وقال السدي عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: أقرأت القرآن ؟ قال: نعم، قال: أقرأت آل حم ؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم، قال: ما قرأت { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قال: وإنكم لأنتم هم ؟ قال: نعم، وقال أبو إسحق السبيعي: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى: { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال: قربى النبي صلى الله عليه وسلم رواهما ابن جرير.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلام، حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا، فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما - شك عبد السلام - لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟" قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: "ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أفلا تجيبوني ؟" قالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: "ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك أولم يكذبوك فصدقناك أولم يخذلوك فنصرناك" قال: فما زال صلى الله عليه وسلم يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا في أيدينا لله ولرسوله، قال: فنزلت { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن عبد المؤمن بن علي، عن عبد السلام عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف بإسناده مثله أو قريباً منه. وفي الصحيحين في قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية، وذكر نزولها في المدينة فيه نظر لأن السورة مكية وليس يظهر بين هذه الآية وهذا السياق مناسبة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا رجل سماه، حدثنا حسين الأشقر عن قيس عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال: "فاطمة وولدها رضي الله عنهما" وهذا إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل، وذكر نزول الآية في المدينة بعيد فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل ذريته رضي الله عنهم أجمعين.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض" وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال: "والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله".
ثم قال أحمد: حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب بن ربيعة،(4/137)
قال: دخل العباس رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله ودر عرق بين عينيه ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والله لا يدخل قلب امرىء مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي"، وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد، حدثنا شعبة عن واقد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر - هو الصديق - رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان التيمي، حدثني يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه، لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أما بعد، أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه وقال صلى الله عليه وسلم: "وأهل بيتي أذكركم في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال: إن نساءه لسن من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده، قال: ومن هم ؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم، قال: أكل هؤلاء حرم عليه الصدقة ؟ قال: نعم، وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق يزيد بن حيّان به.
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا علي بن المنذر الكوفي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترة أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما" تفرد بروايته ثم قال: هذا حديث حسن غريب. وقال الترمذي أيضاً: حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحسن عن جعفر بن محمد بن الحسن عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: "ياأيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي" تفرد به الترمذي أيضاً، وقال: حسن غريب، وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم.
ثم قال الترمذي أيضاً: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(4/138)
"أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي" ثم قال: حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد أوردنا أحاديث أخر عند قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } بما أغنى عن إعادتها ههنا، و لله الحمد والمنة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مفضل بن عبد الله عن أبي إسحاق عن حنش، قال: سمعت أبا ذر رضي الله عنه وهو آخذ بحلقة الباب يقول: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام من دخلها نجا، ومن تخلف عنها هلك" هذا بهذا الإسناد ضعيف.
وقوله عز وجل: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي ومن يعمل حسنة نزد له فيها حسناً أي أجراً وثواباً، كقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } ، وقال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها. وقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } أي يغفر الكثير من السيئات ويكثر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر، وقوله جل وعلا: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } أي لو افتريت عليه كذباً كما يزعم هؤلاء الجاهلون { يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } أي يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن، كقوله جل جلاله: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } أي لا نتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه.
وقوله جلت عظمته: { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ } ليس معطوفاً على قوله { يَخْتِمْ } فيكون مجزوماً بل هو مرفوع على الابتداء. قاله ابن جرير، قال: وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الإمام، كما حذفت في قوله: { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } وقوله تعالى: { وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ }. وقوله عز وجل { وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } معطوف على { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ } أي يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته، أي بحججه وبراهينه { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر.
{وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السّيّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرْضِ وَلَكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مّا يَشَآءُ إِنّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ وَهُوَ الّذِي يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيدُ}
يقول تعالى ممتناً على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه أنه من كرمه وحلمه أن يعفو ويصفح ويستر ويغفر، وكقوله عز وجل: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً } وقد ثبت في صحيح مسلم رحمة الله عليه، حيث قال: حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قالا: حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، وهو عمه رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت(4/139)
عبدي وأنا ربك - أخطأ من شدة الفرح". وقد ثبت أيضاً في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه.
