يقول تعالى مخبرا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفا فالله أعلم أنه قال { إن الله مبتليكم } أي مختبركم بنهر قال ابن عباس وغيره : وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني نهر الشريعة المشهور { فمن شرب منه فليس مني } أي فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه { ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } أي فلا بأس عليه قال الله تعالى : { فشربوا منه إلا قليلا منهم } قال ابن جريج : قال ابن عباس : من اغترف منه بيده روي ومن شرب منه لم يرو وكذا رواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : وكذا قال قتادة وابن شوذب وقال السدي : كان الجيش ثمانين ألفا فشرب منه ستة وسبعون ألفا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومسعر بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال : كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر وما جازه معه إلا مؤمن ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عن البراء بنحوه ولهذا قال تعالى : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } أي استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدد ولهذا قالوا { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } (1/406)
أي لما واجه حزب الإيمان وهم قليل من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير { قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا } أي أنزل علينا صبرا من عندك { وثبت أقدامنا } أي في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز { وانصرنا على القوم الكافرين }
قال الله تعالى : { فهزموهم بإذن الله } أي غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم { وقتل داود جالوت } ذكروا في الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه في أمره فوفى له ثم آل الملك إلى دواد عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ولهذا قال تعالى : { وآتاه الله الملك } الذي كان بيد طالوت { والحكمة } أي النبوة بعد شمويل { وعلمه مما يشاء } أي مما يشاء الله من العلم الذي اختص به صلى الله عليه و سلم ثم قال تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أي لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا } الاية وقال ابن جرير : حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ] ثم قرأ ابن عمر { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } وهذا إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد هذا هو ابن العطار الحمصي وهو ضعيف جدا ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله عز و جل ما دام فيهم ] وهذا أيضا غريب ضعيف لما تقدم أيضا وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا زيد بن الحباب حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رفع الحديث قال [ لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر الله ] وقال ابن مردويه أيضا : وحدثنا محمد بن أحمد حدثنا محمد بن جرير بن يزيد حدثنا أبو معاذ نهار بن معاذ بن عثمان الليثي عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الأبدال في أمتي ثلاثون بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصرون ] قال قتادة إني لأرجو أن يكون الحسن منهم
وقوله { ولكن الله ذو فضل على العالمين } أي ذو من عليهم ورحمة بهم يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله
ثم قال تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين } أي هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل { وإنك } يا محمد { لمن المرسلين } وهذا توكيد وتوطئة للقسم (1/406)
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال تعالى : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا } وقال ههنا { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } يعني موسى ومحمدا صلى الله عليه و سلم وكذلك آدم كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه { ورفع بعضهم درجات } كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه و سلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز و جل ( فإن قيل ) فما الجمع بين هذه الاية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه : لا والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال : أي خبيث ؟ وعلى محمد صلى الله عليه و سلم ؟ فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ فلا تفضلوني على الأنبياء ] وفي رواية [ لا تفضلوا بين الأنبياء ] فالجواب من وجوه ( أحدها ) أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر ( الثاني ) أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع ( الثالث ) أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر ( الرابع ) لا تفضلوا بمجرد الاراء والعصبية ( الخامس ) ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز و جل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به
وقوله { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبد الله ورسوله إليهم { وأيدناه بروح القدس } يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا } أي كل ذلك عن قضاء الله وقدره لهذا قالوا { ولكن الله يفعل ما يريد } (1/407)
يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا { من قبل أن يأتي يوم } يعني يوم القيامة { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } أي لا يباع أحد من نفسه ولا يفادي بمال لو بذل ولو جاء بملء الأرض ذهبا ولا تنفعه خلة أحد يعني صداقته بل ولا نسابته كما قال { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } ولا شفاعة : أي ولا تنفعهم شفاعة الشافعين
وقوله { والكافرون هم الظالمون } مبتدأ محصور في خبره أي ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال { والكافرون هم الظالمون } ولم يقل : والظالمون هم الكافرون (1/408)
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأنها أفضل آية في كتاب الله قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح عن أبي هو ابن كعب أن النبي صلى الله عليه و سلم سأله [ أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال : آية الكرسي قال ] ليهنك العلم أبا المنذر والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش [ وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الجريري به وليس عنده زيادة : والذي نفسي بيده الخ
( حديث آخر ) عن أبي أيضا في فضل آية الكرسي قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا مبشر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبدة بن أبي لبابة عن عبد الله بن أبي بن كعب أن أباه أخبره أنه كان له جرن فيه تمر قال : فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال : فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم قال : فسلمت عليه فرد السلام قال : فقلت : ما أنت ؟ جني أم أنسي ؟ قال : جني قال : ناولني يدك قال فناولني يده فإذا يد كلب وشعر كلب فقلت : هكذا خلق الجن قال : لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني قلت : فما حملك على ما صنعت ؟ قال : بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك قال : فقال له أبي : فما الذي يجيرنا منكم ؟ قال : هذه الاية آية الكرسي ثم غدا إلى النبي فأخبره فقال النبي صلى الله عليه و سلم صدق الخبيث ] وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه
( طريق آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن غياث قال : سمعت أبا السليل قال : كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الله : [ أي آية في القرآن أعظم ؟ ] فقال رجل { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } قال : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي أو قال : فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال : ليهنك العلم يا أبا المنذر
( حديث آخر ) عن الأسقع البقري قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو زيد القرطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسقع رجل صدق أخبره عن الأسقع البكري أنه سمعه يقول : إن النبي صلى الله عليه و سلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان : أي آية في القرآن أعظم ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } حتى انقضت الاية
( حديث آخر ) ـ عن أنس ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن أنس بن مالك حدثه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل رجلا من صحابته فقال أي فلان هل تزوجت ؟ قال : لا وليس عندي ما أتزوج به قال أو ليس معك قل هو الله أحد ؟ قال : بلى قال ربع القرآن قال أليس معك قل يا أيها الكافرون ؟ قال : بلى قال : ربع القرآن أليس معك إذا زلزلت ؟ قال : بلى قال ربع القرآن قال أليس معك إذا جاء نصر الله ؟ قال : بلى قال ربع القرآن قال أليس معك آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم قال بلى قال ربع القرآن ]
( حديث آخر ) عن أبي ذر جندب بن جنادة قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد الخشخاش عن أبي ذر رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد فجلست فقال [ يا أبا ذر هل صليت ؟ قلت : لا قال قم فصل قال : فقمت فصليت ثم جلست فقال يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن قال : قلت : يا رسول الله أو للإنس شياطين ؟ قال : نعم قال قلت : يا رسول الله الصلاة ؟ قال خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر قال : قلت : يا رسول الله فالصوم ؟ قال فرض مجزي وعند الله مزيد قلت : يا رسول الله فالصدقة ؟ قال أضعاف مضاعفة قلت : يا رسول الله فأيها أفضل ؟ قال : جهد من مقل أوسر إلى فقير قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول ؟ قال : آدم قلت : يا رسول الله ونبي كان ؟ قال : نعم نبي مكلم قلت : يا رسول الله كم المرسلون ؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا وقال مرة وخمسة عشر قلت : يا رسول الله أي ما أنزل عليك أعظم ؟ قال : آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ] ورواه النسائي
( حديث آخر ) عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى [ عن أبي أيوب أنه كان في سهوة له وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال فإذا رأيتها فقل باسم الله أجيبي رسول الله قال : فجاءت فقال لها فأخذها فقالت : إني لا أعود فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ما فعل أسيرك ؟ قال : أخذتها فقالت : إني لا أعود فأرسلتها فقال : إنها عائدة فأخذتها مرتين أو ثلاثا كل ذلك تقول : لا أعود فيقول إنها عائدة فأخذتها فقالت : أرسلني وأعلمك شيئا تقوله فلا يقربك شيء آية الكرسي فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال ] صدقت وهي كذوب [ ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بندار عن أبي أحمد الزبيري به وقال حسن غريب والغول في لغة العرب : الجان إذا تبدى في الليل
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب فضائل القرآن وفي كتاب الوكالة وفي صفة إبليس من صحيحه قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو : حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام أخذته وقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال : فخليت عنه فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه و سلم ] يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ قال : قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال أما إنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه سيعود فرصدته فجاء يحثو الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : دعني فأنا محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال أما أنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود فقال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت : وما هي ؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } حتى تختم الاية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعي الله بها فخليت سبيله قال وما هي ؟ قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الاية { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وقال لي : لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير فقال النبي صلى الله عليه و سلم أما صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ قلت : لا قال ذاك شيطان [ كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أنبأنا مسلم بن إبراهيم أنبأنا إسماعيل بن مسلم العبدي أنبأنا أبو المتوكل الناجي أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يوما آخر ثالثا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ] تحب أن تأخذ صاحبك هذا ؟ قال : نعم قال فإذا فتحت الباب فقل سبحان من سخرك محمد فذهب ففتح الباب فقال سبحان من سخرك محمد فإذا هو قائم بين يديه قال : يا عدو الله أنت صاحب هذا قال : نعم دعني فإني لا أعود ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء فخلى عنه ثم عاد الثانية ثم الثالثة فقلت : أليس قد عاهدتني ألا تعود ؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى قال له : لتفعلن ؟ قال : نعم قال : ما هن ؟ قال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فلم يعد فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أما علمت أن ذلك كذلك [ وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة به وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضا فهذه ثلاث وقائع
( قصة أخرى ) قال أبو عبيد في كتاب الغريب : حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال : هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان فصارعه فصرعه فقال : إني أراك ضئيلا شخيتا كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم أم أنت من بينهم ؟ فقال : إني بينهم لضليع فعاودني فصارعه فصرعه الأنسي فقال : تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خبخ كخبخ الحمار فقيل لابن مسعود : أهو عمر ؟ فقال من عسى أن يكون إلا عمر قال أبو عبيد : الضئيل النحيف الجسم والخيخ بالخاء المعجمة ويقال بالحاء المهملة الضراط
( حديث آخر ) عن أبي هريرة قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه : حدثنا علي بن حمشان حدثنا سفيان حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا حكيم بن جبير الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ] سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه : آية الكرسي [ وكذا رواه من طريق آخر عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه كذا قال وقد رواه الترمذي من حديث زائدة ولفظه ] لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي [ ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير وقد تكلم فيه شعبة وضعفه ( قلت ) وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي
( حديث آخر ) قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي أخبرنا عمر بن محمد البخاري أخبرنا عيسى بن غنجار عن عبد الله بن كيسان حدثنا يحيى أخبرنا بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب : أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال : أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن فقال ابن مسعود على الخبير سقطت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ] أعظم آية في القرآن { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }
( حديث آخر ) في اشتماله على اسم الله الأعظم قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر أنبأنا عبد الله بن زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في هاتين الايتين { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } و { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ إن فيهما اسم الله الأعظم ] وكذا رواه أبو داود عن مسدد والترمذي عن علي بن خشرم وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد به وقال الترمذي : حسن صحيح
( حديث آخر ) في معنى هذا عن أمامة رضي الله عنه قال ابن مردويه : أخبرنا عبد الله بن نمير أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أنبأنا الوليد بن مسلم أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه قال [ اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث : سورة البقرة وآل عمران وطه ] وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق أما البقرة و { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وفي آل عمران { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وفي طه { وعنت الوجوه للحي القيوم }
( حديث آخر ) عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ] وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن الحسين بن بشر به وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن حمير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضا فهو إسناد على شرط البخاري وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع والله أعلم وقد روى ابن مردويه من حديث علي والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله نحو هذا الحديث ولكن في إسناد كل منهما ضعف وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن درستويه المروزي أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن المثنى عن قتادة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب النبيين وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنت قلبه للإيمان أو أريد قتله في سبيل الله ] وهذا حديث منكر جدا
( حديث آخر ) في أنها تحفظ من قرأها في أول النهار وأول الليل قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ : { حم } المؤمن إلى { إليه المصير } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ] ثم قال : هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي من قبل حفظه
وقد ورد في فضلها أحاديث أخر تركناها اختصارا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث علي في قراءتها عند الحجامة إنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك
وهذه الاية مشتملة على عشر جمل مستقلة
فقوله { الله لا إله إلا هو } إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق { الحي القيوم } أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا القيم لغيره وكان عمر يقرأ القيام فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها لا قوام لها بدون أمره كقوله { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } وقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } أي لايعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم فقوله { لا تأخذه } أي لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال : ولا نوم لأنه أقوى من السنة وفي الصحيح عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بأربع كلمات فقال [ إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ] وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } أن موسى عليه السلام سأل الملائكة : هل ينام الله عز و جل ؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما قال : فجعل ينعس وهما في يده وفي كل يد واحدة قال : فجعل ينعس وينبه وينعس وينبه حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله عز و جل يقول فكذلك السموات والأرض في يده وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره وهو من أخبار بني إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز و جل وأنه منزه عنه وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي عكرمة عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر قال [ وقع في نفس موسى : هل ينام الله ؟ فأرسل إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال : فجعل ينام وكادت يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان ـ قال ـ ضرب الله عز و جل مثلا أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض ] وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك ؟ قال : اتقوا الله فناداه ربه عز و جل يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال : يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك فأنزل الله عز و جل على نبيه صلى الله عليه و سلم آية الكرسي
وقوله { له ما في السموات وما في الأرض } إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }
وقوله { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } كقوله { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وكقوله { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز و جل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة : [ آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع ـ قال ـ فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ]
وقوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخبارا عن الملائكة { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا }
وقوله : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز و جل وأطلعه عليه ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله : { ولا يحيطون به علما }
وقوله : { وسع كرسيه السموات والأرض } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { وسع كرسيه السموات والأرض } قال : علمه وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم كلاهما عن مطرف بن طريف به قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير مثله ثم قال ابن جرير : وقال آخرون الكرسي موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين وقال شجاع بن مخلد في تفسيره : أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الذهبي عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن قول الله عز و جل { وسع كرسيه السموات والأرض } ؟ قال [ كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز و جل ] كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس فذكره وهو غلط وقد رواه وكيع في تفسيره حدثنا سفيان عن عمار الذهبي عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم عن سفيان وهو الثوري بإسناده عن ابن عباس موقوفا مثله وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظهير الغزاري الكوفي وهو متروك عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح أيضا وقال السدي عن أبي مالك : الكرسي تحت العرش : وقال السدي : السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش وقال الضحاك عن ابن عباس : لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال ابن جرير : حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : حدثني أبي قال : قال رسول الله [ ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس ] قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض ]
وقال أبو بكر بن مردويه : أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد الله بن وهيب المقري أخبرنا محمد بن أبي السري العسقلاني أخبرنا محمد بن عبد الله التميمي عن القاسم بن محمد الثقفي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ] وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا زهير حدثنا ابن أبي بكر حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر رضي الله عنه قال : أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة قال : فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : [ إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله ] وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن خليفة وليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفا ومنهم من يرويه عنه مرسلا ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه والله أعلم وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الاية وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين إن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير ويقال له الأطلس وقد رد ذلك عليهم آخرون وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول : الكرسي هو العرش والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الاثار والأخبار وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر والله أعلم
وقوله : { ولا يؤوده حفظهما } أي لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء والأشياء كلها حقيرة بين يديه الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه فقوله : { وهو العلي العظيم } كقوله : { الكبير المتعال } وهذه الايات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه (1/409)
يقول تعالى : { لا إكراه في الدين } أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه علي بينة ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الاية في قوم من الأنصار وإن كان حكمها عاما وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز و جل { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد عن ابن عباس قوله : { لا إكراه في الدين } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله عليه و سلم : ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله فيه ذلك رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد : وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما وطلب من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبعث في آثارهما فنزلت هذه الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسق قال : كنت في دينهم مملوكا نصرانيا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول { لا إكراه في الدين } ويقول : يا أسق لو أسلمت لا ستعنا بك على بعض أمور المسلمين وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وإنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية قوتل حتى يقتل وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } وقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين } وفي الصحيح [ عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل ] يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرجل أسلم قال : إني أجدني كارها قال : وإن كنت كارها فإنه ثلاثي صحيح ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه و سلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له : أسلم وإن كنت كارها فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص
وقوله : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ووحد الله فعبده وحده وشهد أنه لا إله إلا هو { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريق المثلى والصراط المستقيم قال أبو قاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحاق عن حسان هو ابن قائد العبسي قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجبت السحر والطاغوت الشيطان وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من أمه وإن كرم الرجل دينه وحسبه خلقه وإن كان فارسيا أو نبطيا وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن قائد العبسي عن عمر فذكره ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قوي جدا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها
وقوله : { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } الاية قال مجاهد : العروة الوثقى يعني الإيمان وقال السدي : هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله وعن أنس بن مالك : العروة الوثقى القرآن وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها وقال معاذ بن جبل في قوله : { لا انفصام لها } دون دخول الجنة وقال مجاهد وسعيد بن جبير { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } ثم قرأ { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عوف عن محمد بن قيس بن عباد قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس قلت له : إن القوم لما دخلت المسجد قالوا : كذا وكذا قال : سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول مالا يعلم وسأحدثك لم إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قصصتها عليه رأيت كأني في روضة خضراء قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها ـ وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلى عروة فقيل لي اصعد عليه فقلت : لا أستطيع فجاءني منصف ـ قال ابن عون هو الوصيف ـ فرفع ثيابي من خلفي فقال : اصعد فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك بالعروة فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقصصتها عليه فقال [ أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى أنت على الإسلام حتى تموت ] قال : وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون فقمت إليه وأخرجه البخاري من وجه آخر عن محمد بن سيرين به
( طريق أخرى وسياق آخر ) قال الإمام أحمد : أنبأنا حسن بن موسى وعثمان قالا : أنبأنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحر قال قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم فجاء شيخ يتوكأ على عصا له فقال القوم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فقام خلف سارية فصلى ركعتين فقلت له : قال بعض القوم : كذا وكذا فقال : الجنة لله يدخلها من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم رؤيا : كأن رجلا أتاني فقال : انطلق فذهبت معه فسلك بي منهجا عظيما فعرضت لي طريق عن يساري فأردت أن أسلكها فقال : إنك لست من أهلها ثم عرضت لي طريق عن يميني فسلكتها حتى انتهيت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل بي حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك فقلت : نعم فضرب العمود برجله فاستمسك بالعروة فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ رأيت خيرا أما المنهج العظيم فالمحشر وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ولست من أهلها وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت ] قال : فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة قال : وإذا هو عبد الله بن سلام وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان وابن ماجه عن أبي شيبة عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر الفزاري به (1/416)
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة ولكنها باطلة كما قال { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } وقال تعالى { وجعل الظلمات والنور } وقال تعالى : { عن اليمين والشمائل } إلى غير ذلك من الايات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال : يبعث أهل الأهواء أو قال : تبعث أهل الفتن فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة ثم قرأ هذه الاية { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } (1/419)
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ويقال نمرود بن فالخ بن عبار بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره قال مجاهد : وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود وذو القرنين والكافران : نمرود وبختنصر والله أعلم ومعنى قوله : { ألم تر } أي بقلبك يا محمد { إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } أي وجود ربه وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه { ما علمت لكم من إله غيري } وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك وذلك أنه يقال : أنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ولهذا قال : { أن آتاه الله الملك } وكان طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها وعدمها بعد وجودها وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له فعند ذلك قال المحاج ـ وهو النمرود ـ { أنا أحيي وأميت } قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد : وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما ـ فيقتل وآمر بالعفو عن الاخر فلا يقتل فذلك معنى الإحياء والإماتة ـ والظاهر والله أعلم ـ أنه ما أراد هذا لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله { ما علمت لكم من إله غيري } ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب ؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي أخرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة قال الله تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يلهمهم حجة ولا برهانا بل حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين إن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ومنهم من قد يطلق عبارة روية ترديه وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويبين بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني ولله الحمد والمنة وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال : أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملانين طعاما طيبا فعملت طعاما فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال : أنى لك هذا ؟ قالت : من الذي جئت به فعلم أنه رزق رزقهم الله عز و جل قال زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة عذبه الله بها فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة حتى أهلكه الله بها (1/419)
تقدم قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } وهو في قوة قوله : هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ولهذا عطف عليه بقوله { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } اختلفوا في هذا المار من هو فروى ابن أبي حاتم عن عصام بن رواد عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال : هو عزير ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة وهذا القول هو المشهور وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد هو أرميا بن حلقيا قال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال : هو اسم الخضر عليه السلام وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري من أهل الجاري ابن عم مطرف قال سمعت سلمان يقول : إن رجلا من أهل الشام يقول : إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه حزقيل بن بوار وقال مجاهد بن جبر : هو رجل من بني إسرائيل وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها { وهي خاوية } أي ليس فيها أحد من قولهم خوت الدار تخوي خويا
ـ و قوله { على عروشها } أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } وذلك لما رآى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال الله تعالى : { فأماته الله مائة عام ثم بعثه } قال : وعمرت البلاد بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجع بنو إسرائيل إليها فلما بعثه الله عز و جل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه : كيف يحي بدنه فلما استقل سويا ( قال ) الله له أي بواسطة الملك : { كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم } قال : وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال { أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب نقص { وانظر إلى حمارك } أي كيف يحييه الله عز و جل وأنت تنظر { ولنجعلك آية للناس } أي دليلا على المعاد { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } أي نرفعها فيركب بعضها على بعض وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن حكيم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ : { كيف ننشزها } بالزاي ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقرئ { ننشزها } أي نحييها قاله مجاهد { ثم نكسوها لحما } وقال السدي وغيره تفرقت عظام حماره حوله يمينا ويسارا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارا قائما من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحما وعصبا وعروقا وجلدا وبعث الله ملكا فنفخ في منخري الحمار فنهق بإذن الله عز و جل وذلك كله بمرأى من العزيز فعند ذلك لما تبين له هذا كله { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } أي أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون قال اعلم على أنه أمر له بالعلم (1/421)
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابا منها أنه لما قال لنمرود { ربي الذي يحيي ويميت } أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة فقال { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الاية : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي ] وكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى عن وهب به فليس المراد ههنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة أحدها
وقوله { قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك } اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي وإن كان لا طائل تحت تعيينها إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن فروي عن ابن عباس أنه قال هي الغرنوق والطاوس والديك والحمامة وعنه أيضا أنه أخذ وزا ورألا وهو فرخ النعام وديكا وطاوسا وقال مجاهد وعكرمة : كانت حمامة وديكا وطاوسا وغرابا وقوله { فصرهن إليك } أي : قطعهن قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو الأسود الدؤلي ووهب بن منبه والحسن والسدي وغيرهم وقال العوفي عن ابن عباس { فصرهن إليك } أوثقهن فلما أوثقهن ذبحهن ثم جعل على كل جبل منهن جزءا فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن أجزاء وجعل على كل جبل منهن جزءا قيل أربعة أجبل وقيل سبعة قال ابن عباس : وأخذ رؤوسهن بيده ثم أمره الله عز و جل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عز و جل فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش والدم إلى الدم واللحم إلى اللحم والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض حتى قام كل طائر على حدته وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام فإذا قدم له غير رأسه يأباه فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته ولهذا قال { واعلم أن الله عزيز حكيم } أي عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع من شيء وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شيء حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب في قوله { ولكن ليطمئن قلبي } قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل عن سعيد بن المسيب قال : اتفق عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا قال : ونحن شببة فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى عندك لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو قوله الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } الاية فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول هذا فأنا أقول أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث حدثني محمد بن أبي سلمة عن عمرو حدثني ابن المنكدر أنه قال : التقى عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص : أي آية في القرآن أرجى عندك فقال عبد الله بن عمرو : قول الله عز و جل : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا } الاية فقال ابن عباس : لكن أنا أقول قول الله عز و جل : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى } فرضي من إبراهيم قوله { بلى } قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان وهكذا رواه الحاكم في المستدرك عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأحزم عن إبراهيم بن عبد الله السعدي عن بشر بن عمر الزهراني عن عبد العزيز بن أبي سلمة بإسناده مثله ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1/422)
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فقال { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } قال سعيد بن جبير : يعني في طاعة الله وقال مكحول : يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس : الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ولهذا قال تعالى : { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز و جل لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف قال الإمام أحمد : حدثنا زياد بن الربيع أبو خداش حدثنا واصل مولى ابن عيينة عن بشار بن أبي سيف الجرمي عن عياض بن غطيف قال : دخلنا على أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابته بجنبه وامرأته تحيفة قاعدة عند رأسه قلنا : كيف بات أبو عبيدة ؟ قالت : والله لقد بات بأجر قال أبو عبيدة : ما بت بأجر وكان مقبلا بوجهه على الحائط فأقبل على القوم بوجهه وقال : ألا تسألوني عما قلت ؟ قالوا : ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضا أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله عز و جل ببلاء في جسده فهو له حطة ] وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به ومن وجه آخر موقوفا
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سليمان سمعت أبا عمرو الشيباني عن ابن مسعود أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لتأتين يوم القيامة بسعمائة ناقة مخطومة ] ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن مهران عن الأعمش به ولفظ مسلم : جاء رجل بناقة مخطومة فقال : يا رسول الله هذه في سبيل الله فقال : [ لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة ]
( حديث آخر ) ـ قال أحمد : حدثنا عمرو بن مجمع أبو المنذر الكندي أخبرنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به وللصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ]
( حديث آخر ) ـ قال أحمد : أخبرنا وكيع أخبرنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله يقول الله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي وللصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك الصوم جنة الصوم جنة ] وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج كلاهما عن وكيع به
( حديث آخر ) ـ قال أحمد : حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن الركيم عن يسير بن عميلة عن خريم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف ]
( حديث آخر ) ـ قال أبو داود : أنبأنا محمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أيوب عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ]
( حديث آخر ) ـ قال ابن أبي حاتم : أنبأنا أبي حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان حدثنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسن عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ومن غزا في سبيل الله وأنفق في جهة ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الاية { والله يضاعف لمن يشاء } ] وهذا حديث غريب وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة عند قوله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } الاية
( حديث آخر ) ـ قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزاز أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي أخبرنا أبي عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر : لما نزلت هذه الاية { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } قال النبي صلى الله عليه و سلم [ رب زد أمتي ] قال : فأنزل الله { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } قال [ رب زد أمتي ] قال : فأنزل الله { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه عن حاجب بن أركين عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقري عن أبي إسماعيل المؤدب عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر فذكره وقوله ههنا { والله يضاعف لمن يشاء } أي بحسب إخلاصه في عمله { والله واسع عليم } أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه عليم بمن يستحق ومن لا يستحق سبحانه وبحمده (1/423)
يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من أعطوه فلا يمنون به على أحد ولا يمنون به لا بقول ولا بفعل
وقوله { ولا أذى } أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك فقال { لهم أجرهم عند ربهم } أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه { ولا خوف عليهم } أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { ولا هم يحزنون } أي على ما خلفوه من الأولاد ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك
ثم قال تعالى : { قول معروف } أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم { ومغفرة } أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي { خير من صدقة يتبعها أذى } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن فضيل قال : قرأت على معقل بن عبد الله عن عمرو بن دينار قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف ألم تسمع قوله { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني } عن خلقه { حليم } أي يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ففي صحيح مسلم من حديث شعبة عن الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ] وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى أخبرنا عثمان بن محمد الدوري أخبرنا هشيم بن خارجة أخبرنا سليمان بن عقبة عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر ] وروى أحمد وابن ماجه من حديث يونس بن ميسرة نحوه ثم روى ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ومدمن خمر والمنان بما أعطى ] وقد روى النسائي عن مالك بن سعد عن عمه روح بن عبادة عن عتاب بن بشير عن خصيف الجزري عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان ] وقد رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن المنهال عن محمد بن عبد الله بن عصار الموصلي عن عتاب عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس ورواه النسائي من حديث عبد الكريم بن مالك الجزري عن مجاهد قوله وقد روي عن مجاهد عن أبي سعيد وعن مجاهد عن أبي هريرة نحوه ولهذا قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى ثم قال تعالى : { كالذي ينفق ماله رئاء الناس } أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس أو يقال إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ولهذا قال { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه قال الضحاك : والذي يتبع نفقته منا أو أذى فقال { فمثله كمثل صفوان } وهو جمع صفوانة فمنهم من يقول : الصفوان يستعمل مفردا أيضا وهو الصفا وهو الصخر الأملس { عليه تراب فأصابه وابل } وهو المطر الشديد { فتركه صلدا } أي فترك الوابل ذلك الصفوان صلدا أي أملس يابسا أي لا شيء عليه من ذلك التراب بل قد ذهب كله أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ولهذا قال { لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين } (1/425)
وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله عنهم في ذلك { وتثبيتا من أنفسهم } أي وهم متحققون متثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ونظير هذا في معنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح المتفق على صحته [ من صام رمضان إيمانا واحتسابا ] أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه قال الشعبي : { وتثبيتا من أنفسهم } أي تصديقا ويقينا وكذا قال قتادة وأبو صالح وابن زيد واختاره ابن جريرو وقال مجاهد والحسن : أي يتثبتون أين يضعون صدقاتهم
وقوله { كمثل جنة بربوة } وهو عند الجمهور : المكان المرتفع من الأرض وزاد ابن عباس والضحاك وتجري فيه الأنهار قال ابن جرير رحمه الله : وفي الربوة ثلاث لغات : هن ثلاث قراءات : بضم الراء وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق وفتحها وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ويقال إنها لغة تميم وكسر الراء ويذكر أنها قراءة ابن عباس
وقوله { أصابها وابل } وهو المطر الشديد كما تقدم فآتت { أكلها } أي ثمرتها { ضعفين } أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان { فإن لم يصبها وابل فطل } قال الضحاك : هو الرذاذ وهو اللين من المطر أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدا لأنها إن لم يصبها وابل فطل وأيا ما كان فهو كفايتها وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدا بل يتقبله الله ويكثره وينميه كل عامل بحسبه ولهذا قال { والله بما تعملون بصير } أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء (1/426)
قال البخاري عند تفسير هذه الاية : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام هو ابن يوسف عن ابن جريج سمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث عن ابن عباس وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عمير قال : قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : فيمن ترون هذه الاية نزلت ؟ { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } قالوا : الله أعلم فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ضربت مثلا بعمل قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ثم رواه البخاري عن الحسن بن محمد الزعفراني عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج فذكره وهو من أفراد البخاري رحمه الله وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الاية وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات عياذا بالله من ذلك فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال فلم يحصل منه شيء وخانه أحوج ما كان إليه ولهذا قال تعالى : { وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار } وهو الريح الشديد { فيه نار فاحترقت } أي أحرق ثمارها وأباد أشجارها فأي حال يكون حاله ؟ وقد روى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : ضرب الله مثلا حسنا وكل أمثاله حسن قال { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات } يقول صنعه في شيبته { وأصابه الكبر } وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا رد إلى الله عز و جل ليس له خير فيستعتب كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته وهكذا روى الحاكم في مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول في دعائه [ اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري ] ولهذا قال تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها على المراد منها كما قال تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } (1/427)
يأمر تعالى : عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة ههنا قاله ابن عباس : من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها قال مجاهد : يعني التجارة بتيسيره إياها لهم وقال علي والسدي { من طيبات ما كسبتم } يعني الذهب والفضة ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولهذا قال : { ولا تيمموا الخبيث } أي تقصدوا الخبيث { منه تنفقون ولستم بآخذيه } أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه فالله أغنى عنه منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون وقيل معناه { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه يا نبي الله قال غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان إلى النار إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث ] والصحيح القول الأول قال ابن جرير رحمه الله : حدثنا الحسين بن عمر العبقري حدثني أبي عن أسباط عن السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قول الله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } الاية قال : نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأكل فقراء المهاجرين منه فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل ذلك { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ثم رواه ابن جرير وابن ماجه وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طريق السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بنحوه وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن البراء رضي الله عنه { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } قال : نزلت فينا كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر فيأكل وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده وكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن عبيد الله هو ابن موسى العبسي عن إسرائيل عن السدي وهو إسماعيل بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان عن البراء فذكر نحوه ثم قال وهذا حديث حسن غريب وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن لونين من التمر الجعرور والحبيق وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم ثم يخرجونها في الصدقة فنزلت { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين عن الزهري ثم قال : أسنده أبو الوليد عن سليمان بن كثير عن الزهري ولفظه نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذ في الصدقة وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي عن الزهري عن أبي أمامة ولم يقل عن أبيه فذكر نحوه وكذا رواه ابن وهب عن عبد الجليل وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن مغفل في هذه الاية { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } قال : كسب المسلم لا يكون خبيثا ولكن لا يصدق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد حدثنا حماد بن سلمة عن حماد هو ابن سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه قلت : يا رسول الله نطعمه المساكين ؟ قال [ لا تطعموهم مما لا تأكلون ] ثم رواه عن عفان عن حماد بن سلمة به فقلت : يا رسول الله ألا أطعمه المساكين ؟ قال [ لا تطعموهم مما لا تأكلون ] وقال الثوري عن السدي عن أبي مالك عن البراء { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } يقول : لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } يقول : لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه قال فذلك قوله : { إلا أن تغمضوا فيه } فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه ؟ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد : وهو قوله : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ثم روي عن طريق العوفي وغيره عن ابن عباس نحو ذلك وكذا ذكره غير واحد
وقوله : { واعلموا أن الله غني حميد } أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير كقوله { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } وهو غني عن جميع خلقه وجيمع خلقه فقراء إليه وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم جواد ويجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة من يقرض غير عديم ولا ظلوم وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه
وقوله : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير والتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ] ثم قرأ { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا } الاية وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننهما جميعا عن هناد بن السري وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى الموصلي عن هناد به وقال الترمذي : حسن غريب وهو حديث أبي الأحوص يعني سلام بن سليم لا نعرفه مرفوعا إلا من حديثه كذا قال : وقد رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره عن محمد بن أحمد عن محمد بن عبد الله بن مسعود مرفوعا نحوه ولكن رواه مسعر عن عطاء بن السائب عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن ابن مسعود فجعله من قوله والله أعلم ومعنى قول تعالى : { الشيطان يعدكم الفقر } أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله { ويأمركم بالفحشاء } أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق قال تعالى : { والله يعدكم مغفرة منه } أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء { وفضلا } أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر { والله واسع عليم }
وقوله : { يؤتي الحكمة من يشاء } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا [ الحكمة القرآن ] يعني تفسيره قال ابن عباس : فإنه قد قرأه البر والفاجر رواه ابن مردويه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : يعني بالحكمة الإصابة في القول وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد { يؤتي الحكمة من يشاء } : ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله فإن خشية الله رأس كل حكمة وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان ابن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا [ رأس الحكمة مخافة الله ] وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة الكتاب والفهم وقال إبراهيم النخعي الحكمة الفهم وقال أبو مالك : الحكمة السنة وقال ابن وهب عن مالك قال زيد بن أسلم : الحكمة العقل قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا فالحكمة الفقه في دين الله وقال السدي : الحكمة النبوة والصحيح أن الحكمة كما قال الجمهور : لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة والرسالة أخص ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في الأحاديث [ من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه ] رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن إسماعيل بن رافع عن رجل لم يسمه عن عبد الله بن عمر وقوله : وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ويزيد قالا : حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول [ لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ] وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن إسماعيل أبي خالد به
وقوله : { وما يذكر إلا أولو الألباب } أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام (1/428)
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده وتوعد من لا يعمل بطاعته بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره فقال { وما للظالمين من أنصار } أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته
وقوله : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي
وقوله : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ] والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الاية ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ] وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قال [ لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الله الجبال فقالت : يا رب هل في خلقك شىء أشد من الجبال ؟ قال نعم الحديد قالت : يا رب فهل من خلقك شىء أشد من الحديد ؟ قال : نعم النار قالت : يارب فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم الماء قالت : يارب فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم الريح ؟ قالت : يارب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من شماله ] وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ قال [ سر إلى فقير أو جهد من مقل ] رواه أحمد ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي ذر فذكره وزاد ثم شرع في هذه الاية { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } الاية وفي الحديث المروي [ صدقة السر تطفئ غضب الرب عز و جل ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب أنا موسى بن عمير عن عامر الشعبي في قوله : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } قال : أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ؟ ] قال : خلفت لهم نصف مالي وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم [ ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟ ] فقال : عدة الله وعدة رسوله فبكى عمر رضي الله عنه وقال : بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا وهذا الحديث روي من وجه آخر عن عمر رضي الله عنه وإنما أوردناه ههنا لقول الشعبي : إن الاية نزلت في ذلك ثم إن الاية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسيره هذه الاية قال : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها فقال بسبعين ضعفا وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها فقال بخمسة وعشرين ضعفا
وقوله : { ويكفر عنكم من سيئاتكم } أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سرا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات وقد قرئ ويكفر بالجزم عطفا على محل جواب الشرط وهو قوله : { فنعما هي } كقوله : { فأصدق وأكن } وقوله : { والله بما تعملون خبير } أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه (1/431)
قال أبو عبد الرحمن النسائي : أنبأنا محمد بن عبد السلام بن عبد الرحيم أنبأنا الفريابي حدثنا سفيان عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا فرخص لهم فنزلت هذه الاية { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } وكذا رواه أبو حذيقة وابن المبارك وأبو أحمد الزبيدي وأبو داود الحضرمي عن سفيان وهو الثوري به وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد بن عبد الرحمن يعني الدشتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الاسلام حتى نزلت هذه الاية { ليس عليك هداهم } إلى آخرها فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين وسيأتي عند قوله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم } الاية حديث أسماء بنت الصديق في ذلك
وقوله : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } كقوله { من عمل صالحا فلنفسه } ونظائرها في القرآن كثيرة
وقوله { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } قال الحسن البصري : نفقة المؤمن لنفسه ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله وقال عطاء الخراساني : يعني إذا عطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله وهذا معنى حسن وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب البر أو فاجر أو مستحق أو غيره وهو مثاب على قصده ومستند هذا تمام الاية { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } والحديث المخرج في الصحيحين من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون : تصدق على زانية فقال : اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على غني قال : اللهم لك الحمد على غني لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على سارق فقال : اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد قبلت وأما الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته ]
وقوله { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } يعني المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و { لا يستطيعون ضربا في الأرض } يعني سفرا للتسبب في طلب المعاش والضرب في الأرض هو السفر قال الله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وقال تعالى : { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } الاية
وقوله { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } أي الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا ] رواه أحمد من حديث ابن مسعود أيضا
وقوله { تعرفهم بسيماهم } أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى : { سيماهم في وجوههم } وقال { ولتعرفنهم في لحن القول } وفي الحديث الذي في السنن [ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ] ثم قرأ { إن في ذلك لآيات للمتوسمين }
وقوله : { لا يسألون الناس إلحافا } أي لا يلحون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه فإن سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحق في المسألة قال البخاري : حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شريك بن أبي نمر أن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قالا : سمعنا أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف ] اقرؤا إن شئتم يعني قوله { لا يسألون الناس إلحافا } وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر المديني عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار وحده عن أبي هريرة به وقال أبو عبد الرحمن النسائي : أخبرنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل أخبرنا شريك وهو ابن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة به عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرؤوا إن شئتم { لا يسألون الناس إلحافا } ] وروى البخاري من حديث شعبة عن محمد بن أبي زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن أبي الوليد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ليس المسكين بالطواف عليكم فتطعمونه لقمة لقمة إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا ] وقال ابن جرير : حدثني معتمر عن الحسن بن مالك عن صالح بن سويد عن أبي هريرة قال : ليس المسكين بالطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان ولكن المسكين المتعفف في بيته لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة اقرؤوا إن شئتم { لا يسألون الناس إلحافا } وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه قالت له أمه : ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم كما يسأله الناس ؟ فانطلقت أسأله فوجدته قائما يخطب وهو يقول [ ومن استعف أعفه الله ومن استغنى أغناه الله ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا ] فقلت بيني وبين نفسي : لناقة لهي خير من خمس أواق ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت ولم أسأل وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال : سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أسأله فأتيته فقعدت قال : فاستقبلني فقال [ من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن استكف كفاه الله ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف قال : فقلت ناقتي الياقوتة خير من أوقية فرجعت فلم أسأله ] وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة زاد أبو داود وهشام بن عمار كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده نحوه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال : قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من سأل وله قيمة أوقية فهو ملحف ] والأوقية أربعون درهما وقال أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن سأل أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو كدوحا في وجهه ] قالوا : يا رسول الله وما غناه ؟ قال [ خمسون درهما أو حسابها من الذهب ] وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي وقد تركه شعبة بن الحجاج وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أبو حسين عبد الله بن أحمد بن يونس حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال : بلغ الحارث رجلا كان بالشام من قريش أن أبا ذر كان به عوز فبعث إليه ثلاثمائة دينار فقال : ما وجد عبد الله رجلا أهون عليه مني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ من سأل وله أربعون فقد ألحف ] ولال أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة وماهنان قال أبو بكر بن عياش يعني خادمين وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أخبرنا إبراهيم بن محمد أنبأنا عبد الجبار أخبرنا سفيان عن داود بن سابور عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف وهو مثل سف الملة ] يعني الرمل ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن أحمد بن آدم عن سفيان وهو ابن عيينة بإسناده نحوه قوله { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } أي لا يخفى عليه شيء منه وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه
وقوله { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل ونهار والأحوال من سر وجهر حتى أن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضا كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضا عام الفتح وفي رواية عام حجة الوداع [ وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في في أمرأتك ] وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وبهز قال : حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدث عن أبي مسعود رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة ] أخرجاه من حديث شعبة به وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثنا محمد بن شعيب قال : سمعت سعيد بن يسار عن يزيد بن عبد الله بن عريب المليكي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نزلت هذه الاية { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم } في أصحاب الخيل وقال حبش الصنعاني عن ابن شهاب عن ابن عباس في هذه الاية قال : هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وكذا روي عن أبي أمامة وسعيد بن المسيب ومكحول وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج أخبرنا يحيى بن يمان عن عبد الوهاب بن مجاهد عن ابن جبير عن أبيه قال : كان لعلي أربعة دراهم فأنفق درهما ليلا ودرهما نهارا ودرهما سرا ودرهما علانية فنزلت { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد وهو ضعيف ولكن رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب وقوله { فلهم أجرهم عند ربهم } أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } تقدم تفسيره (1/432)
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياما منكرا وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق رواه ابن أبي حاتم قال : وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك وحكي عن عبد الله بن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } يعني لا يقومون يوم القيامة وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن زيد وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حنيف عن أبي عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه كان يقرأ { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثنا أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لاكل الربا : خذ سلاحك للحرب وقرأ { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وذلك حين يقوم من قبره وفي حديث أبي سعيد في الإسراء كما هو مذكور في سورة سبحان أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت فسأل عنهم فقيل : هؤلاء أكلة الربا رواه البيهقي مطولا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا ] ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان وكلاهما عن حماد بن سلمه به وفي إسناده ضعف وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل : فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول : أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرا نذكر في تفسيره أنه آكل الربا
وقوله { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع وإنما قالوا : { إنما البيع مثل الربا } أي هو نظيره فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع أي هذا مثل هذا وقد أحل هذا وحرم هذا وقوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم وما يضرهم ينهاهم عنه وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ولهذا قال : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله } أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله : { عفا الله عما سلف } وكما قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة [ وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا العباس ] ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال تعالى : { فله ما سلف وأمره إلى الله } قال سعيد بن جبير والسدي : فله ما سلف ما كان أكل من الربا قبل التحريم وقال ابن أبي حاتم : قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحاق الهمداني عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أيفع أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم : يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت : نعم قالت : فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة فأحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة فقالت : بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لم يتب قال : فقلت أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة ؟ قالت : نعم { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة ثم قال تعالى : { ومن عاد } أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة ولهذا قال : { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقد قال أبو داود : حدثنا يحيى أبو داود حدثنا يحيى بن معين أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي عن عبد الله بن عثمان خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال : لما نزلت { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله ] ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن خثيم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض والمزابنة : وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل وبالتمر على وجه الأرض والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم وقد قال تعالى : { وفوق كل ذي علم عليم } وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا ـ يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ـ والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ] وفي السنن عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] وفي الحديث الاخر : [ الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس ] وفي رواية [ استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك ] وقال الثوري عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال : آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم آية الربا رواه البخاري عن قبيصة عنه وقال أحمد عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر قال : من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة وقال رواه ابن ماجه وابن مردويه من طريق هياج بن بسطام عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم وقد قال ابن أبي عدي بالإسناد موقوفا فذكره ورده الحاكم في مستدركه وقد قال ابن ماجه حدثنا عمرو بن علي الصيرفي حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زبيد عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله هو ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الربا ثلاثة وسبعون بابا ] ورواه الحاكم في مستدركه : من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناده مثله وزاد [ أيسرها أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم ] وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال ابن ماجه : حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الربا سبعون جزءا أيسرها أن ينكح الرجل أمه ] وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم عن عباد بن راشد عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا قال : قيل له : الناس كلهم ؟ قالمن لم يأكله منهم ناله من غباره ] وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن به ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة قالت : لما نزلت الايات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد فقرأهن فحرم التجارة في الخمر وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي من طرق من الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الاية فحرم التجارة وفي لفظ له عن عائشة قالت : لما نزلت الايات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه : [ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها ] وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما عند لعن المحلل في تفسير قوله : { حتى تنكح زوجا غيره } قوله صلى الله عليه و سلم [ لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ] قالوا : وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا فالاعتبار بمعناه لا بصورته لأن الأعمال بالنيات وفي الصحيح : [ إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ] وقد صنف الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية كتابا في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل وقد كفى في ذلك وشفى فC ورضي عنه (1/436)
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى : { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } وقال تعالى : { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم } وقال { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله } الاية وقال ابن جرير : في قوله { يمحق الله الربا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال : حدثنا حجاج حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل ] وقد رواه ابن ماجه : عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون عن يحيى بن زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل ] وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود كما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا الهيثم بن نافه الظاهري حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة عن فروخ مولى عثمان أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين خرج من المسجد فرأى طعاما منشورا فقال : ما هذا الطعام ؟ فقالوا : طعام جلب إلينا قال : بارك الله فيه وفيمن جلبه قيل : يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر قال : من احتكره ؟ قالوا : فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر فأرسل إليهما فقال : ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا : يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام ] فقال فروخ عند ذلك : أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبدا وأما مولى عمر فقال : إنما نشتري بأموالنا ونبيع قال أبو يحيى : فلقد رأيت مولى عمر مجذوما ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به ولفظه [ من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام ]
وقوله { ويربي الصدقات } قرئ بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه أي كثره ونماه ينميه وقرئ يربي بالضم والتشديد من التربية قال البخاري : حدثنا عبد الله بن كثير أخبرنا كثير سمع أبا النصر حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل ] كذا رواه في كتاب الزكاة وقال في كتاب التوحيد : وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار فذكره بإسناده نحوه وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن خالد بن مخلد فذكره قال البخاري ورواه مسلم بن أبي مريم وزيد بن أسلم وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قلت : أما رواية مسلم بن أبي مريم فقد تفرد البخاري بذكرها وأما طريق زيد بن أسلم فرواها مسلم في صحيحه عن أبي الطاهر بن السرح عن أبي وهب عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به وأما حديث سهيل فرواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل به والله أعلم قال البخاري : وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره عن الأصم عن العباس المروزي عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري عن عبد الله بن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد ] وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد عن سعد المقبري وأخرجه النسائي من رواية مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري ومن طريق يحيى القطان عن محمد بن عجلان ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع عن عباد بن منصور حدثنا القاسم بن محمد قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله عز و جل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ] وتصديق ذلك في كتاب الله { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وكذا رواه أحمد عن وكيع وهو في تفسير وكيع ورواه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع به وقال : حسن صحيح وكذا رواه الثوري عن عباد بن منصور به ورواه أحمد أيضا عن خلف بن الوليد عن ابن المبارك عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة عن القاسم به وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد فتصدقوا ] وهكذا رواه أحمد : عن عبد الرزاق وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب والمحفوظ ما تقدم وروي عن عائشة أم المؤمنين فقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه ] أو قال فصيله ثم قال : لا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة إلا أبا أويس
وقوله { والله لا يحب كل كفار أثيم } أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ولا بد من مناسبة في ختم هذه الاية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل ـ ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم المطيعين أمره المؤدين شكره المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مخبرا عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } (1/439)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه فقال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وذروا ما بقي من الربا } أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار { إن كنتم مؤمنين } أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاورا وقالت بني المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الاية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فقالوا نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم وهذا تهديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار قال ابن جريج : قال ابن عباس : { فأذنوا بحرب } أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لاكل الربا : خذ سلاحك للحرب ثم قرأ { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام بن حسان عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيه السلاح وقال قتادة : أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجا أين ما أتوا فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة رواه ابن أبي حاتم وقال الربيع بن أنس : أوعد الله آكل الربا بالقتل رواه ابن جرير وقال السهيلي : ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة : أخبريه أن جهاده مع النبي صلى الله عليه و سلم قد بطل إلا أن يتوب فخصت الجهاد لأنه ضد قوله : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } قال : وهذا المعنى ذكره كثير قال : ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف
ـ ثم قال تعالى : { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } أي بأخذ الزيادة { ولا تظلمون } أي بوضع رؤوس الأموال أيضا بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة المبارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع فقال [ ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله ] وكذا وجده سليمان بن الأحوص وقال ابن مردويه : حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا مسدد أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ] وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمر وهو ابن خارجة فذكره
وقوله { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء فقال { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل فقال : { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم بذلك
( فالحديث الأول ) عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني حدثنا يحيى بن حكيم المقوم حدثنا محمد بن بكر البرساني حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثني عاصم بن عبيد الله عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه ]
( حديث آخر ) عن بريدة قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا محمد بن جحادة عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول [ من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة ] قال : ثم سمعته يقول : [ من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة ] قلت : سمعتك يا رسول الله تقول [ من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة ] ثم سمعتك تقول [ من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة ] قال : [ له لكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة ]
( حديث آخر ) عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري قال أحمد : حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا أبو جعفر الخطمي عن محمد بن كعب القرظي أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال : نعم هو في البيت يأكل خزيرة فناداه فقال : يا فلان اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه فقال : ما يغيبك عني ؟ فقال إني معسر وليس عندي شيء قال : آلله أنك معسر ؟ قال : نعم فبكى أبو قتادة ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ] ورواه مسلم في صحيحه
( حديث آخر ) عن حذيفة بن اليمان قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا الأخنس أحمد بن عمران حدثنا محمد بن فضيل حدثنا أبو مالك الأشجعي عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال : ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال : ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ـ قالها ثلاث مرات ـ قال العبد عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر قال : فيقول الله عز و جل : أنا أحق من ييسر ادخل الجنة ] وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه من طرق عن ربعي بن حراش عن حذيفة زاد مسلم وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ولفظ البخاري : حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا الزهري عن عبد الله بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزا عنه لعل الله يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه ]
( حديث آخر ) عن سهل بن حنيف قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا عمرو بن ثابت حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن سهل بن حنيف أن سهلا حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غازيا أو غارما في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه
( حديث آخر ) عن عبد الله بن عمر قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد عن يوسف بن صهيب عن زيد العمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر ] انفرد به أحمد
( حديث آخر ) عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة أن رجلا أتى به الله عز و جل فقال : ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال له الرجل : ما عملت مثقال ذرة من خير فقال ثلاثا وقال في الثالثة : إني كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا فكنت أبايع الناس فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال تبارك وتعالى : نحن أولى بذلك منك تجاوزا عن عبدي فغفر له قال أبو مسعود : هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه و سلم وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به
( حديث آخر ) عن عمران بن حصين قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي دواد عن عمران بن حصين قال قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة ] غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه
( حديث آخر ) عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي قال : حدثنا أبو اليسر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله عز و جل في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] وقد أخرجه مسلم في صحيحه ومن وجه آخر من حديث عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامة بردة ومعافري فقال له أبي : يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب قال : أجل كان لي على فلان بن فلان ـ الحرامي ـ مال فأتيت أهله فسلمت فقلت : أثم هو ؟ قالوا : لا فخرج علي ابن له جفر فقلت : أين أبوك ؟ فقال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت : اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج فقلت ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال : أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكنت والله معسرا قال : قلت : آلله قال : قلت : آلله ؟ قال : الله ثم قال : فأتى بصحيفته فمحاها بيده ثم قال : فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل فأشهد بصر عيناي هاتان ـ ووضع أصبعيه على عينيه ـ وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي ـ وأشار إلى نياط قلبه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول : من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله وذكر تمام الحديث
( حديث آخر ) عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحمن حدثنا الحسن بن أسد بن سالم الكوفي حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري عن هشام بن زياد القرشي عن أبيه عن محجن مولى عثمان عن عثمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ أظل الله عينا في ظله يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرا أو ترك لغارم ]
( حديث آخر ) عن ابن عباس قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني عن مقاتل بن حيان عن عطاء عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد وهو يقول بيده : هكذا وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض [ من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثا ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا ] تفرد به أحمد
( طريق آخر ) قال الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديبية من ديار ربيعة حدثنا الحسن بن علي الصدائي حدثنا الحكم بن الجارود حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته ]
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها وإتيان الاخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ويحذرهم عقوبته فقال : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وقد روي أن هذه الاية آخر آية نزلت من القرآن العظيم فقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال : آخر ما نزل من القرآن كله { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وعاش النبي صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه الاية تسع ليال ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول رواه ابن أبي حاتم وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب ابن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } وقد رواه النسائي من حديث يزيد النحوي عن عكرمة عن عبد الله بن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس وروى الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } فكان بين نزولها وموت النبي صلى الله عليه و سلم واحد وثلاثون يوما وقال ابن جريج : يقولون : إن النبي صلى الله عليه و سلم عاش بعدها تسع ليال وبدء يوم السبت ومات يوم الإثنين رواه ابن جرير ورواه ابن عطية عن أبي سعيد قال آخر آية نزلت { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } (1/441)
هذه الاية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قال لما نزلت آية الدين : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا يزهر فقال : أي رب من هذا ؟ قال : هو ابنك داود قال : أي رب كم عمره قال ستون عاما قال : رب زد في عمره قال : لا إلا أن أزيده من عمرك وكان عمر آدم ألف سنة فزاده أربعين عاما فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما احتضر آدم وأتته الملائكة قال : إنه بقي من عمري أربعون عاما فقيل له : إنك وهبتها لابنك داود قال : ما فعلت فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة ] وحدثنا أسود بن عامر عن حماد بن سلمة فذكره وزاد فيه [ فأتمها الله لداود مائة وأتمها لادم ألف سنة ] وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يوسف بن أبي حبيب عن أبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة : هذا حديث غريب جدا وعلي بن زيد بن جدعان في أحاديثه نكارة وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي وثاب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ومن رواية أبي داود بن أبي هند عن الشعبي عن أبي هريرة ومن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن حديث تمام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكره بنحوه
فقوله : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها وقد نبه على هذا في آخر الاية حيث قال : { ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا } وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } قال : أنزلت في السلم إلى أجل غير معلوم وقال قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس قال : أشهد السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ثم قرأ { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } رواه البخاري وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس قال قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ] وقوله : { فاكتبوه } أمر منه تعالى بالكتابة لتوثقة والحفظ فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ] فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة ؟ فالجواب أن الدين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا لأن كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على الناس والسنن أيضا محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم قال ابن جريج : من ادان فليكتب ومن ابتاع فليشهد وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلا صحب كعبا فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا : وكيف يكون ذلك ؟ قال : رجل باع بيعا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب فلما حل ماله جحده صاحبه فدعا ربه فلم يستجب له لأنه قد عصى ربه وقال أبو سعيد والشعبي والربيع بن أنس والحسن وابن جريج وابن زيد وغيرهم : كان ذلك واجبا ثم نسخ بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } والدليل على ذلك أيضا الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقررا في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ذكر أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال : ائتني بشهداء أشهدهم قال : كفى بالله شهيدا قال ائتني بكفيل قال : كفى بالله كفيلا قال : صدقت فدفعها إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ثم زجج موضعها ثم أتى بها البحر ثم قال : اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا فرضي بذلك وسألني شهيدا فقلت : كفى بالله شهيدا فقلت : كفى بالله شهيدا فرضي بذلك وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبا وإني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا يجيئه بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال : والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لاتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال : هل كنت بعثت إلى بشيء ؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه ؟ قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف بألفك راشدا وهذا إسناد صحيح وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة معلقا بصيغة الجزم فقال وقال الليث بن سعيد فذكره ويقال إنه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه
وقوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان وقوله { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب } أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك فكما علمه الله ما لم يكن يعلم فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب كما جاء في الحديث [ إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق ] وفي الحديث الاخر [ من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ] وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب وقوله : { وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه } أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق الله في ذلك { ولا يبخس منه شيئا } أي لا يكتم منه شئيا { فإن كان الذي عليه الحق سفيها } محجورا عليه بتبذير ونحوه { أو ضعيفا } أي صغيرا أو مجنونا { أو لا يستطيع أن يمل هو } إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه { فليملل وليه بالعدل }
وقوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار ] فقالت امرأة منهن جزلة : وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار ؟ قال : [ تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن ] قالت : يا رسول الله ما نقصان العقل والدين ؟ قال [ أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين ]
وقوله : { ممن ترضون من الشهداء } فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود وهذا مقيد حكم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط وقد استدل من رد المستور بهذه الاية الدالة على أن يكون الشاهد عدلا مرضيا وقوله : { أن تضل إحداهما } يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة { فتذكر إحداهما الأخرى } أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد وبهذا قرأ آخرون فتذكر بالتشديد من التذكار ومن قال : إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر فقد أبعد والصحيح الأول والله أعلم
وقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قيل : معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة وهو قول قتادة والربيع بن أنس وهذا كقوله : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب } ومن ههنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية وقيل مذهب الجمهور والمراد بقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } للأداء لحقيقة قوله الشهداء والشاهد حقيقة فيمن تحمل فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية والله أعلم وقال مجاهد وأبو مجلز وغير واحد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار وإذا شهدت فدعيت فأجب وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ] فأما الحديث الاخر في الصحيحين [ ألا أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا ] وكذا قوله : [ ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم وتسبق شهادتهم أيمانهم ] وفي رواية [ ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون ] وهؤلاء شهود الزور وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري أنها تعم الحالين التحمل والأداء
وقوله : { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله } هذا من تمام الإرشاد وهو الأمر بكتابة الحق صغيرا كان أو كبيرا فقال : ولا تسأموا أي لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله وقوله : { ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا } أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو أقسط عند الله أي أعدل وأقوم للشهادة أي أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه كما هو الواقع غالبا { وأدنى أن لا ترتابوا } وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة
وقوله : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } أي إذا كان البيع بالحاضر يدا بيد فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها
فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثني يحيى بن عبد الله بن بكر حدثني ابن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } يعني أشهدوا على حقكم إذا كان في أجل أو لم يكن فيه أجل فأشهدوا على حقكم على كل حال قال وروي عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضحاك نحو ذلك وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري وقد رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثني عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن النبي صلى الله عليه و سلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه و سلم ليقضيه ثمن فرسه فأسرع النبي صلى الله عليه و سلم وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه و سلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه و سلم فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته فقال النبي صلى الله عليه و سلم حين سمع نداء الأعرابي قال : أوليس قد ابتعته منك ؟ قال الأعرابي : لا والله ما بعتك فقال النبي صلى الله عليه و سلم بل قد ابتعته منك فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه و سلم والأعرابي وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يقول : هلم شهيدا يشهد أني بايعتك فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يقول إلا حقا حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه و سلم ومراجعة الأعرابي يقول : هلم شهيدا يشهد أني بايعتك قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه و سلم على خزيمة فقال بم تشهد ؟ فقال : بتصديقك يا رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيدي وكلاهما عن الزهري به نحوه ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مردويه والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ورجل أقرض رجلا مالا فلم يشهد ] ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط الشيخين قال : ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد [ ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ]
وقوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } قيل : معناه لا يضار الكاتب ولا الشاهد فيكتب هذا خلاف ما يملي ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما وقيل : معناه لا يضربهما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا الحسين يعني ابن حفص حدثنا سفيان عن يزيد بن أبي زيادة عن مقسم عن ابن عباس في هذه الاية { ولا يضار كاتب ولا شهيد } قال : يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة فيقولان : إنا على حاجة فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما قال : وروي عن عكرمة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وقوله : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } أي إن خالفتم ما أمرتم به أو فعلتم ما نهيتم عنه فإنه فسق كائن بكم أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه وقوله { واتقوا الله } أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره { ويعلمكم الله } كقوله { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } وكقوله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به } وقوله : { والله بكل شيء عليم } أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء بل علمه محيط بجميع الكائنات (1/446)
يقول تعالى : { وإن كنتم على سفر } أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى { ولم تجدوا كاتبا } يكتب لكم قال ابن عباس : أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسا أو دواة أو قلما فرهان مقبوضة أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد صاحب الحق وقد استدل بقوله : { فرهان مقبوضة } على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي والجمهور واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضا في يد المرتهن وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه طائفة واستدل آخرون من السلف بهذه الاية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر قاله مجاهد وغيره وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير رهنها قوتا لأهله وفي رواية : من يهود المدينة وفي رواية الشافعي عند أبي الشحم اليهودي وتقرير هذه المسائل في كتاب الأحكام الكبير ولله الحمد والمنة وبه المستعان
وقوله { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه قال : هذه نسخت ما قبلها وقال الشعبي : إذا ائتمن بعضكم بعضا فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا : وقوله : { وليتق الله ربه } يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ على اليد ما أخذت حتى تؤديه ]
قوله : { ولا تكتموا الشهادة } أي لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها قال ابن عباس وغيره : شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك ولهذا قال { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } قال السدي : يعني فاجر قلبه وهذه كقوله تعالى : { ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الأثمين } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } وهكذا قال ههنا { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم } (1/450)
يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن وأنه المطلع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر وإن دقت وخفيت وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال تعالى : { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير } وقال { يعلم السر وأخفى } والايات في ذلك كثيرة جدا وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو المحاسبة على ذلك ولهذا لما نزلت هذه الاية اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثني أبو عبد الرحمن يعني العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم جثوا على الركب وقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الاية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ] فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } إلى آخره ورواه مسلم منفردا به من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكر مثله ولفظه فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال : نعم { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } قال : نعم { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : نعم { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال : نعم
( حديث ابن عباس في ذلك ) قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الاية { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا ] فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } إلى قوله { فانصرنا على القوم الكافرين } وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شبية وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع به وزاد { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال : قد فعلت { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } قال : قد فعلت { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : قد فعلت { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال : قد فعلت
( طريق أخرى ) عن ابن عباس قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال : دخلت على ابن عباس فقلت : يا أبا عباس كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الاية فبكى قال : أية آية ؟ قلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } قال ابن عباس : إن هذه الاية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم غما شديدا وغاظتهم غيظا شديدا وقالوا : يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل فأما قلوبنا فليست بأيدينا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قولوا سمعنا وأطعنا ] فقالوا سمعنا وأطعنا قال : فنسختها هذه الاية { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله } إلى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال
( طريق أخرى ) عنه قال ابن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن مرجانة سمعه يحدث : أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الاية { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء } الاية فقال : والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه قال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها فقال ابن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله بعدها { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلى آخر السورة قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها وصار الأمر إلى أن قضى الله عز و جل أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل
( طريق أخرى ) قال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم أن أباه قرأ { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أنزلت فنسختها الاية التي بعدها { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس قال البخاري : حدثنا إسحاق حدثنا روح حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أحسبه ابن عمر { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } قال : نسختها الاية التي بعدها وهكذا روي عن علي وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة أنها منسوخة بالتي بعدها وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها مالم تكلم أو تعمل ]
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قال الله : إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا ] لفظ مسلم وهو في إفراده من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ قال الله : إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ] وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ قال الله : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها ] وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قالت الملائكة : رب وذاك أن عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال : ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة وإنما تركها من جراي ] وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز و جل ] تفرد به مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ وبعضه في صحيح البخاري وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو كريب حدثنا خالد الأحمر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له وإن عملها كتبت ] تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب وقال مسلم أيضا : حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا عبد الوارث عن الجعد أبي عثمان حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه تعالى قال [ إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة ] ثم رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبد الرزاق زاد [ ومحاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك ] وفي حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألوه فقالوا : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال وقد وجدتموه ؟ قالوا : نعم قال [ ذاك صريح الإيمان ] لفظ مسلم وهو عند مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم به وروى مسلم أيضا من حديث مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوسوسة قال [ تلك صريح الإيمان ]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فإنها لم تنسخ ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله { يحاسبكم به الله } يقول : يخبركم وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } وهو قوله { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أي من الشك والنفاق وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبا من هذا
وروى ابن جرير عن مجاهد والضحاك نحوه وعن الحسن البصري أنه قال : هي محكمة لم تنسخ واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه الاية قائلا : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد بن هشام ( ح ) وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا ابن هشام قالا جميعا في حديثهما عن قتادة عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في النجوى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ يدنو المؤمن من ربه عز و جل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له : هل تعرف كذا ؟ فيقول : رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم قال : فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } ] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة عن قتادة به وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبيه قال : سألت عائشة عن هذه الاية { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } قالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها فقالت : هذه مبايعة الله العبد وما يصيبه من الحمى والنكبة والبضاعة يضعها في يد كمه فيفقدها فيفزع لها ثم يجدها في ضبنته حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر وكذا رواه الترمذي وابن جرير من طريق حماد بن سلمة به وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديثه ( قلت ) وشيخه علي بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة وليس لها عنها في الكتب سواه (1/451)
ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الايتين الكريمتين نفعنا الله بهما
( الحديث الأول ) ـ قال البخاري : حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن عبد الرحمن عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من قرأ الايتين وحدثنا أبو نعيم : حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ بالايتين ـ من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ] وقد أخرجه بقية الجماعة عن طريق سليمان بن مهران الأعمش بإسناده مثله وهو في الصحيحين من طريق الثوري عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن عنه به وهو في الصحيحين أيضا عن عبد الرحمن عن علقمة عن ابن مسعود قال عبد الرحمن : ثم لقيت أبا مسعود فحدثني به وهكذا رواه أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن عاصم عن المسيب بن رافع عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من قرأ الايتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه ]
( الحديث الثاني ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا حسين حدثنا شيبان عن منصور عن ربعي عن خرشة بن الحر عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي ] قد رواه ابن مردويه من حديث الأشجعي عن الثوري عن منصور عن ربعي عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ]
( الحديث الثالث ) ـ قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا مالك بن مغول ( ح ) وحدثنا ابن نمير وزهير بن حرب جميعا عن عبد الله بن نمير وألفاظهم متقاربة قال ابن نمير : حدثنا أبي حدثنا مالك ابن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة عن عبد الله قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال { إذ يغشى السدرة ما يغشى } قال : فراش من ذهب قال : أعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات
( الحديث الرابع ) قال أحمد حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اقرأ الايتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش ] هذا إسناد حسن ولم يخرجوه في كتبهم
( الحديث الخامس ) ـ قال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي أخبرنا مروان أنبأنا ابن عوانة عن أبي مالك عن ربعي عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فضلنا على الناس بثلاث أوتيت هذه الايات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش لم يعطها أحد قبلي ولا يعطاها أحد بعدي ] ثم رواه من حديث نعيم بن أبي هند عن ربعي عن حذيفة بنحوه
( الحديث السادس ) ـ قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع أنبأنا إسماعيل بن الفضل أخبرنا محمد بن بزيع أخبرنا جعفر بن عون عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : لا أرى أحدا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ خواتيم سورة البقرة فإنها من كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه و سلم من تحت العرش ورواه وكيع في تفسيره عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمير بن عمرو المخارقي عن علي قال : ما أرى أحدا يعقل بلغه الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز تحت العرش
( الحديث السابع ) ـ قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن الجرمي عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقر بها شيطان ] ثم قال : هذا حديث غريب وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
( الحديث الثامن ) قال ابن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين أخبرنا الحسن بن الجهم أخبرنا إسماعيل بن عمرو أخبرنا ابن مريم حدثني يوسف بن أبي الحجاج عن سعيد عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قرأ سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال : [ إنهما من كنز الرحمن تحت العرش ] وإذا قرأ { من يعمل سوءا يجز به } { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى } استرجع واستكان
( الحديث التاسع ) قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة حدثنا محمد بن بكر حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن أبي حميد عن أبي مليح عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة ]
( الحديث العاشر ) ـ قد تقدم في فضائل الفاتحة من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير [ عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال له : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته ] رواه مسلم والنسائي وهذا لفظه
فقوله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } إخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم بذلك قال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لما نزلت عليه هذه الاية [ ويحق له أن يؤمن ] وقد روى الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو النضر الفقيه حدثنا معاذ بن نجدة القرشي حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا أبو عقيل عن يحيى بن أبي كثير عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الاية على النبي صلى الله عليه و سلم { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ حق له أن يؤمن ] ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وقوله { والمؤمنون } عطف على الرسول ثم أخبر عن الجميع فقال { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره ولا رب سواه ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه و سلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذين تقوم الساعة على شريعته ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين وقوله { وقالوا سمعنا وأطعنا } أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه { غفرانك ربنا } سؤال للمغفرة والرحمة واللطف قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا } قال : قد غفرت لكم { وإليه المصير } أي المرجع والمآب يوم الحساب قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن بيان عن حكيم عن جابر قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } قال جبريل : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه فسأل { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلى آخر هذه الأية وقوله { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } أي لا يكلف أحدا فوق طاقته وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } أي هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه فأما مالا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان وقوله { لها ما كسبت } أي من خير { وعليها ما اكتسبت } أي من شر وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف ثم قال تعالى مرشدا عباده إلى سؤاله وقد تكفل لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } أي إن تركنا فرضا على جهة النسيان أو فعلنا حراما كذلك أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي وقد تقدم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال الله : نعم ولحديث ابن عباس قال الله قد فعلت وروى ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي عن عطاء قال ابن ماجه في روايته عن ابن عباس وقال الطبراني وابن حبان عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وقد روي من طريق آخر وأعله أحمد وأبو حاتم والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبو بكر الهذلي عن شهر عن أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان والاستكراه ] قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن فقال : أجل أما تقرأ بذلك قرآنا { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }
وقوله { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والاصار التي كانت عليهم التي بعثت نبيك محمدا صلى الله عليه و سلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قال الله : نعم وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قال الله قد فعلت وجاء في الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ بعثت بالحنيفية السمحة ]
وقوله { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به وقد قال مكحول في قوله { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : العزبة والغلمة رواه ابن أبي حاتم قال الله : نعم وفي الحديث الاخر : قال الله : قد فعلت
وقوله { واعف عنا } أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا { واغفر لنا } أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة { وارحمنا } أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم وفي الحديث الاخر : قال الله : قد فعلت
