه { يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا } وكقوله { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } وتقول الملائكة يوم القيامة { سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } ولهذا قال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم } أي وخلقهم فهو الخالق وحده لا شريك له فكيف يعبد معه غيره كقول إبراهيم { أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون } ومعنى الاية أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له وقوله تعالى : { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } ينبه به تعالى عن ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولدا كما يزعم من قاله من اليهود في عزير ومن قال من النصارى في عيسى ومن قال من مشركي العرب في الملائكة إنها بنات الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ومعنى وخرقوا أي اختلقوا وائتفكوا وتخرصوا وكذبوا كما قاله علماء السلف : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وخرقوا يعني تخرصوا وقال العوفي عنه { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } قال كذبوا وكذا قال الحسن وقال الضحاك وضعوا وقال السدي قطعوا قال ابن جرير : وتأويله إذا وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياهم وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } بحقيقة ما يقولون ولكن جهلا بالله وبعظمته فإنه لا ينبغي لمن كان إلها أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة ولا أن يشركه في خلقه شريك ولهذا قال { سبحانه وتعالى عما يصفون } أي تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والنظراء والشركاء (2/215)
{ بديع السموات والأرض } أي مبدعهما وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق كما قال مجاهد والسدي : ومنه سميت البدعة بدعة لأنه لا نظير لها فيما سلف { أنى يكون له ولد } أي كيف يكون ولد { ولم تكن له صاحبة } أي والولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه لأنه خالق كل شيء فلا صاحبة له ولا ولد كما قال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا } إلى قوله { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } { وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء وأنه بكل شيء عليم فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه وهو الذي لا نظير له فأنى يكون له ولد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (2/216)
يقول تعالى : { ذلكم الله ربكم } أي الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة { لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه } أي فاعبدوه وحده لا شريك له وأقروا له بالواحدنية وأنه لا إله إلا هو وأنه لا ولد له ولا والد ولا صاحبة له ولا نظير ولا عديل { وهو على كل شيء وكيل } أي حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار وقوله { لا تدركه الأبصار } فيه أقوال للأئمة من السلف ( أحدها ) لا تدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الاخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب وفي رواية على الله فإن الله تعالى قال : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } رواه ابن أبي حاتم : من حديث أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن أبي الضحى عن مسروق ورواه غير واحد عن مسروق وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه وخالفها ابن عباس فعنه : إطلاق الرؤية وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله
وقال ابن أبي حاتم : ذكر محمد بن مسلم حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا يحيى بن معين قال : سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى : { لا تدركه الأبصار } قال هذا في الدنيا وذكر أبي عن هشام بن عبيد الله أنه قال نحو ذلك وقال آخرون { لا تدركه الأبصار } أي جميعها وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الاخرة وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الاية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الاخرة فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله أما الكتاب فقوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } وقال تعالى عن الكافرين : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } قال الإمام الشافعي : فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى أما السنة فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجريج وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الاخرة في العرصات وفي روضات الجنات جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين
وقيل المراد بقوله { لا تدركه الأبصار } أي العقول رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن الفلاس عن ابن مهدي عن أبي حصين يحيى بن الحصين قارىء أهل مكة أنه قال ذلك وهذا غريب جدا وخلاف ظاهر الاية وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية والله أعلم وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك فإن الإدراك أخص من الرؤية ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو ؟ فقيل معرفة الحقيقة فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى قال ابن علية في الاية : هذا في الدنيا رواه ابن أبي حاتم
وقال آخرون : الإدراك أخص من الرؤية وهو الإحاطة ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم قال تعالى : { ولا يحيطون به علما } وفي صحيح مسلم [ لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ] ولا يلزم منه عدم الثناء فكذلك هذا قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } قال لا يحيط بصر أحد بالملك وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد حدثنا أسباط عن سماك عن عكرمة أنه قيل له { لا تدركه الأبصار } قال ألست ترى السماء ؟ قال بلى قال فكلها ترى وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في الاية { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } وهو أعظم من أن تدركه الأبصار
وقال ابن جرير : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا خالد بن عبد الرحمن حدثنا أبو عرفجة عن عطية العوفي في قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } قال هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره محيط بهم فذلك قوله { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } وورد في تفسير هذه الاية حديث رواه ابن أبي حاتم ههنا فقال : حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث السهمي حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } قال [ لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا ] غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم
وقال آخرون في الاية بما رواه الترمذي في جامعه وابن أبي عاصم في كتاب السنة له وابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه أيضا والحاكم في مستدركه من حديث الحكم بن أبان قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : رأى محمد ربه تبارك وتعالى فقلت : أليس الله يقول : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } الاية فقال لي : لا أم لك ذلك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وفي رواية لا يقوم له شيء قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وفي معنى هذا الأمر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا [ إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل الليل وعمل الليل قبل النهار حجابه النور ـ أو النار ـ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ] وفي الكتب المتقدمة : إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده أي تدعثر وقال تعالى : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة لعباده المؤمنين كما يشاء فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه فلا تدركه الأبصار
ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الاخرة وتنفيها في الدنيا وتحتج بهذه الاية { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء وقوله { وهو يدرك الأبصار } أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه لأنه خلقها كما قال تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } وقد يكون عبر بالإبصار عن المبصرين كما قال السدي : في قوله { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } لا يراه شيء وهو يرى الخلائق وقال أبو العالية في قوله تعالى { وهو اللطيف الخبير } قال اللطيف لاستخراجها الخبير بمكانها والله أعلم وهذا كما قال تعالى إخبارا عن لقمان فيما وعظ به ابنه { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير } (2/216)
البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم { فمن أبصر فلنفسه } كقوله { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } ولهذا قال { ومن عمي فعليها } لما ذكر البصائر قال { ومن عمي فعليها } أي إنما يعود وباله عليه كقوله { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } { وما أنا عليكم بحفيظ } أي بحافظ ولا رقيب بل أنا مبلغ والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وقوله { وكذلك نصرف الآيات } أي وكما فصلنا الايات في هذه السورة من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو هكذا نوضح الايات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين وليقول المشركون والكافرون المكذبون دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب وقارأتهم وتعلمت منهم هكذا قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن كيسان قال سمعت ابن عباس يقول : دارست : تلوت خاصمت جادلت وهذا كقوله تعالى إخبارا عن كذبهم وعنادهم { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين اكتتبها } الاية وقال تعالى إخبارا عن زعيمهم وكاذبهم { إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر } وقوله { ولنبينه لقوم يعلمون } أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } الاية وكقوله { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم } { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } وقال تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو } وقال { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } وقال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } إلى غير ذلك من الايات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين وأنه يضل به من يشاء ويهدي من يشاء
ولهذا قال ههنا { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون } وقرأ بعضهم { وليقولوا درست } قال التميمي عن ابن عباس : درست أي قرأت وتعلمت وكذا قال مجاهد والسدي والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد وقال عبد الرزاق : عن معمر قال الحسن { وليقولوا درست } يقول تقادمت وانمحت وقال عبد الرزاق أيضا : أنبأنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت ابن الزبير يقول : إن صبيانا يقرأون ها هنا درست وإنما هي درست وقال شعبة : حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال : هي في قراءة ابن مسعود درست يعني بغير ألف بنصب السين ووقف على التاء قال ابن جرير : ومعناه انمحت وتقادمت أي أن هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديما وتطاولت مدته وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أنه قرأها درست أي قرأت وتعلمت وقال معمر عن قتادة : درست قرأت وفي حرف ابن مسعود : درس وقال عبيد القاسم بن سلام : حدثنا حجاج عن هارون قال : هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود وليقولوا درس قال يعنون النبي صلى الله عليه و سلم أنه قرأ وهذا غريب فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن ليث حدثنا أبو سلمة حدثنا أحمد بن أبي بزة المكي حدثنا وهب بن زمعة عن أبيه عن حميد الأعرج عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم { وليقولوا درست } ورواه الحاكم في مستدركه من حديث وهب بن زمعة وقال : يعني بجزم السين ونصب التاء ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه (2/218)
يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه و سلم ولمن اتبع طريقته { اتبع ما أوحي إليك من ربك } اي اقتد به واقتف أثره واعمل به فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه لأنه لا إله إلا هو { وأعرض عن المشركين } أي اعف عنهم واصفح واحتمل أذاهم حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم واعلم أن لله حكمة في إضلالهم فإنه لو شاء لهدى الناس جميعا ولو شاء لجمعهم على الهدى { ولو شاء الله ما أشركوا } أي بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقوله تعالى : { وما جعلناك عليهم حفيظا } أي حافظا تحفظ أقوالهم وأعمالهم { وما أنت عليهم بوكيل } أي موكل على أرزاقهم وأمورهم إن عليك إلا البلاغ كما قال تعالى : { فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر } وقال { إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } (2/220)
يقول الله تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين وهو الله لا إله إلا هو كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم { فيسبوا الله عدوا بغير علم } وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله عدوا بغير علم فأنزل الله { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في تفسيره هذه الاية لما حضر أبا طالب الموت : قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه
فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب قالوا : استأذن لنا على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك فأذن لهم عليه فدخلوا عليه فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما تريدون ؟ ] قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم وأدت لكم الخراج ] قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قالوا : فما هي ؟ قال قولوا [ لا إله إلا الله ] فأبوا واشمأزوا قال أبو طالب : يا ابن أخي قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها قال [ يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها ] إرادة أن يؤيسهم فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فذلك قوله { فيسبوا الله عدوا بغير علم } ومن هذا القبيل وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ملعون من سب والديه ] قالوا : يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال [ يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] أو كما قال صلى الله عليه و سلم وقوله { كذلك زينا لكل أمة عملهم } أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم والمحاماة لها والانتصار كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه ولله الحجة البالغة والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره { ثم إلى ربهم مرجعهم } أي معادهم ومصيرهم { فينبئهم بما كانوا يعملون } أي يجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر (2/220)
يقول تعالى إخبارا عن المشركين أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم أي حلفوا أيمانا مؤكدة { لئن جاءتهم آية } أي معجزة وخارقة { ليؤمنن بها } أي ليصدقنها { قل إنما الآيات عند الله } أي قل : يا محمد هؤلاء الذين يسألونك الايات تعنتا وكفرا وعنادا لا على سبيل الهدى والاسترشاد إنما مرجع هذه الايات إلى الله إن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم قال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا يونس بن بكير حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم قريش فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى وتخبرنا أن ثمود كان لهم ناقة فآتنا من الايات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أي شيء تحبون أن آتيكم به ] قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا فقال لهم [ فإن فعلت تصدقوني ؟ ] قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال له : ما شئت إن شئت أصبح الصفا ذهبا ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بل يتوب تائبهم ] فأنزل الله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } إلى قوله تعالى : { ولكن أكثرهم يجهلون } وهذا مرسل وله شواهد من وجوه أخر
وقال الله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } الاية وقوله تعالى : { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } قيل المخاطب بما يشعركم المشركون وإليه ذهب مجاهد وكأنه يقول لهم وما يدريكم بصدقكم في هذه الأيمان التي تقسمون بها وعلى هذا فالقراءة { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } بكسر أنها استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عن مجيء الايات التي طلبوها وقرأ بعضهم { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } بالتاء المثناة من فوق وقيل المخاطب بقوله وما يشعركم المؤمنون يقول وما يدريكم أيها المؤمنون وعلى هذا فيجوز في قوله { أنها } الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم وعلى هذا فتكون لا في قوله { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } صلة كقوله { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } وقوله { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } أي ما منعك أن تسجد إذ أمرتك وحرام أنهم يرجعون وتقديره في هذه الاية وما يدريكم أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك حرصا على إيمانهم أنها إذا جاءتهم الايات يؤمنون قال بعضهم أنها بمعنى لعلها قال ابن جرير : وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب قال : وقد ذكر عن العرب سماعا اذهب إلى السوق أنك تشتري لنا شيئا بمعنى لعلك تشتري قال وقد قيل إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا :
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
وقد اختار هذا القول ابن جرير وذكر عليه من شواهد أشعار العرب والله أعلم وقوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } قال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر وقال مجاهد في قوله { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة وكذا قال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه وقال { ولا ينبئك مثل خبير } جل وعلا وقال { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } إلى قوله { لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى وقال : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } وقال تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } وقال : ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا وقوله { ونذرهم } أي نتركهم { في طغيانهم } قال ابن عباس والسدي : في كفرهم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة : في ضلالهم { يعمهون } قال الأعمش : يلعبون وقال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والربيع وأبو مالك وغيره : في كفرهم يترددون (2/221)
يقول تعالى : ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتم آية ليؤمنن بها فنزلنا عليهم الملائكة تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل كما سألوا فقالوا { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } و { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا } { وكلمهم الموتى } أي فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل { وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } قرأ بعضهم قبلا بكسر القاف وفتح الباء من المقابلة والمعاينة وقرأ آخرون بضمهما قيل معناه من المقابلة والمعاينة أيضا كما رواه علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال مجاهد قبلا أي أفواجا قبيلا قبيلا أي تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فيخبرونهم بصدق الرسل فيما جاءوهم به { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } أي أن الهداية إليه لا إليهم بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الفعال لما يريد { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } لعلمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته وهذه الاية كقوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } (2/223)
يقول تعالى : وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يحزنك ذلك كما قال تعالى : { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا } الاية وقال تعالى : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } وقال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } الاية وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وقوله { شياطين الإنس والجن } بدل من { عدوا } أي لهم أعداء من شياطين الإنس والجن والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم الله ولعنهم قال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله { شياطين الإنس والجن } قال من الجن شياطين ومن الإنس شياطين يوحي بعضهم إلى بعض قال قتادة : وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن ] فقال : أو إن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نعم ] وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر رضي الله عنه قال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة عن ابن عائذ عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس قال فقال [ يا أبا ذر هل صليت ] قلت : لا يا رسول الله قال [ قم فاركع ركعتين ] قال : ثم جئت فجلست إليه فقال [ يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شياطين الإنس والجن ] قال : قلت : لا يا رسول الله وهل للإنس من شياطين ؟ قال [ نعم هم شر من شياطين الجن ] وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا
كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا المسعودي أنبأنا أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد فجلست فقال [ يا أبا ذر هل صليت ؟ ] قلت : لا قال [ قم فصل ] قال : فقمت فصليت ثم جلست فقال [ يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن ] قال : قلت : يا رسول الله وللإنس شياطين ؟ قال [ نعم ] وذلك تمام الحديث بطوله وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث جعفر بن عون ويعلى بن عبيد وعبيد الله بن موسى ثلاثتهم عن المسعودي به
( طريق أخرى عن أبي ذر ) قال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا الحجاج حدثنا حماد عن حميد بن هلال حدثني رجل من أهل دمشق عن عوف بن مالك عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن ] قال : قلت : يا رسول الله هل للإنس من شياطين ؟ قال [ نعم ]
( طريق أخرى للحديث ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا أبو المغيرة حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا أبا ذر تعوذت من شياطين الإنس والجن ] قال : قلت يا رسول وهل للإنس شياطين ؟ قال [ نعم ] { شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته والله أعلم قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو نعيم عن شريك عن سعيد بن مسروق عن عكرمة { شياطين الإنس والجن } قال : ليس من الإنس شياطين ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن قال : وحدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا إسرائيل عن السدي عن عكرمة في قوله { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } قال : للأنسي شيطان وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقال أسباط عن السدي عن عكرمة في قوله { يوحي بعضهم إلى بعض } : أما شياطين الإنس فالشياطين التي تضل الإنس وشياطين الجن التي تضل الجن يلتقيان فيقول كل واحد منهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضل أنت صاحبك بكذا وكذا فيعلم بعضهم بعضا ففهم ابن جرير من هذا أن المراد بشياطين الإنس عند عكرمة والسدي الشياطين من الجن الذين يضلون الناس لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عكرمة وأما كلام السدي فليس مثله في هذا المعنى وهو محتمل وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا عن ابن عباس من رواية الضحاك عنه قال : إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم قال : فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن فيقول هذا لهذا أضلله بكذا فهو قوله { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر إن للإنس شياطين منهم وشيطان كل شيء مارده ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ الكلب الأسود شيطان ] ومعناه والله أعلم ـ شيطان في الكلاب وقال ابن جريج : قال مجاهد : في تفسير هذه الاية كفار الجن شياطين يوحون إلى شياطين الإنس كفار الإنس زخرف القول غرورا
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل قال : فقال لي : اخرج إلى الناس فحدثهم قال : فخرجت فجاء رجل فقال : ما تقول في الوحي فقلت : الوحي وحيان قال الله تعالى : { بما أوحينا إليك هذا القرآن } وقال تعالى : { شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } قال فهموا بي أن يأخذوني فقلت لهم : ما لكم ذاك إني مفتيكم وضيفكم فتركوني وإنما عرض عكرمة بالمختار وهو ابن أبي عبيد قبحه الله وكان يزعم أنه يأتيه الوحي وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال : صدق قال الله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } وقوله تعالى : { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره { ولو شاء ربك ما فعلوه } أي وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء { فذرهم } أي فدعهم { وما يفترون } أي يكذبون أي دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم فإن الله كافيك وناصرك عليهم وقوله تعالى : { ولتصغى إليه } أي ولتميل إليه قاله ابن عباس { أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم وقال السدي : قلوب الكافرين { وليرضوه } أي يحبوه ويريدوه وإنما يستجيب ذلك من لا يؤمن بالاخرة كما قال تعالى : { فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم } وقال تعالى : { إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك } وقوله { وليقترفوا ما هم مقترفون } قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس وليكتسبوا ما هم مكتسبون وقال السدي وابن زيد : وليعملوا ما هم عاملون (2/223)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره { أفغير الله أبتغي حكما } أي بيني وبينكم { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } أي مبينا { والذين آتيناهم الكتاب } أي من اليهود والنصارى { يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } أي بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين { فلا تكونن من الممترين } كقوله { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } وهذا شرط والشرط لا يقتضي وقوعه ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لا أشك ولاأسأل ] وقوله تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } قال قتادة : صدقا فيما قال وعدلا فيم حكم يقول صدقا في الأخبار وعدلا في الطلب فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه وكل ما نهى عنه فباطل فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة كما قال تعالى : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } إلى آخر الاية { لا مبدل لكلماته } أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الاخرة { وهو السميع } لأقوال عباده { العليم } بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله (2/225)
يخبر تعالى : عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال كما قال تعالى : { ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين } وقال تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } فإن الخرص هو الجزر ومنه خرص النخل وهو جزر ما عليها من التمر وذلك كله عن قدر الله ومشيئته { هو أعلم من يضل عن سبيله } فييسره لذلك { وهو أعلم بالمهتدين } فييسرهم لذلك وكل ميسر لما خلق له (2/226)
هذا إباحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه ومفهومه أنه لا يباح مالم يذكر اسم الله عليه كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه فقال { وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } أي قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه قرأ بعضهم فصل بالتشديد وقرأ آخرون بالتخفيف والكل بمعنى البيان والوضوح { إلا ما اضطررتم إليه } أي إلا في حال الاضطرار فإنه يباح لكم ما وجدتم ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى فقال { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين } أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم (2/226)
قال مجاهد { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } المعصية في السر والعلانية وفي رواية عنه هو ما ينوي مما هو عامل وقال قتادة { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } أي سره وعلانيته قليلة وكثيرة وقال السدي : ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان وقال عكرمة : ظاهره نكاح ذوات المحارم والصحيح أن الاية عامة في ذلك كله وهي كقوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } الاية ولهذا قال تعالى : { إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } أي سواء كان ظاهرا أو خفيا فإن الله سيجزيهم عليه قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الإثم فقال [ الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه ] (2/226)
استدل بهذه الاية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة وسواء متروك التسمية عمدا أو سهوا وهو مروي عن ابن عمر ونافع مولاه وعامر الشعبي ومحمد بن سيرين وهو رواية عن الإمام مالك ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه [ الأربعين ] واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الاية وبقوله في آية الصيد { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } ثم قد أكد في هذه الاية بقوله { وإنه لفسق } والضمير قيل عائد على الأكل وقيل عائد على الذبح لغير الله وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك ] وهما في الصحيحين وحديث رافع بن خديج [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ] وهو في الصحيحين أيضا وحديث ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للجن [ لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه ] رواه مسلم وحديث جندب بن سفيان البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله ] أخرجاه وعن عائشة رضي الله عنها : أن ناسا قالوا : يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال [ سموا عليه أنتم وكلوا ] قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر رواه البخاري ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد والله أعلم
والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية بل هي مستحبة فإن تركت عمدا أو نسيانا لا يضر وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وجميع أصحابه ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل نقلت عنه وهو رواية عن الإمام مالك ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه وحكي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح والله أعلم وحمل الشافعي الاية الكريمة { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى : { أو فسقا أهل لغير الله به } وقال ابن جريج عن عطاء { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان وينهى عن ذبائح المجوس وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل الواو في قوله { وإنه لفسق } حالية أي : لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقا ولا يكون فسقا حتى يكون قد أهل به لغير الله ثم ادعى أن هذا متعين ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية على جملة فعلية طلبية وهذا ينتقض عليه بقوله { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } فإنها عاطفة لا محالة فإن كانت الواو التي ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال امتنع عطف هذه عليها فإن عطفت على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره وإن لم تكن الواو حالية بطل ما قال من أصله والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أنبأنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الاية { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } قال : هي الميتة
ثم رواه عن أبي زرعة عن يحيى بن أبي كثير عن ابن لهيعة عن عطاء وهو ابن السائب به وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل : من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسي مولى سويد بن منجوف أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثقات قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله ] وهذ مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : [ إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله ] واحتج البيهقي أيضا بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم أن ناسا قالوا : يا رسول الله إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال [ سموا أنتم وكلوا ] قال : فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها والله أعلم
المذهب الثالث في المسألة : إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر وإن تركها عمدا لم تحل هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه : وهو محكي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والحسن البصري وأبي مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة بن أبي عبد الرحمن ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني في كتابه [ الهداية ] الإجماع قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدا فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ : لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفة الإجماع وهذا الذي قاله غريب جدا وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي والله أعلم
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : من حرم ذبيحة الناس فقد خرج من قول جميع الحجة وخالف الخير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا أبو أمية الطرسوسي حدثنا محمد بن يزيد حدثنا معقل بن عبيد الله عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله ] وهذا الحديث رفعه خطأ أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري فإنه وإن كان من رجال مسلم إلا أن سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي روياه : عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن أبي الشعثاء عن عكرمة عن ابن عباس من قوله فزادا في إسناده أبا الشعثاء ووقفاه وهذا أصح نص عليه البيهقي وغيره من الحفاظ ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين أنهما كرها متروك التسمية نسيانا والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيرا والله أعلم إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور فيعده إجماعا فليعلم هذا والله الموفق
قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو أسامة عن جهير بن يزيد قال : سئل الحسن سأله رجل : أتيت بطير كذا فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه واختلط الطير فقال الحسن كله كله قال : وسألت محمد بن سيرين فقال : قال الله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي ذر وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وفيه نظر والله أعلم وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي من حديث مروان بن سالم القرقساني عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ اسم الله على كل مسلم ] ولكن هذا إسناده ضعيف فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي ضعيف تكلم فيه غير واحد من الأئمة والله أعلم وقد أفردت هذه المسألة على حدة وذكرت مذاهب الأئمة ومأخذهم وأدلتهم ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات والله أعلم
قال ابن جرير : وقد اختلف أهل العلم في هذه الاية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عنيت به وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال الله { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين } وقال { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } فنسخ واستثنى من ذلك فقال { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } وقال ابن أبي حاتم : قرى على العباس بن الوليد بن يزيد حدثنا محمد بن شعيب أخبرني النعمان يعني ابن المنذر عن مكحول قال : أنزل الله في القرآن { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب ثم قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم مالم يذكر اسم الله عليه وهذا الذي قاله صحيح ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص والله سبحانه وتعالى أعلم
وقوله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال : قال رجل لابن عمر إن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال : صدق وتلا هذه الاية { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } وحدثنا أبي : حدثنا أبو حذيفة حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل قال : كنت قاعدا عند ابن عباس وحج المختار بن أبي عبيد فجاءه رجل فقال : يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة فقال ابن عباس : صدق فنفرت وقلت يقول ابن عباس : صدق ؟ فقال ابن عباس : هما وحيان : وحي الله ووحي الشيطان فوحي الله إلى محمد صلى الله عليه و سلم ووحي الشيطان إلى أوليائه ثم قرأ { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } وقد تقدم عن عكرمة في قوله { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } نحو هذا
وقوله { ليجادلوكم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال : خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله فأنزل الله { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } هكذا رواه مرسلا ورواه أبو داود متصلا فقال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله فأنزل الله { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } الاية وكذا رواه ابن جرير : عن محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع كلاهما عن عمران بن عيينة به
ورواه البزار عن محمد بن موسى الجرشي عن عمران بن عيينة به وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة : ( أحدها ) أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا ( الثاني ) أن الاية من الأنعام وهي مكية ( الثالث ) أن هذا الحديث رواه الترمذي عن محمد بن موسى الجرشي عن زياد بن عبد الله البكائي عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ورواه الترمذي بلفظ أتى ناس النبي صلى الله عليه و سلم فذكره وقال حسن غريب وروي عن سعيد بن جبير مرسلا وقال الطبراني : حدثنا علي بن المبارك حدثنا زيد بن المبارك حدثنا موسى بن عبد العزيز حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا وقولوا له : فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله عز و جل بشمشير من ذهب يعني الميتة فهو حرام ؟ فنزلت هذه الاية { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } أي وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم فكلوه فأنزل الله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم عن عمرو بن عبد الله عن وكيع عن إسرائيل به وهذا إسناد صحيح ورواه ابن جرير من طرق متعددة عن ابن عباس وليس فيه ذكر اليهود فهذا هو المحفوظ لأن الاية مكية واليهود لا يحبون الميتة وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } إلى قوله { ليجادلوكم } قال : يوحي الشياطين إلى أوليائهم تأكلون مما قتلتم ولا تأكلوا مما قتل الله ؟ وفي بعض ألفاظه عن ابن عباس أن الذي قتلتم ذكر اسم الله عليه وأن الذي قد مات لم يذكر اسم الله عليه
وقال ابن جريج : قال عمرو بن دينار عن عكرمة أن مشركي قريش كاتبو فارس على الروم وكاتبتهم فارس فكتبت فارس إليهم : إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكلونه وما ذبحوه هم يأكلونه فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله { وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } ونزلت { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وقال السدي : في تفسير هذه الاية : إن المشركين قالوا للمسلمين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله فما قتل الله فلا تأكلونه وما ذبحتم أنتم تأكلونه ؟ فقال الله تعالى : { وإن أطعتموهم } فأكلتم الميتة { إنكم لمشركون } وهكذا قاله مجاهد والضحاك وغير واحد من علماء السلف
وقوله تعالى : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك كقوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } الاية وقد روى الترمذي : في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم فقال [ بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ] (2/227)
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا أي في الضلالة هالكا حائرا فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله { وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به والنور هو القرآن كما رواه العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس وقال السدي الإسلام والكل صحيح { كمن مثله في الظلمات } أي الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة { ليس بخارج منها } أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ] كما قال تعالى : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقال تعالى : { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم } وقال تعالى : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون } وقال تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير } والايات في هذا كثيرة ووجه المناسبة في ضرب المثلين ههنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة { وجعل الظلمات والنور } وزعم بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان فقيل عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتا فأحياه الله وجعل له نورا يمشي به في الناس وقيل عمار بن ياسر وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها ابو جهل عمرو بن هشام لعنه الله والصحيح أن الاية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر
وقوله تعالى : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } أي حسنا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة قدرا من الله وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له (2/231)
يقول تعالى وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين ورؤوساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله وإلى مخالفتك وعداوتك كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ثم تكون لهم العاقبة كما قال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } الاية وقال تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } الاية قيل معناه : أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمرناهم قيل : أمرناهم أمرا قدريا كما قال ههنا { ليمكروا فيها } وقوله تعالى : { أكابر مجرميها ليمكروا فيها } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس { أكابر مجرميها ليمكروا فيها } قال : سلطنا شرارهم فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب
وقال مجاهد وقتادة { أكابر مجرميها } عظماؤها قلت : وهكذا قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } وقال تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } والمراد بالمكر ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله تعالى إخبارا عن قوم نوح { ومكروا مكرا كبارا } وقوله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان قال : كل مكر في القرآن فهو عمل وقوله تعالى : { وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } أي وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم كما قال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } وقال { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون } وقوله تعالى : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } أي إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة قالوا { لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل كقوله جل وعلا { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } الاية
وقوله { الله أعلم حيث يجعل رسالته } أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه كقوله تعالى : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك } الاية يعنون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم { من القريتين } أي من مكة والطائف وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كقوله تعالى مخبرا عنه : { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا } وقال تعالى : { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون } وقال تعالى : { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه وطهارة بيته ومرباه ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه [ الأمين ] وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم : وكيف نسبه فيكم ؟ قال : هو فينا ذو نسب قال هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا ـ الحديث بطوله الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مصعب حدثنا الأوزاعي عن شداد أبي عمار عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ] انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام به نحوه وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال : قال العباس : بلغه صلى الله عليه و سلم بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فقال [ من أنا ؟ ] قالوا أنت رسول الله فقال [ أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا ] صدق صلوات الله وسلامه عليه وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ] رواه الحاكم والبيهقي
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر حدثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه و سلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه و سلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيء وقال أحمد : حدثنا شجاع بن الوليد قال : ذكر قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك ] قلت : يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله ؟ قال [ تبغض العرب فتبغضني ] وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الاية ذكر عن محمد بن منصور الجواز حدثنا سفيان عن أبي حسين قال : أبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه فقال : من هذا ؟ قالوا ابن عباس ابن عم رسول لله صلى الله عليه و سلم فقال [ الله أعلم حيث يجعل رسالته ]
وقوله تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد } الاية هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاؤوا به فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار وهو الذلة الدائمة لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلا يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا كقوله تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أي صاغرين ذليلين حقيرين وقوله تعالى : { وعذاب شديد بما كانوا يمكرون } لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا وهو التلطف في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا { ولا يظلم ربك أحدا } كما قال تعالى : { يوم تبلى السرائر } أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر وجاء في الصحيحين عن رسول لله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان بن فلان ] والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل (2/232)
يقول تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } أي ييسره له وينشطه ويسهله لذلك فهذه علامات على الخير كقوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } الاية وقال تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } وقال ابن عباس رضي الله عنهما : في قوله { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } يقول تعالى : يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وكذا قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر
وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي المؤمنين أكيس ؟ قال [ أكثرهم ذكرا للموت وأكثرهم لما بعده استعدادا ] قال : وسئل النبي صلى الله عليه و سلم عن هذه الاية { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال [ نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح ] قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال [ الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت ] وقال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا قبيصة عن سفيان يعني الثوري عن عمرو بن مرة عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن قال : سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن قول الله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } فذكر نحو ما تقدم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن الحسن بن الفرات القزاز عن عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح ] قالوا : يا رسول الله هل لذلك من أمارة ؟ قال [ نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت ] وقد رواه ابن جرير : عن سوار بن عبد الله العنبري حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة عن أبي جعفر فذكره
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن المسور قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الاية { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } قالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح ؟ قال [ نور يقذف به في القلب ] قالوا : يا رسول الله فهل لذلك من أمارة تعرف ؟ قال [ نعم ] قالوا : وما هي ؟ قال [ الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت ]
وقال ابن جرير أيضا : حدثني هلال بن العلاء حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله [ إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح ] قالوا : فهل لذلك من علامة يعرف بها ؟ قال [ الإنابة إلى دار الخلود والتنحي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت ] وقد رواه من وجه آخر عن ابن مسعود متصلا مرفوعا فقال : حدثني ابن سنان القزاز حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي عن يونس عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } قالوا : يا رسول الله وكيف يشرح صدره ؟ قال [ يدخل فيه النور فينفسح ] قالوا : وهل لذلك علامة يا رسول الله ؟ قال [ التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت ] فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا والله أعلم
وقوله تعالى : { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } قرىء بفتح الضاد وتسكين الياء والأكثرون ضيقا بتشديد الياء وكسرها وهما لغتان كهين وهين وقرأ بعضهم حرجا بفتح الحاء وكسر الراء قيل بمعنى آثم قاله السدي وقيل : بمعنى القراءة الأخرى حرجا بفتح الحاء والراء وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه
وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة فقال : هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير وقال العوفي : عن ابن عباس يجعل الله عليه الإسلام ضيقا والإسلام واسع وذلك حين يقول { ما جعل عليكم في الدين من حرج } يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق وقال مجاهد والسدي : ضيقا حرجا شاكا وقال عطاء الخراساني : ضيقا حرجا أي ليس للخير فيه منفذ وقال ابن المبارك عن ابن جريج : ضيقا حرجا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخل قلبه { كأنما يصعد في السماء } من شدة ذلك عليه وقال سعيد بن جبير : يجعل صدره ضيقا حرجا قال : لا يجد فيه مسلكا إلا صعدا وقال السدي { كأنما يصعد في السماء } من ضيق صدره
وقال عطاء الخراساني { كأنما يصعد في السماء } يقول مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء وقال الحكم بن أبان : عن عكرمة عن ابن عباس { كأنما يصعد في السماء } يقول : فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله في قلبه وقال الأوزاعي { كأنما يصعد في السماء } كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه يقول : فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه لأنه ليس في وسعه وطاقته وقال : في قوله { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } يقول : كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل الله وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : الرجس الشيطان وقال مجاهد : الرجس : كل مالا خير فيه وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرجس العذاب (2/234)
لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها نبه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق فقال تعالى : { وهذا صراط ربك مستقيما } منصوب على الحال أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم كما تقدم في حديث الحارث عن علي في نعت القرآن : هو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين وهو الذكر الحكيم رواه أحمد والترمذي بطوله { قد فصلنا الآيات } أي وضحناها وبيناها وفسرناها { لقوم يذكرون } أي لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله { لهم دار السلام } وهي الجنة { عند ربهم } أي يوم القيامة وإنما وصف الله الجنة ههنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام { وهو وليهم } أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم { بما كانوا يعملون } أي جزاء على أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه (2/236)
يقول تعالى واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به { ويوم يحشرهم جميعا } يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا { يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } أي ثم يقول : يا معشر الجن وسياق الكلام يدل على المحذوف ومعنى قوله { قد استكثرتم من الإنس } أي من إغوائهم وإضلالهم كقوله تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } يعني أضللتم منهم كثيرا وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة { وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض } يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا : مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن الحسن في هذه الاية قال استكثرتم من أهل النار يوم القيامة فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض قال الحسن وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس وقال محمد بن كعب في قوله { ربنا استمتع بعضنا ببعض } قال الصحابة : في الدنيا
وقال ابن جريج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم فيقولون : قد سدنا الإنس والجن { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } قال السدي : يعني الموت { قال النار مثواكم } أي مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم { خالدين فيها } أي ماكثين فيها مكثا مخلدا إلا ما شاء الله قال بعضهم : يرجع معنى الاستثناء إلى البرزخ وقال بعضهم : هذا رد إلى مدة الدنيا وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها عند قوله تعالى في سورة هود { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيره هذه الاية من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي حاتم بن أبي طلحة عن ابن عباس قال { النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } قال : إن هذه الاية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا (2/236)
قال سعيد عن قتادة في تفسيرها : إنما يولي الله الناس بأعمالهم فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي واختاره ابن جرير وقال معمر عن قتادة في تفسير الاية : يولي الله بعض الظالمين بعضا في النار يتبع بعضهم بعضا وقال مالك بن دينار : قرأت في الزبور إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين ثم أنتقم من المنافقين جميعا وذلك في كتاب الله قول الله تعالى : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في قوله { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } قال : ظالمي الجن وظالمي الإنس وقرأ { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } قال : ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد من طريق سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن ذر عن ابن مسعود مرفوعا [ من أعان ظالما سلطه الله عليه ] وهذا حديث غريب وقال بعض الشعراء :
وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
ومعنى الاية الكريمة كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن كذلك نفعل بالظالمين نسلط بعضهم على بعض ونهلك بعضهم ببعض وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم (2/237)
وهذا أيضا مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة حيث يسألهم وهو أعلم هل بلغتهم الرسل رسالاته ؟ وهذا استفهام تقرير { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف وقال ابن عباس : الرسل من بني آدم ومن الجن نذر وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم : أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج بهذه الاية الكريمة وفيه نظر لأنها محتملة وليست بصريحة وهي ـ والله أعلم ـ كقوله { مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان } إلى أن قال { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو وهذا واضح ولله الحمد وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن جرير والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }
وقوله تعالى : عن إبراهيم { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته ولم يقل أحد من الناس : إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل ثم انقطعت عنهم ببعثته وقال تعالى : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } وقال { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب ولهذا قال تعالى إخبارا عنهم { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين } وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى : { سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان }
وقال تعالى في هذه الاية الكريمة { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا } أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك وأن هذا اليوم كائن لا محالة وقال تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا } أي وقد فرطوا في حياتهم الدنيا وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها { وشهدوا على أنفسهم } أي يوم القيامة { أنهم كانوا كافرين } أي في الدنيا بما جاءتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم (2/238)
يقول تعالى : { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة ولكن أعذرنا إلى الأمم وما عذنبا أحدا إلا بعد إرسال الرسل إليهم كما قال تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } كقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا } والايات في هذا كثيرة
قال الإمام أبو جعفر بن جرير : ويحتمل قوله تعالى : { بظلم } وجهين ( أحدهما ) { ذلك } من أجل { أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون ويقول : إن لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولا ينبههم على حجج الله عليهم ينذرهم عذاب الله يوم معادهم ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير ( والوجه الثاني ) { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } يقول : لم يكن ربك ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والايات والعبر فيظلمهم بذلك والله غير ظلام لعبيده ثم شرع يرجح الوجه الأول ولا شك أنه أقوى والله أعلم
قال : وقوله تعالى : { ولكل درجات مما عملوا } أي ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلغه الله إياها ويثيبه بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ( قلت ) ويحتمل أن يعود قوله { ولكل درجات مما عملوا } أي من كافري الجن والإنس أي ولكل درجة في النار بحسبه كقوله { قال لكل ضعف } وقوله { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } { وما ربك بغافل عما يعملون } قال ابن جرير : أي وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه (2/239)
يقول تعالى : { وربك } يا محمد { الغني } أي عن جميع خلقه من جميع الوجوه وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم { ذو الرحمة } أي وهو مع ذلك رحيم بهم كما قال تعالى : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } { إن يشأ يذهبكم } أي إذا خالفتم أمره { ويستخلف من بعدكم ما يشاء } أي قوما آخرين أي يعملون بطاعته { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } أي هو قادر على ذلك سهل عليه يسير لديه كما أذهب القرون الأولى وأتى بالذي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين كما قال تعالى : { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا } وقال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز }
قال تعالى : { والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } وقال محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبه قال : سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الاية { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } الذرية الأصل والذرية النسل وقوله تعالى : { إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين } أي أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة { وما أنتم بمعجزين } أي ولا تعجزون الله بل هو قادر على إعادتكم وإن صرتم ترابا رفاتا وعظاما هو قادر لا يعجزه شيء وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها : حدثني أبي حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن حمير عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى والذي نفسي بيده إنما توعدون لات وما أنتم بمعجزين ]
وقوله تعالى : { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون } هذا تهديد شديد ووعيد أكيد أي استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي كقوله { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { على مكانتكم } ناحيتكم { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون } أي أتكون لي أو لكم وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه أي فإنه تعالى مكنه في البلاد وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد وفتح له مكة وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه واستقر أمره على سائر جزيرة العرب وكذلك اليمن والبحرين وكل ذلك في حياته ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين كما قال الله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وقال { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } وقال تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون }
وقال تعالى إخبارا عن رسله { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } وقال تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } الاية وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولا وآخرا وظاهرا وباطنا (2/239)
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعا وكفرا وشركا وجعلوا لله شركاء وجزءا من خلقه وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى ولهذا قال تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ } أي مما خلق وبرأ { من الحرث } أي من الزرع والثمار { والأنعام نصيبا } أي جزءا وقسما { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } وقوله { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال : في تفسير هذه الاية إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمر الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله فقال الله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } الاية وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الاية : كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الالهة وما كان للالهة لم يذكروا اسم الله معه وقرأ الاية حتى بلغ { ساء ما يحكمون } أي ساء ما يقسمون فإنهم أخطأوا أولا في القسم لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه وله الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته لا إله غيره ولا رب سواه ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها كقوله جل وعلا : { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } وقال تعالى : { وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين } وقال تعالى : { ألكم الذكر وله الأنثى } وقوله { تلك إذا قسمة ضيزى } (2/240)
يقول تعالى : وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم وقال مجاهد : شركاؤهم شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة وقال السدي : أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات إما ليردوهم فيهلكوهم وإما ليلبسوا عليهم دينهم أي فيخلطوا عليهم دينهم ونحو ذلك
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقتادة : وهذا كقوله تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به } الاية وكقوله { وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت } وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق وهو الفقر أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تلف المال وقد نهاهم عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من تزيين الشياطين وشرعهم ذلك قوله تعالى : { ولو شاء الله ما فعلوه } أي كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونا وله الحكمة التامة في ذلك فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون { فذرهم وما يفترون } أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه فسيحكم الله بينك وبينهم (2/241)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا وكذلك قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وقال قتادة { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد ولم يكن من الله تعالى وقال ابن زيد بن أسلم { حجر } إنما احتجروها لالهتهم وقال السدي { لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم } يقولون حرام أن يطعم إلا من شئنا وهذه الاية الكريمة كقوله تعالى : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } وكقوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } وقال السدي أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها لا إذا ولدوها ولا إن نحروها
وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود : قال لي أبو وائل أتدري ما في قوله { وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } قلت لا قال هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها وقال مجاهد كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا ولا إن عملوا شيئا { افتراء عليه } أي على الله وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم { سيجزيهم بما كانوا يفترون } أي عليه ويسندون إليه (2/242)
قال أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا } الاية قال اللبن وقال العوفي عن ابن عباس { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا } فهو اللبن كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه وكان للرجال دون النساء وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء فنهى الله عن ذلك وكذا قال السدي
وقال الشعبي البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء وكذا قال عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
وقال مجاهد في قوله { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } قال هي السائبة والبحيرة وقال أبو العالية ومجاهد وقتادة في قول الله : { سيجزيهم وصفهم } أي قولهم الكذب في ذلك يعني كقوله تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع } الاية { إنه حكيم } أي في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره { عليم } بأعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم عليها أتم الجزاء (2/242)
يقول تعالى قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والاخرة أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم وضيقوا عليهم في أموالهم فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وأما في الاخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم كقوله تعالى : { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن أيوب حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } وهكذا رواه البخاري منفردا في كتاب مناقب قريش من صحيحه عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم عن أبي عوانة واسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري عن أبي بشر واسمه جعفر بن أبي وحشية بن إياس به (2/243)
يقول تعالى مبينا أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة وقسموها وجزؤوها فجعلوا منها حراما وحلالا فقال { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : معروشات مسموكات وفي رواية فالمعروشات ما عرش الناس وغير معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : معروشات ما عرش من الكرم وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم وكذا قال السدي وقال ابن جريج متشابها وغير متشابه قال : متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم وقال محمد بن كعب { كلوا من ثمره إذا أثمر } قال : من رطبه وعنبه وقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } قال ابن جرير : قال بعضهم هي الزكاة المفروضة حدثنا عمرو حدثنا عبد الصمد حدثنا يزيد بن درهم قال : سمعت أنس بن مالك يقول { وآتوا حقه يوم حصاده } قال : الزكاة المفروضة
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وآتوا حقه يوم حصاده } يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله وكذا قال سعيد بن المسيب وقال العوفي عن ابن عباس { وآتوا حقه يوم حصاده } وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئا فقال الله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد وما يلقط الناس من سنبله وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من كل جاذ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين وهذا إسناد جيد قوي وقال طاوس وأبو الشعثاء وقتادة والحسن والضحاك وابن جريج : هي الزكاة وقال الحسن البصري : هي الصدقة من الحب والثمار وكذا قال زيد بن أسلم وقال آخرون : وهو حق آخر سوى الزكاة وقال أشعث : عن محمد بن سيرين ونافع عن ابن عمر في قوله { وآتوا حقه يوم حصاده } قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة رواه ابن مردويه وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قوله { وآتوا حقه يوم حصاده } قال : يعطي من حضره يومئذ ما تيسر وليس بالزكاة وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد { وآتوا حقه يوم حصاده } قال : عند الزرع يعطي القبضة وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم فيتبعون آثار الصرام وقال الثوري : عن حماد عن إبراهيم النخعي قال : يعطي مثل الضغث وقال ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد بن جبير { وآتوا حقه يوم حصاده } قال : كان هذا قبل الزكاة للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته وفي حديث ابن لهيعة : عن دراج عن أبي الهيثم عن سعيد مرفوعا { وآتوا حقه يوم حصاده } قال [ ما سقط من السنبل ] رواه ابن مردويه وقال آخرون : هذا شيء كان واجبا ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر حكاه ابن جرير عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية وإبراهيم النخعي والحسن والسدي وعطية العوفي وغيرهم واختاره ابن جرير رحمه الله قلت : وفي تسمية هذا نسخا نظر لأنه قد كان شيئا واجبا في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة فالله أعلم
وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة [ ن ] { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم } أي كالليل المدلهم سوداء محترقة { فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين * فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين * وغدوا على حرد } أي قوة وجلد وهمة { قادرين * فلما رأوها قالوا إنا لضالون * بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين * عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون * كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون }
وقوله تعالى : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } قيل معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف وقال أبو العالية : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا ثم تباروا فيه وأسرفوا فأنزل الله { ولا تسرفوا } وقال ابن جريج : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذ نخلا له فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فأنزل الله تعالى : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } رواه ابن جرير عنه وقال ابن جريج عن عطاء : نهوا عن السرف في كل شيء وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وقال السدي في قوله { ولا تسرفوا } قال : لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب في قوله { ولا تسرفوا } قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم ثم اختار ابن جرير قول عطاء أنه نهي عن الإسراف في كل شيء ولا شك أنه صحيح لكن الظاهر والله أعلم من سياق الاية حيث قال تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا } أن يكون عائدا على الأكل أي لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن كقوله تعالى : { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } الاية
وفي صحيح البخاري تعليقا [ كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة ] وهذا من هذا والله أعلم وقوله عز و جل { ومن الأنعام حمولة وفرشا } أي وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش قيل المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل والفرش الصغار منها كما قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله : حمولة ما حمل عليه من الإبل وفرشا الصغار من الإبل رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال ابن عباس : الحمولة هي الكبار والفرش الصغار من الإبل وكذا قال مجاهد وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ومن الأنعام حمولة وفرشا } أما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه وأما الفرش فالغنم واختاره ابن جرير قال : وأحسبه إنما سمي فرشا لدنوه من الأرض وقال الربيع بن أنس والحسن والضحاك وقتادة وغيره : الحمولة الإبل والبقر والفرش الغنم وقال السدي : أما الحمولة فالإبل وأما الفرش فالفصلان والعجاجيل والغنم وما حمل عليه فهو حمولة وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الحمولة ما تركبون والفرش ما تأكلون وتحلبون شاة لا تحمل تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافا وفرشا وهذا الذي قاله عبد الرحمن : في تفسير هذه الاية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } وقال تعالى : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين } إلى أن قال { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين }
وقال تعالى : { الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون } وقوله تعالى : { كلوا مما رزقكم الله } أي من الثمار والزروع والأنعام فكلها خلقها الله وجعلها رزقا لكم { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي طريقه وأوامره كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله أي من الثمار والزروع افتراء على الله { إنه لكم } أي أن الشيطان أيها الناس لكم { عدو مبين } أي بين ظاهر العداوة كما قال تعالى : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } وقال تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما } الاية وقال تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } والايات في هذا كثيرة في القرآن (2/243)
هذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حرموا من الأنعام وجعلوها أجزاء وأنواعا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار فبين تعالى أنه أنشأ جنات معروشات وغير معروشات وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشا ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن وسواد وهو المعز ذكره وأنثاه وإلى إبل ذكورها وإناثها وبقر كذلك وأنه تعالى لم يحرم شيئا من ذلك ولا شيئا من أولادها بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلا وركوبا وحمولة وحلبا وغير ذلك من وجوه المنافع كما قال { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } الاية وقوله تعالى : { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } رد عليهم في قولهم { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } الاية وقوله تعالى : { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } أي أخبروني عن يقين كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك
وقال العوفي عن ابن عباس : قوله { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } فهذه أربعة أزواج { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين } يقول لم أحرم شيئا من ذلك { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } يعني هل يشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعضا وتحلون بعضا ؟ { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } يقول تعالى كله حلال وقوله تعالى : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا } تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه من ذلك { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم } أي لا أحد أظلم منهم { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وأول من دخل في هذه الاية عمرو بن لحي بن قمعة لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي كما ثبت ذلك في الصحيح (2/246)
يقول تعالى آمرا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم { قل } يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله { لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } أي آكل يأكله قيل معناه لا أجد شيئا مما حرمتم حراما سوى هذه وقيل معناه لا أجد من الحيوانات شيئا حراما سوى هذه فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة المائدة وفي الأحاديث الواردة رافعا لمفهوم هذه الاية ومن الناس من يسمي هذا نسخا والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخا لأنه من باب رفع مباح الأصل والله أعلم وقال العوفي عن ابن عباس { أو دما مسفوحا } يعني المهراق وقال عكرمة في قوله { أو دما مسفوحا } لولا هذه الاية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود وقال حماد عن عمران بن حدير قال : سألت أبا مجلز عن الدم وما يتلطخ من الذبيح من الرأس وعن القدر يرى فيها الحمرة ؟ فقال : إنما نهى الله عن الدم المسفوح وقال قتادة : حرم من الدماء ما كان مسفوحا فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به وقال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسا والحمرة والدم يكونان على القدر بأسا وقرأت هذه الاية صحيح غريب
وقال الحميدي : حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن أبى ذلك الحبر يعني ابن عباس وقرأ { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الاية وكذا رواه البخاري عن علي بن المديني عن سفيان به وأخرجه أبو داود من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري كما رأيت
وقال أبو بكر بن مردويه والحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وقرأ هذه الاية { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الاية وهذا لفظ ابن مردويه ورواه أبو داود منفردا به عن محمد بن داود بن صبيح عن أبي نعيم به وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت : يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة قال [ فلم لا أخذتم مسكها ؟ ] قالت نأخذ مسك شاة قد ماتت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنما قال الله { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به ] فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها رواه أحمد ورواه البخاري والنسائي من حديث الشعبي عن عكرمة عن ابن عباس عن سودة بنت زمعة بذلك أو نحوه
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال : كنت عند ابن عمر فسأله رجل عن أكل القنفذ فقرأ عليه { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الاية فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال [ خبيثة من الخبائث ] فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى الله عليه و سلم قاله فهو كما قال ورواه أبو داود عن أبي ثور عن سعيد بن منصور به
وقوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } أي فمن اضطر إلى أكل شيء مما حرم الله في هذه الاية الكريمة وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان { فإن ربك غفور رحيم } أي غفور له رحيم به وقد تقدم تفسير هذه الاية في سورة البقرة بما فيه كفاية والغرض من سياق هذه الاية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك فأمر رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم وإنما حرم ما ذكر في هذه الاية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وما عدا ذلك فلم يحرم وإنما هو عفو مسكوت عنه فكيف تزعمون أنتم أنه حرام ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله ؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير على المشهور من مذاهب العلماء (2/246)
قال ابن جرير يقول تعالى وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعام والإوز والبط قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } وهو البعير والنعامة وكذا قال مجاهد والسدي في رواية وقال سعيد بن جبير : هو الذي ليس منفرج الأصابع وفي رواية عنه كل شيء متفرق الأصابع ومنه الديك وقال قتادة في قوله { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } وكان يقال للبعير والنعامة وأشياء من الطير والحيتان وفي رواية البعير والنعامة وحرم عليهم من الطير البط وشبهه وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع وقال ابن جريج عن مجاهد : كل ذي ظفر قال : النعامة والبعير شقاشقا قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثته ما شقاشقا ؟ قال : كل ما لا ينفرج من قوائم البهائم قال وما انفرج أكلته ؟ قال انفرجت قوائم البهائم والعصافير قال : فيهود تأكله قال : ولم تنفرج قائمة البعير ـ خفه ـ ولا خف النعامة ولا قائمة الوز فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعامة ولا الوز ولا كل شيء لم تنفرج قائمته ولا تأكل حمار الوحش وقوله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } قال السدي : يعني الثرب وشحم الكليتين وكانت اليهود تقول إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه وكذا قال ابن زيد وقال قتادة : الثرب وكل شحم كان كذلك ليس في عظم
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إلا ما حملت ظهورهما } يعني ما علق بالظهر من الشحوم وقال السدي وأبو صالح : الألية مما حملت ظهورهما وقوله تعالى : { أو الحوايا } قال الإمام أبو جعفر بن جرير الحوايا جمع واحدها حاوياء وحاوية وحوية وهو ما تحوى من البطن فاجتمع واستدار وهي بنات اللبن وهي المباعر وتسمى المرابض وفيها الأمعاء قال : ومعنى الكلام ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو ما حملت الحوايا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أو الحوايا وهي المبعر وقال مجاهد : الحوايا المبعر والمربض وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وقتادة وأبو مالك والسدي وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد : الحوايا المرابض التي تكون فيها الأمعاء تكون وسطها وهي بنات اللبن وهي في كلام العرب تدعى المرابض وقوله تعالى : { أو ما اختلط بعظم } يعني إلا ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه لهم وقال ابن جريج : شحم الألية ما اختلط بالعصعص فهو حلال وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين وما اختلط بعظم فهو حلال ونحوه قاله السدي وقوله تعالى : { ذلك جزيناهم ببغيهم } أي هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاة على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا كما قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا } وقوله { وإنا لصادقون } أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به وقال ابن جرير وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه والله أعلم
وقال عبد الله بن عباس : بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سمرة باع خمرا فقال : قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ] أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن عمر به وقال الليث : حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : قال عطاء بن أبي رباح : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عام الفتح [ إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ] فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس فقال [ لا هو حرام ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك [ قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه ] ورواه الجماعة من طرق عن يزيد بن أبي حبيب به وقال الزهري : عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها ] ورواه البخاري ومسلم جميعا عن عبدان عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري به وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا سليمان بن حرب حدثنا وهب حدثنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان قاعدا خلف المقام فرفع بصره إلى السماء فقال [ لعن الله اليهود ـ ثلاثا ـ إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم أنبأنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد أنبأنا ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قاعدا في المسجد مستقبلا الحجر فنظر إلى السماء فضحك فقال [ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه ] ورواه أبو داود من حديث خالد الحذاء وقال الأعمش : عن جامع بن شداد عن كلثوم عن أسامة بن زيد قال : دخلنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو مريض نعوده فوجدناه نائما قد غطى وجهه ببرد عدني فكشف عن وجهه وقال : [ لعن الله اليهود يحرمون شحوم الغنم ويأكلون أثمانها ] وفي رواية [ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ] وفي لفظ لأبي داود عن ابن عباس مرفوعا [ إن الله إذا حرم أكل شيء حرم عليهم ثمنه ] (2/248)
يقول تعالى : فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم { فقل ربكم ذو رحمة واسعة } وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله { ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن كما قال تعالى في آخر هذه السورة { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } وقال { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب } وقال تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم } وقال تعالى : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } وقال { إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود } والايات في هذا كثيرة جدا (2/250)
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر فلم يغيره فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك ولهذا قالوا { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } كما في قوله تعالى { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } الاية وكذلك الاية التي في النحل مثل هذه سواء
قال الله تعالى : { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام وأذاق المشركين من أليم الانتقام { قل هل عندكم من علم } أي بأن الله راض عنكم فيما أنتم فيه { فتخرجوه لنا } أي فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه { إن تتبعون إلا الظن } أي الوهم والخيال والمراد بالظن هاهنا الاعتقاد الفاسد { وإن أنتم إلا تخرصون } تكذبون على الله فيما ادعيتموه قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس { لو شاء الله ما أشركنا } وقال { كذلك كذب الذين من قبلهم } ثم قال { ولو شاء الله ما أشركوا } فإنهم قالوا : عبادتنا الالهة تقربنا إلى الله زلفى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم فقوله { ولو شاء الله ما أشركوا } يقول تعالى لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين وقوله تعالى : { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم { قل } لهم يا محمد { فلله الحجة البالغة } أي له الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من هدى وإضلال من ضل { فلو شاء لهداكم أجمعين } فكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويبغض الكافرين كما قال تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } وقال تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض } وقوله { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } قال الضحاك : لا حجة لأحد عصى الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده وقوله تعالى : { قل هلم شهداءكم } أي أحضروا شهداءكم { الذين يشهدون أن الله حرم هذا } أي هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } أي لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبا وزورا { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون } أي يشركون به ويجعلون له عديلا (2/250)
قال داود الأودي عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الايات { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو حدثنا عبد الصمد بن الفضل حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة قال : سمعت ابن عباس يقول : في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } الايات ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه قلت : ورواه زهير وقيس بن الربيع كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الله بن قيس عن ابن عباس به والله أعلم
وروى الحاكم أيضا في مسنده من حديث يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أيكم يبايعني على ثلاث ] ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } حتى فرغ من الايات [ فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته ومن أخر إلى الاخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ] ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وإنما اتفقا على حديث الزهري عن أبي إدريس عن عبادة [ بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ] الحديث
وقد روى سفيان بن حسين كلا الحديثين فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما والله أعلم وأما تفسيرها فيقول تعالى : لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم { قل } لهم { تعالوا } أي هلموا وأقبلوا { أتل ما حرم ربكم عليكم } أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقا لا تخرصا ولا ظنا بل وحيا منه وأمرا من عنده { أن لا تشركوا به شيئا } وكأن في الكلام محذوفا دل عليه السياق وتقديره وأوصاكم { أن لا تشركوا به شيئا } ولهذا قال في آخر الاية { ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } وكما قال الشاعر :
حج وأوصى بسليمى الأعبدا أن لا ترى ولا تكلم أحدا
ولا يزل شرابها مبردا
وتقول العرب : أمرتك أن لا تقوم وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئا من أمتك دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر ] وفي بعض الروايات : أن قائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه عليه الصلاة و السلام قال في الثالثة [ وإن رغم أنف أبي ذر ] فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث [ وإن رغم أنف أبي ذر ] وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول تعالى : [ يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ] ولهذا شاهد في القرآن قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود [ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ] والايات والأحاديث في هذا كثيرة جدا وروى ابن مردويه : من حديث عبادة وأبي الدرداء [ لا تشركوا بالله شيئا وإن قطعتم أو صلبتم أو حرقتم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد حدثني سيار بن عبد الرحمن عن يزيد بن قوذر عن سلمة بن شريح عن عبادة بن الصامت قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه و سلم بسبع خصال ] ألا تشركوا بالله شيئا وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم [ وقوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } أي وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانا أي أن تحسنوا إليهم كما قال تعالى : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } وقرأ بعضهم : ووصى ربك : ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا أي أحسنوا إليهم والله تعالى كثيرا ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين كما قال { أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما وقال تعالى : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا } الاية والايات في هذا كثيرة
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أي العمل أفضل ؟ قال ] الصلاة على وقتها [ قلت ثم أي ؟ قال ] بر الوالدين [ قلت ثم أي ؟ قال ] الجهاد في سبيل الله [ قال ابن مسعود : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو استزدته لزادني وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن أبي الدرداء وعن عبادة بن الصامت كل منهما يقول أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه و سلم ] أطع والديك وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا فافعل [ ولكن في إسناديهما ضعف والله أعلم وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد فقال تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } وذلك أنهم كانوا يقتلون أودلاهم كما سولت لهم الشياطين ذلك فكانوا يئدون البنات خشية العار وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الذنب أعظم ؟ قال ] أن تجعل لله ندا وهو خلقك [ قلت : ثم أي ؟ قال ] أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك [ قلت : ثم أي ؟ قال : ] أن تزاني حليلة جارك [ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } الاية وقوله تعالى : { من إملاق } قال ابن عباس وقتادة والسدي وغيره : هو الفقر أي ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل وقال في سورة الإسراء { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } أي لا تقتلوهم خوفا من الفقر في الاجل ولهذا قال هناك { نحن نرزقهم وإياكم } فبدأ برزقهم للاهتمام بهم أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله وأما في هذه الاية فلما كان الفقر حاصلا قال { نحن نرزقكم وإياهم } لأنه الأهم ههنا والله أعلم وقوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } كقوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه }
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن [ وقال عبد الملك بن عمير عن وراد عن مولاه المغيرة قال : قال سعد بن عبادة لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أتعجبون من غيرة سعد ؟ فوالله لأنا أغير من سعد والله أغير مني من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ] أخرجاه وقال كامل أبو العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله إنا نغار قال [ والله إني لأغار والله أغير مني ومن غيرته نهى عن الفواحش ] رواه ابن مردويه ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وهو على شرط الترمذي فقد روي بهذا السند [ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ] وقوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدا وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن فقد جاء في الصحيحين : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ] وفي لفظ لمسلم [ والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم ] وذكره قال الأعمش : فحدثت به إبراهيم فحدثني عن الأسود عن عائشة بمثله وروى أبو داود والنسائي : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال : زان محصن يرجم ورجل قتل متعمدا فيقتل ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض ] وهذا لفظ النسائي وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يحل دم امرى مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس ] فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه إذ هداني الله ولا قتلت نفسا فبم تقتلونني ؟ رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي : هذا حديث حسن
وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد وهو المستأمن من أهل الحرب فروى البخاري : عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم مرفوعا [ من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا ] رواه ابن ماجه والترمذي وقال : حسن صحيح وقوله { ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أمره ونهيه (2/251)
قال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } و { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الاية فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله ويفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم } قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم رواه أبو داود وقوله تعالى : { حتى يبلغ أشده } قال الشعبي ومالك وغير واحد من السلف : يعني حتى يحتلم وقال السدي : حتى يبلغ ثلاثين سنة وقيل أربعون سنة وقيل ستون سنة قال : وهذا كله بعيد ها هنا والله أعلم وقوله تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء كما توعد على تركه في قوله تعالى : { ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين } وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي : من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحاب الكيل والميزان [ إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم ] ثم قال : لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسين وهو ضعيف في الحديث وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا قلت وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين بهما هلكت القرون المتقدمة : المكيال والميزان ] وقوله تعالى : { لا نكلف نفسا إلا وسعها } أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه وقد روى ابن مردويه من حديث بقية عن ميسرة بن عبيد عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الاية { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } فقال [ من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها ] هذا مرسل غريب وقوله { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } كقوله { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } الاية وكذا التي تشبهها في سورة النساء يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت وفي كل حال وقوله { وبعهد الله أوفوا } قال ابن جرير : يقول وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم وتعملوا بكتابه وسنة رسوله وذلك هو الوفاء بعهد الله { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } يقول تعالى : هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه { لعلكم تذكرون } أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا وقرأ بعضهم بتشديد الذال وآخرون بتخفيفها (2/254)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وفي قوله { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا قاله مجاهد وغير واحد
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر شاذان حدثنا أبو بكر هو ابن عياش عن عاصم هو ابن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه : قال : خط رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا بيده ثم قال [ هذا سبيل الله مستقيما ] وخط عن يمينه وشماله ثم قال [ هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ] ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وكذا رواه الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن أبي بكر بن عياش به وقال : صحيح ولم يخرجاه وهكذا رواه أبو جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن أبي قيس عن عاصم عن أبي وائل شقيق سلمة عن ابن مسعود مرفوعا به نحوه وكذا رواه يزيد بن هارون ومسدد والنسائي عن يحيى بن حبيب بن عربي وابن حبان من حديث ابن وهب أربعتهم عن حماد بن زيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود به وكذا رواه ابن جرير عن المثنى عن الحماني عن حماد بن زيد به ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق عن إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد به كذلك وقال : صحيح ولم يخرجاه وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود به مرفوعا وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث يحيى الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر به فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين ولعل هذا الحديث عن عاصم بن أبي النجود عن زر وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعود به والله أعلم
وقال الحاكم : وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي عن جابر من وجه غير معتمد يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد وعبد بن حميد واللفظ لأحمد : حدثنا عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا أبو خالد الأحمر عن مجاهد عن الشعبي عن جابر قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه و سلم فخط خطا هكذا أمامه فقال [ هذا سبيل الله ] وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال [ هذه سبل الشيطان ] ثم وضع يده في الخط الأوسط ثم تلا هذه الاية { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } ورواه أحمد وابن ماجه : في كتاب السنة من سننه والبزار عن أبي سعيد عبد الله بن سعيد عن أبي خالد الأحمر به قلت : ورواه الحافظ بن مردويه من طريقين عن أبي سعيد الكندي حدثنا أبو خالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال : خط رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا وخط عن يمينه خطا وخط عن يساره خطا ووضع يده على الخط الأوسط وتلا هذه الاية { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } ولكن العمدة على حديث ابن مسعود مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرا وقد روي موقوفا عليه قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان عن عثمان أن رجلا قال لابن مسعود ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه و سلم في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ثم قرأ ابن مسعود { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } الاية وقال ابن مردويه : حدثنا أبو عمرو حدثنا محمد بن عبد الوهاب حدثنا آدم حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا أبان بن عياش عن مسلم بن عمران عن عبد الله بن عمر سأل عبد الله عن الصراط المستقيم فقال ابن مسعود : تركنا محمد صلى الله عليه و سلم في أدناه وطرفه في الجنة وذكر تمام الحديث كما تقدم والله أعلم
وقد روي من حديث النواس بن سمعان نحوه قال الإمام أحمد : حدثني الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يدعو : يا أيها الناس هلموا ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم ] ورواه الترمذي والنسائي عن علي بن حجر زاد النسائي وعمرو بن عثمان كلاهما عن بقية بن الوليد عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به وقال الترمذي : حسن غريب
وقوله تعالى : { فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } إنما وحد سبيله لأن الحق واحد ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها كما قال تعالى : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أيكم يبايعني على هؤلاء الايات الثلاث ؟ ] ثم تلا { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } حتى فرغ من ثلاث آيات ثم قال [ ومن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الاخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه ] (2/255)
قال ابن جرير : { ثم آتينا موسى الكتاب } تقديره ثم قل يا محمد مخبرا عنا أنا آتينا موسى الكتاب بدلالة قوله { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } قلت : وفي هذا نظر وثم ههنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب ههنا كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
وههنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } عطف بمدح التوراة ورسولها فقال : ثم آتينا موسى الكتاب وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة كقوله تعالى : { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا } وقوله أول هذه السورة { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا } الاية وبعدها { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } الاية
وقال تعالى مخبرا عن المشركين { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } قال تعالى : { أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون } وقال تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا { يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق } الاية وقوله تعالى : { تماما على الذي أحسن وتفصيلا } أي آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه في شريعته كقوله { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } الاية وقوله تعالى : { على الذي أحسن } أي جزاء على إحسانه في العمل وقيامه بأوامرنا وطاعتنا كقوله { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } وكقوله { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما } وكقوله { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن } يقول أحسن فيما أعطاه الله وقال قتادة من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الاخرة واختار ابن جرير أن تقديره { ثم آتينا موسى الكتاب تماما } على إحسانه فكأنه جعل الذي مصدرية كما قيل في قوله تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } أي كخوضهم وقال ابن رواحة :
وثبت الله ما آتاك من حسن في المرسلين ونصرا كالذي نصروا
وقال آخرون : الذي ههنا بمعنى الذين قال ابن جرير : وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها تماما على الذين أحسنوا وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد تماما على الذي أحسن قال على المؤمنين والمحسنين وكذا قال أبو عبيدة وقال البغوي المحسنون الأنبياء والمؤمنون يعني أظهرنا فضله عليهم قلت : كقوله تعالى { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه و سلم خاتم الأنبياء والخليل عليهما السلام لأدلة أخرى
قال ابن جرير وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرؤها تماما على الذي أحسن رفعا بتأويل على الذي هو أحسن ثم قال وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح وقيل : معناه تماما على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن إليه حكاه ابن جرير والبغوي ولا منافاة بينه وبين القول الأول وبه جمع ابن جرير كما بيناه ولله الحمد وقوله تعالى : { وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة } فيه مدح لكتابه الذي أنزله الله عليه { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والاخرة لأنه حبل الله المتين (2/257)
قال ابن جرير : معناه وهذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا { إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } يعني لينقطع عذركم كقوله تعالى : { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك } الاية وقوله تعالى : { على طائفتين من قبلنا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم اليهود والنصارى وكذا قال مجاهد والسدي وقتادة وغير واحد وقوله { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } أي وما كنا نفهم ما يقولون لأنهم ليسوا بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه وقوله { أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } أي وقطعنا تعللكم أن تقولوا لو أنا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه كقوله { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } الاية وهكذا قال ههنا { فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } يقول : فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه و سلم النبي العربي قرآن عظيم فيه بيان للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه
وقوله تعالى : { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ولا اتبع ما أرسل به ولا ترك غيره بل صدف عن اتباع آيات الله أي صدف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة وصدف عنها أعرض عنها وقول السدي ههنا فيه قوة لأنه قال { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } كما تقدم في أول السورة { وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم } وقال تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب } وقال في هذه الاية الكريمة { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } وقد يكون المراد فيما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } أي لا آمن بها ولا عمل بها كقوله تعالى : { فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى } وغير ذلك من الايات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه وترك العمل بجوارحه ولكن كلام السدي أقوى وأظهر والله أعلم لأن الله قال { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } كقوله تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } (2/258)
يقول تعالى متوعدا للكافرين به والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } وذلك كائن يوم القيامة { أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها } وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئا من أشراط الساعة كما قال البخاري في تفسير هذه الاية حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها ] فذلك حين { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل }
حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ] وفي لفظ [ فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ] ثم قرأ هذه الاية هكذا روي هذا الحديث من هذين الوجهين ومن الوجه الأول أخرجه بقية الجماعة في كتبهم إلا الترمذي من طرق عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة عن أبي زرعة بن جرير عن أبي هريرة به
وأما الطريق الثاني فرواه عن إسحاق غير منسوب وقيل هو ابن منصور الكوسج وقيل إسحاق بن نصر والله أعلم وقد رواه مسلم عن محمد بن رافع الجنديسابوري كلاهما عن عبد الرزاق به وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة كما انفرد مسلم بروايته من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة به وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ] ورواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم سلمان عن أبي هريرة به وعنده والدخان ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب عن وكيع ورواه هو أيضا والترمذي من غير وجه عن فضيل بن غزوان به ورواه إسحاق بن عبد الله القروي عن مالك بن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ولكن لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه لضعف القروي ـ والله أعلم
وقال ابن جرير حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا شعيب بن الليث عن أبيه عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلهم وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ] الاية ورواه ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة به ورواه وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة به أخرج هذه الطرق كلها الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قبل منه ] لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة
( حديث آخر ) عن أبي ذر الغفاري في الصحيحين وغيرهما من طرق عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت ؟ ] قلت : لا أدري قال : [ إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث جئت وذلك حين { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل } ]
( حديث آخر ) عن حذيفة بن أسيد بن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم وخروج الدجال وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا ] وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث فرات القزاز عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد به وقال الترمذي : حسن صحيح
( حديث آخر ) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال الثوري عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله ما آية طلوع الشمس من مغربها ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين فينتبه الذين كانوا يصلون فيها فيعملون كما كانوا يعملون قبلها والنجوم لا ترى قد غابت مكانها ثم يرقدون ثم يقومون فيصلون ثم يرقدون ثم يقومون فيطل عليهم جنوبهم حتى يتطاول عليهم الليل فيفزع الناس ولا يصبحون فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها فإذا رآها الناس آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم ] رواه ابن مردويه وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه ـ والله أعلم ـ
( حديث آخر ) عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها } قال : [ طلوع الشمس من مغربها ] ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن أبيه به وقال غريب ورواه بعضهم ولم يرفعه وفي حديث طالوت بن عباد عن فضال بن جبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن أول الايات طلوع الشمس من مغربها ] وفي حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله فتح بابا قبل المغرب عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه ] رواه الترمذي وصححه النسائي وابن ماجه في حديث طويل
( حديث آخر ) عن عبد الله بن أبي أوفى قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا ضرار بن صرد حدثنا ابن فضيل عن سليمان بن يزيد عن عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالي من لياليكم هذه فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام فبينما هم كذلك إذ صاح الناس بعضهم في بعض فقالوا ما هذا فيفزعون إلى المساجد فإذا هم بالشمس قد طلعت حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت وطلعت من مطلعها ـ قال حينئذ ـ لا ينفع نفسا إيمانها ] هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس هو في شيء من الكتب الستة
( حديث آخر ) عن عبد الله بن عمرو قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير قال : جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة فسمعوه وهو يحدث عن الايات يقول إن أولها الدجال قال فانصرفوا إلى عبد الله بن عمرو فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الايات فقال : لم يقل مروان شيئا حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن أول الايات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحى فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها ] ثم قال عبد الله وكان يقرأ الكتب وأظن أولها خروجا طلوع الشمس من مغربها وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش وسجدت واستأذنت في الرجوع فأذن لها في الرجوع حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها فعلت كما كانت تفعل أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فلم يرد عليها شيء ثم استأذنت في الرجوع فلا يرد عليها شيء حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب وعرفت أنه إذا أذن لها في الرجوع لم تدرك المشرق قالت : رب ما أبعد المشرق من لي بالناس حتى إذا صار الأفق كأنه طوق استأذنت في الرجوع فيقال لها : من مكانك فاطلعي فطلعت على الناس من مغربها ثم تلا عبد الله هذه الاية { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل } الاية وأخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننيهما من حديث أبي حيان التيمي واسمه يحيى بن سعيد بن حيان بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير به
( حديث آخر عنه ) قال الطبراني حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدا ينادي ويجهر إلهي مرني أن أسجد لمن شئت ـ قال ـ فيجتمع إليه زبانيته فيقولون كلهم ما هذا التضرع فيقول : إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم وهذا الوقت المعلوم ـ قال ـ ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا ـ قال ـ فأول خطوة تضعها بأنطاكيا فتأتي إبليس فتلطمه ] هذا حديث غريب جدا وسنده ضعيف ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك فأما رفعه فمنكر والله أعلم
( حديث آخر ) عن عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين قال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل ] فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل ] هذا الحديث حسن الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم
( حديث آخر ) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين حدثني أبو عبيدة عن ابن مسعود أنه كان يقول ما ذكر من الايات فقد مضى غير أربع طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض وخروج يأجوج ومأجوج قال وكان يقول الاية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ألم تر أن الله يقول { يوم يأتي بعض آيات ربك } الاية كلها يعني طلوع الشمس من مغربها حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه عن ابن عباس مرفوعا فذكر حديثا طويلا غريبا منكرا رفعه وفيه أن الشمس والقمر يطلعان يومئذ من المغرب مقرونين وإذا انتصفا السماء رجعا ثم عادا إلى ما كانا عليه وهو حديث غريب جدا بل منكر بل موضوع إن ادعي أنه مرفوع فأما وقفه على ابن عباس أو وهب بن منبه وهو الأشبه فغير مدفوع والله أعلم
وقال سفيان عن منصور عن عامر عن عائشة رضي الله عنها قالت : إذا خرج أول الايات طرحت وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال رواه ابن جرير رحمه الله تعالى فقوله تعالى : { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل } أي إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لا يقبل منه فأما من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان مصلحا في عمله فهو بخير عظيم وإن لم يكن مصلحا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة وعليه يحمل قوله تعالى : { أو كسبت في إيمانها خيرا } أي ولا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك وقوله تعالى : { قل انتظروا إنا منتظرون } تهديد شديد للكافرين ووعيد أكيد لمن سوف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك وإنما كان هذا الحكم عند طلوع الشمس من مغربها لاقتراب الساعة وظهور أشراطها كما قال { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } وقوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } الاية (2/259)
قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي نزلت هذه الاية في اليهود والنصارى وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه و سلم فتفرقوا فلما بعث محمد صلى الله عليه و سلم أنزل الله عليه { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } الاية وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمر السكوني حدثنا بقية بن الوليد كتب إلي عباد بن كثير حدثنا ليث عن طاوس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الاية { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة لكن هذا إسناد لا يصح فإن عباد بن كثير متروك الحديث ولم يختلق هذا الحديث ولكنه وهم في رفعه فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث وهو ابن أبي سليم عن طاوس عن أبي هريرة في الاية أنه قال : نزلت في هذه الأمة
وقال أبو غالب عن أبي أمامة في قوله { وكانوا شيعا } قال هم الخوارج وروي عنه مرفوعا ولا يصح وقال شعبة عن مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعائشة رضي الله عنها [ { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } ـ قال ـ هم أصحاب البدع ] وهذا رواه ابن مردويه وهو غريب أيضا ولا يصح رفعه والظاهر أن الاية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق فمن اختلف فيه { وكانوا شيعا } أي فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسول الله صلى الله عليه و سلم مما هم فيه وهذه الاية كقوله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك } الاية
وفي الحديث [ نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد ] فهذا هو الصراط المستقيم وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له والتمسك بشريعة الرسول المتأخر وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء والرسل برآء منها كما قال الله تعالى { لست منهم في شيء } وقوله تعالى { إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } كقوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } الاية ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فقال تعالى (2/262)
وهذه الاية الكريمة مفصلة لما أجمل في الاية الأخرى وهي قوله { من جاء بالحسنة فله خير منها } وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الاية كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا الجعد أبو عثمان عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى [ إن ربكم عز و جل رحيم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عز و جل ولا يهلك على الله إلا هالك ] ورواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث الجعد أبي عثمان به
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله عز جل : من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة ومن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا ومن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ] ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية به وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش به ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة ] واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام تارة يتركها لله فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى وهذا عمل ونية ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح فإنما تركها من جرائي أي من أجلي وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها فهذا لا له ولا عليه لأنه لم ينو خيرا ولا فعل شرا وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ] قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال [ إنه كان حريصا على قتل صاحبه ]
وقال الإمام أبو يعلى الموصلي : حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا علي وحدثنا الحسن بن الصباح وابن خيثمة قالا : حدثنا إسحاق بن سليمان كلاهما عن موسى بن عبيدة عن أبي بكر بن عبيد الله بن أنس عن جده أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من هم بحسنة كتب الله له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله تعالى إنما تركها من مخافتي ] هذا لفظ حديث مجاهد يعني ابن موسى وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن الركين بن الربيع عن أبيه عن عمه فلان بن عميلة عن خريم بن فاتك الأسدي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن الناس أربعة والأعمال ستة فالناس موسع له في الدنيا والاخرة وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الاخرة ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الاخرة وشقي في الدنيا والاخرة والأعمال موجبتان ومثل بمثل وعشرة أضعاف وسبعمائة ضعف فالموجبتان من مات مسلما مؤمنا لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ومن مات كافرا وجبت له النار ومن هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أمثالها ومن أنفق نفقة في سبيل الله عز و جل كانت بسبعمائة ضعف ] ورواه الترمذي والنسائي من حديث الركين بن الربيع عن أبيه عن بشير بن عميلة عن خريم بن فاتك به ببعضه والله أعلم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يحضر الجمعة ثلاثة نفر رجل حضرها بلغو فهو حظه منها ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ] وذلك لأن الله عز و جل يقول { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هشام بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك لأن الله تعالى قال { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } ] وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله ] رواه الإمام أحمد وهذا لفظه والنسائي وابن ماجه والترمذي وزاد [ فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } اليوم بعشرة أيام ] ثم قال هذا حديث حسن وقال ابن مسعود { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } من جاء بلا إله إلا الله ومن جاء بالسيئة يقول بالشرك وهكذا جاء عن جماعة من السلف رضي الله عنهم أجميعن وقد ورد فيه حديث مرفوع الله أعلم بصحته لكني لم أروه من وجه يثبت والأحاديث والاثار في هذا كثيرة جدا وفيما ذكر كفاية إن شاء الله وبه الثقة (2/263)