وقال عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري في قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } إن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في المكان يخاف أن يقتله فيه العطش" وقال همام بن الحارث: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها ؟ قال: لا بأس به، وقرأ { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } الآية، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريح القاضي عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي، عن همام فذكره، وقوله عز وجل: { وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } أي يقبل التوبة في المستقبل، ويعفو عن السيئات في الماضي { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ومع هذا يتوب على من تاب إليه.
وقوله تعالى: { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال السدي: يعني يستجيب لهم، وكذا قال ابن جرير: معناه يستجيب لهم الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم، وحكاه عن بعض النحاة، وأنه جعلها كقوله عز وجل: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } ثم روى هو وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن شقيق بن سلمة، عن سلمة بن سبرة قال: خطبنا معاذ رضي الله عنه بالشام، فقال: أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة، والله إني لأرجو أن يدخل الله تعالى من تسبون من فارس والروم الجنة وذلك بأن أحدكم إذا عمل له - يعني أحدهم عملاً قال: أحسنت رحمك الله، أحسنت بارك الله فيك ثم قرأ { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }.
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل قوله: { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ } أي هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه كقوله تبارك وتعالى: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } والمعنى الأول أظهر لقوله تعالى: { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي يستجيب دعاءهم فوق ذلك. ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا بقية، حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قال: "الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفاً في الدنيا" وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله عز وجل: { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال: يشفعون في إخوانهم { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قال: يشفعون في إخوان إخوانهم. وقوله عز وجل { وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } لما ذكر المؤمنين ومالهم من الثواب الجزيل ذكر الكافرين ومالهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم.
وقوله تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً.
وقال قتادة: كان يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك، وذكر قتادة "إنما أخاف عليكم ما يخرج الله تعالى من زهرة الحياة الدنيا" وسؤال السائل: أيأتي الخير بالشر ؟ الحديث. وقوله عز وجل: { وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما جاء في الحديث المروي "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه".
وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا } أي من بعد إياس الناس من نزول المطر ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه كقوله عز وجل: { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } وقوله جل جلاله: { وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية. قال(4/140)
قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس. فقال عمر رضي الله عنه: مطرتم ثم قرأ { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثّ فِيهِمَا مِن دَآبّةٍ وَهُوَ عَلَىَ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ}
يقول تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر { خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا } أي ذرأ فيهما في السموات والأرض { مِنْ دَابَّةٍ } وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وقد فرقهم في أرجاء أقطار السموات والأرض { وَهُوَ } مع هذا كله { عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } أي يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.
وقوله عز وجل: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم { وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ } وفي الحديث الصحيح "والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها". وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب قال: قرأت في كتاب أبي قلابة قال نزلت { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وأبو بكر رضي الله عنه يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله إني أرى ما عملت من خير وشر، فقال: "أرأيت ما رأيت مما تكره، فهو من مثاقيل ذر الشر وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة" وقال: قال أبو إدريس: فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال والأول أصح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي عن الخضر بن القواس البجلي عن أبي سخيلة عن علي رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل، وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه" وكذا رواه الإمام أحمد عن مروان بن معاوية وعبدة عن أبي سخيلة قال: قال علي رضي الله عنه فذكر نحوه مرفوعاً.
ثم روى ابن أبي حاتم نحوه من وجه آخر موقوفاً فقال: حدثنا أبي، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح عن أبي الحسن عن أبي جحيفة قال دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه ؟ قال: فسألناه فتلا هذه الآية { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال ما عاقب الله تعالى به في الدنيا(4/141)
فالله أحلم من أن يثني عليه بالعقوبة يوم القيامة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود عفوه يوم القيامة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا طلحة يعني ابن يحيى عن أبي بردة عن معاوية هو ابن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله تعالى عنه به من سيئاته" وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسين عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن هو البصري قال في قوله تبارك وتعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قال لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر". وقال أيضاً: حدثنا أبي، حدثنا عمر بن علي، حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده فقال له بعضهم إنا لنبأس لك لما نرى فيك، قال فلا تبتئس بما ترى فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ثم تلا هذه الآية { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }.
وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن الحميد الحماني، حدثنا جرير عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وقد ذهب بصري وأنا غلام ؟ قال فبذنوب والديك. وحدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا وكيع عن عبد العزيز بن أبي داود عن الضحاك قال: ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ الضحاك { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىَ ظَهْرِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مّن مّحِيصٍ}
يقول تعالى ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره وهي الجواري في البحر كالأعلام أي كالجبال، قاله مجاهد والحسن والسدي والضحاك: أي هذه في البحر كالجبال في البر { إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ } أي التي تسير في البحر بالسفن لو شاء لسكنها حتى لا تحرك السفن بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب بل واقفة على ظهره أي على وجه الماء { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ } أي في الشدائد { شَكُورٍ } أي إن في تسخيره البحر وإجرائه الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم لدلالات على نعمه تعالى على خلقه لكل صبار أي في الشدائد شكور في الرخاء. وقوله عز وجل { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي ولو شاء لأهلك السفن وغرقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون فيها { وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } أي من ذنوبهم ولو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر.
وقال بعض علماء التفسير معنى قوله تعالى: { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهة(4/142)
مقصد، وهذا القول يتضمن هلاكها وهو مناسب للأول وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت، ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية ولو أنزله كثيراً جداً لهدم البنيان أو قليلاً لما أنبت الزرع والثمار حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحاً من أرض أخرى غيرها لأنهم لا يحتاجون إلى مطر ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم، وقوله تعالى: { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا.
{فَمَآ أُوتِيتُمْ مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ لِلّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ وَالّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}
يقول تعالى محقراً لشأن الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى: { فَمَآ أُوتِيتُمْ مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى: { لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.
ثم قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في سورة الأعراف { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } أي سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس ليس سجيتهم الانتقام من الناس. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة: "ما له تربت جبينه" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن زائدة عن منصور عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا عفوا.
وقوله عز وجل: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } أي اتبغوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } وهي أعظم العبادات لله عز جل { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال تبارك وتعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } الآية ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فاجتمع رأي الصحابة كلهم رضي الله عنهم على تقديم عثمان عليهم رضي الله عنهم { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب.
وقوله عز وجل: { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته: {لا قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه(4/143)
عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن غوث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ صلى الله عليه وسلم وهو في يده مصلتاً فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره و أمر هذا الرجل وعفا عنه وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن لبيد بن الأعصم الذي سحره عليه السلام ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية - وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة - التي سمت الذراع يوم خيبر - فأخبره الذراع بذلك فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على ذلك ؟" قالت: أردت إن كنت نبياً لم يضرك وإن لم تكن نبياً استرحنا منك فأطلقها عليه الصلاة والسلام ولكن لما مات منه بشر بن البراء رضي الله عنه قتلها به، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ}
قوله تبارك وتعالى: { وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } كقوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وكقوله: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } الآية، فشرع العدل وهو القصاص وندب إلى الفضل وهو العفو كقوله جل وعلا: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } ولهذا قال ههنا: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي لا يضيع ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث "وما زاد الله تعالى عبداً بعفو إلا عزاً" وقوله تعالى: { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي المعتدين وهو المبتدىء بالسيئة.
ثم قال جل وعلا: { َلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم. قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عون قال: كنت أسأل عن الانتصار في قوله تعالى: { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصنع بيده شيئاً فلم يفطن لها، فقلت بيده حتى فطنته لها فأمسك، وأقبلت زينب رضي الله عنها تقحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها، فأبت أن تنتهي، فقال لعائشة رضي الله عنها: "سبيها" فسبتها فغلبتها، وانطلقت زينب رضي الله عنها فأتت علياً رضي الله عنه فقالت إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقال صلى الله عليه وسلم لها: "إنها حبة أبيك ورب الكعبة" فانصرفت، وقالت لعلي رضي الله عنه: إني قلت له صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال لي كذا وكذا، قال: وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه في ذلك، هكذا أورد هذا السياق، وعلي بن زيد بن جدعان، يأتي في رواياته بالمنكرات غالباً، وهذا فيه نكارة، والصحيح خلاف هذا السياق، كما رواه النسائي وابن ماجه من حديث خالد بن سلمة الفأفاء، عن عبد الله البهي عن عروة، قال: قالت عائشة رضي الله عنها، ما علمت حتى دخلت علي زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها، ثم أقبلت علي(4/144)
فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دونك فانتصري" فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد علي شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه، وهذا لفظ النسائي.