وقوله { أنت مولانا } أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكلنا وأنت المستعان وعليك التكلان ولا حول لنا ولا قوة إلا بك { فانصرنا على القوم الكافرين } أي الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك وعبدوا غيرك وأشركوا معك من عبادك فانصرنا عليهم واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والاخرة قال الله : نعم وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس قال الله : قد فعلت وقال ابن جرير : حدثني مثنى بن إبراهيم حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن أبي إسحاق أن معاذا رضي الله عنه كان إذا فرغ من هذه السورة { فانصرنا على القوم الكافرين } قال : آمين ورواه وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن رجل عن معاذ بن جبل أنه كان إذا ختم البقرة قال : آمين (1/455)
سورة آل عمران
هي مدنية لأن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزل في وفد نجران وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة كما سيأتي بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها إن شاء الله تعالى وقد ذكرنا ما ورد في فضلها مع سورة البقرة أول البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم (1/458)
قد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الايتين { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } و { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } عند تفسير آية الكرسي وقد تقدم الكلام على قوله { ألم } في أول سورة البقرة بما يغني عن إعادته وتقدم الكلام على قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } في تفسير آية الكرسي
وقوله تعالى : { نزل عليك الكتاب بالحق } يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق أي لا شك فيه ولا ريب بل هو منزل من عند الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا وقوله : { مصدقا لما بين يديه } أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله الأنبياء فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم وإنزال القرآن العظيم عليه وقوله : { وأنزل التوراة } أي على موسى بن عمران { والإنجيل } أي على عيسى ابن مريم عليهما السلام { من قبل } أي من قبل هذا القرآن { هدى للناس } أي في زمانهما { وأنزل الفرقان } وهو الفارق بين الهدى والضلال والحق والباطل والغي والرشاد بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات والبراهين القاطعات ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك وقال قتادة والربيع بن أنس : الفرقان ـ ههنا ـ القرآن واختار ابن جرير أنه مصدر ههنا لتقدم ذكر القرآن في قوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } وهو القرآن وأما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي صالح أن المراد بالفرقان ههنا التوراة فضعيف أيضا لتقدم ذكر التوراة والله أعلم
وقوله تعالى : { إن الذين كفروا بآيات الله } أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل { لهم عذاب شديد } أي يوم القيامة { والله عزيز } أي منيع الجناب عظيم السلطان { ذو انتقام } أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام (1/459)
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض لا يخفى عليه شيء من ذلك { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى وحسن وقبيح وشقي وسعيد { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } أي هو الذي خلق وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له وله العزة التي لا ترام والحكمة والأحكام وهذه الاية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر لأن الله صوره في الرحم وخلقه كما يشاء فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال ؟ كما قال تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث } (1/459)
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال تعالى { هن أم الكتاب } أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه { وأخر متشابهات } أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه فروي عن السلف عبارات كثيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وأحكامه وحدوده وفرائضه وما يؤمر به ويعمل به وعن ابن عباس أيضا أنه قال المحكمات قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } والايات بعدها وقوله تعالى : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } إلى ثلاث آيات بعدها ورواه ابن أبي حاتم وحكاه عن سعيد بن جبير به قال : حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر و أبا فاختة تراجعا في هذه الاية وهي { هن أم الكتاب وأخر متشابهات } فقال أبو فاختة : فواتح السور وقال يحيى بن يعمر : الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير : هن أم الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب وقال مقاتل بن حيان : لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن وقيل في المتشابهات : المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام وما يؤمن به ولا يعمل به رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقيل هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان وعن مجاهد المتشابهات يصدق بعضها بعضا وهذا إنما هو في تفسير قوله { كتابا متشابها مثاني } هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار وذكر حال الأبرار وحال الفجار ونحو ذلك وأما ههنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله حيث قال منه آيات محكمات فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف عما وضعن عليه قال : والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ويحرفن عن الحق
ولهذا قال تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل { فيتبعون ما تشابه منه } أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال الله تعالى : { ابتغاء الفتنة } أي الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } وبقوله { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } وغير ذلك من الايات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله
وقوله تعالى { وابتغاء تأويله } أي تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل بن حيان و السدي يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } إلى قوله { أولو الألباب } فقال : [ فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم ] هكذا وقع الحديث في مسند الإمام أحمد من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها ليس بينهما أحد وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن علية و عبد الوهاب الثقفي كلاهما عن أيوب به ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب به وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وكذا رواه غير واحد عن أيوب وقد رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أيوب به ورواه أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السدوسي ولقبه عارم : حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة به وتابع أيوب أبو عامر الخراز وغيره عن ابن أبي مليكة فرواه الترمذي عن بندار عن أبي داود الطيالسي عن أبي عامر الخراز فذكره وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه عن حماد بن يحيى الأبح عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة ورواه ابن جرير من حديث روح بن القاسم و نافع بن عمر الجمحي كلاهما عن ابن أبي مليكة عن عائشة به وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة : حدثتني عائشة فذكره وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الاية و مسلم في كتاب القدر من صحيحه و أبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن القعنبي عن يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الاية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } إلى قوله : { وما يذكر إلا أولو الألباب } قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ] لفظ البخاري وكذا رواه الترمذي أيضا عن بندار عن أبي داود الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم به وقال : حسن صحيح وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة عن عائشة ولم يذكر القاسم كذا قال وقد رواه ابن أبي حاتم فقال : حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري و حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ] وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : نزع رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذه الاية : { يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قد حذركم الله فإذا رأيتموهم فاعرفوهم ] ورواه ابن مردويه من طريق أخرى عن القاسم عن عائشة به وقال الإمام أحمد حدثنا أبو كامل حدثنا حماد عن أبي غالب قال : سمعت أبا أمامة يحدث النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } قال [ هم الخوارج ] وفي قوله تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال [ هم الخوارج ] وقد رواه ابن مردويه من غير وجه عن أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعا فذكره وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفا من كلام الصحابي ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه و سلم غنائم حنين فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ففاجؤوه بهذه المقالة فقال قائلهم وهو ذوالخويصرة ـ بقر الله خاصرته : اعدل فإنك لم تعدل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني ] فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب وفي رواية خالد بن الوليد رسول الله في قتله فقال [ دعه فانه يخرج من ضئضىء هذا أي من جنسه قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم ] ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة ثم نبعت القدرية ثم المعتزلة ثم الجهمية وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم في قوله [ وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : من كان على ما أنا عليه وأصحابي ] أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو موسى حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا المعتمر عن أبيه عن قتادة عن الحسن بن جندب بن عبد الله أنه بلغه عن حذيفة أو سمعه منه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ذكر [ إن في أمتي قوما يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله ] لم يخرجوه
وقوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } اختلف القراء في الوقف ههنا فقيل : على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء : فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها وتفسير يعلمه الراسخون في العلم وتفسير لا يعلمه إلا الله ويروى هذا القول عن عائشة و عروة و أبي الشعثاء و أبي نهيك وغيرهم وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير : حدثنا هاشم بن مزيد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } الاية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه ] غريب جدا وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن عمرو حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ] وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : كان ابن عباس يقرأ : وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز و مالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : إن تأويله إلا عند اللهو والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكذا عن أبي بن كعب واختار ابن جرير هذا القول
ومنهم من يقف على قوله : { والراسخون في العلم } وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا : الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به وكذا قال الربيع بن أنس وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفرالزبير : { وما يعلم تأويله } الذي أراد ما أراد { إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضا فنفذت الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا لابن عباس فقال [ اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ] ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان : أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ومنه قوله تعالى : { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } وقوله { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز و جل ويكون قوله { والراسخون في العلم } مبتدأ و { يقولون آمنا به } خبره وأما إن أريد بالتأويل المعنى الاخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله { نبئنا بتأويله } أي بتفسيره فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على { والراسخون في العلم } لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه وعلى هذا يكون قوله : { يقولون آمنا به } حالا منهم وساغ هذا وأن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } إلى قوله { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا } الاية وقوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } أي وجاءت الملائكة صفوفا صفوفا
وقوله إخبارا عنهم { يقولون : آمنا به } أي المتشابه { كل من عند ربنا } أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق وكل واحد منهما يصدق الاخر ويشهد له لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ولهذا قال تعالى : { وما يذكر إلا أولو الألباب } أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولوا العقول السليمة والفهوم المستقيمة وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا فياض الرقي حدثنا عبد الله بن يزيد وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أنسا وأبا أمامة وأبا الدرداء رضي الله عنهم قال : حدثنا أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الراسخين في العلم فقال : [ من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ومن أعف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم ] وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم قوما يتدارؤون فقال [ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ] وتقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث من طريق هشام بن عمار عن ابن أبي حازم عن أبيه عن عمرو بن شعيب به وقد قال أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا زهير بن حرب حدثنا أنس بن عياض عن أبي حازم عن أبي سلمة قال : لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ نزل القرآن على سبعة أحرف والمراء في القرآن كفر ـ قالها ثلاثا ـ ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله ] وهذا إسناد صحيح ولكن فيه علة بسبب قول الراوي لا أعلمه إلا عن أبي هريرة وقال ابن المنذر في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا ابن وهب قال : أخبرني نافع بن يزيد قال : يقال : الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم ثم قال تعالى مخبرا أنهم دعوا ربهم قائلين { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } أي لا تملها عن الهدي بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ الذين يتبغون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم ودينك القويم { وهب لنا من لدنك } أي من عندك { رحمة } تثبت بها قلوبنا وتجمع بها شملنا وتزيدنا بها إيمانا وإيقانا { إنك أنت الوهاب }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب قالا جميعا : حدثنا وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] ثم قرأ { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن بكار عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة وهي أسماء بنت يزيد بن السكن سمعها تحدث : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يكثر من دعائه [ اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالت قلت : يا رسول الله وإن القلب ليتقلب ؟ قال : نعم ماخلق الله من بني آدم من بشر إلا قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز و جل فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه ] فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب ـ وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى عن عبد الحميد بن بهرام به مثله رواه أيضا عن المثنى عن الحجاج بن منهال عن عبد الحميد بن بهرام به مثله وزاد : [ قلت يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : بلى قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ] ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي حدثنا العباس بن الوليد الخلال أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله أخبرنا سعيد بن بشير عن قتادة عن حسان الأعرج عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرا ما يدعو [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال : ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه أما تسمعين قوله { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } ] غريب من هذا الوجه ولكن أصله ثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الاية الكريمة وقد رواه أبو داود والنسائي وابن مردويه من حديث أبي عبد الرحمن المقري زاد النسائي وابن حبان وعبد الله بن وهب كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب : حدثني عبد الله بن الوليد التجيبي عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا استقيظ من الليل قال [ لا إله إلا أنت سبحانك اللهم إني أستغفرك لذنبي وأسألك رحمة اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ] لفظ ابن مردويه وقال عبد الرزاق عن مالك عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك عن عبادة بن نسي أنه أخبره أنه سمع قيس بن الحارث يقول : أخبرني أبو عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكرالصديق رضي الله عنه المغرب فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل وقرأ في الركعة الثالثة قال : فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الاية : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } الاية قال أبو عبيد : وأخبرني عبادة بن نسي أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته فقال عمر لقيس : كيف أخبرتني عن أبي عبد الله ؟ قال عمر : فما تركناها منذ سمعناها منه وإن كنت قبل ذلك لعلى غير ذلك فقال له رجل : على أي شيء كان أمير المؤمنين قبل ذلك قال : كنت أقرأ { قل هو الله أحد } وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم عن مالك والأوزاعي كلاهما عن أبي عبيد به وروى هذا الأثر الوليد أيضا عن ابن جابر عن يحيى بن يحيى الغساني عن محمود بن لبيد عن الصنابحي أنه صلى خلف أبي بكر المغرب فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة يجهر بالقراءة فلما قام إلى الثالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه فقرأ هذه الاية { ربنا لا تزغ قلوبنا } الاية
وقوله { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } أي يقولون في دعائهم : إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه وتجزي كلا بعمله وما كان عليه في الدنيا من خير وشر (1/460)
يخبر تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه كما قال تعالى : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } وقال تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } وقال ههنا { إن الذين كفروا } أي بآيات الله وكذبوا رسله وخالفوا كتابه ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار } أي حطبها الذي تسجر به وتوقد به كقوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا ابن لهيعة أخبرني ابن الهاد عن هند بنت الحارث عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس قالت : بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه و سلم من الليل فنادى [ هل بلغت اللهم هل بلغت ] ثلاثا فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : نعم ثم أصبح فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه ولتخوضن البحار بالإسلام وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه ثم يقولون : قد قرأنا وعلمنا فمن هذا الذي هو خير منا فهل في أولئك من خير ؟ قالوا : يا رسول الله فمن أولئك ؟ قال : أولئك منكم وأولئك هم وقود النار ] وكذا رأيته بهذا اللفظ وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد عن هند بنت الحارث امرأة عبد الله بن شداد عن أم الفضل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام ليلة بمكة فقال [ هل بلغت ] يقولها ثلاثا فقام عمر بن الخطاب وكان أواها فقال : اللهم نعم وحرصت وجهدت ونصحت فاصبر فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه وليخوضن رجال البحار بالإسلام وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن فيقرؤونه ويعلمونه فيقولون : قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا ؟ فما في أولئك من خير قالوا : يا رسول الله فمن أولئك ؟ قال أولئك منكم وأولئك هم وقود النار ] ثم رواه من طريق موسى بن عبيد عن محمد بن إبراهيم عن بنت الهاد عن العباس بن عبد المطلب بنحوه
وقوله تعالى : { كدأب آل فرعون } قال الضحاك عن ابن عباس : كصنيع آل فرعون وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد ومنهم من يقول : كسنة آل فرعون وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون والألفاظ متقاربة والدأب بالتسكين والتحريك كنهر ونهر هو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة كما يقال لا يزال هذا دأبي ودأبك وقال امرؤ القيس :
( وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تأسف أسى وتجمل )
( كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل )
والمعنى كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها والمعنى في الاية أن الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد بل يهلكون ويعذبون كما جرى لال فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به من آيات الله وحججه { والله شديد العقاب } أي شديد الأخذ أليم العذاب لا يمتنع منه أحد ولا يفوته شيء بل هوالفعال لما يريد الذي قد غلب كل شيء وذل له كل شي لا إله غيره ولا رب سواه (1/465)
يقول تعالى : قل يا محمد للكافرين { ستغلبون } أي في الدنيا { وتحشرون } أي يوم القيامة { إلى جهنم وبئس المهاد } وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار عن عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال [ يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا ] فأنزل الله في ذلك قوله { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } وقد رواه محمد بن إسحاق أيضا عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس فذكره ولهذا قال تعالى : { قد كان لكم آية } أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم { آية } أي دلالة على أن الله معز دينه وناصر رسوله ومظهر كلمته ومعل أمره { في فئتين } أي طائفتين { التقتا } أي للقتال { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } وهم مشركو قريش يوم بدر وقوله : { يرونهم مثليهم رأي العين } قال بعض العلماء فيما حكاه ابن جرير : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم أي جعل الله ذلك فيما رأوه سببا لنصرة الإسلام عليهم وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسلمين فأخبرهم بأنهم ثلثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون وهكذا كان الأمر كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم
( والقول الثاني ) أن المعنى في قوله تعالى : { يرونهم مثليهم رأي العين } أي ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي عن ابن عباس : أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا وكأن هذاالقول مأخوذ من ظاهر هذه الاية ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين تسعمائة إلى ألف كما رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال : كثير قال [ كم ينحرون كل يوم ؟ قال : يوما تسعا ويوما عشرا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ] وروى أبو إسحاق السبيعي عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال : كانوا ألفا وكذا قال ابن مسعود والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف وعلى كل تقدير كانوا ثلاثة أمثال المسلمين وعلى هذا فيشكل هذاالقول والله أعلم لكن وجه ابن جرير هذا وجعله صحيحا كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها وتكون محتاجا إلى ثلاثة آلاف كذا قال وعلى هذا فلا إشكال لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الاية وبين قوله تعالى في قصة بدر { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا } فالجواب أن هذا كان في حالة والاخر كان في حالة أخرى كما قال السدي عن الطيب عن ابن مسعود في قوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } الاية قال : هذا يوم بدر قال عبد الله بن مسعود : وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا وذلك قوله تعالى : { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم } الاية وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا كم كنتم ؟ قال : ألفا فعندما عاين كل من الفريقين الاخر رأى المسلمون المشركين مثليهم أي أكثر منهم بالضعف ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عز و جل ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء وهؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على الاخر { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } أي ليفرق بين الحق والباطل فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان ويعز المؤمنين ويذل الكافرين كما قال تعالى : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } وقال ههنا { والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } أي إن في ذلك لمعتبرا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكمة الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (1/467)
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال [ ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ] فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه [ وإن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء ] وقوله صلى الله عليه و سلم [ الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله ] وقوله في الحديث الاخر [ حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ] وقالت عائشة رضي الله عنها : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من النساء إلا الخيل وفي رواية من الخيل إلا النساء وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد صلى الله عليه و سلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث [ تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ] وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعا وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال وحاصلها أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره وقيل : ألف دينار وقيل : ألف ومائتا دينار وقيل اثنا عشر ألفا وقيل : أربعون ألفا وقيل : ستون ألفا وقيل سبعون ألفا وقيل : ثمانون ألفا وقيل غير ذلك وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ القنطار اثنا عشر ألف أوقية كل أوقية خير مما بين السماء والأرض ] وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن حماد بن سلمة به وقد رواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا وهذا أصح وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل و ابن عمر وحكاه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة وأبي الدرداء أنهم قالوا : القنطار ألف ومائتا أوقية ثم قال ابن جرير رحمه الله : حدثنا زكريا بن يحيى الضرير حدثنا شبابة حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية ] وهذا حديث منكر أيضا والأقرب أن يكون موقوفا على أبي بن كعب كغيره من الصحابة وقد روى ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن إبراهيم عن يحنش أبي موسى عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين ومن قرأ مائة آية إلى ألف أصبح له قنطار من أجر عند الله القنطار منه مثل الجبل العظيم ] ورواه وكيع عن موسى بن عبيدة بمعناه وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي بتنيس حدثنا عمرو بن أبي سلمة حدثنا زهير بن محمد حدثنا حميد الطويل ورجل آخر عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله تعالى { والقناطير المقنطرة } ؟ قال [ القنطار ألفا أوقية ] صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا رواه الحاكم وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال : أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن الرقي أنبأنا عمرو بن أبي سلمة أنبأنا زهير يعني ابن محمد أنبأنا حميد الطويل ورجل آخر قد سماه يعني يزيد الرقاشي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله [ قنطار يعني ألف دينار ] وهكذا رواه ابن مردويه والطبراني عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم عن عمرو بن أبي سلمة فذكر بإسناده مثله سواء وروى ابن جرير عن الحسن البصري : عنه مرسلا وموقوفا عليه : [ القنطار ألف ومائتا دينار ] وهو رواية العوفي عن ابن عباس وقال الضحاك : من العرب من يقول : القنطار ألف دينار ومنهم من يقول : اثنا عشر ألفا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عارم عن حماد عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : القنطار ملء مسك الثور ذهبا قال أبو محمد : ورواه محمد بن موسى الحرشي عن حماد بن زيد مرفوعا والموقوف أصح
( وحب الخيل على ثلاثة أقسام ) تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون وتارة تربط فخرا ونواء لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الاية وأما المسومة فعن ابن عباس رضي الله عنهما : المسومة الراعية والمطهمة الحسان وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبزى والسدي والربيع بن أنس وأبي سنان وغيرهم وقال مكحول : المسومة الغرة والتحجيل وقيل : غير ذلك وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن حديج عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول : اللهم إنك خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب ماله وأهله إليه أو أحب أهله وماله إليه ] وقوله تعالى { والأنعام } يعني الإبل والبقر والغنم { والحرث } يعني الأرض المتخذة للغراس والزراعة وقال الإمام أحمد : حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو نعامة العدوي عن مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال [ خير مال امرىء له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة ] المأمورة : الكثيرة النسل والسكة : النخل المصطف والمأبورة : الملقحة
ثم قال تعالى : { ذلك متاع الحياة الدنيا } أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة { والله عنده حسن المآب } أي حسن المرجع والثواب
وقد قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن عطاء عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال : قال عمر بن الخطاب لما نزلت { زين للناس حب الشهوات } قلت : الان يا رب حين زينتها لنا فنزلت { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا } الاية ولهذا قال تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } أي قل يا محمد للناس : أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة ثم أخبر عن ذلك فقال : { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { خالدين فيها } أي ماكثين فيها أبد الاباد لا يبغون عنها حولا { وأزواج مطهرة } أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا { ورضوان من الله } أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبدا ولهذا قال تعالى في الاية الأخرى التي في براءة { ورضوان من الله أكبر } أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم ثم قال تعالى : { والله بصير بالعباد } أي يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء (1/468)
يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل فقال تعالى : { الذين يقولون ربنا إننا آمنا } أي بك وبكتابك وبرسولك { فاغفر لنا ذنوبنا } أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك { وقنا عذاب النار } ثم قال تعالى : { الصابرين } أي في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات { والصادقين } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة { والقانتين } والقنوت الطاعة والخضوع { والمنفقين } أي من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات وصلة الأرحام والقرابات وسد الخلات ومواساة ذوي الحاجات { والمستغفرين بالأسحار } دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار وقد قيل : إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه { سوف أستغفر لكم ربي } إنه أخرهم إلى وقت السحر وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند والسنن من غير وجه عن جماعة من الصحابة إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ ] الحديث وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءا على حدة فرواه من طرق متعددة وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه و سلم من أوله وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر ] وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول : يا نافع هل جاء السحر ؟ فإذا قال : نعم أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن حريث بن أبي مطر عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك وهذا السحر فاغفر لي فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة (1/470)
شهد تعالى وكفى به شهيدا وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين { أنه لا إله إلا هو } أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه وهوالغني عما سواه كما قال تعالى : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } الاية ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم } وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام { قائما بالقسط } منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك { لا إله إلا هو } تأكيد لما سبق { العزيز الحكيم } العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا بقية بن الوليد حدثني جبير بن عمرو القرشي حدثنا أبو سعيد الأنصاري عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال : [ سمعت النبي صلى الله عليه و سلم وهو بعرفة يقرأ هذه الاية { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب ] وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال : حدثنا علي بن حسين حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عمر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير قال [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قرأ هذه الاية { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة } قال : وأنا أشهد أي رب ] وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي قالا : حدثنا عمار بن عمر بن المختار حدثني أبي حدثني غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فمر بهذه الاية { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام } ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة { إن الدين عند الله الإسلام } قالها مرارا قلت : لقد سمع فيها شيئا فغدوت إليه فودعته ثم قلت : يا أبا محمد إني سمعتك تردد هذه الاية قال : أوما بلغك ما فيها ؟ قلت : أنا عندك منذ شهر لم تحدثني قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة فأقمت سنة فكنت على بابه فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله عز و جل : عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة ] وقوله تعالى { إن الدين عند الله الإسلام } إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام وهواتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه و سلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه و سلم فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه و سلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } الاية وقال في هذه الاية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام { إن الدين عند الله الإسلام } وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام } بكسر إنه وفتح أن الدين عند الله الإسلام أي شهد هو والملائكة وأولوا العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام والجمهور قرؤوها بالكسر على الخبر وكلا المعنيين صحيح ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم فقال : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } أي بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم فحمل بعضهم بغض البعض الاخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا ثم قال تعالى : { ومن يكفر بآيات الله } أي من جحد ما أنزل الله في كتابه { فإن الله سريع الحساب } أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفته كتابه
ثم قال تعالى { فإن حاجوك } أي جادلوك في التوحيد { فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } أي فقل : أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ند له ولا ولد له ولا صاحبة له { ومن اتبعن } أي على ديني يقول كمقالتي كما قال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } الاية ثم قال تعالى آمرا لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به الكتابيين من الملتين والأميين من المشركين فقال تعالى : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ولهذا قال تعالى : { والله بصير بالعباد } أي هوعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة وهو الذي { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وما ذلك إلا لحكمته ورحمته وهذه الاية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وقال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه و سلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الافاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار ] رواه مسلم وقال صلى الله عليه و سلم [ بعثت إلى الأحمر والأسود ] وقال [ كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه : أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلى الله عليه و سلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه و سلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ يا فلان قل لا إله إلا الله فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلى الله عليه و سلم فنظر إلى أبيه فقال أبوه : أطع أبا القاسم فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فخرج النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقول : الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ] رواه البخاري في الصحيح إلى غير ذلك من الايات والأحاديث (1/471)
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا التي بلغتهم إياها الرسل إستكبارا عليهم وعنادا لهم وتعاظما على الحق واستنكافا على اتباعه ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم إلا لكونهم دعوهم إلى الحق { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } وهذا هو غاية الكبر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم [ الكبر بطر الحق وغمط الناس ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الزبير الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري نزيل مكة حدثني أبو حفص عمر بن حفص يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري حدثنا محمد بن حمزة حدثنا أبو الحسن مولى لبني أسد عن مكحول عن أبي قبيصة بن ذؤيب الخزاعي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال : [ قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ قال رجل قتل نبيا أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } الاية ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله عز و جل ] وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصابي محمد بن حفص عن ابن حمير عن أبي الحسن مولى بني أسد عن مكحول به وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار وأقاموا سوق بقلهم من آخره رواه ابن أبي حاتم ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الاخرة فقال تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } أي موجع مهين { أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين } (1/473)
يقول تعالى منكرا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه و سلم تولوا وهم معرضون عنهما وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد ثم قال تعالى : { ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } أي إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة في الدنيا يوما وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة ثم قال تعالى : { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } أي ثبتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم واختلقوه ولم ينزل الله به سلطانا قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم الامرين بالمعروف والناهين عن المنكر والله تعالى سائلهم عن ذلك كله ومحاسبهم عليه ومجازيهم به ولهذا قال تعالى : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } أي لا شك في وقوعه وكونه { ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } (1/474)
يقول تبارك وتعالى : { قل } يا محمد معظما لربك وشاكرا له ومفوضا إليه ومتوكلا عليه { اللهم مالك الملك } أي لك الملك كله { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } أي أنت المعطي وأنت المانع وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن وفي هذه الاية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم وهذه الأمة لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء على الإطلاق ورسول الله إلى جميع الثقلين : الإنس والجن الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله وخصه بخصائص لم يعطها نبيا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل في العلم بالله وشريعته واطلاعه على الغيوب الماضية والاتية وكشفه له عن حقائق الاخرة ونشر أمته في الافاق في مشارق الأرض ومغاربها وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار ولهذا قال تعالى : { قل اللهم مالك الملك } الاية أي أنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } قال الله ردا عليهم { أهم يقسمون رحمة ربك } الاية أي نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك وهكذا يعطي النبوة لمن يريد كما قال تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقال تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } الاية وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إسحاق بن أحمد من تاريخه عن المأمون الخليفة أنه رأى في قصر ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية فعرب له فإذا هو بسم الله ما اختلف الليل والنهار ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن ملك قد زال سلطانه إلى ملك وملك ذي العرش دائم أبدا ليس بفان ولا بمشترك وقوله تعالى : { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان وهكذا في فصول السنة ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء وقوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } أي تخرج الزرع من الحب والحب من الزرع والنخلة من النواة والنواة من النخلة والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء { وترزق من تشاء بغير حساب } أي تعطي من شئت من المال ما لا يعد ولا يقدر على إحصائه وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل قال الطبراني : حدثنا محمد بن زكريا الغلابي حدثنا جعفر بن جسر بن فرقد حدثنا أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الاية من آل عمران { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } ] (1/475)
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ثم توعد على ذلك فقال تعالى : { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي ومن يرتكب نهي الله في هذا فقد بريء من الله كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } الاية وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } وقوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته كما قال البخاري عن أبي الدرداء : أنه قال : إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم وقال الثوري : قال ابن عباس : ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان وكذا رواه العوفي عن ابن عباس : إنما التقية باللسان وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } الاية وقال البخاري : قال الحسن : التقية إلى يوم القيامة ثم قال تعالى : { ويحذركم الله نفسه } أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه ثم قال تعالى : { وإلى الله المصير } أي إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : [ يا بني أود إني رسول رسول الله إليكم تعلمون أن المعاد إلى الجنة أو إلى النار ] (1/476)
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر وأنه لا يخفى عليه منهم خافية بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات وجميع الأوقات وجميع ما في الأرض والسموات لا يغيب عنه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال { والله على كل شيء قدير } أي وقدرته نافذة في جميع ذلك وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم فإنه عالم بجميع أمورهم وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ولهذا قال بعد هذا { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } الاية يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير ومن شر كما قال تعالى { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه وما رأى من قبيح ساءه وغاظه وود لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد كما يقال لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدنيا وهو الذي جرأه على فعل السوء { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا { ويحذركم الله نفسه } أي يخوفكم عقابه ثم قال جل جلاله مرجيا لعباده لئلا ييئسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه { والله رؤوف بالعباد } قال الحسن البصري : من رأفته بهم حذرهم نفسه وقال غيره : أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم وأن يتبعوا رسوله الكريم (1/476)
هذه الاية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] ولهذا قال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء الحكماء : ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تحب وقال الحسن البصري وغيره من السلف : زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الاية فقال { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عبيد الله بن موسى عن عبد الأعلى بن أعين عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ وهل الدين إلا الحب والبغض ] قال الله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } قال أبو زرعة عبد الأعلى هذا منكر الحديث
ثم قال تعالى : { ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } أي باتباعكم الرسول صلى الله عليه و سلم يحصل لكم هذا كله من بركة سفارته ثم قال تعالى آمرا لكل أحد من خاص وعام { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا } أي خالفوا عن أمره { فإن الله لا يحب الكافرين } فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين : الجن والإنس الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } الاية إن شاء الله تعالى (1/477)
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض فاصطفى آدم عليه السلام خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة واصطفى نوحا عليه السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لما عبد الناس الأوثان وأشركوا با لله ما لم ينزل به سلطانا وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهارا فلم يزدهم ذلك إلا فرارا فدعا عليهم فأغرقهم الله عن آخرهم ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء على الاطلاق محمد صلى الله عليه و سلم وآل عمران والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام قال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله : هو عمران بن ياشم بن أمون ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يويم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان بن رخيعم بن سليمان بن داود عليهما السلام فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى وبه الثقة (1/478)
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام وهي حنة بنت فاقوذ قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل فرأت يوما طائرا يزق فرخه فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محررا أي خالصا مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس فقالت : { رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } أي السميع لدعائي العليم بنيتي ولم تكن تعلم ما في بطنها : أذكرا أم أنثى ؟ { فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } قرىء برفع التاء على أنها تاء المتكلم وأن ذلك من تمام قولها وقريء بتسكين التاء على أنه من قول الله عز و جل { وليس الذكر كالأنثى } أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى { وإني سميتها مريم } فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا وقد حكي مقررا وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال [ ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم ] أخرجاه وكذلك ثبت فيهما : [ أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فحنكه وسماه عبد الله ] وفي صحيح البخاري : [ أن رجلا قال : يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه ؟ قال : أسم ولدك عبد الرحمن ] وثبت في الصحيح أيضا : [ أنه لما جاءه أبو أسيد بابنه ليحنكه فذهل عنه فأمر به أبوه فرده إلى منزلهم فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم في المجلس سماه المنذر ] فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ كل غلام رهين بعقيقته يذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه ] فقد رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي بهذا اللفظ وروي : ويدمى وهو أثبت وأحفظ والله أعلم
وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عق عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسماه إبراهيم ] فإسناده لا يثبت وهو مخالف لما في الصحيح ولو صح لحمل على أنه أشهر اسمه بذلك يومئذ والله أعلم وقوله إخبارا عن أم مريم أنها قالت { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } أي عوذتها بالله عز و جل من شر الشيطان وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام فاستجاب الله لها ذلك كما قال عبد الرزاق : [ أنبأنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مسه إياه إلا مريم وابنها ] ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه وروى من حديث قيس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ورواه مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي يونس عن أبي هريرة ورواه ابن وهب أيضا عن ابن أبي ذئب عن عجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة ورواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بأصل الحديث وهكذا رواه الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال : قال أبوهريرة : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ] (1/478)
يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة وأنه { أنبتها نباتا حسنا } أي جعلها شكلا مليحا ومنظرا بهيجا ويسر لها أسباب القبول وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين فلهذا قال { وكفلها زكريا } وفي قراءة : { وكفلها زكريا } بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية أي جعله كافلا لها قال ابن إسحاق : وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة وذكر غيره : أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب فكفل زكريا مريم لذلك ولا منافاة بين القولين والله أعلم وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما وقيل : زوج أختها كما ورد في الصحيح فاذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضا توسعا فعلى هذا كانت في حضانة خالتها وقد ثبت في الصحيح [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال الخالة بمنزلة الأم ] ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها فقال { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا } قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والربيع بن أنس وعطية العوفي والسدي : يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وعن مجاهد { وجد عندها رزقا } أي علما أو قال : صحفا فيها علم رواه ابن أبي حاتم والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء وفي السنة لهذا نظائر كثيرة فإذا رأى زكريا هذا عندها { قال يا مريم أنى لك هذا } أي يقول من أين لك هذا ؟ { قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سهل بن زنجلة حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا عبد الله بن لهيعة عن محمد بن المنكدر عن جابر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال : يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع ؟ قالت : لا والله ـ بأبي أنت وأمي فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجع إليها فقالت له : بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك قال : هلمي يا بنية قالت : فأتيته بالجفنة فكشف عنها فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهت وعرفت أنها بركة من الله فحمدت الله وصليت على نبيه وقدمته إلى رسول الله فلما رآه حمد الله وقال : من أين لك هذا يا بنية ؟ قالت : يا أبت { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } فحمد الله وقال : الحمد الله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا وسئلت عنه قالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى علي ثم أكل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعا قالت : وبقيت الجفنة كما هي قالت : فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا ] (1/479)
لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء طمع حينئذ في الولد وكان شيخا كبيرا قد وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبا وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرا لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفيا وقال { رب هب لي من لدنك } أي من عندك { ذرية طيبة } أي ولدا صالحا { إنك سميع الدعاء } قال تعالى : { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } أي خاطبته الملائكة شفاها خطابا أسمعته وهو قائم يصلي في محراب عبادته ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة { أن الله يبشرك بيحيى } أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى قال قتادة وغيره : إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان وقوله { مصدقا بكلمة من الله } روى العوفي وغيره عن ابن عباس وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيره في هذه الاية { مصدقا بكلمة من الله } أي بعيسى ابن مريم وقال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى ابن مريم وقال قتادة : وعلى سننه ومنهاجه وقال ابن جريج : قال ابن عباس في قوله { مصدقا بكلمة من الله } قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى تصديقه له في بطن أمه وهو أول من صدق عيسى وكلمة الله عيسى وهو أكبر من عيسى عليه السلام وهكذا قال السدي أيضا
قوله : { وسيدا } قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم : الحكيم قال قتادة : سيدا في العلم والعبادة وقال ابن عباس والثوري والضحاك : السيد الحكيم التقي قال سعيد بن المسيب : هو الفقيه العالم وقال عطية : السيد في خلقه ودينه وقال عكرمة : هو الذي لا يغلبه الغضب وقال ابن زيد : هو الشريف وقال مجاهد وغيره : هو الكريم على الله عز و جل
وقوله : { وحصورا } روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وعطية العوفي أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له وقال الضحاك : هو الذي لا ولد له ولا ماء له وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أنبأنا جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس في الحصور : الذي لا ينزل الماء وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبا جدا فقال : حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي حدثني سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن ابن العاص ـ لا يدري عبد الله أو عمرو ـ [ عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { وسيدا وحصورا } قال : ثم تناول شيئا من الأرض فقال كان ذكره مثل هذا ] ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه سمع سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ثم قرأ سعيد { وسيدا وحصورا } ثم أخذ شيئا من الأرض فقال : الحصور من كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف أصبعه السبابة فهذا موقوف أصح إسنادا من المرفوع بل وفي صحة المرفوع نظر والله أعلم ورواه ابن المنذر في تفسيره : حدثنا أحمد بن داود السمناني حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا فإن الله يقول { وسيدا وحصورا } قال : وإنما ذكره مثل هدبة الثوب وأشار بأنملته ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد ومحمد بن سلمة المرادي قالا : حدثنا حجاج بن سليمان المقري عن الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل ابن آدم يلقى الله بذنب يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ثم أهوى النبي صلى الله عليه و سلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : وكان ذكره مثل هذه القذاة ]
وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان { حصورا } ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوبا أو لا ذكر له بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا : هذه نقيصة وعيب ولا تليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصر عنها وقيل مانعا نفسه من الشهوات وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز و جل كيحيى عليه السلام ثم هي في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة عليا وهي درجة نبينا صلى الله عليه و سلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال : [ حبب إلي من دنياكم ] هذا لفظه والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هب لي من لدنك ذرية طيبة } كأنه قال : ولدا له ذرية ونسل وعقب والله سبحانه وتعالى أعلم
وقوله : { ونبيا من الصالحين } هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته وهي أعلى من الأولى كقوله لأم موسى { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر { قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال } أي الملك { كذلك الله يفعل ما يشاء } أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر { قال رب اجعل لي آية } أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح كما في قوله : { ثلاث ليال سويا } ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال فقال تعالى : { واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم إن شاء الله تعالى (1/480)
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس واصطفاها ثانيا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : { إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين } قال : كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناء على ولد في صغره ورعاة على زوج في ذات يده ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط ] ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد ] أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام به مثله وقال الترمذي : حدثنا أبو بكر بن زنجويه حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون ] تفرد به الترمذي وصححه قال عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه قال : كان ثابت البناني يحدث عن أنس بن مالك [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت رسول الله ] رواه ابن مردويه وروى ابن مردويه من طريق شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث : مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا آدم العسقلاني حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة سمعت مرة الهمداني يحدث عن أبي موسى الأشعري قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ] وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن شعبة به ولفظ البخاري [ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليه السلام في كتابنا البداية والنهاية ولله الحمد والمنة ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة حيث خلق منها ولدا من غير أب فقال تعالى : { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى : { بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون } وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة ] ورواه ابن جرير من طريق ابن لهيعة عن دراج به وفيه نكارة وقال مجاهد : كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها والقنوت هو طول الركود في الصلاة يعني امتثالا لقول الله تعالى : { يا مريم اقنتي لربك } قال الحسن : يعني اعبدي لربك { واسجدي واركعي مع الراكعين } أي كوني منهم وقال الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة حتى نزل الماء الأصفر في قدميها رضي الله عنها وأرضاها وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكديمي وفيه مقال : حدثنا علي بن بحر بن بري حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير في قوله { يا مريم اقنتي لربك واسجدي } قال : سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا ضمرة عن ابن شوذب قال : كانت مريم عليها السلام تغتسل في كل ليلة ثم قال تعالى لرسوله بعد ما أطلعه على جلية الأمر { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } أي نقصه عليك { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } أي ما كنت عندهم يا محمد فتخبرهم عنهم معاينة عما جرى بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها وذلك لرغبتهم في الأجر قال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة أنه أخبره عن عكرمة و أبي بكر عن عكرمة قال : ثم خرجت بها يعني أم مريم بمريم تحملها في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام قال : وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض وأنا لا أردها إلى بيتي فقالوا : هذه ابنة إمامنا وكان عمران يؤمهم في الصلاة وصاحب قرباننا فقال زكريا : ادفعوها لي فإن خالتها تحتي فقالوا : لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا فكفلها وقد ذكر عكرمة أيضا و السدي وقتادة والريبع بن أنس وغير واحد دخل حديث بعضهم في بعض أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ويقال إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين (1/482)
هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها السلام بأن سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير قال الله تعالى : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له : كن فيكون وهذا تفسير قوله : { مصدقا بكلمة من الله } كما ذكر الجمهور على ما سبق بيانه { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } أي يكون مشهورا بهذا في الدينا ويعرفه المؤمنون بذلك وسمي المسيح قال بعض السلف : لكثرة سياحته وقيل : لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما وقيل : لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برىء بإذن الله تعالى وقوله : { عيسى ابن مريم } نسبة إلى أمه حيث لا أب له { وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين } أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به وفي الدار الاخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله : { ويكلم الناس في المهد وكهلا } أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره معجزة وآية وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه بذلك { ومن الصالحين } أي في قوله وعمله له علم صحيح وعمل صالح قال محمد بن إسحاق : عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن شرحبيل عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تكلم مولود في صغره إلا عيسى وصاحب جريج ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قزعة حدثنا الحسين يعني المروزي حدثنا جرير يعني ابن حازم عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى وصبي كان في زمن جريج وصبي آخر ] فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عز و جل قالت في مناجاتها { رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ } تقول كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج ولست بغيا حاشا لله ؟ فقال لها الملك عن الله عز و جل في جواب ذلك السؤال { كذلك الله يخلق ما يشاء } أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء وصرح ههنا بقوله : { يخلق ما يشاء } ولم يقل : يفعل كما في قصة زكريا بل نص ههنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة وأكد ذلك بقوله : { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } أي فلا يتأخر شيئا بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة كقوله : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح بالبصر (1/484)
يقول تعالى مخبرا عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام : أن الله يعلمه { الكتاب والحكمة } الظاهر أن المراد بالكتاب ههنا الكتابة والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة و { التوراة والإنجيل } فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران والإنجيل الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليهما السلام وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا وهذا وقوله : { ورسولا إلى بني إسرائيل } أي يجعله رسولا إلى بني إسرائيل قائلا لهم { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله } وكذلك كان يفعل يصور من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن الله عز و جل الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله { وأبرئ الأكمه } قيل : أنه الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا وقيل بالعكس وقيل : الأعشى وقيل الأعمش وقيل : هو الذي يولد أعمى وهو أشبه لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي { والأبرص } معروف { وأحيي الموتى بإذن الله } قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الايات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد أو على مداواة الأكمه والأبرص وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد وكذلك محمد صلى الله عليه و سلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء فأتاهم بكتاب من الله عز و جل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وما ذاك إلا لأن كلام الرب عز و جل لا يشبه كلام الخلق أبدا وقوله : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } أي أخبركم بما أكل أحدكم الان وما هو مدخر له في بيته لغد { إن في ذلك } أي في ذلك كله { لآية لكم } أي على صدقي فيما جئتكم به { إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة } أي مقررا لها ومثبتا { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ فكشف لهم عن المغطى في ذلك كما قال في الاية الأخرى { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } والله أعلم ثم قال { وجئتكم بآية من ربكم } أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم { فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه } أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه { هذا صراط مستقيم } (1/485)
يقول تعالى : { فلما أحس عيسى } أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال { قال من أنصاري إلى الله } قال مجاهد : أي من يتبعني إلى الله وقال سفيان الثوري وغيره : أي من أنصاري مع الله وقول مجاهد : أقرب والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله ؟ كما [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه وهاجر إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر رضي الله عنهم وأرضاهم ] وهكذا عيسى ابن مريم عليه السلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ولهذا قال الله تعالى مخبرا عنهم { قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } الحواريون قيل : كانوا قصارين وقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم وقيل : صيادين والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لكل نبي حواري وحواريي الزبير ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { فاكتبنا مع الشاهدين } قال : مع أمة محمد صلى الله عليه و سلم وهذا إسناد جيد ثم قال تعالى مخبرا عن ملإ بني إسرائيل فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام وإرادته بالسوء والصلب حين تمالؤوا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان وكان كافرا أن هنا رجلا يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك ويفسد الرعايا ويفرق بين الأب وابنه إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب وأنه ولد زنية حتى استثاروا غضب الملك فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به نجاه الله تعالى من بينهم ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى فأخذوه وأهانوه وصلبوه ووضعوا على رأسه الشوك وكان هذا من مكر الله بهم فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم وتركهم في ضلالهم يعمهون يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد ولهذا قال تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } (1/486)
اختلف المفسرون في قوله تعالى : { إني متوفيك ورافعك إلي } فقال قتادة وغيره : هذا من المقدم والمؤخر تقديره إني رافعك إلي ومتوفيك يعني بعد ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إني متوفيك أي مميتك وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه قال : توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه قال ابن إسحاق : والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه وقال إسحاق بن بشر عن إدريس عن وهب : أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه وقال مطر الوراق : إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه وقال الأكثرون : المراد بالوفاة ههنا ـ النوم كما قال تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } الاية وقال تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } الاية وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يقول إذا قام من النوم : الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا ] الحديث وقال تعالى : { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } والضمير في قوله { قبل موته } عائد على عيسى عليه السلام أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه حدثنا الربيع بن أنس عن الحسن أنه قال في قوله تعالى : { إني متوفيك } يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه قال الحسن : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لليهود إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة ] وقوله تعالى : { ومطهرك من الذين كفروا } أي برفعي إياك إلى السماء { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعا بعده فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله وآخرون قالوا : هو الله وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ورد على كل فريق فاستمروا على ذلك قريبا من ثلثمائة سنة ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين فدخل في دين النصرانية قيل : حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفا وقيل : جهلا منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه وزاد فيه ونقص منه ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة وأحل في زمانه لحم الخنزير وصلوا له إلى المشرق وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد وبنى المدينة المنسوبة إليه واتبعه الطائفة الملكية منهم وهم في هذا كله قاهرون لليهود أيدهم الله عليهم لأنهم أقرب إلى الحق منهم وإن كان الجميع كفارا عليهم لعائن الله فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مع ما قد حرفوا وبدلوا ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة ولا يزال قائما منصورا ظاهرا على كل دين فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها واجتازوا جميع الممالك ودانت لهم جميع الدول وكسروا كسرى وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عز و جل في قوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } الاية فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا سلبوا النصارى بلاد الشام وألجؤوهم إلى الروم فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة وقد أخبر الصادق الصدوق صلى الله عليه و سلم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدا لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها وقد جمعت في هذا جزءا مفردا ولهذا قال تعالى : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين } وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الاخرة عذابهم أشد وأشق { وما لهم من الله من واق } { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } أي في الدنيا والاخرة في الدنيا بالنصر والظفر وفي الاخرة بالجنات العاليات { والله لا يحب الظالمين }
ثم قال تعالى : { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفيه أمره وهو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ فلا مرية فيه ولا شك كما قال تعالى في سورة مريم { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وههنا قال تعالى : ) (1/487)
يقول جل وعلا : { إن مثل عيسى عند الله } في قدرة الله حيث خلقه من غير أب { كمثل آدم } حيث خلقه من غير أب ولا أم بل { خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقا من غير أب فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ولهذا قال تعالى في سورة مريم { ولنجعله آية للناس } وقال ههنا : { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه وماذا بعد الحق إلا الضلال ثم قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه و سلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي نحضرهم في حال المباهلة { ثم نبتهل } أي نلتعن { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } أي منا أو منكم
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد نصارى نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم : العاقب واسمه عبد المسيح والسيد وهو الأيهم و أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل وأويس بن الحارث وزيد وقيس ويزيد ونبيه وخويلد وعمرو وخالد وعبد الله ويحنس وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم و أبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال : قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب قال : يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم : وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوهم فصلوا إلى المشرق قال : فكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم أبو حارثة بن علقمة و العاقب عبد المسيح و السيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون : هو الله ويقولون : هو ولد الله ويقولون : هو ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وكذلك قول النصرانية فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا وذلك كله بأمر الله وليجعله الله آية للناس ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله يقولون : لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ـ وفي كل ذلك من قولهم : قد نزل القرآن فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم أسلما قالا : قد أسلمنا قال : إنكما لم تسلما فأسلما قالا : بلى قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير قالا : فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهما فلم يجبهما فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها فرحت إلى الظهر مهجرا فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال : اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه ] قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر نحوه إلا أنه قال في الأشراف : كانوا اثني عشر وذكر بقيته بأطول من هذا السياق وزيادات أخر
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين حدثنا يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه قال : [ جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدان أن يلاعناه قال : فقال : أحدهما لصاحبه : لا تفعل فو الله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال : لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا أمين هذه الأمة ] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة عن حذيفة بنحوه وقد رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن صلة عن ابن مسعود بنحوه وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن خالد عن أبي قلابة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قال لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح ] وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو جهل قبحه الله إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لاتينه حتى أطأ على رقبته قال : فقال لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه و سلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم به وقال الترمذي : حسن صحيح
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جدا ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة وفيه غرابة وفيه مناسبة لهذا المقام قال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل قالا : حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده قال يونس ـ وكان نصرانيا فأسلم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان [ باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران أسلم أنتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام ] فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به وذعره ذعرا شديدا وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى شرحبيل فقرأه فقال الأسقف : يا أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل ليس لي في أمر النبوة رأي ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك فقال الأسقف : تنح فاجلس فتنحى شرحبيل فجلس ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل فقال له الأسقف : تنح فاجلس فتنحى عبد الله فجلس ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ورفعت النيران والمسوح في الصوامع وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وسألهم عن الرأي فيه فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدنية وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلموا عليه فلم يرد عليهم وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم ثم قال [ والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم ثم سألهم سألوة فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الاية { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه : لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعنا في عينيه وردا عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك فقال له صاحباه : فما الرأي يا أبا مريم ؟ فقال : أرى أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا : له : أنت وذاك قال : فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك فقال : وما هو ؟ فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعل وراءك أحدا يثرب عليك ؟ فقال شرحبيل : سل صاحبي فسألهما فقالا : ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران ـ إن كان عليهم حكمه ـ في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة ] وذكر تمام الشروط وبقية السياق
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح وهي قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الاية وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه و سلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ والذي بعثني بالحق لو قالا : لا لأمطر عليهم الوادي نارا ] قال جابر وفيهم نزلت { ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } قال جابر { أنفسنا وأنفسكم } رسول الله صلى الله عليه و سلم و علي بن أبي طالب { أبناءنا } الحسن والحسين { ونساءنا } فاطمة وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى عن أحمد بن محمد الأزهري عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند به بمعناه ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه هكذا قال وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا وهذا أصح وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك ثم قال الله تعالى : { إن هذا لهو القصص الحق } أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد { وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا } أي عن هذا إلى غيره { فإن الله عليم بالمفسدين } أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته (1/489)
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة } والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال ههنا ثم وصفها بقوله { سواء بيننا وبينكم } أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها ثم فسرها بقوله : { أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له وهذه دعوة جميع الرسل قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ثم قال تعالى { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } قال ابن جريج : يعني يطيع بعضنا بعضا في معصية الله وقال عكرمة : يسجد بعضنا لبعض { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فأشهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم وقد ذكرنا في شرح البخاري عند روايته من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه فأخبره بجميع ذلك على الجلية مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مشركا لم يسلم بعد وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح كما هو مصرح به في الحديث ولأنه لما سأله : هل يغدر ؟ قال : فقلت : لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال : ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه والغرض أنه قال : ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأه فإذا فيه :
[ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } ]
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران وقال الزهري : هم أول من بذل الجزية ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح فما الجمع بين كتابة هذه الاية قبل الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجوه ( أحدها ) يحمتل أن هذه الاية نزلت مرتين مرة قبل الحديبية ومرة بعد الفتح ( الثاني ) يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى هذه الاية وتكون هذه الاية نزلت قبل ذلك ويكون قول ابن إسحاق : إلى بضع وثمانين آية ليس بمحفوظ لدلالة حديث أبي سفيان ( الثالث ) يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية وأن الذي بذلوه مصالحة عن المباهلة لا على وجه الجزية بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة أخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك ( الرابع ) يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أمر بكتب هذا في كتابه إلى هرقل لم يكن أنزل بعد ثم أنزل القرآن موافقة له صلى الله عليه و سلم كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب في الحجاب وفي الأسارى وفي عدم الصلاة على المنافقين وفي قوله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وفي قوله : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } الاية (1/494)
ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه السلام ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم كما قال محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى : { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } الاية أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديا وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى ؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر ؟ ولهذا قال تعالى : { أفلا تعقلون } ثم قال تعالى : { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } الاية هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه و سلم لكان أولى بهم وإنما تكلموا فيما لا يعلمون فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها ولهذا قال تعالى : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ثم قال تعالى : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } أي متحنفا عن الشرك قاصدا إلى الإيمان { وما كان من المشركين } وهذه الاية كالتي تقدمت في سورة البقرة { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } الاية ثم قال تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } يقول تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه وهذا النبي يعني محمدا صلى الله عليه و سلم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عز و جل ] ثم قرأ { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } الاية وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن أبيه به ثم قال البزار : ورواه غير أبي أحمد عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن عبد الله ولم يذكر مسروقا وكذا رواه الترمذي من طريق وكيع عن سفيان ثم قال : وهذا أصح لكن رواه وكيع في تفسيره فقال : حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود قال قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عز و جل إبراهيم عليه السلام ] ثم قرأ { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } الاية قوله { والله ولي المؤمنين } أي ولي جميع المؤمنين برسله (1/495)
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبغيهم إياهم الإضلال وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم ثم قال تعالى منكرا عليهم { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه و سلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } الاية هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح فإذا جاء النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس : إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيضة وعيب في دين المسلمين ولهذا قالوا { لعلهم يرجعون } وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد في قوله تعالى إخبارا عن اليهود بهذه الاية يعني يهودا صلت مع النبي صلى الله عليه و سلم صلاة الصبح وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه وقال العوفي عن ابن عباس : قالت طائفة من أهل الكتاب : إذ لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك
وقوله تعالى : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أي لا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم قال الله تعالى : { قل إن الهدى هدى الله } أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم من الايات البينات والدلائل القاطعات والحجج الواضحات وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين وقوله { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم } يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم ويساووكم فيه ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به أو يحاجوكم به عند ربكم أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وتتركب الحجة في الدنيا والاخرة قال الله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته ويختم على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة وله الحجة التامة والحكمة البالغة { والله واسع عليم * يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يحد ولا يوصف بما شرف به نبيكم محمدا صلى الله عليه و سلم على سائر الأنبياء وهداكم به إلى أكمل الشرائع (1/496)
يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم فإن منهم { من إن تأمنه بقنطار } أي من المال { يؤده إليك } أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليه { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما } أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليه وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة وأما الدينار فمعروف وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية عن زياد بن الهيثم حدثنا مالك بن دينار قال : إنما سمي الدينار لأنه دين ونار وقيل : معناه من أخذه بحقه فهو دينه ومن أخذه بغير حقه فله النار ومناسب أن يذكر ههنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من صحيحه ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال : وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بالشهداء أشهدهم فقال : كفى بالله شهيدا قال : ائتني بالكفيل قال : كفى بالله كفيلا قال : صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يركبها ليقدم عليه في الأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر فقال : اللهم إنك تعلم أني استسلفت فلانا ألف دينار فسألني شهيدا فقلت : كفى بالله شهيدا وسألني كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا فرضي بذلك وأني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه لينظر لعل مركبا يجيئه بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال : والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لاتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال : هل كنت بعثت إلي بشيء ؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بألف دينار راشدا ] هكذا رواه البخاري في موضع معلقا بصيغة الجزم وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولا عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث به ورواه البزار في مسنده عن الحسن بن مدرك عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ثم قال : لا يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد كذا قال وهو خطأ لما تقدم وقوله { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون : ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب فإن الله قد أحلها لنا قال الله تعالى : { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } أي وقد اختلقوا هذه المقالة وائتفكوا بهذه الضلالة فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بهت قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة بن يزيد أن رجلا سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة قال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال : نقول ليس علينا بذلك بأس قال هذا كما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأميين سبيل } إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم وكذا رواه الثوري عن أبي إسحاق بنحوه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا يعقوب حدثنا جعفر عن سعيد بن جبير قال : لما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأميين سبيل } قال نبي الله صلى الله عليه و سلم [ كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ] ثم قال تعالى : { بلى من أوفى بعهده واتقى } أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم إذا بعث كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك واتقى محارم الله واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم { فإن الله يحب المتقين } (1/497)
يقول تعالى : إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه من اتباع محمد صلى الله عليه و سلم وذكر صفته للناس وبيان أمره وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الاثمة بالأثمان القليلة الزهيدة وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } أي برحمة منه لهم يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة { ولا يزكيهم } أي من الذنوب والأدناس بل يأمر بهم إلى النار { ولهم عذاب أليم } وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الاية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر
( الحديث الأول ) قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا شعبة قال علي بن مدرك : أخبرني قال سمعت أبا زرعة عن خرشة بن الحر عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت : يا رسول الله من هم ؟ خسروا وخابوا قال : وأعاده رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات قال المسبل والمنفق سلعته بالحلف والكاذب والمنان ] ورواه مسلم وأهل السنن من حديث شعبة به
( طريق أخرى ) قال أحمد : حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي العلاء بن الشخير عن أبي الأحمس قال : لقيت أبا ذر فقلت له : بلغني عنك أنك تحدث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أما إنه لا يخالني أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم بعدما سمعته منه فما الذي بلغك عني ؟ قلت : بلغني أنك تقول : ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله قال : قلته وسمعته قلت : فمن هؤلاء الذين يحبهم الله ؟ قال : [ الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون فيتنحى أحدهم يصلي حتى يوقظهم لرحيلهم والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن قلت : من هؤلاء الذين يشنؤهم الله ؟ قال : التاجر الحلاف ـ أو قال : البائع الحلاف والفقير المختال والبخيل المنان ] غريب من هذا الوجه
( الحديث الثاني ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن جربر بن حازم حدثنا عدي بن عدي أخبرني رجاء بن حيوة والعرس بن عميرة عن أبيه عدي هو ابن عميرة الكندي قال : خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس رجلا من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أرض فقضى على الحضرمي بالبينة فلم يكن له بينة فقضى على امرىء القيس باليمين فقال الحضرمي : إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز و جل وهو عليه غضبان قال رجاء : وتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله ؟ فقال الجنة قال : فاشهد أني قد تركتها له كلها ] ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي به
( الحديث الثالث ) قال أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقى الله عز و جل وهو عليه غضبان ] فقال الأشعث : في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألك بينة ؟ قلت : لا فقال لليهودي : احلف فقلت : يا رسول الله إذا يحلف فيذهب مالي ] فأنزل الله عز و جل : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الاية أخرجاه من حديث الأعمش
( طريق أخرى ) قال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق بن سلمة حدثنا عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان قال : فجاء الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه فقال : في كان هذا الحديث خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في بئر كانت لي في يده فجحدني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه قال : قلت : يا رسول الله ما لي بينة وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان قال : وقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الاية : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الاية ]
( الحديث الرابع ) قال أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان قال : حدثنا رشدين عن زبان عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قال إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم قيل : ومن أولئك يا رسول الله ؟ قال متبري من والديه راغب عنهما ومتبرىء من ولده ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم ]
( الحديث الخامس ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا هشيم أنبأنا العوام يعني ابن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن يعني السكسكي عن عبد الله ابن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الاية : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الاية ورواه البخاري من غير وجه عن العوام
( الحديث السادس ) قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ورجل حلف على سلعة بعد العصر يعني كاذبا ورجل بايع إماما فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له ] ورواه أبو داود والترمذي من حديث وكيع وقال الترمذي : حديث حسن صحيح (1/498)
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ولهذا قال الله تعالى : { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } وقال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس { يلوون ألسنتهم بالكتاب } يحرفونه وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيدون وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله لكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله وقال وهب بن منبه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله } فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول رواه ابن أبي حاتم فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش وهو من باب تفسير المعرب المعبر وفهم كثير منهم بل أكثرهم بل جميعهم فاسد وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه عنده فتلك كما قال : محفوظة لم يدخلها شيء (1/500)
قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي : حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أوذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ] أو كما قال صلى الله عليه و سلم : فأنزل الله في ذلك من قولهما : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة أن يقول للناس اعبدوني من دون الله أي مع الله فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم كما قال الله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } الاية وفي المسند والترمذي كما سيأتي أن عدي بن حاتم قال : [ يا رسول الله ما عبدوهم قال : بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ] فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة فقاموا بذلك أتم القيام ونصحوا الخلق وبلغوهم الحق وقوله : { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } أي ولكن يقول الرسول للناس كونوا ربانيين قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحد : أي حكماء علماء حلماء وقال الحسن وغير واحد : فقهاءو وكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني وعطية العوفي والربيع بن أنس وعن الحسن أيضا : يعني أهل عبادة وأهل تقوى وقال الضحاك في قوله : { بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } : حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيها { تعلمون } أي تفهمون معناه وقرىء { تعلمون } بالتشديد من التعليم { وبما كنتم تدرسون } تحفظون ألفاظه ثم قال الله تعالى : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله : لا نبي مرسل ولا ملك مقرب { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } الاية وقال { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال إخبارا عن الملائكة { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } (1/501)
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام لمهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثم جاءه رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ولهذا قال تعالى وتقدس { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة } أي لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } وقال ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة والسدي يعني عهدي وقال محمد بن إسحاق ( إصري ) أي ثقل ما حملتم من عهدي أي ميثاقي الشديد المؤكد { قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك } أي عن هذا العهد والميثاق { فأولئك هم الفاسقون } قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به وينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقال طاوس والحسن البصري وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه مثل قول علي وابن عباس وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أنبأنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت قال : [ جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني مررت بأخ لي يهودي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال فتغير وجه رسول صلى الله عليه و سلم قال عبد الله بن ثابت قلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا بالإسلام دينا وبمحمد رسولا قال : فسري عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال : والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين ]
( حديث آخر ) قال الحافظ أبو بكر : حدثنا إسحاق حدثنا حماد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ] وفي بعض الأحاديث [ لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي ] فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب طاعته المقدم على الأنبياء كلهم ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه (1/502)
يقول تعالى منكرا على من أراد دينا سوى دين الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي { له أسلم من في السموات والأرض } أي استسلم له من فيهما طوعا وكرها كما قال تعالى : { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها } الاية وقال تعالى : { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله والكافر مستسلم لله كرها فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع وقد ورد حديث في تفسير هذه الاية على معنى آخر فيه غرابة فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن النضر العسكري حدثنا سعيد بن حفص النفيلي حدثنا محمد بن محصن العكاشي حدثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه و سلم { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } [ أما من في السموات فالملائكة وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام وأما كرها فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون ] وقد ورد في الصحيح [ عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل ] وسيأتي له شاهد من وجه آخر ولكن المعنى الأول للاية أقوى وقد قال وكيع في تفسيره حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } قال : هو كقوله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } وقال أيضا : حدثنا سفيان عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } قال : حين أخذ الميثاق { وإليه يرجعون } أي يوم المعاد فيجازي كلا بعمله ثم قال تعالى : { قل آمنا بالله وما أنزل علينا } يعني القرآن { وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب } أي من الصحف والوحي { والأسباط } وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ الاثني عشر { وما أوتي موسى وعيسى } يعني بذلك التوراة والإنجيل { والنبيون من ربهم } وهذا يعم جميع الأنبياء جملة { لا نفرق بين أحد منهم } يعني : بل نؤمن بجميعهم { ونحن له مسلمون } فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل وبكل كتاب أنزل لا يكفرون بشيء من ذلك بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله وبكل نبي بعثه الله
ثم قال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } الاية أي من سلك طريقا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه { وهو في الآخرة من الخاسرين } كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ تجىء الأعمال يوم القيامة فتجىء الصلاة فتقول : يا رب أنا الصلاة فيقول إنك على خير وتجيء الصدقة فتقول : يا رب أنا الصدقة فيقول إنك على خير ثم يجي الصيام فيقول : يا رب أنا الصيام فيقول : إنك على خير ثم تجىء الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى : إنك على خير ثم يجىء الإسلام فيقول : يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله تعالى : إنك على خير بك اليوم آخذ وبك أعطى قال الله في كتابه { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } ] تفرد به أحمد قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد : عباد بن راشد ثقة ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة (1/503)
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن ابي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله هل لي من توبة ؟ فنزلت { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين * أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } فأرسل إليه قومه فأسلم وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال عبد الرزاق : أنبأنا جعفر بن سليمان حدثنا حميد الأعرج عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين * أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك ـ والله ما علمت ـ لصدوق وإن رسول الله لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه فقوله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات } أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعدما تلبسوا به من العماية ولهذا قال تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } ثم قال تعالى { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } أي يلعنهم الله ويلعنهم خلقه { خالدين فيها } أي في اللعنة { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ثم قال تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه تاب عليه (1/504)
يقول تعالى متوعدا ومهددا لمن كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا أي استمر عليه إلى الممات ومخبرا بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات كما قال تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت } الاية ولهذا قال ههنا { لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون } أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أن قوما أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الاية : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } وهكذا رواه وإسناده جيد ثم قال تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة كما سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن عبد الله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام : هل ينفعه ذلك ؟ فقال [ لا إنه لم يقل يوما من الدهر : ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] وكذلك لو افتدى بملء الأرض ذهبا ما قبل منه كما قال تعالى : { ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة } وقال { لا بيع فيه ولا خلال } وقال { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم } ولهذا قال تعالى ههنا : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } فعطف { ولو افتدى } به على الأول فدل على أنه غيره وما ذكرناه أحسن من أن يقال : أن الواو زائدة والله أعلم ويقتضي ذلك أن لا ينقذه من عذاب الله شيء ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهبا ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك ] وهكذا أخرجه البخاري ومسلم
( طريق أخرى ) وقال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي رب خير منزل فيقول : سل وتمن فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار لما يرى من فضل الشهادة ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : يا رب شر منزل فيقول له : تفتدى مني بطلاع الأرض ذهبا ؟ فيقول : أي رب نعم فيقول : كذبت قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار ] ولهذا قال { أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين } أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه (1/505)
روى وكيع في تفسيره عن شريك عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون { لن تنالوا البر } قال : الجنة وقال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة سمع أنس بن مالك يقول : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه و سلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس : فلما نزلت { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين ] فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه أخرجاه وفي الصحيحين أن عمر [ قال يا رسول الله لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر فما تأمرني به ؟ قال : حبس الأصل وسبل الثمرة ] وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو عن أبي عمرو بن حماس عن حمزة بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله : حضرتني هذه الاية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحب إلي من جارية لي رومية فقلت : هي حرة لوجه الله فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها يعني تزوجتها (1/506)
قال الإمام أحمد : حدثنا هشام بن القاسم حدثنا عبد الحميد حدثنا شهر قال : قال ابن عباس [ حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي قال : سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام قالوا : فذلك لك قال : فسلوني عما شئتم قالوا : اخبرنا عن أربع خلال : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه فقال : أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا وطال سقمه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها ؟ فقالوا : اللهم نعم : قال : اللهم اشهد عليهم وقال أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله ؟ قالوا : نعم قال : اللهم اشهد عليهم وقال : أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه ؟ قالوا : اللهم نعم قال : اللهم اشهد قالوا : وأنت الان فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك ونفارقك قال : إن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه قالوا : فعندها نفارقك لو كان وليك غيره لتابعناك ] فعند ذلك قال الله تعالى : { قل من كان عدوا لجبريل } الاية ورواه أحمد أيضا عن حسين بن محمد عن عبد الحميد به
( طريق أخرى ) قال أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أ [ قبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال { والله على ما نقول وكيل } قال هاتوا قالوا : أخبرنا عن علامة النبي قال : تنام عيناه ولا ينام قلبه قالوا : أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر ؟ قال : يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت وإذا علا ماء المرأة أنثت قالوا : أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال : كان يشتكي عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا ـ قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل ـ فحرم لحومها قالوا : صدقت قالوا : أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال : ملك من ملائكة الله عز و جل موكل بالسحاب بيده ـ أو في يديه ـ مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله عز و جل قالوا : فما هذا الصوت الذي يسمع ؟ قال صوته قالوا صدقت إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : جبريل عليه السلام قالوا : جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان ] فأنزل الله تعالى : { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين } والاية بعدها وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد العجلي به نحوه وقال الترمذي : حس غريب وقال ابن جريج والعوفي عن ابن عباس : كان إسرائيل عليه السلام ـ وهو يعقوب ـ يعتريه عرق النسا بالليل وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ويقلع الوجع عنه بالنهار فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عرقا ولا يأكل ولد ما له عرق وهكذا قال الضحاك والسدي كذا رواه وحكاه ابن جرير في تفسيره قال : فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استنانا به واقتداء بطريقه قال : وقوله { من قبل أن تنزل التوراة } أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قلت : ولهذا السياق بعدما تقدم مناسبتان { إحداهما } أن إسرائيل عليه السلام حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله وكان هذا سائغا في شريعتهم فله مناسبة بعد قوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه كما قال تعالى : { وآتى المال على حبه } وقال تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه } الاية
( المناسبة الثانية ) لما تقدم بيان الرد على النصارى واعتقادهم الباطل في المسيح وتبيين زيف ما ذهبوا إليه وظهور الحق واليقين في أمر عيسى وأمه كيف خلقه الله بقدرته ومشيئته وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تبارك وتعالى شرع في الرد على اليهود قبحهم الله تعالى وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها فاتبعه بنوه في ذلك وجاءت التوراة بتحريم ذلك وأشياء أخرى زيادة على ذلك وكان الله عز و جل قد أذن لادم في تزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك بعد ذلك وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم عليه السلام وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغا وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين ثم حرم عليهم ذلك في التوراة وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم وهذا هو النسخ بعينه فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح عليه السلام في إحلاله بعض ما حرم في التوراة فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم من الدين القويم والصراط المستقيم وملة أبيه إبراهيم فما بالهم لا يؤمنون ؟ ولهذا قال تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } أي كان حلا لهم جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه إسرائيل ثم قال تعالى : { قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } فإنها ناطقة بما قلناه { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائما وأنه لم يبعث نبيا آخر يدعو إلى الله بالبراهين والحجج بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرناه { فأولئك هم الظالمون } ثم قال تعالى : { قل صدق الله } أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه و سلم فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم كما قال تعالى : { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وقال تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } (1/506)
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده { للذي ببكة } يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه ولهذا قال تعالى : { مباركا } أي وضع مباركا { وهدى للعالمين } وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال : [ قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال المسجد الحرام قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة قلت : ثم أي ؟ قال : ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد ] وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان عن شريك عن مجالد عن الشعبي عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } قال : كانت البيوت قبله ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله وحدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة قال : قام رجل إلى علي رضي الله عنه فقال : ألا تحدثني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ قال : لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت وقد ذكرنا ذلك مستقصى في أول سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقا والصحيح قول علي رضي الله عنه فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فأمرهما ببناء الكعبة فبناه آدم ثم أمر بالطواف به وقيل له : أنت أول الناس وهذا أول بيت وضع للناس فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف والأشبه والله أعلم أن يكون هذا موقوفا على عبد الله بن عمرو ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب
وقوله تعالى : { للذي ببكة } بكة من أسماء مكة على المشهور قيل : سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون قال قتادة : إن الله بك به الناس جميعا فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها وكذا روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب ومقاتل بن حيان وذكر حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : مكة من الفج إلى التنعيم وبكة من البيت إلى البطحاء وقال شعبة عن المغيرة عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد وكذا قال الزهري وقال عكرمة في رواية و ميمون بن مهران : البيت وما حوله بكة وما وراء ذلك مكة وقال أبو صالح وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : مكة وبكة والبيت العتيق والبيت الحرام والبلد الأمين والمأمون وأم رحم وأم القرى وصلاح والعرش على وزن بدر والقادس لأنها تطهر من الذنوب والمقدسة والناسة بالنون وبالباء أيضا والحاطمة والنساسة والرأس وكوثاء والبلدة والبنية والكعبة
وقوله تعالى : { فيه آيات بينات } أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم وأن الله عظمه وشرفه ثم قال تعالى : { مقام إبراهيم } يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران حيث كان يقف عليه ويناوله إسماعيل وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادتها ههنا و لله الحمد والمنة وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } أي فمنهن مقام إبراهيم والمشعر وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة وكذا روى عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
( وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد وعمرو الأودي قالا : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى : { مقام إبراهيم } قال : الحرم كله مقام إبراهيم ولفظ عمرو : الحجر كله مقام إبراهيم وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : الحج مقام إبراهيم هكذا رأيته في النسخة ولعله الحجر كله مقام إبراهيم وقد صرح بذلك مجاهد وقوله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو يحيى التيمي عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى { ومن دخله كان آمنا } قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى فإذا خرج أخذ بذنبه وقال الله تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } الاية وقال تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها كما ثبتت الأحاديث والاثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفا ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح فتح مكة ] لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا [ وقال يوم الفتح فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال إلا الإذخر ] ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ولهما واللفظ لمسلم أيضا عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه و سلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال [ إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامريء يؤمن با لله واليوم الاخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ] فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخزية وعن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ لا يحل لأحد كم أن يحمل بمكة السلاح ] رواه مسلم وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو واقف بالحزورة بسوق مكة يقول [ والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ] رواه الإمام أحمد وهذا لفظه و الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي : حسن صحيح وكذا صحح من حديث ابن عباس نحوه وروى أحمد عن أبي هريرة نحوه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان حدثنا أبو عاصم عن زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم حدثني زياد ابن أبي عياش عن يحيى بن جعدة بن هبيرة في قوله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } قال : آمنا من النار وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان حدثنا أحمد بن عبيد حدثنا محمد بن سليمان الواسطي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا ابن المؤمل عن ابن محيصن عن عطاء عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة وخرج مغفورا له ] ثم قال : تفرد به عبد الله بن المؤمل وليس بالقوي وقوله { و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } هذه آية وجوب الحج عند الجمهور وقيل : بل هي قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } والأول أظهر وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ] ورواه مسلم عن زهير بن حرب عن يزيد بن هارون به نحوه وقد روى سفيان بن حسين وسليمان بن كثير وعبد الجليل بن حميد ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري عن أبي سنان الدؤلي واسمه يزيد بن أمية عن ابن عباس رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فهو تطوع ] رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث الزهري به ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه وروي من حديث أسامة بن يزيد