يقول تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه و سلم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف { دينا قيما } أي قائما ثابتا { ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } كقوله { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } وقوله { وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم } وقوله { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وليس يلزم من كونه صلى الله عليه و سلم أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها لأنه عليه السلام قام بها قياما عظيما وأكملت له إكمالا تاما لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه السلام
وقد قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة أنبأنا سلمة بن كهيل سمعت ذر بن عبد الله الهمداني يحدث عن ابن أبزى عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أصبح قال [ أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ] وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم أي الأديان أحب إلى الله تعالى ؟ قال [ الحنيفية السمحة ] وقال أحمد أيضا : حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم ذقني على منكبه لأنظر إلى زفن الحبشة حتى كنت التي مللت فانصرفت عنه قال عبد الرحمن عن أبيه قال : قال لي عروة إن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ [ لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة ] أصل الحديث مخرج في الصحيحين والزيادة لها شواهد من طرق عدة وقد استقصيت طرقها في شرح البخاري ولله الحمد والمنة وقوله تعالى { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له وهذا كقوله تعالى { فصل لربك وانحر } أي أخلص له صلاتك وذبحك فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى قال مجاهد في قوله { إن صلاتي ونسكي } النسك الذبح في الحج والعمرة وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير { ونسكي } قال ذبحي وكذا قال السدي والضحاك
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف حدثنا أحمد بن خالد الذهبي حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله قال : ضحى رسول الله صلى الله عليه و سلم في يوم عيد النحر بكبشين وقال حين ذبحهما [ وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ] وقوله عز و جل { وأنا أول المسلمين } قال قتادة : أي من هذه الأمة وهو كما قال فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام وأصله عبادة الله وحده لا شريك له كما قال { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقد أخبرنا تعالى عن نوح أنه قال لقومه { فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال يوسف عليه السلام { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين } وقال موسى { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } وقال تعالى { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار } الاية وقال تعالى { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } فأخبر تعالى أنه بعث رسله بالإسلام ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضا إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه و سلم التي لا تنسخ أبد الابدين ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة ولهذا قال عليه السلام [ نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد ] فإن أولاد العلات هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات كما أن إخوة الأخياف عكس هذا بنو الأم الواحدة من آباء شتى والإخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة والله أعلم
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشون حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا كبر استفتح ثم قال : [ وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ] [ اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك ] ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد وقد رواه مسلم في صحيحه (2/265)
يقول تعالى { قل } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه { أغير الله أبغي ربا } أي أطلب ربا سواه { وهو رب كل شيء } يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري أي لا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر ففي هذه الاية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وهذا المعنى يقرن بالاخر كثيرا في القرآن كقوله تعالى مرشدا لعباده أن يقولوا له { إياك نعبد وإياك نستعين } وقوله { فاعبده وتوكل عليه } وقوله { قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا } وقوله { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } وأشباه ذلك من الايات
وقوله تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله تعالى كما قال { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } وقوله تعالى { فلا يخاف ظلما ولا هضما } قال علماء التفسير : أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ولا يهضم بأن ينقص من حسناته وقال تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين } معناه كل نفس مرتهنة بعملها السيء إلا أصحاب اليمين فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كما قال في سورة الطور { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال بل في أصل الإيمان وما ألتناهم أي أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئا حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة بل رفعهم تعالى إلى منزلة الاباء ببركة أعمالهم بفضله ومنته ثم قال { كل امرئ بما كسب رهين } أي من شر وقوله { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه فستعرضون ونعرض عليه وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا كقوله { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم } (2/267)
يقول تعالى { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } أي جعلكم تعمرونها جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن وخلفا بعد سلف قاله ابن زيد وغيره كقوله تعالى { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } وكقوله تعالى { ويجعلكم خلفاء الأرض } وقوله { إني جاعل في الأرض خليفة } وقوله { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } وقوله { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوىء والمناظر والأشكال والألوان وله الحكمة في ذلك كقوله تعالى { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } وقوله { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }
وقوله تعالى { ليبلوكم في ما آتاكم } أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره والفقير في فقره ويسأله عن صبره وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ] وقوله تعالى { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع فيمن عصاه وخالف رسله { وإنه لغفور رحيم } لمن والاه واتبع رسله فيما جاؤوا به من خبر وطلب وقال محمد بن إسحاق : ليرحم العباد على ما فيهم رواه ابن أبي حاتم وكثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب } وقوله { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم } إلى غير ذلك من الايات المشتملة على الترغيب والترهيب فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها وتارة بهما لينجع في كل بحسبه جعلنا الله ممن أطاعوا فيما أمر وترك ما عنه نهى وزجر وصدقه فيما أخبر إنه قريب مجيب سميع الدعاء جواد كريم وهاب
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها وعند الله تسعة وتسعون ] ورواه الترمذي عن قتيبة عن عبد العزيز الدراوردي عن العلاء به وقال : حسن ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعلي بن حجر ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي ] وعنه أيضا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ] رواه مسلم ـ آخر تفسير سورة الأنعام ولله الحمد والمنة (2/268)
سورة الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم (2/269)
قد تقدم الكلام في أول سورة البقرة على ما يتعلق بالحروف وبسطه واختلاف الناس فيه قال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس { المص } أنا الله أفصل وكذا قال سعيد بن جبير { كتاب أنزل إليك } أي هذا كتاب أنزل إليك أي من ربك { فلا يكن في صدرك حرج منه } قال مجاهد وقتادة والسدي : شك منه وقيل : لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } ولهذا قال { لتنذر به } أي أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين { وذكرى للمؤمنين } ثم قال تعالى مخاطبا للعالم { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه { ولا تتبعوا من دونه أولياء } أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره { قليلا ما تذكرون } كقوله { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقوله { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } الاية وقوله { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } (2/269)
يقول تعالى : { وكم من قرية أهلكناها } أي بمخالفة رسلنا وتكذيبهم فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولا بذل الاخرة كما قال تعالى : { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } وكقوله { فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد } وقال تعالى : { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين } وقوله { فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون } أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بياتا أي ليلا أو هم قائلون من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو كما قال { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } وقال { أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم }
وقوله { فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } أي فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا كقوله تعالى : { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين } قال ابن جرير : في هذه الاية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من قوله [ ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم ] حدثنا بذلك ابن حميد حدثنا جرير عن أبي سنان عن عبدالملك بن ميسرة الزراد قال : قال عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم ] قال : قلت لعبد الملك : كيف يكون ذاك ؟ قال : فقرأ هذه الاية { فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } وقوله { فلنسألن الذين أرسل إليهم } الاية كقوله { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } وقوله { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته ولهذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاية { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } قال عما بلغوا
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن الحسن حدثنا أبو سعيد الكندي حدثنا المحاربي عن ليث عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده ] قال الليث : وحدثني ابن طاوس مثله ثم قرأ { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة وقال ابن عباس في قوله { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون { وما كنا غائبين } يعني أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير وجليل وحقير لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يغفل عن شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } (2/269)
يقول تعالى : { والوزن } أي للأعمال يوم القيامة { الحق } أي لا يظلم تعالى أحدا كقوله { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } وقال تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } وقال تعالى : { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * وما أدراك ما هيه * نار حامية } وقال تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون }
( فصل ) والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما قال البغوي : يروى نحو هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف ومن ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون فيقول : من أنت ؟ فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر [ فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ] وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق وقيل يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها لا إله إلا الله فيقول يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول الله تعالى إنك لا تظلم فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ] رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه وقيل يوزن صاحب العمل كما في الحديث [ يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة ] ثم قرأ { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } وفي مناقب عبد الله بن مسعود : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ أتعجبون من دقة ساقيه والذي نفسي بيده لهم في الميزان أثقل من أحد ] وقد يمكن الجمع بين هذه الاثار بأن يكون ذلك كله صحيحا فتارة توزن الأعمال وتارة توزن محالها وتارة يوزن فاعلها والله أعلم (2/270)
يقول تعالى : ممتنا على عبيده فيما مكن لهم من أنه جعل الأرض قرارا وجعل فيها رواسي وأنهارا وجعل لهم فيها منازل وبيوتا وأباح لهم منافعها وسخر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها وجعل لهم فيها معايش أي مكاسب وأسبابا يكسبون بها ويتجرون فيها ويتسببون أنواع الأسباب وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك كقوله { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } وقد قرأ الجميع معايش بلا همز إلا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج فإنه همزها والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز لأن معايش جمع معيشة من عاش يعيش عيشا ومعيشة أصلها معيشة فاستثقلت الكسرة على الياء فنقلت إلى العين فصارت معيشة فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال فقيل معايش ووزنه مفاعل لأن الياء أصلية في الكلمة بخلاف مدائن وصحائف وبصائر جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من مدن وصحف وأبصر فإن الياء فيها زائدة ولهذا تجمع على فعائل وتهمز لذلك والله أعلم (2/271)
ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس وما هو منطو عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه فقال تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } وهذ كقوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام بيده من طين لازب وصوره بشرا سويا ونفخ فيه من روحه أمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الله تعالى وجلاله فسمعوا كلهم وأطاعوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير سورة البقرة وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير أن المراد بذلك كله آدم عليه السلام
وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن منهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } قال خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء رواه الحاكم وقال : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ونقل ابن جرير : عن بعض السلف أيضا أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم الذرية
وقال الربيع بن أنس والسدي وقتادة والضحاك في هذه الاية { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } أي خلقنا آدم ثم صورنا الذرية وهذا فيه نظر لأنه قال بعد ذلك { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } فدل على أن المراد بذلك آدم وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم { وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى } والمراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى ولكن لما كان ذلك منة على الاباء الذين هم أصل صار كأنه واقع على الأبناء وهذا بخلاف قوله { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الاية فإن المراد من آدم المخلوق من السلالة وذريته مخلوقون من نطفة وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس لا معينا والله أعلم (2/271)
قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى : { ما منعك أن لا تسجد } لا هنا زائدة وقال بعضهم زيدت لتأكيد الجحد كقول الشاعر :
( ما إن رأيت ولا سمعت بمثله )
فأدخل إن وهي للنفي على ما النافية لتأكيد النفي قالوا : وكذا ههنا { ما منعك أن لا تسجد } مع تقدم قوله { لم يكن من الساجدين } حكاهما ابن جرير وردهما واختار أن منعك مضمن معنى فعل آخر تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا وهذا القول قوي حسن والله أعلم وقول إبليس لعنه الله { أنا خير منه } من العذر الذي هو أكبر من الذنب كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له ؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص قوله تعالى : { فقعوا له ساجدين } فشذ من بين الملائكة لترك السجود فهذا أبلس من الرحمة أي وأيس من الرحمة فأخطأ قبحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضا فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ] هكذا رواه مسلم وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود حدثنا نعيم بن حماد حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خلق الله الملائكة من نور العرش وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ] قلت لنعيم بن حماد : أين سمعت هذا من عبد الرزاق ؟ قال : باليمن وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح [ وخلقت الحور العين من الزعفران ] وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن كثير عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن الحسن في قوله { خلقتني من نار وخلقته من طين } قال : قاس إبليس وهو أول من قاس إسناده صحيح وقال : حدثني عمرو بن مالك حدثني يحيى بن سليم الطائفي عن هشام عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضا (2/272)
يقول تعالى مخاطبا لإبليس بأمر قدري كوني { فاهبط منها } أي بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي فما يكون لك أن تتكبر فيها قال كثير من المفسرين : الضمير عائد إلى الجنة ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى { فاخرج إنك من الصاغرين } أي الذليلين الحقيرين معاملة له بنقيض قصده ومكافأة لمراده بضده فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين قال { أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين } أجابه تعالى إلى ما سأل لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (2/273)
يخبر تعالى أنه لما أنذر إبليس { إلى يوم يبعثون } واستوثق إبليس بذلك أخذ في المعاندة والتمرد فقال { فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم } أي كما أغويتني قال ابن عباس : كما أضللتني وقال غيره : كما أهلكتني لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على { صراطك المستقيم } أي طريق الحق وسبيل النجاة لأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي وقال بعض النحاة : الباء هنا قسمية كأنه يقول فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم قال مجاهد : صراطك المستقيم يعني الحق وقال محمد بن سوقة عن عون بن عبد الله : يعني طريق مكة قال ابن جرير : الصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك ( قلت ) لما روى الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل يعني الثقفي عبد الله بن عقيل حدثنا موسى بن المسيب أخبرني سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي الفاكه قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك قال فعصاه وأسلم ] قال [ قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال فقال تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال قال فعصاه وجاهد ]
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة [ وقوله { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم } الاية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ثم لآتينهم من بين أيديهم } أشككهم في آخرتهم { ومن خلفهم } أرغبهم في دنياهم { وعن أيمانهم } أشبه عليهم أمر دينهم { وعن شمائلهم } أشهي لهم المعاصي وقال ابن أبي طلحة في رواية العوفي كلاهما عن ابن عباس : أما من بين أيديهم فمن قبل دنياهم وأما من خلفهم فأمر آخرتهم وأما عن أيمانهم فمن قبل حسناتهم وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم وقال سعيد بن أبي عروبة : عن قتادة أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها أتاك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله وكذا روي عن إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة والسدي وابن جريج إلا أنهم قالوا : من بين أيديهم الدنيا ومن خلفهم الاخرة
وقال مجاهد : من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون واختار ابن جرير : أن المراد جميع طرق الخير والشر فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } ولم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل من فوقهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ولا تجد أكثرهم شاكرين } قال : موحدين وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم وقد وافق في هذا الواقع كما قال تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ } ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا نصر بن علي حدثنا عمرو بن مجمع عن يونس بن خباب عن ابن جبير بن مطعم يعني نافع بن جبير عن ابن عباس وحدثنا عمر بن الخطاب يعني السجستاني حدثنا عبيد الله بن جعفر حدثنا عبد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن يونس بن خباب عن ابن جبير بن مطعم عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو ] اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي [ تفرد به البزار وحسنه
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري حدثني جرير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم سمعت عبد الله بن عمر يقول : لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي ] اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والاخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي قال وكيع : من تحتي يعني الخسف ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به وقال الحاكم : صحيح الإسناد (2/273)
أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله { اخرج منها مذؤوما مدحورا } قال ابن جرير : أما المذؤوم فهو المعيب والذأم غير مشدد العيب يقال ذأمه يذأمه ذأما فهو مذؤوم ويتركون الهمزة فيقول ذمته أذيمه ذيما وذاما والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم قال : والمدحور المقصي هو المبعد المطرود وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : ما نعرف المذؤوم والمذموم إلا واحدا وقال سفيان الثوري : عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : اخرج منها مذؤوما مدحورا قال مقيتا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : صغيرا مقيتا وقال السدي : مقيتا مطرودا وقال قتادة : لعينا مقيتا وقال مجاهد : منفيا مطرودا وقال الربيع بن أنس : مذؤوما منفيا والمدحور المصغر وقوله تعالى : { لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } كقوله { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا } (2/275)
يذكر تعالى أنه أباح لادم عليه السلام ولزوجته حواء الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة فعند ذلك حسدهما الشيطان وسعى في المكر والوسوسة والخديعة ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن { وقال } كذبا وافتراء { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } أي لئلا تكونا ملكين أو خالدين ها هنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما كقوله { قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } أي لئلا تكونا ملكين كقوله { يبين الله لكم أن تضلوا } أي لئلا تضلوا { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } أي لئلا تميد بكم وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن { إلا أن تكونا ملكين } بكسر اللام وقرأه الجمهور بفتحها { وقاسمهما } أي حلف لهما بالله { إني لكما لمن الناصحين } فإني من قبلكما ها هنا وأعلم بهذا المكان وهذا من باب المفاعلة والمراد أحد الطرفين كما قال خالد بن زهير ابن عم أبي ذؤيب :
وقاسمهم بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذ ما نشورها
أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله وقال قتادة في الاية : حلف بالله إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكم فاتبعاني أرشدكما وكان بعض أهل العلم يقول من خدعنا بالله انخدعنا له (2/275)
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : كان آدم رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع فيما وقع به من الخطيئة بدت له عورته عند ذلك وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة فقال لها : أرسليني فقالت : إني غير مرسلتك فناداه ربه عز و جل : يا آدم أمني تفر ؟ قال يا رب إني استحييتك وقد رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عن الحسن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم مرفوعا والموقوف أصح إسنادا وقال عبد الرزاق : عن سفيان بن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته السنبلة فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ورق التين يلزقان بعضه إلى بعض فانطلق آدم عليه السلام موليا في الجنة فعلقت برأسه شجرة من الجنة فناداه الله يا آدم أمني تفر ؟ قال لا ولكني استحييتك يا رب قال : أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة عما حرمت عليك قال : بلى يا رب ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدا يحلف بك كاذبا قال : وهو قول الله عز و جل { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا قال : فأهبط من الجنة وكانا يأكلان منها رغدا فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب فعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم داسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ
وقال الثوري : عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } قال : ورق التين صحيح إليه وقال مجاهد : جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال : كهيئة الثوب وقال وهب بن منبه في قوله ينزع عنهما لباسهما قال : كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما رواه ابن جرير بسند صحيح إليه وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : قال آدم أي رب أرأيت إن تبت واستغفرت قال : إذا أدخلك الجنة وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله النظرة فأعطى كل واحد منهما الذي سأله وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن الحسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : حواء أمرتني قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها قال : فرنت عند ذلك حواء فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك وقال الضحاك بن مزاحم في قوله { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه (2/276)
قيل المراد بالخطاب في { اهبطوا } آدم وحواء وإبليس والحية ومنهم من لم يذكر الحية والله أعلم والعمدة في العداوة آدم وإبليس ولهذا قال تعالى في سورة طه قال { اهبطا منها جميعا } الاية وحواء تبع لادم والحية إن كان ذكرها صحيحا فهي تبع لإبليس وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات والله أعلم بصحتها ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه و سلم وقوله { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } أي قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة قد جرى بها القلم وأحصاها القدر وسطرت في الكتاب الأول وقال ابن عباس { مستقر } القبور وعنه قال { مستقر } فوق الأرض وتحتها رواهما ابن أبي حاتم وقوله { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } كقوله تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } يخبر تعالى أنه جعل الأرض دارا لبني آدم مدة الحياة الدنيا فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والاخرين ويجازي كلا بعمله (2/277)
يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس ستر العورات وهي السوآت والرياش والريش ما يتجمل به ظاهرا فالأول من الضروريات والريش من التكملات والزيادات قال ابن جرير : الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه : الرياش المال وهكذا قال مجاهد وعروة بن الزبير والسدي والضحاك وغير واحد وقال العوفي عن ابن عباس : الريش اللباس والعيش والنعيم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرياش الجمال وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا أصبع عن أبي العلاء الشامي قال : لبس أبو أمامة ثوبا جديدا فلما بلغ ترقوته قال : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من استجد ثوبا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حيا وميتا ] ورواه الترمذي وابن ماجه من رواية يزيد بن هارون عن أصبع هو ابن زيد الجهني وقد وثقه يحيى بن معين وغيره وشيخه أبو العلاء الشامي لا يعرف إلا بهذا الحديث ولكن لم يخرجه أحد والله أعلم
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار بن نافع التمار عن أبي مطر أنه رأى عليا رضي الله عنه أتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ولبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين يقول حين لبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي فقيل هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عند الكسوة : [ الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي ] ورواه الإمام أحمد وقوله تعالى : { ولباس التقوى ذلك خير } قرأ بعضهم ولباس التقوى بالنصب وقرأ الاخرون بالرفع على الابتداء و { ذلك خير } خبره واختلف المفسرون في معناه فقال عكرمة : يقال هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة رواه ابن أبي حاتم وقال زيد بن علي والسدي وقتادة وابن جريج : ولباس التقوى الإيمان وقال العوفي عن ابن عباس : العمل الصالح قال الديال بن عمرو عن ابن عباس : هو السمت الحسن في الوجه وعن عروة بن الزبير : لباس التقوى خشية الله وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ولباس التقوى يتقي الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى وكلها متقاربة ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال : حدثني المثنى حدثنا إسحاق بن الحجاج حدثني إسحاق بن إسماعيل عن سليمان بن أرقم عن الحسن قال : رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عليه قميص فوهي محلول الزر وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام ثم قال : يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ والذي نفس محمد بيده ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر ] ثم قرأ هذه الاية { وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله } قال : السمت الحسن هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم وفيه ضعف وقد روى الأئمة الشافعي وأحمد والبخاري في كتاب الأدب من طرق صحيحة عن الحسن البصري أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام يوم الجمعة على المنبر وأما المرفوع منه فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدا من وجه آخر حيث قال حدثنا ( ) (2/277)
يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء والتسبب في هتك عورته بعد ما كانت مستورة عنه وما هذا إلا عن عداوة أكيدة وهذا كقوله تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } (2/279)
قال مجاهد : كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع المرأة على قبلها النسعة أو الشيء وتقول :
( اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله )
فأنزل الله { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } الاية قلت : كانت العرب ما عدا قريشا لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها وكانت قريش وهم الحمس يطوفون في ثيابهم ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ومن لم يجد ثوبا جديدا ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر فتقول :
( اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله )
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } فقال تعالى ردا عليهم { قل } أي يا محمد لمن ادعى ذلك { إن الله لا يأمر بالفحشاء } أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة والله لا يأمر بمثل ذلك { أتقولون على الله ما لا تعلمون } أي أتسندون إلى الله من الأقوال مالا تعلمون صحته وقوله تعالى : { قل أمر ربي بالقسط } أي بالعدل والاستقامة { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله وما جاؤوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين أن يكون صوابا موافقا للشريعة وأن يكون خالصا من الشرك
وقوله تعالى : { كما بدأكم تعودون } إلى قوله { الضلالة } اختلف في معنى قوله { كما بدأكم تعودون } فقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد { كما بدأكم تعودون } يحييكم بعد موتكم وقال الحسن البصري : كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء وقال قتادة { كما بدأكم تعودون } قال : بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئا ثم ذهبوا ثم يعيدهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرا واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بموعظة فقال [ يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث شعبة وفي صحيح البخاري أيضا من حديث الثوري به وقال ورقاء بن إياس أبو يزيد عن مجاهد { كما بدأكم تعودون } قال يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا وقال أبو العالية { كما بدأكم تعودون } ردوا إلى علمه فيهم وقال سعيد بن جبير كما بدأكم تعودون كما كتب عليكم تكونون وفي رواية كما كنتم عليه تكونون وقال محمد بن كعب القرظي : في قوله تعالى : { كما بدأكم تعودون } من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدىء خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء كما أن السحرة عملوا بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدؤوا عليه وقال السدي { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } يقول { كما بدأكم تعودون } كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوله { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } قال : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا كما قال { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمنا وكافرا : قلت : ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري [ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة ] وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا علي بن الجعد حدثنا أبو غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم ] هذا قطعة من حديث البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مطرف المدني في قصة قزمان يوم أحد وقال ابن جرير : حدثني ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ تبعث كل نفس على ما كانت عليه ] وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به ولفظه [ يبعث كل عبد على ما مات عليه ] وعن ابن عباس مثله قلت : ويتأيد بحديث ابن مسعود قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الاية وبين قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى [ إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ] الحديث ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم ومع هذا قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيدا { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } وفي الحديث [ كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ] وقدر الله نافذ في بريته فإنه هو { الذي قدر فهدى } و { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وفي الصحيحين [ فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ] ولهذا قال تعالى : { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } ثم علل ذلك فقال { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } الاية قال ابن جرير : وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادا منه لربه فيها لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد وفريق الهدى فرق وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الاية (2/279)
هذه الاية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عراة كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير واللفظ له من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء الرجال بالنهار والنساء بالليل وكانت المرأة تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فقال الله تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وقال العوفي : عن ابن عباس في قوله { خذوا زينتكم عند كل مسجد } الاية قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة والزينة اللباس وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة وقد روى الحافظ بن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعا أنها نزلت في الصلاة في النعال ولكن في صحته نظر والله أعلم ولهذه الاية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك
ومن أفضل اللباس البياض كما قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير وصححه عن ابن عباس مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم وإن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ] هذا حديث جيد الإسناد رجاله على شرط مسلم ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم به وقال الترمذي : حسن صحيح وللإمام أحمد أيضا وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم ] وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين : أن تميما الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه وقوله تعالى { وكلوا واشربوا } الاية قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } وقال البخاري قال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفا أو مخيلة إسناده صحيح وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده ] ورواه النسائي وابن ماجه من حديث قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة ] وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة حدثنا سليمان بن سليم الكلبي حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلا لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ] ورواه النسائي والترمذي من طرق عن يحيى بن جابر به وقال الترمذي : حسن وفي نسخة حسن صحيح
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا سويد بن عبد العزيز حدثنا بقية عن يوسف بن أبي كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت ] ورواه الدارقطني في الأفراد وقال : هذا حديث غريب تفرد به بقية وقال السدي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم فقال الله تعالى لهم : { كلوا واشربوا } الاية يقول لا تسرفوا في التحريم وقال مجاهد : أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { ولا تسرفوا } يقول : ولا تأكلوا حراما ذلك الإسراف وقال عطاء الخراساني : عن ابن عباس قوله { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } في الطعام والشراب وقال ابن جرير : وقوله { إنه لا يحب المسرفين } يقول الله تعالى : إن الله لا يحب المتعدين حده في حلال أو حرام الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ويحرم ما حرم وذلك العدل الذي أمر به (2/281)
يقول تعالى ردا على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله { قل } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم { من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } الاية أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا وإن شركهم فيها الكفار حبا في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة ولا يشركهم فيها أحد من الكفار فإن الجنة محرمة على الكافرين قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين القاضي حدثنا يحيى الحماني حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون فأنزل الله { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } فأمروا بالثياب (2/282)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله ] أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن شقيق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود وتقدم الكلام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن في سورة الأنعام وقوله { والإثم والبغي بغير الحق } قال السدي : أما الإثم فالمعصية والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق وقال مجاهد الإثم المعاصي كلها وأخبر أن الباغي بغيه على نفسه وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه والبغي هو التعدي إلى الناس فحرم الله هذا وهذا وقوله تعالى : { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } أي تجعلوا له شركاء في عبادته { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدا ونحو ذلك مما لا علم لكم به كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } الاية (2/283)
يقول تعالى : { ولكل أمة } أي قرن وجيل { أجل فإذا جاء أجلهم } أي ميقاتهم المقدر لهم { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } ثم أنذر تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته وبشر وحذر فقال { فمن اتقى وأصلح } أي ترك المحرمات وفعل الطاعات { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها } أي كذبت بها قلوبهم واستكبروا عن العمل بها { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } أي ماكثون فيها مكثا مخلدا (2/283)
يقول { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته } أي لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله أو كذب بآياته المنزلة { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } اختلف المفسرون في معناه فقال العوفي عن ابن عباس : ينالهم ما كتب عليهم وكتب لمن كذب على الله أن وجهه مسود وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول : نصيبهم من الأعمال من عمل خيرا جزي به ومن عمل شرا جزي به وقال مجاهد : ما وعدوا به من خير وشر وكذا قال قتادة والضحاك وغير واحد واختاره ابن جرير
وقال محمد بن كعب القرظي { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } قال : عمله ورزقه وعمره وكذا قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا القول قوي في المعنى والسياق يدل عليه وهو قوله { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } ونظير المعنى في هذه الاية كقوله { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } وقوله { ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور * نمتعهم قليلا } الاية وقوله { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } الاية يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبض أرواحهم إلى النار يقولون لهم : أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه قالوا { ضلوا عنا } أي ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا خيرهم { وشهدوا على أنفسهم } أي أقروا واعترفوا على أنفسهم { أنهم كانوا كافرين } (2/284)
يقول تعالى مخبرا عما يقوله لهؤلاء المشركين به المفترين عليه المكذبين بآياته { ادخلوا في أمم } أي من أمثالكم وعلى صفاتكم { قد خلت من قبلكم } أي من الأمم السالفة الكافرة { من الجن والإنس في النار } يحتمل أن يكون بدلا من قوله في أمم ويحتمل أن يكون في أمم أي مع أمم وقوله { كلما دخلت أمة لعنت أختها } كما قال الخليل عليه السلام { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } الاية وقوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } وقوله { حتى إذا اداركوا فيها جميعا } أي اجتمعوا فيها كلهم { قالت أخراهم لأولاهم } أي أخراهم دخولا وهم الأتباع لأولاهم وهم المتبوعون لأنهم أشد جرما من أتباعهم فدخلوا قبلهم فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل فيقولون { ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار } أي أضعف عليهم العقوبة كما قال تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب } الاية وقوله { قال لكل ضعف } أي قد فعلنا ذلك وجازينا كلا بحسبه كقوله { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا } الاية
وقوله { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } وقوله { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } الاية { وقالت أولاهم لأخراهم } أي قال المتبوعون للأتباع { فما كان لكم علينا من فضل } قال السدي : فقد ضللتم كما ضللنا { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } وهذه الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال محشرهم في قوله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } (2/284)
قوله { لا تفتح لهم أبواب السماء } قيل المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء قاله مجاهد وسعيد بن جبير ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس وكذا رواه الثوري عن ليث عن عطاء عن ابن عباس وقيل المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله السدي وغير واحد ويؤيده ما قاله ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن المنهال هو ابن عمرو عن زاذان عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر قبض روح االفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء فيصعدون بها فلا تمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون بابها له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { لا تفتح لهم أبواب السماء } الاية هكذا رواه وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عن المنهال بن عمرو به
وقد رواه الإمام أحمد بطوله فقال : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال [ استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ مرتين أو ثلاثة ثم قال ـ إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الاخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال ـ فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز و جل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى
قال : فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك ؟ فيقول : ربي الله فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولان له : وما عملك ؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد البصر ـ قال ـ ويأتيه رجل حسن الوجه وحسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له : من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير ؟ فيقول : أنا عملك الصالح فيقول : رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ـ قال وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الاخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال : فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } فيقول الله عز و جل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ـ ثم قرأ ـ { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان : ما دينك ؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة ]
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن يونس بن خباب عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنازة فذكر نحوه وفيه حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك السماء والأرض وكل ملك في السماء وفتحت له أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز و جل أن يعرج بروحه من قبلهم وفي آخره ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان ترابا فيضربه ضربة فيصير ترابا ثم يعيده الله عز و جل كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين قال البراء : ثم يفتح له باب من النار ويمهد له فرش من النار وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن جرير واللفظ له من حديث محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فيقولون ذلك حتى يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقولون فلان فيقال مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أدخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فيقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز و جل وإذا كان الرجل السوء قالوا اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فيقولون ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقولون فلان فيقولون لا مرحبا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لم يفتح لك أبواب السماء فترسل بين السماء والأرض فتصير إلى القبر ]
وقد قال ابن جريج في قوله { لا تفتح لهم أبواب السماء } لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم وهذا فيه جمع بين القولين والله أعلم وقوله تعالى { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } هكذا قرأه الجمهور وفسروه بأنه البعير قال ابن مسعود : هو الجمل ابن الناقة وفي رواية زوج الناقة وقال الحسن البصري : حتى يدخل البعير في خرم الإبرة وكذا قال أبو العالية والضحاك وكذا روى علي بن أبي طلحة العوفي عن ابن عباس وقال مجاهد وعكرمة عن ابن عباس : إنه كان يقرؤها يلج الجمل في سم الخياط بضم الجيم وتشديد الميم يعني الحبل الغليظ في خرم الإبرة وهذا اختيار سعيد بن جبير وفي رواية أنه قرأ حتى يلج الجمل يعني قلوس السفن وهي الحبال الغلاظ وقوله { لهم من جهنم مهاد } قال محمد بن كعب القرظي { لهم من جهنم مهاد } قال الفرش { ومن فوقهم غواش } قال اللحف وكذا قال الضحاك بن مزاحم والسدي { وكذلك نجزي الظالمين } (2/285)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر حال السعداء فقال { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله واستكبروا عنها وينبه تعالى على أنه الإيمان والعمل به سهل لأنه تعالى قال { لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي من حسد وبغض كما جاء في صحيح البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا ] وقال السدي في قوله { ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار } الاية إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدا وقد روى أبو إسحاق عن عاصم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوا من هذا كما سيأتي في قوله تعالى : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا } إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان
وقال قتادة : قال علي رضي الله عنه إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } رواه ابن جرير : وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن إسرائيل قال سمعت الحسن يقول قال علي : فينا والله أهل بدر نزلت { ونزعنا ما في صدورهم من غل } وروى النسائي وابن مردويه واللفظ له من حديث أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني فيكون له شكرا وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فيكون له حسرة ] ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون أي بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال [ واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة ] قالوا ولا أنت يا رسول الله قال [ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ] (2/287)
يخبر تعالى بما يخاطب به أهل النار على وجه التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } أن ههنا مفسرة للقول المحذوف وقد للتحقيق أي قالوا لهم { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } كما أخبر تعالى في سورة الصافات عن الذي كان له قرين من الكفار { فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين } أي : ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا ويقرعه بما صارإليه من العذاب والنكال وكذلك تقرعهم الملائكة يقولون لهم : { هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } وكذلك قرع رسول الله صلى الله عليه و سلم قتلى القليب يوم بدر فنادى [ يا أبا جهل بن هشام ويا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ـ وسمى رؤوسهم ـ هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا وقال عمر : يا رسول الله تخاطب قوما قد جيفوا ؟ فقال : والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا ]
وقوله تعالى : { فأذن مؤذن بينهم } أي أعلم معلم ونادى مناد { أن لعنة الله على الظالمين } أي مستقرة عليهم ثم وصفهم بقوله { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } أي يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد { وهم بالآخرة كافرون } أي وهم بلقاء الله في الدار الاخرة كافرون أي جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل لأنهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا فهم شر الناس أقوالا وأعمالا (2/288)
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبه أن بين الجنة والنار حجابا وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة قال ابن جرير : وهو السور الذي قال الله تعالى فيه : { فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه : { وعلى الأعراف رجال } ثم روى بإسناده عن السدي أنه قال في قوله تعالى : { وبينهما حجاب } وهو السور وهو الأعراف وقال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار سور له باب قال ابن جرير : والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه
وحدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول : الأعراف هو الشيء المشرف وقال الثوري عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال : الأعراف سور كعرف الديك وفي رواية عن ابن عباس : الأعراف جمع تل بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار وفي رواية عنه هو سور بين الجنة والنار وكذا قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير وقال السدي : إنما سمي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم ؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن إسماعيل حدثنا عبيد بن الحسين حدثنا سليمان بن داود حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا شيخ لنا يقال له أبو عباد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال [ أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ] وهذا حديث غريب من هذا الوجه
ورواه من وجه آخر عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال [ إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم فقتلوا في سبيل الله ] وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معشر حدثنا يحيى بن شبل عن يحيى بن عبد الرحمن المزني عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أصحاب الأعراف قال [ هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من النار قتلهم في سبيل الله ] ورواه ابن مردويه وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن أبي معشر به وكذا رواه ابن ماجه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن الشعبي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف قال فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار قال فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم وقد رواه من وجه آخر أبسط من هذا فقال حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال : قال الشعبي أرسل إلي عبد الحميد بن عبد الرحمن وعنده أبو الزناد عبد الله ابن ذكوان مولى قريش فإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرا ليس كما ذكرا فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة فقالا هات فقلت إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال لهم اذهبوا فادخوا الجنة فإني قد غفرت لكم
وقال عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي قال : قال سعيد بن جبير وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال : يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قول الله : { فمن ثقلت موازينه } الايتين ثم قال : الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أهل النار { قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } تعوذوا بالله من منازلهم قال : فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا { ربنا أتمم لنا نورنا } وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فلم ينزع فهنالك يقول الله تعالى : { لم يدخلوها وهم يطمعون } فكان الطمع دخولا
قال : فقال ابن مسعود : إن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ثم يقول : هلك من غلبت آحاده عشراته رواه ابن جرير وقال أيضا : حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا : حدثنا جرير عن منصور عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال : الأعراف السور الذي بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف بذلك المكان حتى إذا بدا الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قصب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال : تمنوا ما شئتم فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنة وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن المغيرة عن جرير به وقد رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد وعن عبد الله بن الحارث من قوله وهذا أصح والله أعلم وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد وقال سعيد بن داود : حدثني جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أصحاب الأعراف قال [ هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم ] وهذا مرسل حسن وقيل هم أولاد الزنى حكاه القرطبي وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الوليد بن موسى عن شيبة بن عثمان عن عروة بن رويم عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب فسألناه عن ثوابهم وعن مؤمنيهم فقال على الأعراف وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه و سلم فسألناه وما الأعراف ؟ فقال حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار وراه البيهقي عن ابن بشران عن علي بن محمد المصري عن يوسف بن يزيد عن الوليد بن موسى به
وقال سفيان الثوري : عن خصيف عن مجاهد قال أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن سليمان التيمي عن أبي مجلز في قوله تعالى : { وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } قال هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار قال { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين * ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } قال فيقال حين يدخل أهل الجنة الجنة { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق وقول الجمهور مقدم على قوله بدلالة الاية على ما ذهبوا إليه وكذا قول مجاهد إنهم قوم صالحون علماء فقهاء فيه غرابة أيضا والله أعلم وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها : أنهم شهدوا أنهم صلحاء تهرعوا من فزع الاخرة وخلق يطلعون على أخبار الناس وقيل هم أنبياء وقيل هم ملائكة وقوله تعالى : { يعرفون كلا بسيماهم } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه وأهل النار بسواد الوجوه وكذا روى الضحاك عنه وقال العوفي عن ابن عباس أنزلهم الله تلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ويتعوذوا بالله أن يجعلوهم مع القوم الظالمين وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها وهم داخلوها إن شاء الله وكذا قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم
وقال معمر عن الحسن إنه تلا هذه الاية { لم يدخلوها وهم يطمعون } قال والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم وقال قتادة قد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع وقوله { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } قال الضحاك عن ابن عباس إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين وقال السدي وإذا مروا بهم يعني بأصحاب الأعراف بزمرة يذهب بها إلى النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين وقال عكرمة تحدد وجوههم للنار فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } فرأوا وجوههم مسودة وأعينهم مزرقة { قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } (2/289)
يقول الله تعالى إخبارا عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم يعرفونهم في النار بسيماهم { ما أغنى عنكم جمعكم } أي كثرتكم { وما كنتم تستكبرون } أي لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني أصحاب الأعراف { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس { قالوا ما أغنى عنكم جمعكم } الاية قال فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار قال الله لأهل التكبر والأموال { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون }
وقال حذيفة إن أصحاب الأعراف قوم تكاثفت أعمالهم فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة وقصرت بهم سيئاتهم عن النار فجعلوا على الأعراف يعرفون الناس بسيماهم فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة فأتوا آدم فقالوا : يا آدم أنت أبونا فاشفع لنا عند ربك فقال هل تعلمون أن أحدا خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وسبقت رحمته إليه غضبه وسجدت له الملائكة غيري ؟ فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا ابني إبراهيم فيأتون إبراهيم صلى الله عليه و سلم فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم فيقول تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا هل تعلمون أن أحدا أحرقه قومه بالنار في الله غيري ؟ فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا ابني موسى فيأتون موسى عليه السلام فيقول هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليما وقربه نجيا غيري فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا عيسى فيأتونه عليه السلام فيقولون له اشفع لنا عند ربك فيقول هل تعلمون أحدا خلقه الله من غير أب فيقولون لا فيقول هل تعلمون من أحد كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري ؟ قال : فيقولون لا فيقول : أنا حجيج نفسي ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه و سلم فيأتوني فأضرب بيدي على صدري ثم أقول أنا لها ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش فآتي ربي عز و جل فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط ثم أسجد فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي ثم أثني على ربي عز و جل ثم أخر ساجدا فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول ربي أمتي فيقول هم لك فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا غبطني بذلك المقام وهو المقام المحمود فآتي بهم الجنة فأستفتح فيفتح لي ولهم فيذهب بهم إلى نهر يقال له نهر الحيوان حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك وحصباؤه الياقوت فيغتسلون منه فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها يقال مساكين أهل الجنة (2/292)
يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم وأنهم لا يجابون إلى ذلك قال السدي { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } يعني الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يستطعمونهم ويستسقونهم وقال الثوري عن عثمان الثقفي عن سعيد بن جبير في هذه الاية قال ينادي الرجل أباه أوأخاه فيقول له قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال لهم أجيبوهم فيقولون { إن الله حرمهما على الكافرين } وروي من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس مثله سواء وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { إن الله حرمهما على الكافرين } يعني طعام الجنة وشرابها
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي أخبرنا موسى بن المغيرة حدثنا أبو موسى الصفار في دار عمرو بن مسلم قال : سألت ابن عباس أو سئل أي الصدقة أفضل ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أفضل الصدقة الماء ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ] وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال لما مرض أبو طالب قالوا له لو أرسلت إلى ابن أخيك هذا فيرسل إليك بعنقود من الجنة لعله أن يشفيك به فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر إن الله حرمهما على الكافرين
ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدين لهوا ولعبا واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للاخرة وقوله { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } أي يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه كما قال تعالى : { في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله { نسوا الله فنسيهم } وقال { كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } وقال تعالى : { وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } قال نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا وقال مجاهد نتركهم في النار وقال السدي نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى فيقول أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا فيقول الله تعالى فاليوم أنساك كما نسيتني ؟ (2/293)
يقول تعالى مخبرا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول وأنه كتاب مفصل مبين كقوله { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } الاية وقوله { فصلناه على علم } للعالمين أي على علم منا بما فصلناه به كقوله { أنزله بعلمه } قال ابن جرير وهذه الاية مردودة على قوله { كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه } الاية { ولقد جئناهم بكتاب } الاية وهذا الذي قاله فيه نظر فإنه قد طال الفصل ولا دليل عليه وإنما الأمر أنه لما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الاخرة ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب كقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولهذا قال { هل ينظرون إلا تأويله } أي ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار قاله مجاهد وغير واحد وقال مالك : ثوابه
وقال الربيع : لا يزال يجيء من تأويله أمر حتى يتم يوم الحساب حتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ وقوله { يوم يأتي تأويله } أي يوم القيامة قال ابن عباس { يقول الذين نسوه من قبل } أي تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا { قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } أي في خلاصنا مما صرنا إليه مما نحن فيه { أو نرد } إلى الدار الدنيا { فنعمل غير الذي كنا نعمل } كقوله { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } كما قال ههنا { قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا يشفعون فيهم ولا ينصرونهم ولا ينقذونهم مما هم فيه (2/294)
يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن والستة الأيام هي : الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وفيه اجتمع الخلق كله وفيه خلق آدم عليه السلام واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع ومنه سمي السبت وهو القطع
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا حجاج حدثنا ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدي فقال [ خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ] فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه عن حجاج وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة والله تعالى قد قال في ستة أيام ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعا والله أعلم
وأما قوله تعالى { ثم استوى على العرش } فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله لا يشبهه شيء من خلقه و { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الايات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى وقوله تعالى { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا } أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا وضياء هذا بظلام هذا وكل منهما يطلب الاخر طلبا حثيثا أي سريعا لا يتأخر عنه بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه كقوله { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } فقوله { ولا الليل سابق النهار } أي لا يفوته بوقت يتأخر عنه بل هو في أثره بلا واسطة بينهما ولهذا قال { يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } منهم من نصب ومنهم من رفع وكلاهما قريب المعنى أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ولهذا قال منبها { ألا له الخلق والأمر } أي له الملك والتصرف { تبارك الله رب العالمين } كقوله { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } الاية
قال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا هشام أبو عبد الرحمن حدثنا بقية بن الوليد حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط عمله ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ] لقوله { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء وروي مرفوعا [ اللهم لك الملك كله ولك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله ] (2/294)
أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } قيل معناه تذللا واستكانه وخفية كقوله { واذكر ربك في نفسك } الاية وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعون سميع قريب ] الحديث وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله { تضرعا وخفية } قال السر وقال ابن جرير تضرعا تذللا واستكانة لطاعته وخفية يقول بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهرا مراءاة وقال عبد الله بن المبارك بن فضالة عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به ولقد أدركنا أقوما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال { إذ نادى ربه نداء خفيا } وقال ابن جريج يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ويؤمر بالتضرع والاستكانه
ثم روي عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله { إنه لا يحب المعتدين } في الدعاء ولا في غيره وقال أبو مجلز { إنه لا يحب المعتدين } لا يسأل منازل الأنبياء وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيرا كثيرا وتعوذت به من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ـ وفي لفظ ـ يعتدون في الطهور والدعاء ـ وقرأ هذه الاية { ادعوا ربكم تضرعا } الاية ـ وإن بحسبك أن تقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ] ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن مولى لسعد عن سعد فذكره والله أعلم وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور ] وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان به وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الجريري عن أبي نعامة واسمه قيس بن عباية الحنفي البصري وهو إسناد حسن لا بأس به والله أعلم
وقوله تعالى { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال { وادعوه خوفا وطمعا } أي خوفا مما عنده من وبيل العقاب وطمعا فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال { إن رحمة الله قريب من المحسنين } أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما قال تعالى { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون } الاية وقال قريب ولم يقل قريبة لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب أو لأنها مضافة إلى الله فلهذا قال قريب من المحسنين وقال مطر الوراق تنجزوا موعود الله بطاعته فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين رواه ابن أبي حاتم (2/296)
لما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر نبه تعالى على أنه الرزاق وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال { وهو الذي يرسل الرياح بشرا } أي منتشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر ومنهم من قرأ بشرا كقوله { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } وقوله { بين يدي رحمته } أي بين المطر كما قال { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد } وقال { فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير } وقوله { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا } أي حملت الرياح سحابا ثقالا أي من كثرة ما فيها من الماء تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة كما قال زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
وقوله { سقناه لبلد ميت } أي إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها كقوله { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } الاية ولهذا قال { فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى } أي كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رميما يوم القيامة ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يوما فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله مثلا ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ولهذا قال { لعلكم تذكرون } وقوله { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } أي والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعا حسنا كقوله { وأنبتها نباتا حسنا } { والذي خبث لا يخرج إلا نكدا } قال مجاهد وغيره كالسباخ ونحوها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقال البخاري حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ] رواه مسلم والنسائي من طرق عن أبي أسامة حماد بن أسامة به (2/297)
لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتعلق بذلك وما يتصل به وفرغ منه شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الأول فالأول فابتدأ بذكر نوح عليه السلام فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام وهو نوح بن لامك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس النبي عليه السلام فيما يزعمون وهو أول من خط بالقلم ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم عليهم السلام هكذا نسبه محمد بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب
قال محمد بن إسحاق ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل وقال يزيد الرقاشي إنما سمي نوح لكثرة ما ناح على نفسه وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام قال عبد اللهبن عباس وغير واحد من علماء التفسير وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صورة أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له فقال { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } أي من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به { قال الملأ من قومه } أي الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم { إنا لنراك في ضلال مبين } أي في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة كقوله { وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون } { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } إلى غير ذلك من الايات { قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين } أي ما أنا ضال ولكن أنا رسول من رب العالمين رب كل شيء ومليكه { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون } وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا فصيحا ناصحا عالما بالله لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا [ أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟ ] قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ويقول [ اللهم اشهد اللهم اشهد ] (2/298)
يقول تعالى إخبارا عن نوح أنه قال لقومه { أوعجبتم } الاية أي لا تعجبوا من هذا فإن هذا ليس بعجب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم لينذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به { ولعلكم ترحمون } قال الله تعالى { فكذبوه } أي تمادوا على تكذيبه ومخالفته وما آمن معه منهم إلا قليل كما نص عليه في موضع آخر { فأنجيناه والذين معه في الفلك } أي السفينة كما قال : فأنجيناه وأصحاب السفينة { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } كما قال { مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } وقوله { إنهم كانوا قوما عمين } أي عن الحق لا يبصرونه ولا يهتدون له فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه وأنجى رسوله والمؤمنين وأهلك أعداءهم من الكافرين كقوله { إنا لننصر رسلنا } الاية
وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والاخرة أن العاقبة فيها للمتقين والظفر والغلب لهم كما أهلك قوم نوح بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين وقال مالك عن زيد بن أسلم كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز وقال ابن وهب بلغني عن ابن عباس أنه نجا مع نوح في السفينة ثمانون رجلا أحدهم جرهم وكان لسانه عربيا رواه ابن أبي حاتم وروي متصلا من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما (2/299)
يقول تعالى وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحا كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا قال محمد بن إسحاق هم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح قلت هؤلاء هم عاد الأولى الذين ذكرهم الله وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العمد في البر كما قال تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد } وذلك لشدة بأسهم وقوتهم كما قال تعالى { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون } وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف وهي جبال الرمل قال محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة سمعت عليا يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة حمراء ذا أراك وسدر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت هل رأيته ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين ؟ والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه قال لا ولكني قد حدثت عنه فقال الحضرمي وما شأنه يا أمير المؤمنين ؟ قال فيه قبر هود عليه السلام رواه ابن جرير وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن فإن هودا عليه السلام دفن هناك وقد كان من أشرف قومه نسبا لأن الرسل إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم ولكن كان قومه كما شدد خلقهم شدد على قلوبهم وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق ولهذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعته وتقواه
{ قال الملأ الذين كفروا من قومه } والملأ هم الجمهور والسادة والقادة منهم { إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين } أي في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد فقالوا { أجعل الآلهة إلها واحدا } الاية { قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين } أي لست كما تزعمون بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء فهو رب كل شيء ومليكه { أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين } وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغ والنصح والأمانة { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه بل احمدوا الله على ذاكم { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه { وزادكم في الخلق بسطة } أي زاد طولكم على الناس بسطة أي جعلكم أطول من أبناء جنسكم كقوله في قصة طالوت { وزاده بسطة في العلم والجسم } { فاذكروا آلاء الله } أي نعمة ومننه عليكم { لعلكم تفلحون } والالاء جمع إلى وقيل ألى (2/299)
يخبر تعالى عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود عليه السلام { قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده } الاية كقول الكفار من قريش { إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أنهم كانوا يعبدون أصناما فصنم يقال له صمد وآخر يقال صمود وآخر يقال له الهباء ولهذا قال هود عليه السلام { قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } أي قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس قيل هو مقلوب من رجز وعن ابن عباس معناه سخط وغضب { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } أي أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة وهي لا تضر ولا تنفع ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا ولهذا قال { ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا إني معكم من المنتظرين } وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه ولهذا عقبه بقوله { فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين }
وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال في الاية الأخرى { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية } لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلغ رأسه حتى تبينه من بين جثته ولهذا قال { كأنهم أعجاز نخل خاوية } وقال محمد بن إسحاق كانوا يسكنون باليمن بين عمان وحضرموت وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله فبعث الله إليهم هودا عليه السلام وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس وهم يسير يكتمون إيمانهم فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع كلمهم هود فقال { أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون } { قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } أي بجنون { قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم }
قال محمد بن إسحاق : فلما أبوا إلا الكفر به أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين فيما يزعمون حتى جهدهم ذلك قال : وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان وطلبوا من الله الفرج فيه إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان وبه العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال هل معاوية بن بكر وكانت له أم من قوم عاد واسمها كلهدة ابنة الخيبري قال فبعثت عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم ليستسقوا لهم عند الحرم فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان : قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف وأمر القينتين أن تغنياهم به فقال :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد وليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم عيامى
وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
قال : فعند ذلك تنبه القوم لما جاؤوا له فنهضوا على الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثا بيضاء وسوداء وحمراء ثم ناداه مناد من السماء اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب فقال : اخترت هذه السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا لا والدا تترك ولا ولدا إلا جعلته همدا إلا بني اللوذية المهندا قال وبنو اللوذية بطن من عاد يقيمون بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم قال وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الاخرة قال : وساق الله السحابة السوداء فيما يذكرون التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء } أي تهلك كل شيء مرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها مميد فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مميد ؟ قالت ريحا فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما كما قال الله تعالى والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس وإنها لتمر على عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وذكر تمام القصة بطولها وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة وقد قال الله تعالى : { ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ }
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله وقال الإمام أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث البكري قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فمررت بالربذة فإذا بعجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي : يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حاجة هل أنت مبلغي إليه قال فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وإذا بلال متقلد سيفا بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : ما شأن الناس ؟ قالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها قال فجلست فدخل منزله أو قال رحله فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت وسلمت فقال : هل بينكم وبين تميم شيء قلت : نعم وكانت لنا الدائرة عليهم
ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب فأذن لها فدخلت فقلت يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء فحميت العجوز واستوفزت وقالت يا رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك قال قلت : إن مثلي مثل ما قال الأول : معزى حملت حتفها حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد قال لي [ وما وافد عاد ؟ ] وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه قلت إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال اللهم إنك تعلم أني لم أجىء إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير فأفاديه اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها خذها رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا قال : فما بلغني أنه بعث الله عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا قال أبو وائل وصدق قال : وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا لا تكن كوافد عاد هكذا رواه الإمام أحمد في المسند ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن زيد بن الحباب به نحوه ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر عن عاصم وهو ابن بهدلة ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا عن أبي وائل عن الحارث بن حسان البكري به ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب به ووقع عنده عن الحارث بن يزيد البكري فذكره ورواه أيضا عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن الحارث بن حسان البكري فذكره ولم أر في النسخة أبا وائل والله أعلم (2/300)
قال علماء التفسير والنسب ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عاثر وكذلك قبيلة طسم كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل عليه السلام وكانت ثمود بعد عاد ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله وقد مر رسول الله صلى الله عليه و سلم على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الابار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا لها القدور فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال [ إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم ] وقال أحمد أيضا حدثنا عفان حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بالحجر [ لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم ] وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون المسعودي عن إسماعيل بن أوسط عن محمد بن أبي كبشة الأنماري عن أبيه قال لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فنادى في الناس [ الصلاة جامعة ] قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ممسك بعنزة وهو يقول [ ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم ] فناداه رجل منهم نعجب منهم يا رسول الله ؟ قال [ أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا ] لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه عمر بن سعد ويقال عامر بن سعد والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال لما مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجر قال [ لا تسألوا الايات فقد سألها قوم صالح فكانت ـ يعني الناقة ـ ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله ] فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال [ أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ] وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة وهو على شرط مسلم قوله تعالى : { وإلى ثمود } أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } فجميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقوله { قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية } أي قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاتبة فطلبوا منه أن تخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم قام صالح عليه السلام إلى صلاته ودعا الله عز و جل فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر بن جلهس وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له : شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس وكان من أشراف ثمود وأفاضلها فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عثمة بن الدميل رحمه الله :
وكانت عصبة من آل عمرو إلى دين النبي دعوا شهابا
عزيز ثمود كلهم جميعا فهم بأن يجيب فلو أجابا
لأصبح صالح فينا عزيزا وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكن الغواة من آل حجر تولوا بعد رشدهم ذئابا
وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوما وتدعه لهم يوما وكانوا يشربون لبنها يوم شربها يحتلبونها فيملأون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم كما قال في الاية الأخرى { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر } وقال تعالى : { هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء وكانت على ما ذكر خلقا هائلا ومنظرا رائعا إذا مرت بأنعامهم نفرت منها فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها قال قتادة بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن وعلى الصبيان قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى : { فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها } وقال { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها } وقال { فعقروا الناقة } فأسند ذلك على مجموع القبيلة فدل على رضى جميعهم بذلك والله أعلم
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من علماء التفسير أن سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها عنيزة ابنة غنم بن مجلز وتكنى أم غنم كانت عجوزا كافرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانت لها بنات حسان ومال جزيل وكان زوجها ذؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود وامرأة أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا بن زهير بن المختار ذات حسب ومال وجمال وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ففارقته فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة فدعت صدوف رجلا يقال له الحباب فعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف بن جذع وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه كان ولد زنية وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه وهو سالف وإنما هو من رجل يقال له صهياد ولكن ولد على فراش سالف وقالت له أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة فعند ذلك انطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر فصاروا تسعة رهط وهم الذين قال الله تعالى : { وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون } وكانوا رؤساء في قومهم فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها فطاوعتهم على ذلك فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت من الماء وقد كمن لها قدار بن سالف في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها فسفرت عن وجهها لقدار وذمرته وشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ساقطة إلى الأرض ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها وانطلق سقبها وهو فصيلها حتى أتى جبلا منيعا فصعد أعلى صخرة فيه ورغا فروى عبدالرزاق عن معمر عمن سمع الحسن البصري أنه قال : يا رب أين أمي ؟ ويقال إنه رغا ثلاث مرات وإنه دخل في صخرة فغاب فيها ويقال بل اتبعوه فعقروه مع أمه فالله أعلم فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة وبلغ الخبر صالحا عليه السلام فجاءهم وهم مجتمعون فلما رأى الناقة بكى وقال { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } الاية
وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح وقالوا : إن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته { قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون * ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } الاية فلما عزموا على ذلك وتواطؤوا عليه وجاؤوا من الليل ليفتكوا بنبي الله فأرسل الله سبحانه وتعالى وله العزة ولرسوله عليهم حجارة فرضختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم وأصبح ثمود يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح عليه السلام وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه عياذا بالله من ذلك لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة { فأصبحوا في دارهم جاثمين } أي صرعى لا أرواح فيهم ولم يفلت منهم أحد لا صغير ولا كبير لا ذكر ولا أنثى قالوا : إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة ابنة السلق ويقال لها الزريقة وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فلما رأت ما رأت من العذاب أطلقت رجلاها فقامت تسعى كأسرع شيء فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها ثم استسقتهم من الماء فلما شربت ماتت
قال علماء التفسير : ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه السلام ومن تبعه رضي الله عنهم إلا أن رجلا يقال له أبو رغال كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما إذ ذاك في الحرم فلم يصبه شيء فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل جاءه حجر من السماء فقتله وقد تقدم في أول القصة حديث جابر بن عبد الله في ذلك وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف قال عبد الرزاق عن معمر : أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بقبر أبي رغال فقال [ أتدرون من هذا ؟ ] قالوا الله ورسوله أعلم قال [ هذا قبر أبي رغال رجل من ثمود كان في حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن ] وقال عبد الرزاق : قال معمر : قال الزهري : أبو رغال أبو ثقيف هذا مرسل من هذا الوجه
وقد روي متصلا من وجه آخر كما قال محمد بن إسحاق : عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال [ هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم فدفع عنه فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن ] وهكذا رواه أبو داود عن يحيى بن معين عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن ابن إسحاق به قال شيخنا أبو الحجاج المزي : وهو حديث حسن عزيز ( قلت ) تفرد بوصله بجير بن أبي بجير هذا وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث قال يحيى بن معين : ولم أسمع أحدا روى عنه غير إسماعيل بن أمية ( قلت ) وعلى هذا فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو مما أخذه من الزاملتين قال شيخنا أبو الحجاج بعد أن عرضت عليه ذلك وهذا محتمل والله أعلم (2/303)
هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله وإبائهم عن قبول الحق وإعراضهم عن الهدى إلى العمى قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما ظهر على أهل بدر أقام هناك ثلاثا ثم أمر براحلته فشدت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها ثم سار حتى وقف على القليب قليب بدر فجعل يقول [ يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة ويا فلان هل بن فلان وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ] فقال له عمر : يا رسول الله ما تكلم من أقوام قد جيفوا ؟ فقال [ والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون ] وفي السيرة أنه عليه السلام قال لهم [ بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ]
وهكذا صالح عليه السلام قال لقومه { لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم } أي فلم تنتفعوا بذلك لأنكم لا تحبون الحق ولا تتبعون ناصحا ولهذا قال { ولكن لا تحبون الناصحين } وقد ذكر بعض المفسرين : أن كل نبي هلكت أمته كان يذهب فيقيم في الحرم حرم مكة والله أعلم وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بوادي عسفان حين حج قال [ يا أبا بكر أي واد هذا ؟ ] قال هذا وادي عسفان قال [ لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات خطمهن الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق ] هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يخرجه أحد منهم (2/307)
يقول تعالى { و } لقد أرسلنا { لوطا } أو تقديره { و } اذكر { لوطا إذ قال لقومه } ولوط هو ابن هاران بن آزر وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام وكان قد آمن مع إبراهيم عليه السلام وهاجر معه إلى أرض الشام فبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى يدعوهم إلى الله عز و جل ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم وهو إتيان الذكور دون الإناث وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم حتى صنع ذلك أهل سدوم عليهم لعائن الله
قال عمرو بن دينار في قوله { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } قال : ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي باني جامع دمشق : لولا أن الله عز و جل قص علينا خبر قوم ولوط ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا ولهذا قال لهم لوط عليه السلام { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء } أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال وهذا إسراف منكم وجهل لأنه وضع الشيء في غير محله ولهذا قال لهم في الاية الأخرى { هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين } فأرشدهم إلى نسائهم فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن { قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد } أي لقد علمت أنه لا أرب لنا في النساء ولا إرادة وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بعضهن ببعض أيضا (2/308)
أي ما أجابوا لوطا إلا أن هموا بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم فأخرجه الله تعالى سالما وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين وقوله تعالى : { إنهم أناس يتطهرون } قال قتادة : عابوهم بغير عيب وقال مجاهد : إنهم أناس يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء وروي مثله عن ابن عباس أيضا (2/308)
يقول تعالى فأنجينا لوطا وأهله ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط كما قال تعالى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } إلا امرأته فإنها لم تؤمن به بل كانت على دين قومها تمالئهم عليه وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ولهذا لما أمر لوط عليه السلام ليسري بأهله أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد ومنهم من يقول : بل اتبعتهم فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم ولهذا قال ههنا { إلا امرأته كانت من الغابرين } أي الباقين وقيل من الهالكين وهو تفسير باللازم وقوله { وأمطرنا عليهم مطرا } مفسر بقوله { وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد } ولهذا قال { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة من يجترىء على معاصي الله عز و جل ويكذب رسله
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنا أو غير محصن وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله والحجة ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو بن أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] وقال آخرون هو كالزاني فإن كان محصنا رجم وإن لم يكن محصنا جلد مائة جلدة وهو القول الاخر للشافعي وأما إتيان النساء في الأدبار فهو اللوطية الصغرى وهو حرام بإجماع العلماء إلا قولا شاذا لبعض السلف وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة (2/308)
قال محمد بن إسحاق : هم من سلالة مدين بن إبراهيم وشعيب وهو ابن ميكيل بن يشجر قال واسمه بالسريانية يثرون ( قلت ) مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز قال الله تعالى : { ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون } وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } هذه دعوة الرسل كلهم قد جاءتكم بينة من ربكم أي قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ولا يبخسوا الناس أشياءهم أي لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس وهو نقص المكيال والميزان وتدليسا كما قال تعالى : { ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد نسأل الله العافية منه ثم قال تعالى إخبارا عن شعيب الذي يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته وجزالة موعظته (2/309)
ينهاهم شعيب عليه السلام عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } أي تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم قال السدي وغيره : كانوا عشارين وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } أي تتوعدون المؤمنين الاتين إلى شعيب ليتبعوه والأول أظهر لأنه قال { بكل صراط } وهو الطريق وهذا الثاني هو قوله { وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا } أي وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } أي كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عددكم فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } أي من الأمم الخالية والقرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله وقوله { وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا } أي قد اختلفتم علي { فاصبروا } أي انتظروا { حتى يحكم الله بيننا } وبينكم أي يفصل { وهو خير الحاكمين } فإنه سيجعل العاقبة للمتقين والدمار على الكافرين (2/309)
هذا خبر من الله تعالى عما واجهت به الكفار نبيه شعيبا ومن معه من المؤمنين في توعدهم إياه ومن معه بالنفي عن القرية أو الإكراه على الرجوع في ملتهم والدخول معهم فيما هم فيه وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة وقوله { أو لو كنا كارهين } يقول أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادا وهذا تعبير منه عن اتباعهم { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } وهذا رد إلى المشيئة فإنه يعلم كل شيء وقد أحاط بكل شيء علما { على الله توكلنا } أي في أمورنا ما نأتي منها وما نذر { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } أي احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم { وأنت خير الفاتحين } أي خير الحاكمين فإنك العادل الذي لا يجور أبدا (2/310)
يخبر تعالى عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم وما هم فيه من الضلال وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق ولهذا أقسموا وقالوا { لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون } فلهذا عقبه بقوله { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدهم بالجلاء كما أخبر عنهم في سورة هود فقال { ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } والمناسبة هناك والله أعلم أنهم لما تهكموا به في قولهم { أصلاتك تأمرك } الاية فجاءت الصيحة فأسكتتهم وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء { فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة { فأسقط علينا كسفا من السماء } الاية
فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة وقد اجتمع عليهم ذلك كله { فأخذهم عذاب يوم الظلة } وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح وفاضت النفوس وخمدت الأجسام { فأصبحوا في دارهم جاثمين } ثم قال تعالى : { كأن لم يغنوا فيها } أي كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها ثم قال تعالى مقابلا لقيلهم { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين } (2/310)
أي فتولى عنهم شعيب عليه السلام بعد ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال وقال مقرعا لهم وموبخا { يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم } أي قد أديت إليكم ما أرسلت به فل اآسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به فلهذا قال { فكيف آسى على قوم كافرين } ؟ (2/311)
يقول تعالى مخبرا عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء يعني بالبأساء ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام والضراء ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك { لعلهم يضرعون } أي يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم وتقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئا من الذي أراد منهم فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه ولهذا قال { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } أي حولنا الحالة من شدة إلى رخاء ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية ومن فقر إلى غنى ليشكروا على ذلك فما فعلوا وقوله { حتى عفوا } أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم يقال عفا الشيء إذا كثر
{ وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } يقول تعالى : ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ولا انتهوا بهذا ولا بهذا بل قالوا : قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر وإنما هو الدهر تارات وتارات بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم و لا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء كما ثبت في الصحيحين [ عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ] فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء ولهذا جاء في الحديث [ لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه ] أو كما قال ولهذا عقب هذه الصفة بقوله { فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } أي أخذناهم بالعقوبة بغتة أي على بغتة وعدم شعور منهم أي أخذناهم فجأة كما في الحديث [ موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر ] (2/311)
يخبر تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل كقوله تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } أي ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس فإنهم آمنوا وذلك بعدما عاينوا العذاب كما قال تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين } وقال تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نذير } الاية وقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل وصدقت به واتبعوه واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } أي قطر السماء ونبات الأرض قال تعالى : { ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } أي ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم ثم قال تعالى مخوفا ومحذرا من مخالفة أوامره والتجرؤ على زواجره : { أفأمن أهل القرى } أي الكافرة { أن يأتيهم بأسنا } أي عذابنا ونكالنا { بياتا } أي ليلا { وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } أي في حال شغلهم وغفلتهم { أفأمنوا مكر الله } أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن (2/312)
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } أو لم يتبين لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم وكذا قال مجاهد وغيره وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها : يقول تعالى أو لم يتبين للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا سيرتهم وعملوا أعمالهم وعتوا على ربهم { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } يقول : أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم { ونطبع على قلوبهم } يقول ونختم على قلوبهم { فهم لا يسمعون } موعظة ولا تذكيرا ( قلت ) وهكذا قال تعالى : { أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى } وقال تعالى : { أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون } وقال { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } الاية وقال تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا } أي هل ترى لهم شخصا أو تسمع لهم صوتا ؟
وقال تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين * ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون }
وقال تعالى : { وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } وقال تعالى : { ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير } وقال تعالى : { فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } وقال تعالى { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } إلى غير ذلك من الايات الدالة على حلول نقمه بأعدائه وحصول نعمه لأوليائه ولهذا عقب بقوله وهو أصدق القائلين ورب العالمين (2/312)
لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه و سلم خبر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين قال تعالى : { تلك القرى نقص عليك } أي يا محمد { من أنبائها } أي من أخبارها { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } أي الحجج على صدقهم فيما أخبروهم به كما قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقوله تعالى : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } الباء سببية أي فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم حكاه ابن عطية رحمه الله وهو متجه حسن كقوله { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } الاية ولهذا قال هنا { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين * وما وجدنا لأكثرهم } أي لأكثر الأمم الماضية { من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } أي ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال والعهد الذي أخذه هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو فأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع وفي الفطرة السليمة خلاف ذلك وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى : [ إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ] وفي الصحيحين [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] الحديث
وقال تعالى في كتابه العزيز { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقوله تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } إلى غير ذلك من الايات وقد قيل في تفسير قوله تعالى : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } ما روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } قال كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق أي فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك وكذا قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن أنس واختاره ابن جرير وقال السدي { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } قال : ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها وقال مجاهد في قوله { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } هذا كقوله { ولو ردوا لعادوا } الاية (2/313)
يقول تعالى : { ثم بعثنا من بعدهم } أي الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين { موسى بآياتنا } أي بحججنا ودلائلنا البينة إلى فرعون وهو ملك مصر في زمن موسى { وملئه } أي قومه { فظلموا بها } أي جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا وكقوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله أي انظر كيف فعلنا بهم أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه وأشفى لقلوب أولياء الله موسى وقومه من المؤمنين به (2/314)
يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وإلجامه إياه بالحجة وإظهاره الايات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر فقال تعالى : { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } أي أرسلني الذي هو خالق كل شيء وربه ومليكه { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } فقال بعضهم : معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق أي جدير بذلك وحري به قالوا : والباء وعلى يتعاقبان يقال رميت بالقوس وعلى القوس وجاء على حال حسنة وبحال حسنة وقال بعض المفسرين : معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق وقرأ آخرون من أهل المدينة : حقيق علي بمعنى واجب وحق علي ذلك أن لا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه { قد جئتكم ببينة من ربكم } أي بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا على صدقي فيما جئتكم به { فأرسل معي بني إسرائيل } أي أطلقهم من أسرك وقهرك ودعهم وعبادة ربك وربهم فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن { قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين } أي قال فرعون لست بمصدقك فيما قلت ولا بمطيعك فيما طلبت فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها إن كنت صادقا فيما ادعيت (2/314)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { ثعبان مبين } الحية الذكر وكذا قال السدي والضحاك وفي حديث الفتون من رواة يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال { فألقى عصاه } فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه اقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل وقال قتادة : تحولت حية عظيمة مثل المدينة وقال السدي في قوله { فإذا هي ثعبان مبين } الثعبان الذكر من الحيات فاتحة فاها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه فلما رآها ذعر منها ووثب وأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك وصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى عليه السلام فعادت عصا وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا وقال وهب بن منبه : لما دخل موسى على فرعون قال له فرعون : أعرفك قال نعم قال { ألم نربك فينا وليدا } قال : فرد إليه موسى الذي رد فقال فرعون : خذوه فبادر موسى { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } فحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت رواه ابن جرير والإمام أحمد في كتابه الزهد وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم
وقوله { ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } أي أخرج يده من درعه بعد ما أدخلها فيه فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض كما قال تعالى : { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء } الاية وقال ابن عباس في حديث الفتون : من غير سوء يعني من غير برص ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول وكذا قال مجاهد وغير واحد (2/315)
أي قال الملأ وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون موافقين لقول فرعون فيه بعدما رجع إليه روعه واستقر على سرير مملكته بعد ذلك قال للملأ حوله { إن هذا لساحر عليم } فوافقوا وقالوا كمقالته وتشاوروا في أمره كيف يصنعون في أمره وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه وتخوفوا أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه كما قال تعالى : { ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا بما فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى (2/316)
قال ابن عباس { أرجه } أخره وقال قتادة احبسه { وأرسل } أي ابعث { في المدائن } أي في الأقاليم ومدائن ملكك { حاشرين } أي من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم وقت كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا واعتقد من اعتقد منهم وأوهم من أوهم منهم أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل ما تشعبذه سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى } وقال تعالى ههنا : (2/316)
يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى عليه السلام إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا ويجعلهم من جلسائه والمقربين عنده فلما توثقوا من فرعون لعنه الله (2/316)
هذه مبارزة من السحرة لموسى عليه السلام في قولهم { إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } أي قبلك كما قال في الاية الأخرى { وإما أن نكون أول من ألقى } فقال لهم موسى عليه السلام ألقوا أي أنتم أولا قيل الحكمة في هذا والله أعلم ليرى الناس صنيعهم ويتأملوا فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلب له والانتظار منهم لمجيئه فيكون أوقع في النفوس وكذا كان ولهذا قال تعالى : { فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم } أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوا له حقيقة في الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال كما قال تعالى : { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى }
قال سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس : ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا قال فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وقال محمد بن إسحاق صف خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحر حباله وعصيه وخرج موسى عليه السلام معه أخوه يتكى على عصاه حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته ثم قال السحرة { يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم } فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا وقال السدي كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل وليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا { فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم } يقول فرقوهم أي من الفرق وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن هشام الدستوائي حدثنا القاسم بن أبي بزة قال جمع فرعون سبعين ألف ساحر فألقوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ولهذا قال تعالى : { وجاؤوا بسحر عظيم } (2/316)
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه { فإذا هي تلقف } أي تأكل { ما يأفكون } أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو باطل قال ابن عباس فجعلت لا تمر بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التقمته فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء ليس هذا بسحر فخروا سجدا وقالوا { آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون }
وقال محمد بن إسحاق جعلت تتبع تلك الحبال والعصي واحدة واحدة حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ووقع السحرة سجدا قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون لو كان هذا ساحرا ما غلبنا وقال القاسم بن أبي بزة أوحى الله إليه أن ألق عصاك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغر فاه يبتلع حبالهم وعصيهم فألقي السحرة عند ذلك سجدا فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما (2/317)
يخبر تعالى عما توعد به فرعون لعنه الله السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام وما أظهره للناس من كيده ومكره في قوله { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها } أي إن غلبته لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك كقوله في الاية الأخرى { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } وهو يعلم وكل من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل فإن موسى عليه السلام بمجرد ما جاء من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر ممن اختار هو والملأ من قومه وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل ولهذا قد كانوا من أحرص الناس على ذلك وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون وموسى عليه السلام لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم ذلك وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى : { فاستخف قومه فأطاعوه } فإن قوما صدقوه في قوله { أنا ربكم الأعلى } من أجهل خلق الله وأضلهم
وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة في قوله تعالى : { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } قال : التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق قال الساحر لاتين غدا بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهما قالوا فلهذا قال ما قال وقوله { لتخرجوا منها أهلها } أي تجتمعوا أنتم وهو وتكون لكم دولة وصولة وتخرجوا منها الأكابر والرؤساء وتكون الدولة والتصرف لكم { فسوف تعلمون } أي ما أصنع بكم ثم فسر هذا الوعيد بقوله { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } يعني يقطع يد الرجل اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس { ثم لأصلبنكم أجمعين } وقال في الاية الأخرى { في جذوع النخل } أي على الجذوع
قال ابن عباس وكان أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون وقول السحرة { إنا إلى ربنا منقلبون } أي قد تحققنا أنا إليه راجعون وعذابه أشد من عذابك ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم وما أكرهتنا عليه من السحر أعظم من نكالك فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص عن عذاب الله ولهذا قالوا { ربنا أفرغ علينا صبرا } أي عمنا بالصبر على دينك والثبات عليه { وتوفنا مسلمين } أي متابعين لنبيك موسى عليه السلام وقالوا لفرعون { فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى } فكانوا في أول النهار سحرة فصاروا في آخره شهداء بررة قال ابن عباس وعبيد بن عمير وقتادة وابن جريج كانوا في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء (2/318)
يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى عليه السلام وقومه من الأذى والبغضة { وقال الملأ من قوم فرعون } أي لفرعون { أتذر موسى وقومه } أي أتدعهم ليفسدوا في الأرض أي يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك يا لله العجب صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه ! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون ولهذا قالوا { ويذرك وآلهتك } قال بعضهم الواو هاهنا حالية أي أتذره وقومه يفسدون في الأرض وقد ترك عبادتك ؟ وقرأ ذلك أبي بن كعب وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك حكاه ابن جرير وقال آخرون : هي عاطفة أي أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك وقرأ بعضهم إلاهتك أي عبادتك وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيره وعلى القراءة الأولى قال بعضهم : كان لفرعون إله يعبده قال الحسن البصري كان لفرعون إله يعبده في السر وقال في رواية أخرى كان له حنانة في عنقه معلقة يسجد لها وقال السدي في قوله تعالى : { ويذرك وآلهتك } وآلهته فيما زعم ابن عباس كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها فلذلك أخرج لهم السامري عجلا جسدا له خوار فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وهذا أمر ثان بهذا الصنيع وقد كان نكل بهم قبل ولادة موسى عليه السلام حذرا من وجوده فكان خلاف ما رامه وضد ما قصده فرعون وهكذا عومل في صنيعه أيضا لما أراد إذلال بني إسرائيل وقهرهم فجاء الأمر على خلاف ما أراد : أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده ولما صمم فرعون على ما ذكره من المساءة لبني إسرائيل { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا } ووعدهم بالعاقبة وأن الدار ستصير لهم في قوله { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } أي قد فعلوا بنا مثل ما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى ومن بعد ذلك فقال منبها لهم على حالهم الحاضر وما يصيرون إليه في ثاني الحال { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } الاية وهذا تخصيص لهم على العزم على الشكر عند حلول النعم وزوال النقم (2/319)
يقول تعالى : { ولقد أخذنا آل فرعون } أي اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم { بالسنين } وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع { ونقص من الثمرات } قال مجاهد وهو دون ذلك وقال أبو إسحاق عن رجاء بن حيوة كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة { لعلهم يذكرون * فإذا جاءتهم الحسنة } أي من الخصب والرزق { قالوا لنا هذه } أي هذا لنا بما نستحقه { وإن تصبهم سيئة } أي جدب وقحط { يطيروا بموسى ومن معه } أي هذا بسببهم وما جاؤوا به { ألا إنما طائرهم عند الله } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ألا إنما طائرهم عند الله } يقول مصائبهم عند الله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } وقال ابن جريج عن ابن عباس قال { ألا إنما طائرهم عند الله } أي إلا من قبل الله (2/320)