قال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وردان عن علي بن عبد الأعلىلا عن أبيه عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قالوا : [ يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ قال لا ولو قلت نعم لوجبت ] فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وكذا رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث منصور بن وردان به ثم قال الترمذي حسن غريب وفيما قال نظر لأن البخاري قال : لم يسمع أبو البختري من علي وقال ابن ماجه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك قال : قالوا : [ يا رسول الله الحج في كل عام ؟ قال لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها لعذبتم ] وفي الصحيحين من حديث ابن جريج عن عطاء عن جابر عن سراقة بن مالك [ قال يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال لا بل للأبد ] وفي رواية [ بل لأبد أبد ]
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنسائه في حجته [ هذه ثم ظهور الحصر ـ يعني ثم الزمن ظهور الحصر ـ ولا تخرجن من البيوت ] وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعا بنفسه وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا إبراهيم بن يزيد قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما [ قال قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من الحاج يا رسول الله ؟ قال : الشعث التفل فقام آخر فقال : أي الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال : العج والثج فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله ؟ قال : الزاد والراحلة ] وهكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي قال الترمذي : ولا نعرفه إلا من حديثه وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه كذا قال ههنا وقال في كتاب الحج : هذا حديث حس لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث لكن قد تابعه غيره فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي عن محمد بن عباد بن جعفر قال : جلست إلى عبد الله بن عمر قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له : ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة ] وهكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير به ثم قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك وقد روي هذا الحديث من طرق أخرى من حديث أنس وعبد الله بن عباس وابن مسعود وعائشة كلها مرفوعة ولكن في أسانيدها مقال كما هو مقرر في كتاب الأحكام والله أعلم وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سئل عن قول الله عز و جل { من استطاع إليه سبيلا } فقيل : ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة ] ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن [ قال قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فقالوا : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة ] ورواه وكيع في تفسيره عن سفيان عن يونس به وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أنبأنا الثوري عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي عن فضيل يعني ابن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ] وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن مهران بن أبي صفوان عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أراد الحج فليتعجل ] ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي معاوية الضرير به وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله { من استطاع إليه سبيلا } قال : من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلا وعن عكرمة مولاه أنه قال : السبيل الصحة وروى وكيع بن الجراح عن أبي جناب يعني الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال { من استطاع إليه سبيلا } قال الزاد والبعير وقوله تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه وقال سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن عكرمة قال : لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } قالت اليهود : فنحن مسلمون قال الله عز و جل : فاخصمهم فحجهم يعني [ فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلا فقالوا : لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا ] قال الله تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود حدثنا مسلم بن إبراهيم وشاذ بن فياض قالا : حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من ملك زادا وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا ذلك بأن الله قال : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ] ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم به وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة الرازي : حدثنا هلال بن فياض حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني فذكره بإسناده مثله ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القطعي عن مسلم بن إبراهيم عن هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي به وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال و هلال مجهول و الحارث يضعف في الحديث وقال البخاري : هلال هذا منكر الحديث وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث أبي عمرو الأوزاعي : حدثني إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر حدثني عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين (1/508)
هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق وكفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله بما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين والسادة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن وما بشروا به ونوهوا به من ذكر النبي الأمي الهاشمي العربي المكي سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء ورسول رب الأرض والسماء وقد توعدهم الله على ذلك وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود والعناد فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون أي وسيجزيهم على ذلك { يوم لا ينفع مال ولا بنون } (1/514)
يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله وما منحهم به من إرسال رسوله كما قال تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم } الاية وهكذا قال ههنا { إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } ثم قال تعالى : { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } يعني أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلا ونهارا وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم وهذا كقوله تعالى : { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } الاية بعدها وكما جاء في الحديث [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه يوما أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟ قالوا : الملائكة قال : وكيف لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ وذكروا الأنبياء قال وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا : فنحن قال وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ قالوا : فأي الناس أعجب إيمانا ؟ قال قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها ] وقد ذكرت سند هذا الحديث والكلام عليه في أول شرح البخاري ولله الحمد ثم قال تعالى : { ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } أي ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية والعدة في مباعدة الغواية والوسيلة إلى الرشاد وطريق السداد وحصول المراد (1/514)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وشعبة عن زبيد اليامي عن مرة عن عبد الله هو ابن مسعود { اتقوا الله حق تقاته } قال : أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر وهذا إسناد صحيح موقوف وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن زبيد عن مرة عن عبد الله قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { اتقوا الله حق تقاته } : أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى ] وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود مرفوعا فذكره ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال والأظهر أنه موقوف والله أعلم ثم قال ابن أبي حاتم : وروي نحوه عن مرة الهمداني والربيع بن خثيم وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وطاوس والحسن وقتادة وأبي سنان والسدي نحو ذلك وروي عن أنس أنه قال : لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يخزن لسانه وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الاية منسوخة بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { اتقوا الله حق تقاته } قال : لم تنسخ ولكن { حق تقاته } أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وقوله تعالى : { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه فعياذا با لله من خلاف ذلك
قال الإمام أحمد : حدثنا روح حدثنا شعبة قال : سمعت سليمان عن مجاهد : أن الناس كانوا يطوفون بالبيت و ابن عباس جالس معه محجن فقال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ولو أن قطرة من الزقوم قطرت لأمرت على أهل الأرض عيشتهم فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم ؟ ] وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه و الحاكم في مستدركه من طرق عن شعبة به وقال الترمذي : حسن صحيح وقال الحاكم : على شرط الشيخين ولم يخرجاه
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن با لله واليوم الاخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ]
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول قبل موته بثلاث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن با لله عز و جل ] ورواه مسلم من طريق الأعمش به وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه [ قال إن الله قال : أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيرا فله وإن ظن شرا فله ] وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي ]
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الملك القرشي حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت وأحسبه عن أنس قال : [ كان رجل من الأنصار مريضا فجاءه النبي صلى الله عليه و سلم يعوده فوافقه في السوق فسلم عليه فقال له : كيف أنت يا فلان ؟ قال : بخير يا رسول الله أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف ] ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديثه ثم قال الترمذي : غريب وقد رواه بعضهم عن ثابت مرسلا فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا أخر إلا قائما ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة به وترجم عليه فقال ( باب كيف يخر للسجود ) ثم ساقه مثله فقيل : معناه أن لا أموت إلا مسلما وقيل : معناه أن لا أقتل إلا مقبلا غير مدبر وهو يرجع إلى الأول
وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } قيل { بحبل الله } أي بعهد الله كما قال في الاية بعدها { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } أي بعهد وذمة وقيل { بحبل من الله } يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعا في صفة القرآن هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم
وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أسباط بن محمد عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطية عن أبي سعيد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ]
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه ] وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك وقال وكيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين يا عبد الله هذا الطريق هلم إلى الطريق فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن
وقوله : { ولا تفرقوا } أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم ثلاثا : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ] وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا وخيف عليهم الافتراق والاختلاف وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه
وقوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } إلى آخر الاية وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعدواة شديدة وضغائن وإحن وذحول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوى قال الله تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } إلى آخر الاية وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم قسم غنائم حنين فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم في القسم بما أراه الله فخطبهم فقال [ يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي ؟ فكلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن ] وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره : أن هذه الاية نزلت في شأن الأوس والخزرج وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم وتوعدوا إلى الحرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول [ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ وتلا عليهم هذه الاية فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم ] وذكر عكرمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك والله أعلم (1/514)
يقول تعالى : { ولتكن منكم أمة } منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وأولئك هم المفلحون } قال الضحاك : هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء وقال أبو جعفر الباقر : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } ثم قال [ الخير اتباع القرآن وسنتي ] رواه ابن مردويه والمقصود من هذه الاية أن تكون فرقة من هذه الأمةمتصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من رأى منكم منكرأ فيلغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] وفي رواية : [ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان الهاشمي أنبأنا إسماعيل بن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ] ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن أبي عمرو به وقال الترمذي : حسن والأحاديث في هذا الباب كثيرة مع الايات الكريمة كما سيأتي تفسيرها في أماكنها ثم قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } الاية ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني أزهر بن عبد الله الهوزني عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة قام حين صلى الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة وسبعين ملة ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار إلا واحدة ـ وهي الجماعة ـ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه و سلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به ] وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى كلاهما عن أبي المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي به وقد ورد هذا الحديث من طرق
وقوله تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة قاله ابن عباس رضي الله عنهما { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } قال الحسن البصري : وهم المنافقون { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } وهذا الوصف يعم كل كافر { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } يعني الجنة ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حولا وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الاية : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن ربيع بن صبيح و حماد بن سلمة عن أبي غالب قال : رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال أبو أمامة كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } إلى آخر الأية قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ : قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا ـ حتى عد سبعا ـ ما حدثتكموه ثم قال : هذا حديث حسن وقد رواه ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب وأخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي غالب بنحوه
وقد روى ابن مردويه عند تفسير هذه الاية عن أبي ذر حديثا مطولا غريبا عجيبا جدا ثم قال تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك } أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها عليك يا محمد { بالحق } أي نكشف ما الأمر عليه في الدنيا والاخرة { وما الله يريد ظلما للعالمين } أي ليس بظالم لهم بل هو الحكم العدل الذي لا يجور لأنه القادر على كل شيء العالم بكل شيء فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه ولهذا قال تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } أي الجميع ملك له وعبيد له { وإلى الله ترجع الأمور } أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والاخرة (1/515)
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف عن سفيان عن ميسرة عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال : خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطية العوفي وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس { كنتم خير أمة أخرجت للناس } يعني خير الناس للناس والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ولهذا قال { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا شريك عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن زوج درة بنت أبي لهب عن درة بنت أبي لهب قالت : [ قام رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم ] ورواه أحمد في مسنده و النسائي في سننه و الحاكم في مستدركه من حديث سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة إلى المدينة والصحيح أن هذه الاية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما قال في الاية الأخرى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي خيارا { لتكونوا شهداء على الناس } الاية
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأنتم أكرم على الله عز و جل ] وهو حديث مشهور وقد حسنه الترمذي ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا ابن زهير عن عبد الله يعني ابن محمد بن عقيل عن محمد بن علي وهو ابن الحنفية : أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : [ قال رسول الله أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء فقلنا يا رسول الله ما هو ؟ قال نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وإسناده حسن
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو العلاء الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاوية عن أبي حلبس يزيد بن ميسرة قال سمعت أم الدرداء رضي الله عنها تقول : سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول : [ سمعت أبا القاسم صلى الله عليه و سلم وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها يقول إن الله تعالى يقول : يا عيسى إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ولا حلم ولا علم قال : يا رب كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم ؟ قال : أعطيهم من حلمي وعلمي ]
وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها ههنا قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا المسعودي حدثنا بكير بن الأخنس عن رجل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطيت سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر قلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي عز و جل فزادني مع كل واحد سبعين ألفا ] قال أبو بكر رضي الله عنه : فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافات البوادي
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا هشام بن حسان عن القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد عن ميمون بن مهران عن عبد الرحمن بن أبي بكر : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن ربي أعطاني سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر يا رسول الله فهلا استزدته فقال استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفا قال عمر : فهلا استزدته ؟ قال قد استزدته فأعطاني هكذا ] وفرج عبد الله بن بكر بين يديه وقال عبد الله : وبسط باعيه وحثا عبد الله وقال هشام : وهذا من الله لا يدرى ما عدده
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة قال : قال شريح بن عبيد : مرض ثوبان بحمص وعليها عبد الله بن قرط الأزدي فلم يعده فدخل على ثوبان رجل من الكلاعين عائدا فقال له ثوبان : أتكتب ؟ قال : نعم قال : اكتب فكتب للأمير عبد الله بن قرط من ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أما بعد فإنه لو كان لموسى وعيسى عليهما السلام بحضرتك خادم لعدته ثم طوى الكتاب وقال له : أتبلغه إياه ؟ قال : نعم فانطلق الرجل بكتابه فدفعه إلى ابن قرط فلما رآه قام فزعا فقال الناس : ما شأنه أحدث أمر ؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده وجلس عنده ساعة ثم قام فأخذ ثوبان بردائه وقال : اجلس حتى أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حمصيون فهو حديث صحيح ولله الحمد والمنة
( طريق آخر ) : قال الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبريق الحمصي حدثنا محمد بن إسماعيل يعني ابن عياش حدثني أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه قال [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن ربي عز و جل وعدني من أمتي سبعين ألفا لا يحاسبون مع كل ألف سبعون ألفا ] هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي بين شريح وبين ثوبان والله أعلم
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة ثم غدونا إليه فقال [ عرضت علي الأنبياء الليلة بأممها فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة والنبي ومعه العصابة والنبي ومعه النفر والنبي وليس معه أحد حتى مر علي موسى عليه السلام ومعه كبكبة من بني إسرائيل فأعجبوني فقلت : من هؤلاء ؟ فقيل : هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل قال : فقلت : فأين أمتي ؟ فقيل : انظر عن يمينك فنظرت فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال ثم قيل لي : انظر عن يسارك فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال فقيل لي : أرضيت ؟ فقلت رضيت يا رب ـ قال ـ فقيل لي : إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فداكم أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفا فافعلوا فإن قصرتم فكونوا من أهل الظراب فإن قصرتم فكونوا من أهل الأفق فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم أي من السبعين فدعا له فقام رجل آخر فقال : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فقال قد سبقك بها عكاشة ] قال : ثم تحدثنا فقلنا : من ترون هؤلاء السبعين الألف قوم ولدوا في الإسلام لم يشركوا بالله شيئا حتى ماتوا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ] هكذا رواه أحمد بهذا السند وهذا السياق ورواه أيضا عن عبد الصمد عن هشام عن قتادة بإسناده مثله وزاد بعد قوله [ رضيت يا رب رضيت يا رب قال : رضيت قلت : نعم قال انظر عن يسارك ـ قال ـ فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال فقال : رضيت ؟ قلت : رضيت ] وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه تفرد به أحمد ولم يخرجوه
( حديث آخر ) قال أحمد بن منيع : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز حدثنا حماد عن عاصم عن زر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ عرضت علي الأمم بالمواسم فراثت علي أمتي ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم قد ملؤوا السهل والجبل فقال : أرضيت يا محمد ؟ فقلت : نعم قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال : أنت منهم فقام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم فقال : سبقك بها عكاشة ] رواه الحافظ الضياء المقدسي وقال : هذا عندي على شرط مسلم
( حديث آخر ) قال الطبراني : حدثنا محمد بن الجذوعي القاضي حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا محمد بن أبي عدي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب قيل : من هم ؟ قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ] ورواه مسلم من طريق هشام بن حسان وعنده ذكر عكاشة
( حديث آخر ) ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر فقال أبو هريرة : فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم اجعله منهم ثم قام رجل من الأنصار فقال مثله فقال سبقك بها عكاشة ]
( حديث آخر ) قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا ـ أو سبعمائة ألف ـ آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر ] أخرجه البخاري ومسلم جميعا عن قتيبة عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابيه عن سهل به
( حديث آخر ) قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم أنبأنا حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قلت : أنا ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال : فما صنعت ؟ قلت : استرقيت قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي قال : وما حدثكم الشعبي ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال [ لا رقية إلا من عين أو حمة ] قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي : هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي : انظر إلى الأفق الاخر فإذا سواد عظيم فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله ] فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ ما الذي تخوضون فيه ؟ فأخبروه فقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم قال سبقك بها عكاشة ] وأخرجه البخاري عن أسيد بن زيد عن هشيم وليس عنده : لا يرقون
( حديث آخر ) قال أحمد : حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر حديثا وفيه فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ] ثم كذلك وذكر بقيته رواه مسلم من حديث روح غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم
( حديث آخر ) قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي عز و جل ] وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد
( طريق أخرى ) عن أبي أمامة قال ابن أبي عاصم حدثنا دحيم حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبي اليمان الهوزني واسمه عامر بن عبد الله بن لحي عن أبي أمامة عن رسول الله قال : [ إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب فقال يزيد بن الأخنس : والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب الأصهب في الذباب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الله وعدني سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا وزادني ثلاث حثيات ] وهذا أيضا إسناد حسن
( حديث آخر ) قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن ربي عز و جل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفا ثم يحثي ربي عز و جل بكفيه ثلاث حثيات ] فكبر عمر وقال : إن السبعين الأول يشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر قال الحافظ الضياء أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة : لا أعلم لهذا الإسناد علة والله أعلم
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثني يحيى بن سعيد حدثنا هشام يعني الدستوائي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كنا بالكديد أو قال : بقديد فذكر حديثا وفيه ثم قال [ وعدني ربي عز و جل أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة ] قال الضياء : وهذا عندي على شرط مسلم
( حديث آخر ) قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف قال أبو بكر رضي الله عنه : زدنا يا رسول الله قال : والله هكذا فقال عمر : حسبك يا أبا بكر فقال أبو بكر : دعني وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا فقال عمر : إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحد فقال النبي صلى الله عليه و سلم صدق عمر ] هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبد الرزاق قاله الضياء وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني قال : حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف فقال أبو بكر : يا رسول الله زدنا قال : وهكذا وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك قلت : يا رسول الله زدنا فقال عمر : إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم صدق عمر ] هذا حديث غريب من هذا الوجه و أبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي بصري
( طريق آخر ) عن أنس قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي حدثنا حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا قالوا : زدنا يا رسول الله قال : لكل رجل سبعون ألفا قالوا : زدنا وكان على كثيب فقال هكذا وحثا بيده قالوا : يا رسول الله أبعد الله من دخل النار بعد هذا ] وهذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات ما عدا عبد القاهر بن السري وقد سئل عنه ابن معين فقال : صالح
( حديث آخر ) روى الطبراني من حديث قتادة عن أبي بكر بن أنس عن أبي بكر بن عمير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله وعدني أن يدخل من أمتي ثلثمائة ألف الجنة فقال عمير : يا رسول الله زدنا فقال : هكذا بيده فقال عمير : يا رسول الله زدنا فقال عمر : حسبك إن الله إن شاء أدخل الناس الجنة بحفنة أو بحثية واحدة فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم صدق عمر ]
( حديث آخر ) قال الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عبد الله بن عامر أن قيسا الكندي حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن ربي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ويشفع كل ألف لسبعين ألفا ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه ] كذا قال قيس فقلت لأبي سعيد : آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم بأذني ووعاه قلبي قال أبو سعيد : فقال يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وذلك إن شاء الله عز و جل يستوعب مهاجري أمتي ويوفي الله بقيته من أعرابنا ] وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناده مثله وزاد : قال أبو سعيد : فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألف ألف
( حديث آخر ) قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما والذي نفس محمد بيده ليبعثن منكم يوم القيامة إلى الجنة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يخبطون الأرض تقول الملائكة : لم جاء مع محمد أكثر مما جاء مع الأنبياء ؟ ] وهذا إسناد حسن
( نوع آخر ) ـ من الأحاديث الدلة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عز و جل وأنها خير الأمم في الدينا والاخرة قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إني لأرجو أن يكون من يتبعني من أمتي يوم القيامة ربع الجنة قال : فكبرنا ثم قال : أرجو أن يكونوا ثلث الناس قال : فكبرنا ثم قال : أرجو أن تكونوا الشطر ] وهكذا رواه عن روح عن ابن جريج به وهو على شرط مسلم وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ فكبرنا ثم قال أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ فكبرنا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ]
( طريق أخرى ) عن ابن مسعود قال الطبراني : حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حصيرة حدثني القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كيف أنتم وربع الجنة لكم ولسائر الناس ثلاثة أرباعها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : كيف أنتم وثلثها ؟ قالوا : ذاك أكثر قال : كيف أنتم والشطر لكم ؟ قالوا : ذاك أكثر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أهل الجنة عشرون ومائة صف لكم منها ثمانون صفا ] قال الطبراني : تفرد به الحارث بن حصيرة
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا ضرار بن مرة أبو سنان الشيباني عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ أهل الجنة عشرون ومائة صف هذه الأمة من ذلك ثمانون صفا ] وكذا رواه عن عفان عن عبد العزيز به وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان به وقال : هذا حديث حسن ورواه ابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه به
( حديث آخر ) ـ روى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي : حدثنا خالد بن يزيد البجلي حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من أمتي ] تفرد به خالد بن يزيد البجلي وقد تكلم فيه ابن عدي
( حديث آخر ) قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا موسى بن غيلان حدثنا هاشم بن مخلد حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن أبي عمرو عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما نزلت { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنتم ربع أهل الجنة أنتم ثلث أهل الجنة أنتم نصف أهل الجنة أنتم ثلثا أهل الجنة ]
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ نحن الاخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه الناس لنا فيه تبع غدا لليهود للنصارى بعد غد ] رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم مرفوعا بنحوه ورواه مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نحن الاخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة ] وذكر تمام الحديث
( حديث آخر ) ـ روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي ] ثم قال : انفرد به ابن عقيل عن الزهري ولم يرو عنه سواه وتفرد به زهير بن محمد عن ابن عقيل وتفرد به عمرو بن أبي سلمة عن زهير وقد رواه أبو أحمد بن عدي الحافظ فقال : حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عتاب حدثنا أبو حفص التنيسي ـ يعني عمرو بن أبي سلمة ـ حدثنا صدقة الدمشقي عن زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري ورواه الثعلبي : حدثنا أبو العباس المخلدي أنبانا أبو نعيم عبد الملك بن محمد أنبانا أحمد بن عيسى التنيسي حدثنا عمرو بن أبي سلمة حدثنا صدقة بن عبد الله عن زهير بن محمد عن ابن عقيل به
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح كما قال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس سرعة فقرأ هذه الاية { كنتم خير أمة أخرجت للناس } ثم قال : من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها رواه ابن جرير ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } الاية ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال تعالى : { ولو آمن أهل الكتاب } أي بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم { لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } أي قليل منهم من يؤمن با لله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان
ثم قال تعالى مخبرا عباده المؤمنين ومبشرا لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى : { لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } وهكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الابدين ودهر الداهرين ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام ثم قال تعالى : { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } أي ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون { إلا بحبل من الله } أي بذمة من الله وهو عقد الذمة لهم وضرب الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة { وحبل من الناس } أي أمان منهم لهم كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين ولو امرأة وكذا عبد على أحد قولي العلماء قال ابن عباس { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } أي بعهد من الله وعهد من الناس وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي والربيع بن أنس وقوله { وباءوا بغضب من الله } أي ألزموا فالتزموا بغضب من الله وهم يستحقونه { وضربت عليهم المسكنة } أي ألزموها قدرا وشرعا ولهذا قال { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق } أي وإنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبدا متصلا بذل الاخرة ثم قال تعالى : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله وقيضوا لذلك ـ أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله عز و جل والغشيان لمعاصي الله والاعتداء في شرع الله فعياذا بالله من ذلك والله عز و جل المستعان قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن سليمان الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر الأزدي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلثمائة نبي ثم يقوم سوق بقلهم آخر النهار ) (1/519)
قال ابن أبي نجيح : زعم الحسن بن يزيد العجلي عن ابن مسعود في قوله تعالى : { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } قال : لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه و سلم وهكذا قال السدي ويؤيد هذا القول الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أبو النضر وحسن بن موسى قالا : حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال : [ أخر رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم ] قال : فنزلت هذه الايات { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين * وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين } والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره ورواه العوفي عن ابن عباس ـ أن هذه الايات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وغيرهم أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا ولهذا قال تعالى : { ليسوا سواء } أي ليسوا كلهم على حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم ولهذا قال تعالى : { من أهل الكتاب أمة قائمة } أي قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه متبعة نبي الله فهي قائمة يعني مستقيمة { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } أي يقومون الليل ويكثرون التهجد ويتلون القرآن في صلواتهم { يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله } الاية ولهذا قال تعالى ههنا { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } اي لا يضيع عند الله بل يجزيهم به أوفر الجزاء { والله عليم بالمتقين } أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا ثم قال تعالى مخبرا عن الكفرة المشركين بأنه { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } أي لا يرد عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار قاله مجاهد والحسن والسدي فقال تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر } أي برد شديد قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم وقال عطاء : برد وجليد وعن ابن عباس أيضا و مجاهد { فيها صر } أي نار وهو يرجع إلى الأول فإن البرد الشديد ولا سيما الجليد يحرق الزروع والثمار كما يحرق الشيء بالنار { أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } أي فأحرقته يعني بذلك السفعة إذا نزلت على حرث قد آن جذاذه أو حصاده فدمرته وأعدمت ما فيه من ثمر أو زرع فذهبت به وأفسدته فعدمه صاحبه أحوج ما كان إليه فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها كما أذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } (1/527)
يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن وبما يستطيعون من المكر والخديعة ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم وقوله تعالى : { لا تتخذوا بطانة من دونكم } أي من غيركم من أهل الأديان وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخلة أمره وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما من حديث جماعة منهم يونس ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وابن أبي عتيق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله ] وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه فيحتمل أنه عند الزهري عن أبي سلمة عنهما وأخرجه النسائي عن الزهري أيضا وعلقه البخاري في صحيحه فقال : وقال عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي أيوب الأنصاري فذكره فيحتمل أنه عند أبي سلمة عن ثلاثة من الصحابة والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان حدثنا عيسى بن يونس عن أبي حيان التيمي عن أبي الزنباع عن ابن أبي الدهقانة قال : قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال : قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين ففي هذا الأثر مع هذه الاية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين وإطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ولهذا قال تعالى : { لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم } وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق بن إسرائيل حدثنا هشيم حدثنا العوام عن الأزهر بن راشد قال : كانوا يأتون أنسا فإذا حدثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يعني البصري فيفسره لهم قال : فحدث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ] فلم يدروا ما هو فأتوا الحسن فقالوا له : إن أنسا حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ] فقال الحسن : أما قوله [ لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ] : محمد صلى الله عليه و سلم وأما قوله [ لا تستضيئوا بنار المشركين ] يقول : لا تستشيروا المشركين في أموركم ثم قال الحسن : تصديق ذلك في كتاب الله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله تعالى وقد رواه النسائي عن مجاهد بن موسى عن هشيم ورواه الإمام أحمد عن هشيم بإسناده مثله في غير ذكر تفسير الحسن البصري وهذا التفسير فيه نظر ومعناه ظاهر [ لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ] أي بخط عربي لئلا يشابه نقس خاتم النبي صلى الله عليه و سلم فإنه كان نقشه محمد رسول الله ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن ينقش أحد على نقشه وأما الاستضاءة بنار المشركين فمعناه لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم بل تباعدوا منهم وهاجروا من بلادهم ولهذا روى أبو داود [ لا تتراءى ناراهما ] وفي الحديث الاخر [ من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله ] فحمل الحديث على ما قاله الحسن رحمه الله والاستشهاد عليه بالاية فيه نظر والله أعلم
ثم قال تعالى : { قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } أي قد لاح على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل ولهذا قال تعالى : { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } وقوله تعالى : { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرونه لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم لا باطنا ولا ظاهرا { وتؤمنون بالكتاب كله } أي ليس عندكم في شيء منه شك ولا ريب وهم عندهم الشك والريب والحيرة وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وتؤمنون بالكتاب كله } أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم رواه ابن جرير { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } والأنامل أطراف الأصابع قاله قتادة وقال الشاعر :
( أود كما ما بل حلقي ريقتي ... وما حملت كفاي أنملي العشرا )
وقال ابن مسعود والسدي والربيع بن أنس : الأنامل الأصابع وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودة وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه كما قال تعالى : { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } وذلك أشد الغيظ والحنق قال الله تعالى : { قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور } أي مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه ومعل كلمته ومظهر دينه فموتوا أنتم بغيظكم { إن الله عليم بذات الصدور } أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤملون وفي الاخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها لا محيد لكم عنها ولا خروج لكم منها ثم قال تعالى : { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم ساء ذلك المنافقين وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو أديل عليهم الأعداء لما لله تعالى في ذلك من الحكمة ـ كما جرى يوم أحد ـ فرح المنافقون بذلك قال الله تعالى مخاطبا للمؤمنين { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } الاية يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم فلا حول ولا قوة لهم إلا به وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ومن توكل عليه كفاه
ثم شرع تعالى في ذكر قصة أحد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين والتمييز بين المؤمنين والمنافقين وبيان صبر الصابرين فقال تعالى : (1/528)
المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب رواه ابن جرير وهو غريب لا يعول عليه وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة قال قتادة : لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال وقال عكرمة : يوم السبت للنصف من شوال فالله أعلم وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان فلما رجع قفلهم إلى مكة قال أبناء من قتل ورؤساء من بقي لأبي سفيان : أرصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك فجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريبا من أحد تلقاء المدينة فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الجمعة فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو واستشار رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس [ أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة ] فأشار عبد الله بن أبي بالمقام بالمدينة فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فلبس لأمته وخرج عليهم وقد ندم بعضهم وقالوا : لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إن شئت أن نمكث فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يحكم الله له ] فسار صلى الله عليه و سلم في ألف من أصحابه فلما كانوا بالشوط رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضبا لكونه لم يرجع إلى قوله وقال هو وأصحابه : لو نعلم اليوم قتالا لاتبعناكم ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم واستمر رسول الله صلى الله عليه و سلم سائرا حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال [ لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال ] وتهيأ رسول الله صلى الله عليه و سلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف والرماة يومئذ خمسون رجلا فقال لهم [ انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم ] وظاهر رسول الله صلى الله عليه و سلم بين درعين وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار وأجاز رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض الغلمان يومئذ وأرجأ آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الايات إن شاء الله تعالى ولهذا قال تعالى : { وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال } أي تنزلهم منازلهم وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم { والله سميع عليم } أي سميع لما تقولون عليم بضمائركم
وقد أورد ابن جرير ههنا سؤالا حاصله : كيف تقولون إن النبي صلى الله عليه و سلم سار إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة وقد قال الله تعالى : { وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال } الاية ؟ ثم كان جوابه عنه : أن غدوه ليبوأهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار وقوله تعالى : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } الاية قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال : قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله يقول : فينا نزلت { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } الاية قال : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما نحب ـ وقال سفيان مرة ـ وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى : { والله وليهما } وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وكذا قال غير واحد من السلف : إنهم بنو حارثة وبنو سلمة وقوله تعالى : { ولقد نصركم الله ببدر } أي يوم بدر وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ودمغ فيه الشرك وخرب محله وحزبه هذا مع قلة عدد المسليمن يومئذ فإنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا فيهم فرسان وسبعون بعيرا والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله وبيض وجه النبي وقبيله وأخزى الشيطان وجيله ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } أي قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد ولهذا قال تعالى في الاية الأخرى { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم } وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك قال : سمعت عياضا الأشعري قال : شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء : أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وابن حسنة وخالد بن الوليد وعياض وليس عياض هذا الذي حدث سماكا قال : وقال عمر : إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة قال فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت واستمددناه فكتب إلينا إنه قد جاءني كتابكم تستمدونني وإني أدلكم على من هو أعز نصرا وأحصن جندا : الله عز و جل فاستنصروه فإن محمدا صلى الله عليه و سلم قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني قال : فقاتلناهم فهزمناهم أربعة فراسخ قال : وأصبنا أموالا فتشاورنا فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة قال : وقال أبو عبيدة : من يراهنني ؟ فقال شاب : أنا إن لم تغضب قال : فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة تنفزان وهو خلفه على فرس عري وهذا إسناد صحيح وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث بندار عن غندر بنحوه واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه وبدر : محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها منسوبة إلى رجل حفرها يقال له : بدر بن النارين قال الشعبي : بدر بئر لرجل يسمى بدرا وقوله { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } أي تقومون بطاعته (1/530)
اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد ؟ على قولين ( أحدهما ) أن قوله : { إذ تقول للمؤمنين } متعلق بقوله : { ولقد نصركم الله ببدر } وروي هذا عن الحسن البصري وعامر الشعبي والربيع بن أنس وغيرهم واختاره ابن جرير قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة } قال : هذا يوم بدر رواه ابن أبي حاتم ثم قال : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا داود عن عامر يعني الشعبي : أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى : { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } قال : فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين ولم يمد الله المسلمين بالخمسة وقال الربيع بن أنس : أمد الله المسليمن بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف فإن قيل : فما الجمع بين هذه الاية على هذا القول وبين قوله تعالى في قصة بدر : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } ؟ فالجواب أن التنصيص على الألف ـ ههنا ـ لا ينافي الثلاثة الالاف فما فوقها لقوله : { مردفين } بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر والله أعلم وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : أمد الله المسلمين يوم بدر بخمسة آلاف ( القول الثاني ) ـ إن هذا الوعد متعلق بقوله : { وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال } وذلك يوم أحد وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم لكن قالوا : لم يحصل الإمداد بالخمسة الالاف لأن المسلمين فروا يومئذ زاد عكرمة : ولا بالثلاثة الالاف لقوله تعالى : { بلى إن تصبروا وتتقوا } فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا بملك واحد وقوله : { بلى إن تصبروا وتتقوا } يعني : تصبروا على عدوكم وتتقوني وتطيعوا أمري وقوله تعالى : { ويأتوكم من فورهم هذا } قال الحسن وقتادة والربيع والسدي : أي من وجههم هذا وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح : أي من غضبهم هذا وقال الضحاك : من غضبهم ووجههم وقال العوفي عن ابن عباس : من سفرهم هذا ويقال : من غضبهم هذا وقوله تعالى : { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } أي معلمين بالسيما وقال أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض وكان سيماهم أيضا في نواصي خيولهم رواه ابن أبي حاتم ثم قال : حدثنا أبو زرعة حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذه الاية { مسومين } قال : بالعهن الأحمر وقال مجاهد : { مسومين } أي محذفة أعرافها معلمة نواصيها بالصوف الأبيض في أذناب الخيل وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : أتت الملائكة محمدا صلى الله عليه و سلم مسومين بالصوف فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف وقال قتادة وعكرمة { مسومين } أي بسيما القتال وقال مكحول : مسومين بالعمائم وروى ابن مردويه من حديث عبد القدوس بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : { مسومين } قال [ معلمين ] وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم حمر وروى من حديث حصين بن مخارق عن سعيد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر وقال ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم عن مقسم عن ابن عباس قال : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمر ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون ثم رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس فذكر نحوه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الأحمسي حدثنا وكيع حدثنا هشام بن عروة عن يحيى بن عباد أن الزبير رضي الله عنه كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير فذكره وقوله تعالى : { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به } أي وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم } ولهذا قال ههنا { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } أي هو ذو العزة التي لا ترام والحكمة في قدره والأحكام ثم قال تعالى : { ليقطع طرفا من الذين كفروا } أي أمركم بالجهاد والجلاد لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين فقال : { ليقطع طرفا } أي ليهلك أمة { من الذين كفروا أو يكبتهم } أي يخزيهم ويردهم بغيظهم لما لم ينالوا منكم ما أرادوا ولهذا قال : { أو يكبتهم فينقلبوا } أي يرجعوا { خائبين } أي لم يحصلوا على ما أملوا ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكم في الدنيا والاخرة له وحده لا شريك له فقال تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } أي بل الأمر كله إلي كما قال تعالى : { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } وقال { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } وقال { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } قال محمد بن إسحاق في قوله : { ليس لك من الأمر شيء } أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال { أو يتوب عليهم } أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم بعد الضلالة { أو يعذبهم } أي في الدنيا والاخرة على كفرهم وذنوبهم ولهذا قال { فإنهم ظالمون } أي يستحقون ذلك وقال البخاري : حدثنا حبان بن موسى أنبأنا عبد الله أنبأنا معمر عن الزهري حدثني سالم عن أبيه [ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر : اللهم العن فلانا وفلانا بعدما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ] فأنزل الله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } الاية وهكذا رواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق كلاهما عن معمر به وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو عقيل ـ قال أحمد : وهو عبد الله بن عقيل صالح الحديث ثقة ـ حدثنا عمر بن حمزة عن سالم عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ اللهم العن فلانا اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية ] فنزلت هذه الاية { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } فتيب عليهم كلهم وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية الغلابي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو على أربعة قال : فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } إلى آخر الاية قال : وهداهم الله للإسلام وقال محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } الاية وقال البخاري أيضا : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع وربما قال : إذا قال [ سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يجهر بذلك ] وكان [ يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر اللهم العن فلانا وفلانا ] لأحياء من أحياء العرب حتى أنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } الاية
وقال البخاري : قال حميد وثابت عن أنس بن مالك : [ شج النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد فقال : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ ] فنزلت { ليس لك من الأمر شيء } وقد أسند هذا الحديث الذي علقه البخاري في صحيحه فقال البخاري في غزوة أحد : حدثنا يحيى بن عبد الله السلمي أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري حدثني سالم بن عبد الله بن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعدما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ] فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } الاية وعن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت سالم بن عبد الله قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ] هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة وقد تقدمت مسندة متصلة في مسند أحمد آنفا
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا حميد عن أنس رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز و جل ؟ ] فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } انفرد به مسلم فرواه عن القعنبي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فذكره
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح : حدثنا الحسين بن واقد عن مطر عن قتادة قال : [ أصيب النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد وكسرت رباعيته وفرق حاجبه فوقع وعليه درعان والدم يسيل فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه ومسح عن وجهه فأفاق وهو يقول كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز و جل ؟ ] فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } الاية وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بنحوه ولم يقل : فأفاق
ثم قال تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } أي الجميع ملك له وأهلها عبيد بين يديه { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون { والله غفور رحيم } (1/532)
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون : إذا حل أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الاخر في القدر وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها فقال تعالى : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات فقال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } أي كما أعدت النار للكافرين وقد قيل إن معنى قوله { عرضها السموات والأرض } تنبيها على اتساع طولها كما قال في صفة فرش الجنة { بطائنها من إستبرق } أي فما ظنك بالظهائر ؟ وقيل : بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح [ إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن ] وهذه الاية كقوله تعالى في سورة الحديد { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } الاية وقد روينا في مسند الإمام أحمد [ أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه و سلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟ ] وقد رواه ابن جرير فقال : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني مسلم بن خالد عن أبي خثيم عن سعيد بن أبي راشد عن يعلى بن مرة قال : [ لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بحمص شيخا كبيرا قد فسد فقال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلا عن يساره قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية فإذا كتاب صاحبي : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟ ] وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب : إن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض فأين النار ؟ فقال لهم عمر : أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل ؟ وإذا جاء الليل أين النهار ؟ فقالوا : لقد نزعت مثلها من التوراة رواه ابن جرير من ثلاثة طرق ثم قال : حدثنا أحمد بن حازم حدثنا أبو نعيم حدثنا جعفر بن برقان أنبأنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب قال : يقولون { جنة عرضها السموات والأرض } فأين النار ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه : أين يكون الليل إذا جاء النهار وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟ وقد روي هذا مرفوعا فقال البزار : حدثنا محمد بن معمر حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام حدثنا عبد الواحد بن زياد عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم عن عمه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال : [ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أرأيت قوله تعالى : { جنة عرضها السموات والأرض } فأين النار ؟ قال : أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء فأين النهار ؟ قال : حيث شاء الله قال وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز و جل ] وهذا يحتمل معنيين ( أحدهما ) أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان وإن كنا لا نعلمه وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز و جل وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عن البزار
( الثاني ) أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب فإن الليل يكون من الجانب الاخر فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها كما قال الله عز و جل { كعرض السماء والأرض } والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار والله أعلم
ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال { الذين ينفقون في السراء والضراء } أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره والصحة والمرض وفي جميع الأحوال كما قال { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر وقوله تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم وقد ورد في بعض الاثار [ يقول الله تعالى : يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك ] رواه ابن أبي حاتم وقد قال أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الزمن حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل حدثني الربيع بن سليمان الجيزي عن أبي عمرو بن أنس بن مالك عن أبيه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كف غضبه كف الله عنه عذابه ومن خزن لسانه ستر الله عورته ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره ] وهذا حديث غريب وفي إسناده نظر وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ] وقد رواه الشيخان من حديث مالك وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله وهو ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله قال : قالوا : يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله مالك من مالك إلا ما قدمت ومال وارثك ما أخرت قال : وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تعدون الصرعة فيكم ؟ قلنا : الذي لا تصرعه الرجال قال لا ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما تعدون فيكم الرقوب ؟ قلنا : الذي لا ولد له قال لا ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئا ] أخرج البخاري الفصل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبد الله الجعفي يحدث عن حصبة أو ابن أبي حصين عن رجل شهد النبي صلى الله عليه و سلم يخطب فقال [ تدرون ما الرقوب ؟ قلنا : الذي لا ولد له قال الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئا قال تدرون ما الصعلوك ؟ قالوا : الذي ليس له مال فقال النبي صلى الله عليه و سلم الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئا قال : ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم ما الصرعة ؟ قالوا : الصريع قال فقال صلى الله عليه و سلم الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه ]
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن الأحنف بن قيس عن عم له يقال له جارية بن قدامة السعدي [ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله قل لي قولا ينفعني وأقلل علي لعلي أعيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تغضب فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول لا تغضب ] وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام به ورواه أيضا عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به [ أن رجلا قال : يا رسول الله قل لي قولا وأقلل علي لعلي أعقله فقال لا تغضب ] الحديث انفرد به أحمد
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن [ عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : قال رجل : يا رسول الله أوصني قال : لا تغضب قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه و سلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله ] انفرد به أحمد
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن أبي ابن حرب بن أبي الأسود عن أبي الأسود عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل : أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه وكان أبو ذر قائما فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت فقال : [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ] ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته عن أبي حرب عن أبي ذر والصحيح ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر كما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا أبو وائل الصنعاني قال : كنا جلوسا عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال : حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي ـ وقد كانت له صحبة ـ قال : [ قال رسول الله إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أغضب أحدكم فليتوضأ ] وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني قال أبو داود : أراه عبد الله بن بحير
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا نوح بن جعونة السلمي عن مقاتل بن حيان عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أنظر معسرا أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثا ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيمانا ] انفرد به أحمد وإسناده حسن ليس فيه مجروح ومتنه حسن
( حديث آخر في معناه ) ـ قال أبو داود : حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور عن محمد بن عجلان عن سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن أبيه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمنا وإيمانا ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه ـ قال بشر : أحسبه قال : تواضعا ـ كساه الله حلة الكرامة ومن زوج لله كساه الله تاج الملك ]
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد قال : حدثنا سعيد حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه [ أن رسول الله قال من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء ] ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي أيوب به وقال الترمذي : حسن غريب
( حديث آخر ) ـ قال عبد الرزاق : أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل عن عم له عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى : { والكاظمين الغيظ } أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا ] رواه ابن جرير
( حديث آخر ) ـ قال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد أنبأنا يحيى بن أبي طالب أنبأنا علي بن عاصم أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله ] وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر عن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد به فقوله تعالى : { والكاظمين الغيظ } أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عز و جل ثم قال تعالى : { والعافين عن الناس } أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال { والله يحب المحسنين } فهذا من مقامات الإحسان وفي الحديث [ ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ومن تواضع لله رفعه الله ] وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب أن رسول الله [ قال : من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه ] ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك وروي عن طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول : أين العافون عن الناس ؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم وحق على كل امريء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة ] وقوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال إن رجلا أذنب ذنبا فقال : رب إني أذنبت ذنبا فاغفره فقال الله عز و جل : عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب إني عملت ذنبا فاغفره فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب إني عملت ذنبا فاغفره لي فقال الله عز و جل : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب إني عملت ذنبا فاغفره فقال عز و جل : عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ماشاء ] أخرجه في الصحيح من حديث إسحاق بن أبي طلحة بنحوه
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا : حدثنا زهير حدثنا سعد الطائي حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين سمع أبا هريرة قلنا : [ يا رسول الله إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الاخرة وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد فقال لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم قلنا : يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ] ورواه الترمذي وابن ماجه من وجه آخر من حديث سعد به ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا وكيع حدثنا مسعر وسفيان الثوري عن عثمان بن المغبرة الثقفي عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني عنه غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني ـ وصدق أبو بكر ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قال ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ـ قال مسعر ـ فيصلي ـ وقال سفيان ـ ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز و جل إلا غفر له ] وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن و ابن حبان في صحيحه و البزار والدارقطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به وقال الترمذي : هو حديث حسن وقد ذكرنا طرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبالجملة فهو حديث حسن وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ ـ أو فيسبغ ـ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ] وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ] فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين عن سيد الأولين والاخرين ورسول رب العالمين كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الاية { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } الاية بكى وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محرز بن عون حدثنا عثمان بن مطر حدثنا عبد الغفور عن أبي نصيرة عن أبي رجاء عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال : أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون ] عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان وروى الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ قال إبليس : يا رب وعزتك لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الله تعالى : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ] وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عمر بن أبي خليفة سمعت أبا بدر يحدث عن ثابت عن أنس قال : [ جاء رجل فقال : يا رسول الله أذنبت ذنبا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أذنبت فاستغفر ربك قال : فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال : فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك فقالها في الرابعة استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور ] وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقوله تعالى : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } أي لا يغفرها أحد سواه كما قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مصعب حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بأسير فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه و سلم عرف الحق لأهله ] وقوله { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا : حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحماني عن عثمان بن واقد عن أبي نصيرة عن مولى لأبي بكر عن أبي بكر رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ] ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد ـ وقد وثقه يحيى بن معين به ـ وشيخه أبو نصيرة الواسطي واسمه مسلم بن عبيد وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ويكفيه نسبته إلى أبي بكر فهو حديث حسن والله أعلم وقوله { وهم يعلمون } قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير { وهم يعلمون } أن من تاب تاب الله عليه وهذا كقوله تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } وكقوله { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } ونظائر هذا كثيرة جدا وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أنبأنا جرير حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه قال وهو على المنبر ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ] تفرد به أحمد ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم } أي جزاؤهم على هذه الصفات { مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار } أي من أنواع المشروبات { خالدين فيها } أي ماكثين فيها { ونعم أجر العاملين } يمدح تعالى الجنة (1/535)
يقول تعالى مخاطبا عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون { قد خلت من قبلكم سنن } أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين ولهذا قال تعالى : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } ثم قال تعالى : { هذا بيان للناس } يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم { وهدى وموعظة } يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم و { هدى } لقلوبكم و { موعظة للمتقين } أي زاجر عن المحارم والمآثم ثم قال تعالى مسليا للمؤمنين { ولا تهنوا } أي لا تضعفوا بسبب ما جرى { ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } أي إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح { وتلك الأيام نداولها بين الناس } أي نديل عليكم الأعداء تارة وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة ولهذا قال تعالى : { وليعلم الله الذين آمنوا } قال ابن عباس : في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء { ويتخذ منكم شهداء } يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته { والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا } أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به وقوله { ويمحق الكافرين } أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم ثم قال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد كما قال تعالى في سورة البقرة { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا } الاية وقال تعالى : { الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } الاية ولهذا قال ههنا { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقاومة الأعداء وقوله { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم وتودون مناجزتهم ومصابرتهم فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه فدونكم فقاتلوا وصابروا وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ] ولهذا قال تعالى : { فقد رأيتموه } يعني الموت شاهدتموه وقت لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب (1/541)
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم نادى الشيطان : ألا إن محمدا قد قتل ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمدا وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم فشجه في رأسه فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قتل وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه قال ابن أبي نجيح عن أبيه : أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له : يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه و سلم قد قتل فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فنزل { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } أي رجعتم القهقرى { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله حيا وميتا وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الاية لما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو مغشى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال : بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها وقال الزهري : حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج و عمر يحدث الناس فقال : اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر : أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } قال : فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الاية حتى تلاها عليهم أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني ؟ وقوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا } أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له ولهذا قال { كتابا مؤجلا } كقوله { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } وكقوله { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده } وهذه الاية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال : سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن صهبان قال : قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي : ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة ـ يعني دجلة ـ { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا } ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدو قالوا : ديوان فهربوا وقوله { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له ولم يكن له في الاخرة نصيب ومن قصد بعمله الدار الاخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا كما قال تعالى : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } وقال تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } ولهذا قال ههنا { وسنجزي الشاكرين } أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والاخرة بحسب شكرهم وعملهم ثم قال تعالى مسليا للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير } قيل : معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال : وأما الذين قرأوا { قاتل معه ربيون كثير } فإنهم قالوا : إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل قال : ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك لأنه قال : لو قتلوا لم يكن لقول الله { فما وهنوا } وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا ثم اختار قراءة من قرأ { قاتل معه ربيون كثير } لأن الله عاتب بهذه الايات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدا قد قتل فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال فقال لهم { أفإن مات أو قتل } أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و { انقلبتم على أعقابكم } وقيل : وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولا آخر فإنه قال : وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك الصبر { والله يحب الصابرين } فجعل قوله { معه ربيون كثير } حالا وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه وله اتجاه لقوله { فما وهنوا لما أصابهم } الاية وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره وقرأ بعضهم { قاتل معه ربيون كثير } قال سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن ابن مسعود { ربيون كثير } أي ألوف وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني : الربيون الجموع الكثيرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن { ربيون كثير } أي علماء كثير وعنه أيضا : علماء صبر أبرار وأتقياء وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز و جل قال : ورد بعضهم عليه فقال : لو كان كذلك لقيل : الربيون بفتح الراء وقال ابن زيد : الربيون الأتباع والرعية والربانيون الولاة { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } قال قتادة والربيع بن أنس { وما ضعفوا } بقتل نبيهم { وما استكانوا } يقول : فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله وقال ابن عباس { وما استكانوا } تخشعوا وقال السدي وابن زيد : وما ذلوا لعدوهم وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة : أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم { والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } أي لم يكن لهم هجير إلا ذلك { فآتاهم الله ثواب الدنيا } أي النصر والظفر والعاقبة { وحسن ثواب الآخرة } أي جمع لهم ذلك مع هذا { والله يحب المحسنين } (1/543)
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والاخرة ولهذا قال تعالى : { إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } ثم أمرهم بطاعته وموالاته والإستعانة به والتوكل عليه فقال تعالى : { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم مع ما ادخره لهم في الدار الاخرة من العذاب والنكال فقال { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال : [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ] وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ فضلني ربي على الأنبياء ـ أو قال على الأمم ـ بأربع : قال : أرسلت إلى الناس كافة وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي وأحلت لي الغنائم ] ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة عن أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه به وقال : حسن صحيح وقال سعيد بن منصور : أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ نصرت بالرعب على العدو ] ورواه مسلم من حديث ابن وهب وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أعطيت خمسا : بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب شهرا وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعته وإني اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئا ] تفرد به أحمد وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } قال : قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب ] رواه ابن أبي حاتم وقوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } قال ابن عباس : وعدهم الله النصر وقد يستدل بهذه الاية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } أن ذلك كان يوم أحد لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة ولهذا قال { ولقد صدقكم الله وعده } أي أول النهار { إذ تحسونهم } أي تقتلونهم { بإذنه } أي بتسليطه إياكم عليهم { حتى إذا فشلتم } وقال ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل الجبن { وتنازعتم في الأمر وعصيتم } كما وقع للرماة { من بعد ما أراكم ما تحبون } وهو الظفر منهم { منكم من يريد الدنيا } وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم { ولقد عفا عنكم } أي غفر لكم ذلك الصنيع وذلك والله أعلم لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم قال ابن جريج : قوله { ولقد عفا عنكم } قال : لم يستأصلكم وكذا قال محمد بن إسحاق : رواهما ابن جرير { والله ذو فضل على المؤمنين } وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله عن ابن عباس أنه قال : ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد قال : فأنكرنا ذلك فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله إن الله يقول في يوم أحد { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } يقول ابن عباس والحسن : القتل { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } الاية وإنما عنى بهذا الرماة وذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم أقامهم في موضع ثم قال : [ احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ] فلما غنم النبي صلى الله عليه و سلم وأباحوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعا دخلوا في العسكر ينهبون ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهم هكذا ـ وشبك بين يديه ـ وانتشبوا فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة وجال المسلمون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان : قتل محمد فلم يشكوا به أنه حق فلا زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين السعدين نعرفه بتلفته إذا مشى قال : ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا قال : فرقى نحونا وهو يقول : [ اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله ] ويقول مرة أخرى : [ اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا حتى انتهى إلينا فمكث ساعة فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل اعل هبل ـ مرتين يعني إلهه ـ أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ألا أجيبه ؟ قال بلى فلما قال : اعل هبل قال عمر : الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان : قد أنعمت عينها فعاد عنها أو فعال فقال أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا أبو بكر وها أنا ذا عمر قال : فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر الأيام دول وإن الحرب سجال قال : فقال : عمر : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار قال : إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا وخسرنا إذن فقال أبو سفيان : إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا قال : ثم أدركته حمية الجاهلية فقال : أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه ] هذا حديث غريب وسياق عجيب وهو من مرسلات ابن عباس فإنه لم يشهد أحدا ولا أبوه وقد أخرجها الحاكم في مستدركه عن أبي النضر الفقيه عن عثمان بن سعيد عن سلمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس به وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة من حديث سليمان بن داود الهاشمي به ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها فقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل الله { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى الله عليه و سلم في تسعة : سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى الله عليه و سلم فلما رهقوه قال : [ رحم الله رجلا ردهم عنا قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل فلما رهقوه أيضا قال : رحم الله رجلا ردهم عنا فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لصاحبيه : ما أنصفنا أصحابنا فجاء أبو سفيان فقال : اعل هبل : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قولوا : الله أعلى وأجل فقالوا : الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قولوا : الله مولانا والكافرون لا مولى لهم فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر فيوم علينا ويوم لنا يوم نساء ويوم نسر حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا سواء : أما قتلانا فأحياء يرزقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون فقال أبو سفيان لقد كان في القوم مثلة وإن كان لعن غير ملأ منا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرني قال : فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكلت شيئا ؟ قالوا : لا قال : ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم : حمزة فصلى عليه وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة ] تفرد به أحمد أيضا وقال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه و سلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال [ لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة ] فقال عبد الله بن جبير : [ عهد إلي النبي صلى الله عليه و سلم أن لا تبرحوا فأبوا فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال لا تجيبوه فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ قال لا تجيبوه فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال : إن هؤلاء قد قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال له : كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يحزنك قال أبو سفيان : اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أجيبوه قالوا : ما نقول قال : قولوا : الله أعلى وأجل قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أجيبوه قالوا : ما نقول ؟ قال قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ] تفرد به البخاري من هذا الوجه ثم رواه عن عمرو بن خالد عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه وسيأتي بأبسط من هذا وقال البخاري أيضا : حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما كان يوم أحد هزم المشركون فصرخ إبليس : أي عباد الله أخراكم فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال : أي عباد الله أبي أبي قال : قالت : فو الله ما احتجزوا حتى قتلوه فقال حذيفة : يغفر الله لكم قال عروة : فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله عز و جل وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده أن الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل فأتتنا من أدبارنا وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فدفعته لقريش فلاثوا به وقال السدي عن عبد خير قال : قال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود وكذا روي عن عبد الرحمن بن عوف وأبي طلحة رواهن ابن مردويه في تفسيره وقوله تعالى : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } قال ابن إسحاق : حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أحد بني عدي بن النجار قال : انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم فقال : ما يخليكم ؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وقال البخاري : حدثنا حسان بن حسان حدثنا محمد بن طلحة حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن عمه يعني أنس بن النضر غاب عن بدر فقال : غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه و سلم لئن أشهدني الله مع رسول الله ليرين الله ما أجد فلقي يوم أحد فهزم الناس فقال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به المشركون فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال : أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه بشامة وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم هذا لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه وقال البخاري أيضا : حدثنا عبدان حدثنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال : جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال : من هؤلاء القعود ؟ قالوا : هؤلاء قريش قال : من الشيخ ؟ قالوا : ابن عمر فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني قال : سل قال : أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال : نعم قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم فكبر فقال ابن عمر : تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه ] وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه و سلم بيده اليمنى : [ هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال : هذه يد عثمان اذهب بها الان معك ] ثم رواه البخاري من وجه آخر على أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب
وقوله تعالى : { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبل هاربين من أعدائكم وقرأ الحسن وقتادة { إذ تصعدون } أي في الجبل { ولا تلوون على أحد } أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب { والرسول يدعوكم في أخراكم } أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى الرجعة والعودة والكرة قال السدي : لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها فجعل الرسول صلى الله عليه و سلم [ يدعو الناس إلي عباد الله إلي عباد الله ] فذكر الله صعودهم إلى الجبل ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم إياهم فقال { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد وقال عبد الله بن الزبعري : يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها :
( يا غراب البين أسمعت فقل ... إنما تنطق شيئا قد فعل )
( إن للخير وللشر مدى ... وكلا ذلك وجه وقبل )
إلى أن قال :
( ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل )
( حين حكت بقباء بركها ... واستحر القتل في عبد الأشل )
( ثم خفوا عند ذاكم رقصا ... رقص الحفان يعلو في الجبل )
( فقتلنا الضعف من أشرافهم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل )
الحفان : صغار النعم وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أفرد في اثني عشر رجلا من أصحابه كما قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الرماة يوم أحد ـ وكانوا خمسين رجلا ـ عبد الله بن جبير قال : ووضعهم موضعا وقال [ إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم قال فهزموهم قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن فقال : أصحاب عبد الله الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قاله لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالوا : إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله إلا اثنا عشر رجلا فأصابوا منا سبعين وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا وسبعين قتيلا قال أبو سفيان : أفي القوم محمد أفي القوم محمد ؟ ـ ثلاثا ـ قال فنهاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجيبوه ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوؤك فقال : يوم بيوم بدر والحرب سجال وإنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز يقول : اعل هبل اعل هبل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول الله وما نقول ؟ قال قولوا الله أعلى وأجل قال : لنا العزى ولا عزى لكم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول الله وما نقول ؟ قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ] وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصرا ورواه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق بأبسط من هذا كما تقدم والله أعلم ـ وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية عن أبي الزبير عن جابر قال : [ انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد الجبل فلقيهم المشركون فقال ألا أحد لهؤلاء فقال طلحة : أنا يا رسول الله فقال كما أنت يا طلحة فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله فقاتل عنه وصعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن بقي معه ثم قتل الأنصاري فلحقوه فقال ألا رجل لهؤلاء فقال طلحة مثل قوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل قوله فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله فقاتل عنه وأصحابه يصعدون ثم قتل فلحقوه فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول طلحة : فأنا يا رسول الله فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له فيقاتل مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم من لهؤلاء فقال طلحة : أنا فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله فقال حس فقال رسول الله لو قلت باسم الله وذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء ثم صعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه وهم مجتمعون ] وقد روى البخاري عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه و سلم يعني يوم أحد ـ وفي الصحيحين من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي قال : لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما وقال الحسن بن عرفة : حدثنا مروان بن معاوية عن هاشم بن هاشم الزهري قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : [ نثل لي رسول الله صلى الله عليه و سلم كنانته يوم أحد وقال ارم فداك أبي وأمي ] وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد عن مروان بن معاوية وقال محمد بن إسحاق : حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد عن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سعد : [ فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يناولني النبل ويقول ارم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به ] ـ وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده عن سعد بن أبي وقاص قال : [ رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه و سلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام ] ـ وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار واثنين من قريش فلما أرهقوه قال من يردهم عنا وله الجنة ـ أو وهو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم أرهقوه أيضا فقال من يردهم عنا وله الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لصاحبيه ما أنصفنا أصحابنا ] رواه مسلم عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به نحو وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال : كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما بلغت رسول الله حلفته قال [ بل أنا أقتله إن شاء الله ] فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول : لا نجوت إن نجا محمد فحمل على رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير [ وأبصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له : ما أجزعك إنما هو خدش ؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه و سلم بل أنا أقتل أبيا ] ثم قال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين فمات إلى النار { فسحقا لأصحاب السعير } وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب بنحوه ـ وذكر محمد بن إسحاق قال : [ لما أسند رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول : لا نجوت إن نجوت فقال القوم : يا رسول الله يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوه فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه و سلم الحربة من ] الحارث بن الصمة [ فقال بعض القوم ـ ما ذكر لي ـ فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه و سلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا ] ـ وذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك قال الواقدي : وكان ابن عمر يقول مات أبي بن خلف ببطن رابغ فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تأجج فهبتها فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش وإذا رجل يقول : لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا أبي بن خلف ـ وثبت في الصحيحين من رواية عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه و سلم ـ وهو حينئذ يشير إلى رباعيته ـ واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم في سبيل الله ] وأخرجه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : [ اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده في سبيل الله واشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ـ قال ابن إسحاق : [ أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه و سلم وشج في وجنته وكلمت شفته ] وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص فحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال : ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص إن كان ما علمته لسيء الخلق مبغضا في قومه ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ـ وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري عن عثمان الجزري عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمى وجهه فقال اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا ] فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار ـ وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال : سمعت رجلا من المهاجرين يقول : شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه و سلم وسطها كل ذلك يصرف عنه ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنبه ليس معه أحد ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان فقال والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع ! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك قال الواقدي : والذي ثبت عندنا أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن قميئة والذي دمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا ابن المبارك عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال : ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال : كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم دونه وأراه قال حمية فقال : فقلت : كن طلحة حيث فاتني ما فاتني فقلت : يكون رجلا من قومي أحب إلي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منه وهو يخطف المشي خطفا لا أحفظه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ عليكما صاحبكما يريد طلحة ] وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال : وذهبت لأن أنزع ذلك من وجهه فقال أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة وذهبت لأصنع ما صنع فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبوعبيدة أحسن الناس هتما فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة وإذا قد قطعت أصبعه فأصلحنا من شأنه ورواه الهيثم بن كليب والطبراني من حديث إسحاق بن يحيى به وعند الهيثم فقال أبو عبيدة : أنشدك الله يا أبا بكر إلا تركتني ؟ فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبو عبيدة وذكر تمامه واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه وقد ضعف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم وقال ابن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن مالكا أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له : مجه فقال : لا والله لا أمجه أبدا ثم أدبر يقاتل فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد ] وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : جرح وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه و سلم فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم وقوله تعالى : { فأثابكم غما بغم } أي فجزاكم غما على غم كما تقول العرب : نزلت ببني فلان ونزلت على بني فلان وقال ابن جرير : وكذا قوله { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي على جذوع النخل قال ابن عباس : الغم الأول بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد صلى الله عليه و سلم والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم ليس لهم أن يعلونا ] وعن عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول بسبب الهزيمة والثاني حين قيل قتل محمد صلى الله عليه و سلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة رواهما ابن مردويه وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك وذكر ابن أبي حاتم عن قتادة نحو ذلك أيضا وقال السدي : الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح والثاني يإشراف العدو عليهم وقال محمد بن إسحاق { فأثابكم غما بغم } أي كربا بعد كرب قتل من قتل من إخوانكم وعلو عدوكم عليكم وما وقع في أنفسكم من قول من قال : قتل نبيكم فكان ذلك متتابعا عليكم غما بغم وقال مجاهد وقتادة : الغم الأول سماعهم قتل محمد والثاني ما أصابهم من القتل والجراح وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه وعن السدي : الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثاني إشراف العدو عليهم وقد تقدم هذا القول عن السدي قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال { فأثابكم غما بغم } فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه و سلم غم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم وقوله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم { ولا ما أصابكم } من الجراح والقتل قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي { والله خبير بما تعملون } سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا ) (1/545)
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مستلئمو السلاح في حال همهم وغمهم والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو نعيم وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود قال : النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان وقال البخاري وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه وهكذا رواه في المغازي معلقا ورواه في كتاب التفسير مسندا عن شيبان عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس لفظ الترمذي وقال : حسن صحيح ورواه النسائي أيضا عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث عن أبي قتيبة عن ابن أبي عدي كلاهما عن حميد عن أنس قال : قال أبو طلحة : كنت فيمن ألقي عليه النعاس الحديث وهكذا روي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف وقال البيهقي : حدثنا أبوعبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه قال : والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } أي إنما هم كذبة أهل شك وريب في الله عز و جل هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو كما قال فإن الله عز و جل يقول : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز و جل سينصر رسوله وينجز له مأموله ولهذا قال : { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } يعني لايغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } كما قال في الاية الأخرى { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } إلى آخر الاية وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهله وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة ثم أخبر تعالى عنهم أنهم { يقولون } في تلك الحال { هل لنا من الأمر من شيء } فقال تعالى : { قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره قال : فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } لقول معتب رواه ابن أبي حاتم قال الله تعالى : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي هذا قدر قدره الله عز و جل وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه وقوله تعالى : { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال { والله عليم بذات الصدور } أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر ثم قال تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } أي ببعض ذنوبهم السابقة كما قال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها ثم قال تعالى { ولقد عفا الله عنهم } أي عما كان منهم من الفرار { إن الله غفور حليم } أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله { ولقد عفا الله عنهم } ومناسب ذكره ههنا قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن عاصم عن شقيق قال : لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبد الرحمن : أبلغه أني لم أفر يوم حنين قال عاصم : يقول يوم أحد : ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر قال : فانطلق فأخبر بذلك عثمان قال : فقال عثمان : أما قوله إني لم أفر يوم حنين فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } وأما قوله إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهم ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهم فقد شهد وأما قوله إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو فأته فحدثه بذلك (1/554)
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } أي عن إخوانهم { إذا ضربوا في الأرض } أي سافروا للتجارة ونحوها { أو كانوا غزى } أي كانوا في الغزو { لو كانوا عندنا } أي في البلد { ما ماتوا وما قتلوا } أي ما ماتوا في السفر وما قتلوا في الغزو وقوله تعالى : { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتلهم ثم قال تعالى ردا عليهم { والله يحيي ويميت } أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره { والله بما تعملون بصير } أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه لا يخفى عليه من أمورهم شيء وقوله تعالى : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضا وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه وذلك خير من البقاء في الدنيا جمع حطامها الفاني ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله عز و جل فيجزيه بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر فقال تعالى : { ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } (1/556)
يقول تعالى مخاطبا رسوله ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره وأطاب لهم لفظه { فبما رحمة من الله لنت لهم } أي : أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم وقال قتادة { فبما رحمة من الله لنت لهم } يقول فبرحمة من الله لنت لهم وما صلة والعرب تصلها بالمعرفة كقوله { فبما نقضهم ميثاقهم } وبالنكرة كقوله : { عما قليل } وهكذا ههنا قال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } أي برحمة من الله وقال الحسن البصري هذا خلق محمد صلى الله عليه و سلم بعثه الله به وهذه الاية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } وقال الإمام أحمد : حدثنا حيوة حدثنا بقية حدثنا محمد بن زياد حدثني أبو راشد الحبراني قال : أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين لي قلبه ] تفرد به أحمد ثم قال تعالى : { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } والفظ الغليظ والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك { غليظ القلب } أي لو كنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم لا نفضوا عنك وتركوك ولكن الله جمعهم عليك وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم كما قال عبد الله بن عمرو : [ إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الكتب المتقدمة إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ] وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي : أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي حدثنا عمار بن عبد الرحمن عن المسعودي عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض ] حديث غريب ولهذا قال تعالى : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا : [ يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون : ولكن نقول اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون ] وشاورهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو المعنق ليموت بالتقدم إلى أمام القوم وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين فقال له الصديق : إنا لم نجىء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال وقال صلى الله عليه و سلم في قصة الإفك [ أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن ؟ والله ما علمت عليه إلا خيرا ] واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها فكان صلى الله عليه و سلم يشاورهم في الحروب ونحوها وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم ؟ على قولين وقد قال الحاكم في مستدركه : أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر حدثنا سعيد بن أبي مريم أنبأنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر وعمر وكانا حواريي رسول الله صلى الله عليه و سلم ووزيريه وأبوي المسلمين وقد روى الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما ] وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العزم ؟ فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم ] وقد قال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن بكير عن شيبان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ المستشار مؤتمن ] ورواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط من هذا ثم قال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر عن شريك عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم المستشار مؤتمن ] تفرد به وقال أيضا : حدثنا أبو بكر حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه ] تفرد به أيضا وقوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه { إن الله يحب المتوكلين } وقوله تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وهذه الاية كما تقدم من قوله : { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقوله تعالى : { وما كان لنبي أن يغل } قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد : ما ينبغي لنبي أن يخون وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان بن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال : فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا : لعل رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذها فأنزل الله { وما كان لنبي أن يغل } أي يخون وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا خصيف حدثنا مقسم حدثني ابن عباس أن هذه الاية { وما كان لنبي أن يغل } نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها فأكثروا في ذلك فأنزل الله { وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وكذا رواه أبو داود والترمذي جميعا عن قتيبة عن عبد الواحد بن زياد به وقال الترمذي : حسن غريب ورواه بعضهم عن خصيف عن مقسم يعني مرسلا وروى ابن مردويه من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال : اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء فقد فأنزل الله تعالى : { وما كان لنبي أن يغل } وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك وقال العوفي عن ابن عباس { وما كان لنبي أن يغل } أي بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضا وكذا قال الضحاك وقال محمد بن إسحاق { وما كان لنبي أن يغل } بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته وقرأ الحسن البصري وطاوس ومجاهد والضحاك { وما كان لنبي أن يغل } بضم الياء أي يخان وقال قتادة والربيع بن أنس : نزلت هذه الاية يوم بدر وقد غل بعض أصحابه رواه ابن جرير عنهما ثم حكى عن بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى يتهم بالخيانة ثم قال تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضا في أحاديث متعددة قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك حدثنا زهير يعني ابن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن عطاء بن يسار عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض ـ أو في الدار ـ فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة ]
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة والحارث بن يزيد عن عبد الرحمن بن جبير قال : سمعت المستورد بن شداد يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يقول من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا أو ليست له زوجة فليتزوج أو ليس له خادم فليتخذ خادما أو ليست له دابة فليتخذ دابة ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال ] هكذا رواه الإمام أحمد وقد رواه أبو داود بسند آخر وسياق آخر فقال : حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا المعافى حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير بن نفير عن المستورد بن شداد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا ] قال : قال أبو بكر : أخبرت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من اتخذ غير ذلك فهو غال ـ أو سارق ] قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله : رواه جعفر بن محمد الفريابي عن موسى بن مروان : فقال : عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير وهو أشبه بالصواب
( حديث آخر ) ـ قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا حفص بن بشر حدثنا يعقوب القمي حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي : يا محمد يا محمد فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رغاء فيقول : يا محمد يا محمد فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة ينادي : يا محمد يا محمد فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعا من أدم ينادي : يا محمد يا محمد فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ] لم يروه أحد من أهل الكتب الستة
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن الزهري سمع عروة يقول : حدثنا أبو حميد الساعدي : قال : [ استعمل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي لي فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر فقال ما بال العامل نبعثه فيجي فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي : أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه : ثم قال اللهم هل بلغت ثلاثا ] وزاد هشام بن عروة فقال أبو حميد : بصرته بعيني وسمعته بأذني واسألوا زيد بن ثابت أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة وعند البخاري : واسألوا زيد بن ثابت ومن غير وجه عن الزهري ومن طريق عن هشام بن عروة كلاهما عن عروة به
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال هدايا العمال غلول ] وهذا الحديث من أفراد أحمد وهو ضعيف الإسناد وكأنه مختصر من الذي قبله والله أعلم
( حديث آخر ) ـ قال أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام : حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي عن المغيرة بن شبل عن قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال : [ بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال أتدري لم بعثت إليك ؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } لهذا دعوتك فامض لعملك ] هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي الباب عن عدي بن عميرة وبريدة والمستورد بن شداد وأبي حميد وابن عمر
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي عن أبي زرعة بن عمر بن جرير عن أبي هريرة قال : [ قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال : لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجي يوم القيامة على رقبته رقاع تخنق فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ] أخرجاه من حديث أبي حيان به
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد حثني قيس عن عدي بن عميرة الكندي قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملا فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة قال : فقام رجل من الأنصار أسود ـ قال مجالد : هو سعيد بن عبادة كأني انظر إليه ـ فقال : يا رسول الله اقبل عني عملك قال وما ذاك ؟ قال : سمعتك تقول : كذا وكذا قال وأنا أقول ذاك الان من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذه وما نهي عنه انتهى ] وكذا رواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد به
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية عن أبي إسحاق الفزاري عن ابن جريج حدثني منبوذ رجل من آل أبي رافع عن الفضل بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب قال أبو رافع : ] فبينما رسول الله صلى الله عليه و سلم مسرعا إلى المغرب إذ مر بالبقيع فقال أف لك أف لك مرتين فكبر في ذرعي وتأخرت وظننت أنه يريدني فقال : مالك ؟ امش قال : قلت : أحدثت حدثا يارسول الله قال وما ذاك [ ؟ قلت : أففت بي قال : لا ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعيا على آل فلان فغل نمرة فدرع الان مثلها من نار ]
( حديث آخر ) ـ قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج ـ وكان بمكة ـ حدثنا عبيدة بن الأسود عن القاسم بن الوليد عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن عبادة بن الصامت قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم ثم يقول مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم إياكم والغلول فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر فإن الجهاد باب من أبواب الجنة إنه لينجي الله به من الهم والغم وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم ] وقد روى ابن ماجه بعضه عن المفلوج به
( حديث آخر ) ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ردوا الخياط والمخيط فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة ]
( حديث آخر ) ـ قال أبو داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن مطرف عن أبي الجهم عن أبي مسعود الأنصاري قال : [ بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم ساعيا ثم قال : انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته قال : إذا لا أنطلق قال إذا لا أكرهك ] تفرد به أبو داود
( حديث آخر ) ـ قال أبو بكر بن مردويه : أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أنبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أنبأنا عبد الحميد بن صالح أنبأنا أحمد بن أبان عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل ائت به فذلك قوله { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ]
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة بن عمار حدثني سماك الحنفي أبو زميل حدثني عبد الله بن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : فلان شهيد وفلان شهيد حتى أتوا على رجل فقالوا : فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كلا إني رأيته في النار في بردة غلها ـ أو عباءة ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس : إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ] وكذا رواه مسلم والترمذي من حديث عكرمة بن عمار به وقال الترمذي : حسن صحيح
( حديث آخر ) ـ قال ابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أبي حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بعث سعد بن عبادة مصدقا فقال : إياك يا سعد أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء قال : لا آخذه ولا أجيء به فأعفاه ] ثم رواه من طريق عبيد الله عن نافع به نحوه
( حديث آخر ) ـ قال أحمد : حدثنا أبو سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم فوجد في متاع رجل غلول قال : فسأل سالم بن عبد الله فقال : حدثني أبي عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من وجدتم في متاعه غلولا فاحرقوه ـ قال : وأحسبه قال : واضربوه قال : فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفا فسأل سالما فقال : بعه وتصدق بثمنه ] وكذا رواه علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الأتدراوردي زاد أبو داود وأبو إسحاق الفزاري كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به وقد قال علي بن المديني والبخاري وغيرهما : هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا وقال الدارقطني : الصحيح أنه من فتوى سالم فقط وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ومن تابعه من أصحابه وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه ثم روى عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي قال : الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا : لا يحرق متاع الغال بل يعزر تعزير مثله وقال البخاري : [ وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصلاة على الغال ولم يحرق متاعه ] والله أعلم
( حديث آخر عن عمر رضي الله عنه ) ـ قال ابن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثني عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن موسى بن جبير حدثه : أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه : أن عبد الله بن أنيس حدثه : أنه تذاكر هو و عمر بن الخطاب يوما الصدقة فقال : ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ذكر غلول الصدقة [ من غل منها بعيرا أو شاة فإنه يحمله يوم القيامة ] ؟ قال عبد الله بن أنيس : بلى ورواه ابن ماجه عن عمرو بن سواد عن عبد الله بن وهب به ورواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : عقوبة الغال أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه ثم روى عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي قال : الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن جبير بن مالك قال : أمر بالمصاحف أن تغير قال : فقال ابن مسعود : من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغله فإنه من غل شيئا جاء به يوم القيامة ثم قال : قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعين سورة أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ وروى وكيع في تفسيره عن شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم قال : لما أمر بتحريق المصاحف قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ياأيها الناس غلوا المصاحف فإنه من غل يأت بما غل يوم القيامة ونعم الغل المصحف يأتي به أحدكم يوم القيامة ـ وقال أبو داود عن سمرة بن جندب قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا كان مما أصبنا من الغنيمة فقال أسمعت بلالا ينادي ثلاثا ؟ قال : نعم قال فما منعك أن تجيء ؟ فاعتذر إليه فقال كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك ]
وقوله تعالى : { أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه وأجير من وبيل عقابه ومن استحق غضب الله وألزم به فلا محيد له عنه ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير وهذه الاية لها نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } وكقوله { أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } الاية ثم قال تعالى : { هم درجات عند الله } قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق : يعني أهل الخير وأهل الشر درجات وقال أبو عبيدة والكسائي : منازل يعني متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار كقوله تعالى : { ولكل درجات مما عملوا } الاية ولهذا قال تعالى : { والله بصير بما يعملون } أي وسيوفيهم إياها لا يظلمهم خيرا ولا يزيدهم شرا بل يجازي كل عامل بعمله وقوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به كما قال تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها } أي من جنسكم وقال تعالى : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } الاية وقال تعالى : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } وقال تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه ولهذا قال تعالى : { يتلو عليهم آياته } يعني القرآن { ويزكيهم } أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم { ويعلمهم الكتاب والحكمة } يعني القرآن والسنة { وإن كانوا من قبل } أي من قبل هذا الرسول { لفي ضلال مبين } أي لفي غي وجهل ظاهر جلي بين لكل أحد (1/556)
يقول تعالى : { أو لما أصابتكم مصيبة } وهي ما أصيب منهم يوم أحد من قتل السبعين منهم { قد أصبتم مثليها } يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلا وأسروا سبعين أسيرا { قلتم أنى هذا } أي من أين جرى علينا هذا { قل هو من عند أنفسكم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا قراد أبو نوح حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } بأخذكم الفداء وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غزوان وهو قراد أبو نوح بإسناده ولكن بأطول منه وهكذا قال الحسن البصري وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا إسماعيل ابن علية عن ابن عون عن محمد عن عبيد ح قال سنيد وهو حسين : وحدثني حجاج عن جرير عن محمد عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا ألا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس في ذلك ما نكره ؟ قال : فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر ] وهكذا رواه النسائي والترمذي من حديث أبي داود الحفري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن سفيان بن سعيد عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين به ثم قال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة وروى أبو أسامة عن هشام نحوه وروى عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا وقال محمد بن إسحاق و ابن جريج والربيع بن أنس والسدي { قل هو من عند أنفسكم } أي بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم يعني بذلك الرماة { إن الله على كل شيء قدير } أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه ثم قال تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } أي فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لاخرين كان بقضاء الله وقدره وله الحكمة في ذلك { وليعلم المؤمنين } أي الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا { وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } يعني بذلك أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في أثناء الطريق فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإياب والقتال والمساعدة ولهذا قال { أو ادفعوا } قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو صالح والحسن والسدي : يعني كثروا سواد المسلمين وقال الحسن بن صالح : ادفعوا بالدعاء وقال غيره : رابطوا فتعللوا قائلين { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } قال مجاهد : يعنون لو نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم ولكن لا تلقون قتالا قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا كلهم قد حدث قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس وقال : أطاعهم فخرج وعصاني ووالله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس ؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف عنهم قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله عز و جل : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } استدلوا به علة أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر وفي حال أقرب إلى الإيمان لقوله : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } ثم قال تعالى : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته ومنه قولهم هذا { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاؤوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من سراتهم يوم بدر وهم أضعاف المسلمين أنه كائن بينهم قتال لا محالة ولهذا قال تعالى : { والله أعلم بما يكتمون } ثم قال تعالى : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } أي لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل قال الله تعالى : { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين قال مجاهد عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الاية في عبد الله بن أبي ابن سلول (1/563)
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار قال محمد بن جرير : حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل بئر معونة قال : لا أدري أربعين أو سبعين وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتوا غارا مشرفا على الماء فقعدوا فيه ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل هذا الماء ؟ فقال ـ أراه ابن ملحان الأنصاري : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج حتى أتى حيا منهم فاختبأ أمام البيوت ثم قال : [ يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الاخر فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ] فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل وقال إسحاق : حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا : [ بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ] ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زمانا وأنزل الله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الاية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ] وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة ] تفرد به مسلم من طريق حماد
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني حدثنا سفيان عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعلمت أن الله أحيا أباك فقال له : تمن علي فقال له : أرد إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى قال : إني قضيت الحكم أنهم إليها لا يرجعون ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما : أن أبا جابر وهو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه قتل يوم أحد شهيدا قال البخاري : وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر : سمعت جابرا قال لما قتل أبي : جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهوني والنبي صلى الله عليه و سلم لم ينه وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تبكه ـ أو ما تبكيه ـ ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ] وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وذكر تمامه بنحوه
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد عن أبي الزبير المكي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن متقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز و جل : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز و جل هذه الايات { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وما بعدها ] هكذا رواه أحمد وكذا رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق به ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره وهذا أثبت وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الاية في حمزة وأصحابه { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وكذلك قال قتادة والربيع والضحاك : أنها نزلت في قتلى أحد
( حديث آخر ) قال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبد الله المديني أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال [ يا جابر مالي أراك مهتما ؟ قال قلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك دينا وعيالا قال : فقال : ألا أخبرك ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا قال علي : الكفاح المواجهة قال : سلني أعطك قال : أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز و جل : إنه قد سبق مني القول : أنهم إليها لا يرجعون قال : أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } الاية ] ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري عن أبيه عن جابر به نحوه وكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن المديني به وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري وهو عيسى بن عبد الرحمن إن شاء الله عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لجابر : يا جابر ألا أبشرك قال : بلى بشرك الله بالخير قال شعرت أن الله أحيا أباك فقال : تمن علي عبدي ما شئت أعطكه قال : يا رب ما عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى قال : إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا ] تفرد به أحمد وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب : حدثنا عبد الرحمن بن سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحاق به وهو إسناد جيد وكأن الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح والله أعلم ـ وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ] قوله [ يعلق ] أي يأكل وفي هذا الحديث [ إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة ] وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان ـ وقوله تعالى : { فرحين بما آتاهم الله } إلى آخر الاية أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم نسأل الله الجنة قال محمد بن إسحاق { ويستبشرون } أي ويسرون بلحوق من خلفهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم قال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه : يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم وقال سعيد بن جبير : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا : يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة وأخبرهم أي ربهم أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشروا بذلك فذلك قوله : { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } الاية وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة وقنت رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع [ أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ]
ثم قال تعالى : { يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } قال محمد بن إسحاق : استبشروا وسروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه الاية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم وقلما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم الله إياه إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم وقوله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } هذا كان يوم حمراء الأسد وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدا ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه لما سنذكره فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله عز و جل ولرسوله صلى الله عليه و سلم قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عكرمة قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد ـ أو بئر أبي عيينة ـ الشك من سفيان ـ فقال المشركون : نرجع من قابل فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت تعد غزوة فأنزل الله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } ورواه ابن مردويه من حديث محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره ـ وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج معه وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال : شهدت أحدا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا وأخي فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي ـ أو قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسر جراحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون وقال البخاري : حدثنا محمد بن سلام حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها { الذين استجابوا لله والرسول } الاية قلت لعروة : يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه و سلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال [ من يرجع في أثرهم ] فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير رضي الله عنهما هكذا رواه البخاري منفردا به بهذا السياق وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصم عن عباس الدوري عن أبي النضر عن أبي سعيد المؤدب عن هشام بن عروة به ثم قال : صحيح ولم يخرجاه كذا قال ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار وهدية بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان به وقد رواه الحاكم أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن البهي عن عروة قال : قالت لي عائشة : يا بني إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ـ وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه أنبأنا سمويه أنبأنا عبد الله بن الزبير أنبأنا سفيان أنبأنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو بكر والزبير رضي الله عنهما ] ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة رضي الله عنها كما قدمناه ومن جهة معناه فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة وإنما قالت ذلك عائشة لعروة بن الزبير لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال : إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد ما كان منه ما كان فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب ] وكانت وقعة أحد في شوال وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة وإنهم قدموا بعد وقعة أحد وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم واشتد عليهم الذي أصابهم وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين وقال [ إنما يرتحلون الان فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل ] فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال : إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه فقال [ إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد لأحضض الناس فانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان فطلبوه حتى بلغوا الصفراء ] فأنزل الله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } الاية ثم قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة وقد مر به ـ كما حدثني عبد الله بن أبي بكر ـ معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه و سلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه و سلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وقالوا : أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟ لنكرن على بقيتهم ثم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد وأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلهم يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال : فإني أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
( كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل )
( تردى بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل )
( فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول )
( فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل )
( إني نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول )
( من جيش أحمد لا وخش تنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل )
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر به ركب من بني عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة قال : ولم ؟ قالوا : نريد الميرة قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالوا : نعم قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بلغه رجوعهم والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو أصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ] وقال الحسن البصري في قوله { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا [ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب فمن ينتدب في طلبه ؟ فقام النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتبعوهم فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه و سلم يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال : ردوا محمدا ولكم من الجعل كذا وكذا وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعا وأني راجع إليهم فجاء التجار فأخبروا رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم حسبنا الله ونعم الوكيل ] فأنزل الله هذه الاية وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد : إن هذا السياق نزل في شأن حمراء الأسد وقيل : نزلت في بدر الموعد والصحيح الأول وقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا } الاية أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } قال البخاري : حدثنا أحمد بن يونس قال : أراه قال : حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس { حسبنا الله ونعم الوكيل } قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه و سلم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل وقد رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله كلاهما عن يحيى بن أبي بكير عن أبي بكر وهو ابن عياش به والعجب أن الحاكم أبا عبد الله رواه من حديث أحمد بن يونس به ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عن إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال : كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار : { حسبنا الله ونعم الوكيل } وقال عبد الرزاق : قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار رواه ابن جرير وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قيل له يوم أحد : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فأنزل الله هذه الاية وروى أيضا بسنده عن محمد بن عبيد الله الرافعي عن أبيه عن جده أبي رافع : أن النبي صلى الله عليه و سلم وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال : إن القوم قد جمعوا لكم فقالوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل } فنزلت فيهم هذه الاية ثم قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا الحسن بن سفيان أنبأنا أبو خيثمة مصعب بن سعيد أنبأنا موسى بن أعين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل } ] هذا حديث غريب من هذا الوجه ـ وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس قالا : حدثنا بقية حدثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن سيف عن عوف بن مالك أنه حدثهم [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بين رجلين فقال : المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه و سلم ردوا علي الرجل فقال : ما قلت ؟ قال : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ] وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بحير عن خالد عن سيف وهو الشامي ولم ينسب عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ـ وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط حدثنا مطرف عن عطية عن ابن عباس في قوله : { فإذا نقر في الناقور } قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فما نقول ؟ قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ] وقد روي هذا من غير وجه وهو حديث جيد وروينا عن أم المؤمنين زينب وعائشة رضي الله عنهما أنهما تفاخرتا فقالت زينب : زوجني الله وزوجكن أهاليكن وقالت عائشة : نزلت براءتي من السماء في القرآن فسلمت لها زينب ثم قالت : كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطل ؟ فقالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل قالت زينب : قلت كلمة المؤمنين ولهذا قال تعالى : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم { بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } مما أضمر لهم عدوهم { واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } وقال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد حدثنا محمد بن نعيم حدثنا بشر بن الحكم حدثنا مبشر بن عبد الله بن رزين حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } قال : النعمة أنهم سلموا والفضل أن عيرا مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه و سلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } قال : هذا أبو سفيان قال لمحمد صلى الله عليه و سلم موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا فقال محمد صلى الله عليه و سلم [ عسى ] فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم لموعده حتى نزل بدرا فوافقوا السوق فيها فابتاعوا فذلك قول الله عز و جل : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } الاية قال : وهي غزوة بدر الصغرى رواه ابن جرير وروى أيضا عن القاسم عن الحسين عن حجاج عن ابن جريج قال : لما عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك يريدون أن يرعبوهم فيقول المؤمنون : حسبنا الله ونعم الوكيل حتى قدموا بدرا فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد قال : رجل من المشركين أخبر أهل مكة بخيل محمد وقال في ذلك :
( نفرت قلوصي من خيول محمد ... وعجوة منثورة كالعنجد )
( واتخذت ماء قديد موعدي ... )
قال ابن جرير : هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ وإنما هو :
( قد نفرت من رفقتي محمد ... وعجوة من يثرب كالعنجد )
( فهي على دين أبيها الأتلد ... قد جعلت ماء قديد موعدي )
( وماء ضجنان لها ضحى الغد ... )
ثم قال تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة قال الله تعالى : { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجأوا إلي فإني كافيكم وناصركم عليهم كما قال تعالى : { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه } إلى قوله { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى : { فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا } وقال تعالى : { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } وقال تعالى { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وقال { ولينصرن الله من ينصره } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } الاية وقال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } (1/565)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق فقال تعالى : لا يحزنك ذلك { إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة } أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيبا في الاخرة { ولهم عذاب عظيم } ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررا : { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي استبدلوا هذا بهذا { لن يضروا الله شيئا } أي ولكن يضرون أنفسهم { ولهم عذاب أليم } ثم قال تعالى { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } كقوله { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } وكقوله { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } وكقوله { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } ثم قال تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } أي لا بد أن يعقد سببا من المحنة يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم وهتك به ستر المنافقين فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم ولهذا قال تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد وقال قتادة : ميز بينهم بالجهاد والهجرة وقال السدي : قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر فأنزل الله تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } أي حتى يخرج المؤمن من الكافر روى ذلك كله ابن جرير ـ ثم قال تعالى : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك ثم قال تعالى : { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } كقوله تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } ثم قال تعالى : { فآمنوا بالله ورسله } أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم { وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } وقوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم } أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه وربما كان في دنياه ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } قال البخاري : حدثنا عبد الله بن منير سمع أبا النضر حدثنا عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه ـ يعني بشدقيه ـ ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ] ثم تلا هذه الاية { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم } إلى آخر الاية تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ثم يلزمه يطوقه يقول : أنا كنزك أنا كنزك ] وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة به ثم قال النسائي : ورواية عبد العزيز عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أثبت من رواية عبد الرحمن عن أبيه عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة ( قلت ) ولا منافاة بين الروايتين فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين والله أعلم وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح عن أبي هريرة ومن حديث محمد بن أبي حميد عن زياد الخطمي عن أبي هريرة به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن جامع عن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه وهو يتبعه فيقول : أنا كنزك ] ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد زاد الترمذي : و عبد الملك بن أعين كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود به وقال الترمذي : حسن صحيح وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي وائل عن ابن مسعود به ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفا
( حديث آخر ) قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه ويقول : من أنت ؟ ويلك فيقول : أنا كنزك الذي خلفت بعدك فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبع سائر جسده ] إسناده جيد قوي ولم يخرجوه وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي ورواه ابن جرير وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع ] لفظ ابن جرير وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا داود عن أبي قزعة عن رجل عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه ] ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزعة واسمه حجير بن بيان عن أبي مالك العبدي موقوفا ورواه من وجه آخر عن أبي قزعة مرسلا وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها رواه ابن جرير والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه وقد يقال : إن هذا أولى بالدخول والله سبحانه وتعالى أعلم وقوله تعالى { ولله ميراث السموات والأرض } أي { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز و جل فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم { والله بما تعملون خبير } أي بنياتكم وضمائركم (1/573)
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } قالت اليهود : يا محمد افتقر ربك فسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } الاية رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدراس فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال له أشيع فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر وإنه إلينا لفقير ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال : والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر : [ ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله إن عدو الله قد قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } الاية ] رواه ابن أبي حاتم وقوله { سنكتب ما قالوا } تهديد ووعيد ولهذا قرنه تعالى بقوله : { وقتلهم الأنبياء بغير حق } أي هذا قولهم في الله وهذه معاملتهم لرسل الله وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء ولهذا قال تعالى : { ونقول ذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد } أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا وقوله تعالى : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } يقول تعالى تكذييا أيضا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها قاله ابن عباس والحسن وغيرهما قال الله عز و جل : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } أي بالحجج والبراهين { وبالذي قلتم } أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة { فلم قتلتموهم } أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم { إن كنتم صادقين } أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك فلك أسوة بمن قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة { والزبر } وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين { والكتاب المنير } أي البين الواضح الجلي (1/575)
يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى : { كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون وكذلك الملائكة وحملة العرش وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخرا كما كان أولا وهذه الاية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها في صلب آدم وانتهت البرية أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها كثيرها وقليلها كبيرها وصغيرها فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ولهذا قال تعالى : { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز الأويسي حدثنا علي بن أبي علي اللهبي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما توفي النبي صلى الله عليه و سلم وجاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال : أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر عليه السلام وقوله : { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرؤوا إن شئتم { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } ] هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم وابن حبان في صحيحه و الحاكم في مستدركه ومن حديث محمد بن عمرو هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر فقال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن يحيى أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها قال : ثم تلا هذه الاية { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } ] وتقدم عند قوله تعالى : { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ما رواه الإمام أحمد عن وكيع بن الجراح عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الاخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ] وقوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة كما قال تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى } وقال تعالى { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى } وفي الحديث [ والله ما الدنيا في الاخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه ] وقال قتادة في قوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } قال : [ هي متاع هي متاع متروكة أوشكت ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ أن تضمحل عن أهلها فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله ] وقوله تعالى : { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } كقوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } إلى آخر الايتين أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شي من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ويبتلى المؤمن على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليا لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين وآمرا لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله فقال تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } قال : وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم ] هكذا ذكره مختصرا وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الاية مطولا فقال : حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد حدثه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال : حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله عز و جل وقرأ عليهم القرأن فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب النبي صلى الله عليه و سلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي قال : كذا وكذا فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك فذلك الذي فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى ] قال الله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } الاية وقال تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } الاية وكان النبي صلى الله عليه و سلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن له فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه و سلم على الإسلام وأسلموا فكل من قام بحق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله والاستعانة بالله والرجوع إلى الله عز و جل (1/577)
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره فإذا ارسله الله تابعوه فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والاخرة بالدون الطفيف والخط الدنيوي السخيف فبئست الصفقة صفقتهم وبئست البيعة بيعتهم وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ويسلك بهم مسالكهم فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ] وقوله تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة ] وفي الصحيح أيضا [ المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ] وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال : اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : وما لكم وهذه إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } الاية وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه وهكذا رواه البخاري في التفسير و مسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما و ابن أبي حاتم وابن جرير والحاكم في مستدركه و ابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فذكره وقال البخاري : حدثنا سعيد بن أبي مريم أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } الاية وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال : كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال : يا أبا سعيد رأيت قوله تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل ؟ فقال أبو سعيد : إن هذا ليس من ذاك إنما ذاك أن ناسا من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثا فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح فقال مروان : أين هذا من هذا ؟ فقال أبو سعيد : وهذا يعلم هذا ؟ فقال مروان : أكذلك يا زيد ؟ قال : نعم صدق أبو سعيد ثم قال أبو سعيد : وهذا يعلم ذاك ـ يعني رافع بن خديج ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري : ألا تحمدني على ما شهدت لك فقال أبو سعيد : شهدت الحق فقال زيد : أولا تحمدني على ما شهدت الحق ؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم عن رافع بن خديج : أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فقال مروان : يا رافع في أي شيء نزلت هذه الاية ؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم فقال له ما ذكرناه ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء لأن الاية عامة في جميع ما ذكر والله أعلم وقد روى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري عن محمد بن ثابت الأنصاري أن ثابت بن قيس الأنصاري قال : [ يا رسول الله والله لقد خشيت أن أكون هلكت قال لم ؟ قال نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهوري الصوت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟ فقال : بلى يا رسول الله فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب ] وقوله تعالى : { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد وبالياء على الإخبار عنهم أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لا بد لهم منه ولهذا قال تعالى : { ولهم عذاب أليم } ثم قال تعالى { ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير } أي هو مالك كل شيء والقادر على كل شيء فلا يعجزه شيء فهابوه ولا تخالفوه واحذورا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه والقدير الذي لا أقدر منه (1/579)
قال الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا يحيى الحماني حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى ؟ قالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الاية { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } فليتفكروا فيها وهذا مشكل فإن هذه الاية مدنية وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة والله أعلم ومعنى الاية أن الله تعالى يقول : { إن في خلق السموات والأرض } أي هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه في انخفاضها و كثافتها واتضاعها وما فيهما من الايات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والروائح والطعوم والخواص { واختلاف الليل والنهار } أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر فتارة يطول هذا ويقصر هذا ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز العليم ولهذا قال تعالى { لآيات لأولي الألباب } أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله فيهم { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك ] أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار وعن الحسن البصري أنه قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة وقال الفضيل قال الحسن : الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت :
( إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة )
وعن عيسى عليه السلام أنه قال : طوبى لمن كان قيله تذكرا وصمته تفكرا ونظره عبرا قال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألهم للفكرة وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرىء إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم ولا علم امرؤ قط إلا عمل وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله عز و جل حسن والفكرة في نعم الله أفضل العبادة وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم وشاهدوا الموقف بقلوبكم وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعا من بين أصحابه قد ذهب عقله وقال عبد الله بن المبارك : مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة فناداه فقال : يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر : كنز الرجال وكنز الأموال وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كل شيء هالك إلا وجهه } وعن ابن عباس أنه قال : ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه وقال الحسن البصري : يا ابن آدم كل في ثلث بطنك واشرب في ثلثه ودع ثلثه الاخر تتنفس للفكرة وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة وقال بشر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس قال : سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يقولون : إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر وعن عيسى عليه السلام أنه قال : يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت وكن في الدنيا ضيفا واتخذ المساجد بيتا وعلم عينيك البكاء وجسدك الصبر وقلبك الفكر ولا تهتم برزق غد وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه بكى يوما بين أصحابه فسئل عن ذلك فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحسين بن عبد الرحمن :
( نزهة المؤمن الفكر ... لذة المؤمن العبر )
( نحمد الله وحده ... نحن كل على خطر )
( رب لاه وعمره ... قد تقضى وما شعر )
( رب عيش قد كان فو ... ق المنى مونق الزهر )
( في خرير من العيو ... ن وظل من الشجر )
( وسرور من النبا ... ت وطيب من الثمر )
( غيرته وأهله ... سرعة الدهر بالغير )
( نحمد الله وحده ... إن في ذا لمعتبر )
( إن في ذا لعبرة ... للبيب إن اعتبر )
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ومدح عباده المؤمنين { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض } قائلين { ربنا ما خلقت هذا باطلا } أي ما خلقت هذا الخلق عبثا بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا { سبحانك } أي عن أن تخلق شيئا باطلا { فقنا عذاب النار } أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم وتجيرنا به من عذابك الأليم ثم قالوا { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع { وما للظالمين من أنصار } أي يوم القيامة لا مجير لهم منك ولا محيد لهم عما أردت بهم { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } أي داعيا يدعو إلى الإيمان وهو الرسول صلى الله عليه و سلم { أن آمنوا بربكم فآمنا } أي يقول آمنوا بربكم فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه أي بإيماننا واتباعنا نبيك { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } أي استرها { وكفر عنا سيئاتنا } فيما بيننا وبينك { وتوفنا مع الأبرار } أي ألحقنا بالصالحين { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } قيل : معناه على الإيمان برسلك وقيل : معناه على ألسنة رسلك وهذا أظهر ـ وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد عن أبي عقال عن أنس بن مالك قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفا لا حساب عليهم ويبعث منها خمسين ألفا شهداء وفودا إلى الله وبها صفوف الشهداء رؤوسهم مقطعة في أيديهم تثج أوداجهم دما يقولون { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } فيقول الله : صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة فيخرجون منه نقاء بيضا فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا ] وهذا الحديث يعد من غرائب المسند ومنهم من يجعله موضوعا والله أعلم { ولا تخزنا يوم القيامة } أي على رؤوس الخلائق { إنك لا تخلف الميعاد } أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سريج حدثنا المعتبر حدثنا الفضل بن عيسى حدثنا محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله عز و جل ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار ] حديث غريب وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ هذه الايات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقال البخاري رحمه الله : حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الاخر قعد فنظر إلى السماء فقال { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } الايات ثم قام فتوضأ واستن فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح ] وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني عن ابن أبي مريم به ثم رواه البخاري من طرق عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه و سلم وهي خالته قال : [ فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه و سلم من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الايات الخواتيم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي قال ابن عباس رضي الله عنهما : فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح ] وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك به ورواه مسلم أيضا و أبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به
( طريق أخرى ) لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة أنبأنا خلاد بن يحيى أنبأنا يونس بن أبي إسحاق عن المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس قال : أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأحفظ صلاته قال : [ فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس صلاة العشاء الاخرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره قام فمر بي فقال : من هذا ؟ عبد الله ؟ قلت : نعم قال : فمه قلت أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة قال : فالحق الحق فلما أن دخل قال : افرشن عبد الله ؟ فأتى بوسادة من مسوح قال : فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم عليها حتى سمعت غطيطه ثم استوى على فراشه قاعدا قال : فرفع رأسه إلى السماء فقال سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ثم تلا هذه الايات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها ] وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه حديثا في ذلك أيضا
( طريق أخرى ) رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الاية { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } إلى آخر السورة ثم قال اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا ومن بين يدي نورا ومن خلفي نورا ومن فوقي نورا ومن تحتي نورا وأعظم لي نورا يوم القيامة ] وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : بم جاءكم موسى من الايات ؟ قالوا : عصاه ويده البيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه عز و جل فنزلت { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } قال : فليتفكروا فيها لفظ ابن مردويه وقد تقدم هذا الحديث من رواية الطبراني في أول الاية وهذا يقتضي أن تكون هذه الايات مكية والمشهور أنها مدنية ودليله الحديث الاخر قال ابن مردويه : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل حدثنا أحمد بن علي الحراني حدثنا شجاع بن أشرس حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم عن الكلبي وهو أبو جناب عن عطاء قال : انطلقت أنا و ابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال : قول الشاعر : زر غبا تزدد حبا فقال ابن عمر : [ ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكت وقالت : كل أمره كان عجبا أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال : ذريني أتعبد لربي عز و جل قالت : فقلت والله إني لأحب قربك وإني أحب أن تعبد لربك فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت : فقال : يارسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر ؟ فقال : ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ] وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن أبي جناب الكلبي عن عطاء قال : دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها فسلمنا عليها فقالت : من هؤلاء ؟ قال : فقلنا : هذا عبد الله بن عمر وعبيد بن عمير قالت : يا عبيد بن عمير ما يمنعك من زيارتنا قال : ما قال الأول : زر غبا تزدد حبا قالت إنا لنحب زيارتك وغشيانك قال عبد الله بن عمر : دعينا من بطالتكما هذه [ أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فبكت ثم قالت : كل أمره كان عجبا أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي حتى لصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي قالت : إني لأحب قربك وأحب هواك قالت : فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه قالت : ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه بلغت حجره قالت : ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده قالت : ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر ثم قال : الصلاة يا رسول الله فلما رآه بلال يبكي قال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ومالي لا أبكي وقد نزل علي الليلة { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } إلى قوله { سبحانك فقنا عذاب النار } ـ ثم ـ قال ويل لمن قرأ هذه الايات ثم لم يتفكر فيها ] وهكذا رواه أبي حاتم ابن حبان في صحيحه عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن يحيى بن زكريا عن إبراهيم بن سويد النخعي عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به ثم قال : حدثني الحسن بن عبد العزيز : سمعت سنيدا يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه قال [ من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله ] يعد بأصابعه عشرا ـ قال الحسن بن عبد العزيز : فأخبرني عبيد بن السائب قال : قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهن ؟ قال : يقرؤهن وهو يعقلهن قال ابن أبي الدنيا : وحدثني قاسم بن هاشم حدثنا علي بن عياش حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال : سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل ؟ فأطرق هنية ثم قال : يقرؤهن وهو يعقلهن
( حديث آخر ) فيه غرابة قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي ( ح ) قال : وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن عمرو قال : أنبأنا هشام بن عمار أنبأنا سليمان بن موسى الزهري أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة ] مظاهر بن أسلم ضعيف (1/580)
يقول تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } أي فأجابهم ربهم كما قال الشاعر :
( وداع دعا : يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب )
قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن سلمة رجل من آل أم سلمة قال : قالت أم سلمة : [ يا رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } إلى آخر الاية ] وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة ثم قال : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الاية { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } إلى آخرها رواه ابن مردويه ومعنى الاية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب كما قال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } وقوله تعالى : { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } هذا تفسير للإجابة أي قال لهم مجيبا لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى وقوله { بعضكم من بعض } أي جميعكم في ثوابي سواء { فالذين هاجروا } أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران { وأخرجوا من ديارهم } أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ولهذا قال { وأوذوا في سبيلي } أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده كما قال تعالى : { يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } وقال تعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } وقوله تعالى : { وقاتلوا وقتلوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه وقد ثبت في الصحيحين [ أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي ؟ قال نعم ثم قال : كيف قلت ؟ فأعاد عليه ما قال فقال : نعم إلا الدين قاله لي جبريل آنفا ] ولهذا قال تعالى : { لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقوله { ثوابا من عند الله } أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا كما قال الشاعر :
( إن يعذب يكن غراما وإن يعـ ... ط جزيلا فإنه لا يبالي )
وقوله تعالى : { والله عنده حسن الثواب } أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا قال ابن أبي حاتم : ذكر عن دحيم بن إبراهيم قال : قال الوليد بن مسلم أخبرني حريز بن عثمان أن شداد بن أوس كان يقول : يا أيها الناس لا تتهموا الله في قضائه فإنه لا يبغي على مؤمن فإذا أنزل بأحدكم شي مما يحب فليحمد الله وإذا أنزل به شي مما يكره فليصبر وليحتسب فإن الله عنده حسن الثواب (1/586)
يقول تعالى : لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا وجميع ما هم فيه { متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } وهذه الاية كقوله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } وقال تعالى : { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } وقال تعالى : { نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } وقال تعالى : { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } أي قليلا وقال تعالى : { أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين } وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم إلى النار قال بعده { لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار } وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن نصر حدثنا أبو طاهر سهل بن عبدالله أنبأنا هشام بن عمار أنبأنا سعيد بن يحيى أنبأنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إنما سموا الأبرار لأنهم بروا الاباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق ] كذا رواه ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن جناب حدثنا عيسى بن يونس عن عبد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بروا الاباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق وهذا أشبه والله أعلم ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن قال : الأبرار الذين لا يؤذون الذر وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة عن الأسود قال : قال عبد الله يعني ابن مسعود : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها لئن كان برا لقد قال الله تعالى { وما عند الله خير للأبرار } وكذا رواه عبد الرزاق عن الأعمش عن الثوري به وقرأ { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا ابن أبي جعفر عن فرج بن فضالة عن لقمان عن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له وما من كافر إلا والموت خير له ومن لم يصدقني فإن الله يقول { وما عند الله خير للأبرار } ويقول { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } (1/587)
يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه { لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا } أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه و سلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم سواء كانوا هودا أو نصارى وقد قال تعالى في سورة القصص : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } الاية وقد قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به } الاية وقد قال تعالى : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } وقال تعالى : { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } وقال تعالى : { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق كما قال تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } إلى قوله تعالى : { فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } الاية وهكذا قال ههنا { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } الاية وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة { كهيعص } بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه وقال [ إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه ] وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ استغفروا لأخيكم فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة ] فنزلت { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله } الاية ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد عن أنس بن مالك بنحو ما تقدم ورواه أيضا ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن جابر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين مات النجاشي إن أخاكم أصحمة قد مات فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر عليه أربعا ] فقال المنافقون : يصلي على علج مات بأرض الحبشة فأنزل الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } الاية وقال أبو داود : حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عاشئة رضي الله عنها قالت : لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه : أنبأنا أبو العباس السياري بمرو حدثنا عبد الله بن علي الغزال حدثنا علي بن الحسن بن شقيق حدثنا ابن المبارك حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : نزل بالنجاشي عدو من أرضهم فجاءه المهاجرون فقالوا : إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا فقال : لا دواء بنصرة الله عز و جل خير من دواء بنصرة الناس قال : وفيه نزلت { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله } الاية ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { وإن من أهل الكتاب } يعني مسلمة أهل الكتاب وقال عباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } الاية قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه و سلم فاتبعوه وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين : للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه و سلم بالذي اتبعوا محمدا صلى الله عليه و سلم رواهما ابن أبي حاتم وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر منهم : ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ] وقوله تعالى : { لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا } أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم بل يبذلون ذلك مجانا ولهذا قال تعالى : { أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب } قال مجاهد : { سريع الحساب } يعني سريع الإحصاء رواه ابن أبي حاتم وغيره وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } قال الحسن البصري رحمه الله : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم وكذا قال غير واحد من علماء السلف وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم وروى ابن أبي حاتم ههنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ] وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل علي أبو هريرة يوما فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الاية : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } قلت : لا قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه و سلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها فعليهم أنزلت { اصبروا } أي على الصلوات الخمس { وصابروا } أنفسكم وهواكم { ورابطوا } في مساجدكم { واتقوا الله } فيما عليكم { لعلكم تفلحون } وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت عن داود بن صالح عن أبي سلمة عن أبي هريرة بنحوه وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري عن جده عن شرحبيل عن علي رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ] وقال ابن جرير أيضا : حدثني موسى بن سهل الرملي حدثنا يحيى بن واضح حدثنا محمد بن مهاجر حدثني يحيى بن يزيد عن زيد بن أبي أنيسة عن شرحبيل عن جابر بن عبد الله قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء في أماكنها وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ] وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي أنبأنا محمد بن عبد الله بن السلام البيروتي أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي أنبأنا عثمان بن عبدالرحمن أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي أيوب رضي الله عنه قال : وقفه علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟ قلنا : نعم يا رسول الله وما هو ؟ قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ] قال : وهو قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } فذلك هو الرباط في المساجد وهذا حديث غريب من هذا الوجه جدا وقال عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير حدثني داود بن صالح قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الاية { اصبروا وصابروا ورابطوا ؟ } قال : قلت : لا قال : إنه لم يكن يا ابن أخي في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة رواه ابن جرير وقد تقدم سياق ابن مردويه له وأنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه والله أعلم وقيل : المراد بالمرابطة ههنا مرابطة الغزو في نحور العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ]
( حديث آخر ) روى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح أخبرني أبو هانىء الخولاني أن عمرو بن مالك الجنبي أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر ] وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانىء الخولاني وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق وحسن بن موسى وأبو سعيد قالوا : حدثنا ابن لهيعة حدثنا مشرح بن هاعان سمعت عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن من الفتان ] وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد به إلى قوله [ حتى يبعث ] دون ذكر [ الفتان ] و ابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد
( حديث آخر ) قال ابن ماجه في سننه : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني الليث عن زهرة بن معبد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من مات مرابطا في سبيل الله أجرى عليه عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع ]
( طريق أخرى ) قال الإمام أحمد : حدثنا موسى أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من مات مرابطا وقي فتنة القبر وأمن من الفزع الأكبر وغدا عليه وريح برزقه من الجنة وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي عن إسحاق بن عبد الله عن أم الدرداء ترفع الحديث قالت : [ من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة ]
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا كهمس حدثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال : قال عثمان رضي الله عنه وهو يخطب على منبره : إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها ] وهكذا رواه أحمد أيضا عن روح عن كهمس عن مصعب بن ثابت عن عثمان وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير قال : خطب عثمان بن عفان الناس فقال : يا أيها الناس إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم فليختر مختار لنفسه أو ليدع [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها ]
( طريق أخرى ) عن عثمان رضي الله عنه قال الترمذي : حدثنا الحسن بن علي الخلال حدثنا هشام بن عبد الملك حدثنا الليث بن سعد حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال : سمعت عثمان وهو على المنبر يقول : إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن أحدثكموه : ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ] ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال محمد يعني البخاري أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث والله أعلم وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة وعنده زيادة في آخره فقال يعني عثمان : فليرابط امرؤ كيف شاء هل بلغت ؟ قالوا : نعم قال : اللهم اشهد
( حديث آخر ) قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان حدثنا محمد بن المنكدر قال : مر سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط وهو في مرابط له وقد شق عليه وعلى أصحابه فقال : أفلا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : بلى قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول رباط يوم في سبيل الله أفضل ـ أو قال خير ـ من صيام شهر وقيامه ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونمي له عمله إلى يوم القيامة ] تفرد به الترمذي من هذا الوجه وقال : هذا حديث حسن وفي بعض النسخ زيادة وليس إسناده بمتصل و ابن المنكدر لم يدرك سلمان ( قلت ) : الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة كلاهما عن شرحبيل بن السمط وله صحبة عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ] وقد تقدم سياق مسلم بمفرده
( حديث آخر ) قال ابن ماجه : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا محمد بن يعلى السلمي حدثنا عمر بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو عن مكحول عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا ـ أراه قال ـ من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة ] هذا حديث غريب بل منكر من هذا الوجه و عمر بن صبيح متهم
( حديث آخر ) قال ابن ماجه : حدثنا عيسى بن يونس الرملي حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة ] وهذا حديث غريب أيضا و سعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به وقال الحاكم : روى عن أنس أحاديث موضوعة
( حديث آخر ) قال ابن ماجه : حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة عن عمر بن عبد العزيز عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ رحم الله حارس الحرس ] فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر فإنه لم يدركه والله أعلم
( حديث آخر ) قال أبو داود : حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية يعني ابن سلام عن زيد ـ يعني ابن سلام ـ أنه سمع أبا سلام قال : حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كانت عشية فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم وقال [ تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله ثم قال من يحرسنا الليلة ؟ قال أنس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله فقال فاركب فركب فرسا له فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغز من قبلك الليلة فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال هل أحسستم فارسكم ؟ فقال رجل : يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل النبي صلى الله عليه و سلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال أبشروا فقد جاءكم فارسكم ] فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هل نزلت الليلة ؟ قال : لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال له أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها ] ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عبد الرحمن بن شريح سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول : سمعت أبا عامر التجيبي قال الإمام أحمد : وقال غير زيد أبا علي الجنبي يقول : سمعت أبا ريحانة يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة فأتينا ذات ليلة إلى شرف فبتنا عليه فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة يعني الترس فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم من الناس نادى [ من يحرسنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله فقال ادن فدنا فقال من أنت ؟ فتسمى له الأنصاري ففتح رسول الله صلى الله عليه و سلم بالدعاء فأكثر منه فقال أبو ريحانة : فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه و سلم قلت : أنا رجل آخر فقال ادن فدنوت فقال من أنت ؟ قال : فقلت : أنا أبو ريحانة فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري ثم قال حرمت النار على عين دمعت ـ أو بكت ـ من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله ] وروى النسائي منه [ حرمت النار ] إلى آخره عن عصمة بن الفضل عن زيد بن الحباب به وعن الحارث بن مسكين عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح به وأتم وقال في الروايتين عن أبي علي الجنبي
( حديث آخر ) قال الترمذي : حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا بشر بن عمر حدثنا شعيب بن رزيق أبو شيبة عن عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ] ثم قال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق قال وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة ( قلت ) وقد تقدما ولله الحمد والمنة
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يحي بن غيلان حدثنا رشدين عن زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن رضي الله عنه أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا بأجرة سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم فإن الله يقول { وإن منكم إلا واردها } ] تفرد به أحمد رحمه الله
( حديث آخر ) ـ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع ] فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ولله الحمد على جزيل الإنعام على تعاقب الأعوام والأيام وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا مطرف بن عبد الله المدني حدثنا مالك عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر : أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وودعته للخروج وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة
( يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب )
( من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب )
( أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب )
( ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... وهج السنابك والغبار الأطيب )
( ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب )
( لا يستوي وغبار خيل الله في ... أنف امريء ودخان نار تلهب )
( هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب )
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام فلما قرأه ذرفت عيناه وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم قال فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا وأملى علي الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال [ هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر ؟ فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات ] وقوله تعالى : { واتقوا الله } أي في جميع أموركم وأحوالكم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن [ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ] { لعلكم تفلحون } أي في الدنيا والاخرة ـ وقال ابن جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قول الله عز و جل { واتقوا الله لعلكم تفلحون } واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني (1/588)
سورة النساء
قال العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت وروى من طريق عبد الله بن لهيعة عن أخيه عيسى عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا حبس ] وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر حدثنا محمد بن بشر العبدي حدثنا مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الاية و { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الاية و { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك } الاية { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه فقد اختلف في ذلك وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن رجل عن ابن مسعود قال : خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعا { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } وقوله : { وإن تك حسنة يضاعفها } وقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقوله : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } وقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما } رواه ابن جرير ثم روى من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت أولاهن { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم } والثانية { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } والثالثة { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } ثم ذكر قول ابن مسعود سواء ـ يعني في الخمسة الباقية ـ وروى الحاكم من طريق أبي نعيم عن سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن أبي مليكة : سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
بسم الله الرحمن الرحيم (1/595)
يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه وهي عبادته وحده لا شريك له ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة وهي آدم عليه السلام { وخلق منها زوجها } وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته فأنس إليها وأنست إليه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن مقاتل حدثنا وكيع عن أبي هلال عن قتادة عن ابن عباس قال : خلقت المرأة من الرجل فجعل نهمتها في الرجل وخلق الرجل من الأرض فجعل نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم وفي الحديث الصحيح : [ إن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج ] وقوله : { وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } أي وذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر ثم قال تعالى : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } أي واتقوا الله بطاعتكم إياه قال إبراهيم ومجاهد والحسن { الذي تساءلون به } أي كما يقال : أسألك بالله وبالرحم وقال الضحاك : واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن والضحاك والربيع وغير واحد وقرأ بعضهم : والأرحام بالخفض على العطف على الضمير في به أي تساءلون بالله وبالأرحام كما قال مجاهد وغيره وقوله : { إن الله كان عليكم رقيبا } أي هو مراقب لجميع أحولكم وأعمالكم كما قال : { والله على كل شيء شهيد } وفي الحديث الصحيح [ اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض ويحننهم على ضعفائهم وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النمار ـ أي من عريهم وفقرهم ـ قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } حتى ختم الاية وقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } ثم حضهم على الصدقة فقال : [ تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره ] وذكر تمام الحديث وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها { يا أيها الناس اتقوا ربكم } الاية (1/596)
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم ولهذا قال : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } قال سفيان الثوري عن أبي صالح : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك وقال سعيد بن جبير : لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم يقول : لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام وقال سعيد بن المسيب والزهري : لا تعط مهزولا وتأخذ سمينا وقال إبراهيم النخعي والضحاك : لا تعط زائفا وتأخذ جيدا وقال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة ويقول : شاة بشاة ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم وقوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } قال مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والسدي وسفيان بن حسين : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا وقوله : { إنه كان حوبا كبيرا } قال ابن عباس : أي إثما كبيرا عظيما وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله { حوبا كبيرا } قال : [ إثما كبيرا ] ولكن في إسناده محمد بن يوسف الكديمي وهو ضعيف وروي هكذا عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وأبي مالك وزيد بن أسلم وأبي سنان مثل قول ابن عباس وفي الحديث المروي في سنن أبي داود [ اغفر لنا حوبنا وخطايانا ] وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل مولى أبي عيينة عن ابن سيرين عن ابن عباس أن أبا أيوب طلق امرأته فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا أيوب إن طلاق أم أيوب كان حوبا ] قال ابن سيرين : الحوب الإثم ثم قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى حدثنا هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن أنس أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب فاستأذن النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن طلاق أم أيوب لحوب ] فأمسكها ثم روى ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم عن حميد الطويل سمعت أنس بن مالك أيضا يقول : أراد أبو طلحة أن يطلق أم سليم امرأته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن طلاق أم سليم لحوب ] فكف والمعنى : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه وقوله : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى } أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه { وإن خفتم أن لا تقسطوا } أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله ثم قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } قالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هذه الاية فأنزل الله { ويستفتونك في النساء } قالت عائشة : وقول الله في الاية الأخرى { وترغبون أن تنكحوهن } رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال وقوله : { مثنى وثلاث ورباع } أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين وإن شاء ثلاثا وإن شاء أربعا كما قال الله تعالى : { جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } أي منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ومنهم من له أربعة ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه بخلاف قصر الرجال على أربع فمن هذه الاية كما قال ابن عباس وجمهور العلماء لأن المقام مقام امتنان وإباحة فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره قال الشافعي : وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله مجمع عليه بين العلماء إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع وقال بعضهم : بلا حصر وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين وأما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري : وقد علقه البخاري وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج بخمس عشرة امرأة ودخل منهن بثلاث عشرة واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع ولنذكر الأحاديث في ذلك قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا معمر عن الزهري قال ابن جعفر في حديثه : أنبأنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم [ اختر منهن أربعا ] فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك لا تمكث إلا قليلا وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك ولامرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم من طرق عن إسماعيل بن علية وغندر ويزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وعيسى بن يونس وعبد الرحمن بن محمد المحاربي والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ عن معمر بإسناده مثله إلى قوله : [ اختر منهن أربعا ] وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد وهي زيادة حسنة وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي حيث قال بعد روايته له سمعت البخاري يقول : هذا الحديث غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري حدثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة ـ فذكره قال البخاري : وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر : لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال وهذا التعليل فيه نظر والله أعلم ـ وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلا وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلا قال أبو زرعة : وهو أصح وقال البيهقي : ورواه عقيل عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد وقال أبو حاتم : وهذا وهم إنما هو الزهري عن محمد بن سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فذكره قال البيهقي : ورواه يونس وابن عيينة عن الزهري عن محمد بن أبي سويد وهذا كما علله البخاري وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقات على شرط الشيخين ثم قد روي من غير طريق معمر بل والزهري قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو علي الحافظ حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي حدثنا أبو بريد عمرو بن يزيد الجرمي أخبرنا سيف بن عبيد الله حدثنا سرار بن مجشر عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يختار منهن أربعا هكذا أخرجه النسائي في سننه قال أبو علي بن السكن : تفرد به سرار بن مجشر وهو ثقة وكذا وثقه ابن معين قال أبو علي : وكذا رواه السميدع بن واهب عن سرار قال البيهقي : وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس وعروة بن مسعود الثقفي وصفوان بن أمية يعني حديث غيلان بن سلمة فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله صلى الله عليه و سلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال فإذا كان هذا في الدوام ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ( حديث آخر في ذلك ) روى أبو داود وابن ماجه في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حميضة بن الشمردل وعند ابن ماجه بنت الشمردل حكى أبو داود أن منهم من يقول الشمرذل بالذال المعجمة عن قيس بن الحارث وعند أبي داود في رواية الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ اختر منهن أربعا ] وهذا الإسناد حسن : ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثله لما للحديث من الشواهد ( حديث آخر في ذلك ) قال الشافعي في مسنده : أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول أخبرني عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه قال : أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اختر أربعا أيتهن شئت وفارق الأخرى ] فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة فطلقتها فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غيلان كما قاله البيهقي رحمه الله وقوله : { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } أي فإن خشيتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن كما قال تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري السراري فإنه لا يجب قسم بينهن ولكن يستحب فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج وقوله : { ذلك أدنى أن لا تعولوا } قال بعضهم ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي رحمهم الله وهو مأخوذ من قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } أي فقرا { فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } وقال الشاعر :
فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وتقول العرب : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ولكن في هذا التفسير ههنا نظر فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا والصحيح قول الجمهور { ذلك أدنى أن لا تعولوا } أي لا تجوروا يقال : عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
وقال هشيم عن أبي إسحاق قال : كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان لا أعول رواه ابن جرير وقد روى ابن أبي حاتم وأبو حاتم ابن مردويه وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم حدثنا محمد بن شعيب عن عمر بن محمد بن زيد عن عبد الله بن عمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم : { ذلك أدنى أن لا تعولوا } قال : [ لا تجوروا ] قال ابن أبي حاتم : قال أبي هذا حديث خطأ والصحيح : عن عائشة موقوف وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس وعائشة ومجاهد وعكرمة والحسن وأبي مالك وأبي رزين والنخعي والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان أنهم قالوا : لا تميلوا وقد استشهد عكرمة رحمه الله ببيت أبي طالب الذي قدمناه ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة وقد رواه ابن جرير ثم أنشده جيدا واختار ذلك وقوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : النحلة المهر وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة : نحلة فريضة وقال مقاتل وقتادة وابن جريج : نحلة أي فريضة زاد ابن جريج : مسماة وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب : الواجب يقول : لا تنكحها إلا بشيء واجب لها وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه و سلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق ومضمون كلامهم : أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما وأن يكون طيب النفس بذلك كما يمنع المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبا ولهذا قال : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن السدي عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة عن علي قال : إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئا مريئا شفاء مباركا وقال هشيم عن سيار عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك ونزل { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن سفيان عن عمير الخثعمي عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد الرحمن بن البيلماني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } قالوا : يا رسول الله فما العلائق بينهم ؟ قال : [ ما تراضى عليه أهلوهم ] وقد روى ابن مردويه من طريق حجاج بن أرطأة عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمر بن الخطاب قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أنكحوا الأيامى ـ ثلاثا ] فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ما العلائق بينهم ؟ قال : [ ماتراضى عليه أهلوهم ] ابن البيلماني ضعيف ثم فيه انقطاع أيضا (1/596)
ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام فتارة يكون الحجر للصغر فإن الصغير مسلوب العبارة وتارة يكون الحجر للجنون وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين وتارة للفلس وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قال : هم بنوك والنساء وكذا قال ابن مسعود والحكم بن عيينة والحسن والضحاك : هم النساء والصبيان وقال سعيد بن جبير : هم اليتامى وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : هم النساء وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ وإن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها ] ورواه ابن مردويه مطولا وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم حدثنا حرب بن سريح عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قال : هم الخدم وهم شياطين الإنس وقوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول : لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤونتهم ورزقهم وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه وقال مجاهد : { وقولوا لهم قولا معروفا } يعني في البر والصلة وهذه الاية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة ومن تحت الحجر بالفعل من الإنفاق في الكساوي والأرزاق والكلام الطيب وتحسين الأخلاق وقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } قال ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي ومقاتل بن حيان : أي اختبروهم { حتى إذا بلغوا النكاح } قال مجاهد : يعني الحلم قال الجمهور من العلماء البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد وفي سنن أبي داود عن علي قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل ] وفي الحديث الاخر عن عائشة وغيرها من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستقيظ وعن المجنون حتى يفيق ] أو يستكمل خمس عشرة سنة وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر قال : عرضت على النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث : إن هذا الفرق بين الصغير والكبير واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج وهي الشعرة هل تدل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم لأنه لا يتعجل بها إلى ضرب الجزية عليه فلا يعالجها والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال المعالجة بعيد ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عطية القرظي رضي الله عنه قال : عرضنا على النبي صلى الله عليه و سلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه وقال الترمذي : حسن صحيح وإنما كان كذلك لأن سعد بن معاذ كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الغريب : حدثنا ابن علية عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمر أن غلاما ابتهر جارية في شعره فقال عمر رضي الله عنه : انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد قال أبو عبيد : ابتهرها أي قذفها والابتهار أن يقول فعلت بها وهو كاذب فإن كان صادقا فهو الابتيار قال الكميت في شعره :
قبيح بمثلي نعت الفتاة إما ابتهارا وإما ابتيارا
وقوله عز و جل : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } قال سعيد بن جبير : يعني صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم وكذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة وهكذا قال الفقهاء : متى بلغ الغلام مصلحا لدينه وماله انفك الحجر عنه فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه وقوله : { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية { إسرافا وبدارا } أي مبادرة قبل بلوغهم ثم قال تعالى : { ومن كان غنيا فليستعفف } من كان في غنى عن مال اليتيم فليستعفف عنه ولا يأكل منه شيئا وقال الشعبي هو عليه كالميتة والدم { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } قال ابن أبي حاتم حدثنا الأشج حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة { ومن كان غنيا فليستعفف } نزلت في مال اليتيم وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه عن عائشة { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه وحدثنا أبي حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : أنزلت هذه الاية في والي اليتيم { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بقدر قيامه عليه ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير عن هشام به قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين : أجرة مثله أو قدر حاجته واختلفوا هل يرد إذا أيسر ؟ على قولين ( أحدهما ) لا لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي لأن الاية أباحت الأكل من غير بدل قال أحمد : حدثنا عبد الوهاب حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال : [ كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك ـ أو قال ـ تفدي مالك بماله ] شك حسين وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر حدثنا حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن عندي يتيما عنده مال وليس عنده شيء ما آكل من ماله ؟ قال : [ بالمعروف غير مسرف ] ورواه أبو دواد والنسائي وابن ماجه من حديث حسين المعلم به وروى ابن حبان في صحيحه وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي عن جعفر بن سليمان عن أبي عامر الخزاز عن عمرو بن دينار عن جابر أن رجلا قال : يا رسول الله فيم أضرب يتيمي ؟ قال : [ ما كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله ولا متأثل منه مالا ] وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما وإن لهم إبلا ولي إبل وأنا أمنح في إبلي وأفقر فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتسقي عليها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب ورواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد به وبهذا القول وهو عدم أداء البدل يقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطية العوفي والحسن البصري ( والثاني ) نعم لأن مال اليتيم على الحظر وإنما أبيح للحاجة فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة وقد قال ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن خيثمة حدثنا وكيع عن سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت استقرضت فإذا أيسرت قضيت
( طريق أخرى ) قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء قال : قال عمر رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم إن احتجت أخذت منه فإذا أيسرت رددته وإن استغنيت استعففت إسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } يعني القرض قال وروي عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل وسعيد بن جبير في إحدى الروايات ومجاهد والضحاك والسدي نحو ذلك وروي من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { فليأكل بالمعروف } قال : يأكل بثلاث أصابع ثم قال : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } قال : يأكل من ماله يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم قال وروي عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك وقال عامر الشعبي : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وهب : حدثنا نافع بن أبي نعيم القارى قال : سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله تعالى : { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } الاية فقالا : ذلك في اليتيم إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره ولم يكن للولي منه شيء وهذا بعيد من السياق لأنه قال { ومن كان غنيا فليستعفف } يعني من الأولياء { ومن كان فقيرا } أي منهم { فليأكل بالمعروف } أي بالتي هي أحسن كما قال في الاية الأخرى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } أي لا تقربوه إلا مصلحين له فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف وقوله : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم } يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أموالهم فإذا دفعتم إليهم أموالهم { فأشهدوا عليهم } وهذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه ثم قال : { وكفى بالله حسيبا } أي وكفى بالله محاسبا وشهيدا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم للأموال هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم ] (1/600)
قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا فأنزل الله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الاية أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو ولاء فإنه لحمة كلحمة النسب وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : جاءت أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء فأنزل الله تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الاية وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر والله أعلم وقوله { وإذا حضر القسمة } الاية قيل : المراد وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث { واليتامى والمساكين } فليرضخ لهم من التركة نصيب وإن ذلك كان واجبا في ابتداء الاسلام وقيل يستحب واختلفوا هل هو منسوخ أم لا على قولين فقال البخاري : حدثنا أحمد بن حميد أخبرنا عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين } قال : هي محكمة وليست بمنسوخة تابعه سعيد عن ابن عباس وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : هي قائمة يعمل بها وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الاية قال : هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم وهكذا روي عن ابن مسعود وأبي موسى وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبي العالية والشعبي والحسن وقال ابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح والزهري ويحيى بن يعمر : إنها واجبة وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن إسماعيل ابن علية عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين قال : ولي عبيدة وصية فأمر بشاة فذبحت فأطعم أصحاب هذه الاية وقال : لولا هذه الاية لكان هذا من مالي وقال مالك فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع عن الزهري : أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله وقال الزهري : هي محكمة وقال مالك : عن عبد الكريم عن مجاهد قال : هي حق واجب ما طابت به الأنفس
ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم
قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة : أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والقاسم بن محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية قالا : فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه قالا : وتلا { وإذا حضر القسمة أولو القربى } قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب ليس ذلك له إنما ذلك إلى الوصية وإنما هذه الاية في الوصية يريد الميت يوصي لهم رواه ابن أبي حاتم
ذكر من قال هذه الاية منسوخة بالكلية
قال سفيان الثوري عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما { وإذا حضر القسمة } قال : منسوخة وقال إسماعيل بن مسلم المكي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال في هذه الاية { وإذا حضر القسمة أولو القربى } نسختها الاية التي بعدها { يوصيكم الله في أولادكم } وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الاية { وإذا حضر القسمة أولو القربى } كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض فأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى رواهن ابن مردويه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين } نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر وحدثنا أسيد بن عاصم حدثنا سعيد بن عامر عن همام حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال : إنها منسوخة كانت قبل الفرائض كان ما ترك الرجل من مال أعطى منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حضروا القسمة ثم نسخ بعد ذلك نسختها المواريث فألحق الله بكل ذي حق حقه وصارت الوصية من ماله يوصي بها لذوي قرابته حيث شاء وقال مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب : هي منسوخة نسختها المواريث والوصية وهكذا روي عن عكرمة وأبي الشعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهم قالوا : إنها منسوخة وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم وقد اختار ابن جرير ههنا قولا غريبا جدا وحاصله أن معنى الاية عنده { وإذا حضر القسمة } أي وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت { فارزقوهم منه وقولوا } لليتامى والمساكين إذا حضروا { قولا معروفا } هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة والتكرار وفيه نظر والله أعلم وقال العوفي عن ابن عباس { وإذا حضر القسمة } هي قسمة الميراث وهكذا قال غير واحد والمعنى على هذا لا على ما سلكه ابن جرير رحمه الله بل المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم يائسون لا شيء يعطونه فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم وصدقة عليهم وإحسانا إليهم وجبرا لكسرهم كما قال الله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة كما أخبر عن أصحاب الجنة { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } أي بليل وقال { فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } فـ { دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها } فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه ولهذا جاء في الحديث [ ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته ] أي منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية وقوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم } الاية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة وهكذا قال مجاهد وغير واحد وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال [ لا ] قال : فالشطر ؟ قال [ لا ] قال : فالثلث ؟ قال : [ الثلث والثلث كثير ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ] وفي الصحيح عن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ الثلث والثلث كثير ] قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث وقيل : المراد بالاية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلما فإنما يأكل في بطنه نارا ولهذا قال { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون نارا تتأجج في بطونهم يوم القيامة وفي الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اجتنبوا السبع الموبقات ] قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال : [ الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الؤمنات الغافلات ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبيدة أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي حدثنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا : يا رسول الله ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال [ انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير رجال كل رجل منهم له مشفران كمشفري البعير وهو موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في في أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم جوار وصراخ قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ] وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم وقال ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن عمرو حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا يونس بن بكير حدثنا زياد بن المنذر عن نافع بن الحارث عن أبي برزة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : ألم تر أن الله قال { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الاية ] رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة عن عقبة بن مكرم وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أحمد بن علي بن المثنى عن عقبة بن مكرم وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو عامر العبدي حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم ] أي أوصيكم باجتناب مالهما وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الاية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } الاية قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم (1/604)
هذه الاية الكريمة والتي بعدها والاية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض وهو مستنبط من هذه الايات الثلاث ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة والحجاج بين الأئمة فموضعه كتب الأحكام والله المستعان وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة ] وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا أبا هريرة تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم وهو ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي ] رواه ابن ماجه وفي إسناده ضعف وقد روي من حديث ابن مسعود وأبي سعيد وفي كل منهما نظر قال ابن عيينة : إنما سمى الفرائض نصف العلم لأنه يبتلى به الناس كلهم وقال البخاري عند تفسير هذه الاية : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي صلى الله عليه و سلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر
( حديث آخر عن جابر في سبب نزول الاية ) قال أحمد : حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله هو ابن عمرو الرقي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال قال : فقال [ يقضي الله في ذلك ] فنزلت آية الميراث فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عمهما فقال : [ أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك ] وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل به قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسبب الاية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ولم يكن له بنات وإنما كان يورث كلالة ولكن ذكرنا الحديث ههنا تبعا للبخاري رحمه الله فإنه ذكره ههنا والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الاية والله أعلم
فقوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } أي يأمركم بالعدل فيهم فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث وفاوت بين الصنفين فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤونة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها حيث أوصى الوالدين بأولادهم فعلم أنه أرحم بهم منهم كما جاء في الحديث الصحيح وقد رأى امرأة من السبي فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه [ أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ] ؟ قالوا : لا يارسول الله قال [ فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها ] وقال البخاري ههنا : حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للزوجة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع وقال العوفي عن ابن عباس قوله { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } وذلك لما أنزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى البنت النصف ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ينساه أو نقول له فيغير فقال بعضهم : يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئا وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا وقوله { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } قال بعض الناس : قوله { فوق } زائدة وتقديره فإن كن نساء اثنتين كما في قوله { فاضربوا فوق الأعناق } وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع ثم قوله { فلهن ثلثا ما ترك } لو كان المراد ما قالوه لقال : فلهما ثلث ما ترك وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الاية الأخيرة فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين وإذا ورثت الأختان الثلثين فلأن ترث البنتان الثلثين بالطريق الأولى وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين فدل الكتاب والسنة على ذلك وأيضا فإنه قال { وإن كانت واحدة فلها النصف } فلو كان للبنتين النصف لنص عليه أيضا فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم وقوله تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس } إلى آخره الأبوان لهما في الإرث أحوال ( أحدها ) أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف وللأبوين لكل واحد منهما السدس وأخذ الأب السدس الاخر بالتعصيب فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب ( الحال الثاني ) أن ينفرد الأبوان بالميراث فيفرض للأم والحالة هذه الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم وهو الثلثان فلو كان معهما ـ والحالة هذه ـ زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع ثم اختلف العلماء ماذا تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة على ثلاثة أقوال : ( أحدها ) أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب ثلثيه هذا قول عمر وعثمان وأصح الروايتين عن علي وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء ( والثاني ) أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } فإن الاية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا وهو قول ابن عباس وروي عن علي ومعاذ بن جبل نحوه وبه يقول شريح وداود الظاهري واختاره أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه الإيجاز في علم الفرائض وهذا فيه نظر بل هو ضعيف لأن ظاهر الاية إنما هو إذا استبد بجميع التركة وأما هنا فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ويبقى الباقي كأنه جميع التركة فتأخذ ثلثه كما تقدم ( والقول الثالث ) أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة خاصة فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة فيبقى خمسة للأب وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال فتكون المسألة من ستة : للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وهو سهم وللأب الباقي بعد ذلك هو سهمان ويحكى هذا عن ابن سيرين وهو قول مركب من القولين الأولين موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا والصحيح الأول والله أعلم ( والحال الثالث من أحوال الأبوين ) وهو اجتماعهما مع الإخوة سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس فيفرض لها مع وجودهم السدس فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث قال الله تعالى : { فإن كان له إخوة } فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان : لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس وفي صحة هذا الأثر نظر فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به والمنقول عنهم خلافه وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه قال : الأخوان تسمى إخوة وقد أفردت لهذه المسألة جزءا على حدة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن المغيرة حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } أضروا بالأم ولا يرثون ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم وهذا كلام حسن لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم وهذا قول شاذ رواه ابن جرير في تفسيره فقال : حدثنا الحسن بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم ثم قال ابن جرير : وهذا قول مخالف لجميع الأمة وقد حدثني يونس أخبرنا سفيان أخبرنا عمرو عن الحسن بن محمد عن ابن عباس أنه قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد
وقوله { من بعد وصية يوصي بها أو دين } أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الاية الكريمة وقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير من حديث أبي إسحاق عن الحارث بن عبد الله الأعور عن علي بن أبي طالب قال : إنكم تقرؤون { من بعد وصية يوصي بها أو دين } وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالدين قبل الوصية وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث وقد تكلم فيه بعض أهل العلم ( قلت ) لكن كان حافظا للفرائض معتنيا بها وبالحساب فالله أعلم
وقوله { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } أي إنما فرضنا للاباء والأبناء وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللأبوين الوصية كما تقدم عن ابن عباس إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي أو الأخروي أو هما من أبيه ما لا يأتيه من ابنه وقد يكون بالعكس ولذا قال { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } أي كأن النفع متوقع ومرجو من هذا كما هو متوقع ومرجو من الاخر فلهذا فرضنا لهذا وهذا وساوينا بين القسمين في أصل الميراث والله أعلم
وقوله { فريضة من الله } أي هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض هو فرض من الله حكم به وقضاه والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه ولهذا قال { إن الله كان عليما حكيما } (1/607)
يقول تعالى : ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم إذا متن من غير ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد الوصية أو الدين وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية وبعده الوصية ثم الميراث وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب ثم قال { ولهن الربع مما تركتم } إلى آخره وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه وقوله : { من بعد وصية } الخ الكلام عليه كما تقدم وقوله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة } الكلالة مشتقة من الإكليل وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه الكلالة من لا ولد له ولا والد فلما ولي عمر قال : إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه رواه ابن جرير وغيره وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان عن سليمان الأحول عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت آخر الناس عهدا بعمر فسمعته يقول : القول ما قلت وما قلت وما قلت قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد وهكذا قال علي وابن مسعود وصح عن غير وجه عن ابن عباس وزيد بن ثابت وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم وبه يقول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم وقد حكى الإجماع عليه غير واحد وورد فيه حديث مرفوع قال أبو الحسين بن اللبان وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك وهو أنه من لا ولد له والصحيح عنه الأول ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد وقوله تعالى : { وله أخ أو أخت } أي من أم كما هو في قراءة بعض السلف منهم سعد بن أبي وقاص وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه { فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه ( أحدها ) أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم ( الثاني ) أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء ( الثالث ) أنهم لا يرثون إلا إن كان ميتهم يورث كلالة فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن ( الرابع ) أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرنا يونس عن الزهري قال : قضى عمر أن ميراث الإخوة من الأم بينهم للذكر مثل الأنثى قال الزهري : ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم لهذه الاية هي التي قال الله تعالى فيها { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } واختلف العلماء في المسألة المشتركة وهي زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين فعلى قول الجمهور للزوج النصف وللأم أو الجدة السدس ولولد الأم الثلث ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوة الأم وقد وقعت هذه المسألة في زمن أمير المؤمنين عمر فأعطى الزوج النصف والأم السدس وجعل الثلث لأولاد الأم فقال له أولاد الأبوين : يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة ؟ فشرك بينهم وصح التشريك عنه وعن عثمان وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح القاضي ومسروق وطاوس ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز والثوري وشريك وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق بن راهويه وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم بل يجعل الثلث لأولاد الأم ولا شيء لأولاد الأبوين والحالة هذه لأنهم عصبة وقال وكيع بن الجراح : لم يختلف عنه في ذلك وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وهو المشهور عن ابن عباس وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وزفر بن الهذيل والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد وأبي ثور وداود بن علي الظاهري واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي رحمه الله في كتابه الإيجاز وقوله : { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } أي لتكون وصيته على العدل لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه أو يزيده على ما قدر الله له من الفريضة فمن سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ الإضرار في الوصية من الكبائر ] وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة قال أبو القاسم ابن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين وروى عنه غير واحد من الأئمة وقال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ وقال علي بن المديني هو مجهول لا أعرفه لكن رواه النسائي في سننه عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا [ الإضرار في الوصية من الكبائر ] وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن عائذ بن حبيب عن داود بن أبي هند ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ عن داود عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا وفي بعضها : ويقرأ ابن عباس { غير مضار } قال ابن جرير : والصحيح الموقوف ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث هل هو صحيح أم لا ؟ على قولين ( أحدهما ) لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ] وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة والقول القديم للشافعي رحمهم الله وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار وهو مذهب طاوس وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز وهو اختيار أبي عبد الله البخاري في صحيحه واحتج بأن رافع بن خديج أوصى أن لا تكشف الفزارية عما أغلق عليه بابها قال : وقال بعض الناس لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ] وقال الله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } فلم يخص وارثا ولا غيره انتهى ماذكره فمتى كان الإقرار صحيحا مطابقا لما في نفس الأمر جرى فيه هذا الخلاف ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الاية الكريمة { غير مضار وصية من الله والله عليم حليم } ثم قال تعالى : (1/611)
أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها ولهذا قال { ومن يطع الله ورسوله } أي فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضها بحيلة ووسيلة بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } أي لكونه غير ما حكم الله به وضاد الله في حكمه وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ] قال : ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه : حدثنا عبدة بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد حدثنا نصر بن علي الحداني حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني حدثني شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ] وقال قرأ علي أبو هريرة من ههنا { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم * تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحداني به وقال الترمذي : حسن غريب وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل (1/613)
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ولهذا قال { واللاتي يأتين الفاحشة } يعني الزنا { من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك قال ابن عباس رضي الله عنه : كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم وكذا روى عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخراساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة وهو أمر متفق عليه ـ قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتربد وجهه فأنزل الله عز و جل عليه ذات يوم فلما سري عنه قال : [ خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب والبكر بالبكر الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة ] وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم ولفظه [ خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وهكذا رواه أبو داود الطيالسي عن مبارك ابن فضالة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك في وجهه فلما أنزلت { أو يجعل الله لهن سبيلا } فلما ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خذوا خذوا قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ] وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وكيع بن الجراح حدثنا الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم ثم قال : وليس هو بالحافظ كان قصابا بواسط
( حديث آخر ) قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا عباس بن حمدان حدثنا أحمد بن داود حدثنا عمرو بن عبد الغفار حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق عن أبي كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ البكران يجلدان وينفيان والثيبان يجلدان ويرجمان والشيخان يرجمان ] هذا حديث غريب من هذا الوجه ـ وروى الطبراني من طريق ابن لهيعة عن أخيه عيسى بن لهيعة عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا حبس بعد سورة النساء ] وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد قالوا : لأن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين ولم يجلدهم قبل ذلك فدل على أن الرجم ليس بحتم بل هو منسوخ على قولهم والله أعلم وقوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } أي واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما : أي بالشتم والتعيير والضرب بالنعال وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم وقال عكرمة وعطاء والحسن وعبد الله بن كثير : نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا وقال السدي : نزلت في الفتيان من قبل أن يتزوجوا وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا ـ لا يكنى وكأنه يريد اللواط ـ والله أعلم وقد روى أهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] وقوله : { فإن تابا وأصلحا } أي أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت { فأعرضوا عنهما } أي لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له { إن الله كان توابا رحيما } وقد ثبت في الصحيحين [ إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ] أي ثم لا يعيرها بما صنعت بعد الحد الذي هو كفارة لما صنعت (1/613)
يقول سبحانه وتعالى : إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو قبل معاينة الملك روحه قبل الغرغرة قال مجاهد وغير واحد : كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب وقال قتادة عن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة رواه ابن جرير وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيره وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه وقال أبو صالح عن ابن عباس : من جهالته عمل السوء وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ثم يتوبون من قريب } قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته وهو مروي عن ابن عباس وقال الحسن البصري { ثم يتوبون من قريب } مالم يغرغر وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب
ذكر الأحاديث في ذلك
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عياش وعصام بن خالد قالا : حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر ] رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به وقال الترمذي : حسن غريب ووقع في سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو وهو وهم إنما هو عبد الله بن عمر بن الخطاب
( حديث آخر ) عن ابن عمر قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبدالله بن الحسن الخراساني حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي حدثنا أيوب بن نهيك الحلبي سمعت عطاء بن أبي رباح قال : سمعت عبد الله بن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه وأدنى من ذلك وقبل موته بيوم وساعة يعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه إلا قبل منه ]
( حديث آخر ) قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن إبراهيم بن ميمونة أخبرني رجل من ملحان يقال له أيوب قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه فقلت له : إنما قال الله { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } فقال : إنما أحدثك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهكذا رواه أبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي وأبو عامر العقدي عن شعبة
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن اسلم عن عبد الرحمن بن البيلماني قال : اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أحدهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم ] فقال الاخر : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم قال : وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم ] فقال الثالث : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم قال : وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة ] قال الرابع : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم قال : وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر بنفسه ] وقد رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن البيلماني فذكر قريبا منه
( حديث آخر ) قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا عمران بن عبد الرحيم حدثنا عثمان بن الهيثم حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله يقبل توبة عبده مالم يغرغر ]
أحاديث في ذلك مرسلة
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر ] هذا مرسل حسن عن الحسن البصري رحمه الله وقد قال ابن جرير أيضا رحمه الله : حدثنا ابن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن العلاء بن زياد عن أبي أيوب بشير بن كعب أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر ] وحدثنا ابن بشار حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فذكر مثله
( أثر آخر ) قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا أبو داود حدثنا عمران عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قلابة فحدث أبو قلابة فقال : إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فقال : وعزتك وجلالك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح فقال الله عز و جل : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح وقد ورد هذا في حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري كلاهما عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ قال إبليس : وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الله عز و جل : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ] فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز و جل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة ولهذا قال تعالى { فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما } وأما متى وقع الإياس من الحياة وعاين الملك وحشرجت الروح في الحلق وضاق بها الصدر وبلغت الحلقوم وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص ولهذا قال { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } وهذا كما قال تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } الايتين وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها في قوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } الاية وقوله { ولا الذين يموتون وهم كفار } يعني أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض قال ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس { ولا الذين يموتون وهم كفار } قالوا : نزلت في أهل الشرك وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود قال : حدثنا عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان قال : حدثني أبي عن مكحول أن عمر بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان أن أبا ذر حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده مالم يقع الحجاب ] قيل : وما وقوع الحجاب ؟ قال [ أن تخرج النفس وهي مشركة ] ولهذا قال الله تعالى : { أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما } أي موجعا شديدا مقيما (1/615)
قال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس ـ قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السوائي ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ـ { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان عن عكرمة وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء كوفي أعمى كلاهما عن ابن عباس بما تقدم وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثني علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها فأحكم الله تعالى عن ذلك أي نهى عن ذلك تفرد به أبو داود وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك فقال وكيع عن سفيان عن علي بن بذيمة عن مقسم عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبا كان أحق بها فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها وروى العوفي عنه : كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته فورث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } وقال زيد بن أسلم في الاية : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله وكان يعضلها حتى يرثها أو يزوجها من أراد وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها فنهى الله المؤمنين عن ذلك رواه ابن أبي حاتم وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا علي بن المنذر حدثنا محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته وكان لهم ذلك في الجاهلية فأنزل الله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به ثم روى من طريق ابن جريج قال : أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم فنزلت { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } الاية وقال ابن جريج : قال مجاهد : كان الرجل إذ توفي كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه وقال ابن جريج : قال عكرمة : نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس توفي عنها أبو قيس بن الأسلت فجنح عليها ابنه فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فأنزل الله هذه الاية وقال السدي عن أبي مالك : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبا فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يشب أو تموت فيرثها فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوبا نجت فأنزل الله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } وقال مجاهد في هذه الاية : كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان نحو ذلك قلت : فالاية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد ومن وافقه وكل ما كان فيه نوع من ذلك والله أعلم وقوله { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } أي لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليك أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والإضطهاد وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { ولا تعضلوهن } يقول : ولا تقهروهن { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } يعني الرجل تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي وكذا قال الضحاك وقتادة واختاره ابن جرير وقال ابن المبارك وعبد الرزاق : أخبرنا معمر قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن البيلماني قال : نزلت هاتان الايتان إحداهما في أمر الجاهلية والأخرى في أمر الإسلام قال عبد الله بن المبارك : يعني قوله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } في الجاهلية { ولا تعضلوهن } في الإسلام وقوله { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال : يعني بذلك الزنا يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك وتخالعها كما قال تعالى في سورة البقرة : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله } الاية وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الفاحشة المبينة النشوز والعصيان واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها وهذا جيد والله أعلم وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال : وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها فأحكم الله عن ذلك أي نهى عن ذلك قال عكرمة والحسن البصري : وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام وقال عبد الرحمن بن زيد : كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال : فهذا قوله { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } الاية وقال مجاهد في قوله { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } هو كالعضل في سورة البقرة وقوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } أي طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ] وكان من أخلاقه صلى الله عليه و سلم أنه جميل العشرة دائم البشر يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك قالت : سابقني رسول الله صلى الله عليه و سلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني فقال [ هذه بتلك ] ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام يؤانسهم بذلك صلى الله عليه و سلم وقد قال الله تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام ولله الحمد
وقوله تعالى { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه خير كثير لكم في الدنيا والاخرة كما قال ابن عباس في هذه الاية : هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولدا ويكون في ذلك الولد خير كثير وفي الحديث الصحيح [ لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي منها آخر ]
وقوله تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئا ولو كان قنطارا من المال وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا وفي هذه الاية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال : نبئت عن أبي العجفاء السلمي قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه و سلم ما أصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول : كلفت إليك علق القربة ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مسيب البصري وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
( طريق أخرى عن عمر ) قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم قال : نعم فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأي ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول { وآتيتم إحداهن قنطارا } الاية ؟ قال : فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل إسناده جيد قوي
( طريق أخرى ) قال ابن المنذر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن قيس بن ربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور النساء فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول : { وآتيتم إحداهن قنطارا } ـ من ذهب ـ قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته
( طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع ) قال الزبير بن بكار : حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة من صفة النساء طويلة في أنفها فطس : ما ذاك لك قال : ولم ؟ قالت : لأن الله قال { وآتيتم إحداهن قنطارا } الاية فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكرا { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك ؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد : يعني بذلك الجماع ـ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما [ الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ ] قالها ثلاثا فقال الرجل : يا رسول الله مالي ؟ ـ يعني ما أصدقها ـ قال [ لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها ] في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها فإذا هي حامل من الزنا فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقضى لها بالصداق وفرق بينهما وأمر بجلدها وقال [ الولد عبد لك فالصداق في مقابلة البضع ] ولهذا قال تعالى { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض }
وقال تعالى : { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أن المراد بذلك العقد وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } قال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي نحو ذلك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الاية : هو قوله [ أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ] فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة قال : وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به قال له [ جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ] رواه ابن أبي حاتم وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فيها [ واستوصوا بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ]
وقال تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } الاية يحرم الله تعالى زوجات الاباء تكرمة لهم وإعظاما واحتراما أن توطأ من بعده حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها وهذا أمر مجمع عليه قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال : لما توفي أبو قيس ـ يعني ابن الأسلت ـ وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأته فقالت : إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأستأمره فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : إن أبا قيس توفي فقال [ خيرا ] ثم قالت : إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه وإنما كنت أعده ولدا فما ترى ؟ فقال لها [ ارجعي إلى بيتك ] قال : فنزلت { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } الاية وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا حسين حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عكرمة في قوله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخرة وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكان عند أبيه خلف وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف فخلف عليها صفوان بن أمية وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الاباء كان معمولا به في الجاهلية ولهذا قال { إلا ما قد سلف } كما قال { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } قال : وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة تزوج بامرأة أبيه فأولدها ابنه النضر بن كنانة قال : وقد قال صلى الله عليه و سلم [ ولدت من نكاح لا من سفاح ] قال : فدل على أنه كان سائغا لهم ذلك فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحا فيما بينهم فقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي حدثنا قراد حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين فأنزل الله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } { وأن تجمعوا بين الأختين } وهكذا قال عطاء وقتادة ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر والله أعلم وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الاية مبشع غاية التبشع ولهذا قال تعالى : { إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } وقال { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وقال { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } فزاد ههنا { ومقتا } أي بغضا أي هو أمر كبير في نفسه ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه و سلم وهو كالأب بل حقه أعظم من حق الاباء بالإجماع بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه وقال عطاء بن أبي رباح في قوله { ومقتا } أي يمقت الله عليه { وساء سبيلا } أي وبئس طريقا لمن سلكه من الناس فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب عن خاله أبي بردة ـ وفي رواية : ابن عمر وفي رواية : عن عمه ـ أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال : مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه و سلم فقلت له : أي عم أين بعثك النبي ؟ قال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه
( مسألة ) وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول : هذا المتاع لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن معاوية ثم قال : لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجرسي وكان فقيها فلما دخل عليه قال : إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد فقال : لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له ثم قال : نعم ما رأيت ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري فدعوته وكان آدم شديد الأدمة فقال : دونك هذه بيض بها ولدك قال : وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه و سلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه (1/617)
هذه الاية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : حرمت عليكم سبع نسبا وسبع صهرا وقرأ { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } الاية وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ثم قرأ { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } فهن النسب وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى : { وبناتكم } فإنها بنت فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتا شرعية فكما لم تدخل في قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } فإنها لا ترث بالإجماع فكذلك لا تدخل في هذه الاية والله أعلم وقوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ] وفي لفظ لمسلم [ يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ] وقال بعض الفقهاء : كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاعة إلا في أربع صور وقال بعضهم : ست صور هي مذكورة في كتب الفروع والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك لأنه يوجد مثل بعضها من النسب وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر فلا يرد على الحديث شيء أصلا البتة ولله الحمد وبه الثقة ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الاية وهذا قول مالك ويروى عن ابن عمر وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وقال آخرون : لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تحرم المصة ولا المصتان ] وقال قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أم الفضل قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان والمصة ولا المصتان ] وفي لفظ آخر [ لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ] رواه مسلم وممن ذهب إلى هذا القول : الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور وهو مروي عن علي وعائشة وأم الفضل وابن الزبير وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير رحمهم الله وقال آخرون : لا يحرم أقل من خمس رضعات لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن [ عشر رضعات معلومات يحرمن ] ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي صلى الله عليه و سلم وهن فيما يقرأ من القرآن وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة نحو ذلك وفي حديث سهلة بنت سهيل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرها أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة خمس رضعات وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات وبهذا قال الشافعي وأصحابه ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله { يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } ثم اختلفوا هل يحرم لبن الفحول كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم أو إنما يختص الرضاع بالأم فقط ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو قول لبعض السلف ؟ على قولين تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير وقوله { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها سواء دخل بها أو لم يدخل وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها ولهذا قال { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } في تزويجهن فهذا خاص بالربائب وحدهن وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها لقوله { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي رضي الله تعالى عنه في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها وفي رواية عن قتادة عن سعيد عن زيد بن ثابت أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل وقال ابن المنذر : حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني أبو بكر بن حفص عن مسلم بن عويمر الأجدع أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف قال : فلم أجامعها حتى توفى عمي عن أمها وأمها ذات مال كثير فقال أبي : هل لك في أمها ؟ قال : فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر فقال : انكح أمها ؟ قال : وسألت ابن عمر فقال : لا تنكحها فأخبرت أبي بما قالا فكتب إلى معاوية فأخبره بما قالا فكتب معاوية : إني لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله وأنت وذاك والنساء سواها كثير فلم ينه ولم يأذن لي فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عن رجل عن عبد الله بن الزبير قال : الربيبة والأم سواء لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة وفي إسناده رجل مبهم لم يسم وقال ابن جريج : أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهدا قال له { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم } أراد بهما الدخول جميعا فهذا القول كما ترى مروي عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس وقد توقف فيه معاوية وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني فيما نقله الرافعي عن العبادي وقد روي عن ابن مسعود مثله ثم رجع عنه قال الطبراني : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري حدثنا عبد الرزاق عن الثوري عن أبي فروة عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود : أن رجلا من بني كمخ من فزارة تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته فاستفتى ابن مسعود فأمره أن يفارقها ثم تزوج أمها فتزوجها وولدت له أولادا ثم أتى ابن مسعود المدينة فسئل عن ذلك فأخبر أنها لا تحل له فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل : إنها عليك حرام ففارقها وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن محمد ابن هارون بن عزرة حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول : إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها وروي أنه قال : إنها مبهمة فكرهها ثم قال : وروي عن ابن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وطاوس وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وابن سيرين وقتادة والزهري نحو ذلك وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الفقهاء قديما وحديثا ولله الحمد والمنة ـ قال ابن جرير : والصواب قول من قال : الأم من المبهمات لأن الله لم يشترط معهن الدخول كما اشترطه مع أمهات الربائب مع أن ذلك أيضا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه وقد روي بذلك أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم خبر غير أن في إسناده نظرا وهو ما حدثني به المثنى حدثنا حبان بن موسى حدثنا ابن المبارك أخبرنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة ] ثم قال : وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره وأما قوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم } فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره قالوا : وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت : يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان وفي لفظ لمسلم عزة بنت أبي سفيان قال [ أو تحبين ذلك ] ؟ قالت : نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي قال [ فإن ذلك لا يحل لي ] قالت : فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال [ بنت أم سلمة ] ؟ قالت : نعم قال [ إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لبنت أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ] وفي رواية للبخاري [ إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي ] فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم لذلك وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف وقد قيل : بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا هشام ـ يعني ابن يوسف ـ عن ابن جريج حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني علي بن أبي طالب فقال : ما لك ؟ فقلت : توفيت المرأة فقال علي : لها ابنة ؟ قلت : نعم وهي بالطائف قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا هي بالطائف قال : فانكحها قلت : فأين قول الله { وربائبكم اللاتي في حجوركم } ؟ قال : إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم وهو قول غريب جدا وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله واختاره ابن حزم وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فاستشكله وتوقف في ذلك والله أعلم وقال ابن المنذر حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قوله { اللاتي في حجوركم } قال : في بيوتكم وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس عن ابن شهاب : أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر : ما أحب أن أخبرهما جميعا يريد أن أطأهما جميعا بملك يميني وهذا منقطع وقال سنيد بن داود في تفسيره : حدثنا أبو الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له ؟ فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين لأن الله حرم ذلك في النكاح قال { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم وروى هشام عن قتادة : بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة وكذا قال قتادة عن أبي العالية ومعنى قوله { اللاتي دخلتم بهن } أي نكحتموهن قاله ابن عباس وغير واحد وقال ابن جريج عن عطاء : هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها وقلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها ؟ قال : هو سواء وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها وقال ابن جرير : وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا يحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع
وقوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية كما قال تعالى : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } الاية وقال ابن جريج : سألت عطاء عن قوله { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } قال : كنا نحدث ـ والله أعلم ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك فأنزل الله عز و جل : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } ونزلت { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } ونزلت { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا الجرح بن الحارث عن الأشعث عن الحسن بن محمد : أن هؤلاء الايات مبهمات { وحلائل أبنائكم } { وأمهات نسائكم } ثم قال : وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك ( قلت ) معنى مبهمات أي عامة في المدخول بها وغير المدخول فتحرم بمجرد العقد عليها وهذا متفق عليه فإن قيل : فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة كما هو قول الجمهور ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه فالجواب من قوله صلى الله عليه و سلم [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] وقوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } الاية أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا في التزويج وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف كما قال { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديما وحديثا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح ومن أسلم وتحته أختان خير فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة قال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي صلى الله عليه و سلم أن أطلق أحداهما ثم رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن لهيعة وأخرجه أبو داود والترمذي أيضا من حديث يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن أبي وهب الجيشاني قال الترمذي واسمه ديلم بن الهوشع عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه به وفي لفظ للترمذي فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ اختر أيتهما شئت ] ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن وقد رواه ابن ماجه أيضا بإسناد آخر فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرعيني قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية فقال [ إذا رجعت فطلق إحداهما ] قلت : فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز ويحتمل أن يكون غيره فيكون أبو وهب قد رواه عن اثنين عن فيروز الديلمي والله أعلم وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني حدثنا هيثم بن خارجة حدثنا يحيى بن إسحاق عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن رزيق بن حكيم عن كثير بن مرة عن الديلمي قال : قلت : يا رسول الله إن تحتي أختين قال [ طلق أيهما شئت ] فالديلمي المذكور أولا هو الضحاك بن فيروز الديلمي قال أبو زرعة الدمشقي : كان يصحب عبد الملك بن مروان والثاني هو أبو فيروز الديلمي رضي الله عنه وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي المتنبىء لعنه الله وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن أبي عنبة أو عتبة عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين فكرهه فقال له ـ يعني السائل : يقول الله تعالى : { إلا ما ملكت أيمانكم } فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : وبعيرك مما ملكت يمينك وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك قال الإمام مالك عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب : أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية وما كنت لأصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا قال مالك : قال ابن شهاب : أراه علي بن أبي طالب قال : وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك قال ابن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستذكار : إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طاب لصحبته عبد الملك بن مروان وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال أبو عمر : حدثني خلف بن أحمد قراءة عليه : أن خلف بن مطرف حدثهم : حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالوا : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي حدثني عمي إياس بن عامر قال : سألت علي بن أبي طالب فقلت : إن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادا ثم رغبت في الأخرى فما أصنع ؟ فقال علي رضي الله عنه : تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى قلت : فإن ناسا يقولون : بل تزوجها ثم تطأ الأخرى فقال علي : أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك ثم أخذ علي بيدي فقال لي : إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز و جل من الحرائر إلا العدد أو قال : إلا الأربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب ثم قال أبو عمر : هذا الحديث رحلة لو لم يصب الرجل من أقصى المغرب أو المشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته قلت : وقد روي عن علي نحو ما روي عن عثمان وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن العباس حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي حدثنا عبد الرحمن بن غزوان حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال لي علي بن أبي طالب : حرمتهما آية وأحلتهما آية ـ يعني الأختين ـ قال ابن عباس : يحرمهن علي قرابتي منهن ولا يحرمهن علي قرابة بعضهن من بعض يعني الإماء وكانت الجاهلية يحرمون ما تحرمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين فلما جاء الإسلام أنزل الله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } يعني في النكاح ثم قال أبو عمر : روى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن سلمة عن هشام عن ابن سيرين عن ابن سيرين قال : يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد وعن ابن مسعود والشعبي نحو ذلك قال أبو عمر : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ولكنهم اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا العراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخر الاية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء فكذلك يجب أن يكون نظرا وقياسا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها وقوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات { إلا ما ملكت أيمانكم } يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن فإن الاية نزلت في ذلك وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان هو الثوري عن عثمان البتي عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الاية { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } فاستحللنا بها فروجهن وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ثلاثتهم عن عثمان البتي ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سوراي عن عثمان البتي ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم عن أبي سعيد الخدري فذكره وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري به وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري قال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أصابوا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك فكأن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كفوا وتأثموا من غشيانهن قال : فنزلت هذه الاية في ذلك { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة زاد مسلم : وشعبة ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه وقال الترمذي : هذا حديث حسن ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة ـ كذا قال ـ وقد تابعه سعيد وشعبة والله أعلم
وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في سبايا خيبر وذكر مثل حديث أبي سعيد وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم هذه الاية وقال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها ويتلو هذه الاية { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود قال : بيعها طلاقها وهو منقطع ورواه سفيان الثوري عن خالد عن أبي قلابة عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها ورواه سعيد عن قتادة قال : إن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس قالوا : بيعها طلاقها وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ابن علية عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : طلاق الأمة ست : بيعها طلاقها وعتقها طلاقها وهبتها طلاقها وبراءتها طلاقها وطلاق زوجها طلاقها وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله { والمحصنات من النساء } قال : هن ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها قال معمر : وقال الحسن مثل ذلك وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن في قوله { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } قال إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها وروى عوف عن الحسن : بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها فهذا قول هؤلاء من السلف وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها لأن المشتري نائب عن البائع والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ونجزت عتقها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث بل خيرها رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الفسخ والبقاء فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه و سلم فلما خيرها دل على بقاء النكاح وأن المراد من الاية المسبيات فقط والله أعلم وقد قيل : المراد بقوله { والمحصنات من النساء } يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما وقال عمر وعبيدة { والمحصنات من النساء } ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم
وقوله تعالى : { كتاب الله عليكم } أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده والزموا شرعه وما فرضه وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله { كتاب الله عليكم } يعني الأربع وقال إبراهيم { كتاب الله عليكم } يعني ما حرم عليكم وقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال قاله عطاء وغيره وقال عبيدة والسدي { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ما دون الأربع وهذا بعيد والصحيح قول عطاء كما تقدم وقال قتادة : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يعني ما ملكت أيمانكم وهذه الاية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين وقول من قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية وقوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي ولهذا قال { محصنين غير مسافحين } وقوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } أي كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك كما قال تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } وكقوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وكقوله { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } وقد استدل بعموم هذه الاية على نكاح المتعة ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ مرتين وقال آخرون : أكثر من ذلك وقال آخرون : إنما أبيح مرة ثم نسخ مرة ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة وهو وراية عن الإمام أحمد وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ولكن الجمهور على خلاف ذلك والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة فقال [ يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ] وفي رواية لمسلم : في حجة الوداع وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } من حمل هذه الاية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال : فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به وزيادة للجعل قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا فازاد قبل أن يستبرىء رحمها يوم تنقضي المدة وهو قوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } قال السدي : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه بريئة وعليها أن تستبرىء ما في رحمها وليس بينهما ميراث فلا يرث واحد منهما صاحبه ومن قال بهذا القول الأول جعل معناه كقوله { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } الاية أي إذا فرضت لها صداقا فأبرأتك منه أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة فقال : ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة يعني إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ واختار هذا القول ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } والتراضي أن يوفيها صداقها ثم يخيرها يعني في المقام أو الفراق وقوله تعالى : { إن الله كان عليما حكيما } مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات (1/623)
يقول تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا } أي سعة وقدرة { أن ينكح المحصنات المؤمنات } أي الحرائر العفائف المؤمنات وقال ابن وهب : أخبرني عبد الجبار عن ربيعة { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات } قال ربيعة : الطول الهوى يعني ينكح الأمة إذا كان هواه فيها رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ثم أخذ يشنع على هذا القول ويرده { ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } أي فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ولهذا قال { من فتياتكم المؤمنات } قال ابن عباس وغيره : فلينكح من إماء المؤمنين وكذا قال السدي ومقاتل بن حيان ثم اعترض بقوله { والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض } أي هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور ثم { فانكحوهن بإذن أهلهن } فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه كما جاء في الحديث [ أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر ] أي زان فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها لما جاء في الحديث [ لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ] وقوله تعالى : { وآتوهن أجورهن بالمعروف } أي وادفعوا مهورهن بالمعروف أي عن طيب نفس منكم ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات وقوله تعالى : { محصنات } أي عفائف عن الزنا لا يتعاطينه ولهذا قال { غير مسافحات } وهن الزواني اللاتي لا يمنعن من أرادهن بالفاحشة ـ وقوله تعالى : { ولا متخذات أخدان } قال ابن عباس : المسافحات هن الزواني المعلنات يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدا أرادهن بالفاحشة و { متخذات أخدان } يعني أخلاء وكذا روي عن أبي هريرة ومجاهد والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني ويحيى بن أبي كثير ومقاتل بن حيان والسدي قالوا : أخلاء وقال الحسن البصري : يعني الصديق وقال الضحاك أيضا { ولا متخذات أخدان } ذات الخليل الواحد المقرة به نهى الله عن ذلك يعني تزويجها ما دامت كذلك
وقوله تعالى : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } اختلف القراء في أحصن فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد مبني لما لم يسم فاعله وقرىء بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل : معنى القراءتين واحد واختلفوا فيه على قولين ( أحدهما ) أن المراد بالإحصان ههنا الإسلام وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي والسدي وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب وهو منقطع وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي في رواية الربيع قال : وإنما قلنا ذلك استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا مرفوعا قال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله حدثنا أبي عن أبيه عن أبي حمزة عن جابر عن رجل عن أبي عبد الرحمن عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { فإذا أحصن } قال [ إحصانها إسلامها وعفافها ] وقال : المراد به ههنا التزويج قال : وقال علي : اجلدوهن ثم قال ابن أبي حاتم : وهو حديث منكر ( قلت ) وفي إسناده ضعف وفيه من لم يسم ومثله لا تقوم به حجة وقال القاسم وسالم : إحصانها إسلامها وعفافها وقيل : المراد به ههنا التزويج وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم ونقله أبو علي الطبري في كتابه الإيضاح عن الشافعي فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد أنه قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر وإحصان العبد أن ينكح الحرة وكذا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس رواهما ابن جرير في تفسيره وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي وقيل : معنى القراءتين متباين فمن قرأ : أحصن بضم الهمزة فمراده التزويج ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام اختاره أبو جعفر بن جرير في تفسيره وقرره ونصره والأظهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بالإحصان ههنا التزويج لأن سياق الاية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } والله أعلم والاية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله : { فإذا أحصن } أي تزوجن كما فسره ابن عباس ومن تبعه وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوجة أو بكرا مع أن مفهوم الاية يقتضي أنه لاحد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك فأما الجمهور فقالوا : لاشك أن المنطوق مقدم على المفهوم وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء فقدمناها على مفهوم الاية فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال : يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك لنبي الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أحسنت اتركها حتى تماثل ] وعند عبد الله بن أحمد عن غير أبيه [ فإذا تعالت من نفسها حدها خمسين ] وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر ] ولمسلم [ إذا زنت ثلاثا فليبعها في الرابعة ] وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال : أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا
( الجواب الثاني ) جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها وإنما تضرب تأديبا وهو المحكي عن ابن عباس رضي الله عنه وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي الظاهري في رواية عنه وعمدتهم مفهوم الاية وهو من مفاهيم الشرط وهو حجة عند أكثرهم فقدم على العموم عندهم وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ قال : [ إن زنت فحدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير ] قال ابن شهاب : لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة وأخرجاه في الصحيحين وعند مسلم قال ابن شهاب : الضفير الحبل قالوا : فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات من العذاب فوجب الجمع بين الاية والحديث بذلك والله أعلم ـ وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن سفيان عن مسعر عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ليس على أمة حد حتى تحصن ـ أو حتى تزوج ـ فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات ] وقد رواه ابن خزيمة عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا وقال رفعه خطأ إنما هو من قول ابن عباس وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران وقال مثل ما قاله ابن خزيمة قالوا : وحديث علي وعمر قضايا أعيان وحديث أبي هريرة عنه أجوبة : ( أحدها ) أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث ( الثاني ) أن لفظة الحد في قوله [ فليجلدها الحد ] مقحمة من بعض الرواة بدليل الجواب الثالث وهو أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عباد بن تميم عن عمه وكان قد شهد بدرا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا زنت الأمة فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير ] ( الرابع ) أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظة الحد في الحديث على الجلد لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كأحمد وغيره من السلف وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ورجم الثيب أو اللائط والله أعلم وقد روى ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج وهذا إسناد صحيح عنه ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب الأمة أصلا لاحدا وكأنه أخذ بمفهوم الاية ولم يبلغه الحديث وإن أراد أنها لاتضرب حدا ولا ينفي ضربها تأديبا فهو كقول ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه في ذلك والله أعلم
( الجواب الثالث ) أن الاية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة كقوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وكحديث عبادة بن الصامت [ خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجمها بالحجارة ] والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري وهو في غاية الضعف لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب وهو خمسون جلدة فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال ؟ وهذا الشارع عليه السلام سأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال : اجلدوها ولم يقل : مائة فلو كان حكمها كما زعم داود لوجب بيان ذلك لهم لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء وإلا فما الفائدة في قولهم : ولم تحصن لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الاية نزلت لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الاخر فبينه لهم كما في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه فذكرها لهم ثم قال [ والسلام ما قد علمتم ] وفي لفظ لما أنزل الله قوله : { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } قالوا : هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك وذكر الحديث وهكذا هذا السؤال
( الجواب الرابع ) عن مفهوم الاية جواب أبي ثور وهو أغرب من قول داود من وجوه وذلك أنه يقول : فإذا أحصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات وهو الرجم وهو لا ينصف فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين فأخطأ في فهم الاية وخالف الجمهور في الحكم بل قد قال أبو عبد الله الشافعي رحمه الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا وذلك لأن الاية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب والألف واللام في المحصنات للعهد وهن المحصنات المذكورات في أول الاية : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } والمراد بهن الحرائر فقط من غير تعرض لتزويج غيره وقوله : { نصف ما على المحصنات من العذاب } يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لا الرجم والله أعلم وقد روى أحمد نصا في رد مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعيد عن أبيه : إن صفية كانت قد زنت برجل من الحمس فولدت غلاما فادعاه الزاني فاختصما إلى عثمان فرفعهما إلى علي بن أبي طالب فقال علي : أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر وجلدهما خمسين خمسين وقيل : بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى أي إن الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة قال ذلك صاحب الإفصاح وذكر هذا عن الشافعي فيما رواه ابن عبد الحكم عنه وقد ذكره البيهقي في كتاب السنن والاثار وهو بعيد من لفظ الاية لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الاية لا من سواها فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها وقال : بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه وهو قول في مذهب أحمد رحمه الله فأما قبل الإحصان فله ذلك والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة وهذا أيضا بعيد لأنه ليس في لفظ الاية ما يدل عليه ولولا هذه لم ندر ما حكم الإماء في التنصيف ولوجب دخولهن في عموم الاية في تكميل الحد مائة أو رجمهن كما ثبت في الدليل عليه وقد تقدم عن علي أنه قال : أيها الناس أقيموا الحد على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور : [ إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ] ملخص الاية : أنها إذا زنت أقوال : أحدها تجلد خمسين قبل الإحصان وبعده وهل تنفى ؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها إنها تنفى عنه والثاني لا تنفى عنه مطلقا والثالث أنها تنفى نصف سنة وهو نصف نفي الحرة وهذا الخلاف في مذهب الشافعي وأما أبو حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد وإنما هو رأي الإمام إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال وأما النساء فلا لأن ذلك مضاد لصيانتهن وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا النساء نعم حديث عبادة وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه رواه البخاري وذلك مخصوص بالمعنى وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم والثاني أن الأمة إذا زنت تجلد خمسين بعد الإحصان وتضرب تأديبا غير محدود بعدد محصور وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها لا تضرب قبل الإحصان وإن أراد نفيه فيكون مذهبا بالتأويل وإلا فهو كالقول الثاني القول الاخر أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين كما هو المشهور عن داود وأضعف الأقوال : أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده وهو قول أبي ثور وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وقوله تعالى : { ذلك لمن خشي العنت منكم } أي إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا وشق عليه الصبر عن الجماع وعنت بسبب ذلك كله فله حينئذ أن يتزوج بالأمة وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا فهو خير له لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ولهذا قال { وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم } ومن هذه الاية الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز نكاح الإماء على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر ومن خوف العنت لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن وخالف الجمهور أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجا بحرة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا سواء كان واجدا لطول حرة أم لا وسواء خاف العنت أم لا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أي العفائف وهو يعم الحرائر والإماء وهذه الاية عامة وهذه أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم (1/631)
يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها { ويتوب عليكم } أي من الإثم والمحارم { والله عليم حكيم } أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله وقوله : { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } أي يريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة أن تميلوا عن الحق إلى الباطل ميلا عظيما { يريد الله أن يخفف عنكم } أي في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم ولهذا أباح الإماء بشروط كما قال مجاهد وغيره { وخلق الإنسان ضعيفا } فناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن طاوس عن أبيه { وخلق الإنسان ضعيفا } أي في أمر النساء وقال وكيع : يذهب عقله عندهن وقال موسى الكليم عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء حين مر عليه راجعا من عند سدرة المنتهى فقال له : ماذا فرض عليكم فقال : أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة فقال له : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا فرجع فوضع عشرا ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسا الحديث (1/636)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا حتى قال ابن جرير : حدثني ابن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا داود عن عكرمة عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما قال : هو الذي قال الله عز و جل فيه { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضيل عن داود الأودي عن عامر عن علقمة عن عبد الله في الاية قال : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لما أنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل أموالنا فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكيف للناس ؟ فأنزل الله بعد ذلك { ليس على الأعمى حرج } الاية وكذا قال قتادة وقوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } قرىء تجارة بالرفع وبالنصب وهو استثناء منقطع كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ولكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال كما قال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وكقوله { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } ومن هذه الاية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول لأنه يدل على التراضي نصا بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضى ولا بد وخالف الجمهور في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ومنهم من قال : يصح في المحقرات وفيما يعده الناس بيعا وهو احتياط نظر من محققي المذهب والله أعلم وقال مجاهد { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } بيعا أو عطاء يعطيه أحد أحدا ورواه ابن جرير ثم قال : وحدثنا وكيع حدثنا أبي عن القاسم عن سليمان الجعفي عن أبيه عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما ] هذا حديث مرسل ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ البيعان بالخيار مالم يتفرقا ] وفي لفظ البخاري [ إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا ] وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وأصحابهما وجمهور السلف والخلف ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام بحسب ما يتبين فيه حال البيع ولو إلى سنة في القرية ونحوها كما هو المشهور عن مالك رحمه الله وصححوا بيع المعاطاة مطلقا وهو قول في مذهب الشافعي ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه وقوله { ولا تقتلوا أنفسكم } أي بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل { إن الله كان بكم رحيما } أي فيما أمركم به ونهاكم عنه وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه و سلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح قال : فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكرت ذلك له فقال [ يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ] قال : قلت : يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فذكرت قول الله عز و جل { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يقل شيئا وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب به ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة عن ابن وهب عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير المصري عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عنه فذكر نحوه وهذا ـ والله أعلم ـ أشبه بالصواب وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يوسف بن خالد حدثنا زياد بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جنب فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكروا ذلك له فدعاه فسأله عن ذلك فقال : يا رسول الله خفت أن يقتلني البرد وقد قال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } الاية فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أورد ابن مردويه عند هذه الاية الكريمة من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا فيها أبدا ] وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وكذلك رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ] وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة وفي الصحيحين من حديث الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكينا نحر بها يده فمارقأ الدم حتى مات قال الله عز و جل ] عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة [ ولهذا قال تعالى : { ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما } أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتديا فيه ظالما في تعاطيه أي عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه { فسوف نصليه نارا } الاية وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد وقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } الاية أي إذا اجتنبتم كبائر الاثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة ولهذا قال { وندخلكم مدخلا كريما } وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا خالد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس قال : الذي بلغنا عن ربنا عز و جل ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر يقول الله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } الاية وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الاية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم عن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم عن قرثع الضبي عن سلمان الفارسي قال : قال لي النبي صلى الله عليه و سلم ] أتدري ما يوم الجمعة ؟ [ قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم قال ] لكن أدري ما يوم الجمعة لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة [ وقد روى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر أخبرني صهيب مولى العتواري أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد يقولان : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال : ] والذي نفسي بيده [ ثلاث مرات ثم أكب فأكب كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حمر النعم فقال : ] ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له : ادخل بسلام [ وهكذا رواه النسائي والحاكم في مستدركه من حديث الليث بن سعد به ورواه الحاكم أيضا وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال به ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
( تفسير هذه السبع ) وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ] اجتنبوا السبع الموبقات [ قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال ] الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات [
( طريق أخرى عنه ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا فهد بن عوف حدثنا أبو عوانة عن عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ] الكبائر سبع : أولها الإشراك بالله ثم قتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم إلى أن يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنات والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة [ فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن إلا عند من يقول بمفهوم اللقب وهو ضعيف عند عدم القرينة ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال : حدثنا أحمد بن كامل القاضي إملاء حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد حدثنا معاذ بن هانيء حدثنا حرب بن شداد حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عبد الحميد بن سنان عن عبيد بن عمير عن أبيه يعني عمير بن قتادة رضي الله عنه أنه حدثه وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حجة الوداع ] ألا إن أولياء الله المصلون من يقم الصلوات الخمس التي كتبت عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق ويعطي زكاة ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها [ ثم إن رجلا سأله فقال : يارسول الله ما الكبائر ؟ فقال ] تسع : الشرك بالله وقتل نفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ثم قال : لا يموت رجل لا يعمل هؤلاء الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي صلى الله عليه و سلم في دار أبوابها مصاريع من ذهب [ هكذا رواه الحاكم مطولا وقد أخرجه أبو داود والترمذي مختصرا من حديث معاذ بن هانيء به وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطا ثم قال الحاكم : رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان ( قلت ) وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال البخاري : في حديثه نظر وقد رواه ابن جرير عن سليمان بن ثابت الجحدري عن سلم بن سلام عن أيوب بن عتبة عن يحيى بن أبي كثير عن عبيد بن عمير عن أبيه فذكره ولم يذكر في الإسناد عبد الحميد بن سنان والله أعلم
( حديث آخر في معنى ما تقدم ) قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن يونس حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن ابن عمرو قال : صعد النبي صلى الله عليه و سلم المنبر فقال ] لا أقسم لا أقسم [ ثم نزل فقال : ] أبشروا أبشروا من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر السبع نودي من أبواب الجنة : ادخل [ قال عبد العزيز : لا أعلمه إلا قال : ] بسلام [ وقال المطلب : سمعت من سأل عبدالله بن عمرو أسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكرهن ؟ قال : نعم ] عقوق الوالدين وإشراك بالله وقتل النفس وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وأكل الربا [
( حديث آخر في معناه ) قال أبو جعفر بن جرير في التفسير : حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا زياد بن مخراق عن طيسلة بن مياس قال : كنت مع النجدات فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر فلقيت ابن عمر فقلت له : إني أصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر قال : ما هي ؟ قلت : أصبت كذا وكذا قال : ليس من الكبائر قلت : وأصبت كذا وكذا قال ليس من الكبائر قال ـ بشي لم يسمه طيسلة ـ قال : هي تسع وسأعدهن عليك ] الإشراك بالله وقتل النفس بغير حقها والفرار من الزحف وقذف المحصنة وأكل الربا وأكل مال اليتيم ظلما وإلحاد في المسجد الحرام والذي يستسحر وبكاء الوالدين من العقوق [ قال زياد : وقال طيسلة : لما رأى ابن عمر فرقي قال : أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت : نعم قال : وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت : نعم قال : أحي والداك ؟ قلت : عندي أمي قال : فوالله لئن أنت ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات
( طريق أخرى ) قال ابن جرير : حدثنا سليمان بن ثابت الجحدري الواسطي حدثنا سلم بن سلام حدثنا أيوب بن عتبة عن طيسلة بن علي النهدي قال : أتيت ابن عمر وهو في ظل أراك يوم عرفة وهو يصب الماء على رأسه ووجهه قلت : أخبرني عن الكبائر ؟ قال : هي تسع قلت : ما هي ؟ قال : ] الإشراك بالله وقذف المحصنة [ قال : قلت : قبل القتل ؟ قال : نعم ورغما وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ] هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفا وقد رواه علي بن الجعد عن أيوب بن عتبة عن طيسلة بن علي قال : أتيت ابن عمر عشية عرفة وهو تحت ظل أراكة وهو يصب الماء على رأسه فسألته عن الكبائر ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ هن سبع ] قال : قلت : وما هن ؟ قال [ الإشراك بالله وقذف المحصنة ] قال : قلت : قبل الدم ؟ قال : نعم ورغما وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا [ وهكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب عن أيوب بن عتبة اليماني وفيه ضعف والله أعلم
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي حدثنا بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان أن أبارهم السمعى حدثهم عن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] من عبد الله لا يشرك به شيئا وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب الكبائر فله الجنة ـ أو دخل الجنة [ فسأله رجل ما الكبائر ؟ فقال ] الشرك بالله وقتل نفس مسلمة والفرار يوم الزحف [ ورواه أحمد أيضا والنسائي من غير وجه عن بقية
( حديث آخر ) روى ابن مردويه في تفسيره من طريق سليمان بن داود اليماني ـ وهو ضعيف ـ عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال : كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم قال : وكان في الكتاب ] إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : إشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم [
( حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور ) : قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك : قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال ] الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين [ وقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قال : قول الزور ـ أو شهادة الزور ] قال شعبة : أكبر ظني أنه قال : شهادة الزور أخرجاه من حديث شعبة به وقد رواه ابن مردويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس بنحوه
( حديث آخر ) أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يارسول الله قال ] الإشراك بالله وعقوق الوالدين [ وكان متكئا فجلس فقال ] ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور [ فمازال يكررها حتى قلنا : ليته سكت
( حديث آخر فيه ذكر قتل الولد ) وهو ثابت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ وفي رواية أكبر قال ] أن تجعل لله ندا وهو خلقك [ قلت : ثم أي ؟ قال ] أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك [ قلت : ثم أي ؟ قال ] أن تزاني حليلة جارك [ ثم قرأ { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب }
( حديث آخر فيه ذكر شرب الخمر ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب حدثني ابن صخر أن رجلا حدثه عن عمارة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص وهو بالحجر بمكة وسأله رجل عن الخمر فقال : والله إن عظيما عند الله الشيخ مثلي يكذب في هذا المقام على رسول الله صلى الله عليه و سلم فذهب فسأله ثم رجع فقال : سألته عن الخمر فقال ] هي أكبر الكبائر وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته [ غريب من هذا الوجه
( طريق أخرى ) رواها الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن داود بن صالح عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم رضي الله عنهم أجمعين جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أسأله عن ذلك فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذلك فوثبوا إليه حتى أتوه في داره فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ملكا من بني إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب خمرا أو يقتل نفسا أو يزاني أو يأكل لحم خنزير أو يقتله فاختار شرب الخمر وإنه لما شربها لم يمتنع من شيء أراده منه وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا مجيبا ] ما من أحد يشرب خمرا إلا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ولا يموت أحد وفي مثانته منها شيء إلا حرم الله عليه الجنة فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية [ هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا وداود بن صالح هذا هو التمار المدني مولى الأنصار قال الإمام أحمد : لا أرى به بأسا وذكره ابن حبان في الثقات ولم أر أحدا جرحه
( حديث آخر ) عن عبد الله بن عمرو وفيه ذكر اليمين الغموس قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن فراس عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ] أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قتل النفس ـ شعبة الشاك ـ واليمين الغموس [ ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة وزاد البخاري وشيبان كلاهما عن فراس به
( حديث آخر في اليمين الغموس ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا الليث بن سعد حدثنا هشام بن سعد عن محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي عن أبي أمامة الأنصاري عن عبد الله بن أنيس الجهني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ] أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة [ وهكذا رواه أحمد في مسنده وعبد بن حميد في تفسيره كلاهما عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث بن سعد به وأخرجه الترمذي عن عبد بن حميد به وقال : حسن غريب وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ولا يعرف اسمه وقد روى عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أحاديث قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن محمد بن زيد عن عبد الله بن أبي أمامة عن أبيه عن عبد الله بن أنيس فزاد عبد الله بن أبي أمامة ( قلت ) هكذا وقع في تفسير ابن مردويه وصحيح ابن حبان من طريق عبدالرحمن بن إسحاق كما ذكره شيخنا فسح الله في أجله
( حديث آخر ) عن عبد الله بن عمرو في التسبب إلى شتم الوالدين قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع عن مسعر وسفيان عن سعد بن إبراهيم عن حميد بن عبد الرحمن عن عبدالله بن عمرو رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه و سلم ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو قال ] من الكبائر أن يشتم الرجل والديه قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال [ يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] أخرجه البخاري عن أحمد بن يونس عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ] قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال [ يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم به مرفوعا بنحوه وقال الترمذي : صحيح وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ]
( حديث آخر في ذلك ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم حدثنا عمرو بن أبي سلمة حدثنا زهير بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أكبر الكبائر عرض الرجل المسلم والسبتان والسبة ] هكذا روي هذا الحديث وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن جعفر بن مسافر عن عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق ومن الكبائر السبتان بالسبة ] وكذا رواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زبر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكر مثله
( حديث آخر في الجمع بين الصلاتين من غير عذر ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر ] وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف عن المعتمر بن سليمان به ثم قال : حنش هو أبو علي الرحبي وهو حسين بن قيس وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه أحمد وغيره وروى ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا إسماعيل ابن علية عن خالد الحذاء عن حميد بن هلال عن أبي قتادة يعني العدوي قال : قرىء علينا كتاب عمر : من الكبائر جمع بين الصلاتين ـ يعني بغير عذر ـ والفرار من الزحف والنهبة وهذا إسناد صحيح والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديما أو تأخيرا وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة فما ظنك بترك الصلاة بالكلية ولهذا روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ] وفي السنن مرفوعا عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال [ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر ] وقال [ من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ] وقال [ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ]
( حديث آخر ) فيه اليأس من روح الله والأمن من مكر الله قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل حدثنا أبي حدثنا شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان متكئا فدخل عليه رجل فقال : ما الكبائر فقال [ الشرك بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر ] وقد رواه البزار عن عبد الله بن إسحاق العطار عن أبي عاصم النبيل عن شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال [ الإشراك بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله عز و جل ] وفي إسناده نظر والأشبه أن يكون موقوفا فقد روي عن ابن مسعود نحو ذلك قال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا مطرف عن وبرة بن عبد الرحمن عن أبي الطفيل قال : قال ابن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق عن وبرة عن أبي الطفيل عن عبد الله به ثم رواه من طرق عدة عن أبي الطفيل عن ابن مسعود وهو صحيح إليه بلا شك
( حديث آخر ) فيه سوء الظن بالله قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم بن بندار حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان حدثنا محمد بن مهاجر حدثنا أبو حذيفة البخاري عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر أنه قال : أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز و جل حديث غريب جدا
( حديث آخر ) فيه التعرب بعد الهجرة قد تقدم في رواية عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن رشدين حدثنا عمرو بن خالد الحراني حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول [ الكبائر سبع ألا تسألوني عنهن ؟ الشرك بالله وقتل النفس والفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة والتعرب بعد الهجرة ] وفي إسناده نظر ورفعه غلط فاحش والصواب ما رواه ابن جرير : حدثنا تميم بن المنتصر حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال : إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة وعلي رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر يقول : يا أيها الناس الكبائر سبع فأصاخ الناس فأعادها ثلاث مرات ثم قال : لم لا تسألوني عنها ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ما هي ؟ قال : الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة فقلت لأبي : يا أبت التعرب بعد الهجرة كيف لحق ههنا ؟ قال يا بني وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيا كما كان
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم حدثنا أبو معاوية يعني شيبان عن منصور عن هلال بن يساف عن سلمة بن قيس الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع [ ألا إنما هن أربع أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرقوا ] قال : فما أنا بأشح عليهن مني إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه من حديث منصور بإسناده مثله
( حديث آخر ) تقدم من رواية عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ الإضرار في الوصية من الكبائر ] والصحيح ما رواه غيره عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن أبي حاتم : وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله
( حديث آخر في ذلك ) قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عباد بن عباد عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ذكروا الكبائر وهو متكىء فقالوا : الشرك بالله وأكل مال اليتيم وفرار من الزحف وقذف المحصنة وعقوق الوالدين وقول الزور والغلول والسحر وأكل الربا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فأين تجعلون { الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } ] إلى آخر الاية في إسناده ضعف وهو حسن (1/636)
( ذكر أقوال السلف في ذلك )
قد تقدم ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ضمن الأحاديث المذكورة وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن ابن عون عن الحسن أن أناسا سألوا عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله عز و جل أمر أن يعمل بها لا يعمل بها فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه فلقيه عمر رضي الله عنه فقال : متى قدمت ؟ فقال : منذ كذا وكذا قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه فقال : يا أمير المؤمنين إن ناسا لقوني بمصر فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك قال : فاجمعهم لي قال : فجمعتهم له قال ابن عون : أظنه قال : في بهو فأخذ أدناهم رجلا فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال : اللهم لا قال : ولو قال : نعم لخصمه قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم قال : فثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات قال : وتلا { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } الاية ثم قال : هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا قال : لو علموا لوعظت بكم إسناد حسن ومتن حسن وإن كان من رواية الحسن عن عمر وفيها انقطاع إلا أن مثل هذا اشتهر فتكفي شهرته وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري حدثنا علي بن صالح عن عثمان بن المغيرة عن مالك بن جوين عن علي رضي الله عنه قال : الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة والسحر وعقوق الوالدين وأكل الربا وفراق الجماعة ونكث الصفقة وتقدم عن ابن مسعود أنه قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله عز و جل وروى ابن جرير من حديث الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق والأعمش عن إبراهيم عن علقمة كلاهما عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ومن حديث سفيان الثوري وشعبة عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه قال : أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضول الماء بعد الري ومنع طروق الفحل إلا بجعل
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ ] وفيهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل ] وذكر تمام الحديث وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا [ من منع فضل الماء وفضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي حدثنا أبو أحمد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة قالت : ما أخذ على النساء من الكبائر قال ابن أبي حاتم : يعني قوله تعالى : { على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن } الاية وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة قال : أتينا أنس بن مالك فكان فيما حدثنا قال : لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى لم نخرج له عن كل أهل ومال ثم سكت هنيهة ثم قال : والله لما كلفنا ربنا أهون من ذلك لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر فما لنا ولها وتلا { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الاية
أقوال ابن عباس في ذلك
روى ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه عن طاوس قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا : هي سبع فقال : هي أكثر من سبع وسبع قال : فلا أدري كم قالها من مرة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن ليث عن طاوس قال : قلت لابن عباس : ما السبع الكبائر ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع ورواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن ليث عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن طاوس عن أبيه قال : قيل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ قال : هن إلى السبعين أقرب وكذا قال أبو العالية الرياحي رحمه الله وقال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن قيس بن سعد عن سعيد بن جبير : أن رجلا قال لابن عباس : كم الكبائر سبع ؟ قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شبل به وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضيل حدثنا شبيب عن عكرمة عن ابن عباس قال : الكبائر كل ما وعد الله عليه النار كبيرة وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه كبيرة وقد ذكرت الطرفة قال : هي النظرة وقال أيضا : حدثنا أحمد بن حازم أخبرنا أبو نعيم حدثنا عبدالله بن معدان عن أبي الوليد قال : سألت ابن عباس عن الكبائر فقال كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة
( أقوال التابعين )
قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد قال : سألت عبيدة عن الكبائر فقال : الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم بغير حقه وأكل الربا والبهتان قال : ويقولون : أعرابية بعد هجرة قال ابن عون : فقلت لمحمد : فالسحر ؟ قال : إن البهتان يجمع شرا كثيرا وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحاق عن عبيد بن عمير قال : الكبائر سبع ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله الإشراك بالله منهن { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح } الاية و { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } الاية و { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } { الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } والفرار من الزحف { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } الاية والتعرب بعد الهجرة { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى } وقتل المؤمن { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } الاية وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضا في حديث أبي إسحاق عن عبيد بن عمير بنحوه وقال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء يعني ابن أبي رباح قال : الكبائر سبع : قتل النفس وأكل مال اليتيم وأكل الربا ورمي المحصنة وشهادة الزور وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن مغيرة قال : كان يقال : شتم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الكبائر قلت : وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة وهو رواية عن مالك بن أنس رحمه الله وقال محمد بن سيرين : ما أظن أحدا ينتقص أبا بكر وعمر وهو يحب رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه الترمذي وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عبدالله بن عياش قال زيد بن أسلم في قول الله عز و جل { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } من الكبائر : الشرك بالله والكفر بآيات الله ورسله والسحر وقتل الأولاد ومن دعى لله ولدا أو صاحبة ـ ومثل ذلك من الأعمال والقول الذي لا يصلح معه عمل وأما كل ذنب يصلح معه دين ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات وقال ابن جرير : حدثنا بشر بن معاذ حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الاية : إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا ] وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس وعن جابر مرفوعا [ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف إلا ما رواه عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه عن عباس العنبري عن عبد الرزاق ثم قال : هذا حديث حسن صحيح وفي الصحيح شاهد لمعناه وهو قوله صلى الله عليه و سلم بعد ذكر الشفاعة [ أترونها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للخاطئين المتلوثين ] وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل : هي ما عليه حد في الشرع ومنهم من قال : هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنة وقيل غير ذلك قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي في كتابه الشرح الكبير الشهير في كتاب الشهادات منه : ثم اختلف الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم في الكبائر وفي الفرق بينها وبين الصغائر ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه ( أحدها ) أنها المعصية الموجبة للحد ( والثاني ) أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة وهذا أكثر ما يوجد لهم وهو إلى الأول أميل لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر ( والثالث ) قال إمام الحرمين في الإرشاد وغيره : كل جريمة تنبىء بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة ( والرابع ) ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه وكل معصية توجب في جنسها حدا من قتل أو غيره وترك كل فريضة مأمور بها على الفور والكذب في الشهادة والرواية واليمين هذا ما ذكروه على سبيل الضبط ثم قال : وفصل القاضي الروياني فقال : الكبائر سبع : قتل النفس بغير الحق والزنا واللواطة وشرب الخمر والسرقة وأخذ المال غصبا والقذف وزاد في الشامل على السبع المذكورة : شهادة الزور وأضاف إليها صاحب العدة : أكل الربا والإفطار في رمضان بلا عذر واليمين الفاجرة وقطع الرحم وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم والخيانة في الكيل والوزن وتقديم الصلاة على وقتها وتأخيرها عن وقتها بلا عذر وضرب المسلم بلا حق والكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم عمدا وسب أصحابه وكتمان الشهادة بلا عذر وأخذ الرشوة والقيادة بين الرجال والنساء والسعاية عند السلطان ومنع الزكاة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن بعد تعلمه وإحراق الحيوان بالنار وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله ويقال : الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن ومما يعد من الكبائر : الظهار وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة ثم قال الرافعي : وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال قلت : وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة وإذا قيل : إن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار بخصوصها كما قال ابن عباس وغيره وما تتبع ذلك اجتمع منه شيء كثير وإذا قيل كل ما نهى الله عنه فكثير جدا والله أعلم (1/645)
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يارسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ولنا نصف الميراث فأنزل الله { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت : قلت : يارسول الله فذكره وقال : غريب ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن أم سلمة قالت : يا رسول الله فذكره ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله لا نقاتل فنستشهد ولا نقطع الميراث فنزلت الاية ثم أنزل الله { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } الاية ثم قال ابن أبي حاتم : وكذا روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح عن الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله وروي عن مقاتل بن حيان وخصيف نحو ذلك وروى ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا : أنزلت في أم سلمة وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن شيخ من أهل مكة قال : نزلت هذه الاية في قول النساء : ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز و جل وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثني أحمد بن عبد الرحمن حدثني أبي حدثنا الأشعث بن إسحاق عن جعفر يعني ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الاية قال : أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم قالت : يا رسول الله للذكر مثل حظ الأنثيين وشهادة امرأتين برجل فنحن في العمل هكذا إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة فأنزل الله هذه الاية { ولا تتمنوا } الاية فإنه عدل مني وأنا صنعته وقال السدي في الاية : فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء كما لنا في السهام سهمان وقالت النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء فإنا لا نستطيع أن نقاتل ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك ولكن قال لهم سلوني من فضلي قال : ليس بعرض الدنيا وقد روي عن قتادة نحو ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية قال : ولا يتمنى الرجل فيقول : ليت لو أن لي مال فلان وأهله فنهى الله عن ذلك ولكن ليسأل الله من فضله وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا وهو الظاهر من الاية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح [ لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق فيقول رجل : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله فهما في الأجر سواء ] فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الاية وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا والاية نهت عن تمني عين نعمة هذا فقال { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة وابن عباس وهكذا قال عطاء بن أبي رباح : نزلت في النهي عن تمني ما لفلان وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون رواه ابن جرير ثم قال { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } أي كل له جزاء على عمله بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر هذا قول ابن جرير وقيل : المراد بذلك في الميراث أي كل يرث بحسبه رواه الترمذي عن ابن عباس ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال { واسألوا الله من فضله } لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض فإن هذا أمر محتوم والتمني لا يجدي شيئا ولكن سلوني من فضلي أعطكم فإني كريم وهاب وقد روى الترمذي وابن مردويه من حديث حماد بن واقد سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج ] ثم قال الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد وليس بالحافظ ورواه أبو نعيم عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه و سلم وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع عن إسرائيل ثم رواه من حديث قيس بن الربيع عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وإن أحب عباده إليه الذي يحب الفرج ] ثم قال { إن الله كان بكل شيء عليما } أي هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها وبمن يستحق الفقر فيفقره وعليم بمن يستحق الاخرة فيقيضه لأعمالها وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه لهذا قال { إن الله كان بكل شيء عليما } (1/648)
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو صالح وقتادة وزيد بن أسلم والسدي والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم في قوله { ولكل جعلنا موالي } أي ورثة وعن ابن عباس في رواية : أي عصبة قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى كما قال الفضل بن عباس :
( مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا يظهرن لنا ما كان مدفونا )
قال : ويعني بقوله { مما ترك الوالدان والأقربون } من تركة والديه وأقربيه من الميراث فتأويل الكلام : ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له وقوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } أي والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد نزول هذه الاية معاقدة قال البخاري : حدثنا الصلت بن محمد حدثنا أبو أسامة عن إدريس عن طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { ولكل جعلنا موالي } قال : ورثة { والذين عقدت أيمانكم } كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه و سلم بينهم فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي } نسخت ثم قال { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له ثم قال البخاري : سمع أبو أسامة إدريس وسمع إدريس عن طلحة وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا إدريس الأودي أخبرني طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله { والذين عقدت أيمانكم } الاية قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهم فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } نسخت ثم قال : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس قال : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول : ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة ولا عقد ولا حلف في الإسلام ] فنسختها هذه الاية { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ثم قال : وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة والسدي والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا : هم الحلفاء وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس ـ ورفعه ـ قال : [ ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا حدة شدة ] وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وحدثنا أبو كريب حدثنا مصعب بن المقدام عن إسرائيل بن يونس عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن عكرمة عن ابن عباس : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا حلف في الإسلام وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وما يسرني أن لي حمر النعم وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة ] هذا لفظ ابن جرير وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي فما أحب أن لي حمر النعم وإني أنكثه ] قال الزهري : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لم يصب الإسلام حلفا إلا زاده شدة ] قال [ ولا حلف في الإسلام ] وقد ألف النبي صلى الله عليه و سلم بين قريش والأنصار وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري بتمامه وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرني مغيرة عن أبيه عن شعبة بن التوأم عن قيس بن عاصم : أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الحلف قال : فقال [ ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الإسلام ] وهكذا رواه أحمد عن هشيم وحدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن داود بن أبي عبد الله عن ابن جدعان عن جدته عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ] وحدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال [ يا أيها الناس ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ولا حلف في الإسلام ] ثم رواه من حديث حسين المعلم وعبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب به وقال الإمام أحمد : حدثنا عبدالله بن محمد حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد ابن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ] وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة ثلاثتهم عن زكريا وهو ابن أبي زائدة بإسناده مثله ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر به ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه به وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة عن أبيه عن شعبة بن التوأم عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الحلف فقال [ ما كان حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الإسلام ] وكذا رواه شعبة عن مغيرة وهو ابن مقسم عن أبيه به وقال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين قال : كنت أقرأ على أم سعد بنت سعد بن الربيع مع ابن ابنها موسى بن سعد وكانت يتيمة في حجر أبي بكر فقرأت عليها { والذين عقدت أيمانكم } فقالت : لا ولكن { والذين عقدت أيمانكم } قالت : إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى أن يسلم فحلف أبو بكر أن لا يورثه فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه رواه ابن أبي حاتم وهذا قول غريب والصحيح الأول وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك وإن كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعهود والعقود والحلف الذي كانوا قد تعاقدوه قبل ذلك وتقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة : لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة وهذا نص في الرد على من ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد بن حنبل والصحيح قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه ولهذا قال تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } أي ورثة من قراباته من أبويه وأقربيه هم يرثونه دون سائر الناس كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ] أي اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة وقوله { والذين عقدت أيمانكم } أي قبل نزول هذه الاية فآتوهم نصيبهم أي من الميراث فأيما حلف عقد بعد ذلك فلا تأثير له وقد قيل : إن هذه الاية نسخت الحلف في المستقبل وحكم الحلف الماضي أيضا فلا توارث به كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا إدريس الأودي أخبرني طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : { فآتوهم نصيبهم } قال : من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصي له وقد ذهب الميراث ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي أسامة وكذ روي عن مجاهد وأبي مالك نحو ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوله { والذين عقدت أيمانكم } قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الاخر فأنزل الله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت وهذا هو المعروف وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقوله { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } وقال سعيد بن جبير : { فآتوهم نصيبهم } أي من الميراث قال : وعاقد أبو بكر مولى فورثه رواه ابن جرير وقال الزهري عن ابن المسيب : نزلت هذه الاية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورثونهم فأنزل الله فيهم فجعل لهم نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة وأبى الله أن يكون للمدعين ميراث ممن ادعاهم وتبناهم ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية رواه ابن جرير وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله فآتوهم نصيبهم أي من النصرة والنصيحة والمعونة لا أن المراد { فآتوهم نصيبهم } من الميراث حتى تكون الاية منسوخة ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ بل إنما دلت الاية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط فهي محكمة لا منسوخة وهذا الذي قاله فيه نظر فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة ومنه ما كان على الإرث كما حكاه غير واحد من السلف وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه حتى نسخ ذلك فكيف يقولون إن هذه الاية محكمة غير منسوخة ؟ والله أعلم (1/650)
يقول تعالى : { الرجال قوامون على النساء } أي الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت { بما فضل الله بعضهم على بعض } أي لأن الرجال أفضل من النساء والرجل خير من المرأة ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه و سلم [ لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ] رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه وكذا منصب القضاء وغير ذلك و { بما أنفقوا من أموالهم } أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم فالرجل أفضل من المرأة في نفسه وله الفضل عليها والإفضال فناسب أن يكون قيما عليها كما قال الله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } الاية وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { الرجال قوامون على النساء } يعني أمراء عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك وقال الحسن البصري : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم تشكو أن زوجها لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ القصاص ] فأنزل الله عز و جل { الرجال قوامون على النساء } الاية فرجعت بغير قصاص ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة وابن جريج والسدي أورد ذلك كله ابن جرير وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال : حدثنا أحمد بن علي النسائي حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي حدثنا محمد بن محمد الأشعث حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد قال : حدثنا أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من الأنصار بامرأة له فقالت : يا رسول الله إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في وجهها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ليس له ذلك ] فأنزل الله تعالى { الرجال قوامون على النساء } أي في الأدب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أردت أمرا وأراد الله غيره ] وقال الشعبي في هذه الاية { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } قال : الصداق الذي أعطاها ألا ترى أنه لو قذفها لا عنها ولو قذفته جلدت وقوله تعالى { فالصالحات } أي من النساء { قانتات } قال ابن عباس وغير واحد : يعني مطيعات لأزواجهن { حافظات للغيب } وقال السدي وغيره : أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله وقوله { بما حفظ الله } أي المحفوظ من حفظه الله قال ابن جرير حدثني المثني حدثنا أبو صالح حدثنا أبو معشر حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك ] قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الاية { الرجال قوامون على النساء } إلى آخرها ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن حبيب عن أبي داود الطيالسي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن سعيد المقبري به مثله سواء وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر : أن ابن قارظ أخبره أن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها : ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت ] تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف وقوله تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن } أي والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن والنشوز هو الارتفاع فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه المبغضة له فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ] وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح ] ورواه مسلم ولفظه [ إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ] ولهذا قال تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن } وقوله { واهجروهن في المضاجع } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الهجر هو أن لا يجامعها ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره وكذا قال غير واحد وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس في رواية : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس : يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها وذلك عليها شديد وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم ومحمد بن كعب ومقسم وقتادة : الهجر هو أن لا يضاجعها وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حرة الرقاشي عن عمه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع ] قال حماد : يعني النكاح وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه ؟ قال [ أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت ] وقوله : { واضربوهن } أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في حجة الوداع [ واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] وكذا قال ابن عباس وغير واحد : ضربا غير مبرح قال الحسن البصري : يعني غير مؤثرو قال الفقهاء : هو أن لا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح ولا تكسر لها عظما فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تضربوا إماء الله فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ذئرت النساء على أزواجهن فرخص رسول الله صلى الله عليه و سلم في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه و سلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم ] رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود يعني أبا داود الطيالسي حدثنا أبو عوانة عن داود الأودي عن عبد الرحمن السلمي عن الأشعث بن قيس قال : ضفت عمر رضي الله عنه فتناول امرأته فضربها فقال : يا أشعث احفظ عني ثلاثا حفظتها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تسأل الرجل فيم ضرب امرأته ولا تنم إلا على وتر ونسي الثالثة وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عوانة عن داود الأودي به وقوله تعالى : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك وليس له ضربها ولا هجرانها وقوله { إن الله كان عليا كبيرا } تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب فإن الله العلي الكبير وليهن وهو ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن (1/653)
ذكر الحال الأول وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة ثم ذكر الحال الثاني وهو إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } وقال الفقهاء : إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق وتشوف الشارع إلى التوفيق ولهذا قال تعالى : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أمر الله عز و جل أن يبثعوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الاخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا وقال : أنبأنا ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ؟ فقالت : تصير إلي وأنفق عليك فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك فضحك فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس لأفرقن بينهما فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال : شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما فقال علي للحكمين : أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلي وقال الزوج : أما الفرقة فلا فقال علي : كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز و جل لك وعليك رواه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي مثله ورواه من وجه آخر عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي به وقد أجمع جمهور العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا وهو رواية عن مالك وقال الحسن البصري : الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود ومأخذهم قوله تعالى : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } ولم يذكر التفريق وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف وقد اختلف الأئمة في الحكمين هل هما منصوبان من جهة الحاكم فيحكمان وإن لم يرض الزوجان أو هما وكيلان من جهة الزوجين ؟ على قولين والجمهور على الأول لقوله تعالى : { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } فسماهما حكمين ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه وهذا ظاهر الاية والجديد من مذهب الشافعي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه الثاني منهما بقول علي رضي الله عنه للزوج حين قال : أما الفرقة فلا قال : كذبت حتى تقر بما أقرت به قالوا : فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج والله أعلم قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الاخر وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا من غير توكيل (1/655)
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الانات والحالات فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل [ أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال : الله ورسوله أعلم قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم قال : أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ أن لا يعذبهم ] ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين فإن الله سبحانه جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وكثيرا ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين كقوله { أن اشكر لي ولوالديك } وكقوله { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث [ الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة ] ثم قال تعالى : { واليتامى } وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم ثم قال { والمساكين } وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم وسيأتي الكلام على الفقير والمكسين في سورة براءة وقوله { والجار ذي القربى والجار الجنب } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { والجار ذي القربى } يعني الذي بينك وبينه قرابة { والجار الجنب } الذي ليس بينك وبينه قرابة وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله : والجار ذي القربى : يعني الجار المسلم والجار الجنب يعني اليهودي و النصراني رواه ابن جرير وابن أبي جاتم وقال جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود : والجار ذي القربى يعني المرأة وقال مجاهد أيضا في قوله : والجار الجنب يعني الرفيق في السفر وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان
( الحديث الأول ) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمر بن محمد بن زيد أنه سمع أباه محمدا يحدث عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ] أخرجاه في الصحيحين من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر به
( الحديث الثاني ) قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ] وروى أبو داود والترمذي نحوه من حديث سفيان بن عيينة عن بشير أبي إسماعيل زاد الترمذي : وداود بن شابور كلاهما عن مجاهد به ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه وقد روى عن مجاهد عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم
( والحديث الثالث ) قال أحمد أيضا : حدثنا عبد الله بن يزيد أخبرنا حيوة أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ] ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد عن عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح به وقال حسن غريب
( الحديث الرابع ) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا يشبع الرجل دون جاره ] تفرد به أحمد
( الحديث الخامس ) قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان حدثنا محمد بن سعد الأنصاري سمعت أبا ظبية الكلاعي سمعت المقداد بن الأسود يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه [ ما تقولون في الزنا ؟ ] قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره ] قال [ ما تقولون في السرقة ؟ ] قالوا : حرمها الله ورسوله فهي حرام قال [ لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره ] تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود : قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : [ أن تجعل لله ندا وهو خلقك ] قلت : ثم أي ؟ قال : [ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ] قلت ثم أي ؟ قال [ أن تزاني حليلة جارك ]
( الحديث السادس ) قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا هشام عن حفصة عن أبي العالية عن رجل من الأنصار قال : خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه و سلم فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه فظننت أن لهما حاجة قال الأنصاري : لقد قام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه و سلم من طول القيام فلما انصرف قلت : يا رسول الله لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام قال : [ ولقد رأيته ؟ ] قلت : نعم قال [ أتدري من هو ؟ ] قلت : لا قال [ ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ] ثم قال [ أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام ]
( الحديث السابع ) قال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا أبو بكر يعني المدني عن جابر بن عبد الله قال : جاء رجل من العوالي ورسول الله صلى الله عليه و سلم وجبريل عليه السلام يصليان حيث يصلى على الجنائز فلما انصرف قال الرجل : يا رسول الله من هذا الرجل الذي رأيت معك ؟ قال [ وقد رأيته ؟ ] قال : نعم قال [ لقد رأيت خيرا كثيرا هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه ] تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله
( الحديث الثامن ) قال أبو بكر البزار : حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الجيران ثلاثة : جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقا فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له له حق الجوار وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم ] قال البزار : لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك
( الحديث التاسع ) قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عمران عن طلحة بن عبد الله عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال [ إلى أقربهما منك بابا ] ورواه البخاري من حديث شعبة به
( الحديث العاشر ) روى الطبراني وأبو نعيم عن عبد الرحمن فزاد : قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ فجعل الناس يتمسحون بوضوئه فقال [ ما يحملكم على ذلك ] ؟ قالوا : حب الله ورسوله قال [ من سره أن يحب الله ورسوله فليصدق الحديث إذا حدث وليؤد الأمانة إذا ائتمن ]