هذا إخبار من الله عز و جل عن تمرد قوم فرعون وعتوهم وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل في قولهم { مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } يقولون أي آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها رددناها فلا نقبلها منك ولا نؤمن بك ولا بما جئت به قال الله تعالى : { فأرسلنا عليهم الطوفان } اختلفوا في معناه فعن ابن عباس في رواية كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار وبه قال الضحاك بن مزاحم وعن ابن عباس في رواية أخرى هو كثرة الموت وكذا قال عطاء وقال مجاهد : الطوفان الماء والطاعون على كل حال وقال ابن جرير : حدثنا ابن هشام الرفاعي حدثنا يحيى بن يمان حدثنا المنهال بن خليفة عن الحجاج عن الحكم بن ميناء عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الطوفان الموت ] وكذا رواه ابن مردويه من حديث يحيى بن يمان به وهو حديث غريب وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو أمر من الله طاف بهم ثم قرأ { فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون } وأما الجراد فمعروف مشهور وهو مأكول لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفور قال سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الجراد فقال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع غزوات نأكل الجراد وروى الشافعي وأحمد بن حنبل وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد والكبد والطحال ] ورواه أبو القاسم البغوي عن داود بن رشيد عن سويد بن عبد العزيز عن أبي تمام الأيلي عن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا مثله وروى أبو داود عن محمد بن الفرج عن محمد بن زبرقان الأهوازي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الجراد فقال [ أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه ] وإنما تركه عليه السلام لأنه كان يعافه كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب وأذن فيه وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد حدثنا يحيى بن خالد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يأكل الجراد ولا الكلوتين ولا الضب من غير أن يحرمها أما الجراد فرجز وعذاب وأما الكلوتان فلقربهما من البول وأما الضب فقال [ أتخوف أن يكون مسخا ] ثم قال غريب لم أكتبه إلا من هذا الوجه وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشتهيه ويحبه فروى عبد الله بن دينار عن ابن عمر : أن عمر سئل عن الجراد فقال : ليت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين نأكله وروى ابن ماجه : حدثنا أحمد بن منيع عن سفيان بن عيينة عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال سمع أنس بن مالك يقول كان أزواج النبي صلى الله عليه و سلم يتهادين الجراد على الأطباق وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رشيد حدثنا بقية بن الوليد عن يحيى بن يزيد القعنبي حدثني أبي عن صدي بن عجلان عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن مريم بنت عمران عليها السلام سألت ربها عز و جل أن يطعمها لحما لا دم له فأطعمها الجراد فقالت اللهم أعشه بغير رضاع وتابع بينه بغير شياع ] وقال نمير : الشياع الصوت وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك المزني حدثنا بقية بن الوليد حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي زهير النميري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تقاتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم ] غريب جدا وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : { فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد } قال : كانت تأكل مسامير أبوابهم وتدع الخشب وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي عن محمد بن كثير سمعت الأوزاعي يقول : خرجت إلى الصحراء فإذا أنا برجل من جراد في السماء فإذا برجل راكب على جرادة منها وهو شاك في الحديد وكلما قال بيده هكذا مال الجراد مع يده وهو يقول الدنيا باطل باطل ما فيها الدنيا باطل باطل ما فيها الدنيا باطل باطل مافيها وروى الحافظ أبو الفرج المعافى بن زكريا الحريري : حدثنا محمد بن الحسن بن زياد حدثنا أحمد بن عبد الرحيم أخبرنا وكيع عن الأعمش أنبأنا عامر قال : سئل شريح القاضي عن الجراد فقال : قبح الله الجرادة فيها خلقة سبعة جبابرة رأسها رأس فرس وعنقها عنق ثور وصدرها صدر أسد وجناحها جناح نسر ورجلاها رجل جمل وذنبها ذنب حية وبطنها بطن عقرب وقدمنا عند قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة } حديث حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل جراد فجعلنا نضربه بالعصي ونحن محرمون فسألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ لابأس بصيد البحر ] وروى ابن ماجه عن هارون الحمال عن هشام بن القاسم عن زياد بن عبد الله بن علاثة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أنس وجابر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا دعا على الجراد قال [ اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء ] فقال له جابر يا رسول الله أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال [ إنما هو نثرة حوت في البحر ] قال هشام أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت قال من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس أنه يفقس كله جرادا طيارا وقدمنا عند قوله { إلا أمم أمثالكم } حديث عمر رضي الله عنه أن الله خلق ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وإن أولها هلاكا الجراد وقال أبو بكر بن أبي داود حدثنا يزيد بن المبارك حدثنا عبد الرحمن بن قيس حدثنا سالم بن سالم حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا وباء مع السيف ولا نجاء مع الجراد ] حديث غريب وأما القمل فعن ابن عباس هو السوس الذي يخرج من الحنطة وعنه أنه الدبا وهو الجراد الصغير الذي لا أجنحة له وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعن الحسن وسعيد بن جبير القمل دواب سود صغار وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : القمل البراغيث وقال ابن جرير القمل جمع واحدتها قملة وهي دابة تشبه القمل تأكلها الإبل فيما بلغني وهي التي عناها الأعشى بقوله :
قوم يعالج قملا أبناؤهم وسلاسلا أجدى وبابا موصدا
قال : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب الحمنان واحدتها حمنانة وهي صغار القردان فوق القمقامة وقال أبو جعفر ابن جرير : حدثنا ابن حميد الرازي حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى عليه السلام فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل فلم يرسلهم فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون عذابا فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلأ فقالوا : هذا ما كنا نتمنى فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع فقالوا يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الجراد فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا قد أحرزنا فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذي يخرج منه فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون ما تلقى أنت وقومك من هذا فقال وما عسى أن يكون كيد هذا فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والابار وما كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا فشكوا إلى فرعون فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب فقال : إنه قد سحركم فقالوا من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا فأتوه وقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل وقد روي نحو هذا عن ابن عباس والسدي وقتادة وغير واحد من علماء السلف أنه أخبر بذلك وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عليه الايات فأخذه بالسنين وأرسل عليه الطوفان ثم الجراد ثم القمل ثم الضفادع ثم الدم آيات مفصلات فأرسل الطوفان وهو الماء ففاض على وجه الأرض ثم ركد لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا حتى جهدوا جوعا فلما بلغهم ذلك { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل } فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر فيما بلغني حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم فقالوا مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم القمل فذكر لي أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرار فلما جهدهم قالوا مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الضفادع فملأت البيوت والأطعمة والانية فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا فسأل ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دما لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عاد دما عبيطا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور المروزي أنبأنا النضر أنبأنا إسرائيل أنبأنا جابر بن يزيد عن عكرمة عن عبيد الله بن عمرو قال : لا تقتلوا الضفادع فإنها لما أرسلت على قوم فرعون انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار يطلب بذلك مرضاة الله فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء وجعل نقيقهن التسبيح وروي من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه وقال زيد بن أسلم : يعني بالدم الرعاف رواه ابن أبي حاتم (2/320)
يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا مع ابتلائه إياهم بالايات المتواترة واحدة بعد واحدة انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى فجاوزه وبنو إسرائيل معه ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون وهم بنو إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } وقال تعالى : { كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين } وعن الحسن البصري وقتادة في قوله { مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } يعني الشام وقوله { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } قال مجاهد وابن جرير وهي قوله تعالى : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } وقوله { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع { وما كانوا يعرشون } قال ابن عباس ومجاهد { يعرشون } يبنون (2/323)
يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى عليه السلام حين جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا { فأتوا } أي فمروا { على قوم يعكفون على أصنام لهم }
قال بعض المفسرين كانوا من الكنعانيين وقيل كانوامن لخم قال ابن جرير : وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك فقالوا { يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل { إن هؤلاء متبر ما هم فيه } أي هالك { وباطل ما كانوا يعملون } وروى الإمام أبو جعفر ابن جرير في تفسير هذه الاية من حديث محمد بن إسحاق وعقيل ومعمر كلهم عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي [ أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين قال وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة قال : فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } ] وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا نبي الله : اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن من قبلكم ] أورده ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعا (2/324)
يذكرهم موسى عليه السلام نعم الله عليهم من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره وقد تقدم تفسيرها في البقرة (2/324)
يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل بما حصل لهم من الهداية بتكليمه موسى عليه السلام وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام وطواها فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة والعشر عشر ذي الحجة قاله مجاهد ومسروق وابن جريج وروي عن ابن عباس وغيره فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر وحصل فيه التكليم لموسى عليه السلام وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه و سلم كما قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فلما تم الميقات وعزم موسى على الذهاب إلى الطور كما قال تعالى : { يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن } الاية فحينئذ استخلف موسى عليه السلام على بني إسرائيل أخاه هارون ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد وهذا تنبيه وتذكير وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله له وجاهة وجلالة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء (2/325)
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التكليم من الله تعالى سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال { رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } وقد أشكل حرف لن ههنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والاخرة وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الاخرة كما سنوردها عند قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة }
وقوله تعالى إخبارا عن الكفار { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعا بين هذه الاية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤيا في الدار الاخرة وقيل إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام [ يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ] ولهذا قال تعالى : { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا } قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الاية حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا الأعمش عن رجل عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكا وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم ثم قال حدثني المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد عن ليث عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الاية { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } قال : هكذا بأصبعه ووضع النبي صلى الله عليه و سلم أصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ليث عن أنس والمشهور حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس كما قال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } قال : [ ووضع الإبهام قريبا من طرف خنصره ] قال : [ فساخ الجبل ] قال حميد لثابت يقول هكذا فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال يقوله رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقوله أنس وأنا أكتمه ؟ وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله { فلما تجلى ربه للجبل } قال : قال [ هكذا ] يعني أنه أخرج طرف الخنصر قال أحمد : أرانا معاذ فقال له حميد الطويل : ما تريد إلى هذا يا أبا محمد ؟ قال فضرب صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد وما أنت يا حميد ؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم يقول ما تريد إليه ؟
وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الاية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق عن معاذ بن معاذ به وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه أبو محمد بن الحسن بن محمد بن علي الخلال عن محمد بن علي بن سويد عن أبي القاسم البغوي عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة فذكره وقال هذا إسناد صحيح لا علة فيه وقد رواه داود بن المحير عن شعبة عن ثابت عن أنس مرفوعا وهذا ليس بشيء لأن داود بن المحير كذاب رواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا ولا يصح أيضا رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى : { فلما تجلى ربه للجبل } قال ما تجلى منه إلا قدر الخنصر { جعله دكا } قال ترابا { وخر موسى صعقا } قال مغشيا عليه رواه ابن جرير وقال قتادة { وخر موسى صعقا } قال ميتا وقال سفيان الثوري ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه وقال سنيد عن حجاج بن محمد الأعور عن أبي بكر الهذلي { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة رواه ابن مردويه وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبة حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني حدثنا عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله عن الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقع بمكة حراء وثبير وثور ] وهذا حديث غريب بل منكر وقال ابن أبي حاتم ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا عثمان بن حصين بن العلاف عن عروة بن رويم قال : كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صما ملساء فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف وقال الربيع بن أنس { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا } وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكاك وقال بعضهم جعله دكا أي فتنة وقال مجاهد في قوله { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } فإنه أكبر منك وأشد خلقا { فلما تجلى ربه للجبل } فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا وقال عكرمة جعله دكاء قال نظر الله إلى الجبل فصار صحراء ترابا وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء واختارها ابن جرير وقد ورد فيها حديث مرفوع رواه ابن مردويه والمعروف أن الصعق هو الغشي ها هنا كما فسره ابن عباس وغيره لا كما فسره قتادة بالموت وإن كان صحيحا في اللغة كقوله تعالى : { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي وهي قوله { فلما أفاق } والإفاقة لا تكون إلا عن غشي { قال سبحانك } تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد في الدنيا إلا مات وقوله { تبت إليك } قال مجاهد أن أسألك الرؤية { وأنا أول المؤمنين } قال ابن عباس ومجاهد من بني إسرائيل واختاره ابن جرير وفي رواية أخرى عن ابن عباس { وأنا أول المؤمنين } أنه لا يراك أحد وكذا قال أبو العالية قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وهذا قول حسن له اتجاه وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره ها هنا أثرا طويلا فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم وقوله { وخر موسى صعقا } فيه أبو سعيد وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فأما حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه ههنا فقال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه و سلم قد لطم وجهه وقال يا محمد إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي قال [ ادعوه ] فدعوه قال [ لم لطمت وجهه ؟ ] قال يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول والذي اصطفى موسى على البشر قال وعلى محمد ؟ قال فقلت وعلى محمد وأخذتني غضبة فلطمته فقال [ لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ] وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ومسلم في أحاديث الأنبياء وأبو داود في كتاب السنة من سننه من طرق عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني عن أبيه عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري به وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين فقال اليهودي : والذين اصطفى موسى على العالمين فغضب المسلم على اليهودي فلطمه فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله فأخبره فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعترف بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى ممسك بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز و جل ] أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به
وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه الله أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار وهذا هو أصح وأصرح والله أعلم والكلام في قوله عليه السلام : [ لا تخيروني على موسى ] كالكلام على قوله [ لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى ] قيل من باب التواضع وقيل قبل أن يعلم بذلك وقيل نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب وقيل على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي والله أعلم وقوله [ فإن الناس يصعقون يوم القيامة ] الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة يحصل أمر يصعقون منه والله أعلم به وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء وتجلى للخلائق الملك الديان كما صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى ولهذا قال عليه السلام [ فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ] وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه الشفاء بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق حدثنا قتادة حدثنا الحسن عن قتادة عن يحيى بن وثاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ ] ثم قال : ولا يبعد على هذا أن يختص نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى انتهى ما قاله وكأنه صحح هذا الحديث وفي صحته نظر ولا تخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله حتى ينتهي إلى منتهاه والله أعلم (2/325)
يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه ولا شك أن محمدا صلى الله عليه و سلم سيد ولد آدم من الأولين والاخرين ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل عليه السلام ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام ولهذا قال الله تعالى له : [ فخذ ما آتيتك ] أي من الكلام والمناجاة { وكن من الشاكرين } أي على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء قيل كانت الألواح من جوهر وإن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله تعالى فيها : { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس } وقيل الألواح أعطيها موسى قبل التوراة والله أعلم وعلى كل تقدير فكانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منها والله أعلم وقوله { فخذها بقوة } أي بعزم على الطاعة { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } قال سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه وقوله { سأريكم دار الفاسقين } أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب قال ابن جرير وإنما قال { سأريكم دار الفاسقين } كما يقول القائل لمن يخاطبه سأريك غدا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد والحسن البصري وقيل معناه { سأريكم دار الفاسقين } أي : من أهل الشام وأعطيكم إياها وقيل : منازل قوم فرعون والأول أولى والله أعلم لأن هذا بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم (2/328)
يقول تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق أي كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل كما قال تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } وقال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقال بعض السلف : لا ينال العلم حيي ولا مستكبر وقال آخر : من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبدا وقال سفيان بن عيينة في قوله : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } قال : أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي قال ابن جرير : وهذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة قلت ليس هذا بلازم لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ولا فرق بين أحد وأحد في هذا والله أعلم وقوله { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } كما قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } وقوله { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا } أي وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } أي كذبت بها قلوبهم { وكانوا عنها غافلين } أي لا يعلمون شيئا مما فيها وقوله { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم } أي من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات حبط عمله وقوله { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } أي إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وكما تدين تدان (2/329)
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام فصار عجلا جسدا له خوار : والخوار صوت البقر وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة { قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم ويقال إنهم لما صوت لهم العجل رقصوا حوله وافتتنوا به وقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي قال الله تعالى : { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } وقال في هذه الاية الكريمة { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل وذهولهم عن خالق السموات والأرض ورب كل شيء ومليكه أن عبدوا معه عجلا جسدا له خوار لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبي داود عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ حبك الشيء يعمي ويصم ] وقوله { ولما سقط في أيديهم } أي ندموا على ما فعلوا { ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا } وقرأ بعضهم لئن لم ترحمنا بالتاء المثناة من فوق { ربنا } منادى { ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } أي من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم التجاء إلى الله عز و جل (2/329)
يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف قال أبو الدرداء الأسف أشد الغضب { قال بئسما خلفتموني من بعدي } يقول بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم وقوله { أعجلتم أمر ربكم } يقول استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى وقوله { وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه } قيل كانت الألواح من زمرد وقيل من ياقوت وقيل من برد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث : [ ليس الخبر كالمعاينة ] ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء وهو جدير بالرد وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة وقوله { وأخذ برأس أخيه يجره إليه } خوفا أن يكون قد قصر في نهيهم كما قال في الاية الأخرى { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } وقال ههنا { ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين } أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما قال : ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه فلما تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هارون عليه السلام كما قال تعالى : { ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري } فعند ذلك { قال } موسى { رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين } وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه عز و جل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح ] (2/330)
أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل فهو أن الله تعالى : لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضا كما تقدم في سورة البقرة { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم } وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلا وصغارا في الحياة الدنيا وقوله { وكذلك نجزي المفترين } نائلة لكل من افترى بدعة فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفيه كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين : وهكذا روى أيوب السختياني عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الاية { وكذلك نجزي المفترين } فقال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان حتى ولو كان من كفر أوشرك أونفاق أوشقاق ولهذا عقب هذه القصة بقوله { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك } أي : يا محمد يا رسول التوبة ونبي الرحمة { من بعدها } أي من بعد تلك الفعلة { لغفور رحيم } وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن ذلك يعني عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها فتلا هذه الاية { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } فتلاها عبد الله عشر مرات فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها (2/331)
يقول تعالى : { ولما سكت } أي سكن { عن موسى الغضب } أي غضبه على قومه { أخذ الألواح } أي التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل غيرة لله وغضبا له { وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } يقول كثير من المفسرين إنها لما ألقاها تكسرت ثم جمعها بعد ذلك ولهذا قال بعض السلف فوجد فيها هدى ورحمة وأما التفصيل فذهب وزعموا أن رضاضها لم يزل موجودا في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية والله أعلم بصحة هذا وأما الدليل الواضح على أنها تكسرت حين ألقاها وهي من جوهر الجنة فقد أخبر تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيها { هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } ضمن الرهبة معنى الخضوع ولهذا عداها باللام وقال قتادة : في قوله تعالى : { أخذ الألواح } قال رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة هم الاخرون السابقون أي آخرون في الخلق سابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان من قبلهم يقرؤون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا : لم يعطه أحد من الأمم قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الاخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم قال رب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفوعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد (2/331)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاية كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا الله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة { قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } الاية وقال السدي : إن الله أمر موسى أن يأتيه في ثلاثين من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعدا { واختار موسى قومه سبعين رجلا } على عينيه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا { لن نؤمن لك } يا موسى { حتى نرى الله جهرة } فإنك قد كلمته فأرناه { فأخذتهم الصاعقة } فماتوا فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } وقال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال : أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله دنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا : يا موسى { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة } وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل
وقال سفيان الثوري : حدثني أبو إسحاق عن عمارة بن عبيد السلولي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : انطلق موسى وهارون وشبر وشبير فانطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله عز و جل فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون ؟ قال : توفاه الله عز و جل قالوا : أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال : فاختاروا من شئتم قال : فاختاروا سبعين رجلا قال : فذلك قوله تعالى { واختار موسى قومه سبعين رجلا } فلما انتهوا إليه قالوا : يا هارون من قتلك ؟ قال : ما قتلني أحد ولكن توفاني الله قالوا : يا موسى لن تعصى بعد اليوم فأخذتهم الرجفة قال فجعل موسى يرجع يمينا وشمالا وقال : يا رب { لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } قال : فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم هذا أثر غريب جدا وعمارة بن عبيد هذا لا أعرفه وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي فذكره وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جرير : إنهم أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ولا نهوهم ويتوجه هذا القول بقول موسى { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } وقوله { إن هي إلا فتنتك } أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف ولا معنى له غير ذلك يقول إن الأمر إلا أمرك وإن الحكم إلا لك فما شئت كان تضل من تشاء وتهدي من تشاء ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت فالملك كله لك والحكم كله لك لك الخلق والأمر وقوله { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } الغفر هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها أن لا يوقعه في مثله في المستقبل { وأنت خير الغافرين } أي لا يغفر الذنب إلا أنت { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } الفصل الأول من الدعاء لدفع المحذور وهذا لتحصيل المقصود { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } أي أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة وقد تقدم تفسير الحسنة في سورة البقرة { إنا هدنا إليك } أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وإبراهيم التيمي والسدي وقتادة وغير واحد : وهو كذلك لغة وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن شريك عن جابر عن عبد الله بن يحيى عن علي قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا { إنا هدنا إليك } جابر هو ابن يزيد الجعفي ضعيف (2/332)
يقول تعالى مجيبا لنفسه في قوله { إن هي إلا فتنتك } الاية قال { عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء } أي أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد ولي الحكمة والعدل في كل ذلك سبحانه لا إله إلا هو وقوله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } الاية عظيمة الشمول والعموم كقوله تعالى إخبارا عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا الجريري عن أبي عبد الله الجشمي حدثنا جندب هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم علقها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أتقولون هذا أضل أم بعيره ألم تسمعوا ما قال ؟ ] قالوا بلى قال : [ لقد حظرت رحمة واسعة إن الله عز و جل خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها وأخر عنده تسعا وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره ؟ ] رواه أحمد وأبو داود عن علي بن نصر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان عن أبي عثمان عن سلمان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن لله عز و جل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة ] تفرد بإخراجه مسلم فرواه من حديث سليمان هو ابن طرخان وداود بن أبي هند كلاهما عن أبي عثمان واسمه عبد الرحمن بن مل عن سلمان هو الفارسي عن النبي صلى الله عليه و سلم به وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن لله مائة رحمة عنده تسعة وتسعون وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن والإنس وبين الخلق فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال أحمد : حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لله مائة رحمة فقسم منها جزءا واحدا بين الخلق به يتراحم الناس والوحش والطير ] ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن الأعمش به وقال الحافظ ابو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن يونس حدثنا سعد أبو غيلان الشيباني عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن صلة بن زفر عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الفاجر في دينه الأحمق في معيشته والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الذي قد محشته النار بذنبه والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه ] هذا حديث غريب جدا وسعد هذا لا أعرفه وقوله { فسأكتبها للذين يتقون } الاية يعني فسأوجب حصول رحمتي منة مني وإحسانا إليهم كما قال تعالى : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقوله { للذين يتقون } أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات وهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم { الذين يتقون } أي الشرك والعظائم من الذنوب قوله { ويؤتون الزكاة } قيل زكاة النفوس وقيل الأموال ويحتمل أن تكون عامة لهما فإن الاية مكية { والذين هم بآياتنا يؤمنون } أي يصدقون (2/334)
{ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } وهذه صفة محمد صلى الله عليه و سلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما روى الإمام أحمد حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي صخر العقيلي حدثني رجل من الأعراب قال جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما فرغت من بيعي قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه قال فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي ] فقال برأسه هكذا أي لا فقال ابنه إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال [ أقيموا اليهودي عن أخيكم ] ثم تولى كفنه والصلاة عليه هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح عن أنس وقال الحاكم صاحب المستدرك [ أخبرنا محمد بن عبد الله بن إسحاق البغوي حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس حدثنا عبد الله بن إدريس عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام فخرجنا حتى قدمنا الغوطة يعني غوطة دمشق فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له فأرسل إلينا برسوله نكلمه فقلنا والله لا نكلم رسولا وإنما بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك قال : فأذن لنا فقال : تكلموا فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود فقال له هشام وما هذه التي عليك ؟ فقال لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام قلنا ومجلسك هذا والله لنأخذنه منك ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن شاء الله أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه و سلم قال : لستم بهم بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل فكيف صومكم ؟ فأخبرناه فملىء وجهه سوادا فقال : قوموا وبعث معنا رسولا إلى الملك فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة قال لنا الذي معنا : إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال قلنا والله لا ندخل إلا عليها فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك فأمرهم أن ندخل على رواحلنا فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا فقلنا لا إله إلا الله والله أكبر فالله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح قال : فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم وأرسل إلينا أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له وعنده بطارقة من الروم وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليه ثياب من الحمرة فدنونا منه فضحك فقال : ما عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم ؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام فقلنا إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك وتحيتك التي تحيا بها لا يحل لنا أن نحييك بها قال كيف تحيتكم فيما بينكم ؟ قلنا السلام عليكم قال فكيف تحيون ملككم قلنا بها قال : فكيف يرد عليكم ؟ قلنا بها قال فما أعظم كلامكم ؟ قلنا لا إله إلا الله والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها قال فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة أكلما قلتموها في بيوتكم انتفضت عليكم غرفكم ؟ قلنا لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك قال : لوددت أنكم كلما قلتم انتفض كل شيء عليكم وإني قد خرجت من نصف ملكي قلنا لم ؟ قال لأنه كان أيسر لشأنها وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة وأنها تكون من حيل الناس ثم سألنا عما أراد فأخبرناه ثم قال كيف صلاتكم وصومكم ؟ فأخبرناه فقال : قوموا فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير فأقمنا ثلاثا فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء فنشرها فإذا فيها صورة حمراء وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الأليتين لم أر مثل طول عنقه وإذا ليست له لحية وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله فقال : أتعرفون هذا قلنا لا قال : هذا آدم عليه السلام وإذا هو أكثر الناس شعرا ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء وإذا فيها صورة بيضاء وإذا له شعر كشعر القطط أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا نوح عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء وإذا فيها رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين طويل الخد أبيض اللحية كأنه يبتسم فقال هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا قال : هذا إبراهيم عليه السلام ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء وإذا والله رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أتعرفون هذا ؟ قلنا نعم هذا محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : وبكينا قال : والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس وقال والله إنه لهو قلنا نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال : أما إنه كان آخر البيوت ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان متقلص الشفة كأنه غضبان فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا موسى عليه السلام وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس عريض الجبين في عينيه نبل فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا هارون بن عمران عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان فقال هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا لوط عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة أقنى خفيف العارضين حسن الوجه فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا إسحاق عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفته خال فقال هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا يعقوب عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه أقنى الأنف حسن القامة يعلو وجهه نور يعرف في وجهه الخشوع يضرب إلى الحمرة قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا إسماعيل جد نبيكم صلى الله عليه و سلم ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة كصورة آدم كأن وجهه الشمس فقال هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا يوسف عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أحمر حمش الساقين أخفش العينين ضخم البطن ربعة متقلد سيفا فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا داود عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة رجل ضخم الأليتين طويل الرجلين راكب فرسا فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا سليمان بن داود عليهما السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء وإذا شاب شديد سواد اللحية كثير الشعر حسن العينين حسن الوجه فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا قال : هذا عيسى ابن مريم عليه السلام قلنا من أين لك هذه الصور ؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء عليهم السلام لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله فقال : إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال ثم قال : أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبدا لأشركم ملكة حتى أموت ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرحنا فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فحدثناه بما أرانا وبما قال لنا وما أجازنا قال فبكى أبو بكر وقال : مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه و سلم عندهم ] وهكذا أورده الحافظ الكبير البيهقي رحمه الله في كتاب دلائل النبوة عن الحاكم إجازة فذكره وإسناده لا بأس به وقال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا عثمان بن عمر حدثنا فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي اسمك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا قال عطاء : ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلف حرفا إلا أن كعبا قال بلغته : قال قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا وقد رواه البخاري في صحيحه عن محمد بن سنان عن فليح عن هلال بن علي فذكر بإسناده نحوه وزاد بعد قوله ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح وذكر حديث عبد الله بن عمرو ثم قال : ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا والله أعلم
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا موسى بن هارون حدثنا محمد بن إدريس بن وراق بن الحميدي حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم من ولد جبير بن مطعم قال : حدثتني أم عثمان بنت سعيد وهي جدتي عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير عن أبيه محمد بن جبير عن أبيه جبير بن مطعم قال : خرجت تاجرا إلى الشام فلما كنت بأدنى الشام لقيني رجل من أهل الكتاب فقال : هل عندكم رجل نبيا ؟ قلت نعم قال : هل تعرف صورته إذا رأيتها ؟ قلت نعم فأدخلني بيتا فيه صور فلم أر صورة النبي صلى الله عليه و سلم فبينا أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا فقال : فيم أنتم ؟ فأخبرناه فذهب بنا إلى منزله فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه و سلم وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه و سلم قلت : من هذا الرجل القابض على عقبه ؟ قال إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي فإنه لا نبي بعده وهذا الخليفة بعده وإذا صفة أبي بكر رضي الله عنه وقال أبو داود : حدثنا عمر بن حفص أبو عمرو الضرير حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن أياس الجريري أخبرهم عن عبد الله بن شقيق العقيلي عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بعثني عمر إلى الأسقف فدعوته فقال له عمر : هل تجدني في الكتاب ؟ قال نعم قال : كيف تجدني ؟ قال : أجدك قرنا فرفع عمر الدرة وقال : قرن مه ؟ قال : قرن حديد أمير شديد قال : فكيف تجد الذي بعدي ؟ قال : أجد خليفة صالحا غير أنه يؤثر قرابته قال عمر يرحم الله عثمان ثلاثا قال : كيف تجد الذي بعده ؟ قال : أجده صدأ حديد قال فوضع عمر يده على رأسه وقال : يا دفراه يا دفراه قال : يا أمير المؤمنين إنه خليفة صالح ولكنه يستخلف حين يستخلف والسيف مسلول والدم مهراق وقوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } هذه صفة الرسول صلى الله عليه و سلم في الكتب المتقدمة وهكذا كانت حاله عليه الصلاة و السلام لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر كما قال عبد الله بن مسعود إذا سمعت الله يقول { يا أيها الذين آمنوا } فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله كما قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر هو العقدي عبد الملك بن عمرو حدثنا سليمان هو ابن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد عن أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه ] رواه الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناد جيد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه قال : إذا سمعتم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنى والذي هو أتقى ثم رواه عن يحيى عن ابن سعيد عن مسعر عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه وقوله { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } أي يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم ويحرم عليهم الخبائث قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى قال بعض العلماء فكل ما أحل الله تعالى من المآكل فهو طيب نافع في البدن والدين وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين وقد تمسك بهذه الاية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلا أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته وفيه كلام طويل أيضا وقوله { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } أي أنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ بعثت بالحنيفية السمحة ] وقال صلى الله عليه و سلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن [ بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا ] وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي : إني صحبت رسول الله صلى الله عليه و سلم وشهدت تيسيره وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهلها لهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل ] وقال [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولهذا قال : أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال : بعد كل سؤال من هذه قد فعلت قد فعلت وقوله { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه } أي عظموه ووقروه وقوله { واتبعوا النور الذي أنزل معه } أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلغا إلى الناس { أولئك هم المفلحون } أي في الدنيا والاخرة (2/335)
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم { قل } يا محمد { يا أيها الناس } وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي { إني رسول الله إليكم جميعا } أي جميعكم وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه و سلم أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى الناس كافة كما قال الله تعالى : { قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } وقال تعالى : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } وقال تعالى : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } والايات في هذا كثيرة كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم قال البخاري رحمه الله في تفسير هذه الاية : حدثنا عبد الله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا : حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء بن زير حدثني يسر بن عبيد الله حدثني أبو إدريس الخولاني قال سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول : كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو الدرداء ونحن عنده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أما صاحبكم هذا فقد غامر ] أي غاضب وحاقد قال وندم عمر على ما كان منه فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقص على رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر قال أبو الدرداء فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعل أبو بكر يقول والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت ] انفرد به البخاري
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخرا بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة فهي لمن لا يشرك بالله شيئا ] إسناد جيد ولم يخرجوه وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم [ لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملىء مني رعبا وأحلت لي الغنائم أكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم والخامسة هي ما هي قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله ] إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه وقال أيضا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة ] وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ] وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ] تفرد به أحمد وقال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعطيت خمسا بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا ] وهذا أيضا إسناد صحيح ولم أرهم خرجوه والله أعلم وله مثله من حديث ابن عمر بسند جيد أيضا وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ] وقوله { الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت } صفة الله تعالى في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أن الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة وله الحكم ] وقوله { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي } أخبرهم أنه رسول الله إليهم ثم أمرهم باتباعه والإيمان به { النبي الأمي } أي الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة فإنه منعوت بذلك في كتبهم ولهذا قال النبي الأمي وقوله { الذي يؤمن بالله وكلماته } أي يصدق قوله عمله وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه { واتبعوه } أي اسلكوا طريقه واقتفوا أثره { لعلكم تهتدون } أي إلى الصراط المستقيم (2/339)
يقول تعالى مخبرا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به كما قال تعالى : { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } وقال تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب } وقال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } الاية وقال تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرا عجيبا فقال حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج قوله { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله عز و جل أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا قال ابن جريج قال ابن عباس فذلك قوله { وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا } ووعد الاخرة عيسى ابن مريم قال ابن جريج قال ابن عباس ساروا في السرب سنة ونصفا وقال ابن عيينة عن صدقة أبي الهذيل عن السدي { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } قال قوم بينكم وبينهم نهر من شهد (2/341)
تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة وهي مدنية وهذا السياق مكي ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته هنا و لله الحمد والمنة (2/341)
هذا السياق هو بسط لقوله تعالى : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } الاية يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه { واسألهم } أي واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم وهذه القرية هي أيلة وهي على شاطى بحر القلزم قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } قال هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وقال عبد الله بن كثير القارى سمعنا أنها أيلة وقيل هي مدين وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد هي قرية يقال لها معتا بين مدين وعينونا وقوله { إذ يعدون في السبت } أي يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا } قال الضحاك عن ابن عباس أي ظاهرة على الماء وقال العوفي عن ابن عباس ظاهرة من كل مكان قال ابن جرير وقوله { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم } أي نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده { كذلك نبلوهم } نختبرهم { بما كانوا يفسقون } يقول بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة رحمه الله : حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ] وهذا إسناد جيد فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه وباقي رجاله مشهورون ثقات ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرا (2/342)
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت كما تقدم بيانه في سورة البقرة وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا } أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم قالت لهم المنكرة { معذرة إلى ربكم } قرأ بعضهم بالرفع كأنه على تقدير هذه معذرة وقرأ آخرون بالنصب أي نفعل ذلك { معذرة إلى ربكم } أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { ولعلهم يتقون } يقولون ولعل لهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إلى الله تائبين فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم قال تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به } أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا } أي ارتكبوا المعصية { بعذاب بئيس } فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين لأن الجزاء من جنس العمل فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم هل كانوا من الهالكين أو من الناجين على قولين وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا } هي قرية على شاطى البحر بين مصر والمدينة يقال لها أيلة فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعا في ساحل البحر فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها فمضى على ذلك ما شاء الله ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة وقالوا تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم فلم يزدادوا إلا غيا وعتوا وجعلت طائفة أخرى تنهاهم فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب { لم تعظون قوما الله مهلكهم } وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى فقالوا { معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } وكل قد كانوا ينهون فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم والذين قالوا معذرة إلى ربكم وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وروى العوفي عن ابن عباس قريبا من هذا وقال حماد بن زيد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في الاية قال : ما أدري أنجا الذين قالوا { لم تعظون قوما الله مهلكهم } أم لا ؟ قال فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج حدثني رجل عن عكرمة قال جئت ابن عباس يوما وهو يبكي وإذا المصحف في حجره فأعظمت أن أدنو منه ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت : ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك ؟ قال فقال هؤلاء الورقات قال وإذا هو في سورة الأعراف قال تعرف أيلة ؟ قلت نعم قال فإنه كان بها حي من اليهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضاء سمانا كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم فكانوا كذلك برهة من الدهر ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال : إنما نهيتهم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام فقالت ذلك طائفة منهم وقالت طائفة بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت فكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت وقال الأيمنون ويلكم الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله وقال الأيسرون { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا } قال الأيمنون { معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } أي ينتهون إن ينتهوا فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم فمضوا على الخطيئة وقال الأيمنون فقد فعلتم يا أعداء الله والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا فوضعوا سلما وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال : أي عباد الله قردة والله تعادى تعاوى لها أذناب قال ففتحوا فدخلوا عليهم فعرفت القرود أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول : ألم ننهكم عن كذا فتقول برأسها : أي نعم ثم قرأ ابن عباس { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } قال : فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الاخرين ذكروا ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها قال : قلت جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم ؟ وقالوا { لم تعظون قوما الله مهلكهم } قال : فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين وكذا روى مجاهد عنه وقال ابن جرير : حدثنا يونس أخبرنا أشهب بن عبد العزيز عن مالك قال : زعم ابن رومان أن قوله تعالى : { تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } قال : كانت تأتيهم يوم السبت فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الاخر فاتخذ لذلك رجل خيطا ووتدا فربط حوتا منها في الماء يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجد الناس ريحه فأتوه فسألوه عن ذلك فجحدهم فلم يزالوا به حتى قال لهم فإنه جلد حوت وجدناه فلما كان السبت الاخر فعل مثل ذلك ولا أدري لعله قال ربط حوتين فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجدوا رائحة فجاؤوا فسألوه فقال لهم : لو شئتم صنعتم كما أصنع فقالوا له : وما صنعت ؟ فأخبرهم ففعلوا مثل ما فعل حتى كثر ذلك وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم فأصابهم من المسخ ما أصابهم فغدا عليهم جيرانهم ممن كانوا حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس فوجدوا المدينة مغلقة عليهم فنادوا فلم يجيبوهم فتسوروا عليهم فإذا هم قردة فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به وقد قدمنا في سورة البقرة من الاثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة ( القول الثاني ) أن الساكتين كانوا من الهالكين قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ابتدعوا السبت فابتلوا فيه فحرمت عليهم فيه الحيتان فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل فإذا جاء السبت جاءت شرعا فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا فخزم أنفه ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه وتركه في الماء فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه حتى ظهر ذلك في الأسواق ففعل علانية قال : فقالت : طائفة للذين ينهونهم { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم } فقالوا : نسخط أعمالهم { ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } قال ابن عباس كانوا ثلاثا ثلث نهوا وثلث قالوا { لم تعظون قوما الله مهلكهم } وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم وهذا إسناد جيد عن ابن عباس ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين حالهم بعد ذلك والله أعلم وقوله تعالى : { وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا وبئيس فيه قراءات كثيرة ومعناه في قول مجاهد الشديد وفي رواية أليم وقال قتادة موجع والكل متقارب والله أعلم وقوله { خاسئين } إي ذليلين حقيرين مهانين (2/342)
{ تأذن } تفعل من الأذان أي : أعلم قاله مجاهد وقال غيره : أمر وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة ولهذا أتبعت باللام في قوله { ليبعثن عليهم } أي على اليهود { إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم ويقال إن موسى عليه السلام ضرب عليهم الخراج سبع سنين وقيل ثلاث عشرة سنة وكان أول من ضرب الخراج ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم منهم الجزية والخراج ثم جاء الإسلام ومحمد صلى الله عليه و سلم فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الاية قال : هي المسكنة وأخذ الجزية منهم وقال علي بن أبي طلحة عنه هي الجزية والذي يسومهم سوء العذاب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمته إلى يوم القيامة وكذا قال سعيد بن جبير وابن جريج والسدي وقتادة وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب قال : يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية قلت : ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصارا للدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم عليه السلام وذلك آخر الزمان وقوله { إن ربك لسريع العقاب } أي لمن عصاه وخالف شرعه { وإنه لغفور رحيم } أي لمن تاب إليه وأناب وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة لئلا يحصل اليأس فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرا لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف (2/345)
يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمما أي طوائف وفرقا كما قال { وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا } { منهم الصالحون ومنهم دون ذلك } أي فيهم الصالح وغير ذلك كقول الجن { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا } { وبلوناهم } أي اختبرناهم { بالحسنات والسيئات } أي بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء { لعلهم يرجعون } ثم قال تعالى { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى } الاية يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح خلف آخر لا خير فيهم وقد ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة وقال مجاهد : هم النصارى وقد يكون أعم من ذلك { يأخذون عرض هذا الأدنى } أي يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعرض الحياة الدنيا ويسوفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ولهذا قال { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } وكما قال سعيد بن جبير يعملون الذنب ثم يستغفرون الله منه ويعترفون لله فإن عرض ذلك الذنب أخذوه وقال مجاهد في قوله تعالى : { يأخذون عرض هذا الأدنى } قال لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو حراما ويتمنون المغفرة { ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } وقال قتادة في الاية إي والله لخلف سوء { ورثوا الكتاب } بعد أنبيائهم ورسلهم أورثهم الله وعهد إليهم وقال الله تعالى في آية أخرى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة } الاية قال { يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا } تمنوا على الله أماني وغرة يغترون بها { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } لا يشغلهم شيء ولا ينهاهم شيء عن ذلك كلما هف لهم شيء من الدنيا أكلوه لا يبالون حلالا كان أو حراما وقال السدي : قوله { فخلف من بعدهم خلف } إلى قوله { ودرسوا ما فيه } قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى فيقال له ما شأنك ترتشي في الحكم ؟ فيقول سيغفر لي فتطعن عليه البقية الاخرون من بني إسرائيل فيما صنع فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي يقول وإن يأت الاخرين عرض الدنيا يأخذوه قال الله تعالى : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } الاية يقول تعالى منكرا عليهم في صنيعهم هذا مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ولا يكتمونه كقوله { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون } وقال ابن جريج قال ابن عباس { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } قال فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها وقوله تعالى { والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } يرغبهم في جزيل ثوابه ويحذرهم من وبيل عقابه أي وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم وترك هوى نفسه وأقبل على طاعة ربه { أفلا تعقلون } يقول أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه و سلم كما هو مكتوب فيه فقال تعالى : { والذين يمسكون بالكتاب } أي اعتصموا به واقتدوا بأوامره وتركوا زواجره { وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين } (2/345)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } يقول رفعناه وهو قوله { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : رفعته الملائكة فوق رؤوسهم وهو قوله { ورفعنا فوقهم الطور } وقال القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ثم سار بهم موسى عليه السلام إلى الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب وأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله الجبل فوقهم { كأنه ظلة } قال : رفعته الملائكة فوق رؤوسهم رواه النسائي بطوله وقال سنيد بن داود في تفسيره عن حجاج بن محمد عن أبي بكر بن عبد الله قال هذا كتاب أتقبلونه بما فيه فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم ؟ قالوا : انشر علينا ما فيها فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلناها قال : اقبلوها بما فيها قالوا : لا حتى نعلم ما فيها كيف حدودها وفرائضها فراجعوه مرارا فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى ألا ترون ما يقول ربي عز و جل لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل قال : فحدثني الحسن البصري قال : لما نظروا إلى الجبل خر كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من أن يسقط عليه فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر يقولون هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة قال أبو بكر : فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه أي حول كما قال تعالى { فسينغضون إليك رؤوسهم } والله أعلم (2/346)
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة وفي رواية على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ] وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ] وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع غزوات قال فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فاشتد عليه ثم قال [ ما بال أقوام يتناولون الذرية ] فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال [ إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها ] قال الحسن والله لقد قال الله في كتابه { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الاية وقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري به وأخرجه النسائي في سننه من حديث هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال حدثني الأسود بن سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الاية عند ذلك وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم قال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به قال : فيقول : نعم فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي ] أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير يعني ابن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ أخذ الله الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا قال : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا } ـ إلى قوله ـ { المبطلون } ] وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر به وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر هكذا قال وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم عن جبر عن أبيه به وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر وهو في أذى من الماء وقال أيضا حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة حدثنا أبو مسعود عن جرير قال مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال : فقال : يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عنه عقده فإن ابني مجلس ومسؤول ففعلت به الذي أمر فلما فرغت قلت يرحمك الله عما يسأل ابنك من يسأله إياه قال : يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم قلت : يا أبا القاسم وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم قال : حدثني ابن عباس : إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الاخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الاخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الاخر مات على الميثاق الأول على الفطرة فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على ابن عباس والله أعلم
( حديث آخر ) قال ابن جرير حدثنا عبد الرحمن بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي طيبة عن سفيان بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال : أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم { ألست بربكم قالوا بلى } قالت الملائكة { شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } أحمد بن أبي طيبة هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد أخرج له النسائي في سننه وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه وقال ابن عدي حدث بأحاديث كثيرة غرائب وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن حمزة بن فهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو وكذا رواه ابن جرير عن منصور به وهذا أصح والله أعلم
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك وحدثنا إسحاق حدثنا مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الاية { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } الاية فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عنها فقال [ إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ] فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ] وهكذا رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة والترمذي في تفسيرهما عن إسحاق بن موسى عن معن وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب وابن جرير عن روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس به قال الترمذي وهذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع عمر كذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الاية { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } فذكره وقال الحافظ الدارقطني وقد تابع عمر بن جعثم يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وقولهما أولى بالصواب من قول مالك والله أعلم قلت : الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم بن ربيعة ولم يعرفه فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات ويقطع كثيرا من الموصولات والله أعلم
( حديث آخر ) قال الترمذي عند تفسيره هذه الاية حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال : أي رب من هؤلاء قال : هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه قال : أي رب من هذا قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود قال رب وكم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب وقد وهبت له من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطىء آدم فخطئت ذريته ] ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين به وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال : [ ثم عرضهم على آدم فقال يا آدم هؤلاء ذريتك وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم : يا رب لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تشكر نعمتي وقال آدم : يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا قال هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك ] ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم
( حديث آخر ) روى عبد الرحمن بن قتادة النضري عن أبيه عن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أتبدأ الأعمال أم قد قضي القضاء قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار ] رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عنه
( حديث آخر ) روى جعفر بن الزبير وهو ضعيف عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعديك قال ألست بربكم ؟ قالوا بلى قال يا أصحاب الشمال قالوا لبيك وسعديك قال ألست بربكم ؟ قالوا بلى ثم خلط بينهم فقال قائل له يا رب لم خلطت بينهم ؟ قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم ] رواه ابن مردويه
( أثر آخر ) قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الايات قال : فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى } الاية قال : فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل إليكم رسلا لينذروكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا له يومئذ بالطاعة ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال : يا رب لو سويت بين عبادك ؟ قال : إني أحببت أن أشكر ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول تعالى : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } الاية وهو الذي يقول { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله } الاية ومن ذلك قال { هذا نذير من النذر الأولى } ومن ذلك قال { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } الاية رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم من رواية أبي جعفر الرازي به وروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد من علماء السلف سياقات توافق هذه الأحاديث اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الاثار كلها وبالله المستعان فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز و جل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع وقد فسر الحسن الاية بذلك قالوا : ولهذا قال : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } ولم يقل من آدم { من ظهورهم } ولم يقل من ظهره { ذريتهم } أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } وقال { ويجعلكم خلفاء الأرض } وقال { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } ثم قال { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا والشهادة تارة تكون بالقول كقوله { قالوا شهدنا على أنفسنا } الاية وتارة تكون حالا كقوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك وكذا قوله تعالى : { وإنه على ذلك لشهيد } كما أن السؤال تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله { وآتاكم من كل ما سألتموه } قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه فإن قيل إخبار الرسول صلى الله عليه و سلم به كاف في وجوده فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ولهذا قال { أن تقولوا } أي لئلا تقولوا يوم القيامة { إنا كنا عن هذا } أي التوحيد { غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا } الاية (2/347)
قال عبد الرزاق : عن سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } الاية قال : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء وكذا رواه شعبة وغير واحد عن منصور به وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس : هو صيفي بن الراهب قال قتادة وقال كعب : كان رجلا من أهل البلقاء وكان يعلم الاسم الأكبر وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه : هو رجل من أهل اليمن يقال له بلعم آتاه الله آياته فتركها وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل وكان مجاب الدعوة يقدمونه في الشدائد بعثه نبي الله موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام وقال سفيان بن عيينة عن حصين عن عمران بن الحارث عن ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء وكذا قال مجاهد وعكرمة وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا إسرائيل عن مغيرة عن مجاهد عن ابن عباس قال : هو بلعام وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت وقال شعبة عن يعلى بن عطاء عن نافع بن عاصم عن عبد الله بن عمرو في قوله { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } الاية قال : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت وقد روي من غير وجه عنه وهو صحيح إليه وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ولكنه لم ينتفع بعلمه فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته وظهرت لكل من له بصيرة ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة قبحه الله وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي نمر حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } قال هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن وكانت له امرأة له منها ولد فقالت اجعل لي منها واحدة قال فلك واحدة فما الذي تريدين ؟ قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وتسمى البسوس غريب وأما المشهور في سبب نزول هذه الاية الكريمة فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل كما قال ابن مسعود وغيره من السلف وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعام وكان يعلم اسم الله الأكبر وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره من علماء السلف : كان مجاب الدعوة ولا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأغرب بل أبعد بل أخطأ من قال : كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها حكاه ابن جرير عن بعضهم ولا يصح وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لما نزل موسى بهم يعني بالجبارين ومن معه أتاه ـ يعني بلعم ـ أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه فذلك قوله تعالى : { فانسلخ منها فأتبعه الشيطان } الاية وقال السدي : لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة } بعث يوشع بن نون نبيا فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبي وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه وصدقوه وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام فكان عالما يعلم الاسم الأعظم المكتوم فكفر ـ لعنه الله ـ وأتى الجبارين وقال لهم : لا ترهبوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون وكان عندهم فيما شاء من الدنيا غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء لعظمهن فكان ينكح أتانا له وهو الذي قال الله تعالى : { فانسلخ منها } وقوله تعالى : { فأتبعه الشيطان } أي استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه ولهذا قال : { فكان من الغاوين } أي من الهالكين الحائرين البائرين وقد ورد في معنى هذه الاية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا محمد بن بكر عن الصلت بن بهرام حدثنا الحسن حدثنا جندب البجلي في هذا المسجد أن حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك ] قال قلت يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي ؟ قال [ بل الرامي ] إسناد جيد والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين ولم يرم بشيء سوى الإرجاء وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما
وقوله تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } يقول تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها } أي لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالايات التي آتيناه إياها { ولكنه أخلد إلى الأرض } أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل على لذاتها ونعيمها وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى وقال أبو الراهويه في قوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } قال : تراءى له الشيطان على علوة من قنطرة بانياس فسجدت الحمارة لله وسجد بلعام للشيطان وكذا قال عبد الرحمن بن جبير بن نفير وغير واحد وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله : وكان من قصة هذا الرجل ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر عن أبيه أنه سئل عن هذه الاية { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام وكان مجاب الدعوة قال : وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام أو قال : الشام قال : فرعب الناس منه رعبا شديدا فأتوا بلعام فقالوا : ادع الله على هذا الرجل وجيشه قال حتى أؤامر ربي أو حتى أؤامر قال فآمر في الدعاء عليهم فقيل له لا تدع عليهم فإنهم عبادي وفيهم نبيهم قال : فقال لقومه إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم وإني قد نهيت فأهدوا له هدية فقبلها ثم راجعوه فقالوا : ادع عليهم فقال : حتى أمؤامر ربي فأمر فلم يأمره بشيء فقال : قد وامرت فلم يأمرني بشيء فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى قال : فأخذ يدعو عليهم فإذا دعا عليهم جرى على لسانه الدعاء على قومه وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه أو نحوا من ذلك إن شاء الله قال : فقالوا ما نراك تدعو إلا علينا قال : ما يجري على لساني إلا هكذا ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم إن الله يبغض الزنا وإنهم إن وقعوا في الزنا هلكوا ورجوت أن يهلكهم الله فأخرجوا النساء تستقبلهم فإنهم قوم مسافرون فعسى أن يزنوا فيهلكوا قال : ففعلوا فأخرجوا النساء تستقبلهم قال وكان للملك ابنة فذكر من عظمها ما الله أعلم بهو فقال : فقال أبوها أو بلعام لا تمكني نفسك إلا من موسى قال : ووقعوا في الزنا قال : فأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل فأرادها على نفسه فقالت : ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى : رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما قال : وأيده الله بقوة فانتظمهما جميعا ورفعهما على رمحه فرآهما الناس ـ أو كما حدث ـ قال : وسلط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا قال أبو المعتمر : فحدثني سيار أن بلعاما ركب حمارة له حتى أتى العلولي أو قال طريقا من العلولي جعل يضربها ولا تتقدم وقامت عليه فقالت : علام تضربني ؟ أما ترى هذا الذي بين يديك ؟ فإذا الشيطان بين يديه قال : فنزل وسجد له قال الله تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } قال : فحدثني بهذا سيار ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره ( قلت ) هو بلعام ويقال بلعم بن باعوراء ويقال ابن أبر ويقال ابن باعور بن شهتوم بن قوشتم بن ماب بن لوط بن هاران ويقال بن حران بن آزر وكان يسكن قرية من قرى البلقاء قال ابن عساكر : وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم فانسلخ من دينه له ذكر في القرآن ثم أورد من قصته نحوا مما ذكرناه ها هنا أورده عن وهب وغيره والله أعلم وقال محمد بن إسحاق بن سيار : عن سالم أبي النضر أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه فقالوا له : هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وإنا قومك وليس لنا منزل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله عليهم قال ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم ؟ قالوا له : ما لنا من منزل فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل وهو جبل حسبان فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتى إذا أزلقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به فضربها حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب ؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم فلم ينزع عنها يضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل فقال له قومه : أتدري يا بلعم ما تصنع ؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا قال فهذا مالا أملك هذا شيء قد غلب الله عليه قال : واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم : قد ذهبت مني الان الدنيا والاخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال جملوا النساء وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كفيتموهم ففعلوا فلما دخلت النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كسبى ـ ابنة صور رأس أمته ـ برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام فلما رآها أعجبته فقام فأخذ بيدها وأتى بها موسى وقال : إني أظنك ستقول هذا حرام عليك ؟ قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها قال فوالله لا أطيعك في هذا فدخل بها قبته فوقع عليها وأرسل الله عز و جل الطاعون في بني إسرائيل وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون يجوس فيهم فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحييه وكان بكر العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ورفع الطاعون فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا والمقلل لهم يقول عشرون ألفا في ساعة من النهار فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والذراع واللحى والبكر من كل أموالهم وأنفسها لأنه كان بكر أبيه العيزار ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } وقوله تعالى : { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } اختلف المفسرون في معناه فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم عن أبي النضر أن بلعاما اندلع لسانه على صدره فتشبيهه بالكلب في لهيثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك ظاهر وقيل معناه فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه إلى الإيمان وعدم الدعاء كالكلب في لهيثه في حالتيه إن حملت عليه وإن تركته هو يلهث في الحالين فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه كما قال تعالى : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } ونحو ذلك وقيل معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره وقوله تعالى : { فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم { فاقصص القصص لعلهم } أي لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب في غير طاعة ربه بل دعا به على حزب الرحمن وشعب الإيمان أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان كليم الله موسى بن عمران عليه السلام ولهذا قال { لعلهم يتفكرون } أي فيحذروا أن يكونوا مثله فإن الله قد أعطاهم علما وميزهم على من عداهم من الأعراب وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه و سلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الاخرة وقوله { ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا } يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه واتبع هواه صار شبيها بالكلب وبئس المثل مثله ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ] وقوله { وأنفسهم كانوا يظلمون } أي ما ظلمهم الله ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى وطاعة المولى إلى الركون إلى دار البلى والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى (2/351)
يقول تعالى من هداه الله فإنه لا مضل له ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة فإنه تعالى ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن ولهذا جاء في حديث ابن مسعود [ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ] الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم (2/355)
يقول تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم } أي خلقنا وجعلنا لجهنم { كثيرا من الجن والإنس } أي هيأناهم لها وبعمل أهلها يعملون فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ]
وفي صحيح مسلم أيضا : من حديث عائشة بنت طلحة عن خالتها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : دعي النبي صلى الله عليه و سلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ] وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود : [ ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ] وتقدم أن الله لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال قال [ هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي ] والأحاديث في هذا كثيرة ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها وقوله تعالى : { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها } يعني ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية كما قال تعالى : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله } الاية وقال تعالى : { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } هذا في حق المنافقين وقال في حق الكافرين { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } ولم يكونوا صما ولا بكما ولا عميا إلا عن الهدى كما قال تعالى : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } وقال { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } وقال { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } وقوله تعالى : { أولئك كالأنعام } أي هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في الذي يقيتها في ظاهر الحياة الدنيا كقوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } أي ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ولا تفقه ما يقول ولهذا قال في هؤلاء { بل هم أضل } أي من الدواب لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أنس بها وإن لم تفقه كلامه بخلاف هؤلاء ولأنها تفعل ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده فكفر بالله وأشرك به ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده ومن كفر به من البشر كانت الدواب أتم منه ولهذا قال تعالى : { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } (2/356)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر ] أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عنه ورواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي حمزة عن أبي الزناد به وأخرجه الترمذي في جامعه عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب فذكر بسنده مثله وزاد بعد قوله [ يحب الوتر : هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الاخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور ] ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق صفوان به
وقد رواه ابن ماجه في سننه من طريق آخر عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا فسرد الأسماء كنحو مما تقدم بزيادة ونقصان والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي والله أعلم
ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم عن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا ] فقيل يا رسول الله : أفلا نتعلمها ؟ فقال [ بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها ] وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في صحيحه بمثله وذكر الفقيه الإمام أبو بكر العربي أحد أئمة المالكية في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم فالله أعلم
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال : إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله وقال ابن جريج عن مجاهد { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال اشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز وقال قتادة يلحدون يشركون في أسمائه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الإلحاد التكذيب : وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد والميل والجور والانحراف ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر (2/357)
يقول تعالى : { وممن خلقنا } أي بعض الأمم { أمة } قائمة بالحق قولا وعملا { يهدون بالحق } يقولونه ويدعون إليه { وبه يعدلون } يعملون ويقضون وقد جاء في الاثار أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الاية هي هذه الأمة المحمدية قال سعيد عن قتادة في تفسير هذه الاية : بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول إذا قرأ هذه الاية [ هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } ] وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في قوله تعالى : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل ] وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ] وفي رواية [ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ] وفي رواية [ وهم بالشام ] (2/358)
يقول تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } ومعناه أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء كما قال تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } ولهذا قال تعالى : { وأملي لهم } أي وسأملي لهم أي أطول لهم ما هم فيه { إن كيدي متين } أي قوي شديد (2/358)
يقول تعالى : { أولم يتفكروا } هؤلاء المكذبون بآياتنا { ما بصاحبهم } يعني محمدا صلى الله عليه و سلم { من جنة } أي ليس به جنون بل هو رسول الله حقا دعا إلى حق { إن هو إلا نذير مبين } أي ظاهر لمن كان له لب وقلب يعقل به ويعي به كما قال تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } وقال تعالى : { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } يقول : إنما أطلب منكم أن تقوموا قياما خالصا لله ليس فيه تعصب ولا عناد { مثنى وفرادى } أي : مجتمعين ومتفرقين { ثم تتفكروا } في هذا الذي جاءكم بالرسالة من الله أبه جنون أم لا فإنكم إذا فعلتم ذلك بان لكم وظهر أنه رسول الله حقا وصدقا وقال قتادة بن دعامة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان على الصفا فدعا قريشا فجعل يفخذهم فخذا فخذا يا بني فلان يا بني فلان فحذرهم بأس الله ووقائع الله فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح أو حتى أصبح فأنزل الله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين } (2/358)
يقول تعالى : أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه في السموات والأرض وفيما خلق من شيء فيهما فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه ومن فعل من لاينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له فيؤمنوا به ويصدقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته ويخلعوا الأنداد والأوثان ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه وقوله { فبأي حديث بعده يؤمنون } يقول فبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه و سلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه يصدقون إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله عز و جل ؟ وقد روى الإمام أحمد : عن حسن بن موسى وعفان بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث كلهم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ رأيت ليلة أسري بي كذا فلما انتهينا إلى السماء السابعة فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا فلما نزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الشياطين يحومون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض ولولا ذلك لرأوا العجائب ] علي بن زيد بن جدعان له منكرات ثم قال تعالى : (2/359)
يقول تعالى : من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ولو نظر لنفسه فيما نظر فإنه لا يجزي عنه شيئا { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } وكما قال تعالى : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } (2/359)
يقول تعالى : { يسألونك عن الساعة } كما قال تعالى : { يسألك الناس عن الساعة } قيل نزلت في قريش وقيل في نفر من اليهود والأول أشبه لأن الاية مكية وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها كما قال تعالى : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } وقال تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد }
وقوله { أيان مرساها } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : منتهاها أي متى محطها وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة { قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو } أمر تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم إذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها إلى الله تعالى فإنه هو الذي يجليها لوقتها أي يعلم جلية أمرها ومتى يكون على التحديد لا يعلم ذلك إلا هو تعالى ولهذا قال { ثقلت في السموات والأرض } قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله { ثقلت في السموات والأرض } قال : ثقل علمها على أهل السموات والأرض أنهم لا يعلمون قال معمر : قال الحسن : إذا جاءت ثقلت على أهل السموات والأرض يقول : كبرت عليهم
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى { ثقلت في السموات والأرض } قال ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة وقال ابن جريج { ثقلت في السموات والأرض } قال : إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال وكان ما قال الله عز و جل فذلك ثقلها واختار ابن جرير رحمه الله أن المراد ثقل علم وقتها على أهل السموات والأرض كما قال قتادة وهو كما قالاه كقوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السموات والأرض والله أعلم
وقال السدي : { ثقلت في السموات والأرض } يقول : خفيت في السموات والأرض فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل { لا تأتيكم إلا بغتة } يبغتهم قيامها تأتيهم على غفلة وقال قتادة في قوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } قضى الله أنها { لا تأتيكم إلا بغتة } قال : وذكر لنا أن نبي الله كان يقول [ إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه ] وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب أنبأنا أبو الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ] وقال مسلم في صحيحه حدثني زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به قال : تقوم الساعة والرجل يحلب لقحته فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم الساعة والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم
وقوله { يسألونك كأنك حفي عنها } اختلف المفسرون في معناه فقيل معناه كما قال العوفي عن ابن عباس { يسألونك كأنك حفي عنها } يقول : كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم قال ابن عباس : لما سأل الناس النبي صلى الله عليه و سلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم فأوحى الله إليه إنما علمها عنده استأثر به فلم يطلع الله عليها ملكا مقربا ولا رسولا وقال قتادة : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه و سلم : إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة ؟ فقال الله عز و جل { يسألونك كأنك حفي عنها } وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وأبي مالك والسدي وهذا قول والصحيح عن مجاهد من رواية ابن أبي نجيح وغيره { يسألونك كأنك حفي عنها } قال : استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها وكذا قال الضحاك عن ابن عباس { يسألونك كأنك حفي عنها } يقول : كأنك عالم بها لست تعلمها { قل إنما علمها عند الله }
وقال معمر عن بعضهم : { كأنك حفي عنها } كأنك عالم بها وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { كأنك حفي عنها } كأنك بها عالم وقد أخفى الله علمها على خلقه وقرأ { إن الله عنده علم الساعة } الاية وهذا القول أرجح في المقام من الأول والله أعلم ولهذا قال { قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ولهذا لما جاء جبريل عليه السلام في صورة أعرابي ليعلم الناس أمر دينهم فجلس من رسول الله صلى الله عليه و سلم مجلس السائل المسترشد وسأله صلى الله عليه و سلم عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان ثم قال : فمتى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ] أي لست أعلم بها منك ولا أحد بها من أحد ثم قرأ النبي صلى الله عليه و سلم { إن الله عنده علم الساعة } الاية
وفي رواية فسأله عن أشراط الساعة فبين له أشراط الساعة ثم قال [ في خمس لا يعلمهن إلا الله ] وقرأ هذه الاية وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب : صدقت ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ] وفي رواية قال [ وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه ] وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال : يا محمد قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هاؤم ] على نحو من صوته قال : يا محمد متى الساعة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها ] قال ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولكنني أحب الله ورسوله فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ المرء مع من أحب ] فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ المرء مع من أحب ] وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين ففيه أنه عليه السلام كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم وهو الاستعداد لوقوع ذلك والتهيؤ له قبل نزوله وإن لم يعرفوا تعيين وقته ولهذا قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم سألوه عن الساعة : متى الساعة ؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول [ إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم ] يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الاخرة ثم قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ] انفرد به مسلم
وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا سعيد بن أبي هلال المصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم قال : متى الساعة ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزدشنوءة فقال [ إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ] قال أنس : ذلك الغلام من أترابي وقال : حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عفان بن مسلم حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس قال : مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أترابي فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ] ورواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه عن عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فذكر الحديث وفي آخره : فمر غلام للمغيرة بن شعبة وذكره وهذا الإطلاق في هذه الرويات محمول على التقييد بساعتكم في حديث عائشة رضي الله عنها
وقال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول قبل أن يموت بشهر [ تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة ] رواه مسلم وفي الصحيحين عن ابن عمر مثله قال ابن عمر : وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم انخرام ذلك القرن وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم أنبأنا العوام عن جبلة بن سحيم عن موثر بن عفارة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة ـ قال ـ فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى موسى فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال عيسى : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله عز و جل وفيما عهد إلي ربي عز و جل أن الدجال خارج ـ قال ـ ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال : فيهلكه الله عز و جل إذا رآني حتى إن الشجر والحجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال : فيهلكهم الله عز و جل ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم قال : فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه : قال : ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله عز و جل عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم أي تنتن قال : فينزل الله عز و جل المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ] قال الإمام أحمد : قال يزيد بن هارون : ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم ثم رجع إلى حديث هشيم قال : ففيما عهد إلي ربي عز و جل أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتمم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها ليلا أو نهارا ورواه ابن ماجه عن بندار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب بسنده نحوه فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام فتكلم على أشراطها لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذا لأحكام رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقتل المسيح الدجال ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه فأخبر بما أعلمه الله تعالى به
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا عبيد بن إياد بن لقيط قال : سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الساعة فقال [ علمها عند ربي عز و جل لا يجليها لوقتها إلا هو ولكن سأخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها إن بين يديها فتنة وهرجا ] قالوا : يا رسول الله الفتنة قد عرفناها فما الهرج ؟ قال [ بلسان الحبشة القتل ] قال [ ويلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحدا ] لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه وقال وكيع : حدثنا ابن أبي خالد عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } الاية ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد به وهذا إسناد جيد قوي فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفى والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما [ بعثت أنا والساعة كهاتين ] وقرن بين أصبعيه السبابة والتي تليها ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها فقال { قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (2/359)
أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه كما قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا } الاية وقوله { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } قال : لو كنت أعلم متى أموت لعملت عملا صالحا وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال مثله ابن جريج وفيه نظر لأن عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ديمة وفي رواية : كان إذا عمل عملا أثبته فجميع عمله كان على منوال واحد كأنه ينظر إلى الله عز و جل في جميع أحواله اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك والله أعلم والأحسن في هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } أي من المال وفي رواية : لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه { وما مسني السوء } ولا يصيبني الفقر وقال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ولوقت الغلاء من الرخص فاستعددت له من الرخص وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { وما مسني السوء } قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير أي نذير من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنات كما قال تعالى : { فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا } (2/363)
ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم عليه السلام وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما كما قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } الاية وقال في هذا الاية الكريمة { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } أي ليألفها ويسكن بها كقوله تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } فلا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه { فلما تغشاها } أي وطئها { حملت حملا خفيفا } وذلك أول الحمل لا تجد المرأة له ألما إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة
وقوله { فمرت به } قال مجاهد : استمرت بحمله وروي عن الحسن وإبراهيم النخعي والسدي نحوه وقال ميمون بن مهران عن أبيه : استخفته وقال أيوب : سألت الحسن عن قوله { فمرت به } قال : لو كنت رجلا عربيا لعرفت ما هي إنما هي فاستمرت به وقال قتادة { فمرت به } استبان حملها وقال ابن جرير : معناه استمرت بالماء قامت به وقعدت وقال العوفي عن ابن عباس : استمرت به فشكت أحملت أم لا ؟ { فلما أثقلت } أي صارت ذات ثقل بحملها وقال السدي : كبر الولد في بطنها { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا } أي بشرا سويا كما قال الضحاك عن ابن عباس : أشفقا أن يكون بهيمة وكذلك قال أبو البختري وأبو مالك : أشفقا أن لا يكون إنسانا
وقال الحسن البصري : لئن آتيتنا غلاما { لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون } يذكر المفسرون ههنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها ثم نتبع ذلك ببيان الصحيح في ذلك إن شاء الله وبه الثقة قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عبد الصمد : حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ] وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به ورواه الترمذي في تفسير هذه الاية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعا ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعا
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعا قلت : وشاذ هو هلال وشاذ لقبه والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه ( أحدها ) أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري وقد وثقه ابن معين ولكن قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا فالله أعلم ( الثاني ) أنه قد روي من قول سمرة نفسه ليس مرفوعا كما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا المعتمر عن أبيه حدثنا بكر بن عبد الله بن سليمان التيمي عن أبي العلاء بن الشخير عن سمرة بن جندب قال : سمى آدم ابنه عبد الحارث ( الثالث ) أن الحسن نفسه فسر الاية بغير هذا فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن { جعلا له شركاء فيما آتاهما } قال : كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم
وحدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال : قال الحسن : عنى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده يعني { جعلا له شركاء فيما آتاهما } وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الاية بذلك وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الاية ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما عدل عنه هو ولا غيره ولا سيما مع تقواه لله وورعه فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب أو وهب بن منبه وغيرهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع والله أعلم
فأما الاثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لادم عليه السلام أولادا فيعبدهم لله ويسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال : إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش قال : فولدت له رجلا فسماه عبد الحارث ففيه أنزل الله يقول { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما } إلى آخر الاية وقال العوفي عن ابن عباس قوله في آدم { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به } شكت أحملت أم لا ؟ { فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين } فأتاهما الشيطان فقال : هل تدريان ما يولد لكم ؟ أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا ؟ وزين لهما الباطل إنه غوي مبين وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا فقال لهما الشيطان : إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويا ومات كما مات الأول فسميا ولدهما عبد الحارث فذلك قول الله تعالى : { فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما } الاية
وقال عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله { فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما } قال : قال الله تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها } آدم { حملت } فأتاهما إبليس لعنه الله فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني إبل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما فسمياه عبد الحارث فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت الثانية فأتاهما أيضا فقال : أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت لتفعلن أو لأفعلن ـ يخوفهما ـ فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } رواه ابن أبي حاتم
وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة وكأنه ـ والله أعلم ـ أصله مأخوذ من أهل الكتاب فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد يعني ابن بشير عن عقبة عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها : أتطيعيني ويسلم لك ولدك سميه عبد الحارث فلم تفعل فولد فمات ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل ثم حملت الثالثة فجاءها فقال : إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبهما فأطاعا
وهذه الاثار يظهر عليها ـ والله أعلم ـ أنها من آثار أهل الكتاب وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ] ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام [ حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ] وهو الذي لا يصدق ولا يكذب لقوله [ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ] وهذا الأثر هو من القسم الثاني أو الثالث فيه نظر فأما من حدث به من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس كقوله { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } الاية ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها ولهذا نظائر في القرآن والله أعلم (2/363)
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة لا تملك شيئا من الأمر ولا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم ولهذا قال : { أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون } أي أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئا ولا يستطيع ذلك كقوله تعالى : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز } أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة بل لو سلبتهم الذبابة شيئا من حقير المطاعم وطارت لما استطاعوا إنقاذه منها فمن هذه صفته وحاله كيف يعبد ليرزق ويستنصر ؟ ولهذا قال تعالى : { لا يخلق شيئا وهم يخلقون } أي بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل { أتعبدون ما تنحتون } الاية
ثم قال تعالى : { ولا يستطيعون لهم نصرا } أي لعابديهم { ولا أنفسهم ينصرون } يعني ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء كما كان الخليل عليه الصلاة و السلام يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة كما أخبر تعالى عنه في قوله : { فراغ عليهم ضربا باليمين } وقال تعالى : { فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون } وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك ويرتؤوا لأنفسهم فكان لعمرو بن الجموح وكان سيدا في قومه صنم يعبده ويطيبه فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له : انتصر ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيعه أيضا حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه في حبل في بئر هناك فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل وقال :
تالله لو كنت إلها مستدن لم تك والكلب جميعا في قرن
ثم أسلم فحسن إسلامه وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنة الفردوس مأواه وقوله { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } الاية يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها وسواء لديها من دعاها ومن دحاها كما قال إبراهيم { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها أي مخلوقات مثلهم بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش وتلك لا تفعل شيئا من ذلك وقوله { قل ادعوا شركاءكم } الاية أي استنصروا بها علي فلا تؤخروني طرفة عين واجهدوا جهدكم { إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } أي الله حسبي وكافي وهو نصيري وعليه متكلي وإليه ألجأ وهو وليي في الدنيا والاخرة وهو ولي كل صالح بعدي وهذا كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } وكقول الخليل { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين } الايات وكقوله لأبيه وقومه { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون }
وقوله { والذين تدعون من دونه } إلى آخر الاية مؤكد لما تقدم إلا أنه بصيغة الخطاب وذلك بصيغة الغيبة ولهذا قال { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } وقوله { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } كقوله تعالى : { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } الاية وقوله { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } إنما قال { ينظرون إليك } أي يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد ولهذا عاملهم معاملة من يعقل لأنها على صورة مصورة كالإنسان وتراهم ينظرون إليك فعبر عنها بضمير من يعقل وقال السدي : المراد بهذا المشركون وروي عن مجاهد نحوه والأول أولى وهو اختيار ابن جرير وقاله قتادة (2/366)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله { خذ العفو } يعني خذ ما عفي لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات قاله السدي وقال الضحاك عن ابن عباس { خذ العفو } أنفق الفضل وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس { خذ العفو } قال : الفضل وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله { خذ العفو } أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين ثم أمره بالغلظة عليهم واختار هذا القول ابن جرير وقال غير واحد عن مجاهد في قوله تعالى : { خذ العفو } قال : من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وقال هشام بن عروة عن أبيه : أمر الله رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وفي رواية قال : خذ ما عفي لك من أخلاقهم وفي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه عروة عن أخيه عبد الله بن الزبير قال : إنما أنزل خذ العفو من أخلاق الناس وفي رواية عن أبيه عن ابن عمر وفي رواية عن هشام عن أبيه عن عائشة أنهما قالا مثل لك والله أعلم
وفي رواية سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن هشام عن وهب بن كيسان عن أبي الزبير خذ العفو قال : من أخلاق الناس والله لاخذنه منهم ما صحبتهم وهذا أشهر الأقوال ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا : حدثنا يونس حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن أمي قال : لما أنزل الله عز و جل على نبيه صلى الله عليه و سلم { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما هذا يا جبريل ؟ ] قال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا عن أبي يزيد القراطيسي كتابة عن أصبغ بن الفرج عن سفيان عن أمي عن الشعبي نحوه وهذا مرسل على كل حال وقد روي له شواهد من وجوه أخر وقد روي مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه و سلم أسندهما ابن مردويه
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة حدثنا معاذ بن رفاعة حدثني علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامة الباهلي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت : يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال فقال [ يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك ] وروى الترمذي نحوه من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد به وقال : حسن قلت : ولكن علي بن يزيد وشيخه القاسم أبو عبد الرحمن فيهما ضعف وقال البخاري قوله { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } العرف : المعروف حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبابا فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه قال : سأستأذن لك عليه قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه و سلم { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وإن هذا من الجاهلين والله ماجاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله عز و جل وانفرد بإخراجه البخاري
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن عبيد الله بن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس فقال : إن هذا منهي عنه فقالوا : نحن أعلم بهذا منك إنما يكره الجلجل الكبير فأما مثل هذا فلا بأس به فسكت سالم وقال { وأعرض عن الجاهلين } وقول البخاري : العرف المعروف نص عليه عروة بن الزبير والسدي وقتادة وابن جرير وغير واحد وحكى ابن جرير أنه يقال أوليته معروفا وعارفا كل ذلك بمعنى المعروف قال : وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم أن يأمر عباده بالمعروف ويدخل في ذلك جميع الطاعات وبالإعراض عن الجاهلين وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه و سلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته وهو للمسلمين حرب وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال : هذه أخلاق أمر الله بها نبيه صلى الله عليه و سلم ودله عليها وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال :
خذ العفو وأمر بعرف كما أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام فمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال بعض العلماء : الناس رجلان فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه وإما مسيء فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده كما قال تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون } وقال تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } أي هذه الوصية { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } وقال في هذه السورة الكريمة أيضا { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } فهذه الايات الثلاث في الأعراف والمؤمنون وحم السجدة لا رابع لهن فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف بالتي هي أحسن فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى ولهذا قال { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان فإن لا يكفه عنك الإحسان وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك وقال ابن جرير في تفسير قوله { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } وإما يغضبك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته { فاستعذ بالله } يقول : فاستجر بالله من نزغه { إنه سميع عليم } سميع لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه لا يخفى عليه منه شيء عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزلت { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال : يا رب كيف بالغضب ؟ فأنزل الله { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } قلت : وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمرغ غضبا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ] فقيل له فقال : ما بي من جنون وأصل النزغ الفساد إما بالغضب أو غيره قال الله تعالى : { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم } والعياذ الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر وأما الملاذ ففي طلب الخير كما قال أبو الطيب المتنبي في شعره :
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير بما أغنى عن إعادته ههنا (2/368)
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر وتركوا ما عنه زجر أنهم { إذا مسهم } أي أصابهم طيف وقرأ الاخرون طائف وقد جاء فيه حديث وهما قراءتان مشهورتان فقيل بمعنى واحد وقيل بينهما فرق ومنهم من فسر ذلك بالغضب ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه ومنهم من فسره بالهم بالذنب ومنهم من فسره بإصابة الذنب وقوله { تذكروا } أي عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب { فإذا هم مبصرون } أي قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وبها طيف فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يشفيني فقال [ إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك ] فقالت : بل أصبر ولا حساب علي ورواه غير واحد من أهل السنن وعندهم قالت : يا رسول الله إني أصرع وأتكشف فادع الله أن يشفيني فقال [ إن شئت دعوت الله أن يشفيك وإن شئت صبرت ولك الجنة ] فقالت : بل أصبر ولي الجنة ولكن ادع الله أن لا أتكشف فدعا لها فكانت لا تتكشف : وأخرجه الحاكم من مستدركه وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه أن شابا كان يتعبد في المسجد فهويته امرأة فدعته إلى نفسها فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل فذكر هذه الاية { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } فخر مغشيا عليه ثم أفاق فأعادها فمات فجاء عمر فعزى فيه أباه وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه ثم ناداه عمر فقال : يا فتى { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فأجابه الفتى من داخل القبر : يا عمر قد أعطانيهما ربي عز و جل في الجنة مرتين
وقوله تعالى : { وإخوانهم يمدونهم } أي وأخوان الشياطين من الإنس كقوله { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } وهم أتباعهم والمستمعون لهم القابلون لأوامرهم يمدونهم في الغي أي تساعدهم الشياطين على المعاصي وتسهلها عليهم وتحسنها لهم وقال ابن كثير : المد الزيادة يعني يزيدونهم في الغي يعني الجهل والسفه { ثم لا يقصرون } قيل معناه إن الشياطين تمد الإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } الاية قال : لا الإنس يقصرون عما يعملون ولا الشياطين تمسك عنهم وقيل معناه كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله { يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } قال : هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس ثم لا يقصرون يقول لا يسأمون وكذا قال السدي وغيره أن يعني الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ولا تسأم من إمدادهم في الشر لأن ذلك طبيعة لهم وسجية { لا يقصرون } لا تفتر فيه ولا تبطل عنه كما قال تعالى : { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } قال ابن عباس وغيره : تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا (2/370)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { قالوا لولا اجتبيتها } يقول : لولا تلقيتها وقال مرة أخرى : لولا أحدثتها فأنشأتها وقال ابن جرير عن عبدالله بن كثير عن مجاهد في قوله { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها } قال : لولا اقتضيتها قالوا : تخرجها عن نفسك وكذا قال قتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير وقال العوفي عن ابن عباس { لولا اجتبيتها } يقول : تلقيتها من الله تعالى وقال الضحاك { لولا اجتبيتها } يقول : لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء ومعنى قوله تعالى : { وإذا لم تأتهم بآية } أي معجزة وخارق كقوله تعالى : { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } يقولون للرسول صلى الله عليه و سلم : ألا تجهد نفسك في طلب الايات من الله حتى نراها ونؤمن بها قال الله تعالى له : { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } أي أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي فإن بعث آية قبلتها وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها إلا أن يأذن لي في ذلك فإنه حكيم عليم ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات فقال { هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } (2/371)
لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاما له واحتراما لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون في قولهم { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } الاية ولكن يتأكد ذلك من الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا ] وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة أيضا وصححه مسلم بن الحجاج أيضا ولم يخرجه في كتابه وقال إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة قال : كانوا يتكلمون في الصلاة فلما نزلت هذه الاية { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له } والاية الأخرى أمروا بالإنصات
قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن المسيب بن رافع قال ابن مسعود : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة فجاء القرآن { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وقال أيضا : حدثنا أبو كريب حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال : صلى ابن مسعود فسمع ناسا يقرؤون مع الإمام فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } كما أمركم الله قال : وحدثني أبو السائب حدثنا حفص عن أشعث عن الزهري قال : نزلت هذه الاية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كلما قرأ شيئا قرأه فنزلت { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الزهري عن أبي أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال [ هل قرأ أحد منكم معي آنفا ؟ ] قال رجل : نعم يا رسول الله قال : [ إني أقول ما لي أنازع القرآن ] قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الترمذي : هذا حديث حسن وصححه أبو حاتم الرازي وقال عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري : قال لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته ولكنهم يقرءون فيما لا يجهر به سرا في أنفسهم ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرا ولا علانية فإن الله تعالى قال : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } قلت : هذا مذهب طائفة من العلماء أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر فيه الإمام لا الفاتحة ولا غيرها وهو أحد قولي الشافعية وهو القديم كمذهب مالك ورواية عن أحمد بن حنبل لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة وقال في الجديد : يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل : لا يجب على المأموم قراءة أصلا في السرية ولا الجهرية بما ورد في الحديث [ من كان له إمام فقراءته قراءة له ] وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر مرفوعا وهو في موطأ مالك عن وهب بن كيسان عن جابر موقوفا وهذا أصح وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفا على حدة واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضا والله أعلم
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية قوله { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } يعني في الصلاة المفروضة وكذا روي عن عبد الله بن المغفل وقال ابن جرير : حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا بشر بن المفضل حدثنا الجريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال : رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقص فقلت : ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود ؟ قال : فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما قال : فأعدت فنظرا إلي وأقبلا على حديثهما قال : فأعدت الثالثة قال فنظرا إلي فقالا : إنما ذلك في الصلاة { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } وكذا قال سفيان الثوري عن أبي هشام إسماعيل بن كثير عن مجاهد في قوله { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قال : في الصلاة وكذا رواه غير واحد عن مجاهد وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال : لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة والشعبي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بذلك في الصلاة
وقال شعبة عن منصور : سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع مجاهدا يقول في هذه الاية { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قال : في الصلاة والخطبة يوم الجمعة وكذا روى ابن جريج عن عطاء مثله وقال هشيم عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال : في الصلاة وعند الذكر وقال ابن المبارك عن بقية : سمعت ثابت بن عجلان يقول : سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قال : الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة وهذا اختيار ابن جرير أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة كما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد أنه كره إذا مر الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئا قال : السكوت وقال مبارك بن فضالة عن الحسن : إذا جلست إلى القرآن فأنصت له وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عباد بن ميسرة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة ] تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى (2/372)
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيرا كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء وهذه الاية مكية وقال ههنا : بالغدو وهو أول النهار والاصال جمع أصيل كما أن الأيمان جمع يمين وأما قوله { تضرعا وخيفة } أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول لا جهرا ولهذا قال { ودون الجهر من القول } وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء وجهرا بليغا ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله عز و جل { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم [ يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ] وقد يكون المراد من هذه الاية كما في قوله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه وسبوا من أنزله وسبوا من جاء به فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم وليتخذ سبيلا بين الجهر والإسرار وكذا قال في هذه الاية الكريمة { ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين } وقد زعم ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به ثم إن المراد بذلك في الصلاة كما تقدم أو في الصلاة والخطبة ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان سواء كان سرا أو جهرا فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والاصال لئلا يكونوا من الغافلين ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فقال { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته } الاية وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم ولهذا شرع لنا السجود ههنا لما ذكر سجودهم لله عز و جل كما جاء في الحديث [ ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف ] وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه عدها في سجدات القرآن (2/373)
سورة الأنفال
وهي مدنية آياتها سبعون وست آيات كلماتها ألف كلمة وستمائة كلمة وإحدى وثلاثون كلمة حروفها خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفا والله أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم (2/374)
قال البخاري : قال ابن عباس : الأنفال المغانم حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الأنفال قال : نزلت في بدر أما ما علقه عن ابن عباس فكذلك رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : الأنفال الغنائم كانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم خالصة ليس لأحد منها شيء وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد أنها المغانم وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : الأنفال الغنائم قال فيها لبيد :
إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثى وعجل
وقال ابن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال ابن عباس رضي الله عنهما : الفرس من النفل والسلب من النفل ثم عاد لمسألته فقال ابن عباس ذلك أيضا ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال : قال ابن عباس : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا سئل عن شيء قال لا آمرك ولا أنهاك ثم قال ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه و سلم إلا زاجرا آمرا محللا محرما قال القاسم فسلط على ابن عباس رجل فسأله عن الأنفال فقال ابن عباس : كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه فأعاد عليه الرجل فقال له مثل ذلك ثم عاد عليه حتى أغضبه فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه فقال الرجل أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل والله أعلم
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس فنزلت { يسألونك عن الأنفال } وقال ابن مسعود ومسروق : لا نفل يوم الزحف إنما النفل قبل التقاء الصفوف رواه ابن أبي حاتم عنهما وقال ابن المبارك وغير واحد عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في الاية { يسألونك عن الأنفال } قال يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو عبد أو أمة أو متاع فهو نفل للنبي صلى الله عليه و سلم يصنع به ما يشاء وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال قال ابن جرير : وقال آخرون : هي أنفال السرايا حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا علي بن صالح بن حيي قال بلغني في قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } قال السرايا ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش وقد صرح بذلك الشعبي واختار ابن جرير أنها زيادة على القسم ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الاية وهو ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فأتيت به النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ اذهب فاطرحه في القبض ] قال فرجعت وبي مالا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي قال فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اذهب فخذ سلبك ]
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك قال : قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف فقال : [ إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه ] قال : فوضعته ثم رجعت فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي قال : فإذا رجل يدعوني من ورائي قال : قلت قد أنزل الله في شيئا ؟ قال : كنت سألتني السيف وليس هو لي وإنه قد وهب لي فهو لك قال : وأنزل الله هذه الاية { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به وقال الترمذي : حسن صحيح وهكذا رواه أبو داود الطيالسي أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : نزلت في أربع آيات أصبت سيفا يوم بدر فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت نفلنيه فقال [ ضعه من حيث أخذته ] مرتين ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ ضعه من حيث أخذته ] فنزلت هذه الاية { يسألونك عن الأنفال } الاية وتمام الحديث في نزول { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } وقوله تعالى : { إنما الخمر والميسر } وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة به وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر وكان السيف يدعى بالمرزبان فلما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به فألقيته في النفل وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يمنع شيئا يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطاه إياه ورواه ابن جرير من وجه آخر
( سبب آخر في نزول الاية )
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبي أمامة قال : سألت عبادة عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المسلمين عن بواء يقول عن سواء وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية بن عمر أخبرنا أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن سليمان بن موسى عن أبي سلامة عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه و سلم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } فقسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع فإذا أقبل راجعا نفل الثلث وكان يكره الأنفال ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه قال الترمذي : هذا حديث حسن ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن الحارث وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه وروى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه واللفظ له وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ] فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما كانت المغانم جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءا لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا فتنازعوا فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } وقال الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أتى أسيرا فله كذا وكذا ] فجاء أبو اليسر بأسيرين فقال : يا رسول الله صلى الله عليك أنت وعدتنا فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك فتشاجروا ونزل القرآن { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } قال ونزل القرآن { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } إلى آخر الاية وقال الإمام أبو عبيد الله القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها أما الأنفال فهي المغانم وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب فكانت الأنفال الأولى لرسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } فقسمها يوم بدر على ما أراه الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت الأولى قلت هكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس سواء وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي وقال ابن زيد : ليست منسوخة بل هي محكمة قال أبو عبيد وفي ذلك آثار والأنفال أصلها جماع الغنائم إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنة ومعنى الأنفال في كلام العرب كل إحسان فعله فاعل تفضلا من غير أن يجب ذلك عليه فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم وإنما هو شيء خصهم الله به تطولا منه عليهم بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم فنفلها الله تعالى هذه الأمة فهذا أصل النفل قلت : شاهد هذا ما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ـ فذكر الحديث إلى أن قال ـ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ] وذكر تمام الحديث ثم قال أبو عبيد : ولهذا سمى ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى ( فإحداهن ) في النفل لا خمس فيه وذلك السلب ( والثانية ) النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب فتأتي بالغنائم فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس ( والثالثة ) في النفل من الخمس نفسه وهو أن تحاز الغنيمة كلها ثم تخمس فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى ( والرابعة ) في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء وهو أن يعطي الأدلاء ورعاة الماشية والسواق لها وفي كل ذلك اختلاف
قال الربيع : قال الشافعي : الأنفال أن لا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب قال أبو عبيد : والوجه الثاني من النفل هو شيء زيدوه غير الذي كان لهم وذلك من خمس النبي صلى الله عليه و سلم فإن له خمس الخمس من كل غنيمة فينبغي للإمام أن يجتهد فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائه من المسلمين نفل منه اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإذا لم يكن ذلك لم ينفل ( والوجه الثالث ) من النفل إذا بعث الإمام سرية أو جيشا فقال لهم قبل اللقاء من غنم شيئا فهو له بعد الخمس فهو لهم على ما شرط الإمام لأنهم على ذلك غزوا وبه رضوا انتهى كلامه وفيما تقدم من كلامه وهو قوله : إن غنائم بدر لم تخمس نظر ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بيانا شافيا ولله الحمد والمنة وقوله تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } أي اتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه { وأطيعوا الله ورسوله } أي في قسمه بينكم على ما أراده الله فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف وقال ابن عباس : هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد وقال السدي { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } أي لاتستبوا ولنذكر ههنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه الله في مسنده فإنه قال : حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا عبد الله بن بكر حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ فقال : [ رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله تعالى أعط أخاك مظلمته قال : يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال : رب فليحمل عني من أوزاري ] قال : ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبكاء ثم قال [ إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا ؟ لأي صديق هذا ؟ لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى ثمنه قال رب ومن يملك ثمنه ؟ قال أنت تملكه قال : ماذا يا رب ؟ قال : تعفو عن أخيك قال : يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فادخلا الجنة ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ] (2/375)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين ثم وصف الله المؤمنين فقال { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } فأدوا فرائضه { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } يقول زادتهم تصديقا { وعلى ربهم يتوكلون } يقول لا يرجون غيره وقال مجاهد { وجلت قلوبهم } فرقت أي فزعت وخافت وكذا قال السدي وغير واحد وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف منه ففعل أوامره وترك زواجره كقوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } وكقوله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى } ولهذا قال سفيان الثوري : سمعت السدي يقول في قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } قال : هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له : اتق الله فيجل قلبه وقال الثوري أيضا عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء في قوله { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } قال : الوجل في القلب كاحتراق السعفة أما تجد له قشعريرة ؟ قال : بلى قالت : إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك فإن الدعاء يذهب ذلك وقوله { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } كقوله { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الاية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضلة في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة { وعلى ربهم يتوكلون } أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ولهذا قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان وقوله { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى وقال قتادة : إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها وقال مقاتل بن حيان : إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم هذا إقامتها والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه قال قتادة في قوله { ومما رزقناهم ينفقون } فأنفقوا مما رزقكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها
وقوله { أولئك هم المؤمنون حقا } أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن الحباب حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن محمد بن أبي الجهم عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : [ كيف أصبحت يا حارث ؟ ] قال : أصبحت مؤمنا حقا قال : [ انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ ] فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها فقال : [ يا حارث عرفت فالزم ] ثلاثا وقال عمرو بن مرة في قوله تعالى : { أولئك هم المؤمنون حقا } إنما أنزل القرآن بلسان العرب كقولك فلان سيد حقا وفي القوم سادة وفلان تاجر حقا وفي القوم تجار وفلان شاعر حقا وفي القوم شعراء وقوله { لهم درجات عند ربهم } أي منازل ومقامات ودرجات في الجنات كما قال تعالى : { هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون } { ومغفرة } أي يغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات وقال الضحاك في قوله { لهم درجات عند ربهم } أهل الجنة بعضهم فوق بعض فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء ] قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم فقال : [ بلى والذي نفسي بيده لرجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ] وفي الحديث الاخر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي عطية عن ابن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ] (2/379)
قال الإمام أبو جعفر الطبري : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله { كما أخرجك ربك } فقال بعضهم شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم وإصلاحهم ذات بينهم وطاعتهم لله ورسوله ثم روي عن عكرمة نحو هذا ومعنى هذا أن الله تعالى يقول كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه و سلم فقسمها على العدل والتسوية فكان هذا هو المصلحة التامة لكم وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد رشدا وهدى ونصرا وفتحا كما قال تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } قال ابن جرير وقال آخرون معنى ذلك { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } على كره من فريق من المؤمنين كذلك هم كارهون للقتال فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم ثم روي عن مجاهد نحوه أنه قال { كما أخرجك ربك } قال كذلك يجادلونك في الحق وقال السدي : أنزل الله في خروجه إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } لطلب المشركين { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } وقال بعضهم يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالا فنستعد له قلت : رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين من خف منهم فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلبه فبعث ضمضم بن عمرو نذيرا إلى أهل مكة فنهضوا في قريب من ألف مقنع ما بين التسعمائة إلى الألف وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا وجاء النفير فوردوا ماء بدر وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل كما سيأتي بيانه والغرض أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه يعده إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير ورغب كثير من المسلمين إلى العير لأنه كسب بلا قتال كما قال تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن بالمدينة [ إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ؟ فقلنا نعم فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا ما ترون في قتال القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ فقلنا لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكنا أردنا العير ثم قال ما ترون في قتال القوم ؟ فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو : إذا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } قال فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم قال فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } ] وذكر تمام الحديث ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة بنحوه وروى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي وقاص الليثي عن أبيه عن جده قال [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال كيف ترون ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا قال : ثم خطب الناس فقال كيف ترون ؟ فقال عمر مثل قول أبي بكر ثم خطب الناس فقال : كيف ترون ؟ فقال سعد بن معاذ يا رسول الله إيانا تريد ؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ولا نكون كالذين قالوا لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له فصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وعاد من شئت وسالم من شئت وخذ من أموالنا ما شئت فنزل القرآن على قول سعد { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } ] الايات وقال العوفي عن ابن عباس لما شاور النبي صلى الله عليه و سلم في لقاء العدو وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيئوا للقتال وأمرهم بالشوكة فكره ذلك أهل الإيمان فأنزل الله { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } وقال مجاهد يجادلونك في الحق : في القتال وقال محمد بن إسحاق { يجادلونك في الحق } أي كراهية للقاء المشركين وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم وقال السدي : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } أي بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به قال ابن جرير وقال آخرون عنى بذلك المشركين حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله تعالى : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } قال هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام وهم ينظرون قال وليس هذا من صفة الاخرين هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر ثم قال ابن جرير : ولا معنى لما قاله لأن الذي قبل قوله { يجادلونك في الحق } خبر عن أهل الإيمان والذي يتلوه خبر عنهم والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق : أنه خبر عن المؤمنين وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق وهو الذي يدل عليه سياق الكلام والله أعلم وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا يحيى بن بكير وعبد الرزاق قالا : حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب قال عبد الرزاق وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح لك قال ولم ؟ قال لأن الله عز و جل إنما وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك إسناد جيد ولم يخرجه ومعنى قوله تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } أي يحبون أن الطائفة التي لا حد لها ولا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } أي هو يريد أي يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم ويظهر دينه ويرفع كلمة الإسلام ويجعله غالبا على الأديان وهو أعلم بعواقب الأمور وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم كقوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم } وقال محمد بن إسحاق رحمه الله : حدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا [ لما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أي ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يلقى حربا وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا ودعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم كانوا عدد الناس وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا برآء من زمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في زمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم فلما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل فقال آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أمرك الله فو الذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الان أنظر إلى مصارع القوم ] وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق (2/380)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح قراد حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل النبي صلى الله عليه و سلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال [ اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الارض أبدا ] قال فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال : يانبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز و جل { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } فلما كان يومئذ التقوا فهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا واستشار رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر وعمر وعليا فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ] قال : قلت ما أرى ما رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم فهوي رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد قال عمر فغدوت إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وهما يبكيان فقلت : ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما قال النبي صلى الله عليه و سلم [ للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة ] لشجرة قريبة من النبي صلى الله عليه و سلم وأنزل الله عز و جل { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } فأحل لهم الغنائم فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن النبي صلى الله عليه و سلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير } بأخذكم الفداء ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار به وصححه علي بن المديني والترمذي وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أن هذه الاية الكريمة قوله { إذ تستغيثون ربكم } في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم وكذا قال يزيد بن يثيع والسدي وابن جريج وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح قال : لما كان يوم بدر جعل النبي صلى الله عليه و سلم يناشد ربه أشد المناشدة يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله بعض مناشدتك فوالله ليفين الله لك بما وعدك قال البخاري في كتاب المغازي باب قول الله تعالى : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم * إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام * إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يدعو على المشركين فقال : لا نقول كما قال قوم موسى { اذهب أنت وربك فقاتلا } ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم أشرق وجهه وسره يعني قوله حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر [ اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك فخرج وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر ] وروراه النسائي عن بندار عن عبد الوهاب عن عبد المجيد الثقفي وقوله تعالى { بألف من الملائكة مردفين } أي يردف بعضهم بعضا كما قال هارون بن عنترة عن ابن عباس { مردفين } متتابعين ويحتمل أن المراد { مردفين } لكم أي نجدة لكم كما قال العوفي عن ابن عباس { مردفين } يقول المدد كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا وهكذا قال مجاهد وابن كثير القارى وابن زيد { مردفين } ممدين وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس { ممدكم بألف من الملائكة مردفين } قال وراء كل ملك ملك وفي رواية بهذا الإسناد { مردفين } قال بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثني عبد العزيز بن عمران عن الزمعي عن أبي الحويرث عن محمد جبير عن علي رضي الله عنه قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه و سلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه و سلم وأنا في الميسرة وهذا يقتضي إن صح إسناده أن الألف مردفة بمثلها ولهذا قرأ بعضهم { مردفين } بفتح الدال والله أعلم والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه صلى الله عليه و سلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ومسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن وليد الحنفي عن ابن عباس عن عمر الحديث المتقدم ثم قال أبو زميل : حدثني ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا قال فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وقال البخاري : باب شهود الملائكة بدرا حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه وكان أبوه من أهل بدر قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال [ من أفضل المسلمين ] أو كلمة نحوها قال : وكذلك من شهد بدرا من الملائكة انفرد بإخراجه البخاري وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خديج وهو خطأ والصواب رواية البخاري والله أعلم وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة [ إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] وقوله تعالى : { وما جعله الله إلا بشرى } الاية أي وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى { ولتطمئن به قلوبكم } وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله أي بدون ذلك ولهذا قال { وما النصر إلا من عند الله } كما قال تعالى { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم } وقال تعالى { وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة كما أهلك قوم نوح بالطوفان وعادا الأولى بالدبور وثمود بالصيحة وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل وقوم شعيب بيوم الظلة فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم ثم أنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك كما قال تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر } وقتل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين وأشفى لصدور المؤمنين كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين } ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك كما مات أبو لهب لعنه الله بالعدسة بحيث لم يقربه أحد من أقاربه إنما غسلوه بالماء قذفا من بعيد ورجموه حتى دفنوه ولهذا قال تعالى : { إن الله عزيز } أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والاخرة كقوله تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } { حكيم } فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى (2/383)
يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أمانا أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } الاية قال أبو طلحة : كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد ولقد سقط السيف من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح وقال سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة من الشيطان وقال قتادة : النعاس في الرأس والنوم في القلب قلت : أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جدا وأما الاية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر وهي دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم وكما قال تعالى : { فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه و سلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسما فقال : [ أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع ] ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } وقوله { وينزل عليكم من السماء ماء } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : نزل النبي صلى الله عليه و سلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجس الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه و سلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة وكذا قال العوفي عن ابن عباس : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين حتى تعاطوا ذلك في صدورهم فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي فشرب المؤمنون وملؤوا الأسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهورا وثبت به الأقدام وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام ونحو ذلك روي عن قتادة والضحاك والسدي وقد روي عن سعيد بن المسيب والشعبي والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه عطش أصابهم يوم بدر والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ؟ فقال [ بل منزل نزلته للحرب والمكيدة ] فقال يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله صلى الله عليه و سلم ففعل كذلك وفي مغازي الأموي أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ذلك الملك يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جبريل عليه السلام فقال [ هل تعرف هذا ] ؟ فنظر إليه فقال : ما كل الملائكة أعرفهم وإنه ملك وليس بشيطان وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه مالبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشا مالم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم وقال ابن جرير : حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال : أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى الله عليه و سلم وحرض على القتال وقوله { ليطهركم به } أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن كما قال تعالى في حق أهل الجنة { عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة } فهذا زينة الظاهر { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } أي مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته { وليربط على قلوبكم } أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن { ويثبت به الأقدام } وهو شجاعة الظاهر والله أعلم
وقوله { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا قال ابن إسحاق : وآزروهم وقال غيره : قاتلوا معهم وقيل كثروا سوادهم وقيل كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فيقول سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك فتقوى أنفسهم حكاه ابن جرير وهذا لفظه بحروفه وقوله { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } أي ثبتوا أنتم المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } أي اضربوا الهام ففلقوها واحتزوا الرقاب فقطعوها وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم وقد اختلف المفسرون في معنى { فوق الأعناق } فقيل معناه اضربوا الرؤوس قاله عكرمة وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب قاله الضحاك وعطية العوفي ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق } وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم [ إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق ] واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام قلت وفي مغازي الأموي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول [ يفلق هاما ] فيقول أبو بكر :
من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فيبتدىء رسول الله صلى الله عليه و سلم بأول البيت ويستطعم أبا بكر رضي الله عنه إنشاد آخره لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر كما قال تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به وقوله { واضربوا منهم كل بنان } وقال ابن جرير : معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم والبنان جمع بنانة كما قال الشاعر :
ألا ليتني قطعت مني بنانة ولاقيته في البيت يقظان حاذرا
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { واضربوا منهم كل بنان } يعني بالبنان الأطراف وكذا قال الضحاك وابن جرير : وقال السدي البنان الأطراف ويقال كل مفصل وقال عكرمة وعطية العوفي والضحاك في رواية أخرى كل مفصل وقال الأوزاعي في قوله تعالى : { واضربوا منهم كل بنان } قال اضرب منه الوجه والعين وارمه بشهاب من نار فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك وقال العوفي عن ابن عباس : فذكر قصة بدر إلى أن قال : فقال أبو جهل لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى فأوحى الله إلى الملائكة { أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } الاية فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبرا فوفى ذلك سبعين يعني قتيلا ولهذا قال تعالى : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } أي خالفوهما فساروا في شق وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق ومأخوذ أيضا من شق العصا وهو جعلها فرقتين { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله ولا رب سواه { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } هذا خطاب للكفار أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا واعلموا أيضا أن للكافرين عذاب النار في الاخرة (2/386)
يقول تعالى متوعدا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم { فلا تولوهم الأدبار } أي تفروا وتتركوا أصحابكم { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال } أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك نص عليه سعيد بن جبير والسدي وقال الضحاك أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها { أو متحيزا إلى فئة } أي فر من ها هنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة قال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه و سلم فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا لو دخلنا المدينة فبتنا ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال [ من القوم ؟ ] فقلنا نحن الفرارون فقال [ لا بل أنتم العكارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ] قال فأتيناه حتى قبلنا يده وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن يزيد بن أبي زياد وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زياد ورواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن أبي زياد به وزاد في آخره وقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الاية { أو متحيزا إلى فئة } قال أهل العلم معنى قوله [ العكارون ] أي العطاقون وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس فقال عمر لو تحيز إلي لكنت له فئة هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر وفي رواية أبي عثمان النهدي عن عمر قال لما قتل أبو عبيد قال عمر : أيها الناس أنا فئتكم وقال مجاهد قال عمر أنا فئة كل مسلم وقال عبد الملك بن عمير عن عمر أيها الناس لا تغرنكم هذه الاية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي حدثنا نافع أنه سأل ابن عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال إن الفئة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت إن الله يقول : { إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } الاية فقال إنما أنزلت هذه الاية في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها وقال الضحاك في قوله { أو متحيزا إلى فئة } المتحيز الفار إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر لما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اجتنبوا السبع الموبقات ] قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال [ الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ] وله شواهد من وجوه أخر ولهذا قال تعالى : { فقد باء } أي رجع { بغضب من الله ومأواه } أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده { جهنم وبئس المصير } وقال الإمام أحمد حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبد الله بن عمر الرقي عن زيد بن أبي أنيسة حدثنا جبلة بن سحيم عن أبي المثنى العبدي سمعت السدوسي يعني ابن الخصاصية وهو بشير بن معبد قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم لأبايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأن أؤدي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن أصوم شهر رمضان وأن أجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله أما اثنتان فو الله لا أطيقهما : الجهاد فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت والصدقة فو الله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود هن رسل أهلي وحمولتهم فقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم يده ثم قال : [ فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذا ؟ ] قلت يارسول الله أنا أبايعك فبايعته عليهن كلهن هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه في الكتب الستة وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر حدثنا يزيد بن ربيعة حدثنا أبو الأشعث عن ثوبان مرفوعا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف ] وهذا أيضا حديث غريب جدا وقال الطبراني أيضا حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حفص بن عمر الشني حدثني عمرو بن مرة قال سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سمعت أبي يحدث عن جدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف ] وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل به وأخرجه الترمذي عن البخاري عن موسى بن إسماعيل به وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه قلت ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه و سلم عنه سواه وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة لأنه كان فرض عين عليهم وقيل على الأنصار خاصة لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره وقيل المراد بهذه الاية أهل بدر خاصة يروى هذا عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع مولى ابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وعكرمة وقتادة والضحاك وغيرهم وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي صلى الله عليه و سلم [ اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ] ولهذا قال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله { ومن يولهم يومئذ دبره } قال ذلك يوم بدر فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال فلا بأس عليه وقال ابن المبارك عن المبارك أيضا عن ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار قال { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين قال { ثم وليتم مدبرين } { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } وفي سنن أبي داود والنسائي ومستدرك الحاكم وتفسير ابن جرير وابن مردويه من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أنه قال في هذه الاية { ومن يولهم يومئذ دبره } إنما أنزلت في أهل بدر وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر وإن كان سبب نزول الاية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير والله أعلم (2/389)
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه ولهذا قال : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم أي بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } الاية وقال تعالى : { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة والعدد وإنما النصر من عنده تعالى كما قال تعالى : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم أيضا في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بها وقال : [ شاهت الوجوه ] ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ولهذا قال تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } أي هو الذي بلغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : رفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه يعني يوم بدر فقال : [ يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ] فقال له جبريل خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين وقال السدي : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي رضي الله عنه يوم بدر [ أعطني حصبا من الأرض ] فناوله حصبا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل عينيه من ذلك التراب شيء ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وأنزل الله { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال : [ شاهت الوجوه ] فدخلت في أعينهم كلهم وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } قال هذا يوم بدر أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال [ شاهت الوجوه ] فانهزموا وقد روي في هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنه أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن منصور حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا عبد العزيز بن عمران حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الرمية فانهزمنا غريب من هذا الوجه وههنا قولان آخران غريبان جدا ( أحدهما ) قال ابن جرير حدثني محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان بن عمرو حدثنا عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة وقال [ جيئوني بقوس غيرها ] فجاءوه بقوس كبداء فرمى النبي صلى الله عليه و سلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو في فراشه فأنزل الله عز و جل { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وهذا غريب وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ولعله اشتبه عليه أو أنه أراد أن الاية تعم هذا كله وإلا فسياق الاية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم والله أعلم ( والثاني ) روى ابن جرير أيضا والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا : أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد أبي بن خلف بالحربة وهو في لأمته فخدشه في ترقوته فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا حتى كانت وفاته بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليم موصولا بعذاب البرزخ المتصل بعذاب الاخرة وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ولعلهما أرادا أن الاية تتناوله بعمومها لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم والله أعلم وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته وهكذا فسره ابن جرير أيضا وفي الحديث [ وكل بلاء حسن أبلانا ] وقوله { إن الله سميع عليم } أي سميع الدعاء عليم بمن يستحق النصر والغلب وقوله { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل مصغر أمرهم وأنهم وكل ما لهم في تبار ودمار ولله الحمد والمنة (2/391)
يقول تعالى للكفار : { إن تستفتحوا } أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم كما قال محمد بن إسحاق وغيره عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة وكان ذلك استفتاحا منه فنزلت { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } إلى آخر الاية وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد يعني ابن هارون أخبرنا محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان المستفتح وأخرجه النسائي في التفسير من حديث صالح بن كيسان عن الزهري به وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزهري به وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وروي نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد وقال السدي كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين فقال الله : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } يقول قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى الله عليه و سلم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو قوله تعالى إخبارا عنهم { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الاية وقوله { وإن تنتهوا } أي عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله { فهو خير لكم } أي في الدنيا والاخرة وقوله تعالى : { وإن تعودوا نعد } كقوله { وإن عدتم عدنا } معناه وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة نعد لكم بمثل هذه الواقعة وقال السدي { وإن تعودوا } أي إلى الاستفتاح { نعد } أي إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه و سلم والنصر له وتظفيره على أعدائه والأول أقوى { ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت } أي ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا فإن من كان الله معه فلا غالب له { وأن الله مع المؤمنين } وهم الحزب النبوي والجناب المصطفوي (2/392)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له ولهذا قال { ولا تولوا عنه } أي تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره { وأنتم تسمعون } أي بعد ما علمتم ما دعاكم إليه { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } قيل : المراد المشركون واختاره ابن جرير وقال ابن إسحاق هم المنافقون فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة فقال { إن شر الدواب عند الله الصم } أي عن سماع الحق { البكم } عن فهمه ولهذا قال { الذين لا يعقلون } فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما خلقها له وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ولهذا شبههم بالأنعام في قوله { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } الاية وقال في الاية الأخرى { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } وقيل المراد بهؤلاء المذكورين نفر من بني عبد الدار من قريش روي عن ابن عباس ومجاهد واختاره ابن جرير وقال محمد بن إسحاق هم المنافقون قلت : ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا لأن كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح والقصد إلى العمل الصالح ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ولا قصد لهم صحيح لو فرض أن لهم فهما فقال { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } أي لأفهمهم وتقدير الكلام ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم لأنه يعلم أنه { ولو أسمعهم } أي أفهمهم { لتولوا } عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك { وهم معرضون } عنه (2/393)
قال البخاري { استجيبوا } أجيبوا { لما يحييكم } لما يصلحكم حدثني إسحاق حدثنا روح حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه و سلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال [ ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ـ ثم قال ـ لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج ] فذهب رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخرج فذكرت له وقال معاذ : حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بهذا وقال { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني هذا لفظه بحروفه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة وقال مجاهد في قوله { لما يحييكم } قال للحق وقال قتادة { لما يحييكم } قال هو هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة وقال السدي { لما يحييكم } ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل وقواكم بها بعد الضعف ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم وقوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } قال ابن عباس يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان رواه الحاكم في مستدركه موقوفا وقال صحيح ولم يخرجاه ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا ولا يصح لضعف إسناده والموقوف أصح وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان والسدي وفي رواية عن مجاهد في قوله { يحول بين المرء وقلبه } أي حتى يتركه لا يعقل وقال السدي يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه وقال قتادة هو كقوله { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بما يناسب هذه الاية وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] قال : فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال : [ نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها ] وهكذا رواه الترمذي في كتاب القدر من جامعه عن هناد بن السري عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير عن الأعمش واسمه سليمان بن مهران عن أبي سفيان واسمه طلحة بن نافع عن أنس ثم قال : حسن وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش ورواه بعضهم عنه عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح
( حديث آخر ) وقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو مع ذلك على شرط أهل السنن ولم يخرجوه
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت ابن جابر يقول : حدثني بسر بن عبد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول سمعت النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول [ ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ] وكان يقول [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] قال [ والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه ] وهكذا رواه النسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فذكر مثله
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا يونس حدثنا حماد بن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن أن عائشة قالت : دعوات كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو بها [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] قالت : فقلت يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فقال [ إن قلب الادمي بين أصبعين من أصابع الله فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا هاشم حدثنا عبد الحميد حدثني شهر سمعت أم سلمة تحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يكثر في دعائه يقول [ اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] قالت فقلت يا رسول الله أوإن القلوب لتقلب ؟ قال [ نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز و جل فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب ] قالت فقلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال [ بلى قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حيوة أخبرني أبو هانىء أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف شاء ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ] انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري فرواه مع النسائي من حديث حيوة بن شريح المصري به (2/394)
يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة أي اختبارا ومحنة يعم بها المسيء وغيره لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع كما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا شداد بن سعيد حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال : قلنا للزبير : يا أبا عبد الله ما جاء بكم ؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ فقال الزبير رضي الله عنه : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت وقد رواه البزار من حديث مطرف عن الزبير وقال : لا نعرف مطرفا روى عن الزبير غير هذا الحديث وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم عن الحسن عن الزبير نحو هذا وقد روى ابن جرير حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا مبارك بن فضالة عن الحسن قال قال الزبير لقد خوفنا بها يعني قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } ونحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة وكذا رواه حميد عن الحسن عن الزبير رضي الله عنه وقال داود بن أبي هند عن الحسن في هذه الاية قال نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم وقال سفيان الثوري عن الصلت بن دينار عن عقبة بن صهبان سمعت الزبير يقول : لقد قرأت هذه الاية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } وقد روي من غير وجه عن الزبير بن العوام وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } يعني أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وقال في رواية له عن ابن عباس في تفسير هذه الاية أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب وهذا تفسير حسن جدا ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } هي أيضا لكم وكذا قال الضحاك ويزيد بن أبي حبيب وغير واحد وقال ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة إن الله تعالى يقول { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن رواه ابن جرير والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح ويدل عليه الأحاديث الواردة في أخص ما يذكر ههنا ما رواه الإمام أحمد حيث قال حدثنا أحمد بن الحجاج أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك أنبأنا سيف بن أبي سليمان سمعت عدي بن عدي الكندي يقول حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن عميرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله عز و جل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة ] فيه رجل متهم ولم يخرجوه في الكتب الستة ولا واحد منهم والله أعلم
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا سليمان الهاشمي حدثنا إسماعيل يعني ابن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل عن حذيفة بن اليماني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ] ورواه عن أبي سعيد عن إسماعيل بن جعفر وقال [ أو ليبعثن الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ] وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا رزين حبيب الجهني حدثني أبو الرقاد قال : خرجت مع مولاي فدفعت إلى حذيفة وهو يقول : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيصير منافقا وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد أيضا حدثني يحيى بن سعيد عن زكريا حدثنا عامر رضي الله عنه قال : سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يخطب يقول : وأومأ بأصبعيه إلى أذنيه يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمداهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها وأصاب بعضهم أعلاها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا لو خرقنا في نصيبنا خرقا فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا : فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم فرواه في الشركة والشهادات والترمذي في الفتن من غير وجه عن سليمان بن مهران الأعمش عن عامر بن شراحيل الشعبي به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا حسين حدثنا خلف بن خليفة عن ليث عن علقمة بن مرثد عن المعرور بن سويد عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده ] فقلت يا رسول الله : أما فيهم أناس صالحون قال [ بلى ] قالت فكيف يصنع أولئك ؟ قال [ يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا حجاج بن محمد حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب ] ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق به وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث عن عبيد الله بن جرير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب ] ثم رواه أيضا عن وكيع عن إسرائيل وعن عبد الرزاق عن معمر وعن أسود عن شريك ويونس كلهم عن أبي إسحاق السبيعي به وأخرجه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع به وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان حدثنا جامع بن أبي راشد عن منذر عن الحسن بن محمد عن امرأته عن عائشة تبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه ] فقلت وفيهم أهل طاعة الله ؟ قال : [ نعم ثم يصيرون إلى رحمة الله ] (2/395)