( الحديث الحادي عشر ) قال أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن أول خصمين يوم القيامة جاران ] وقوله تعالى : { والصاحب بالجنب } قال الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود قالا : هي المرأة وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات نحو ذلك وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة : هو الرفيق في السفر وقال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح وقال زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر وأما ابن السبيل فعن ابن عباس وجماعة : هو الضيف وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحاك ومقاتل : هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر وهذا أظهر وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق فهما سواء وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة وبالله الثقة وعليه التكلان وقوله تعالى : { وما ملكت أيمانكم } وصية بالأرقاء لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس فلهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول [ الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه ] وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا بقية حدثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ] ورواه النسائي من حديث بقية وإسناده صحيح ولله الحمد
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له : هل أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال : لا قال : فانطلق فأعطهم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم ] رواه مسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ] رواه مسلم أيضا وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي حره وعلاجه ] أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم [ فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده أكلة أو أكلتين ] وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم ] أخرجاه وقوله تعالى : { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } أي مختالا في نفسه معجبا متكبرا فخورا على الناس يرى أنه خير منهم فهو في نفسه كبير وهو عند الله حقير وعند الناس بغيض قال مجاهد في قوله { إن الله لا يحب من كان مختالا } يعني متكبرا { فخورا } يعني يعد ما أعطى وهو لا يشكر الله تعالى يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه وهو قليل الشكر لله على ذلك وقال ابن جرير : حدثني القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن كثير عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال : لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا وتلا { وما ملكت أيمانكم } الاية ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا وتلا { وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا } وروى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب مثله في المختال الفخور وقال : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم عن الأسود بن شيبان حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير قال : قال مطرف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت : يا أبا ذر بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثكم [ إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة ] ؟ فقال : أجل فلا إخالني أكذب على خليلي ثلاثا ؟ قلت : من الثلاثة الذين يبغض الله ؟ قال : المختال الفخور أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ثم قرأ الاية { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } وحدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب بن خالد عن أبي تميمة عن رجل من بلهجم قال : قلت : يا رسول الله أوصني قال [ إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة ] (1/656)
يقول تعالى ذاما الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم من الأرقاء ولا يدفعون حق الله فيها ويأمرون الناس بالبخل أيضا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ وأي داء أدوأ من البخل ] وقال : [ إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا ]
وقوله تعالى : { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } فالبخيل جحود لنعمة الله لا تظهر عليه ولا تبين لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله كما قال تعالى : { إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد } أي بحاله وشمائله { وإنه لحب الخير لشديد } وقال ههنا { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } ولهذا توعدهم بقوله : { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } والكفر هو الستر والتغطية فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعم الله عليه وفي الحديث [ إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه ] وفي الدعاء النبوي [ واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتممها علينا ] وقد حمل بعض السلف هذه الاية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى الله عليه و سلم وكتمانهم ذلك ولهذا قال تعالى : { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس وقاله مجاهد و غير واحد ولا شك أن الاية محتملة لذلك والظاهر أن السياق في البخل بالمال وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء وكذلك الاية التي بعدها وهي قوله { الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } فإنه ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم ولا يريدون بذلك وجه الله وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم : العالم والغازي والمنفق المراؤون بأعمالهم [ يقول صاحب المال : ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك فيقول الله : كذبت إنما أردت أن يقال : جواد فقد قيل ] أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعدي بن حاتم [ إن أباك رام أمرا فبلغه ] وفي حديث آخر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن عبد الله بن جدعان : هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه ؟ فقال : [ لا إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] ولهذا قال تعالى : { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الاية أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان فإنه سول لهم وأملى لهم وقارنهم فحسن لهم القبائح ولهذا قال تعالى : { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } ولهذا قال الشاعر :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم قال تعالى : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } الاية أي وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق الحميدة وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ورجاء موعوده في الدار الاخرة لمن أحسن عملا وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها وقوله { وكان الله بهم عليما } أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه وبمن يستحق الخذلان والطرد عن الجناب الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في الدنيا والاخرة عياذا بالله من ذلك (1/660)
يقول تعالى مخبرا : إنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة كما قال تعالى : { ونضع الموازين القسط } الاية وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال : { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله } الاية وقال تعالى : { يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وفي الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث الشفاعة الطويل وفيه [ فيقول الله عز و جل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار ] وفي لفظ : [ أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار فيخرجون خلقا كثيرا ] ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عيسى بن يونس عن هارون بن عنترة عن عبد الله بن السائب عن زاذان قال : قال عبد الله بن مسعود : يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين والاخرين : هذا فلان بن فلان من كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها ثم قرأ { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } فيغفر الله من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئا فينصب للناس فينادى : هذا فلان بن فلان من كان له حق فليأت إلى حقه فيقول : رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول : خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليا لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ علينا { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } قال : ادخل الجنة وإن كان عبدا شقيا قال الملك : رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير فيقول : خذوا من سيئاتهم فأضعفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار ورواه ابن جرير من وجه آخر عن زاذان به نحوه ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا فضيل يعني ابن مرزوق عن عطية العوفي حدثني عبد الله بن عمر قال : نزلت هذه الاية في الأعراب { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } قال رجل : فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : ما هو أفضل من ذلك { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } وحدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله : { وإن تك حسنة يضاعفها } فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبدا وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال : يا رسول الله إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء ؟ قال [ نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ] وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا عمران حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الاخرة وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة ] وقال أبو هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك في قوله : { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } : يعني الجنة نسأل الله رضاه والجنة وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال : فقضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا فلقيته فقلت : بلغني عنك حديث أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ يجزى العبد بالحسنة ألف ألف حسنة ] فقلت : ويحكم ما أحد أكثر مني مجالسة لأبي هريرة وما سمعت هذا الحديث منه فتحملت أريد أن الحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج في طلب هذا الحديث فلقيته فقلت : يا أبا هريرة : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة قال : يا أبا عثمان وما تعجب من ذا والله يقول { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } ويقول { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } والذي نفسي بيده لقد سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة ] قال : وهذا حديث غريب وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ورواه أحمد أيضا فقال : حدثنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي قال أتيت أبا هريرة فقلت له : بلغني أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ! قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة ] ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال : حدثنا أبو خلاد وسليمان بن خلاد المؤدب حدثنا محمد الرفاعي عن زياد بن الجصاص عن أبي عثمان النهدي قال : لم يكن أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة فقدم قبلي حاجا وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة ] فقلت : ويحكم ما كان أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة وما سمعت منه هذا الحديث فهممت أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث ورواه ابن أبي حاتم من طريق أخرى فقال : حدثنا بشر بن مسلم حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الذهبي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة ] فقال أبو هريرة : والله بل سمعت نبي الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة ] ثم تلا هذه الاية { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } وقوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } يقول تعالى مخبرا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة حين يجيء من كل أمة بشهيد يعني الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى : { وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء } الاية وقال تعالى : { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم } الاية وقال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اقرأ علي ] فقلت : يا رسول الله آقرأ عليك وعليك أنزل ؟ [ قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري ] فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الاية : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } فقال [ حسبك الان ] فإذا عيناه تذرفان ورواه هو ومسلم أيضا من حديث الأعمش به وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود فهو مقطوع به عنه ورواه أحمد من طريق أبي حيان وأبي رزين عنه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري عن أبيه قال : وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه و سلم : إن النبي صلى الله عليه و سلم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه فأمر النبي صلى الله عليه و سلم قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الاية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } فبكى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى اضطرب لحياه وجنباه فقال : [ يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره ] وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن المسعودي عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الاية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ شهيد عليهم ما دمت فيهم فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ] وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في التذكرة حيث قال : باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه و سلم على أمته قال : أخبرنا ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض فيه على النبي صلى الله عليه و سلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم يقول الله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } فإنه أثر وفيه انقطاع فإن فيه رجلا مبهما لم يسم وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده : قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس وعلى الأنبياء والاباء والأمهات يوم الجمعة قال : ولا تعارض فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام وقوله تعالى : { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا } أي لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ كقوله : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } الاية وقوله : { ولا يكتمون الله حديثا } إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئا وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا حكام حدثنا عمرو عن مطرف عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : سمعت الله عز و جل يقول ـ يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا ـ { والله ربنا ما كنا مشركين } وقال في الاية الأخرى : { ولا يكتمون الله حديثا } فقال ابن عباس : أما قوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنجحد فقالوا { والله ربنا ما كنا مشركين } فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم { ولا يكتمون الله حديثا } وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن رجل عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياء تختلف علي في القرآن قال : ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال : ليس هو بالشك ولكن اختلاف قال : فهات ما اختلف عليك من ذلك قال أسمع الله يقول { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } وقال { ولا يكتمون الله حديثا } فقد كتموا فقال ابن عباس : أما قوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركا جحد المشركون فقالوا { والله ربنا ما كنا مشركين } رجاء أن يغفر لهم فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا } وقال جويبر عن الضحاك : إن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس قول الله تعالى : { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا } وقوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت : ألقى على ابن عباس متشابه القرآن فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد فيقول المشركون : إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده فيقولون : تعالوا نجحد : فيسألهم فيقولون { والله ربنا ما كنا مشركين } قال : فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم { ولا يكتمون الله حديثا } رواه ابن جرير (1/661)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول وعن قربان محالها التي هي المساجد للجنب إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مكث وقد كان هذا قبل تحريم الخمر كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } الاية فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم تلاها على عمر فقال [ اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ] فلما نزلت هذه الاية تلاها عليه فقال [ اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ] فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } إلى قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } فقال عمر : انتهينا انتهينا وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث وفيه : فنزلت الاية التي في النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قامت الصلاة ينادي : أن لا يقربن الصلاة سكران لفظ أبي داود ذكروا في سبب نزول هذه الاية ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثا شعبة أخبرني سماك بن حرب قال : سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : نزلت في أربع آيات صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار فأكلنا وشربنا حتى سكرنا ثم افتخرنا فرفع رجل لحى بعير ففزر به أنف سعد فكان سعد مفزور الأنف وذلك قبل تحريم الخمر فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الاية والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة ورواه أهل السنن إلا ابن ماجه من طرق عن سماك به
( سبب آخر ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموا فلانا قال فقرأ : قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } هكذا رواه ابن أبي حاتم وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبد الرحمن الدشتكي به وقال : حسن صحيح وقد رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي : أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ { قل يا أيها الكافرون } فخلط فيها فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري به ورواه ابن جرير أيضا عن ابن حميد عن جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : كان علي في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في بيت عبد الرحمن بن عوف فطعموا فأتاهم بخمر فشربوا منها وذلك قبل أن يحرم الخمر فحضرت الصلاة فقدموا عليا فقرأ بهم { قل يا أيها الكافرون } فلم يقرأها كما ينبغي فأنزل الله عز و جل { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ثم قال : حدثني المثنى حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن حبيب وهو أبو عبد الرحمن السلمي : أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فصلى بهم المغرب فقرأ : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم لكم دينكم ولي دين فأنزل الله عز و جل هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } وقال العوفي عن ابن عباس في الاية : إن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن يحرم الخمر فقال الله { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الاية رواه ابن جرير وكذا قال أبو رزين ومجاهد وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر وقال الضحاك في الاية : لم يعن بها سكر الخمر وإنما عنى بها سكر النوم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال ابن جرير : والصواب أن المراد سكر الشراب قال : ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب لأن ذاك في حكم المجنون وإنما خوطب بالنهي الثمل الذي يفهم التكليف وهذا حاصل ما قاله وقد ذكره غير واحد من الأصوليين وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام دون السكران الذي لا يدري ما يقال له فإن الفهم شرط التكليف وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما والله أعلم وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك وقوله { حتى تعلموا ما تقولون } هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول ] انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ورواه هو والنسائي من حديث أيوب به وفي بعض ألفاظ الحديث [ فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ] وقوله : { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن الدشتكي أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس في قوله : { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } قال لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل قال : تمر به مرا ولا تجلس ثم قال : وروي عن عبد الله بن مسعود وأنس وأبي عبيدة وسعيد بن المسيب وأبي الضحى وعطاء ومجاهد ومسروق وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وأبي مالك وعمرو بن دينار والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن البصري ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن شهاب وقتادة نحو ذلك وقال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا أبو صالح حدثني الليث حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز و جل { ولا جنبا إلا عابري سبيل } أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد فأنزل الله { ولا جنبا إلا عابري سبيل } ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله ما ثبت في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر ] وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه و سلم علما منه أن أبا بكر رضي الله عنه سيلي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه ومن روى إلا باب علي كما وقع في بعض السنن فهو خطأ والصواب ما ثبت في الصحيح ومن هذه الاية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ويجوز له المرور وكذا الحائض والنفساء أيضا في معناه إلا أن بعضهم قال : يمنع مرورهما لاحتمال التلويث ومنهم من قال : إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ناوليني الخمرة من المسجد ] فقلت : إني حائض فقال [ إن حيضتك ليست في يدك ] وله عن أبي هريرة مثله ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد والنفساء في معناها والله أعلم وروى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة العامري عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ] قال أبو مسلم الخطابي : ضعف هذا الحديث جماعة وقالوا : أفلت مجهول لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهجري عن محدوج الذهلي عن جسرة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم به قال أبو زرعة الرازي : يقولون : جسرة عن أم سلمة والصحيح جسرة عن عائشة فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي : من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك ] فإنه حديث ضعيف لا يثبت فإن سالما هذا متروك وشيخه عطية ضعيف والله أعلم
( حديث آخر ) في معنى الاية قال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرني ابن أبي ليلى عن المنهال عن زر بن حبيش عن علي { ولا جنبا إلا عابري سبيل } قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء ثم رواه من وجه آخر عن المنهال بن عمرو عن زر عن علي بن أبي طالب فذكره قال : وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير والضحاك نحو ذلك وقد روى ابن جرير من حديث وكيع عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن عباد بن عبد الله أو عن زر بن حبيش عن علي فذكره ورواه من طريق العوفي وأبي مجلز : عن ابن عباس فذكره ورواه عن سعيد بن جبير وعن مجاهد والحسن بن مسلم والحكم بن عتيبة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن مثل ذلك وروى من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير قال : كنا نسمع أنه في السفر ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي قلابة عن عمر بن بجدان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير ] ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين : والأولى قول من قال { ولا جنبا إلا عابري سبيل } أي إلا مجتازي طريق فيه وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله { وإن كنتم مرضى أو على سفر } إلى آخره فكان معلوما بذلك أن قوله { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله { وإن كنتم مرضى أو على سفر } معنى مفهوم وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الاية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل قال : والعابر السبيل : المجتاز مرا وقطعا يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا ومنه يقال عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار هي عبر الأسفار لقوتها على قطع الأسفار وهذا الذي نصره هو قول الجمهور وهو الظاهر من الاية وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا والله أعلم وقوله { حتى تغتسلوا } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله بطريقه وذهب الإمام أحمد : إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بسند صحيح : أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك قال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا عبد العزيز بن محمد هو الدراوردي عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة وهذا إسناد على شرط مسلم والله أعلم
وقوله { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } أما المرض المبيح للتيمم فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شينه أو تطويل البرء ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض لعموم الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل حدثنا قيس عن خصيف عن مجاهد في قوله { وإن كنتم مرضى } قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فيناوله فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فأنزل الله هذه الاية هذا مرسل والسفر معروف ولا فرق فيه بين الطويل والقصير وقوله { أو جاء أحد منكم من الغائط } الغائط هو المكان المطمئن من الأرض كنى بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر وأما قوله { أو لامستم النساء } فقرىء لمستم ولامستم واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين : ( أحدهما ) : أن ذلك كناية عن الجماع لقوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله { أو لامستم النساء } قال : الجماع وروي عن علي وأبي بن كعب ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك وقال ابن جرير : حدثني حميد بن مسعدة حدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع وقال ناس من العرب : اللمس الجماع قال : فأتيت ابن عباس فقلت له : إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس فقالت الموالي : ليس بالجماع وقالت العرب : الجماع قال : فمن أي الفريقين كنت ؟ قلت : كنت من الموالي قال : غلب فريق الموالي إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ولكن الله يكني ما شاء بما شاء ثم رواه عن ابن بشار عن غندر عن شعبه به نحوه ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير نحوه ومثله قال : حدثني يعقوب حدثنا هشيم قال حدثنا أبو بشر : أخبرنا سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : اللمس والمس والمباشرة : الجماع ولكن الله يكني بما يشاء حدثنا عبد الحميد بن بيان أنبأنا إسحاق الأزرق عن سفيان عن عاصم الأحول عن بكر بن عبد الله عن ابن عباس قال : الملامسة : الجماع ولكن الله كريم يكني بما يشاء وقد صح من غير وجه عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك ثم رواه ابن جرير : عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم ثم قال ابن جرير وقال آخرون : عنى الله تعالى بذلك كل لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان وأوجبوا الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه ثم قال : حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن مخارق عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال : اللمس ما دون الجماع وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله وروى من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : القبلة من المس وفيها الوضوء وروى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال : يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده ومن القبلة وكان يقول في هذه الاية { أو لامستم النساء } هو الغمز وقال ابن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عبيد الله بن عمر عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ويرى فيها الوضوء ويقول : هي من اللماس وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا : من طريق شعبة عن مخارق عن طارق عن عبد الله قال : اللمس ما دون الجماع ثم قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر وعبيدة وأبي عثمان النهدي وأبي عبيدة يعني ابن عبد الله بن مسعود وعامر الشعبي وثابت بن الحجاج وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم نحو ذلك ( قلت ) وروى مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يقول : قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة فمن قبل امرأته أوجسها بيده فعليه الوضوء وروى الحافظ أبو الحسن الدار قطني في سننه : عن عمر بن الخطاب نحو ذلك ولكن روينا عنه من وجه آخر : أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ فالرواية عنه مختلفة فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب والله أعلم والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل رحمهم الله قال ناصر هذه المقالة : قد قرىء في هذه الاية لامستم ولمستم واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال تعالى : { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم } أي جسوه وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لماعز حين أقر بالزنا يعرض له بالرجوع عن الإقرار : [ لعلك قبلت أو لمست ] وفي الحديث الصحيح [ واليد زناها اللمس ] وقالت عائشة رضي الله عنها : قل يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف علينا فيقبل ويلمس ومنه ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الملامسة وهو يرجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا : ويطلق في اللغة على الجس باليد كما يطلق على الجماع قال الشاعر :
وألمست كفي كفه أطلب الغنى
واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه أحمد حدثنا عبد الله بن مهدي وأبو سعيد قالا : حدثنا زائدة عن عبد الملك بن عمير وقال أبو سعيد : حدثنا عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها قال : فأنزل الله عز و جل هذه الاية { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ توضأ ثم صل ] قال معاذ : فقلت : يا رسول الله أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال [ بل للمؤمنين عامة ] ورواه الترمذي من حديث زائدة به وقال : ليس بمتصل ورواه النسائي : من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا قالوا : فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها وأجيب بأنه منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ فإنه لم يلقه ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة كما تقدم في حديث الصديق : [ ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له ] الحديث وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله { ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } الاية ثم قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أو لامستم النساء } الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ثم قال : حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ ثم قال : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ قلت : من هي إلا أنت ؟ فضحكت وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم عن وكيع به ثم قال أبو داود : روي عن الثوري أنه قال : ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني وقال يحيى القطان لرجل : احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء وقال الترمذي : سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال : حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة وقد وقع في رواية ابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي عن وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير عن عائشة وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده : من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وهذا نص في كونه عروة بن الزبير ويشهد له قوله : من هي إلا أنت فضحكت لكن روى أبو داود عن إبراهيم بن مخلد الطالقاني عن عبد الرحمن بن مغراء عن الأعمش قال : حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة فذكره والله أعلم وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو زيد عمر بن شبة عن شهاب بن عباد حدثنا مندل بن علي عن ليث عن عطاء عن عائشة وعن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم ينال مني القبلة بعد الوضوء ثم لا يعيد الوضوء وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان زاد أبو داود : وابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري به ثم قال أبو داود والنسائي : لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة ثم قال ابن جرير أيضا : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أبي حدثنا يزيد بن سنان عن عبد الرحمن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقبلها وهو صائم ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءا وقال أيضا : حدثنا أبو كريب حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن زينب السهمية عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ وقد رواه الإمام أحمد عن محمد بن فضيل عن حجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن زينب السهمية عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم به وقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } استنبط كثير من الفقهاء من هذه الاية : أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع كما هو مقرر في موضعه كما هو في الصحيحين من حديث عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال [ يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم ألست برجل مسلم ] قال : بلى يا رسول الله ولكن أصابتني جنابة ولا ماء قال [ عليك بالصعيد فإنه يكفيك ] ولهذا قال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } فالتيمم في اللغة هو القصد تقول العرب : تيممك الله بحفظه أي قصدك ومنه قول امرىء القيس شعرا :
ولما رأت أن المنية وردها وأن الحصى من تحت أقدامها دامي
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الفيء عرمضها طامي
والصعيد قيل : هو كل ما صعد على وجه الأرض فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والحجر والنبات وهو قول مالك وقيل : ما كان من جنس التراب كالرمل والزرنيخ والنورة وهذا مذهب أبي حنيفة وقيل : هو التراب فقط وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما واحتجوا بقوله تعالى : { فتصبح صعيدا زلقا } أي ترابا أملس طيبا وبما ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ] وفي لفظ [ وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ] قالوا : فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه والطيب ههنا قيل : الحلال وقيل : الذي ليس بنجس كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر حجج فإذا وجده فليمسه بشرته فإن ذلك خير ] وقال الترمذي : حسن صحيح وصححه ابن حبان أيضا ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة وصححه الحافظ أبو الحسن القطان وقال ابن عباس : أطيب الصعيد تراب الحرث رواه ابن أبي حاتم ورفعه ابن مردويه في تفسيره وقوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به لا أنه بدل منه في جميع أعضائه بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال : أحدها وهو مذهب الشافعي في الجديد : أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين كما في آية الوضوء ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة { فاقطعوا أيديهما } قالوا : وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية وذكر بعضهم : ما رواه الدارقطني عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ التيمم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ] ولكن لا يصح لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم وروى أبو داود عن ابن عمر في حديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبدي وقد ضعفه بعض الحفاظ ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي : وهو الصواب وقال البيهقي : رفع هذا الحديث منكر واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية عن الأعرج عن ابن الصمة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه وقال ابن جرير : حدثني موسى بن سهل الرملي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا خارجة بن مصعب عن عبد الله بن عطاء عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي جهيم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يبول فسلمت عليه فلم يرد علي حتى فرغ ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه فمسح بهما وجهه ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين ثم رد علي السلام والقول الثاني : أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين وهو قول الشافعي في القديم والثالث : أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أن رجلا أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء فقال عمر لا تصل فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت فلما أتينا النبي صلى الله عليه و سلم ذكرت ذلك له فقال [ إنما كان يكفيك وضرب النبي صلى الله عليه و سلم بيده الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه ] وقال أحمد أيضا : حدثنا عفان حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في التيمم [ ضربة للوجه والكفين ]
( طريق أخرى ) قال أحمد : حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد عن سليمان الأعمش حدثنا شقيق قال : كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله : لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل ؟ فقال عبد الله : لا فقال أبو موسى : أما تذكر إذ قال عمار لعمر : ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم وإياك في إبل فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرته فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال [ إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بكفيه إلى الأرض ثم مسح كفيه جميعا ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة ] ؟ فقال عبد الله : لا جرم ما رأيت عمر قنع بذاك قال : فقال له أبو موسى : فكيف بهذه الاية في سورة النساء { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ؟ قال : فما درى عبد الله ما يقول وقال : لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم : وقال تعالى في آية المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } استدل بذلك الشافعي على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء كما روى الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة : أنه مر بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه فضرب بيده عليه ثم مسح وجهه وذراعيه وقوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي في الدين الذي شرعه لكم { ولكن يريد ليطهركم } فلهذا أباح لكم إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد { وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ] وفي لفظ [ فعنده طهوره ومسجده وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ] وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم [ فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء ] وقال تعالى في هذه الاية الكريمة : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا } أي ومن عفوه عنكم وغفرانه لكم أن شرع التيمم وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء توسعة عليكم ورخصة لكم وذلك أن هذه الاية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول أو جنابة حتى يغتسل أو حدث حتى يتوضأ إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء فإن الله عز و جل قد أرخص في التيمم والحالة هذه رحمة بعباده ورأفة بهم وتوسعة عليهم ولله الحمد والمنة
( ذكر سبب نزول مشروعية التيمم ) وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الاية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير يقال : في محاصرة النبي صلى الله عليه و سلم لبني النضير وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل ولا سيما صدرها فناسب أن يذكر السبب ههنا وبالله الثقة قال أحمد : حدثنا ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجالا في طلبها فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله آية التيمم فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا فو الله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا
( طريق أخرى ) قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي قأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه و سلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه و سلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته وقد رواه البخاري أيضا عن قتيبة وإسماعيل ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح قال قال ابن شهاب : حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار بن ياسر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عرس بأولات الجيش ومعه زوجته عائشة فانقطع عقد لها من جزع ظفار فحبس الناس ابتغاء عقدها وذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الاباط وقد رواه ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا صيفي عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن عبيد الله عن أبي اليقظان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أضاء الفجر فتغيظ أبو بكر على عائشة فنزلت عليه رخصة المسح بالصعيد الطيب فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة نزلت فيك رخصة فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والاباط
( حديث آخر ) قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا العباس بن أبي سوية حدثني الهيثم بن رزيق المالكي من بني مالك بن كعب بن سعد وعاش مائة وسبع عشرة سنة عن أبيه عن الأسلع بن شريك قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة وأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا جنب وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه فقال : [ يا أسلع ما لي أرى رحلتك تغيرت ] قلت : يا رسول الله لم أرحلها رحلها رجل من الأنصار قال [ ولم ] ؟ قلت : إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتلست به فأنزل الله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } إلى قوله { إن الله كان عفوا غفورا } وقد روي من وجه آخر عنه (1/665)
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه و سلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا { ويريدون أن تضلوا السبيل } أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع { والله أعلم بأعدائكم } أي هو أعلم بهم ويحذركم منهم { وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا } أي كفى به وليا لمن لجأ إليه ونصيرا لمن استنصره ثم قال تعالى : { من الذين هادوا } [ من ] في هذا لبيان الجنس كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } وقوله { يحرفون الكلم عن مواضعه } أي يتأولون الكلام على غير تأويله ويفسرونه بغير مراد الله عز و جل قصدا منهم وافتراء { ويقولون سمعنا وعصينا } أي يقولون سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه هكذا فسره مجاهد وابن زيد وهو المراد وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة وقوله { واسمع غير مسمع } أي اسمع ما نقول لا سمعت رواه الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد والحسن : واسمع غير مقبول منك قال ابن جرير : والأول أصح وهو كما قال : وهذا استهزاء منهم واستهتار عليهم لعنة الله { وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين } أي يوهمون أنهم يقولون : راعنا سمعك بقولهم راعنا وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه { ليا بألسنتهم وطعنا في الدين } يعني بسبهم النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال تعالى : { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا } أي قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : { فقليلا ما يؤمنون } والمقصود أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا (1/674)
يقول تعالى آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ومتهددا لهم إن لم يفعلوا بقوله : { من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } قال بعضهم : معناه من قبل أن نطمس وجوها فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم ويحمتل أن يكون المراد : من قبل أن نطمس وجوها فلا نبقي لها سمعا ولا بصرا ولا أثرا ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار قال العوفي عن ابن عباس في الاية وهي { من قبل أن نطمس وجوها } وطمسها أن تعمى { فنردها على أدبارها } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ونجعل لأحدهم عينين من قفاه وكذا قال قتادة وعطية العوفي وهذا أبلغ في العقوبة والنكال وهو مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم وهذا كما قال بعضهم في قوله { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا } الاية : إن هذا مثل ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى قال مجاهد : من قبل أن نطمس وجوها يقول : عن صراط الحق فنردها على أدبارها أي في الضلال قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا قال السدي : فنردها على أدبارها فنمنعها عن الحق قال : نرجعها كفارا ونردهم قردة وقال ابن زيد : نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الاية قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال : أسلم كعب زمان عمر أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال : يا كعب أسلم فقال : ألستم تقرأون في كتابكم { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } وأنا قد حملت التوراة قال : فتركه عمر ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلا من أهلها حزينا وهو يقول : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } الاية قال كعب : يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الاية ثم رجع فأتى أهله في اليمن ثم جاء بهم مسلمين وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر من وجه آخر فقال : حدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فبعثه إليه لينظر أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة فإذا تال يقرأ القرآن يقول { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ثم أسلمت وقوله { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف وقوله { وكان أمر الله مفعولا } أي إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع ثم أخبر تعالى أنه { لا يغفر أن يشرك به } أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به { ويغفر ما دون ذلك } أي من الذنوب { لمن يشاء } أي من عباده وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الاية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر :
( الحديث الأول ) قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا صدقة بن موسى حدثنا أبو عمران الجوني عن يزيد بن بابنوس عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الدواوين عند الله ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئا وديوان لا يترك الله منه شيئا وديوان لا يغفره الله فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز و جل : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الاية وقال { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة } وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة ] تفرد به أحمد
( الحديث الثاني ) قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن مالك حدثنا زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ] الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفره الله وظلم يغفره الله وظلم لا يتركه الله فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك وقال { إن الشرك لظلم عظيم } وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض [
( الحديث الثالث ) قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ] كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا [ ورواه النسائي عن محمد بن مثنى عن صفوان بن عيسى به
( الحديث الرابع ) قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبد الحميد حدثنا شهر حدثنا ابن غنم أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ] إن الله يقول : يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان منك يا عبدي إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي لقيتك بقرابها مغفرة [ تفرد به أحمد من هذا الوجه
( الحديث الخامس ) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا حسين عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ] ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق ثلاثا ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر [ قال : فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر وكان أبو ذر يحدث بهذا ويقول : وإن رغم أنف أبي ذر أخرجاه من حديث حسين به
( طريق أخرى ) لحديث أبي ذر قال أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن أبي ذر قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه و سلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد فقال ] يا أبا ذر [ قلت : لبيك يا رسول الله قال : ] ما أحب أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده يعني لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا [ وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره قال : ثم مشينا فقال ] يا أبا ذر إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا [ فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره قال : ثم مشينا فقال ] يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك [ قال : فانطلق حتى توارى عني قال : فسمعت لغطا فقلت : لعل رسول الله صلى الله عليه و سلم عرض له قال : فهممت أن أتبعه ثم ذكرت قوله : لا تبرح حتى آتيك فانتظرته حتى جاء فذكرت له الذي سمعت فقال ] ذاك جبريل أتاني فقال : من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة [ قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ] وإن زنى وإن سرق [ أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به وقد رواه البخاري ومسلم أيضا كلاهما عن قتيبة عن جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع عن زيد بن وهب عن أبي ذر قال : خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يمشي وحده ليس معه إنسان قال : فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد قال : فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت فرآني فقال ] من هذا ؟ [ فقلت : أبو ذر جعلني الله فداك قال ] يا أبا ذر تعال [ قال : فمشيت معه ساعة فقال ] إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا [ قال فمشيت معه ساعة فقال لي ] إجلس ههنا [ فأجلسني في قاع حوله حجارة فقال لي ] إجلس ههنا حتى أرجع إليك [ قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه فلبث عني فأطال اللبث ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول ] وإن زنى وإن سرق [ قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله جعلني الله فداك من تكلم في جانب الحرة ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا قال ] ذاك جبريل عرض لي من جانب الحرة فقال : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة : قلت : يا جبريل وإن سرق وإن زنى قال : نعم قلت : وإن سرق وإن زنى قال : نعم : قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم وإن شرب الخمر [
( الحديث السادس ) قال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ما الموجبتان قال : ] من مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار [ وذكر تمام الحديث تفرد به من هذا الوجه
( طريق أخرى ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي حدثنا موسى بن عبيدة الربذي أخبرني عبد الله بن عبيدة عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئا إلا حلت لها المغفرة إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن جابر : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب ] قيل : يا نبي الله وما الحجاب ؟ قال [ الإشراك بالله ـ قال ـ ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى إن يشاء أن يعذبها وإن يشاء أن يغفر لها ] ثم قرأ نبي الله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }
( الحديث السابع ) قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ] تفرد به من هذا الوجه
( الحديث الثامن ) قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو قبيل عن عبد الله بن ناشر من بني سريع قال : سمعت أبارهم قاص أهل الشام يقول : سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج ذات يوم إليهم فقال لهم : إن ربكم عز و جل خيرني بين سبعين ألفا يدخلون الجنة عفوا بغير حساب وبين الخبيئة عنده لأمتي فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله أيخبأ ذلك ربك ؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم خرج وهو يكبر فقال [ إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده ] قال أبو رهم : يا أبا أيوب : وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكله الناس بأفواههم فقالوا : وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال أبو أيوب : دعوا الرجل عنكم أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما أظن بل كالمستيقن إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول [ من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله الجنة ]
( الحديث التاسع ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني حدثنا عيسى بن يونس ( ح ) وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي قال : حدثنا عيسى بن يونس نفسه عن واصل بن السائب الرقاشي عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب الأنصاري عن أبي أيوب قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام قال [ وما دينه ؟ ] قال : يصلي ويوحد الله تعالى قال [ استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه ] فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال [ وجدته شحيحا في دينه ] قال : فنزلت { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }
( الحديث العاشر ) قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك حدثنا أبي حدثنا مستور أبو همام الهنائي حدثنا ثابت عن أنس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت قال [ أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ ] ثلاث مرات ؟ قال : نعم قال [ فإن ذلك يأتي على ذلك كله ]
( الحديث الحادي عشر ) قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر حدثنا عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوش اليمامي قال : قال لي أبو هريرة : يا يمامي لا تقولن لرجل : والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الجنة أبدا قلت : يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال : لا تقلها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ كان في بني إسرائيل رجلان : كان أحدهما مجتهدا في العبادة وكان الاخر مسرفا على نفسه وكانا متآخيين وكان المجتهد لا يزال يرى الاخر على ذنب فيقول : يا هذا أقصر فيقول : خلني وربي أبعثت علي رقيبا قال : إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه فقال له : ويحك أقصر ! قال : خلني وربي أبعثت علي رقيبا ؟ فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة أبدا قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للاخر : أكنت عالما أكنت على ما في يدي قادرا ؟ اذهبوا به إلى النار : قال : فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ] ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار حدثني ضمضم بن جوش به
( الحديث الثاني عشر ) قال الطبراني : حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قال الله عز و جل : [ من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا ]
( الحديث الثالث عشر ) قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى : حدثنا هدبة بن خالد حدثنا سهل بن أبي حازم عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن توعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار ] تفردا به وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بحر بن نصر الخولاني حدثنا خالد يعني ابن عبد الرحمن الخراساني حدثنا الهيثم بن حماد عن سلام بن أبي مطيع عن بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر قال : كنا أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لا نشك في قاتل النفس وآكل مال اليتيم وقاذف المحصنات وشاهد الزور حتى نزلت هذه الاية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن الشهادة ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد به وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري حدثنا عبد الله بن عاصم حدثنا صالح يعني المري حدثنا أبو بشر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب حتى نزلت علينا هذه الاية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز و جل وقال البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا شيبان بن أبي شيبة حدثنا حرب بن سريج عن أيوب عن نافع عن ابن عمر : قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه و سلم يقول { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال : [ أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة ] وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع أخبرني مجبر عن عبد الله بن عمر أنه قال : لما نزلت { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } إلى آخر الاية قام رجل فقال : والشرك بالله يا نبي الله ؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } رواه ابن جرير وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر وهذه الاية التي في سورة تنزيل مشروطة بالتوبة فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه تاب الله عليه ولهذا قال { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } أي بشرط التوبة ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه ولا يصح ذلك لأنه تعالى قد حكم ههنا بأنه لا يغفر الشرك وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء أي : وإن لم يتب صاحبه فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه والله أعلم وقوله { ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } كقوله { إن الشرك لظلم عظيم } وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : [ أن تجعل لله ندا وهو خلقك ] وذكر تمام الحديث وقال ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن عمرو حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ أخبركم بأكبر الكبائر الشرك بالله ] ثم قرأ { ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } وعقوق الوالدين ثم قرأ { أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } (1/675)
قال الحسن وقتادة : نزلت هذه الاية وهي قوله { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } في اليهود والنصارى حين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وقال ابن زيد : نزلت في قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } وفي قولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقال مجاهد : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنب لهم وكذا قال عكرمة وأبو مالك وروى ذلك ابن جرير وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة وسيشفعون لنا ويزكوننا فأنزل الله على محمد { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } الاية رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن مصفى حدثنا ابن حمير عن ابن لهيعة عن بشير بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان اليهود يقومون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب وكذبوا قال الله : إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له وأنزل الله { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } ثم قال : وروي عن مجاهد وأبي مالك والسدي وعكرمة والضحاك نحو ذلك وقال الضحاك : قالوا : ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب فأنزل الله { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } فيهم وقيل : نزلت في ذم التمادح والتزكية وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عن المقداد بن الأسود قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب وفي الحديث الاخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يثني على رجل فقال [ ويحك قطعت عنق صاحبك ] ثم قال : [ إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا ] وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال : قال عمر بن الخطاب : من قال : أنا مؤمن فهو كافر ومن قال هو عالم فهو جاهل ومن قال هو في الجنة فهو في النار ورواه ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه فمن قال إنه مؤمن فهو كافر ومن قال : هو عالم فهو جاهل ومن قال : إنه في الجنة فهو في النار وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة وحجاج أنبأنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن معبد الجهني قال : كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه و سلم يقول [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإن هذا المال حلو خضر فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه وإياكم والتمادح فإنه الذبح ] وروى ابن ماجه منه [ إياكم والتمادح فإنه الذبح ] عن أبي بكر بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة به ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري وقال ابن جرير : حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له : إنك والله كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء وقد أسخط الله ثم قرأ { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } الاية وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } ولهذا قال تعالى : { بل الله يزكي من يشاء } أي المرجع في ذلك إلى الله عز و جل لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها ثم قال تعالى : { ولا يظلمون فتيلا } أي ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وغير واحد من السلف : هو ما يكون في شق النواة وعن ابن عباس أيضا : هو ما فتلت بين أصابعك وكلا القولين متقارب وقوله { انظر كيف يفترون على الله الكذب } أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقولهم { لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة وقد حكم الله أن أعمال الاباء لا تجزي عن الأبناء شيئا في قوله { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } الاية ثم قال { وكفى به إثما مبينا } أي وكفى بصنيعهم هذا كذبا وافتراء ظاهرا وقوله { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } أما الجبت فقال محمد بن إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر بن الخطاب أنه قال : الجبت السحر والطاغوت الشيطان وهكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسدي وعن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن وعطية : الجبت الشيطان وزاد ابن عباس : بالحبشية وعن ابن عباس أيضا : الجبت الشرك وعنه : الجبت الأصنام وعن الشعبي : الجبت الكاهن وعن ابن عباس : الجبت حيي بن أخطب وعن مجاهد : الجبت كعب بن الأشرف وقال العلامة أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح : الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك وفي الحديث [ الطيرة والعيافة والطرق من الجبت ] قال : وليس هذا من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقي وهذا الحديث الذي ذكره وراه الإمام أحمد في مسنده فقال : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن حيان أبي العلاء حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه وهو قبيصة بن مخارق أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت ] وقال عوف : العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط في الأرض والجبت قال الحسن : إنه الشيطان وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي به وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن الضيف حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن الطواغيت فقال : هم كهان تنزل عليهم الشياطين وقال مجاهد : الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم وقال الإمام مالك : الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله عز و جل وقوله { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم وقلة دينهم وكفرهم بكتاب الله يأيديهم وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقالوا : ما أنتم وما محمد فقالوا : نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيج ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : أنتم خير وأهدى سبيلا فأنزل الله { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا } الاية وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية ؟ قال : أنتم خير قال فنزلت { إن شانئك هو الأبتر } ونزل { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وأبو عمار وحوح بن عامر وهوذة بن قيس فأما وحوح وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل وكان سائرهم من بني النضير فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه فأنزل الله عزو وجل { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله عز و جل { وآتيناهم ملكا عظيما } وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الاخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه حول المدينة الخندق فكفى الله شرهم { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا } (1/680)
يقول تعالى : أم لهم نصيب من الملك وهذا استفهام إنكاري أي ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل فقال : { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس ولا سيما محمدا صلى الله عليه و سلم شيئا ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين وهذه الاية كقوله تعالى : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق } أي خوف أن يذهب ما بأيديكم مع أنه لا يتصور نفاده وإنما هو من بخلكم وشحكم ولهذا قال تعالى : { وكان الإنسان قتورا } أي بخيلا ثم قال { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } يعني بذلك حسدهم النبي صلى الله عليه و سلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا يحيى الحماني حدثنا قيس بن الربيع عن السدي عن عطاء عن ابن عباس في قوله { أم يحسدون الناس } الاية قال ابن عباس : نحن الناس دون الناس قال الله تعالى : { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب وحكموا فيهم بالسنن وهي الحكمة وجعلنا منهم الملوك ومع هذا { فمنهم من آمن به } أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام { ومنهم من صد عنه } أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل فقد اختلفوا عليهم فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟ وقال مجاهد : { فمنهم من آمن به } أي بمحمد صلى الله عليه و سلم { ومنهم من صد عنه } فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين ولهذا قال متوعدا لهم { وكفى بجهنم سعيرا } أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله (1/683)
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله فقال { إن الذين كفروا بآياتنا } الاية أي ندخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } قال الأعمش عن ابن عمر : إذا احترقت جلودهم بدلوا جلودا غيرها بيضاء أمثال القراطيس رواه ابن أبي حاتم وقال يحيى بن يزيد الحضرمي أنه بلغه في الاية قال : يجعل للكافر مائة جلد بين كل جلدين لون من العذاب ورواه ابن أبي حاتم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن هشام عن الحسن قوله : { كلما نضجت جلودهم } الاية قال : تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة قال حسين : وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن { كلما نضجت جلودهم } كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم عودوا فعادوا وقال أيضا : ذكر عن هشام بن عمار حدثنا سعيد بن يحيى ـ يعني سعدان ـ حدثنا نافع مولى يوسف السلمي البصري عن نافع عن ابن عمر قال : قرأ رجل عند عمر هذه الاية { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } فقال عمر : أعدها علي فأعادها فقال معاذ بن جبل : عندي تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة فقال عمر : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد رواه ابن مردويه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم عن عبدان بن محمد المروزي عن هشام بن عمار به ورواه من وجه آخر بلفظ آخر فقال : حدثنا محمد بن إسحاق عن عمران حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا نافع أبو هرمز حدثنا نافع عن ابن عمر قال : تلا رجل عند عمر هذه الاية : { كلما نضجت جلودهم } الاية قال : فقال عمر : أعدها علي وثم كعب فقال أنا عندي تفسير هذه الاية قرأتها قبل الإسلام قال : فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقناك وإلا لم ننظر إليها فقال : إني قرأتها قبل الإسلام : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الربيع بن أنس : مكتوب في الكتاب الأول : أن جلد أحدهم أربعون ذراعا وسنه تسعون ذراعا وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا أبو يحيى الطويل عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام وإن غلظ جلده سبعون ذرعا وإن ضرسه مثل أحد ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وقيل المراد بقوله : { كلما نضجت جلودهم } أي سرابيلهم حكاه ابن جرير وهو ضعيف لأنه خلاف الظاهر وقوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا } هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا وقوله : { لهم فيها أزواج مطهرة } أي من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة كما قال ابن عباس : مطهرة من الأقذار والأذى وكذا قال عطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو صالح وعطية والسدي وقال مجاهد : مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف وقوله { وندخلهم ظلا ظليلا } أي ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن وحدثنا ابن المثنى حدثنا ابن جعفر قالا : حدثنا شعبة قال : سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها : شجرة الخلد ] (1/684)
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] رواه الإمام أحمد وأهل السنن وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عز و جل على عباده من الصلوات والزكوات والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يطلع عليه العباد ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك فأمر الله عز و جل بأدائها فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود قال : إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة يؤتى بالرجل يوم القيامة وإن كان قتل في سبيل الله فيقال : أد أمانتك فيقول فأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا ؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه قال : فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الابدين قال زاذان : فأتيت البراء فحدثته فقال : صدق أخي : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } وقال سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى عن رجل عن ابن عباس في الاية قال : هي مبهمة للبر والفاحر وقال محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر والفاجر وقال أبو العالية الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها وقال الربيع بن أنس : هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } قال : قال يدخل فيه وعظ السلطان النساء يعني يوم العيد وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الاية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة فكان معه لواء المشركين يوم أحد وقتل يومئذ كافرا وإنما نبهنا على هذا النسب لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليه هذا بهذا وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه و سلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن صفية بنت شيبة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ثم وقف على باب الكعبة وقد استكن له الناس في المسجد قال ابن إسحاق : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول صلى الله عليه و سلم قام على باب الكعبة فقال [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ] وذكر بقية الحديث في خطبه النبي صلى الله عليه و سلم يومئذ إلى أن قال : ثم جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أين عثمان بن طلحة ؟ ] فدعي له فقال له [ هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء وبر ] قال ابن جرير : حدثني القاسم حدثنا الحسين عن حجاج عن ابن جريج في الاية قال : نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه رسول الله صلى الله عليه و سلم مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الاية { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } الاية فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من الكعبة وهو يتلو هذه الاية { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا الزنجي بن خالد عن الزهري قال : دفعه إليه وقال : أعينوه وروى ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز و جل { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال [ أرني المفتاح ] فأتاه به فلما بسط يده إليه قام إليه العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أرني المفتاح يا عثمان ] فبسط يده يعطيه فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الاخر فهاتني المفتاح ] فقال : هاك بأمانة الله قال فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم ففتح باب الكعبة فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم عليه الصلاة و السلام معه قداح يستقسم بها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما للمشركين قاتلهم الله وما شأن إبراهيم وشأن القداح ] ثم دعا بجفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه ثم غمس به تلك التماثيل وأخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة فألزقه في حائط الكعبة ثم قال : [ يا أيها الناس هذه القبلة ] قال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فطاف في البيت شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } حتى فرغ من الاية وهذا من المشهورات أن هذه الاية نزلت في ذلك وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا فحكمها عام ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : هي للبر والفاجر أي هي أمر لكل أحد وقوله : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب : إن هذه الاية إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس وفي الحديث [ إن الله مع الحاكم ما لم يجر فإذا جار وكله الله إلى نفسه ] وفي الأثر [ عدل يوم كعبادة أربعين سنة ] وقوله : { إن الله نعما يعظكم به } أي يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة وقوله تعالى : { إن الله كان سميعا بصيرا } أي سميعا لأقوالكم بصيرا بأفعالكم كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقري هذه الاية { سميعا بصيرا } يقول : بكل شيء بصير وقد قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني أنبأنا المقري يعني أبا عبد الرحمن عبد الله بن يزيد حدثنا حرملة يعني ابن عمران التجيبي المصري حدثني أبو يونس سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الاية { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } إلى قوله : { إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ويقول : هكذا سمعت رسول الله يقرؤها ويضع إصبعيه قال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى والتي تليها على الأذن اليمنى وأرانا فقال : هكذا وهكذا رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده نحوه وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة واسمه سليم بن جبير (1/685)
قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم في سرية وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث حجاج بن محمد الأعور به وقال الترمذي : حديث حسن غريب ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فلما خرجوا وجد عليهم في شيء قال : فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تطيعوني ؟ قالوا : بلى قال : اجمعوا لي حطبا ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال : عزمت عليكم لتدخلنها قال : فهم القوم أن يدخلوها قال : فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها قال : فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه فقال لهم [ لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف ] أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به وقال أبو داود : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ] وأخرجاه من حديث يحيى القطان وعن عبادة بن الصامت قال : [ بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال : ] إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان [ أخرجاه وفي الحديث الاخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ] اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة [ رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف رواه مسلم وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب في حجة الوداع يقول : ] ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله اسمعوا له وأطيعوا [ رواه مسلم وفي لفظ له ] عبدا حبشيا مجدوعا [ وقال ابن جرير : حدثني علي بن مسلم الطوسي حدثنا ابن أبي فديك حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ] سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساؤوا فلكم وعليهم [ ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون ] قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال [ أوفوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ] أخرجاه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية ] أخرجاه وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول [ من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ] رواه مسلم وروى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه فأتيتهم فجلست إليه فقال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتضل ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم : الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتن يرفق بعضها بعضا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن با لله واليوم الاخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الاخر ] قال : فدنوت منه فقلت : أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } قال : فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله والأحاديث في هذا كثيرة وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن الحسين حدثنا أحمد بن الفضل حدثنا أسباط عن السدي في قوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية عليها خالد بن الوليد وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم فأصبحوا قد هربوا غير رجل فأمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال : يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت ؟ قال عمار : بل هو ينفع فأقم فأقام فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمارا الخبر فأتى خالدا فقال : خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني فقال خالد : وفيم أنت تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال خالد : أتترك هذا العبد الأجدع يسبني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يا خالد لا تسب عمارا فإنه من يسب عمارا يسبه الله ومن يبغضه يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله ] فغضب عمار فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل الله عز و جل قوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلا ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره بنحوه والله أعلم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وأولي الأمر منكم } يعني أهل الفقه والدين وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية { وأولي الأمر منكم } يعني العلماء والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم وقد قال تعالى : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت } وقال تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني ] فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء ولهذا قال تعالى { أطيعوا الله } أي اتبعوا كتابه { وأطيعوا الرسول } أي خذوا بسنته { وأولي الأمر منكم } أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح [ إنما الطاعة في المعروف ] وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي مراية عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا طاعة في معصية الله ] وقوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذا أمر من الله عز و جل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال ولهذا قال تعالى { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الاخر وقوله { ذلك خير } أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير { وأحسن تأويلا } أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد وقال مجاهد : وأحسن جزاء وهو قريب (1/687)
هذا إنكار من الله عز و جل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله كما ذكر في سبب نزول هذه الاية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخصاما فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد وذاك يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف وقيل : في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية وقيل غير ذلك والاية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت ههنا ولهذا قال { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } إلى آخرها وقوله { يصدون عنك صدودا } أي يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا } وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } الاية
ثم قال تعالى في ذم المنافقين : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك { ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } وقد قال الطبراني : حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي حدثنا أبو اليمان حدثنا صفوان بن عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله عز و جل { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا }
ثم قال تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم ولهذا قال له { فأعرض عنهم } أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم { وعظهم } أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم (1/690)
يقول تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع } أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم وقوله { بإذن الله } قال مجاهد : أي لا يطيع أحد إلا بإذني يعني لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك كقوله { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم وقوله { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } الاية يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه و سلم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال { لوجدوا الله توابا رحيما } وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي قال : كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :
( يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم )
( نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم )
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم فقال يا عتبي الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له
وقوله { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه و سلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ولهذا قال { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث [ والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لم جئت به ] وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال : خاصم الزبير رجلا في سريج من الحرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ] فقال الأنصاري : يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك ] واستوعى النبي صلى الله عليه و سلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري وكان أشار عليهما صلى الله عليه و سلم بأمر لهما فيه سعة قال الزبير : فما أحسب هذه الاية إلا نزلت في ذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الاية هكذا رواه البخاري ههنا أعني في كتاب التفسير من صحيحه من حديث معمر وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج ومعمر أيضا وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة ثلاثتهم عن الزهري عن عروة فذكره وصورته صورة الإرسال وهو متصل في المعنى وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى الله عليه و سلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم للزبير [ اسق ثم أرسل إلى جارك ] فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ] فاستوعى النبي صلى الله عليه و سلم للزبير : حقه وكان النبي صلى الله عليه و سلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه و سلم استوعى النبي صلى الله عليه و سلم للزبير حقه في صريح الحكم قال عروة : فقال الزبير : والله ما أحسب هذه الاية نزلت إلا في ذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في شراج الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك ] فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ] واستوعى رسول الله صلى الله عليه و سلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصار فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه و سلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الاية إلا في ذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير والله أعلم والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن عروة عن عبد الله بن الزبير عن الزبير فذكره ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبد الله بن الزبير غير ابن أخيه وهو عنه ضعيف وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي أبو دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا الفضل بن دكين حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سلمة رجل من آل أبي سلمة قال : خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى للزبير فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته فنزلت : { فلا وربك لا يؤمنون } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبو حيوة حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب في قوله { فلا وربك لا يؤمنون } قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء فقضى النبي صلى الله عليه و سلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري
( ذكر سبب آخر غريب جدا ) ـ قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقضى بينهما فقال المقضي عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نعم ] انطلقا إليه فلما أتيا إليه فقال الرجل : يا ابن الخطاب قضى لي رسول الله صلى الله عليه و سلم على هذا فقال : ردنا إلى عمر بن الخطاب فردنا إليك : فقال : أكذاك ؟ قال : نعم فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما فخرج إليها مشتملا على سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر فقتله وأدبر الاخر فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله قتل عمر والله صاحبي ولولا أني أعجزته لقتلني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما كنت أظن أن يجترىء عمر على قتل مؤمن ] فأنزل الله { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } الاية فهدر دم ذلك الرجل وبرىء عمر من قتله فكره الله أن يسن ذلك بعد فأنزل { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الاية وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به وهو أثر غريب مرسل وابن لهيعة ضعيف والله أعلم
( طريق أخرى ) ـ قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره : حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى للمحق على المبطل فقال المقضي عليه : لا أرضى فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه فقال الذي قضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لي فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبى صاحبه أن يرضى فقال : نأتي عمر بن الخطاب فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى لي عليه فأبي أن يرضى فسأله عمر بن الخطاب فقال كذلك فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله فأنزل { فلا وربك لا يؤمنون } الاية (1/691)
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ولهذا قال تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الاية قال ابن جرير : حدثني المثنى حدثني إسحاق حدثنا أبو زهير عن إسماعيل عن أبي إسحاق السبيعي قال : لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الاية قال رجل : لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ] ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير حدثنا روح حدثنا هشام عن الحسن بإسناده عن الأعمش قال : لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الاية قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي ] وقال السدي : افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا فقال ثابت : والله لو كتب علينا { أن اقتلوا أنفسكم } لفعلنا فأنزل الله هذه الاية ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا بشر بن السري حدثنا مصعب بن ثابت عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير قال : لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم ] وحدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الاية { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الاية أشار رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال : [ لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل ] يعني ابن رواحة ولهذا قال تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } أي ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه { لكان خيرا لهم } أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي { وأشد تثبيتا } قال السدي : أي وأشد تصديقا { وإذا لآتيناهم من لدنا } أي من عندنا { أجرا عظيما } يعني الجنة { ولهديناهم صراطا مستقيما } أي في الدنيا والاخرة ثم قال تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } أي من عمل بما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ورسوله فإن الله عز و جل يسكنه دار كرامته ويجعله مرافقا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون ثم الشهداء والصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم ثم أثنى عليهم تعالى فقال : { وحسن أولئك رفيقا } وقال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والاخرة ] وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة فسمعته يقول : [ مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ] فعلمت أنه خير وكذا رواه مسلم من حديث شعبة عن سعد بن إبراهيم به وهذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الاخر [ اللهم الرفيق الأعلى ] ثلاثا ثم قضى عليه أفضل الصلاة والتسليم
( ذكر سبب نزول هذه الاية الكريمة )
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو محزون فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا فلان ما لي أراك محزونا ؟ ] فقال : يا نبي الله شيء فكرت فيه فقال : ما هو ؟ قال : نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فلم يرد النبي صلى الله عليه و سلم شيئا فأتاه جبريل بهذه الاية { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } الاية فبعث النبي صلى الله عليه و سلم فبشره وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق وعن عكرمة وعامر الشعبي وقتادة وعن الربيع بن أنس وهو من أحسنها سندا قال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قوله : { ومن يطع الله والرسول } الاية وقال : إن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : قد علمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا فأنزل الله في ذلك يعني هذه الاية فقال : يعني رسول الله [ إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجتمعون في رياض فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه ] وقد روي مرفوعا من وجه آخر فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي وأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم حتى نزلت عليه { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في صفة الجنة من طريق الطبراني عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال عن عبد الله بن عمران العابدي به ثم قال : لا أرى بإسناده بأسا والله أعلم وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي حدثنا أبو بكر بن ثابت ابن عباس المصري حدثنا خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن عامر الشعبي عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك في الدرجة فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم شيئا فأنزل الله عز و جل هذه الاية وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن عطاء عن الشعبي مرسلا وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه و سلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي [ سل ] فقلت : يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة فقال : [ أو غير ذلك ؟ ] قلت : هو ذاك قال : [ فأعني على نفسك بكثرة السجود ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن عيسى بن طلحة عن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة وهكذا ـ ونصب أصبعيه ـ ما لم يعق والديه ] تفرد به أحمد قال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم حدثنا ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله ] وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري عن أبي حمزة عن الحسن البصري عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ] ثم قال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال : [ المرء مع من أحب ] قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث وفي رواية عن أنس أنه قال : إني لأحب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرجو أن الله يبعثني معهم وإن لم أعمل كعملهم قال الإمام مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق المشرق أوالمغرب لتفاضل ما بينهم ] قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال [ بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ] أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك واللفظ لمسلم ورواه الإمام أحمد حدثنا فزارة أخبرني فليح عن هلال يعني ابن علي عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون ـ أو ترون ـ الكوكب الدري الغابر في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات ] قالوا : يا رسول الله أولئك النبيون ؟ قال : [ بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا با لله وصدقوا المرسلين ] قال الحافظ الضياء المقدسي : هذا الحديث على شرط البخاري والله أعلم
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد بن عمار الموصلي حدثنا عفيف بن سالم عن أيوب عن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال : أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سل واستفهم ] فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ثم قال : أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به إني لكائن معك في الجنة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم والذي نفسي بيده إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قال : لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله ومن قال : سبحان الله وبحمده كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ] فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته ] ونزلت هذه الايات { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } إلى قوله { وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا } فقال الحبشي : وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم ] فاستبكى حتى فاضت نفسه قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يدليه في حفرته بيديه فيه غرابة ونكارة وسنده ضعيف ولهذا قال تعالى : { ذلك الفضل من الله } أي من عند الله برحمته وهو الذي أهلهم لذلك لا بأعمالهم { وكفى بالله عليما } أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق (1/693)
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيل الله { ثبات } أي جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية والثباب جمع ثبة وقد تجمع الثبة على ثبين قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوله : { فانفروا ثبات } أي عصبا يعني سرايا متفرقين { أو انفروا جميعا } يعني كلكم وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وخصيف الجزري
وقوله تعالى : { وإن منكم لمن ليبطئن } قال مجاهد وغير واحد : نزلت في المنافقين وقال مقاتل بن حيان : { ليبطئن } أي ليتخلفن عن الجهاد ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه ويبطىء غيره عن الجهاد كما كان عبد الله بن أبي بن سلول ـ قبحه الله ـ يفعل يتأخر عن الجهاد ويثبط الناس عن الخروج فيه وهذا قول ابن جريج وابن جرير ولهذ قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول : إذا تأخر عن الجهاد { فإن أصابتكم مصيبة } أي قتل وشهادة وغلب العدو لكم لما لله في ذلك من الحكمة { قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } أي إذ لم أحضر معهم وقعة القتال يعد ذلك من نعم الله عليه ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل
{ ولئن أصابكم فضل من الله } أي نصر وظفر وغنيمة { ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } أي كأنه ليس من أهل دينكم { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } أي بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه وهو أكبر قصده وغاية مراده
ثم قال تعالى : { فليقاتل } أي المؤمن النافر { في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } أي يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم ثم قال تعالى : { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما } أي كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل كما ثبت في الصحيحين : وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة (1/697)
يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها ولهذا قال تعالى : { الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية } يعني مكة كقوله تعالى : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } ثم وصفها بقوله : { الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا } أي سخر لنا من عندك وليا وناصرا قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن عبيد الله قال : سمعت ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن مليكة أن ابن عباس تلا { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز و جل
ثم قال تعالى : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } أي المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان ثم هيج تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله : { فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا } (1/698)
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النصب وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة منها : قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ومنها : كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام أشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جزع بعضهم منه وخافوا مواجهة الناس خوفا شديدا { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } أي لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى فإن فيه سفك الدماء ويتم الأولاد وتأيم النساء وهذه الاية كقوله تعالى : { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال } الايات قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وعلي بن زنجة قالا : حدثنا علي بن الحسن عن الحسين بن واقد عن عمرو بن دينار وعن عكرمة عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه و سلم بمكة فقالوا : يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة قال : [ إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ] فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الاية ورواه النسائي والحاكم وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به وقال أسباط عن السدي : لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال فلما فرض عليهم القتال { إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } وهو الموت قال الله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } وقال مجاهد : إن هذه الاية نزلت في اليهود رواه ابن جرير وقوله : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } أي آخرة المتقي خير من دنياه { ولا تظلمون فتيلا } أي من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الاخرة وتحريض لهم على الجهاد وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن زيد عن هشام قال : قرأ الحسن { قل متاع الدنيا قليل } قال : رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه وقال ابن معين كان أبو مصهر ينشد :
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها متاع قليل والزوال قريب
وقوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجو منه أحد منكم كما قال تعالى : { كل من عليها فان } الاية وقال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } وقال تعالى : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد فإن له أجلا محتوما ومقاما مقسوما كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء وقوله : { ولو كنتم في بروج مشيدة } أي حصينة منيعة عالية رفيعة وقيل هي بروج في السماء قال السدي وهو ضعيف والصحيح أنها المنيعة أي لا يغني حذر وتحصن من الموت كما قال زهير بن أبي سلمى :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم قيل : المشيدة هي المشيدة كما قال : وقصر مشيد وقيل : بل بينهما فرق وهو أن المشيدة بالتشديد هي المطولة وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم ـ ههنا ـ حكاية مطولة عن مجاهد أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطلق فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار فخرج فإذا هو برجل واقف على الباب فقال : ما ولدت المرأة ؟ فقال : جارية فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ثم يتزوجها أجيرها ويكون موتها بالعنكبوت قال : فكر راجعا فبعج بطن الجارية بسكين فشقه ثم ذهب هاربا وظن أنها قد ماتت فخاطت أمها بطنها فبرئت وشبت وترعرعت ونشأت أحسن امرأة ببلدتها فذهب ذاك الأجير ما ذهب ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ثم رجع إلى بلده وأراد التزوج فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة فقالت ليس ههنا أحسن من فلانة فقال : اخطبيها علي فذهبت إليها فأجابت فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدا فسألته عن أمره ومن أين مقدمه فأخبرها خبره وما كان من أمره في الجارية فقالت : أنا هي وأرته مكان السكين فتحقق ذلك فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرني باثنتين لا بد منهما ( إحداهما ) أنك قد زنيت بمائة رجل فقالت : لقد كان شيء من ذلك ولكن لا أدري ما عددهم فقال : هم مائة : ( والثاني ) أنك تموتين بالعنكبوت فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ليحرزها من ذلك فبينما هم يوما فإذا بالعنكبوت في السقف فأراها فقالت : أهذه هي التي تحذرها علي والله لا يقتلها إلا أنا فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها واسودت رجلها فكان في ذلك أجلها فماتت ونذكر ههنا قصة صاحب الحضر وهو الساطرون لما احتال عليه سابور حتى حصره فيه وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين وقالت العرب في ذلك أشعارا منها :
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجـ لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلـ سا فللطير في ذراه وكور
لم تهبه أيدي المنون فباد الـ ملك عنه فبابه مهجور
ولما دخل على عثمان جعل يقول : اللهم اجمع أمة محمد ثم تمثل بقول الشاعر :
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع لعاد ملاذا في البلاد ومربعا
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ويأتي الجبال في شماريخها معا
قال ابن هشام : وكان كسرى سابور ذو الأكتاف قتل الساطرون ملك الحضر وقال ابن هشام : إن الذي قتل صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان وأذل ملوك الطوائف ورد الملك إلى الأكاسرة فأما سابور ذو الأكتاف فهو من بعد ذلك بزمن طويل والله أعلم ذكره السهيلي قال ابن هشام : فحصره سنتين وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته وهو في العراق وأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ فدست إليه أن تتزوجني إن فتحت لك باب الحصن فقال : نعم فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران فأخذت مفاتيح باب الحصن من تحت رأسه فبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب ويقال : دلتهم على طلسم كان في الحصن لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء فتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء ثم ترسل فإذا وقعت على سور الحصن سقط ذلك ففتح الباب ففعل ذلك فدخل سابور فقتل ساطرون واستباح الحصن وخربه وسار بها معه وتزوجها فبينما هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تتململ لا تنام فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد فيه ورقة آس فقال لها سابور : هذا الذي أسهرك فما كان أبوك يصنع بك ؟ قالت : كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير ويطعمني المخ ويسقيني الخمر قال الطبري : كان يطعمني المخ والزبد وشهد أبكار النحل وصفو الخمر ! وذكر أنه كان يرى مخ ساقها قال : فكان جزاء أبيك ما صنعت به ؟ ! أنت إلي بذاك أسرع ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس فركض الفرس حتى قتلها وفيه يقول عدي بن زيد العبادي أبياته المشهورة
أيها الشامت المعير بالدهـ ر أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيـ ام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلد أم من ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر وان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الـ روم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور
رشاده مرمرا وجلله كلـ سا فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد الملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ شرف يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يملك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غبـ طة حي إلى الممات يصير
ثم أضحوا كأنهم ورق جف فألوت به الصبا والدبور
ثم بعد الفلاح والملك والأمـ ة وارتهم هناك القبور
وقوله : { وإن تصبهم حسنة } أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة } أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو إنتاج أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية والسدي { يقولوا هذه من عندك } أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك كما قال تعالى عن قوم فرعون { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } وكما قال تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } الاية وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم النبي صلى الله عليه و سلم وقال السدي : وإن تصبهم حسنة قال : والحسنة الخصب تنتج مواشيهم وخيولهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا { هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة } والسيئة الجدب والضرر في أموالهم تشاءموا بمحمد صلى الله عليه و سلم وقالوا { هذه من عندك } يقولون : بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء فأنزل الله عز و جل { قل كل من عند الله } فقوله : قل كل من عند الله أي الجميع بقضاء الله وقدره وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قل كل من عند الله أي الحسنة والسيئة وكذا قال الحسن البصري ثم قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : { قل كل من عند الله } قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السكن بن سعيد حدثنا عمر بن يونس حدثنا إسماعيل بن حماد عن مقاتل بن حيان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس وقد ارتفعت أصواتهما فجلس أبو بكر قريبا من النبي صلى الله عليه و سلم وجلس عمر قريبا من أبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم ارتفعت أصواتكما ؟ ] فقال رجل : يا رسول الله قال أبو بكر : يا رسول الله الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فما قلت يا عمر ؟ ] فقال : قلت الحسنات والسيئات من الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر وقال جبريل مقالتك يا عمر ] فقال : [ نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض فتحاكما إلى إسرافيل فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله ] ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال : [ احفظا قضائي بينكما لو أراد الله أن لا يعصى لما خلق إبليس ] قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة ثم قال تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه و سلم والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب { ما أصابك من حسنة فمن الله } أي من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } أي فمن قبلك ومن عملك أنت كما قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } قال السدي والحسن البصري وابن جريج وابن زيد { فمن نفسك } أي بذنبك وقال قتادة في الاية { فمن نفسك } عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك قال وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يصيب رجلا خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر ] وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح [ والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه ] وقال أبو صالح { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } أي بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمار حدثنا سهل يعني بن بكار حدثنا الأسود بن شيبان حدثني عقبة بن واصل ابن أخي مطرف عن مطرف بن عبد الله قال : ما تريدون من القدر أما تكفيكم الاية التي في سورة النساء { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } ؟ أي من نفسك والله ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا ولبسطه موضع آخر وقوله تعالى : { وأرسلناك للناس رسولا } أي تبلغهم شرائع الله وما يحبه الله ويرضاه وما يكرهه ويأباه { وكفى بالله شهيدا } أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضا بينك وبينهم وعالم بما تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا (1/698)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني ] وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن الأعمش به وقوله : { ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا } أي ما عليك منه إن عليك إلا البلاغ فمن اتبعك سعد ونجا وكان لك من الأجر نظير ما حصل له ومن تولى عنك خاب وخسر وليس عليك من أمره شيء كما جاء في الحديث [ من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ]
وقوله : { ويقولون طاعة } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة { فإذا برزوا من عندك } أي خرجوا وتواروا عنك { بيت طائفة منهم غير الذي تقول } أي استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه لك فقال تعالى : { والله يكتب ما يبيتون } أي يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول صلى الله عليه و سلم وعصيانه وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة وسيجزيهم على ذلك كما قال تعالى : { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا } الاية وقوله : { فأعرض عنهم } أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ولا تكشف أمورهم للناس ولا تخف منهم أيضا { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا } أي كفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه (1/703)
يقول تعالى آمرا لهم بتدبر القرآن وناهيا لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق ولهذا قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } ثم قال : { ولو كان من عند غير الله } أي لو كان مفتعلا مختلقا كما يقوله من يقول من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافا أي اضطرابا وتضادا كثيرا أي وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا { آمنا به كل من عند ربنا } أي محكمه ومتشابهه حق فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين قال الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم مغضبا حتى احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول : [ مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا إنما نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ] وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية عن داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال لهم : [ مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم ] قال : فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند به نحوه
وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني قال : كتب إلى عبد الله بن رباح يحدث عن عبد الله بن عمرو قال : هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية فارتفعت أصواتهما فقال : [ إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب ] ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن زيد به
وقوله : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن حفص حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ] وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن محمد بن الحسين بن أشكاب عن علي بن حفص عن شعبة مسندا ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري وعبد الرحمن بن مهدي وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمرو النمري ثلاثتهم عن شعبة عن خبيب عن حفص بن عاصم به مرسلا وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن قيل وقال أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بئس مطية الرجل زعموا ] وفي الصحيح [ من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ] ولنذكر ههنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه و سلم فاستفهمه أطلقت نساءك فقال [ لا ] فقلت : الله أكبر وذكر الحديث بطوله وعند مسلم فقلت : أطلقتهن ؟ فقال [ لا ] فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه ونزلت هذه الاية { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه يقال : استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها وقوله : { لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني المؤمنين وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : { لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } يعني كلكم واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب :
أشم ندي كثير النوادي قليل المثالب والقادحة
يعني لا مثالب له ولا قادحة فيه (1/703)
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بأن يباشر القتال بنفسه ومن نكل عنه فلا عليه منه ولهذا قال { لا تكلف إلا نفسك } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو بن نبيح حدثنا حكام حدثنا الجراح الكندي عن أبي إسحاق قال : سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله فيه : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ؟ قال : قد قال الله تعالى لنبيه : { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } ورواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال : قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال : لا إن الله بعث رسوله صلى الله عليه و سلم وقال : { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } إنما ذلك في النفقة وكذا رواه ابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش وعلي بن صالح عن أبي إسحاق عن البراء به ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن النضر العسكري حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي حدثنا محمد بن حمير حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء قال : لما نزلت على النبي صلى الله عليه و سلم { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } الاية قال لأصحابه : [ وقد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا ] حديث غريب
وقوله : { وحرض المؤمنين } أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه كما قال لهم صلى الله عليه و سلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف : [ قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ] وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها ] قالوا : يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك ؟ فقال : [ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبييل الله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ] وري من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء نحو ذلك وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه و سلم رسولا ونبيا وجبت له الجنة ] قال : فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها علي يا رسول الله ففعل ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وأخرى يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ] قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال : [ الجهاد في سبيل الله ] رواه مسلم وقوله : { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ومقاومتهم ومصابرتهم وقوله تعالى : { والله أشد بأسا وأشد تنكيلا } أي هو قادر عليهم في الدنيا والاخرة كما قال تعالى : { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض } الاية