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم حيث كانوا قليلين فكثرهم ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات واستشكرهم فأطاعوه وامتثلوا جميع ما أمرهم وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله من مشرك ومجوسي ورومي كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها وقيض لهم أهلها آووا ونصروا يوم بدر وغيره وواسوا بأموالهم وبذلوا مهجهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } قال : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا وأعراه جلودا وأبينه ضلالا من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله (2/397)
قال عبد الرزاق بن أبي قتادة والزهري : أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته على رسوله فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه وأرادوا أن يحلوه من السارية فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده فحله فقال : يا رسول الله : إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة فقال [ يجزيك الثلث أن تصدق به ] وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا يونس بن الحارث الطائفي حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الاية في قتل عثمان رضي الله عنه { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } الاية
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا القاسم بن بشر بن معروف حدثنا شبابة بن سوار حدثنا محمد بن المحرم قال لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال : حدثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا ] فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عز و جل { لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم } الاية هذا حديث غريب جدا وفي سنده وسياقه نظر وفي الصحيحين قصة حاطب بن أبي بلتعة أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم عام الفتح فأطلع الله رسوله على ذلك فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه واستحضر حاطبا فأقر بما صنع وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله : ألا أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ؟ فقال : [ دعه فإنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ] قلت : والصحيح أن الاية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وتخونوا أماناتكم } الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يعني الفريضة يقول : { لا تخونوا } لا تنقضوها وقال في رواية : { لا تخونوا الله والرسول } يقول بترك سنته وارتكاب معصيته
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في هذه الاية أي لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره فإن ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة لأنفسكم وقال السدي : إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم وقال أيضا : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه و سلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين وقال عبد الرحمن بن زيد : نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون وقوله { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } وقال { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } الاية وقوله { وأن الله عنده أجر عظيم } أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد فإنه قد يوجد منهم عدو وأكثرهم لا يغني عنك شيئا والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والاخرة ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة وفي الأثر يقول الله تعالى : يا ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ] بل حب رسول الله صلى الله عليه و سلم مقدم على الأولاد والأموال والنفوس كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين ] (2/398)
قال ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد { فرقانا } مخرجا زاد مجاهد في الدنيا والاخرة وفي رواية عن ابن عباس { فرقانا } نجاة وفي رواية عنه نصرا وقال محمد بن إسحاق { فرقانا } أي فصلا بين الحق والباطل وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وهو يستلزم ذلك كله فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها وغفرها سترها عن الناس وسببا لنيل ثواب الله الجزيل كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم } (2/399)
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة { ليثبتوك } ليقيدوك وقال عطاء وابن زيد : ليحبسوك وقال السدي : الإثبات هو الحبس والوثاق وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج : قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه و سلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال [ يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني ] فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال [ ربي ] قال : نعم الرب ربك استوص به خيرا قال [ أنا استوصي به بل هو يستوصي بي ]
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : ما يأتمر بك قومك ؟ قال [ يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني ] فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال [ ربي ] قال : نعم الرب ربك فاستوص به خيرا قال [ أنا استوصي به بل هو يستوصي بي ] قال : فنزلت { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } الاية وذكر أبي طالب في هذا غريب جدا بل منكر لأن هذه الاية مدنية ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترؤوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانىء عن ابن عباس أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي قالوا : أجل ادخل فدخل معهم فقال : انظروا في شأن هذا الرجل والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره فقال قائل منهم : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال : والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم قالوا : صدق الشيخ فانظروا في غير هذا قال قائل منهم : أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم قالوا : صدق والله فانظروا رأيا غير هذا قال : فقال أبو جهل لعنه الله والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد لا أرى غيره قالوا : وما هو ؟ قال : تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه قال : فقال الشيخ النجدي : هذا والله الرأي القول ما قال الفتى لا أرى غيره قال : فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له فأتى جبريل النبي صلى الله عليه و سلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } وكذا روى العوفي عن ابن عباس وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم على القوم وهم على بابه وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه و سلم وهو يقرأ { يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم * تنزيل العزيز الرحيم * لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون * لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون * إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : روي عن عكرمة ما يؤكد هذا وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي تبكي فقال : [ ما يبكيك يا بنية ؟ ] قالت يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاهدون باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك فقال : [ يا بنية ائتني بوضوء ] فتوضأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا : ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى الله عليه و سلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال : [ شاهت الوجوه ] فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافرا ثم قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله : { وإذ يمكر بك } الاية قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه و سلم وقال بعضهم بل اقتلوه وقال بعضهم : بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم وخرج النبي صلى الله عليه و سلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه و سلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ قال لا أدري فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم (2/400)
يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته إذا تتلى عليهم أنهم يقولون { قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } وهذا منهم قول بلا فعل وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلا وإنما هذا القول منهم يغرون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم وقد قيل إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث لعنه الله كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن فكان عليه الصلاة و السلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول بالله أينا أحسن قصصا أنا أو محمد ؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه ففعل ذلك ولله الحمد وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه كما قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال قتل النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه كان يقول في كتاب الله عز و جل ما يقول فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله فقال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اللهم أغن المقداد من فضلك ] فقال المقداد هذا الذي أردت قال وفيه أنزلت هذه الاية { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين } وكذا رواه هشيم عن أبي بشر جعفر بن أبي دحية عن سعيد بن جبير أنه قال المطعم بن عدي بدل طعيمة وهو غلط لأن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له يعني الأسارى لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم رجع من الطائف ومعنى { أساطير الأولين } وهو جمع أسطورة أي كتبهم اقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس وهذا هو الكذب البحت كما أخبر الله عنهم في الاية الأخرى { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما } أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه وقوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم وهذا مما عيبوا به وكان الأولى لهم أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة كقوله تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون } { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } وقوله { سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج } وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له { فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين } وقال هؤلاء { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } قال شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي عن أنس بن مالك قال هو أبو جهل بن هشام قال { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } فنزلت { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر كلاهما عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به وأحمد هذا هو أحمد بن النضر بن عبد الوهاب قاله الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبيد الله النيسابوري والله أعلم وقال الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } قال هو النضر بن الحارث بن كلدة قال : فأنزل الله { سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع } وكذا قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي : إنه النضر بن الحارث زاد عطاء فقال الله تعالى : { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } وقال { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } وقال { سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين } قال عطاء ولقد أنزل الله فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عز و جل وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا أبو غسان حدثنا أبو نميلة حدثنا الحسين عن ابن بريدة عن أبيه قال : رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أحد على فرس وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي وقال قتادة في قوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الاية قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها وقوله تعالى : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك الحنفي عن ابن عباس قال كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك فيقول النبي صلى الله عليه و سلم : قد قد ويقولون : اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ويقولون غفرانك غفرانك فأنزل الله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } الاية قال ابن عباس كان فيهم أمانان النبي صلى الله عليه و سلم والاستغفار فذهب النبي صلى الله عليه و سلم وبقي الاستغفار وقال ابن جرير حدثني الحارث حدثني عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا : قالت قريش بعضها لبعض محمد أكرمه الله من بيننا { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الاية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فأنزل الله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون * وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } يقول : ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ثم قال { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } يقول وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار يستغفرون يعني يصلون يعني بهذا أهل مكة وروي عن مجاهد وعكرمة وعطية والعوفي وسعيد بن جبير والسدي نحو ذلك وقال الضحاك وأبو مالك { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } يعني المؤمنين الذين كانوا بمكة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا النضر بن عربي قال : قال ابن عباس : إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } وقال أبو صالح عبد الغفار : حدثني بعض أصحابنا أن النضر بن عدي حدثه هذا الحديث عن مجاهد عن ابن عباس وروى ابن مردويه عن أبي موسى الأشعري نحوا من هذا وكذا روي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرى وقال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنزل الله علي أمانين لأمتي { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة ] ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ] ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا رشدين هو ابن سعد حدثني معاوية بن سعد التجيبي عمن حدثه عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز و جل ] (2/402)
يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صلى الله عليه و سلم بين أظهرهم ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم وأسر سراتهم وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد وقال قتادة والسدي وغيرهما : لم يكن القوم يستغفرون ولو كانوا يستغفرون لما عذبوا واختاره ابن جرير فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد ولكن دفع عنهم بسبب أولئك كما قال تعالى في يوم الحديبية { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما } قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم بمكة فأنزل الله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } قال : فخرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة فأنزل الله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } قال : وكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها مستضعفين يعني بمكة { يستغفرون } فلما خرجوا أنزل الله { وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه } قال : فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم وروي عن ابن عباس وأبي مالك والضحاك وغير واحد نحو هذا وقد قيل : إن هذه الاية ناسخة لقوله تعالى : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال في الأنفال { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فنسختها الاية التي تليها { وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون * وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نميلة يحيى بن واضح وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } ثم استثنى أهل الشرك فقال { وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } ـ وقوله ـ { وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به ولهذا قال : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } أي هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه كما قال تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقال تعالى : { وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } الاية وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الاية : حدثنا سليمان بن أحمد هو الطبراني حدثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصري حدثنا نعيم بن حماد حدثنا نوح بن أبي مريم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم من أولياؤك ؟ قال : [ كل تقي ] وتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { إن أولياؤه إلا المتقون } وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو بكر الشافعي حدثنا إسحاق بن الحسن حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان عن عبد الله بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده قال : جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فقال : [ هل فيكم من غيركم ؟ ] فقالوا فينا ابن أختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا فقال : [ حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا منا إن أوليائي منكم المتقون ] ثم قال هذا صحيح ولم يخرجاه وقال عروة والسدي ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى : { إن أولياؤه إلا المتقون } قال هم محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم وقال مجاهد : هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام وما كانوا يعاملونه به فقال : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } قال عبد الله بن عمرو وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن كعب القرظي وحجر بن عنبس ونبيط بن شريط وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الصفير وزاد مجاهد وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم وقال السدي : المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز { وتصدية } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد حدثنا يونس بن محمد المؤدب حدثنا يعقوب يعني ابن عبد الله الأشعري حدثنا جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } قال المكاء الصفير والتصدية التصفيق قال قرة : وحكى لنا عطية فعل ابن عمر فصفر ابن عمر وأمال خده وصفق بيديه وعن ابن عمر أيضا أنه قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه وقال عكرمة : كانوا يطوفون بالبيت على الشمال قال مجاهد : وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه و سلم صلاته وقال الزهري يستهزئون بالمؤمنين وعن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد { وتصدية } قال صدهم الناس عن سبيل الله عز و جل قوله { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } قال الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق : هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي واختاره ابن جرير ولم يحك غيره وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال عذاب أهل الإقرار بالسيف وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة (2/404)
قال محمد بن إسحاق : حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ قالوا لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ففعلوا قال ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله عز و جل { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون * ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون } وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير والحكم بن عيينة وقتادة والسدي وابن أبزى أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الضحاك : نزلت في أهل بدر وعلى كل تقدير فهي عامة وإن كان سبب نزولها خاصا فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم ثم تكون عليهم حسرة أي ندامة حيث لم تجد شيئا لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق والله متم نوره ولو كره الكافرون وناصر دينه ومعلن كلمته ومظهر دينه على كل دين فهذا الخزي لهم في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي ولهذا قال : { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } وقوله تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { ليميز الله الخبيث من الطيب } فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء وقال السدي : يميز المؤمن من الكافر وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الاخرة كقوله : { ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم } الاية وقوله : { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } وقال في الاية الأخرى : { يومئذ يصدعون } وقال تعالى : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين وتكون اللام معللة لما جعل الله للكافرين من مال ينفقونه في الصد عن سبيل الله أي إنما أقدرناهم على ذلك { ليميز الله الخبيث من الطيب } أي من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين أو يعصيه بالنكول عن ذلك كقوله : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } الاية وقال تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب } الاية وقال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } ونظيرها في براءة أيضا فمعنى الاية على هذا إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك { ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه } أي يجمعه كله وهو جمع الشيء بعضه على بعض كما قال تعالى في السحاب { ثم يجعله ركاما } أي متراكما متراكبا { فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون } أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والاخرة (2/406)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم { قل للذين كفروا إن ينتهوا } أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يغفر لهم ما قد سلف أي من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والاخر ] وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها [ وقوله { وإن يعودوا } أي يستمروا على ما هم فيه { فقد مضت سنة الأولين } أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة قال مجاهد في قوله { فقد مضت سنة الأولين } أي في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم وقال السدي ومحمد بن إسحاق أي يوم بدر وقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } قال البخاري حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن يحيى حدثنا حيوة بن شريح عن بكر بن عمر عن بكير عن نافع عن ابن عمر أن رجلا جاء فقال : يا أبا عبد الرحمن ألا تصنع ما ذكر الله في كتابه { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } الاية فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه ؟ فقال : يا ابن أخي أعير بهذه الاية ولا أقاتل أحب إلي من أن أعير بالاية التي يقول الله عز و جل { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } إلى آخر الاية قال : فإن الله تعالى يقول { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } قال ابن عمر قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال فما قولكم في علي وعثمان ؟ قال ابن عمر أما قولي في علي وعثمان أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وختنه وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا بيان أن ابن وبرة حدثه قال حدثني سعيد بن جبير قال : خرج علينا أو إلينا ابن عمر رضي الله عنهما فقال كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال : وهل تدري ما الفتنة ؟ كان محمد صلى الله عليه و سلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس بقتالكم على الملك هذا كله سياق البخاري رحمه الله تعالى وقال عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فما يمنعك أن تخرج ؟ قال يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم قالوا أو لم يقل الله { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } ؟ قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وكذا روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي قال كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فأتاه رجل فقال : إن الله يقول { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } قال : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وكذا رواه حماد بن سلمة فقال ابن عمر : قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله وذهب الشرك ولم تكن فتنة ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله رواهما ابن مردويه وقال أبو عوانة : عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : قال ذو البطين يعني أسامة بن زيد : لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا فقال سعد بن مالك : وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا فقال رجل ألم يقل الله { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } ؟ فقالا : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله رواه ابن مردويه وقال الضحاك عن ابن عباس { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } يعني لا يكون شرك وكذا قال أبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا حتى لا تكون فتنة حتى لا يفتن مسلم عن دينه وقوله { ويكون الدين كله لله } قال الضحاك : عن ابن عباس في هذه الاية قال يخلص التوحيد لله وقال الحسن وقتادة وابن جريج { ويكون الدين كله لله } أن يقال لا إله إلا الله وقال محمد بن إسحاق : ويكون التوحيد خالصا لله ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { ويكون الدين كله لله } لا يكون مع دينكم كفر ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ] أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز و جل [ وفيهما عن أبي موسى الأشعري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله عز و جل ؟ فقال : ] من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز و جل [
وقوله { فإن انتهوا } أي بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه وإن لم تعلموا بواطنهم { فإن الله بما يعملون بصير } كقوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } الاية وفي الاية الأخرى { فإخوانكم في الدين } وقال { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال لا إله إلا الله فضربه فقتله فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لأسامة : ] أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا قال [ هلا شققت عن قلبه ؟ ] وجعل يقول ويكرر عليه [ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ ] قال أسامة حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ وقوله { وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير } أي وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم فاعلموا أن الله مولاكم وسيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى ونعم النصير وقال محمد بن جرير حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا أبان العطار حدثنا هشام بن عروة عن عروة أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء فكتب إليه عروة : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة وسأخبرك به ولا حول ولا قوة إلا بالله كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة أن الله أعطاه النبوة فنعم النبي ونعم السيد ونعم العشيرة فجزاه الله خيرا وعرفنا وجهه في الجنة وأحيانا على ملته وأماتنا وبعثنا عليها وأنه لما دعا قومه لما بعثه الله به من الهدى والنور الذي أنزل عليه لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه وكانوا يسمعون له حتى إذا ذكر طواغيتهم وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال أنكر ذلك عليه ناس واشتدوا عليه وكرهوا ما قال وأغروا به من أطاعهم فانعطف عنه عامة الناس فتركوه إلا من حفظه الله منهم وهم قليل فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم فكانت فتنة شديدة الزلزال فافتتن من افتتن وعصم الله ما شاء منهم فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي لا يظلم أحد بأرضه وكان يثنى عليه مع ذلك وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها وكانت مساكن لتجارهم يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا فأمرهم بها النبي صلى الله عليه و سلم فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة وخافوا عليهم الفتن ومكث هو فلم يبرح فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم ثم إنه فشا الإسلام فيها ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم فلما رأوا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن أصحابه وكانت الفتنة الأولى : هي التي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أرض الحبشة مخافتها وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال فلما استرخى عنهم ودخل في الإسلام من دخل منهم تحدث باسترخائهم عنهم فبلغ من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قد استرخى عمن كان منهم بمكة وأنهم لا يفتنون فرجعوا إلى مكة وكادوا يأمنون بها وجعلوا يزدادون ويكثرون وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير وفشا الإسلام بالمدينة وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فلما رأت قريش ذلك توامروا على أن يفتنوهم ويشتدوا فأخذوهم فحرصوا على أن يفتنوهم فأصابهم جهد شديد فكانت الفتنة الاخرة فكانت فتنتان : فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة حين أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بها وأذن لهم في الخروج إليها وفتنة : لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة سبعون نقيبا رؤوس الذين أسلموا فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة وأعطوه عهودهم ومواثيقهم على أنا منك وأنت منا وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا فاشتدت عليهم قريش عند ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة وهي الفتنة الاخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه وخرج هو وهي التي أنزل الله عز و جل فيها { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } ثم رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير أنه كتب إلى الوليد يعني ابن عبد الملك بن مروان بهذا فذكر مثله وهذا صحيح إلى عروة رحمه الله (2/407)
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب والفيء ما أخذ منهم بغير ذلك كالأموال التي يصالحون عليها أو يتوفون عنها ولا وارث لهم والجزية والخراج ونحو ذلك هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف والخلف ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة وبالعكس أيضا ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الاية ناسخة لاية الحشر { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى } الاية قال فنسخت آية الأنفال تلك وجعلت الغنائم أربعة أخماس للمجاهدين وخمسا منها لهؤلاء المذكورين وهذا الذي قاله بعيد لأن هذه الاية نزلت بعد وقعة بدر وتلك نزلت في بني النضير ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة أن بني النضير بعد بدر وهذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب فمن يفرق بين معنى الفيء والغنيمة يقول تلك نزلت في أموال الفيء وهذه في الغنائم ومن يجعل أمر الغنائم والفيء راجعا إلى رأي الإمام يقول : لا منافاة بين آية الحشر وبين التخميس إذا رآه الإمام والله أعلم فقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط والمخيط قال الله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وقوله { فأن لله خمسه وللرسول } اختلف المفسرون ههنا فقال بعضهم : لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة قال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية الرياحي قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة تكون أربعة أخماس لمن شهدها ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول وسهم لذوي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل وقال آخرون : ذكر الله ههنا استفتاح كلام للتبرك وسهم لرسوله عليه السلام قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } فأن لله خمسه مفتاح كلام { لله ما في السموات وما في الأرض } فجعل سهم الله وسهم الرسول صلى الله عليه و سلم واحدا وهكذا قال إبراهيم النخعي والحسن بن محمد بن الحنفية والحسن البصري والشعبي وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن بريدة وقتادة ومغيرة وغير واحد أن سهم الله ورسوله واحد ويؤيد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو بوادي القرى وهو يعرض فرسا فقلت يا رسول الله ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : [ لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش ] قلت فما أحد أولى به من أحد ؟ قال : [ لا ولا السهم تستخرجه من جيبك ليس أنت أحق به من أخيك المسلم ]
وقال ابن جرير : حدثنا عمران بن موسى حدثنا عبد الوارث حدثنا أبان عن الحسن قال : أوصى الحسن بالخمس من ماله وقال ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ثم اختلف قائلوا هذا القول فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كانت الغنيمة تخمس على خمسة أخماس فأربعة منها بين من قاتل عليها وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس فربع لله وللرسول صلى الله عليه و سلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه و سلم ولم يأخذ النبي صلى الله عليه و سلم من الخمس شيئا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المنقري حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة في قوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } قال : الذي لله فلنبيه والذي للرسول لأزواجه وقال عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح قال : خمس الله والرسول واحد يحمل منه ويصنع فيه ما شاء يعني النبي صلى الله عليه و سلم وهذا أعم وأشمل وهو أنه صلى الله عليه و سلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله بما شاء ويرده في أمته كيف شاء ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن أبي سلام الأعرج عن المقدام بن معد يكرب الكندي أنه جلس مع عبادة بن الصامت وأبي الدرداء والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو الدرداء لعبادة : يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فتناول وبرة بين أنملتيه فقال : [ إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والاخرة وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد ولا تبالوا في الله لومة لائم وأقيموا حدود الله في السفر والحضر وجاهدوا في الله فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم ] هذا حديث حسن عظيم ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه ولكن روى الإمام أحمد أيضا وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نحوه في قصة الخمس والنهي عن الغلول وعن عمرو بن عنبسة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم إلى بعير من المغنم فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير ثم قال : [ ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم ] رواه أبو داود والنسائي وقد كان للنبي صلى الله عليه و سلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك كما نص عليه محمد بن سيرين وعامر الشعبي وتبعهما على ذلك أكثر العلماء وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت صفية من الصفي رواه أبو داود في سننه وروى أيضا بإسناده والنسائي أيضا عن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها [ من محمد رسول الله إلى بني زهير بن قيس إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه و سلم وسهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله ] فقلنا من كتب هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرير هذا وثبوته ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه وقال آخرون : إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين كما يتصرف في مال الفيء وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية رحمه الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف وهو أصح الأقوال فإذا ثبت هذا وعلم فقد اختلف أيضا في الذي كان يناله عليه السلام من الخمس ماذا يصنع به من بعده فقال قائلون يكون لمن يلي الأمر من بعده روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة وجاء فيه حديث مرفوع وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل اختاره ابن جرير وقال آخرون : بل سهم النبي صلى الله عليه و سلم وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق وقيل إن الخمس جميعه لذوي القربى كما رواه ابن جرير حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا عبد الغفار حدثنا المنهال بن عمرو سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا : هو لنا فقلت لعلي : فإن الله يقول { واليتامى والمساكين وابن السبيل } فقالا : يتامانا ومساكيننا وقال سفيان الثوري وأبو نعيم وأبو أسامة عن قيس بن مسلم سألت الحسن بن محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى عن قول الله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } فقال : هذا مفتاح كلام لله الدنيا والاخرة ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قائلون : سهم النبي صلى الله عليه و سلم تسليما للخليفة من بعده وقال آخرون لقرابة النبي صلى الله عليه و سلم وقال آخرون : سهم القرابة لقرابة الخليفة واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه و سلم في الكراع والسلاح فقلت لإبراهيم ما كان علي يقول فيه ؟ قال : كان أشدهم فيه وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم الله وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وحماية له مسلمهم طاعة لله ولرسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم على ذلك بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم لشدة قربهم ولهذا يقول في أثناء قصيدته :
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجل غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا والعياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصي في الخطوب الأوائل
وقال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل : مشيت أنا وعثمان بن عفان يعني ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا : يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة فقال : [ إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ] رواه مسلم وفي بعض روايات هذا الحديث [ إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ] وهذا قول جمهور العلماء إنهم بنو هاشم وبنو المطلب قال ابن جرير وقال آخرون : هم بنو هاشم ثم روي عن خصيف عن مجاهد قال : علم الله أن في بني هاشم فقراء فجعل لهم الخمس مكان الصدقة وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين لا تحل لهم الصدقة ثم روى عن علي بن الحسين نحو ذلك قال ابن جرير وقال آخرون : بل هم قريش كلها حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثني عبد الله بن نافع عن أبي معشر عن سعيد المقبري قال : كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن ذوي القربى فكتب إليه ابن عباس كنا نقول : إنا هم فأبى علينا ذلك قومنا وقالوا قريش كلها ذوو قربى وهذا الحديث صحيح رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد المقبري عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي القربى فذكره إلى قوله : فأبى ذلك علينا قومنا والزيادة من أفراد أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني وفيه ضعف وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رغبت لكم عن غسالة الأيدي لأن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم ] هذا حديث حسن الإسناد وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم وقال يحيى بن معين : يأتي بمناكير والله أعلم وقوله { واليتامى } أي أيتام المسلمين واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء أو يعم الأغنياء والفقراء ؟ على قولين والمساكين هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم { وابن السبيل } هو المسافر أو المريد للسفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة وليس له ما ينفقه في سفره ذلك وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة براءة إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان
وقوله { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا } أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وما أنزل على رسوله ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس في حديث وفد عبد القيس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم : [ وآمركم بأربع وأنهاكم عن أربع آمركم بالإيمان بالله ـ ثم قال ـ هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا الخمس من المغنم ] الحديث بطوله فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان وقد بوب البخاري على ذلك في كتاب الإيمان من صحيحه فقال : ( باب أداء الخمس من الإيمان ) ثم أورد حديث ابن عباس هذا وقد بسطنا الكلام عليه في شرح البخاري ولله الحمد والمنة وقال مقاتل بن حيان : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } أي في القسمة وقوله { يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير } ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه بما فرق به بين الحق والباطل ببدر ويسمى الفرقان لأن الله أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس : يوم الفرقان يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل رواه الحاكم وكذا قال مجاهد ومقسم وعبيد الله بن عبد الله والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد أنه يوم بدر وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير في قوله { يوم الفرقان } يوم فرق الله بين الحق والباطل وهو يوم بدر وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة أو سبع عشرة مضت من رمضان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمائة فهزم الله المشركين وقتل منهم زيادة على السبعين وأسر منهم مثل ذلك وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود قال في ليلة القدر : تحروها لإحدى عشرة يبقين فإن في صبيحتها يوم بدر وقال على شرطهما وروي مثله عن عبد الله بن الزبير أيضا من حديث جعفر بن برقان عن رجل عنه وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا يحيى بن يعقوب أبو طالب عن ابن عون عن محمد بن عبد الله الثقفي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال الحسن بن علي : كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من رمضان إسناد جيد قوي ورواه ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب عن علي قال : كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل الديار المصرية في زمانه : كان يوم بدر يوم الاثنين ولم يتابع على هذا وقول الجمهور مقدم عليه والله أعلم (2/410)
يقول تعالى مخبرا عن يوم الفرقان { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } أي إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة { وهم } أي المشركون نزول { بالعدوة القصوى } أي البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة { والركب } أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة { أسفل منكم } أي مما يلي سيف البحر { ولو تواعدتم } أي أنتم والمشركون إلى مكان { لاختلفتم في الميعاد } قال محمد بن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه في هذه الاية قال : ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم { ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا } أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثني ابن علية عن ابن عون عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه فالتقوا ببدر ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولاهؤلاء بهؤلاء حتى التقى السقاة ونهد الناس بعضهم لبعض وقال محمد بن إسحاق في السيرة : ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على وجهه ذلك حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهنيين يلتمسان الخبر عن أبي سفيان فانطلقا حتى إذا وردا بدرا فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء فاستقيا في شن لهما من الماء فسمعا جاريتين تختصمان تقول إحداهما لصاحبتها اقضيني حقي وتقول الأخرى إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأقضيك حقك فخلص بينهما مجدي بن عمرو وقال صدقت فسمع بذلك بسبس وعدي فجلسا على بعيريهما حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبراه الخبر وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حذر فتقدم أمام عيره وقال لمجدي بن عمرو هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره ؟ فقال : لا والله إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل فاستقيا من شن لهما ثم انطلقا فجاء أبو سفيان إلى مناخ بعيريهما فأخذ من أبعارهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب ثم رجع سريعا فضرب وجه عيره فانطلق بها فساحل حتى إذا رأى أنه قد أحرز عيره إلى قريش فقال : إن الله قد نجى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نأتي بدرا ـ وكانت بدر سوقا من أسواق العرب ـ فنقيم بها ثلاثا فنطعم بها الطعام وننحر بها الجزر ونسقى بها الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا فقال الأخنس بن شريق : يا معشر بني زهرة إن الله قد أنجى أموالكم ونجى صاحبكم فارجعوا فرجعت بنو زهرة فلم يشهدوها ولا بنو عدي قال محمد بن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دنا من بدر علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص وغلاما لبني الحجاج فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدوه يصلي فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يسألونهما لمن أنتما ؟ فيقولان : نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أزلقوهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما وركع رسول الله صلى الله عليه و سلم وسجد سجدتين ثم سلم وقال [ إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش ] قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب : العقنقل فقال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كم القوم ؟ ] قالا : كثير قال : [ ما عدتهم ؟ ] قالا ما ندري قال [ كم ينحرون كل يوم ؟ ] قالا : يوما تسعا ويوما عشرا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ] ثم قال لهما : [ فمن فيهم من أشراف قريش ؟ ] قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس فقال : [ هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ] قال محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : لما التقى الناس يوم بدر يا رسول الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه وننيخ إليك ركائبك ونلقى عدونا فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا فقد والله تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ويوازرونك وينصرونك فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا ودعا له به فبني له عريش فكان فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر ما معهما غيرهما قال ابن إسحاق : وارتحلت قريش حين أصبحت فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه و سلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي فقال : [ اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم أحنهم الغداة ] وقوله : { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } قال محمد بن إسحاق : أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الاية والعبرة ويؤمن من آمن على مثل ذلك وهذا تفسير جيد وبسط ذلك أنه تعالى يقول : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم ويرفع كلمة الحق على الباطل ليصير الأمر ظاهرا والحجة قاطعة والبراهين ساطعة ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره إنه مبطل لقيام الحجة عليه { ويحيا من حي } أي يؤمن من آمن { عن بينة } أي حجة وبصيرة والإيمان هو حياة القلوب قال الله تعالى : { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } وقالت عائشة في قصة الإفك فهلك في من هلك أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك وقوله : { وإن الله لسميع } أي لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به { عليم } أي بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين (2/414)
قال مجاهد : أراهم الله إياه في منامه قليلا وأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه بذلك فكان تثبيتا لهم وكذا قال ابن إسحاق وغير واحد وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه رآهم بعينه التي ينام بها وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أبو قتيبة عن سهل السراج عن الحسن في قوله : { إذ يريكهم الله في منامك قليلا } قال بعينك وهذا القول غريب وقد صرح بالمنام ههنا فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه وقوله : { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم } أي لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم { ولكن الله سلم } أي من ذلك بأن أراكهم قليلا { إنه عليم بذات الصدور } أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } وقوله : { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا } وهذا أيضا من لطفه تعالى بهم إذ أراهم إياهم قليلا في رأي العين فيجرؤهم عليهم ويطمعهم فيهم قال أبو إسحاق السبيعي : عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين ؟ قال : لا بل هم مائة حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه فقال : كنا ألفا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقوله : { ويقللكم في أعينهم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن الزبير بن الحارث عن عكرمة { وإذ يريكموهم إذ التقيتم } الاية قال : حضض بعضهم على بعض إسناد صحيح وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه في قوله تعالى : { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالاخر وقلله في عينه ليطمع فيه وذلك عند المواجهة فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه كما قال تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } وهذا هو الجمع بين هاتين الايتين فإن كلا منهما حق وصدق ولله الحمد والمنة (2/416)
هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء فقال { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال : [ يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ] ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم وقال : [ اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ] وقال عبد الرزاق : عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت ] وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي حدثنا أمية بن بسطام حدثنا معتمر بن سليمان حدثنا ثابت بن زيد عن رجل عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه و سلم مرفوعا قال : [ إن الله يحب الصمت عند ثلاث عند تلاوة القرآن وعند الزحف وعند الجنازة ] وفي الحديث الاخر المرفوع يقول الله تعالى : [ إن عبدي كل الذي يذكرني وهو مناجز قرنه ] أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي
وقال سعيد بن أبي عروبة : عن قتادة في هذه الاية قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون عند الضرب بالسيوف وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء قال : وجب الإنصات وذكر الله عند الزحف ثم تلا هذه الاية قلت : يجهرون بالذكر ؟ قال : نعم وقال أيضا : قرأ علي يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني عبد الله بن عياش عن يزيد بن فوذر عن كعب الأحبار قال ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال فقال { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } قال الشاعر :
ذكرتك والخطى يخطر بيننا وقد نهلت فينا المثقفة السمر
وقال عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا به ويتوكلوا عليه ويسألوه النصر على أعدائهم وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا وما نهاهم عنه انزجروا ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم { وتذهب ريحكم } أي قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال { واصبروا إن الله مع الصابرين } وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ولا يكون لأحد ممن بعدهم فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه و سلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالية والبربر والحبوش وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة فBهم وأرضاهم أجمعين وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب (2/417)
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره ناهيا لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم بطرا أي دفعا للحق { ورئاء الناس } وهو المفاخرة والتكبر عليهم كما قال أبو جهل : لما قيل له : إن العير قد نجا فارجعوا فقال : لا والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزر ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا فانعكس ذلك عليه أجمع لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي ولهذا قال : { والله بما يعملون محيط } أي عالم بما جاءوا به وله ولهذا جازاهم عليه شر الجزاء لهم قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي في قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس } قالوا : هم المشركون الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر وقال محمد بن كعب : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف فأنزل الله { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط } وقوله تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } الاية حسن لهم ـ لعنه الله ـ ما جاءوا له وما هموا به وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر فقال : إني جار لكم وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج كبير تلك الناحية وكل ذلك منه كما قال تعالى عنه : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } قال ابن جريج : قال ابن عباس في هذه الاية : لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم وإني جار لكم فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة { نكص على عقبيه } قال : رجع مدبرا وقال : { إني أرى ما لا ترون } الاية وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته في صورة رجل من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرا وشيعته فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة وقال محمد بن إسحاق : حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فلما حضر القتال ورأى الملائكة نكص على عقبيه وقال : إني بريء منكم فتشبث به الحارث بن هشام فنخر في وجهه فخر صعقا فقيل له : ويلك يا سراقة على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا فقال : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب
وقال محمد بن عمر الواقدي : أخبرني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه و سلم ساعة ثم كشف عنه فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس وإسرافيل في جند آخر ألف وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه وقال : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون فتشبث به الحارث بن هشام وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث وانطلق إبليس لا يرى حتى سقط في البحر ورفع ثوبه وقال يا رب موعدك الذي وعدتني وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع قريب من هذا السياق وأبسط منه ذكرناه في السيرة وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة فقال أنا جارلكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا قال محمد بن إسحاق : فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان كان الذي رآه حين نكص الحارث بن هشام أو عمير بن وهب فقال أين سراقة ؟ أين وميل عدو الله فذهب قال فأوردهم ثم أسلمهم قال ونظر عدوا الله إلى جنود الله قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين فنكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون وصدق عدو الله وقال إني أخاف الله والله شديد العقاب وهكذا روي عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم رحمهم الله وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله وكذب عدو الله والله ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم وتبرأ منهم عند ذلك قلت : يعني بعادته لمن أطاعه قوله تعالى : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } وقوله تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما كف بصره يقول : لو كنت معكم الان ببدر ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس وأوحى الله إليهم أني معكم فثبتوا الذين آمنوا وتثبيتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له أبشر فإنهم ليسوا بشيء والله معكم فكروا عليهم فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون وهو في صورة سراقة وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا وهذا من أبي جهل لعنه الله كقول فرعون للسحرة لما أسلموا : { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها } وكقوله : { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } وهو من باب البهت والافتراء ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة
وقال مالك بن أنس : عن إبراهيم بن أبي علية عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما رأى إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر ] قالوا : يا رسول الله وما رأى يوم بدر ؟ قال : [ أما إنه رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة ] وهذا مرسل من هذا الوجه
وقوله : { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاية : لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين وقلل المشركين في أعين المسلمين فقال المشركون : غر هؤلاء دينهم وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك فقال الله : { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } وقال قتادة : رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه قال : والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتوا وقال ابن جريج في قوله { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } هم قوم كانوا من المنافقين بمكة قالوه يوم بدر وقال عامر الشعبي : كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم وقال مجاهد في قوله عز و جل : { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم } قال فئة من قريش قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الحسن في هذه الاية قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين قال معمر : وقال بعضهم : هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة فخرجوا مع المشركين يوم بدر فلما رأوا قلة المسلمين قالوا غر هؤلاء دينهم وقوله { ومن يتوكل على الله } أي يعتمد على جنابه { فإن الله عزيز } أي لا يضام من التجأ إليه فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان { حكيم } في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها فينصر من يستحق النصر ويخذل من هو أهل لذلك (2/419)
يقول تعالى : ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا منكرا إذ { يضربون وجوههم وأدبارهم } ويقولون لهم { وذوقوا عذاب الحريق } قال ابن جريج : عن مجاهد { أدبارهم } أستاههم قال يوم بدر قال ابن جريج : قال ابن عباس : إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف وإذا ولوا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد في قوله { إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } يوم بدر وقال وكيع : عن سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير عن مجاهد وعن شعبة عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير يضربون وجوههم وأدبارهم قال وأستاههم ولكن الله يكنى وكذا قال عمر مولى عفرة وعن الحسن البصري قال : قال رجل يا رسول الله : إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك قال [ ذاك ضرب الملائكة ] رواه ابن جرير وهو مرسل وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر ولكنه عام في حق كل كافر ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر بل قال تعالى : { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } وفي سورة القتال مثلها وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم } أي باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم إذ استصعبت أنفسهم وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهرا وذلك إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم فتتفرق في بدنه فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصوف المبلول فتخرج معها العروق والعصب ولهذا أخبر تعالى : أن الملائكة تقول لهم ذوقوا عذاب الحريق وقوله تعالى : { ذلك بما قدمت أيديكم } أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا جازاكم الله بها هذا الجزاء { وأن الله ليس بظلام للعبيد } أي لا يظلم أحدا من خلقه بل هو الحكم العدل الذي لا يجور تبارك وتعالى وتقدس وتنزه الغني الحميد ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند مسلم رحمه الله من رواية أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يقول [ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ] ولهذا قال تعالى (2/421)
يقول تعالى : فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم ففعلنا بهم ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل الكافرين بآيات الله { فأخذهم الله بذنوبهم } أي بسبب ذنوبهم أهلكهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر { إن الله قوي شديد العقاب } أي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب (2/422)
يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه كقوله تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } وقوله { كدأب آل فرعون } أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته أهلكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم من جنات وعيون وزروع وكنوز ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين (2/422)