وقوله : { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك { ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } اي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ] وقال مجاهد بن جبر : نزلت هذه الاية في شفاعات الناس بعضهم لبعض وقال الحسن البصري : قال الله تعالى : { من يشفع } ولم يقل من يشفع وقوله : { وكان الله على كل شيء مقيتا } قال ابن عباس وعطاء وعطية وقتادة ومطر الوارق { مقيتا } أي حفيظا وقال مجاهد : شهيدا وفي رواية عنه : حسيبا وقال سعيد بن جبير والسدي وابن زيد : قديرا وقال عبد الله بن كثير : المقيت الواصب وقال الضحاك المقيت الرزاق وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الرحيم بن مطرف حدثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل عن رجل عن عبد الله بن رواحة وسأله رجل عن قول الله تعالى : { وكان الله على كل شيء مقيتا } قال : مقيت لكل إنسان بقدر عمله
وقوله : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم أو ردوا عليه بمثل ما سلم فالزيادة مندوبة والمماثلة مفروضة قال ابن جرير : حدثنا موسى بن سهل الرملي حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي حدثنا هشام بن لاحق عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : السلام عليك يا رسول الله فقال : [ وعليك السلام ورحمة الله ] ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ] ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له : [ وعليك ] فقال له الرجل : يا نبي الله بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي فقال : [ إنك لم تدع لنا شيئا قال الله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } فرددناها عليك ] وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقا فقال : ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا عبد الله بن السري أبو محمد الأنطاكي قال أبو الحسن وكان رجلا صالحا : حدثنا هشام بن لاحق فذكره بإسناده مثله ورواه أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان فذكره مثله ولم أره في المسند والله أعلم
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير أخو سليمان عن كثير حدثنا جعفر بن سليمان بن عوف عن أبي رجاء العطاردي عن عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : السلام عليكم يا رسول الله فرد عليه ثم جلس فقال : [ عشر ] ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله فرد عليه ثم جلس فقال : [ عشرون ] ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه ثم جلس فقال : [ ثلاثون ] وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف وقال البزار : قد روي هذا عن البني صلى الله عليه و سلم من وجوه هذا أحسنها إسنادا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا ذلك بأن الله يقول : فحيوا بأحسن منها أو ردوها وقال قتادة : فحيوا بأحسن منها يعني للمسلمين أو ردوها يعني لأهل الذمة وهذا التنزيل فيه نظر كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام رد عليه مثل ما قال فأما أهل الذمة فلا يبدؤون بالسلام ولا يزادون بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم : السام عليكم فقل : وعليك ] في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ] وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قال : السلام تطوع والرد فريضة وهذا الذي قال هو قول العلماء قاطبة أن الرد واجب على من سلم عليه فيأثم إن لم يفعل لأنه خالف أمر الله في قوله : فحيوا بأحسن منها أو ردوها وقد جاء في الحديث الذي رواه ( أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ] )
وقوله : { الله لا إله إلا هو } إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسما لقوله : { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } وهذه اللام موطئة للقسم فقوله الله لا إله إلا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والاخرين في صعيد واحد فيجازي كل عامل بعمله وقوله تعالى : { ومن أصدق من الله حديثا } أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده فلا إله إلا هو ولا رب سواه (1/705)
يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين : واختلف في سبب ذلك فقال الإمام أحمد : حدثنا بهز حدثنا شعبة قال عدي بن ثابت أخبرني عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم وفرقة تقول : لا هم المؤمنون فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد ] أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش رجع بثلثمائة وبقي النبي صلى الله عليه و سلم في سبعمائة وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله أو كما قالوا : أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم ؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت { فما لكم في المنافقين فئتين } رواه ابن أبي حاتم وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا وقال زيد بن أسلم عن ابن لسعد بن معاذ : أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبي حين استعذر من رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر في قضية الإفك وهذا غريب وقيل غير ذلك
وقوله تعالى : { والله أركسهم بما كسبوا } أي ردهم وأوقعهم في الخطأ قال ابن عباس { أركسهم } أي أوقعهم وقال قتادة : أهلكم وقال السدي : أضلهم وقوله : { بما كسبوا } أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل { أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه وقوله : { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها وما ذاك إلا لشدة عدواتهم وبغضهم لكم ولهذا قال : { فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا } أي تركوا الهجرة قاله العوفي عن ابن عباس وقال السدي : أظهروا كفرهم { فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك ثم استثنى الله من هؤلاء فقال : { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم وهذا قول السدي وابن زيد وابن جرير وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر النبي صلى الله عليه و سلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته فقلت : أنشدك النعمة فقالوا : صه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ دعوه ما تريد ؟ ] قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد خالد بن الوليد فقال : [ اذهب معه فافعل ما يريد ] فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن أسلمت قريش أسملوا معهم فأنزل الله { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء }
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة وقال : فأنزل الله { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم وهذا أنسب لسياق الكلام وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية : فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه وعهدهم وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخها قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الاية
وقوله : { أو جاؤوكم حصرت صدورهم } الاية هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجئيون إلى المصاف وهم حصرة صدروهم أي ضيقة صدروهم مبغضين أن يقاتلوكم ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم } أي المسالمة { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره وقوله : { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } الاية هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه و سلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهمم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن تعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك كما قال تعالى : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } الاية وقال ههنا { كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها } أي انهمكوا فيها وقال السدي : الفتنة ـ ههنا ـ الشرك وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و سلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ولهذا قال تعالى : { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم } المهادنة والصلح { ويكفوا أيديهم } أي عن القتال { فخذوهم } أسراء { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي أين لقيتموهم { وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } أي بينا واضحا (1/707)
يقول تعالى : ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه وكما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة ] ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله وإنما ذلك إلى الإمام أونائبه وقوله : { إلا خطأ } قالوا : هو استثناء منقطع كقول الشاعر :
البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ على الأرض إلا ربط برد مرحل
ولهذا شواهد كثيرة واختلف في سبب نزول هذه فقال مجاهد وغير واحد : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه وهي أسماء بنت مخرمة وذلك أنه قتل رجلا يعذبه مع أخيه على الإسلام وهو الحارث بن يزيد الغامدي فأضمر له عياش السوء فأسلم ذلك الرجل وهاجر وعياش لا يشعر فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل عليه فقتله فأنزل الله هذه الاية قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف فأهوى به إليه فقال كلمته فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم قال : إنما قالها متعوذا فقال له : هل شققت عن قلبه ؟ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء
وقوله : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } هذان واجبان في قتل الخطأ أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزىء الكافرة وحكى ابن جرير عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري أنهم قالوا : لا يجزىء الصغير حتى يكون قاصدا للإيمان وروي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : في حرف فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي واختار ابن جرير أنه إن كان مولودا بين أبوين مسلمين أجزأ وإلا فلا والذي عليه الجمهور أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيرا أو كبيرا قال الإمام أحمد : أنبأنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار : أنه جاء بأمة سوادء فقال : يا رسول الله : إن علي عتق رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها فقال لها رسول الله : [ أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟ ] قالت : نعم قال : [ أتشهدين أني رسول الله ؟ ] قالت : نعم قال : [ أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟ ] قالت : نعم قال : [ أعتقها ] وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من طريق هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم : أنه لما جاء بتلك الجارية السوادء قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أين الله ؟ قالت : في السماء قال : ] من أنا [ قالت : رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ] أعتقها فإنها مؤمنة [ وقوله : { ودية مسلمة إلى أهله } هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتليهم وهذه الدية إنما تجب أخماسا كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الحجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن ابن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض وعشرين بني مخاض ذكورا وعشرين بنت لبون وعشرين جذعة وعشرين حقة لفظ النسائي قال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وقد روي عن عبد الله موقوفا كما روي عن علي وطائفة وقيل : يجب أرباعا وهذه الدية على العاقلة لا في ماله قال الشافعي رحمه الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالدية على العاقلة وهو أكثر من حديث الخاصة وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ المحض في وجوب الدية لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا لشبهة العمد وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتهلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فرفع يديه وقال ] اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد [ وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال
وقوله : { إلا أن يصدقوا } أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب وقوله : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } أي إذا كان القتيل مؤمنا ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير وقوله : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } الاية أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم فإن كان مؤمنا فدية كاملة وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم وقيل : ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } أي لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا على قولين وقوله : { توبة من الله وكان الله عليما حكيما } أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين واختلفوا فيمن لا يستطع الصيام هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظهار على قولين أحدهما : نعم كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار وإنما لم يذكر ههنا لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص والقول الثاني لا يعدل إلى الطعام لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة { وكان الله عليما حكيما } قد تقدم تفسيره غير مرة
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بيان حكم القتل العمد فقال : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الاية وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } الاية وقال تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } الأية والايات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء [ وفي الحديث الاخر الذي رواه أبو داود من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما فإذا أصاب دما حراما بلح [ وفي حديث آخر ] لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم [ وفي الحديث الاخر ] ومن أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله [ وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا وقال البخاري : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الاية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } هي آخر ما نزل وما نسخها شيء وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي عن سفيان الثوري عن مغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله { من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } فقال : ما نسخها شيء وقال ابن جرير : حدثنا بن بشار حدثنا ابن عون حدثنا شعبة عن سعيد بن جبير قال : قال عبد الرحمن بن أبزا سئل ابن عباس عن قوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الاية قال : لم ينسخها شيء وقال في هذه الاية { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } إلى آخرها قال : نزلت في أهل الشرك وقال ابن جرير أيضا حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور حدثني سعيد بن جبير أو حدثني الحكم عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ولا توبة له فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير عن يحيى الجابر عن سالم بن أبي الجعد قال : كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما قال : أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : ] ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول : يا رب سل هذا فيم قتلني [ وايم الذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الاية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه و سلم وما نزل بعدها من برهان وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت يحيى بن المجبر يحدث عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا ؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها الاية قال : لقد نزلت من آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ] ثكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا يجىء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره ـ أو آخذا رأسه بيمينه أو بشماله ـ تشخب أوداجه دما من قبل العرش يقول : يا رب سل عبدك فيم قتلني [ وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجه عن محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة عن عمار الدهني ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس فذكره وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله ابن أبي حاتم وفي الباب أحاديث كثيرة فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي ( ح ) وحدثنا عبد الله بن جعفر وحدثنا إبراهيم بن فهد قالا : حدثنا عبيد بن عبيدة حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن الأعمش عن أبي عمرو بن شرحبيل بإسناده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ] يجىء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ قال فيقول : قتلته لتكون العزة لك فيقول : فإنها لي قال ويجىء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب سل هذا فيم قتلني قال فيقول : قتلته لتكون العزة لفلان قال : فإنها ليست له بؤ بإثمه قال : فيهوي في النار سبعين خريفا [ وقد رواه النسائي عن إبراهيم بن المستمر العوفي عن عمرو بن عاصم عن معتمر بن سليمان به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية رضي الله عنه يقول : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ] وكذا رواه النسائي عن محمد بن المثنى عن صفوان بن عيسى به وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا سمويه حدثنا عبد الأعلى بن مسهر حدثنا صدقة بن خالد حدثنا خالد بن دهقان حدثنا ابن أبي زكريا قال سمعت أم الدرداء تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو من قتل مؤمنا متعمدا ] وهذا غريب جدا من هذا الوجه والمحفوظ حديث معاوية المتقدم فالله أعلم ثم روى ابن مردويه من طريق بقية بن الوليد عن نافع بن يزيد : حدثني ابن جبير الأنصاري عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز و جل ] وهذا حديث منكر أيضا فإسناده تكلم فيه جدا قال الإمام أحمد : حدثنا النضر حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي فقال لنا : هلما فأنتما أشب سنا مني وأوعى للحديث مني فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء بحديثك فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية فأغارت على قوم فشد مع القوم رجل فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم : إني مسلم فلم ينظر فيما قال قال : فضربه فقتله فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال فيه قولا شديدا فبلغ القاتل فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب إذ قال القاتل : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل قال : فأعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم قال أيضا : يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم لم يصبر حتى قال الثالثة : والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم تعرف المساءة في وجهه فقال : [ إن الله أبى على من قتل مؤمنا ثلاثا ] ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز و جل فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته قال الله تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } الاية وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الاية على المؤمنين خلاف الظاهر ويحتاج حمله إلى دليل والله أعلم
وقال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الاية وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك كل من تاب أي من أي ذلك تاب الله عليه قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فهذه الاية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الاية وقبلها لتقوية الرجاء والله أعلم وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالما هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه فهاجر إليه فمات في الطريق فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير مرة وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى لأن الله وضع عنا الاصار والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية السمحة
فأما الاية الكريمة وهي قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الاية فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعا من طريق محمد بن جامع العطار عن العلاء بن ميمون العنبري عن حجاج الأسود عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا ولكن لا يصح ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه وكذا كل وعيد على ذنب لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والإحباط وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد والله أعلم بالصواب وبتقدير دخول القاتل في النار أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به فليس بمخلد فيها أبدا بل الخلود هو المكث الطويل وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان ] وأما حديث معاوية [ كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ] فعسى للترجي فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا تنفي وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل لما ذكرنا من الأدلة وأما من مات كافرا فالنص أن الله لا يغفر له البتة وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الادميين وهي لا تسقط بالتوبة ولكن لا بد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الادميين فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الاخرة فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه قال الله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } الاية ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة كما هو مقرر في كتاب الأحكام واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون نعم يجب عليه لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس واعتذروا بقضاء الصلاة المتروكة عمدا كما أجمعوا على ذلك في الخطأ وقال أصحابه الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا فإنهم يقولون بوجوب قضائها إذا تركت عمدا وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عارم بن الفضل حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف بن عياش عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب قال : [ فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه من النار ] وقال أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق حدثنا ضمرة بن ربيعة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا له حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في صاحب لنا قد أوجب فقال : [ أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ] وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة به ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان فغضب فقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص قلنا : إنما أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال : [ أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ] (1/710)
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بكير وخلف بن الوليد وحسين بن محمد قالوا : حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يرعى غنما له فسلم عليهم فقالوا : لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الاية { يا أيها الذين آمنوا } إلى آخرها ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد عن عبد العزيز بن أبي رزمة عن إسرائيل به ثم قال : هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن أسامة بن زيد ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل به ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن إسرائيل به وقال في بعض كتبه غير التفسير وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط وهذا خبر عندنا صحيح سنده وقد يجب أن يكون على مذهب الاخرين سقيما لعلل منها : أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا من هذا الوجه ومنها أن عكرمة في روايته عندهم نظر ومنها أن الذي نزلت فيه هذه الاية عندهم مختلف فيه فقال بعضهم : نزلت في محلم بن جثامة وقال بعضهم : أسامة بن زيد وقيل غير ذلك قلت : وهذا كلام غريب وهو مردود من وجوه : أحدها أنه ثابت عن سماك حدث به عنه غير واحد من الأئمة الكبار الثاني أن عكرمة محتج به في الصحيح الثالث أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس كما قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } قال : قال ابن عباس كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } قال ابن عباس : عرض الدنيا تلك الغنيمة وقرأ ابن عباس { السلام } وقال سعيد بن منصور : حدثنا منصور عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال : لحق المسلمون رجلا في غنيمة له فقال : السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته فنزلت { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة به وقد في ترجمة : أن أخاه فزارا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أمر أبيه بإسلامهم وإسلام قومهم فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه و سلم في عماية الليل وكان قد قال لهم إنه مسلم فلم يقبلوا منه فقتلوه فقال أبوه : فقدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطاني ألف دينار ودية أخرى وسيرني فنزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } الاية
وأما قصة محلم بن جثامة فقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يعقوب : حدثني أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتيعه فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبرناه الخبر نزل فينا { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا } تفرد به أحمد وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا جرير عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم محلم بن جثامة مبعثا فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام وكانت بينهم إحنة في الجاهلية فرماه محلم بسهم فقتله فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فتكلم فيه عيينة والأقرع : فقال الأقرع يا رسول الله سر اليوم وغر غدا فقال عيينة : لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ماذاق نسائي فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ليستغفر له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا غفر الله لك ] فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكروا ذلك له فقال : [ إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم ] ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } الاية
وقال البخاري : قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمقداد : [ إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتلته فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل ] هكذا ذكره البخاري معلقا مختصرا وقد روي مطولا موصولا فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا حماد بن علي البغدادي حدثنا جعفر بن سلمة حدثنا أبو بكر بن علي بن مقدم حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأهوى عليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله ؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : يا رسول الله إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال : [ ادعوا لي المقداد يا مقداد : أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله فكيف لك بلا إله إلا الله غدا ؟ ] قال : فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمقداد : [ كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل ] وقوله : { فعند الله مغانم كثيرة } أي خير مما رغبتم فيه عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا
وقوله : { كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم } أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما تقدم في الحديث المرفوع آنفا وكما قال تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } الاية وهذا مذهب سعيد بن جبير لما رواه الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير في قوله : { كذلك كنتم من قبل } تخفون إيمانكم في المشركين ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير عن سعيد بن جبير في قوله : { كذلك كنتم من قبل } تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه وهذا اختيار ابن جرير وقال ابن أبي حاتم وذكر عن قيس عن سالم عن سعيد بن جبير : قوله { كذلك كنتم من قبل } لم تكونوا مؤمنين { فمن الله عليكم } أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول : لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه وقوله : { فتبينوا } تأكيد لما تقدم وقوله : { إن الله كان بما تعملون خبيرا } قال سعيد بن جبير : هذا تهديد ووعيد (1/716)
قال البخاري : حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال لما نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله { غير أولي الضرر } حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : لما نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } قال النبي صلى الله عليه و سلم ادع فلانا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل } وخلف النبي صلى الله عليه و سلم ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله أنا ضرير فنزلت مكانها { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } قال البخاري أيضا : حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد قال : فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أملى علي { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي قال : يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم وكان فخذه على فخذي فثقلت علي خفت أن ترض فخدي ثم سري عنه فأنزل الله { غير أولي الضرر } تفرد به البخاري دون مسلم وقد روي من وجه آخر عند الإمام أحمد عن زيد فقال : حدثنا سليمان بن داود أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه و سلم إذ أوحي إليه وغشيته السكينة قال : فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة قال زيد : فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم سري عنه فقال : اكتب يا زيد فأخذت كتفا فقال : اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون } إلى قوله : { أجرا عظيما } فكتبت ذلك في كتف فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى فقام حين سمع فضيلة المجاهدين وقال : يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك ؟ قال زيد : فوالله ما قضى كلامه ـ أو ماهو إلا أن قضى كلامه ـ غشيت النبي صلى الله عليه و سلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ثم سري عنه فقال : اقرأ فقرأت عليه { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون } فقال النبي صلى الله عليه و سلم { غير أولي الضرر } قال زيد : فألحقتها فوالله كأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه به نحوه
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر أنبأنا الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } فجاء عبد الله بن أم مكتوم فقال : يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى قد ذهب بصري قال زيد : فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه ثم قال : اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } ] ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني عبد الكريم هو ابن مالك الجزري أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } عن بدر والخارجون إلى بدر انفرد به البخاري دون مسلم وقد رواه الترمذي من طريق حجاج عن ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس قال : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } عن بدر والخارجون إلى بدر ولما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن حجش وابن أم مكتوم : إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة ؟ فنزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه } على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر هذا لفظ الترمذي ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه فقوله : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } كان مطلقا فلما نزل بوحي سريع { غير أولي الضرر } صار ذلك مخرجا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرض عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس : { غير أولي الضرر } وكذا ينبغي أن يكون كما ثبت في صحيح البخاري من طريق زهير بن معاوية عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : نعم حبسهم العذر ] وهكذا رواه أحمد عن محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس به وعلقه البخاري مجزوما ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ] قالوا : وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله ؟ قال : [ نعم حبسهم العذر ] لفظ أبي داود وفي هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله : { وكلا وعد الله الحسنى } أي الجنة والجزاء الجزيل وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية قال تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات في غرف الجنان العاليات ومغفرة الذنوب والزلات وحلول الرحمة والبركات إحسانا منه وتكريما ولهذا قال : { درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما }
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء الأرض ] وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من رمى بسهم فله أجره درجة ] فقال رجل : يا رسول الله وما الدرجة ؟ فقال : [ أما إنها ليست بعتبة أمك ما بين الدرجتين مائة عام ] (1/718)
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء حدثنا حيوة وغيره قالا : حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال : قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } وراه الليث عن أبي الأسود وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري حدثنا محمد بن شريك المكي حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم بفعل بعض قال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الاية قال عكرمة : فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الاية لا عذر لهم قال : فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم التقية فنزلت هذه الاية { ومن الناس من يقول آمنا بالله } الاية قال عكرمة : نزلت هذه الاية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالإسلام بمكة منهم علي بن أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبه بن الحجاج والحارث بن زمعة قال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه الاية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع وبنص هذه الاية حيث يقول تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } أي بترك الهجرة { قالوا فيم كنتم } أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } أي لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة } الاية وقال أبو داود : حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثني يحيى بن حسان أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن سمرة بن جندب أما بعد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ] وقال السدي : لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للعباس : [ افد نفسك وابن أخيك ] فقال : يا رسول الله ألم نصل إلى قبلتك ونشهد شهادتك قال [ يا عباس إنكم خاصمتم فخصمتم ] ثم تلا عليه هذه الاية { ألم تكن أرض الله واسعة } الاية وراه ابن أبي حاتم
وقوله : { إلا المستضعفين } إلى آخر الاية هذه عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق ولهذا قال : { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } قال مجاهد وعكرمة والسدي : يعني طريقا
وقوله تعالى : { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } أي يتجاوز من الله عنهم بترك الهجرة عسى من الله موجبة { وكان الله عفوا غفورا } قال البخاري : حدثنا أبو نعيم حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي العشاء إذ قال : سمع الله لمن حمده ثم قال قبل أن يسجد [ اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسني يوسف ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المقري حدثني عبد الوارث حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة فقال : [ اللهم خلص الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدي الكفار ] وقال ابن جرير : حدثنا المثنى حدثنا حجاج حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر [ اللهم خلص الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ] ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان وقال البخاري : أنبأنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة عن ابن عباس { إلا المستضعفين } قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز و جل
وقوله : { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة } هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه والمراغم مصدر تقول العرب : راغم فلان قومه مراغما ومراغمة قال النابغة بن جعدة :
كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس : المراغم التحول من أرض إلى أرض وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري وقال مجاهد : { مراغما كثيرا } يعني متزحزحا عما يكره وقال سفيان بن عيينة : مراغما كثيرا يعني بروجا والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه المنع الذي يتحصن به ويراغم به الأعداء قوله { وسعة } يعني الرزق قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال : في قوله : { يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة } أي من الضلالة إلى الهدى ومن القلة إلى الغنى وقوله : { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ] وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالما : هل له من توبة ؟ فقال له ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الاخر أدركه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقال هؤلاء : إنه جاء تائبا وقال هؤلاء إنه لم يصل بعد فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها فأمر الله هذه أن تقترب من هذه وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة وفي رواية أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد الله بن عتيك عن أبيه عبد الله بن عتيك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله ثم قال : ـ وأين المجاهدون في سبيل الله ـ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ـ يعني بحتف أنفه على فراشه والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ ومن قتل قعصا فقد استوجب الجنة ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي عن المنذر بن عبدالله عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما } قال الزبير فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله أو ذوي رحمه ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ولا أرجو غيره وهذا الأثر غريب جدا فإن هذه القصة مكية ونزول هذه الاية مدنية فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره وإن لم يكن ذلك سبب النزول والله أعلم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الرحمن بن سليمان حدثنا أشعث هو ابن سوار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله } الاية وحدثنا أبي حدثنا عبدالله بن رجاء أنبأنا إسرائيل عن سالم عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة فلما نزلت { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة } فقلت : إني لغني وإني لذو حيلة فتجهز يريد النبي صلى الله عليه و سلم فأدركه الموت بالتنعيم فنزلت هذه الاية { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت } الاية
وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن عروبة البصري حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد حدثنا ابن ثوبان عن أبيه حدثنا مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري أنبأنا أبو مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الله قال : من انتدب خارجا في سبيلي غازيا ابتغاء وجهي وتصديق وعدي وإيمانا برسلي فهو في ضمان على الله إما أن يتوفاه بالجيش فيدخله الجنة وإما أن يرجع في ضمان الله وإن طالب عبدا فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر أو غنيمة ونال من فضل الله فمات أو قتل أو رفصته فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فهو شهيد ] وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره وزاد بعد قوله : فهو شهيد وإن له الجنة وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان حدثنا أبو معاوية حدثنا محمد بن إسحاق عن حميد بن أبي حميد عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة ] وهذا حديث غريب من هذا الوجه (1/720)
يقول تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى : { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } الاية وقوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الاية واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك فمن قائل : لا بد أن يكون سفر طاعة من جهاد أو حج أو عمرة أو طلب علم أو زيارة وغير ذلك كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه لظاهر قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ومن قائل : لا يشترط سفر القربة بل لا بد أن يكون مباحا لقوله : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم } الاية كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصيا بسفره وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين وهذا مرسل ومن قائل : يكفي مطلق السفر سواء كان مباحا أو محظورا حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الاية وخالفهم الجمهور
وأما قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الاية فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام أو في سرية خاصة وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له كقوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } وكقوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } الاية وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن جريج عن ابن أبي عمار عن عبد الله بن بابيه عن يعلى بن أمية قالت : سألت عمر بن الخطاب قلت له : قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : [ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ] وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار به وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ورجاله معروفون وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان فقلت : أين قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى حدثنا علي بن محمد بن سعيد : حدثنا منجاب حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك قال : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال : هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا ابن عون عن ابن سيرين عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن عبد الله بن عون به قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله قلت وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن هشيم عن منصور عن زاذان عن محمد بن سيرين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين ثم قال الترمذي : صحيح وقال البخاري : حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عشرا
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي به وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عنه به ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أنبأنا أبو إسحاق سمعت حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم آمن ما كان بمنى ركعتين وقال البخاري : حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدرا من إمارته ثم أتمها وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به وقال البخاري : حدثنا قتيبة حدثنا عبد الواحد عن الأعمش حدثنا إبراهيم سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري عن الأعمش به وأخرجه مسلم من طرق عنه منها عن قتيبة كما تقدم
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد : حدثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عن زبيد اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه قال : صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه و سلم وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به وهذا إسناد على شرط مسلم
وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره وهو الصواب إن شاء الله وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه وعلى هذا أيضا : فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الثقة عن عمر فذكره وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة عن عمر فالله أعلم وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس ـ والله أعلم ـ لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ولهذا قال : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } الاية ولهذا قال بعدها : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الاية فبين المقصود من القصر ههنا وذكر صفته وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } إلى قوله : { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } قال : ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه
وقال أسباط عن السدي في قوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } الاية إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } يوم كان النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه و سلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم روى ذلك ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي وعن جابر وابن عمر واختار ذلك أيضا فإنه قال بعدما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا ابن أبي فديك حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه و سلم يعمل عملا عملنا به فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الاية عليها لا على قصر صلاة المسافر وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا : حدثنا أحمد بن الوليد القرشي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة المخافة فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء فيصلي بهم ركعة فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة (1/723)
صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة وتارة يكون في غير صوبها والصلاة تارة تكون رباعية وتارة تكون ثلاثية كالمغرب وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ورجالا وركبانا ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم وبه قال أحمد بن حنبل قال المنذري في الحواشي : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد وإليه ذهب طاوس والضحاك وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي : أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضا وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومىء بها إيماء فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر الله وقال آخرون : تكفي تكبيرة واحدة فلعله أراد ركعة واحدة كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه وبه قال جابر بن عبدالله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي ورواه ابن جرير ولكن الذي حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة كما هو مذهب إسحاق ابن راهويه وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه يعني بالنية رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه فالله أعلم
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة كما أخر النبي صلى الله عليه و سلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش : لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا تعجيل المسير ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدا من الفريقين وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة وبينا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر وإن كان الاخرون معذروين أيضا والحجة ههنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود
وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه الله وأهل السنن ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في صحيحه حيث قال :
( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو ) قال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرىء لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا وبه قال مكحول وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها انتهى ما ذكره ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة وكأنه كالمختار لذلك والله أعلم
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة والله أعلم قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول الجمهور علماء السير والمغازي وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم وقال البخاري وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق لحديث أبي موسى وما قدم إلا في خيبر والله أعلم
والعجب كل العجب أن المزني وأبا يوسف القاضي وإبراهيم بن إسماعيل بن علية ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصلاة و السلام الصلاة يوم الخندق وهذا غريب جدا وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب والله أعلم فقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } أي إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف وهذه حالة غير الأولى فإن تلك قصرها إلى ركعة كما دل عليه الحديث ـ فرادى ورجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الاية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك وأما من استدل بهذه الاية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه و سلم لقوله : { وإذا كنت فيهم } فبعده تفوت هذه الصفة فإنه استدلال ضعيف ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } قالوا : فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه و سلم إلى أحد بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه وندفعها إلا إلى من صلاته أي دعاؤه سكن لنا ومع هذا رد عليهم الصحابة وأبوا عليهم هذا الاستدلال وأجبروهم على أداء الزكاة وقتلوا من منعها منهم
ولنذكر سبب نزول هذه الاية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها قال ابن جرير : حدثني ابن المثنى حدثني إسحاق حدثنا عبدالله بن هاشم أنبأنا سيف عن أبي روق عن أبي أيوب عن علي رضي الله عنه قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله عز و جل { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه و سلم فصلى الظهر فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها قال : فأنزل الله عز و جل بين الصلاتين { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } الايتين فنزلت صلاة الخوف وهذا سياق غريب جدا ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت رضي الله عنه عند الإمام أحمد وأهل السنن فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الظهر فقالوا : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ثم قالوا : تأتي عليهم الان صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم قال : فنزل جبريل بهذه الايات بين الظهر والعصر { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } قال : فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذوا السلاح قال : فصفنا خلفه صفين قال : ثم ركع فركعنا جميعا ثم رفع فرفعنا جميعا ثم سجد النبي صلى الله عليه و سلم بالصف الذي يليه والاخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الاخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا ثم سجد النبي صلى الله عليه و سلم والصف الذي يليه والاخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الاخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ثم انصرف قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم مرتين : مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم
ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة عن منصور به نحوه وهكذا رواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد والنسائي من حديث شعبة وعبد العزيز بن عبد الصمد كلهم عن منصور به وهذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال : حدثنا حيوة بن شريح حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قام النبي صلى الله عليه و سلم وقام الناس معه فكبر وكبروا معه وركع وركع ناس منهم ثم سجد وسجدوا معه ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في الصلاة ولكن يحرس بعضهم بعضا وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن سليمان بن قيس اليشكري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة أي يوم أنزل أو أي يوم هو فقال جابر : انطلقنا نتلقى عيرا لقريش آتية من الشام حتى إذا كنا بنخلة جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد هل تخافني ؟ قال : [ لا ] قال فمن يمنعك مني ؟ قال : [ الله يمنعني منك ] قال : فسل السيف ثم تهدده وأوعده ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح ثم نودي بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم فصلى بالذين يلونه ركعتين ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم ثم جاء الاخرون فصلى بهم ركعتين والاخرون يحرسونهم ثم سلم فكانت للنبي صلى الله عليه و سلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح
ورواه الإمام أحمد فقال : حدثنا سريج حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس اليشكري عن جابر بن عبد الله قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه و سلم محارب خصفة فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسيف فقال : من يمنعك مني ؟ قال : [ الله ] فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ومن يمنعك مني ؟ ] قال : كن خير آخذ قال : [ أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ] ؟ قال : لا ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله فأتى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس فلما حضرت الصلاة صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف فكان الناس طائفتين : طائفة بإزاء العدو وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتين فكان لرسول الله صلى الله عليه و سلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين تفرد به من هذا الوجه
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم حدثنا المسعودي عن يزيد الفقير قال : سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما ؟ فقال : الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتال إذ أقيمت الصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فصف طائفة وطائفة وجهها قبل العدو فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس وسلم وسلم الذين خلفه وسلم أولئك فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتين وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الاية
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم صلاة الخوف فقام صف بين يديه وصف خلفه فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعة وسجدتين ثم سلم فكانت للنبي صلى الله عليه و سلم ركعتين ولهم ركعة ورواه النسائي من حديث شعبة ولهذا الحديث طرق عن جابر وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمسانيد
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا عبدالله بن المبارك أنبأنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } قال : هي صلاة الخوف صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مقبلة على العدو وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعة أخرى ثم سلم بهم ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة وهذا الحديث رواه الجماعة في كتبهم من طريق معمر به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن الجماعة من الصحابة وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه وألفاظه وكذا ابن جرير ولنحرره في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله وبه الثقة وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الاية وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قول الله تعالى : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } (1/727)
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها ولكن ههنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى في الأشهر الحرم : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمتها ولهذا قال تعالى : { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } أي في سائر أحوالكم ثم قال تعالى : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } أي فإذا أمنتم وذهب الخوف وحصلت الطمأنينة { فأقيموا الصلاة } أي فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها وخشوعها وركوعها وسجودها وجميع شؤونها
وقوله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } قال ابن عباس : أي مفروضا وقال أيضا : إن للصلاة وقتا كوقت الحج وكذا روي عن مجاهد وسالم بن عبد الله وعلي بن الحسين ومحمد بن علي والحسن ومقاتل والسدي وعطية العوفي قال عبد الرزاق : عن معمر عن قتادة { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } قال : ابن مسعود : إن للصلاة وقتا كوقت الحج وقال زيد بن أسلم { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } قال : منجما كلما مضى نجم جاء نجم يعني كلما مضى وقت جاء وقت
وقوله تعالى : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم } أي لا تضعفوا في طلب عدوكم بل جدوا فيهم وقاتلوهم واقعدوا لهم كل مرصد { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون } أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم كما قال تعالى : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } ثم قال تعالى : { وترجون من الله ما لا يرجون } أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والالام ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه و سلم وهو وعد حق وخبر صدق وهم لا يرجون شيئا من ذلك فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه وفي إقامة كلمة الله وإعلائها { وكان الله عليما حكيما } أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية وهو المحمود على كل حال (1/731)
يقول تعالى : مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } أي هو حق من الله وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه وقوله : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه و سلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الاية وبما ثبت في الصحيحين من رواة هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال : [ ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها ] وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة ] فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما ثم ليحلل كل منكما صاحبه ] وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد به وزاد [ إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه ]
وقد روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس : أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه و سلم ليلا فقالوا : يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } الاية
ثم قال تعالى : للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخفين بالكذب { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله } الايتين يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال عز و جل : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الاية يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخفين بالكذب ثم قال : { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } يعني السارق والذين جادلوا عن السارق وهذا سياق غريب وكذا ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم في هذه الاية : إنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة
وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الاية من جامعه وابن جرير في تفسيره : [ حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني حدثنا محمد بن سلمة الحراني حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ينحله لبعض العرب ثم يقول : قال فلان كذا وكذاو وقال فلان كذا وكذا فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث أو كما قال الرجل وقالوا ابن الأبيرق : قالها قالوا : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح ودرع وسيف فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا قال : فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال : وكان بنو أبيرق قالوا ـ ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال : أنا أسرق ؟ ! والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا : إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : سآمر في ذلك فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عمرو فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يارسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة : فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فكلمته فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : الله المستعان ] فلم نلبث أن نزل القرآن { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } يعني بني أبيرق { واستغفر الله } أي مما قلت لقتادة { إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } ـ إلى قوله ـ { رحيما } أي لو استغفروا الله لغفر لهم { ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما * ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } قولهم للبيد { ولولا فضل الله عليك ورحمته } ـ إلى قوله ـ { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسلاح فرده إلى رفاعة فقال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسى أو عشي ـ الشك من أبي عيسى ـ في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا لما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فأنزل الله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا * إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح ثم قالت : أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير لفظ الترمذي ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني
ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به ببعضه ورواه ابن المنذر في تفسيره : حدثنا محمد بن إسماعيل يعني الصائغ حدثنا الحسن بن أحمد بن شعيب الحراني حدثنا محمد بن سلمة فذكره بطوله ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن عياش بن أيوب والحسن بن يعقوب كلاهما عن الحسن بن أحمد
ابن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل وقد روى هذا الحديث الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن عباس الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه وفيه الشعر ثم قال : وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
وقوله تعالى : { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله } الاية هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ولهذا قال : { وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا } تهديد لهم ووعيد ثم قال تعالى : { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } الاية أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدي لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم ؟ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلا ولهذا قال : { أم من يكون عليهم وكيلا } (1/731)
يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه تاب عليه من أي ذنب كان فقال تعالى : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال في هذه الاية : أخبر الله عباده بعفوه وحلمه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا { ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال رواه ابن جرير وقال ابن جرير أيضا : حدثنا محمد بن مثنى حدثنا محمد بن أبي عدي حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل قال : قال عبد الله : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه وإذا أصاب البول منه شيئا قرضه بالمقراض فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا فقال عبد الله رضي الله عنه : ما آتاكم الله خير مما آتاهم جعل الماء لكم طهورا وقال تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } وقال : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } وقال أيضا : حدثني يعقوب حدثنا هشيم عن ابن عون عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت فحبلت فلما ولدت قتلت ولدها قال عبد الله بن مغفل : لها النار فانصرفت وهي تبكي فدعاها ثم قال : ما أرى أمرك إلا أحد أمرين { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } قال : فمسحت عينها ثم مضت
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن عثمان بن المغيرة قال : سمعت علي بن ربيعة من بني أسد يحدث عن أسماء أو ابن أسماء من بني فزارة قال : قال علي رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وحدثني أبو بكر ـ وصدق أبو بكر ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له ] وقرأ هاتين الايتين { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الاية { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم } الاية وقد تكلمنا على هذا الحديث وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضا
وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحراني حدثنا دواد بن مهران الدباغ حدثنا عمر بن يزيد عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي قال : سمعت أبا بكر ـ هو الصديق ـ يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له ] لأن الله يقول : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الاية ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي عن الصديق بنحوه وهذا إسناد لا يصح وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي عن تمام بن نجيح حدثني كعب بن ذهل الأزدي قال : سمعت أبا الدرداء يحدث قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جلسنا حوله وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه وأنه قام فترك نعليه قال أبو الدرداء : فأخذ ركوة من ماء فاتبعته فمضى ساعة ثم رجع ولم يقض حاجته فقال : [ إنه أتاني آت من ربي فقال : إنه { من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } فأردت أن أبشر أصحابي ]
[ قال أبو الدرداء : وكانت قد شقت على الناس الاية التي قبلها { من يعمل سوءا يجز به } فقلت : يا رسول الله وإن زنى وإن سرق ثم استغفر ربه غفز له ؟ قال نعم ثم قلت الثانية قال نعم قلت الثالثة قال نعم وإن زنى وإن سرق ثم استغفر الله غفر الله له على رغم أنف أبي الدرداء ] قال : فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه بهذا السياق وفي إسناده ضعف
وقوله : { ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه } الاية كقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } الاية يعني أنه لا يغني أحد عن أحد وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها ولهذا قال تعالى : { وكان الله عليما حكيما } أي من علمه وحكمته وعدله ورحمته كان ذلك ثم قال : { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا } الاية يعني كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الاخرون وقد كان بريئا وهم الظلمة الخونة كما أطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه و سلم ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم
وقوله : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء } وقال الإمام ابن أبي حاتم : أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان وذكر قصة بني أبيرق فأنزل الله { لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء } يعني أسيد بن عروة وأصحابه يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال وعصمته له وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة { وعلمك ما لم تكن تعلم } أي قبل نزول ذلك عليك كقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب } إلى آخر السورة وقال تعالى : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } ولهذا قال : { وكان فضل الله عليك عظيما } (1/735)
يقول تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } يعني كلام الناس { إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث حدثنا محمد بن يزيد بن حنيس قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري : الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردده علي فقال : حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز و جل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر ] فقال سفيان : أو ما سمعت الله في كتابه يقول : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } ؟ فهو هذا بعينه أو ما سمعت الله يقول : { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } فهو هذا بعينه أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { والعصر * إن الإنسان لفي خسر } الخ ؟ فهو هذا بعينه وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان به ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها ثم قال الترمذي : حديث غريب لا يعرف إلا من حديث ابن خنيس
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي حدثنا صالح بن كيسان حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول [ ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ] وقالت لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها قال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن الزهري به نحوه قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ ] قالوا : بلى يا رسول الله قال : [ إصلاح ذات البين ] قال : [ وفساد ذات البين هي الحالقة ] ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية وقال الترمذي : حسن صحيح وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سريج بن يونس حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر حدثنا أبي عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي أيوب [ ألا أدلك على تجارة ؟ ] قال : بلى يا رسول الله قال [ تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا ] ثم قال البزار وعبد الرحمن بن عبد الله العمري : لين وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها ولهذا قال : { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله } أي مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز و جل { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } أي ثوابا جزيلا كثيرا واسعا
وقوله : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه و سلم فصار في شق والشرع في شق وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له
وقوله : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك قد ذكرنا منها طرفا صالحا في كتاب أحاديث الأصول ومن العلماء من ادعى تواتر معناها والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الاية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله : { نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } وقال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقوله : { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } وجعل النار مصيره في الاخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة كما قال تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } الاية وقال تعالى : { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا } (1/736)
قد تقدم الكلام على هذه الاية الكريمة وهي قوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك } الاية وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة وقد روى الترمذي : حديث ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الاية { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الاية ثم قال : هذا حسن غريب وقوله : { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } أي فقد سلك غير الطريق الحق وضل عن الهدى وبعد عن الصواب وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والاخرة وفاتته سعادة الدنيا والاخرة
وقوله : { إن يدعون من دونه إلا إناثا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمود بن غيلان أنبأنا الفضل بن موسى أخبرنا الحسن بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : مع كل صنم جنية وحدثنا أبي حدثنا محمد بن سلمة الباهلي عن عبد العزيز بن محمد عن هشام يعني ابن عروة عن أبيه عن عائشة { إن يدعون من دونه إلا إناثا } قالت : أوثانا وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك وقال جويبر عن الضحاك في الاية قال المشركون إن الملائكة بنات الله وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى قال : فاتخذوهن أربابا وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده يعنون الملائكة وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى } الايات وقال تعالى : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } الاية وقال : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } الايتين وقال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس { إن يدعون من دونه إلا إناثا } قال : يعني موتى وقال مبارك يعني ابن فضالة عن الحسن : إن يدعون من دونه إلا إناثا قال الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح إما خشبة يابسة وإما حجر يابس ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وهو غريب
وقوله : { وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر كما قال تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } الاية وقال تعالى إخبارا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا { بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون }
وقوله : { لعنه الله } أي طرده وأبعده من رحمته وأخرجه من جواره وقال : { لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } أي معينا مقدرا معلوما قال مقاتل بن حيان : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة { ولأضلنهم } أي عن الحق { ولأمنينهم } أي أزين لهم ترك التوبة وأعدهم الأماني وآمرهم بالتسويف والتأخير وأغرهم من أنفسهم وقوله : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } قال قتادة والسدي وغيرهما : يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } قال ابن عباس : يعني بذلك خصي الدواب وقد روي عن ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبي صالح والثوري وقد ورد في حديث النهي عن ذلك وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : يعني بذلك الوشم وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه وفي لفظ : لعن الله من فعل ذلك وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز و جل ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في كتاب الله عز و جل يعني قوله : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والحكم والسدي والضحاك وعطاء الخراساني في قوله : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } يعني دين الله عز و جل هذا كقوله : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } على قول من جعل ذلك أمرا أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء ] وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قال الله عز و جل : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ]
ثم قال تعالى : { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } أي فقد خسر الدنيا والاخرة وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها وقوله تعالى : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } وهذا إخبار عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدينا والاخرة وقد كذب وافترى في ذلك ولهذا قال الله تعالى : { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم المعاد { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم }
وقوله : { أولئك } أي المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم { مأواهم جهنم } أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة { ولا يجدون عنها محيصا } أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف ولا خلاص ولا مناص ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومالهم في مآلهم من الكرامة التامة فقال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي يصرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا { خالدين فيها أبدا } أي بلا زوال ولا انتقال { وعد الله حقا } أي هذا وعد من الله ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر وهو قوله حقا ثم قال تعالى : { ومن أصدق من الله قيلا } أي لا أحد أصدق منه قولا أي خبرا لا إله هو ولا رب سواه وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في خطبته : [ إن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ] (1/738)
قال قتادة : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } الاية ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الاديان وكذا روي عن السدي ومسروق والضحاك وأبي صالح وغيرهم وكذا روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الاية : تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوارة : كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء وقال أهل الإنجيل مثل ذلك وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام وكتابنا نسخ كل كتاب ونبينا خاتم النبيين وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم وقال : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } الاية
وخير بين الأديان فقال : { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } إلى قوله : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } وقال مجاهد : قالت العرب : لن نبعث ولن نعذب وقالت اليهود والنصارى { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقالوا : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } والمعنى في هذه الاية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان ولهذا قال تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ؟ بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام ولهذا قال بعده { من يعمل سوءا يجز به } كقوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وقد روي أن هذه الاية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير قال : أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الاية { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } فكل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تنصب ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء ؟ ] قال : بلى قال : [ فهو مما تجزون به ] ورواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن إسماعيل بن أبي خالد به ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل به وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن زياد الجصاص عن علي بن زيد عن مجاهد عن ابن عمر قال : سمعت أبا بكر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من يعمل سوءا يجز به في الدنيا ] وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن هشيم بن جهيمة حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا زياد الجصاص عن علي بن زيد عن مجاهد قال : قال عبد الله بن عمر : انظروا المكان الذي فيه عبد الله بن الزبير مصلوبا فلا تمرن عليه قال : فسها الغلام فإذا عبد الله بن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال : يغفر الله لك ثلاثا أما والله ما علمتك إلا صواما قواما وصالا للرحم أما والله إني لأرجو مع مساوي ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها قال : ثم التفت إلي فقال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من يعمل سوءا في الدنيا يجز به ] ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل عن عبد الوهاب بن عطاء به مختصرا وقال في مسنده ابن الزبير : حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان حدثني أبي عن جدي حيان بن بسطام قال : كنت مع ابن عمر فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب فقال : رحمة الله عليك أبا خبيب سمعت أباك يعني الزبير يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من يعمل سوءا يجز به في الدنيا والاخرة ] ثم قال : لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل حدثنا محمد بن سعد العوفي حدثنا روح بن عبادة حدثنا موسى بن عبيدة حدثني مولى بن سباع قال : سمعت ابن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق قال : كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الاية { من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي ؟ ] قلت : بلى يا رسول الله قال : فاقرأنيها فلا أعلم إلا أني قد وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مالك يا أبا بكر ؟ ] قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب وأما الاخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة ] وكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى وعبد بن حميد عن روح بن عبادة به ثم قال : وموسى بن عبيدة يضعف ومولى بن سباع مجهول وقال ابن جرير : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لما نزلت هذه الاية قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما هي المصيبات في الدنيا ]
( طريق أخرى عن الصديق ) قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري حدثنا محمد بن عامر السعدي حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا فضيل بن عياض عن سلمان بن مهران عن مسلم بن صبيح عن مسروق قال : قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ما أشد هذه الاية { من يعمل سوءا يجز به ؟ } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ المصائب والأمراض والأحزان في الدينا جزاء ]
( طريق أخرى ) قال ابن جرير : حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا : أنبأنا زيد بن الحباب حدثنا عبد الملك بن الحسن المحاربي حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ عن عائشة عن أبي بكر قال : لما نزلت { من يعمل سوءا يجز به } قال أبو بكر : يا رسول الله كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال : [ يا أبا بكر أليس يصيبك كذا وكذا فهو كفارة ]
( حديث آخر ) قال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن يزيد بن أبي يزيد حدثه عن عبيد بن عمير عن عائشة أن رجلا تلا هذه الاية { من يعمل سوءا يجز به } فقال : إنا لنجزى بكل ما علمناه هلكنا إذا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه ]
( طريق أخرى ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سلمة بن بشير حدثنا هشيم عن أبي عامر عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في القرآن فقال : [ ما هي يا عائشة ؟ ] قلت : من يعمل سوءا يجز به فقال : [ هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها ] ورواه ابن جرير من حديث هشيم به ورواه أبو داود من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به
( طريق أخرى ) قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الاية { من يعمل سوءا يجز به } فقالت : ما سألني أحد عن هذه الاية منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفزع لها فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير ]
( طريق أخرى ) قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو القاسم حدثنا سريج بن يونس حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسماعيل عن محمد بن زيد بن المهاجر عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الاية { من يعمل سوءا يجز به } قال : [ إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في القبض عند الموت ] وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة قالت : قال : رسول الله : إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه
( حديث آخر ) قال سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن سمع محمد بن قيس بن مخرمة يخبر أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت { من يعمل سوءا يجز به } شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها ] هكذا رواه أحمد عن سفيان بن عيينة ومسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به ورواه ابن مردويه من حديث روح ومعتمر كلاهما عن إبراهيم بن يزيد عن عبد الله بن إبراهيم سمعت أبا هريرة يقول : لما نزلت هذه الاية { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } بكينا وحزنا وقلنا : يارسول الله ما أبقت هذه الاية من شيء قال : [ أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه ] وقال عطاء بن يسار عن أبي سعيد وأبي هريرة : أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله من سيئاته ] أخرجاه
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن سعد بن إسحاق حدثتني زينب بنت كعب بن عجرة عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها ؟ قال : كفارات قال أبي : وإن قلت قال : حتى الشوكة فما فوقها قال : فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعك حتى يموت في أن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد في سبيل الله ولا صلاة مكتوبة في جماعة فما مسه إنسان إلا وجد حره حتى مات رضي الله عنه تفرد به أحمد
( حديث أخر ) روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله { من يعمل سوءا يجز به } قال : [ نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا ] فهلك من غلب واحدته عشراته وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن { من يعمل سوءا يجز به } قال : الكافر ثم قرأ { وهل نجازي إلا الكفور } وهكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما فسرا السوء ههنا بالشرك أيضا وقوله : { ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إلا أن يتوب فيتوب الله عليه رواه ابن أبي حاتم والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث وهذا اختيار ابن جرير والله أعلم
وقوله : { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } الاية لما ذكر الجزاء على السيئات وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو الأجود له وإما في الاخرة والعياذ با لله من ذلك ونسأله العافية في الدنيا والاخرة والصفح والعفو والمسامحة شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو الخيط في شق النواة وهذا النقير وهما في نواة التمرة وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة والثلاثة في القرآن
ثم قال تعالى : { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله } أخلص العمل لربه عز و جل فعمل إيمانا واحتسابا { وهو محسن } أي اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون متابعا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد فمتى فقد الإخلاص كان منافقا وهم الذين يراءون الناس ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم الاية ولهذا قال تعالى : { واتبع ملة إبراهيم حنيفا } وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة كما قال تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي } الاية وقال تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } والحنيف هو المائل عن الشرك قصدا أي تاركا له عن بصيرة ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد ولا يرده عنه راد
وقوله : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } وهذا من باب الترغيب في اتباعه لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه كما وصفه به في قوله : { وإبراهيم الذي وفى } قال كثير من علماء السلف : أي قام بجميع ما أمر به في كل مقام من مقامات العبادة فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ولا كبير عن صغير وقال تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } الاية وقال تعالى : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين } الاية والاية بعدها وقال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن عمرو بن ميمون قال : إن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ { واتخذ الله إبراهيم خليلا } فقال رجل : من القوم : لقد قرت عين أم إبراهيم وقد ذكر ابن جرير في تفسيره عن بعضهم : أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل وقال بعضهم من أهل مصر : ليمتار طعاما لأهله من قبله فلم يصب عنده حاجته فلما قرب من أهله قر بمفازة ذات رمل فقال : لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون ففعل ذلك فتحول ما في الغرائر من الرمل دقيقا فلما صار إلى منزله نام و قام أهله ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا فعجنوا منه وخبزوا فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي خبزوا فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال : نعم هو من عند خليلي الله فسماه الله خليلا وفي صحة هذا ووقوعه نظر وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه عز و جل له لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها ولهذا ثبت في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال : [ أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ] وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن مسعود عن النبي قال : [ إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ] وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة حدثنا عبد الله الحنفي حدثنا زمعة أبو صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول : عجب إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال آخر : ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته وقال آخر : آدم اصطفاه الله فخرج عليهم فسلم وقال : [ قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله وهو كذلك وكذلك محمد صلى الله عليه و سلم قال : ألا وإني حبيب الله ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والاخرين يوم القيامة ولا فخر ] وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها
وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين رواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وكذا روي عن أنس بن مالك وغير واحد من الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني حدثنا محمد يعني سعيد بن سابق حدثنا عمرو يعني ابن أبي قيس عن عاصم عن أبي راشد عن عبيد بن عمير قال : كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس فخرج يوما يلتمس أحدا يضيفه فلم يجد أحدا يضيفه فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما فقال : يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني ؟ قال : دخلتها بإذن ربها قال : ومن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره بأن الله قد اتخذه خليلا قال : من هو ؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لاتينه ثم لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت قال : ذلك العبد أنت قال : أنا ؟ قال : نعم قال فيم اتخذني ربي خليلا ؟ قال : إنك تعطي الناس ولا تسألهم وحدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد السلمي حدثنا الوليد عن إسحاق بن يسار قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء
وقوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض } أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك لا راد لما قضى ولا مقعب لما حكم ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته وقوله : { وكان الله بكل شيء محيطا } أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى (1/740)
قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } قالت عائشة : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الاية وكذلك رواه مسلم عن أبي كريب وعن أبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن أسامة وقال ابن أبي حاتم : قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد هذه الاية فيهن فأنزل الله { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب } الاية قال : والذي ذكر الله أنه يتلى عليه في الكتاب الاية الأولى التي قال الله { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وبهذا الإسناد عن عائشة قالت : وقول الله عز و جل : { وترغبون أن تنكحوهن } رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن وأصله ثابت في الصحيحين من طريق يونس بن يزيد الأيلي به والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة بأمثالها من النساء فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء فقد وسع الله عز و جل وهذا المعنى في الاية الأولى التي في أول السورة وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الأمر فنهاه الله عز و جل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية وهي قوله : { في يتامى النساء } الاية كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت فإذا ماتت ورثها فحرم الله ذلك ونهى عنه
وقال في قوله : { والمستضعفين من الولدان } كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات وذلك قوله : { لا تؤتونهن ما كتب لهن } فنهى الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه فقال : { للذكر مثل حظ الأنثيين } صغيرا أو كبيرا وكذا قال سعيد بن جبير وغيره وقال سعيد بن جبير في قوله : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها كذلك إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فانكحها واستأثر بها وقوله : { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما } تهييجا على فعل الخيرات وامتثالا للأوامر وإن الله عز و جل عالم بجميع ذلك وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه (1/746)
يقول تعالى مخبرا ومشرعا من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة وتارة في حال اتفاقه معها وتارة في حال فراقه لها فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقها عليه وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له ولا عليه في قبوله منها ولهذا قال تعالى : { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا } ثم قال : { والصلح خير } أي من الفراق وقوله : { وأحضرت الأنفس الشح } أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله صلى الله عليه و سلم على فراقها فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك
( ذكر الرواية بذلك ) قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يارسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل ونزلت هذه الاية { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما } الاية قال ابن عباس فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ورواه الترمذي عن محمد بن المثنى عن أبي داود الطيالسي به وقال : حسن غريب قال الشافعي : أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توفي عن تسع نسوة وكان يقسم لثمان وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه و سلم يقسم لها بيوم سودة وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة عن عائشة نحوه
وقال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عروة قال : أنزل الله في سودة وأشباهها { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت ففزعت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه و سلم وضنت بمكانها منه وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه و سلم عائشة ومنزلتها منه فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه و سلم لعائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال البيهقي وقد رواه أحمد بن يونس عن الحسن بن أبي الزناد موصولا وهذه الطريقة رواها الحاكم في مستدركه فقال : حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه أخبرنا الحسن بن علي بن زياد حدثنا أحمد بن يونس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت له : يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفزعت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه و سلم يارسول الله يومي هذا لعائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت عائشة : ففي ذلك أنزل الله { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } وكذلك رواه أبو داود عن أحمد بن يونس به والحاكم في مستدركه ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد رواه ابن مردويه من طريق أبي بلال الأشعري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به نحوه ومن رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة بنحو مختصرا والله أعلم
وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي في أول معجمه : حدثنا محمد بن يحيى حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي حدثنا القاسم بن أبي بزة قال : بعث النبي صلى الله عليه و سلم إلى سودة بنت زمعة بطلاقها فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة فلما رأته قالت له : أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه واصطفاك على خلقه لما راجعتني فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيام فراجعها فقالت : فإني جعلت يومي وليلتي لحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا غريب مرسل وقال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل أنبأنا عبد الله أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } قال : الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حل فنزلت هذه الاية
وقال ابن جرير : حدثنا وكيع حدثنا أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل فلعله لا يكون بمستكثر منها ولا يكون لها ولد ويكون لها صحبة فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني حدثني المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن هشام عن عروة عن عائشة في قوله : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } قالت : هو الرجل يكون له امرأتان : إحداهما قد كبرت أو هي دميمة وهو لا يستكثر منها فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير وجه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم ولله الحمد والمنة
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير عن أشعث عن ابن سيرين قال : جاء رجل الى عمر بن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة فسأله آخر عن هذه الاية { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } ثم قال عن مثل هذا فاسألوا ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قول الله عز و جل { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما } قال علي : يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو قذذها فتكره فراقه فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له وإن جعلت له من أيامها فلا حرج
وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم عن سماك به وكذا فسرها ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد بن جبير والشعبي وسعيد بن جبير وعطاء وعطية العوفي ومكحول والحسن والحكم بن عتيبة وقتادة وغير واحد من السلف والأئمة ولا أعلم في ذلك خلافا أن المراد بهذه الاية هذا والله أعلم وقال الشافعي : أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب أن بنت محمد بن مسلم كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فأنزل الله عز و جل { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } الاية وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : حدثنا سعيد بن أبي عمرو حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني أنبأنا علي بن محمد بن عيسى أنبأنا أبو اليمان أخبرني شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن السنة في هاتين الايتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } إلى تمام الايتين أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه صلح له ذلك وكان صلحها عليه كذلك ذكر سعيد بن المسيب وسليمان الصلح الذي قال الله عز و جل { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق فقال لها : ماشئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة وإن شئت فارقتك فقالت : لا بل أستقر على الأثرة فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها وهكذا رواه بتمامة عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار فذكره بطوله والله أعلم
وقوله : { والصلح خير } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني التخيير أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها والظاهر من الاية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية كما أمسك النبي صلى الله عليه و سلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي الله عنها ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه فهو أفضل في حقه عليه الصلاة و السلام ولما كان الوفاق أحب الى الله من الفراق قال : { والصلح خير } بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه جميعا عن كثير بن عبيد عن محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن معروف عن محارب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر معناه مرسلا
وقوله : { وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء وقوله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا ابن أبي شيبة حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة قال : نزلت هذه الاية { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } في عائشة يعني أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحبها أكثر من غيرها كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت : كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : [ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ] يعني القلب هذا لفظ أبي داود وهذا إسناد صحيح لكن قال الترمذي : رواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا قال : وهذا أصح
وقوله : { فلا تميلوا كل الميل } أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية { فتذروها كالمعلقة } أي فتبقى هذه الأخرى معلقة قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن والضحاك والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان : معناها لا ذات زوج ولا مطلقة وقال أبو داود الطيالسي : أنبأنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس ؟ عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط ] وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث همام بن يحيى عن قتادة به وقال الترمذي : إنما أسنده همام ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال : كان يقال : ولا يعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همام وقول : { وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما } أي وإن أصلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون واتقيتم الله في جيمع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض ثم قال تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما } وهذه هي الحالة الثالثة وهي حالة الفراق وقد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه بأن يعوضه الله من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه { وكان الله واسعا حكيما } أي واسع الفضل عظيم المن حكيما في جيمع أفعاله وأقداره وشرعه (1/747)
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ولهذا قال : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم } أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى الله عز و جل بعبادته وحده لا شريك له ثم قال : { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض } الاية كما قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه { إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد } وقال : { فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد } أي غني عن عباده ( حميد ) أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه قوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا } أي هو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب الشهيد على كل شيء وقوله : { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا } أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه وكما قال : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } وقال بعض السلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره وقال تعالى : { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز } أي وما هو عليه بممتنع وقوله : { من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } أي يامن ليس له همة إلا الدنيا اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والاخرة وإذا سألته من هذه أغناك وأعطاك وأقناك كما قال تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق * ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبوا } الاية وقال تعالى : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } الاية وقال تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } الاية وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الاية { من كان يريد ثواب الدنيا } أي من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك { فعند الله ثواب الدنيا } وهو ما حصل من المغانم وغيرها مع المسلمين وقوله : { والآخرة } أي وعند الله ثواب الاخرة وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم وجعلها كقوله : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } ولاشك أن هذه الاية معناها ظاهر وأما تفسيره الاية الأولى بهذا ففيه نظر فإن قوله : { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } ظاهر في حصول الخير في الدنيا والاخرة أي بيده هذا وهذا فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والاخرة فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع وهو الله الذي لا إله إلا هو الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والاخرة وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا وممن يستحق هذا ولهذا قال : { وكان الله سميعا بصيرا } (1/751)
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه وقوله : { شهداء لله } كما قال : { وأقيموا الشهادة لله } أي ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا خالية من التحريف والتبديل والكتمان ولهذا قال { ولو على أنفسكم } أي اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه وقوله : { أو الوالدين والأقربين } أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم فإن الحق حاكم على كل أحد
وقوله : { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره الله يتولاهما بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما وقوله : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم بل الزموا العدل على أي حال كان كما قال تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي صلى الله عليه و سلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة إن شاء الله تعالى وقوله : { وإن تلووا أو تعرضوا } قال مجاهد وغير واحد من السلف : تلووا أي تحرفوا الشهادة وتغيروها واللي هو التحريف وتعمد الكذب قال تعالى : { وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب } الاية والإعراض هو كتمان الشهادة وتركها قال تعالى : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها ] ولهذا توعدهم الله بقوله : { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } أي وسيجازيكم بذلك (1/752)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه كما يقول المؤمن في كل صلاة { اهدنا الصراط المستقيم } أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه فأمرهم بالإيمان به وبرسوله كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } وقوله : { والكتاب الذي نزل على رسوله } يعني القرآن { والكتاب الذي أنزل من قبل } وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة وقال في القرآن : نزل لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة لهذا قال تعالى : { والكتاب الذي أنزل من قبل } ثم قال تعالى : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا } أي فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد (1/752)
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى ولهذا قال : { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حفص بن جميع عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { ثم ازدادوا كفرا } قال : تمادوا على كفرهم حتى ماتوا وكذا قال مجاهد وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى عن عامر الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يستتاب المرتد ثلاثا ثم تلا هذه الاية { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } ثم قال : { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما } يعني أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنما نحن معكم إنما نحن مستهزئون أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة قال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين { أيبتغون عندهم العزة } ثم أخبر الله تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له كما قال تعالى في الاية الأخرى { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } وقال تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد حدثنا أبو بكر بن عياش بن حميد الكندي عن عبادة بن نسيء عن أبي ريحانه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وفخرا فهو عاشرهم في النار ] تفرد به أحمد وأبو ريحانة هذا هو أزدي ويقال أنصاري واسمه شمعون بالمعجمة فيما قاله البخاري وقال غيره : بالمهملة والله أعلم
وقوله : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه فلهذا قال تعالى : { إنكم إذا مثلهم } في المأثم كما جاء في الحديث [ من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر ] والذي أحيل عليه في هذه الاية من النهي في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } الاية قال مقاتل بن حيان : نسخت هذه الاية التي في سورة الأنعام يعني نسخ قوله : { إنكم إذا مثلهم } لقوله { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون } وقوله : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } أي كما أشركوهم في الكفر كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين لا الزلال (1/753)
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفر عليهم وذهاب ملتهم { فإن كان لكم فتح من الله } أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة { قالوا ألم نكن معكم } أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة { وإن كان للكافرين نصيب } أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أحد فإن الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة { قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } أي ساعدناكم في الباطن وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم وقال السدي : نستحوذ عليكم نغلب عليكم كقوله : { استحوذ عليهم الشيطان } وهذا أيضا تودد منهم إليهم فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم قال تعالى : { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرا في الحياة الدنيا لما له في ذلك من الحكمة فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور
وقوله : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن الأعمش عن ذر عن سبيع الكندي قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذه الاية { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } فقال علي رضي الله عنه : أدنه أدنه فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا قال : ذاك يوم القيامة وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي يعني يوم القيامة وقال السدي : سبيلا أي حجة ويحتمل أن يكون المعنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والاخرة كما قال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } الاية وعلى هذا يكون ردا على المنافقين فيما أملوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم كما قال تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } وقد استدل كثير من العلماء بهذا الاية الكريمة على أصح قولي العلماء وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال لقوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } (1/754)
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا } وقال ههنا : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } ولاشك أن الله لا يخادع فإنه العالم بالسرائر والضمائر ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة وأن أمرهم يروج عنده كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده كما قال تعالى : { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم } الاية وقوله : { هو خادعهم } أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا وكذلك يوم القيامة كما قال تعالى : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير } وقد ورد في الحديث [ من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به ] وفي حديث آخر [ إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار ] عياذا بالله من ذلك
وقوله : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } الاية هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه من طريق عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ولكن يقوم إليها طلق الوجه عظيم الرغبة شديد الفرح فإنه يناجي الله وإن الله تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه ثم يتلو هذه الاية { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } وروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس نحوه فقوله تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } هذه صفة ظواهرهم كما قال : { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة فقال : { يراؤون الناس } أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ] وفي رواية [ والذي نفسي بيده لو علم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد الصلاة ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم ]
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عز و جل ] وقوله : { ولا يذكرون الله إلا قليلا } أي في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون بل هم في صلاتهم ساهون لاهون وعما يراد بهم من الخير معرضون وقد روى الإمام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ] وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء بن عبد الرحمن به وقال الترمذي : حسن صحيح
وقوله : { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } يعني المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر فلا هم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ولا مع الكافرين ظاهرا وباطنا بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } الاية وقال مجاهد { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء } يعني أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم { ولا إلى هؤلاء } يعني اليهود وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تدري أيتهما تتبع ] تفرد به مسلم وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى عن عبد الوهاب فوقف به على ابن عمر ولم يرفعه قال : حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك قلت وقد رواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف عن عبيد الله وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة عن عبدة عن عبد الله به مرفوعا ورواه حماد بن سلمة عن عبيد الله أو عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وراه أيضا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم بمثله وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا الهذيل بن بلال عن ابن عبيد أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه فقال أبي : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الربيضين من الغنم إن أتت هؤلاء نطحتها وإن أتت هؤلاء نطحتها ] فقال له ابن عمر : كذبت فأثنى القوم على أبي خيرا أو معروفا فقال ابن عمر : ما أظن صاحبكم إلا كما تقولون ولكني شاهدي الله إذ قال : كالشاة بين الغنمين فقال : هو سواء فقال : هكذا سمعته
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا المسعودي عن أبي جعفر محمد بن علي قال : بينما عبيد بن عمير يقص وعنده عبد الله بن عمر فقال عبيد بن عمير : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مثل المنافق كالشاة بين ربيضين إذا أتت هؤلاء نطحتها وإذا أتت هؤلاء نطحتها ] فقال ابن عمير : ليس كذلك إنما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كشاة بين غنمين ] قال : فاحتفظ الشيخ وغضب فلما رأى ذلك ابن عمر قال : أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك
( طريقة أخرى عن ابن عمر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عثمان بن بودويه عن يعفر بن زوذي قال : سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين ] فقال ابن عمر : ويلكم لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ] ورواه أحمد أيضا من طرق عن عبيد بن عمير عن ابن عمر ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال : مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد فوقع أحدهم فعبر ثم وقع الاخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي : ويلك أين تذهب إلى الهلكة ارجع عودك على بدئك وناداه الذي عبر : هلم إلى النجاة فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة قال : فجاءه سيل فأغرقه فالذي عبر هو المؤمن والذي غرق المنافق { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } والذي مكث الكافر
وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن قتادة { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلم إلي فإني أخشى عليك وناداه المؤمن : أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحظى له ما عنده فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى أذى فغرقه وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف ثم رأت غنما على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف ] ولهذا قال تعالى : { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } أي ومن صرفه عن طريق الهدى { فلن تجد له وليا مرشدا } ولا منقذ لهم مما هم فيه فإنه تعالى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون (1/755)
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم كما قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه } أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه ولهذا قال ههنا : { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } أي حجة عليكم في عقوبته إياكم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قوله : { سلطانا مبينا } قال كل سلطان في القرآن حجة وهذا إسناد صحيح وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي والنضر بن عربي
ثم أخبرنا تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } أي يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ قال الوالبي عن ابن عباس { في الدرك الأسفل من النار } أي في أسفل النار وقال غيره : النار دركات كما أن الجنة درجات وقال سفيان الثوري عن عاصم عن ذكوان أبي صالح عن أبي هريرة { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال في توابيت ترتج عليهم : كذا رواه ابن جرير عن ابن وكيع عن يحيى بن يمان عن سفيان الثوري به ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال : الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد من تحتهم ومن فوقهم قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن خيثمة عن عبد الله يعني ابن مسعود { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال : في توابيت من نار تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن وكيع عن سفيان عن سلمة عن خيثمة عن ابن مسعود { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال : في توابيت من حديد مبهمة عليهم ومعنى قوله : مبهمة أي مغلقة مقفلة لا يهتدى لمكان فتحها
وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود سئل عن المنافقين فقال : يجعلون في توابيت من نار تطبق عليهم في أسفل درك من النار { ولن تجد لهم نصيرا } أي ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا تاب عليه وقبل ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله واعتصم بربه في جميع أمره فقال تعالى : { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله } أي بدلوا الرياء بالإخلاص فينفعهم العمل الصالح وإن قل قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أنبأنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن عمران عن عمرو بن مرة عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أخلص دينك يكفك القليل من العمل ] { فأولئك مع المؤمنين } أي في زمرتهم يوم القيامة { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } ثم قال تعالى مخبرا عن غناه عما سواه وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم فقال تعالى : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } أي أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله { وكان الله شاكرا عليما } أي من شكر شكر له ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء (1/757)
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله : { إلا من ظلم } وإن صبر فهو خير له وقال أبو داود حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن حبيب عن عطاء عن عائشة قالت : سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تسبخي عنه ] وقال الحسن البصري : لا يدع عليه وليقل : اللهم أعني عليه واستخرج حقي منه وفي رواية عنه قال : قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه
وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الاية : هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه لقوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } وقال أبو داود : حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ المستبان ما قالا فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم ] وقال عبد الرزاق : أنبأنا المثنى بن الصباح عن مجاهد في قوله { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤد إليه حق ضيافته فلما خرج أخبر الناس فقال : ضفت فلانا فلم يؤد إلي حق ضيافتي قال : فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم حتى يؤدي الاخر إليه حق ضيافته وقال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } قال : قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن وفي رواية : هو الضيف المحول رحله فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول وكذا روي عن غير واحد عن مجاهد نحو هذا وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي من طريق الليث بن سعد والترمذي من حديث ابن لهيعة كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر قال : قلنا : يارسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى في ذلك ؟ فقال : [ إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم وإن لم تفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا الجودي يحدث عن سعيد بن مهاجر عن المقدام بن أبي كريمة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أيما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله ] تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال أحمد أيضا : حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن منصور عن الشعبي عن المقدام بن أبي كريمة سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ليلة الضيف واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا له عليه فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه ] ثم رواه أيضا عن غندر عن شعبة وعن زياد بن عبد الله البكائي عن وكيع وأبي نعيم عن سفيان الثوري ثلاثتهم عن منصور به وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عوانة عن منصور به
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن لي جارا يؤذيني فقال له [ أخرج متاعك فضعه على الطريق ] فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق فكل من مر به قال : مالك ؟ قال : جاري يؤذيني فيقول : اللهم العنه اللهم أخزه قال : فقال الرجل : ارجع إلى منزلك والله لا أوذيك أبدا وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب عن أبي توبة الربيع بن نافع عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر عن محمد بن عجلان به ثم قال البزار : لا نعلمه يروي عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ورواه أبو جحيفة وهب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم ويوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه و سلم
وقوله : { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } أي إن تظهروا أيها الناس خيرا أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم ولهذا قال : { فإن الله كان عفوا قديرا } ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله فيقول بعضهم : سبحانك على حلمك بعد علمك ويقول بعضهم : سبحانك على عفوك بعد قدرتك وفي الحديث الصحيح [ ما نقص مال من صدقة ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ومن تواضع لله رفعه ] (1/759)
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية فاليهود ـ عليهم لعائن الله ـ آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه و سلم والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم والله أعلم والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ولهذا قال تعالى : { إن الذين يكفرون } با لله ورسله فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي في الإيمان { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } أي طريقا ومسلكا ثم أخبر تعالى عنهم فقال : { أولئك هم الكافرون حقا } أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به لأنه ليس شرعيا إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لامنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه أو نظروا حق النظر في نبوته
وقوله : { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } أي كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله } في الدنيا والاخرة وقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } يعني بذلك أمة محمد صلى الله عليه و سلم فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله كما قال تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله } الاية ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل فقال : { أولئك سوف يؤتيهم أجورهم } على ما آمنوا بالله ورسله { وكان الله غفورا رحيما } أي لذنوبهم أي إن كان لبعضهم ذنوب (1/760)
قال محمد بن كعب القرظي والسدي وقتادة : سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة قال ابن جريج : سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة سبحان { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } الايات ولهذا قال تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } أي بطغيانهم وبغيهم وعتوهم وعنادهم وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون }
وقوله تعالى : { ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } أي من بعدما رأوا من الايات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم فما جاوزوه إلا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } الايتين ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة الأعراف وفي سورة طه بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عز و جل ثم لما رجع وكان ما كان جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم الله عز و جل وقال الله تعالى : { فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا } ثم قال : { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام ورفع الله على رؤوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم كما قال تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة } الاية { وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا } أي فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا وهم يقولون حطة أي اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون : حنطة في شعرة { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } أي شديدا فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز و جل كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } الايات وسيأتي حديث صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } وفيه : وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت (1/761)
وهذه من الذنوب التي ارتكبوها مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم وكفرهم بآيات الله أي حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام قوله : { وقتلهم الأنبياء بغير حق } وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله فإنهم قتلوا جمعا غفيرا من الأنبياء عليهم السلام وقولهم : { قلوبنا غلف } قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة وغير واحد : أي في غطاء وهذا كقول المشركين { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } الاية وقيل معناه أنهم ادعوا أن قلوبهم غلف للعلم أي أوعية للعلم قد حوته وحصلته رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وقد تقدم نظيره في سورة البقرة قال الله تعالى : { بل طبع الله عليها بكفرهم } فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول لأنها في غلف وفي أكنة قال الله : بل هي مطبوع عليها بكفرهم وعلى القول الثاني : عكس عليهم ما ادعوه من كل وجه وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة { فلا يؤمنون إلا قليلا } أي تمرنت قلوبهم على الكفر والطغيان وقلة الإيمان { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني أنهم رموها بالزنا وكذلك قال السدي وجويبر ومحمد بن إسحاق وغير واحد وهو ظاهر من الاية أنهم رموها وابنها بالعظائم فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك زاد بعضهم : وهي حائض فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة وقولهم : { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء كقول المشركين { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } وكان من خبر اليهود عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه أنه لما بعث الله عيسى بن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التي كان يبريء بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عز و جل إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب وكان يقال لأهل ملته اليونان وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر وقيل سبعة عشر نفرا وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت فحصروه هنالك فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة ؟ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب فقال : أنت هو وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو وفتحت روزنة من سقف البيت وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم فرفع إلى السماء وهو كذلك كما قال الله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } الاية فلما رفع خرج أولئك النفر فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح بن مريم حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ويقال إنه خاطبها والله أعلم وهذا كله من امتحان الله عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة
وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات فقال تعالى : وهو أصدق القائلين ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر الذي يعلم السر في السموات والأرض العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } أي رأوا شبهه فظنوه إياه ولهذا قال : { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر ولهذا قال : { وما قتلوه يقينا } أي وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين { بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا } أي منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه { حكيما } أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي قال : ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له : اجلس ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب فقال : اجلس ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال : أنا فقال : هو أنت ذاك فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق فقالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه وكذا ذكره غير واحد من السلف أنه قال لهم : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن هارون بن عنترة عن وهب بن منبه قال : أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليه صورهم الله عز و جل كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم : سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه : من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا فخرج إليهم وقال : أنا عيسى وقد صوره الله على صورة عيسى فأخذوه فقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ورفع الله عيسى من يومه ذلك وهذا سياق غريب جدا
قال ابن جرير : وقد روي عن وهب نحو هذا القول وهو ما حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول : إن عيسى بن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال : احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه فتعاظموا ذلك وتكارهوه فقال : ألا من رد علي الليلة شيئا مما أصنع فليس مني ولا أنا منه فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال : أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم وأما حاجتي الليلة التي أستعينكم عليها فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها ؟ فقالوا : والله ما ندري مالنا لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه فقال : يذهب الراعي وتفرق الغنم وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه ثم قال : الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا : هذا من أصحابه فجحد وقال : ما أنا بصاحبه فتركوه ثم أخذه آخرون فجحد كذلك ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجدون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه وكان شبه عليهم قبل ذلك فأخذوه فاستوثقوا منه وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه ويقولون له : أنت كنت تحيي الموتى وتنهر الشيطان وتبرىء المجنون أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه السلام فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث المصلوب فجاءهما عيسى فقال : ما تبكيان ؟ فقالتا : عليك فقال : إني قد رفعني الله إليه ولم يصبي إلا خير وإن هذا شبه لهم فأمري الحواريين يلقوني إلى مكان كذا وكذا فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر وفقدوا الذي باعه ودل عليه اليهود فسأله عن أصحابه فقال : إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه فقال : لو تاب لتاب الله عليه ثم سألهم عن غلام تبعهم يقال له يحيى فقال : هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان يحدث بلغة قومه فلينذرهم وليدعهم سياق غريب جدا
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلا منهم يقال له داود فلما أجمعوا لذلك منه لم يفظع عبد من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظعه ولم يجزع منه جزعه ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه حتى إنه ليقول فيما يزعمون : اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه وهم ثلاثة عشر بعيسى عليه السلام فلما أيقن أنهم داخلون عليه قال لأصحابه من الحواريين وكانوا اثني عشر رجلا فرطوس ويعقوب بن زبدي ويحنس أخو يعقوب واندراييس وفيلبس وابن يلما ومنتا وطوماس ويعقوب بن حلقايا وتداوسيس وقثانيا ويودس زكريا يوطا قال ابن حميد : قال سلمة : قال ابن إسحاق : وكان فيما ذكر لي رجل اسمه سرجس وكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى عليه السلام جحدته النصارى وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى قال : فلا أدري هو من هؤلاء الاثني عشر فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم من الخبر عنه فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر وإن كانوا اثني عشر فإنهم دخلوا المدخل وهم ثلاثة عشر
قال ابن إسحاق : وحدثني رجل كان نصرانيا فأسلم أن عيسى حين جاءه من الله إني رافعك إلي قال : يامعشر الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني ؟ فقال سرجس : أنا ياروح الله قال : فاجلس في مجلسي فجلس فيه ورفع عيسى عليه السلام فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة وقد رأوهم فأحصوا عدتهم فلما دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون وفقدوا رجلا من العدة فهو الذي اختلفوا فيه وكانوا لا يعرفون عيسى حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه فقال لهم : إذا دخلتم عليه فإني سأقبله وهو الذي أقبل فخذوه فلما دخلوا وقد رفع عيسى ورأى سرجس في صورة عيسى فلم يشك أنه هو فأكب عليه يقبله فأخذوه فصلبوه ثم إن يودس زكريا يوحنا ندم على ما صنع فاختنق بحبل حتى قتل نفسه وهو ملعون في النصارى وقد كان أحد المعدودين من أصحابه وبعض النصارى يزعم أنه يودس زكريا يوحنا وهو الذي شبه لهم فصلبوه وهو يقول : إني لست بصاحبكم أنا الذي دللتكم عليه والله أعلم أي ذلك كان وقال ابن جرير عن مجاهد : صلبوا رجلا شبه بعيسى ورفع الله عز و جل عيسى إلى السماء حيا واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه
وقوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } يعني قبل موت عيسى يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال فتصير الملل كلها واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } قال : قبل موت عيسى بن مريم عليه السلام وقال العوفي عن ابن عباس مثل ذلك وقال أبو مالك في قوله : { إلا ليؤمنن به قبل موته } قال : ذلك عند نزول عيسى وقبل موت عيسى بن مريم عليه السلام لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به وقال الضحاك عن ابن عباس { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } : يعني اليهود خاصة وقال الحسن البصري : يعني النجاشي وأصحابه رواهما ابن أبي حاتم وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا أبو رجاء عن الحسن { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } قال : قبل موت عيسى والله إنه لحي عند الله ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن عثمان اللاحقي حدثنا جويرية بن بشير قال : سمعت رجلا قال للحسن : ياأبا سعيد قول الله عز و جل : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } قال : قبل موت عيسى إن الله رفع إليه عيسى وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان قال ابن جرير : وقال آخرون : يعني بذلك { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به } بعيسى قبل موت صاحب الكتاب ذكر من كان يوجه ذلك إلى أنه علم الحق من الباطل لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى حدثني المثنى حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { إلا ليؤمنن به قبل موته } كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته قبل موت صاحب الكتاب وقال ابن عباس : لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى حدثنا ابن حميد حدثنا أبو نميلة يحيى بن واضح حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ولو عجل عليه بالسلاح حدثني إسحاق بن إبراهيم وحبيب بن الشهيد حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } قال : هي في قراءة أبي قبل موتهم ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى قيل لابن عباس : أرأيت إن خر من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهوي قيل : أرأيت إن ضربت عنق أحدهم ؟ قال : يلجلج بها لسانه وكذا روى سفيان الثوري عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى عليه السلام وإن ضرب بالسيف تكلم به قال : وإن هوى تكلم به وهو يهوي وكذا روى أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي هارون الغنوي عن عكرمة عن ابن عباس فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس وكذا صح عن مجاهد وعكرمة ومحمد بن سيرين وبه يقول الضحاك وجويبر وقال السدي وحكاه عن ابن عباس ونقل قراءة أبي بن كعب : قبل موتهم وقال عبد الرزاق عن إسرائيل عن فرات القزاز عن الحسن في قوله : { إلا ليؤمنن به قبل موته } قال : لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدم عنه ويحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء قال ابن جرير وقال آخرون : معنى ذلك وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه و سلم قبل موت صاحب الكتاب
( ذكر من قال ذلك ) حدثني ابن المثنى حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا حماد عن حميد قال : قال عكرمة : لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه و سلم قوله : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } ثم قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح لأنه المقصود من سياق الاي في تقرير بطلان ماادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك فأخبر الله أنه لم يكن كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها إن شاء الله قريبا فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف فأخبرت هذه الاية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ولهذا قال : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقههم من النصارى أنه قتل وصلب { ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض فأما من فسر هذه الاية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك كما قال تعالى في أول هذه السورة { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } الاية
وقال تعالى { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } الايتين وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد هذا القول حيث قال : ولو كان المراد بهذه الاية هذا لكان كل من آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم أو بالمسيح ممن كفر بهما يكون على دينهما وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته فهذا ليس بجيد إذ لا يلزم من إيمانه أنه يصير بذلك مسلما ألا ترى قول ابن عباس : ولو تردى من شاهق أو ضرب بالسيف أو افترسه سبع فإنه لابد أن يؤمن بعيسى فالإيمان في هذه الحال ليس بنافع ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه والله أعلم ومن تأمل جيدا وأمعن النظر اتضح له أنه هو الواقع لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الاية هذا بل المراد بها الذي ذكرناه من تقرير وجود عيسى عليه السلام وبقاء حياته في السماء وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتصادمت وتعاكست وتناقضت وخلت عن الحق ففرط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النصارى تنقصة اليهود بما رموه به وأمه من العظائم وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه ما ليس فيه فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية تعالى عما يقول هؤلاء وهؤلاء علوا كبيرا وتنزه وتقدس لا إله إلا هو (1/762)
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان
( قبل يوم القيامة وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له )
قال البخاري رحمه الله في كتاب ذكر الأنبياء من صحيحه المتلقى بالقبول : نزول عيسى ابن مريم عليه السلام حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبي صالح عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة خيرا لهم من الدنيا وما فيها ] ثم يقول أبو هريرة اقرؤا إن شئتم { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } وكذا رواه مسلم عن الحسن الحلواني وعبد بن حميد كلاهما عن يعقوب به وأخرجه البخاري ومسلم أيضا من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري به وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ويفيض المال وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ] قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } موت عيسى بن مريم ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات
( طريق أخرى ) عن أبي هريرة قال الإمام أحمد : حدثنا روح بن أبي حفصة عن الزهري عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ليهلن عيسى بفج الروحاء بالحج أو العمرة أو ليثنينهما جميعا ] وكذا رواه مسلم منفردا به من حديث ابن عيينة والليث بن سعد ويونس بن يزيد ثلاثتهم عن الزهري به وقال أحمد : حدثنا يزيد حدثنا سفيان هو ابن حسين عن الزهري عن حنظلة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ينزل عيسى بن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطى المال حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما ] قال : وتلا أبو هريرة { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } الاية فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال : يؤمن به قبل موت عيسى فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه و سلم أو شيء قاله أبو هريرة وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي موسى محمد بن المثنى عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري به
( طريق أخرى ) قال البخاري : حدثنا ابن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم ] تابعه عقيل والأوزاعي وهكذا رواه الأمام أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن عثمان بن عمر عن ابن أبي ذئب كلاهما عن الزهري به وأخرجه مسلم من رواية يونس والأوزاعي وابن ذئب به
( طريق أخرى ) قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا قتادة عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن نبي بيني وبينه وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصران كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمار مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ] وكذا رواه أبو داود عن هدية بن خالد عن همام بن يحيى ورواه ابن جرير ولم يورد عند هذه الاية سواه عن بشر بن معاذ عن يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم وهو مولى أم برثن صاحب السقاية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكر نحوه وقال : يقاتل الناس على الإسلام وقد روى البخاري عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أنا أولى الناس بعيسى بن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي ] ثم رواه محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والاخرة الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ] وقال إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن صفوان بن سليم عن عطاء بن بشار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
( حديث آخر ) قال مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب حدثنا يعلى بن منصور حدثنا سليمان بن بلال حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم : خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتله فيقول المسلمون : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله ويفتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاؤوا الشام خرج فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فيؤمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته ]
( حديث آخر ) قال أحمد : حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن غفارة عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال : لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى موسى فقال : لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله وفيما عهد إلي ربي عز و جل أن الدجال خارج ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال : فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول : يامسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال : فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطئون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه قال : ثم يرجع الناس يشكونهم فدعوا الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم وينزل المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ففيما عهد إلي ربي عز و جل أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا ] رواه ابن ماجه عن محمد بن بشار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب به نحوه
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال : أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض عليه مصحفا لنا على مصحفه فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا ثم أتينا بطيب فتطيبنا ثم جئنا المسجد فجلسنا إلى رجل فحدثنا عن الدجال ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه فجلسنا فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يكون للمسلمين ثلاثة أمصار : مصر بملتقى البحرين ومصر بالحيرة ومصر بالشام فيفزع الناس ثلاث فزعات فيخرج الدجال في أعراض الناس فيهزم من قبل المشرق فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين فيصير أهلها ثلاث فرق : فرقة تقول نقيم نشامة ننظر ما هو وفرقة تلحق بالأعراب وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم ومع الدجال سبعون ألفا عليهم السيجان وأكثر من معه اليهود والنساء وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق فيبعثون سرحا لهم فيصاب سرحهم فيشتد ذلك عليهم ويصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد حتى إن أحدهم ليحرق وتر قوسه فيأكله فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من السحر : ياأيها الناس أتاكم الغوث ] ثلاثا [ فيقول بعضهم لبعض : إن هذا لصوت رجل شبعان وينزل عيسى بن مريم عليه السلام عند صلاة الفجر فيقول له أميرهم : ياروح الله تقدم صل فيقول : هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض فيتقدم أميرهم فيصلي حتى إذا قضى صلاته أخذ عيسى حربته فيذهب نحو الدجال فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص فيضع حربته بين ثندوته فيقتله ويهزم أصحابه فليس يومئذ شيء يواري منهم أحدا حتى إن الشجرة تقول : يامؤمن هذا كافر ويقول الحجر : يامؤمن هذا كافر ] تفرد به أحمد من هذا الوجه
( حديث آخر ) قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه : حدثنا علي بن محمد حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن إسماعيل بن رافع أبي رافع عن أبي زرعة الشيباني يحيى بن أبي عمرو عن أبي أمامة الباهلي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال وحذرناه فكان من قوله أن قال : [ لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه وإن الله خليفتي في كل مسلم وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق فيعيث يمينا ويعيث شمالا ألا ياعباد الله : أيها الناس فاثبتوا وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي : إنه يبدأ فيقول : أنا نبي فلا نبي بعدي ثم يثني فيقول : أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا وإنه أعور وإن ربكم عز و جل ليس بأعور وإنه مكتوب بين عينيه : كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم وإن من فتنته أن يقول للأعرابي : أرأيت إن بعثت أمك وأباك أتشهد أني ربك ؟ فيقول : نعم فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان : يابني اتبعه فإنه ربك وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين ثم يقول : انظر إلى عبدي هذا فإني أبعثه الان ثم يزعم أن له ربا غيري فيبعثه الله فيقول له الخبيث : من ربك ؟ فيقول : ربي الله وأنت عدو الله الدجال والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم ] قال أبو حسن الطنافسي : فحدثنا المحاربي حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة ] قال أبو سعيد : والله ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله
ثم قال المحاربي : رجعنا إلى حديث أبي رافع قال : وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر فيأمر الأرض أن تنبت فتنبت وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصر وأدره ضروعا وأنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة فإنه لا يأتيهما من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه فينفى الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص فقالت أم شريك بنت أبي العكر : يارسول الله فأين العرب يومئذ ؟ قال : [ هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عيسى بن مريم عليه السلام فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول : تقدم فصل فإنها لك أقيمت فيصلي بهم إمامهم فإذا انصرف قال عيسى : افتحوا الباب فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هاربا فيقول عيسى : إن لي فيك ضربة لم تسبقني بها فيدركه عند باب لد الشرقي فيقتله ويهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالى يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة ـ إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق ـ إلا قال : ياعبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] وإن أيامه أربعون سنة السنة كنصف السنة والسنة كالشهر والشهر كالجمعة وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الاخر حتى يمسي [ فقيل له : كيف نصلي يانبي الله في تلك الأيام القصار ؟ قال : ] تقدرون الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال ثم صلوا [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ] فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكما عدلا وإماما مقسطا يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير وترتفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره وتفر الوليدة الأسد فلا يضلها ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الماء وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله وتضع الحرب أوزارها وتسلب قريش ملكها وتكون الأرض لها نور الفضة وتنبت نباتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ويكون الثور بكذا وكذا من المال ويكون الفرس بالدريهمات [ قيل : يا رسول الله وما يرخص الفرس ؟ قال : ] لاتركب لحرب أبدا [ قيل له : فما يغلي الثور ؟ قال : يحرث الأرض كلها وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد ويأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها ثم يأمر الله السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ثم يأمر الله عز و جل السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله ] قيل : فما يعيش الناس في ذلك الزمان ؟ قال : [ التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام ]
قال ابن ماجه : سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول : سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول : ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ولبعضه شواهد من أحاديث أخر من ذلك ما رواه مسلم وحديث نافع وسالم عن عبد الله بن عمر وقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر : يامسلم هذا يهودي فتعال فاقتله ] وله من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبىء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر : يامسلم ياعبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ـ إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ]
ولنذكر حديث النواس بن سمعان ههنا لشبهه بهذا الحديث قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا أبو خيثمه زهير بن حرب حدثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي ( ح ) وحدثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا فقال : [ ما شأنكم ؟ ] قلنا : يارسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل قال : [ غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج من خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا ياعباد الله فاثبتوا ] قلنا : يارسول الله فما لبثه في الأرض ؟ قال : [ أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم ] قلنا : يارسول الله وما إسراعه في الأرض ؟ قال : [ كالغيث استدبرته الريح فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعوا رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان اللؤلؤ ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى عليه السلام قوما قد عصمهم الله منه فيمسح على وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز و جل إلى عيسى : إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أولهم على بحيرة طبريا فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأ زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض : أخرجي ثمرك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك الله في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فيقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة ] ورواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به وسنذكره أيضا من طريق أحمد عند قوله تعالى في سورة الأنبياء : { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } الاية
( حديث آخر ) قال مسلم في صحيحه أيضا : حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم قال : سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو وجاءه رجل فقال : ما هذا الحديث الذي تحدث به تقول إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا ؟ فقال : سبحان الله أو لا إله إلا الله أو كلمة نحوهما لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا أبدا إنما قلت : إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما : يحرق البيت ويكون ويكون ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير ـ أو إيمان ـ إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه ] قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا قال : وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال : فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله ـ أو قال ـ ينزل الله مطرا كأنه الطل ـ أو قال الظل ـ نعمان الشاك ـ فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال : أيها الناس هلموا إلى ربكم { وقفوهم إنهم مسؤولون } ثم يقال : أخرجوا بعث النار فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال : فذلك يوما يجعل الولدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق ] ثم رواه مسلم والنسائي في تفسيره جميعا عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة عن نعمان بن سالم به
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد : أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة الأنصاري عن عبد الله بن زيد الأنصاري عن مجمع بن جارية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول [ يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لد ـ أو إلى جانب لد ] ورواه أحمد أيضا عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي ثلاثتهم عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مجمع بن جارية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يقتل ابن مريم الدجال بباب لد ] وكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الليث به وقال : هذا حديث صحيح وقال : وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عتبة وأبي برزة وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة وكيسان وعثمان بن أبي العاص وجابر وأبي أمامة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان وعمرو بن عوف وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال وقتل عيسى بن مريم عليه السلام له فأما أحاديث ذكر الدجال فقط فكثيرة جدا وهي أكثر من أن تحصى لانتشارها وكثرة روايتها في الصحاح والحسان والمسانيد وغير ذلك
( حديث آخر ) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال : [ لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى بن مريم والدجال وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق ـ أو تحشر ـ الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا ] وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث فرات القزاز به ورواه مسلم أيضا من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة عن حذيفة بن أسيد الغفاري موقوفا والله أعلم فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومجمع بن جارية وأبي سريحة وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح وقد بنيت في هذه الأعصار في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة منارة للجامع الأموي بيضاء من حجارة منحوتة عوضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ وكان أكثر عمارتها من أموالهم وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه و سلم بذلك وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان حيث تنزاح عللهم وترتفع شبههم من أنفسهم ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام متابعة لعيسى عليه السلام وعلى يديه ولهذا قال تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } الاية وهذه الاية كقوله : { وإنه لعلم للساعة } وقرىء ( لعلم ) بالتحريك أي أمارة ودليل على اقتراب الساعة وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال فيقتله الله على يديه كما ثبت في الصحيح أن الله لم يخلق داء إلا أنزل له شفاء ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج فيهلكهم الله تعالى ببركة دعائه وقد قال تعالى : { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق } الاية
( صفة عيسى عليه السلام )
قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة [ فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصران كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ] وفي حديث النواس بن سمعان [ فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث انتهى طرفه ] وروى البخاري ومسلم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليلة أسري بي لقيت موسى ] قال : فنعته فإذا رجل أحسبه قال : [ مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة ] قال [ ولقيت عيسى ] فنعته النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ ربعة أحمر كأنه خرج من ديماس ] يعني الحمام [ ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به ] الحديث وروى البخاري من حديث مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رأيت موسى وعيسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط ] وله ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر ذكر النبي صلى الله عليه و سلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال : [ إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية ] ولمسلم عنه مرفوعا [ وأراني الله عند الكعبة في المنام وإذا رجل آدم كأحسن ما ترى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء واضعا يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت فقلت : من هذا ؟ قالوا : هو المسيح بن مريم ثم رأيت وراءه رجلا جعدا قططا أعور العين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت فقلت : من هذا ؟ قالوا : المسيح الدجال ] تابعه عبيد الله عن نافع
ثم رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : لا والله ما قال النبي صلى الله عليه و سلم لعيسى أحمر ولكن قال : [ بينما أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشعر يتهادى بين رجلين ينطف رأسه ماء ـ أو يهراق رأسه ماء ـ فقلت : من هذا ؟ فقالوا ابن مريم فذهبت ألتفت فإذا رجل أحمر جسيم جعد الراس أعور عينه اليمنى كأن عينه عنبة طافية قلت : من هذا ؟ قالو : الدجال وأقرب الناس به شبها ابن قطن ] قال الزهري : رجل من خزاعة هلك في الجاهلية هذه كلها ألفاظ البخاري رحمه الله وقد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة أن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون وفي حديث عبد الله بن عمر عند مسلم أنه يمكث سبع سنين فيحتمل ـ والله أعلم ـ أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين سنة مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة في الصحيح وقد ورد ذلك في حديث في صفة أهل الجنة أنهم على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة وأما ما حكاه ابن عساكر عن بعضهم أنه رفع وله مائة وخمسون سنة فشاذ غريب بعيد وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى بن مريم من تاريخه عن بعض السلف أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه و سلم في حجرته فالله أعلم وقوله تعالى : { ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله وأقر بعبودية الله عز و جل وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } (1/768)
يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو قال : قرأ ابن عباس : طيبات كانت أحلت لهم وهذا التحريم قد يكون قدريا بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم فحرموها على أنفسهم تشديدا منهم على أنفسهم وتضييقا وتنطعا ويحتمل أن يكون شرعيا بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك كما قال تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } وقد قدمنا الكلام على الاية وأن المراد أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة كما قال في سورة الأنعام : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه ولهذا قال : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا } أي صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقا من الأنبياء وكذبوا عيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما
وقوله : { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } أي أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل قال تعالى : { وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } ثم قال تعالى : { لكن الراسخون في العلم منهم } أي الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران { والمؤمنون } عطف على الراسخين وخبره { يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } قال ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد الذين دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلى الله عليه و سلم
وقوله : { والمقيمين الصلاة } هكذا هو في جميع مصاحف الأئمة وكذا هو في مصحف أبي بن كعب وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود والمقيمون الصلاة قال : والصحيح قراءة الجميع ثم رد على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم : هو منصوب على المدح كما جاء في قوله : { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } قال : وهذا سائغ في كلام العرب كما قال الشاعر :
لا يبعدن قومي الذين همو سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
وقال آخرون : هو مخفوض عطفا على قوله : { بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } يعني وبالمقيمين الصلاة وكأنه يقول : وبإقامة الصلاة أي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة وهذا اختيار ابن جرير يعني يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة وفي هذا نظر والله أعلم وقوله : { والمؤتون الزكاة } يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال ويحتمل زكاة النفوس ويحتمل الأمرين والله أعلم { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } أي يصدقون بأنه لا إله إلا الله ويؤمنون بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال خيرها وشرها وقوله : { أولئك } هو الخبر عما تقدم { سنؤتيهم أجرا عظيما } يعني الجنة (1/777)
قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال سكين وعدي بن زيد : يامحمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فأنزل الله في ذلك من قولهما : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } إلى آخر الايات وقال ابن جرير : حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : أنزل الله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء } إلى قوله : { وقولهم على مريم بهتانا عظيما } قال : فلما تلاها عليهم يعني على اليهود وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ولا موسى ولا عيسى ولا على نبي من شيء قال : فحل حبوته وقال : ولا على أحد فأنزل الله عز و جل { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر فإن هذه الاية التي في سورة الأنعام مكية وهذه الاية التي في سورة النساء مدنية وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه و سلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء قال الله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه وما هم عليه الان من الكذب والافتراء ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين فقال : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } إلى قوله : { وآتينا داود زبورا } والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام عند قصصهم من سورة الأنبياء إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان
وقوله : { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك } أي من قبل هذه الاية يعني في السور المكية وغيرها وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن وهم : آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين وسيدهم محمد صلى الله عليه و سلم
وقوله : { ورسلا لم نقصصهم عليك } أي خلقا آخرين لم يذكروا في القرآن وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره حيث قال : حدثنا إبراهيم بن محمد حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن والحسين بن عبد الله بن يزيد قالا : حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثني أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال : يارسول الله كم الأنبياء ؟ قال : [ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ] قلت : يارسول الله كم الرسل منهم ؟ قال : [ ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير ] قلت يارسول الله من كان أولهم ؟ قال : [ آدم ] قلت : يارسول الله نبي مرسل ؟ قال : [ نعم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم سواه قبيلا ] ثم قال : [ يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم وأربعة من العرب : هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك ] وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه الأنواع والتقاسيم وقد وسمه بالصحة وخالفه أبو الفرج بن الجوزي فذكر هذا الحديث في كتابه الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام هذا ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث والله أعلم
وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف حدثنا أبو المغيرة حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال : قلت : يانبي الله كم الأنبياء ؟ قال : [ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا والرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جما غفيرا ] معان بن رفاعه السلامي ضعيف وعلي بن يزيد ضعيف والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضا وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بعث الله ثمانية آلاف نبي : أربعة آلاف إلى بني إسرائيل وأربعة آلاف إلى سائر الناس ] وهذا أيضا إسناد ضعيف فيه الربذي ضعيف وشيخه الرقاشي أضعف منه والله أعلم
قال أبو يعلى : حدثنا أبو الربيع حدثنا محمد بن ثابت العبدي حدثنا محمد بن خالد الأنصاري عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي ثم كان عيسى بن مريم ثم كنت أنا ] وقد رويناه عن أنس من وجه آخر فأخبرنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أخبرنا أبو الفضل بن عساكر أنبأنا الإمام بكر القاسم بن أبي سعيد الصفار أخبرتنا عمة أبي عائشة بنت أحمد بن منصور بن الصفار أخبرنا الشريف أبو السنانك هبة الله بن أبي الصهباء محمد بن حيدر القرشي حدثنا الإمام الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني قال : أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن طارق حدثنا مسلم بن خالد حدثنا زياد بن سعد عن محمد بن المنكدر عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي منهم أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل ] وهذا غريب من هذا الوجه وإسناده لا بأس به رجاله كلهم معرفون إلا أحمد بن طارق هذا فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح والله أعلم وحديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام قال محمد بن حسين الاجري : حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفريابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثنا أبي عن جده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال : دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس وحده فجلست إليه فقلت : يارسول الله إنك أمرتني بالصلاة قال : [ الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل ] قال : قلت : يارسول الله فأي الأعمال أفضل ؟ قال : [ إيمان بالله وجهاد في سبيله ] قلت : يارسول الله فأي المؤمنين أفضل ؟ قال : [ أحسنهم خلقا ] قلت : يارسول الله فأي المسلمين أسلم ؟ قال : [ من سلم الناس من لسانه ويده ] قلت : يارسول الله فأي الهجرة أفضل ؟ قال : [ من هجر السيئات ] قلت : يارسول الله أي الصلاة أفضل ؟ قال : [ طول القنوت ] فقلت : يارسول الله فأي الصيام أفضل ؟ قال : [ فرض مجزىء وعند الله أضعاف كثيرة ] قلت : يارسول الله فأي الجهاد أفضل ؟ قال : [ من عقر جواده وأهريق دمه ] قلت : يارسول الله فأي الرقاب أفضل ؟ قال : [ أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ] قلت : يارسول الله فأي الصدقة أفضل ؟ قال : [ جهد من مقل وسر إلى فقير ] قلت : يارسول الله فأي آية ما أنزل عليك أعظم ؟ قال [ آية الكرسي ] ثم قال يا أبا ذر وما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة [ قال : قلت : يارسول الله كم الانبياء ؟ قال ] مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا [ قال : قلت : يارسول الله كم الرسل من ذلك ؟ قال : ] ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب [ قلت : فمن كان أولهم ؟ قال : ] آدم [ قلت : أنبي مرسل ؟ قال : ] نعم خلقه الله [ بيده ونفخ فيه من روحه سواه قبيلا ] ثم قال : [ يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم وشيث وخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بقلم ونوح وأربعة من العرب : هود وشعيب وصالح ونبيك با أبا ذر وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول الرسل آدم وآخرهم محمد ] قال : قلت : يارسول الله كم كتاب أنزله الله ؟ قال : [ مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى من قبل التوراة عشرة صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ] قال : قلت : يارسول الله ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال [ كلها يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر وكان فيها أمثال وعلى العاقل أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يفكر في صنع الله وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون ضاغنا إلا لثلاث : تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه : حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ] قال : قلت : يارسول الله فما كانت صحف موسى ؟ قال [ كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل ] قال : قلت : يارسول الله فهل في أيدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى وما أنزل الله عليك ؟ قال [ نعم اقرأ يا أبا ذر { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى * إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى } ] قال : قلت : يارسول الله أوصني قال : أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك قال : قلت يا رسول الله زدني قال [ عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض ] قال : قلت : يارسول الله زدني قال [ إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه ] قال : قلت : يارسول الله زدني قال : [ عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي ] قلت : زدني قال [ عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك ] قلت : زدني قال : [ انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك ] قلت : زدني قال : [ أحبب المساكين وجالسهم فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك ] قلت : زدني قال : [ صل قرابتك وإن قطعوك ] قلت : زدني قال : [ قل الحق وإن كان مرا ] قلت : زدني قال [ لا تخف في الله لومة لائم ] قلت : زدني قال [ يردك عن الناس ما تعرف من نفسك ولا تجد عليهم فيما تحب وكفى بك عيبا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك أو تجد عليهم فيما تحب ] ثم ضرب بيده صدري فقال : [ يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق ]
وروى الإمام أحمد عن أبي المغيرة عن معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه و سلم فذكر أمر الصلاة والصيام والصدقة وفضل آية الكرسي ولا حول ولا قوة إلا بالله وأفضل الشهداء وأفضل الرقاب ونبوة آدم وأنه مكلم وعدد الأنبياء والمرسلين كنحو ما تقدم
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : وجدت في كتاب أبي يخطه : حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا مجالد عن أبي الوداك قال : قال أبو سعيد : هل تقول الخوارج بالدجال ؟ قال : قلت : لا فقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني خاتم ألف نبي أو أكثر وما بعث نبي يتبع إلا وقد حذر أمته منه وإني قد بين لي فيه ما لم يبين لأحد وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص وعينه اليسرى كأنها كوكب دري معه من كل لسان ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء وصورة النار سوداء تدخن ] وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي عن يحيى بن معين : حدثنا مروان بن معاوية حدثنا مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر ما بعث الله من نبي إلى قومه إلا حذرهم الدجال ] وذكر تمام الحديث هذا لفظه بزيادة ألف وقد تكون مقحمة والله أعلم
وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني لخاتم ألف نبي أو أكثر وإنه ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال وإني قد بين لي ما لم يبين لأحد منهم وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ]
قوله : { وكلم الله موسى تكليما } وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة ولهذا يقال له : الكليم وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردوية : حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي حدثنا مسيح بن حاتم حدثنا عبد الجبار بن عبد الله قال : جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال : سمعت رجلا يقرأ { وكلم الله موسى تكليما } فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر قرأت على الأعمش وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه و سلم { وكلم الله موسى تكليما } وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام أو يكلم أحدا من خلقه كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ { وكلم الله موسى تكليما } فقال له : يا ابن اللخناء كيف تصنع بقوله تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ؟ يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن الحسين بن بهرام حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا هانىء بن يحيى عن الحسن بن أبي جعفر عن قتادة عن يحيى بن وثاب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما كلم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء ] صح موقوفا كان جيدا وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه من حديث حميد بن قيس الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي ]
وقال ابن مردويه بإسناده عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام وصايا كلها فلما سمع موسى كلام الادميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب عز و جل وهذا أيضا إسناد ضعيف فإن جويبر أضعف والضحاك لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنه قال : لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى : يارب هذا كلامك الذي كلمتني به قال : لا ياموسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : ياموسى صف لنا كلام الرحمن قال : لا أستطيعه قالوا : فشبه لنا قال : ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنه قريب منه وليس به وهذا إسناد ضعيف فإن الفضل الرقاشي هذا ضعيف بمرة
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن جزء بن جابر الجثعمي عن كعب قال : إن الله لما كلم موسى بالألسنة كلها فقال له موسى : يارب هذا كلامك ؟ قال : لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له قال : يارب فهل من خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال : لا وأشد خلقي شبها بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق فهذا موقوف على كعب الأحبار وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل وفيها الغث والسمين
وقوله : { رسلا مبشرين ومنذرين } أي يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب وقوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما } أي أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه لئلا يبقى لمعتذر عذر كما قال تعالى : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } وكذا قوله : { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم } الاية وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز و جل من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين ] وفي لفظ آخر [ من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه ] (1/778)
لما تضمن قوله تعالى : { إنا أوحينا إليك } إلى آخر السياق إثبات نبوته صلى الله عليه و سلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب قال الله تعالى : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } أي وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } ولهذا قال : { أنزله بعلمه } أي في علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان وما يحبه الله ويرضاه وما يكرهه ويأباه وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لايعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به كما قال تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وقال : { ولا يحيطون به علما }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا الحسن بن سهل الجعفري وخزز بن المبارك قالا : حدثنا عمران بن عيينة حدثنا عطاء بن السائب قال : أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال : قد أخذت علم الله فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل ثم يقرأ قوله : { أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا } قوله : { والملائكة يشهدون } أي بصدق ما جاءك وأوحى اليك وأنزل عليك مع شهادة الله تعالى بذلك { وكفى بالله شهيدا } قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم جماعة من اليهود فقال لهم : [ إني لأعلم والله إنكم لتعلمون أني رسول الله ] فقالوا : ما نعلم ذلك فأنزل الله عز و جل { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه } الاية
وقوله : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا } أي كفروا في أنفسهم فلم يتبعوا الحق وسعوا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه وبعدوا منه بعدا عظيما شاسعا ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه بأنه لا يغفر لهم { ولا ليهديهم طريقا } أي سبيلا إلى الخير { إلا طريق جهنم } وهذا استثناء منقطع { خالدين فيها أبدا } الايه ثم قال تعالى : { يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم } أي قد جاءكم محمد صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عز و جل فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه يكن خيرا لكم ثم قال : { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض } أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم ولا يتضرر بكفرانكم كما قال تعالى : { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد } وقال ههنا : { وكان الله عليما } أي بمن يستحق منكم الهداية فيهدية وبمن يستحق الغواية فيغويه { حكيما } أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره (1/783)
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادا أو صحيحا أو كذبا ولهذا قال الله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } الاية وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم قال : زعم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله ] ثم رواه هو وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن الزهري كذلك ولفظه [ إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ] وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح سنده وهكذا رواه البخاري عن الحميدي عن سفيان بن عيينة عن الزهري به ولفظه [ فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رجلا قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهويكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز و جل ] تفرد به من هذا الوجه وقوله تعالى : { ولا تقولوا على الله إلا الحق } أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا تعالى الله عز و جل عن ذلك علوا كبيرا وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته فلا إله إلا هو ولا رب سواه ولهذا قال : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } أي إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه قال له : كن فكان ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز و جل فكان عيسى بإذنه عز و جل وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم والجميع مخلوق الله عز و جل ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه لأنه لم يكن له أب تولد منه وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له بها كن فكان والروح التي أرسل بها جبريل قال الله تعالى : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } وقال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } وقال تعالى : { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين } وقال تعالى : { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها } إلى آخر السورة وقال تعالى إخبارا عن المسيح : { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } الاية
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } هو قوله : { كن فيكون } وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : سمعت شاذ بن يحيى يقول في قول الله { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } قال : ليس الكلمة صارت عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله : { ألقاها إلى مريم } أي أعلمها بها كما زعمه في قوله : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } أي يعلمك بكلمة منه ويجعل ذلك كقوله تعالى : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى عليه السلام وقال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي حدثني عمير بن هانىء حدثنا جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ]
وقال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عمير بن هانىء عن جنادة زاد [ من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ] وكذا رواه مسلم عن داود بن رشيد عن الوليد عن ابن جابر به ومن وجه آخر عن الأوزاعي به فقوله في الاية والحديث [ وروح منه ] كقوله : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } أي من خلقه ومن عنده وليست من للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعه ـ بل هي لابتداء الغاية كما في الاية الأخرى وقد قال مجاهد في قوله : { وروح منه } أي ورسول منه وقال غيره : ومحبة منه والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : { هذه ناقة الله } وفي قوله : { وطهر بيتي للطائفين } وكما روي في الحديث الصحيح : [ فأدخل على ربي في داره ] أضافها إليه إضافة تشريف وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد
وقوله : { فآمنوا بالله ورسوله } أي فصدقوا بأن الله واحد أحد لا ولد له ولا صاحبة واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ولهذا قال تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذه الاية كالتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد } وكما قال في آخر السورة المذكورة : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني } الاية وقال في أولها { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } الاية ـ فالنصارى عليهم لعائن الله ـ من جهلهم ليس لهم ضابط ولا لكفرهم حد بل أقوالهم وضلالهم منتشر فمنهم من يعتقده إلها ومنهم من يعتقده شريكا ومنهم من يعتقده ولدا وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة وأقوال غير مؤتلفة ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولا
ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو سعيد بن بطريق بترك الإسكندرية في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة وأنهم اختلفوا عليه اختلافا لا ينضبط ولا ينحصر فكانوا أزيد من ألفين أسقفا فكانوا أحزابا كثيرة كل خمسين منهم على مقالة وعشرون على مقالة ومائة على مقالة وسبعون على مقالة وأزيد من ذلك وأنقص فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر وقد توافقوا على مقالة فأخذها الملك ونصرها وأيدها وكان فيلسوفا داهية ومحق ما عداها من الأقوال وانتظم دست أولئك الثلثمائة والثمانية عشر وبنيت لهم الكنائس ووضعوا لهم كتبا وقوانين وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها وأتباع هؤلاء هم الملكانية ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيا فحدث فيهم اليعقوبية ثم مجمعا ثالثا فحدث فيهم النسطورية وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم هل اتحدا أو ما اتحدا أو امتزجا أو حل فيه على ثلاث مقالات وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ونحن نكفر الثلاثة ولهذا قال تعالى : { انتهوا خيرا لكم } أي يكن خيرا لكم { إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } أي تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا { له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا } أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيها عبيده وهم تحت تدبيره وتصريفه وهو وكيل على كل شيء فكيف يكون له منهم صاحبة وولد كما قال في الاية الأخرى : { بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد } الاية وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } (1/784)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس : قوله : { لن يستنكف } لن يستكبر وقال قتادة : لن يحتشم { المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الاية حيث قال : { ولا الملائكة المقربون } وليس له في ذلك دلالة لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح لأن الاستنكاف هو الامتناع والملائكة أقدر على ذلك من المسيح فلهذا قال : { ولا الملائكة المقربون } ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل وقيل : إنما ذكروا لأنهم اتخذوا آلهة مع الله كما اتخذ المسيح فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه كما قال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } الايات ولهذا قال : { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا } أي فيجمعهم إليه يوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا يجور فيه ولا يحيف ولهذا قال : { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } أي فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن سفيان عن عبد الله مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } قال : أجورهم [ أدخلهم الجنة ] { ويزيدهم من فضله } قال [ الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم ] وهذا إسناد لا يثبت وإذا روي عن ابن مسعود موقوفا فهو جيد { وأما الذين استنكفوا واستكبروا } أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك { فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } كقوله : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أي صاغرين حقيرين ذليلين كما كانوا ممتنعين مستكبرين (1/787)
يقول تعالى مخاطبا جميع الناس ومخبرا بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة ولهذا قال : { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } أي ضياء واضحا على الحق قال ابن جريج وغيره : وهو القرآن { فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به } أي جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم وقال ابن جريج : آمنوا بالله واعتصموا بالقرأن رواه ابن جرير { فسيدخلهم في رحمة منه وفضل } أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم { ويهديهم إليه صراطا مستقيما } أي طريقا واضحا قصدا قواما لااعوجاج فيه ولا انحراف وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والاخرة فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات وفي الاخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ القرآن صراط الله المستقيم وحبل الله المتين ] وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد والمنة (1/787)
قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء قال : آخر سورة نزلت براءة وآخر آي نزلت يستفتونك
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب علي أو قال : صبوا عليه فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فأنزل الله آية الفرائض أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر به وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } الاية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان وقال أبو الزبير قال : يعني جابرا نزلت في { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وكأن معنى الكلام ـ والله أعلم ـ يستفتونك عن الكلالة { قل الله يفتيكم } فيها فدل المذكور على المتروك وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ولهذا فسرها أكثر العلماء بمن يموت وليس له ولد ولا والد ومن الناس من يقول : الكلالة من لا ولد له كما دلت عليه هذه الاية { إن امرؤ هلك ليس له ولد } وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد والكلالة وباب من أبواب الربا وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة قال : قال عمر بن الخطاب : ما سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال : [ يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ] هكذا رواه مختصرا وأخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا
( طريق أخرى ) قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك يعني ابن مغول يقول سمعت الفضل بن عمرو عن إبراهيم عن عمر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكلالة فقال : [ يكفيك آية الصيف ] فقال : لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا بين إبراهيم وبين عمر فإنه لم يدركه وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا أبو بكر عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن الكلالة فقال : [ يكفيك آية الصيف ] وهذا إسناد جيد رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر بن عياش به وكأن المراد بآية الصيف أنها نزلت في فصل الصيف والله أعلم ولما أرشده النبي صلى الله عليه و سلم إلى تفهمها فإن فيها كفاية نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن معناها ولهذا قال : فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا جرير الشيباني عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب قال : سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه و سلم عن الكلالة فقال : [ أليس قد بين الله ذلك ] فنزلت { يستفتونك } قال قتادة : وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته ألا إن الاية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد والاية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والاية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم والاية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت الرحم من العصبة رواه ابن جرير
( ذكر الكلام على معناها )
وبالله المستعان وعليه التكلان قوله تعالى : { إن امرؤ هلك } أي مات قال الله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الله عز و جل كما قال : { كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } قوله : { ليس له ولد } تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد ويدل على ذلك قوله : { وله أخت فلها نصف ما ترك } ولو كان معها أب لم ترث شيئا لأنه يحجبها بالإجماع فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ولا والد بالنص عند التأمل أيضا لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميرات بالكلية
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن مكحول وعطية وحمزة وراشد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم فأعطى الزوج النصف والأخت النصف فكلم في ذلك فقال : حضرت رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بذلك تفرد به أحمد من هذا الوجه وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت : ترك بنتا وأختا إنه لا شيء للأخت لقوله { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } قال : فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا فلا شيء للأخت وخالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض وللأخت النصف الاخر بالتعصيب بدليل غير هذه الاية وهذه الاية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة وأما وراثتها بالتعصيب فلما رواه البخاري من طريق سليمان عن إبراهيم عن الأسود قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم النصف للبنت والنصف للأخت ثم قال سليمان : قضى فينا ولم يذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال : للابنة النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني فسأل ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه و سلم النصف للبنت ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال : لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم
وقوله : { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة وليس لها ولد أي ولا والد لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئا فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم وصرف الباقي إلى الأخ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ] وقوله : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } أي فإن كان لمن يموت كلالة أختان فرض لهما الثلثان وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك }
وقوله : { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين وقوله { يبين الله لكم } أي يفرض لكم فرائضه ويحد لكم حدوده ويوضح لكم شرائعه وقوله : { أن تضلوا } أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان { والله بكل شيء عليم } أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى وقد قال أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب حدثني ابن علية أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين قال : كانوا في مسير ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول الله صلى الله عليه و سلم ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة قال ونزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } فلقاها رسول الله صلى الله عليه و سلم حذيفة فلقاها حذيفة عمر فلما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة فقال : والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقانيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فلقيتكها كما لقانيها رسول الله صلى الله عليه و سلم والله لا أزيدك عليها شيئا أبدا قال : فكان عمر يقول : اللهم إن كنت بينتها له فإنها لم تبين لي كذا رواه ابن جرير ورواه أيضا عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين كذلك بنحوه وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة
وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده : حدثنا يوسف بن حماد المعني ومحمد بن مرزوق قالا : حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة بن حذيقة عن أبيه ؟ قال : نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه و سلم وهو في مسير له فوقف النبي صلى الله عليه و سلم وإذا هو بحذيفة وإذا رأس ناقة حذيفة عند ردف راحلة النبي صلى الله عليه و سلم فلقاها إياه فنظر حذيفة فإذا عمر رضي الله عنه فلقاها إياه فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها فقال حذيفة : لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فلقيتكها كما لقاني رسول الله صلى الله عليه و سلم والله إني لصادق والله لا أزيدك شيئا أبدا ثم قال البزار : وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه إلا حذيفة ولا نعلم له طريقا عن حذيفة إلا هذا الطريق ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى وكذا رواه ابن مردويه من حديث عبد الأعلى وقال عثمان بن أبي شيبة : حدثنا جرير عن الشيباني عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف تورث الكلالة ؟ قال فأنزل الله { يستفتونك } الاية قال : فكأن عمر لم يفهم فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم طيب نفس فسليه عنها فرأت منه طيب نفس فسألته عنها فقال : [ أبوك ذكر لك هذا ما أرى أباك يعلمها ] قال : فكان عمر يقول ما أراني أعلمها وقد قال رسول الله ما قال رواه ابن مردويه ثم رواه من طريق ابن عيينة وعن عمرو عن طاوس أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكلالة فأملاها عليها في كتف فقال : [ من أمرك بهذا أعمر ؟ ما أراه يقيمها أوما تكفيه آية الصيف ] وآية الصيف التي في النساء { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة } فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم نزلت الاية التي هي خاتمة النساء فألقى عمر الكتف كذا قال في هذا الحديث وهو مرسل
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا عثام عن الأعمش عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : أخذ عمر كتفا وجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرقوا فقال : لو أراد الله عز و جل أن يتم هذا الأمر لأتمه وهذا إسناد صحيح وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري : حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني بالكوفة حدثنا الهيثم بن خالد حدثنا أبو نعيم حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب قال : لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ثلاث أحب إلي من حمر النعم : من الخليفة بعده ؟ وعن قوم قالوا : نقر بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة ثم قال : صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ثم روى بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة عن عمرو بن مرة عن مرة عن عمر قال : ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه و سلم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها : الخلافة والكلالة والربا ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال : سمعت سليمان الأحول يحدث عن طاوس قال : سمعت ابن عباس قال : كنت آخر الناس عهدا بعمر فسمعته يقول : القول ما قلت قلت : وما قلت ؟ قال : قلت : الكلالة من لا ولد له ثم قال : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه وهكذا رواه ابن مردويه من طريق زمعة بن صالح عن عمرو بن دينار وسليمان الأحول عن طاوس عن ابن عباس قال : كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب قال : اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة والقول ما قلت قال : وذكر أن عمر شرك بين الإخوة للأم والأب وبين الإخوة للأم في الثلث إذا اجتمعوا وخالفه أبو بكر رضي الله عنهما وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا محمد بن حميد العمري عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر كتب في الجد والكلالة كتابا فمكث يستخير الله يقول : اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه حتى إذا طعن دعا بكتاب فمحى ولم يدر أحد ما كتب فيه فقال : إني كنت كتبت كتابا في الجد والكلالة وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ماكنتم عليه قال ابن جرير : وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول : هو ما عدا الولد والوالد وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة في قديم الزمان وحديثه وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وقول علماء الأمصار قاطبة وهو الذي يدل عليه القرآن كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله : { يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم } والله أعلم (1/788)
سورة المائدة
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية شيبان عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لاخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة وروى ابن مردويه من حديث صباح بن سهل عن عاصم الأحول قال : حدثتني أم عمرو عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت عليه سورة المائدة فاندق عنق الراحلة من ثقلها وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها تفرد به أحمد وقد روى الترمذي عن قتيبة عن عبد الله بن وهب عن حيي عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وقد روي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة أنزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } وقد روى الحاكم في مستدركه من طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو رواية الترمذي ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الحاكم أيضا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا يحيى بن نصر قال : قرىء على عبد الله بن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه ثم قال : صحيح على شرط الشيخين لم يخرجاه ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح وزاد : وسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : القرآن ورواه النسائي من حديث ابن مهدي
بسم الله الرحمن الرحيم (2/5)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا مسعر حدثني معن وعوف أو أحدهما أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلي فقال : إذا سمعت الله يقول { يا أيها الذين آمنوا } فارعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه وقال : حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي عن الزهري قال : إذا قال الله { يا أيها الذين آمنوا } افعلوا فالنبي صلى الله عليه و سلم منهم وحدثنا أحمد بن سنان حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن خيثمة قال : كل شيء في القرآن { يا أيها الذين آمنوا } فهو في التوراة يا أيها المساكين فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي حدثنا معاوية يعني ابن هشام عن عيسى بن راشد عن علي بن بذيمة عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية { يا أيها الذين آمنوا } إلا أن عليا سيدها وشريفها وأميرها وما من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب فإنه لم يعاتب في شيء منه فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة وفي إسناده نظر
وقال البخاري : عيسى بن راشد هذا مجهول وخبره منكر قلت : وعلي بن بذيمة وإن كان ثقة إلا أنه شيعي غال وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل وقوله : فلم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا عليا إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي ونزل قوله { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } الاية وفي كون هذا عتابا نظر فإنه قد قيل : إن الأمر كان ندبا لا إيجابا ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل فلم يصدر من أحد منهم خلافه وقوله : عن علي أنه لم يعاتب في شيء من القرآن فيه نظر أيضا فإن الاية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء عمت جميع من أشار بأخذه ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعلم بهذا وبما تقدم ضعف هذا الأثر والله أعلم وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم فيه [ هذا بيان من الله ورسوله { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } فكتب الايات منها حتى بلغ { إن الله سريع الحساب } ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال : هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ويأخذ صدقاتهم فكتب له كتابا وعهدا وأمره فيه بأمره فكتب [ بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله ورسوله { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ]
قوله تعالى : { أوفوا بالعقود } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني بالعقود العهود وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك قال : والعهود ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } يعني العهود يعني ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله ولا تغدروا ولا تنكثوا ثم شدد في ذلك فقال تعالى : { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } إلى قوله { سوء الدار } وقال الضحاك : { أوفوا بالعقود } قال : ما أحل الله وحرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام وقال زيد بن أسلم { أوفوا بالعقود } قال : هي ستة : عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين وقال محمد بن كعب : هي خمسة منها حلف الجاهلية وشركة المفاوضة وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الاية { أوفوا بالعقود } قال : فهذه تدل على لزوم العقد وثبوته فيقتضي نفي خيار المجلس وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد والجمهور والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ البيعان بالخيار مالم يتفرقا ] وفي لفظ آخر للبخاري [ إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا ] وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع وليس هذا منافيا للزوم العقد بل هو من مقتضياته شرعا فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود
وقوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } هي الإبل والبقر والغنم قاله أبو الحسن وقتادة وغير واحد قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق مجالد عن أبي الوداك جبير بن نوفل عن أبي سعيد قال : قلنا : يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله ؟ فقال [ كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه ] وقال الترمذي : حديث حسن قال أبو داود : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عتاب بن بشير حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ ذكاة الجنين ذكاة أمه ] تفرد به أبو داود
وقوله { إلا ما يتلى عليكم } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وقال قتادة : يعني بذلك الميتة ومالم يذكر اسم الله عليه والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بذلك قوله { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض ولهذا قال { إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب } يعني منها فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه ولهذا قال تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم } أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال
وقوله تعالى : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } قال بعضهم : هذا منصوب على الحال والمراد بالأنعام ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ويعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر فاستثنى من الإنسي ما تقدم واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام وقيل : المراد أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام لقوله { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد وهكذا هنا أي كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال فحرموا الصيد في حال الإحرام فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ولهذا قال الله تعالى : { إن الله يحكم ما يريد } ثم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن من شعائر الله وقيل : شعائر الله محارمه أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ولهذا قال تعالى : { ولا الشهر الحرام } يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم كما قال تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } وقال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } الاية وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حجة الوداع [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات : ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ] وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت كما هو مذهب طائفة من السلف
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } يعني لا تستحلوا القتال فيه وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك الجزري واختاره ابن جرير أيضا وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم واحتجوا بقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } والمراد أشهر التسيير الأربعة قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة قال : وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان ولهذه المسألة بحث آخر له موضع أبسط من هذا
وقوله تعالى : { ولا الهدي ولا القلائد } يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام فإن فيه تعظيم شعائر الله ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها فإن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه و سلم بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعا ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين ثم أشعر هديه وقلده وأهل للحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } وقال بعض السلف إعظامها استحسانها واستسمانها قال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن رواه أهل السنن
وقال مقاتل بن حيان : وقوله { ولا القلائد } فلا تستحلوها وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به رواه ابن أبي حاتم ثم قال : حدثنا محمد بن عمار حدثنا سعيد بن سليمان قال : حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } وحدثنا المنذر بن شاذان حدثنا زكريا بن عدي حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال لا وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله
وقوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمنا وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغير واحد في قوله { يبتغون فضلا من ربهم } يعني بذلك التجارة وهذا كما تقدم في قوله { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وقوله { ورضوانا } قال ابن عباس : يترضون الله بحجهم وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الاية نزلت في الحطم بن هند البكري كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله عز و جل { ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا }
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس وأن هذا الحكم منسوخ في حقهم والله أعلم ـ فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به فهذا يمنع قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عام تسع لما أمر الصديق على الحجيج عليا وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وقال ابن أبي طلحة : عن ابن عباس قوله { ولا آمين البيت الحرام } يعني من توجه قبل البيت الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعدها { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } الاية وقال تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } وقال { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } فنفى المشركين من المسجد الحرام وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله { ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } قال : منسوخ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر فلم يعرض له أحد فإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسخها قوله { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله { ولا القلائد } يعني إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمنوهم قال ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك قال الشاعر :
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
وقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد وهذا أمر بعد الحظر والصحيح الذي يثبت على السير أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي فإن كان واجبا رده واجبا وإن كان مستحبا فمستحب أو مباحا فمباح ومن قال إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة ومن قال إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول والله أعلم وقوله { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا } من القراء من قرأ أن صدوكم بفتح الألف من أن ومعناها ظاهر أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد وهذه الاية كما سيأتي من قوله { ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه والعدل به قامت السموات والأرض وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم فأنزل الله هذه الاية والشنآن هو البغض قاله ابن عباس وغيره وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآنا بالتحريك مثل قولهم جمزان ودرجان ورقلان من جمز ودرج ورقل وقال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن فيقول شنان ولم أعلم أحدا قرأ بها ومنه قول الشاعر :
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم قال ابن جرير : الإثم ترك ما أمر الله بفعله والعدوان مجاوزة ما حد الله في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم وقد قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن جده أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ] قيل : يا رسول الله هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال [ تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره ] انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ] قيل : يا رسول الله هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال [ تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه ] وقال أحمد : حدثنا يزيد حدثنا سفيان بن سعيد عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال [ المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ] وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ] وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف كلاهما عن الأعمش به وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي حدثنا بكر بن عبد الرحمن حدثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى عن فضيل بن عمرو عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الدال على الخير كفاعله ] ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد قلت : وله شاهد في الصحيح [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ] وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي حدثنا أبي حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم عن الزبيدي قال عباس بن يونس : إن أبا الحسن نمران بن صخر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام ] (2/5)
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد وما ذاك إلا لما فيها من المضرة لما فيها من الدم المحتقن فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله عز و جل ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها لما رواه مالك في موطئه والشافعي وأحمد في مسنديهما وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ماء البحر فقال [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] وهكذا الجراد لما سيأتي من الحديث وقوله : { والدم } يعني به المسفوح كقوله { أو دما مسفوحا } قاله ابن عباس وسعيد بن جبير قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب المذحجي حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا عمرو يعني ابن قيس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال فقال : كلوه فقالوا : أنه دم فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن القاسم ! عن عائشة قالت : إنما نهى عن الدم السافح وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال ] وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا قلت : وثلاثتهم كلهم ضعفاء ولكن بعضهم أصلح من بعض وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات عن زيد بن أسلم عن ابن عمر فوقفه بعضهم عليه قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا بشير بن شريح عن أبي غالب عن أبي أمامة وهو صدي بن عجلان قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شرائع الإسلام فأتيتهم فبينما نحن كذلك إذ جاؤوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها فقالوا : هلم يا صدي فكل قال : قلت : ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم فأقبلوا عليه قالوا : وماذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الاية { حرمت عليكم الميتة والدم } الاية ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناده مثله وزاد بعده هذا السياق قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي فقلت : ويحكم اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش قال : وعلي عباءتي فقالوا : لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا قال : فاغتممت وضربت برأسي في العباء ونمت على الرمضاء في حر شديد قال : فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج لم ير الناس أحسن منه وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه فأمكنني منه فشربته فلما فرغت من شرابي استيقظت فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري حدثنا صدقة بن هرم عن أبي غالب عن أبي أمامة وذكر نحوه وزاد بعد قوله : بعد تيك الشربة فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها إن الله أطعمني وسقاني وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق :
وإياك والميتات لا تقربنها ولا تأخذن عظما حديدا فتفصدا
أي لا تفعل فعل الجاهلية وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئا محددا من عظم ونحوه فيفصد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة ثم قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تأتينه ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وقوله : { ولحم الخنزير } يعني إنسيه ووحشيه واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم ههنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله : { فإنه رجس أو فسقا } يعنون قوله تعالى : { إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس } أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه وهذا بعيد من حيث اللغة فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه ] فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره ؟ وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ] فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال [ لا هو حرام ] وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم : نهانا عن الميتة والدم
وقوله { وما أهل لغير الله به } أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها حرام بالإجماع وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية إما عمدا أو نسيانا كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن السنجاني حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال : نزل آدم بتحريم أربع { الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم فلما بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه وهذا أثر غريب وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ربعي عن عبد الله قال : سمعت الجارود بن أبي سبرة قال : هو جدي قال : كان رجل من بني رباح يقال له ابن وائل وكان شاعرا نافر غالبا أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء فلما وردت الماء قاما إليها بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم قال : وعلي بالكوفة قال : فخرج علي على بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم البيضاء وهو ينادي : يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها فإنها أهل بها لغير الله هذا أثر غريب ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا ابن حماد بن مسعدة عن عوف عن أبي ريحانة عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن معاقرة الأعراب ثم قال أبو داود محمد بن جعفر هو غندر : أوقفه على ابن عباس تفرد به أبو داود وقال أبو داود أيضا : حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن حريث قال : سمعت عكرمة يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل ثم قال أبو داود : أكثر من رواه غير ابن جرير لا يذكر فيه ابن عباس تفرد به أيضا
قوله : { والمنخنقة } وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به فهي حرام وأما { الموقوذة } فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت قال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب قال [ إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله ] ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمعراض ونحوه بحده فأحله وما أصاب بعرضه فجعله وقيذا لم يحله وهذا مجمع عليه عند الفقهاء واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين هما قولان للشافعي رحمه الله ( أحدهما ) لا يحل كما في السهم والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ ( والثاني ) إنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل فدل على إباحة ما ذكرناه لأنه قد دخل في العموم وقد قررت لهذه المسألة فصلا فليكتب ههنا
[ فصل ] ـ اختلف العلماء رحمهم الله تعالى فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه أوصدمه : هل يحل أم لا ؟ على قولين ( أحدهما ) أن ذلك حلال لعموم قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وكذا عمومات حديث عدي بن حاتم وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي رحمه الله وصححه بعض المتأخرين منهم كالنووي والرافعي ( قلت ) : وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر فإنه قال في كلا الموضعين : يحتمل معنيين ثم وجه كلا منهما فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه اللهم إلا أنه في بحثه للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به والقول بذلك ـ أعني الحل ـ نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة من رواية الحسن بن زياد عنه ولم يذكر غير ذلك وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وهذا غريب جدا وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم إلا أنه من تصرفه رحمه الله ورضي عنه
[ والقول الثاني ] ـ أن ذلك لا يحل وهو أحد القولين عن الشافعي رحمه الله واختاره المزني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا والله أعلم ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهذا القول أشبه بالصواب والله أعلم لأنه أجري على القواعد الأصولية وأمس بالأصول الشرعية واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خديج قلت : يا رسول الله إنا ملاقوا العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ قال [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ] الحديث بتمامه وهو في الصحيحين وهذا وإن كان واردا على سبب خاص فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع كما سئل عليه السلام عن البتع وهو نبيذ العسل فقال [ كل شراب أسكر فهو حرام ] أفيقول فقيه : إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل وهكذا هذا كما سألوه عن شيء من الذكاة فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسؤول عنه وغيره لأنه عليه السلام كان قد أوتي جوامع الكلم إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غمه بثقله ليس مما أنهر دمه فلا يحل لمفهوم هذا الحديث فإن قيل : هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء لأنهم إنما سألوه عن الالة التي يذكى بها ولم يسألوه عن الشيء الذي يذكى ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر حيث قال : [ ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة ] والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسؤول عنه هو الالة فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم فالجواب عن هذا بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا حيث يقول [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ] ولم يقل : فاذبحوا به فهذا يؤخذ منه الحكمان معا يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها وحكم المذكى وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرا هذا مسلك
[ والمسلك الثاني ] : طريقة المزني وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعرضه فلا تأكل وإن خزق فكل والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخزق لأنهما اشتركا في الموجب وهو الصيد فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل بل هذا أولى وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة فلا بد لهم من جواب عن هذا وله أن يقول : هذا قتله الكلب بثقله فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعرضه والجامع أن كلا منهما آلة للصيد وقد مات بثقله فيهما ولا يعارض ذلك بعموم الاية لأن القياس مقدم على العموم كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور وهذا مسلك حسن أيضا
[ مسلك آخر ] ـ وهو أن قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } عام فيما قتلن بجرح أو غيره لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو إما أن يكون نطيحا أو في حكمه أو منخنقا أو في حكمه وأيا ما كان فيجب تقديم هذه الاية على تلك الوجوه : ( أحدها ) أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الاية حالة الصيد حيث يقول لعدي بن حاتم : وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله ولم نعلم أحدا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الاية فقال : إن الوقيذ معتبر حالة الصيد والنطيح ليس معتبرا فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به وهو محظور عند كثير من العلماء ( الثاني ) أن تلك الاية { فكلوا مما أمسكن عليكم } ليست على عمومها بالإجماع بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ
[ المسلك الاخر ] ـ أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات فلا تحل قياسا على الميتة
[ المسلك الاخر ] ـ أن آية التحريم أعني قوله : { حرمت عليكم الميتة } إلى آخرها محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة أعني قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } الاية فينبغي أن لا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك وشاهد ذلك قصة السهم فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية وهو ما إذا خزقه المعراض فيكون حلالا لأنه من الطيبات وما دخل في حكم تلك الآية آية التحريم وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل لأنه وقيذ فيكون أحد أفراد آية التحريم وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا ( فإن قيل ) : فلم لا فصل في حكم الكلب فقال : ما ذكرتم إن جرحه فهو حلال وإن لم يجرحه فهو حرام
[ فالجواب ] أن ذلك نادر لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا وأما اصطدامه هو والصيد فنادر وكذا قتله إياه بثقله فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأما السهم والمعراض فتارة يخطىء لسوء رمي راميه أو للهو أو لنحو ذلك بل خطؤه أكثر من إصابته فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا والله أعلم ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال [ إن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه ] وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وبه قال الحسن والشعبي والنخعي وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه وروى ابن جرير في تفسيره عن علي وسعيد وسلمان وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس : إن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم وأومأ في الجديد إلى قولين قال ذلك الإمام أبو نصر بن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في صيد الكلب [ إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك ] ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال : يا رسول الله فذكر نحوه وقال محمد بن جرير في تفسيره : حدثنا عمران بن بكار الكلاعي حدثنا عبد العزيز بن موسى هو اللاحوني حدثنا محمد بن دينار هو الطاحي عن أبي إياس وهو معاوية بن قرة عن سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي ] ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه أبو قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب عن سلمان موقوفا
وأما الجمهور فقدموا حديث عدي على ذلك وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه فطال عليه الفصل ولم يجىء فأكل منه لجوعه ونحوه فإنه لا بأس بذلك لأنه والحالة هذه لا يخشى أنه إنما أمسك على نفسه بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه والله أعلم
فأما الجوارح من الطيور فنص الشافعي على أنها كالكلب فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ولا يحرم عند الآخرين واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد فيعفى عن ذلك وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير وقال الشيخ أبو علي في [ الإفصاح ] : إذا قلنا : يحرم ما أكل منه الكلب ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب لنص الشافعي رحمه الله على التسوية بينهما والله سبحانه وتعالى أعلم
وأما المتردية : فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك فلا تحل قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المتردية التي تسقط من جبل وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر
وأما النطيحة : فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة أي منطوحة وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث فيقولون : عين كحيل وكف خضيب ولا يقولون : كف خضيبة ولا عين كحيلة وأما هذه فقال بعض النحاة : إنما استعمل فيها تاء التأنيث لأنها أجريت مجرى الأسماء كما في قولهم : طريقة طويلة وقال بعضهم : إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة بخلاف عين كحيل وكف خضيب لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام
وقوله تعالى : { وما أكل السبع } أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها فلا تحل بالإجماع وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين
وقوله { إلا ما ذكيتم } عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة وذلك إنما يعود على قوله { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { إلا ما ذكيتم } يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه فهو ذكي وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي في الآية قال : إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها فكل وقال ابن جرير : حدثنا القاسم : حدثنا الحسين حدثنا هشيم وعباد قالا : حدثنا حجاج عن حصين عن الشعبي عن الحارث عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد : أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال وهذا مذهب جمهور الفقهاء وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل قال ابن وهب : سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها فقال مالك : لا أرى أن تذكى أي شيء يذكى منها ؟ وقال أشهب : سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل ؟ فقال : إن كان قد بلغ السحرة فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأسا قيل له : وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال : لا يعجبني هذا لا يعيش منه قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الأمعاء ؟ فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل هذا مذهب مالك رحمه الله وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها فيحتاج إلى دليل مخصص للآية والله أعلم
وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال : قلت : يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ فقال [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة ] وفي الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعا وفيه نظر وروي عن عمر موقوفا وهو أصح [ ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق ] وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال [ لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك ] وهو حديث صحيح ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة
وقوله { وما ذبح على النصب } قال مجاهد وابن جريج : كانت النصب حجارة حول الكعبة قال ابن جريج : وهي ثلاثمائة وستون نصبا كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب وكذا ذكره غير واحد فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله وينبغي أن يحمل هذا على هذا لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله
وقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } أي حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام واحدها زلم وقد تفتح الزاي فيقال : زلم وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوب : افعل وعلى الاخر : لا تفعل والثالث غفل ليس عليه شيء ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد : أمرني ربي وعلى الاخر : نهاني ربي والثالث غفل ليس عليه شيء فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله أو النهي تركه وإن طلع الفارغ أعاد والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا الحجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور وكذا روي عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومقاتل بن حيان وقال ابن عباس : هي قداح كانوا يستقسمون بها الأمور وذكر محمد بن إسحاق وغيره : إن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة فيها توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها وفي أيديهما الأزلام فقال [ قاتلهم الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا ]
وفي الصحيح : أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره لا تضرهم قال : فعصيت الأزلام واتبعتهم ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة كل ذلك يخرج الذي يكره لا تضرهم وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد عن رقية عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا ] وقال مجاهد في قوله { وأن تستقسموا بالأزلام } قال : هي سهام العرب وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار فيه نظر اللهم إلا أن يقال : إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة وفي القمار أخرى والله أعلم فإن الله سبحانه قد قرن بينها وبين القمار وهو الميسر فقال في آخر السورة : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } وهكذا قال ههنا { وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق } أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه
كما روى الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ويقول [ إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسميه باسمه ـ خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ـ أوقال : عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه واصرفه عني واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ] لفظ أحمد وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي
وقوله { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم ] ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ولهذا قال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحدا إلا الله فقال { فلا تخشوهم واخشون } أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم وأشف صدوركم منهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة (2/11)