وقال البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو غسان، حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص عن أبي حمزة واسمه ميمون، ثم قال: لا نعرفه إلا من حديثه، وقد تكلم فيه من قبل حفظه. وقوله عز وجل: { إِنَّمَا السَّبِيلُ } أي إنما الحرج والعنت { عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي يبدءون الناس بالظلم، كما جاء في الحديث الصحيح "المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم" { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي شديد موجع.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد، حدثنا عثمان الشحام، حدثنا محمد بن واسع قال: قدمت مكة فإذا على الخندق منظرة، فأخذت حاجتي فانطلق بي إلى مروان بن المهلب، وهو أمير على البصرة فقال ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت: حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي، قال: ومن أخو بني عدي ؟ قال العلاء بن زياد: استعمل صديقاً له مرة على عمل، فكتب إليه: أما بعد، فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ذلك، لم يكن عليك سبيل { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فقال مروان: صدق والله ونصح، ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله، قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي، قال: نعم، رواه ابن أبي حاتم، ثم إن الله تعالى، لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص، قال نادباً إلى العفو والصفح: { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ } ، أي صبر على الأذى، وستر السيئة { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } قال سعيد بن جبير: يعني لمن حق الأمور التي أمر الله بها، أي لمن الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل، وثناء جميل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي، حدثنا مصمد بن يزيد خادم الفضيل بن عياض قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً، فقل: يا أخي اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى يعني ابن سعيد القطان، عن ابن عجلان، حدثنا سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي وقام، فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: "إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان - ثم قال - يا أبا بكر: ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها الله، إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة، إلا زاده الله عز وجل بها قلة" وكذا رواه أبو داود عن عبد الأعلى بن حماد عن سفيان بن عيينة قال: ورواه صفوان بن عيسى كلاهما عن محمد بن عجلان، ورواه من طريق الليث عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب مرسلاً، وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى، وهو مناسب للصديق رضي الله عنه.(4/145)
{وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىَ مَرَدّ مّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيّ وَقَالَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ الْخَاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنّ الظّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ اللّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ}
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه ما يشاء كان ولا راد له، وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له، وأنه من هداه فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، كما قال عز وجل: { وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً } ثم قال عز وجل مخبراً عن الظالمين وهم المشركون بالله: { لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } أي يوم القيامة تمنوا الرجعة إلى الدنيا { يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } كما قال جل وعلا: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }. وقوله عز وجل: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي على النار { خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ } أي الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى { يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } قال مجاهد: يعني ذليل أي ينظرون إليها مسارقة خوفاً منها والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، وما هو أعظم مما في نفوسهم، أجارنا الله من ذلك. { وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي يقولون يوم القيامة { إِنَّ الْخَاسِرِينَ } أي الخسار الأكبر { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد وخسروا أنفسهم، وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وأهاليهم وقراباتهم فخسروهم { أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ } أي دائم سرمدي أبدي لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها. وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ } أي ليس له خلاص.
{اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ مَا لَكُمْ مّن مّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نّكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاَغُ وَإِنّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنّ الإِنسَانَ كَفُورٌ}
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة، حذر منه وأمر بالاستعداد له، فقال: { اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ } أي إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون، وليس له دافع ولا مانع. وقوله عز وجل: { مَا لَكُمْ مّن مّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نّكِيرٍ } أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته، فلا ملجأ منه إلا إليه {يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر} وقوله تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُوا } يعني المشركين { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي لست عليهم بمسيطر، وقال عز وجل: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وقال تعالى: { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } وقال جل وعلا ههنا: { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ } أي إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم.
ثم قال تبارك وتعالى: { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } أي إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك { وَإِنْ(4/146)
تُصِبْهُمْ } يعني الناس { سَيِّئَةٌ } أي جدب وبلاء وشدة { فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ } أي يجحد ما تقدم من النعم ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: "يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة: ولم يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوماً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط" وهذا حال أكثر النساء، إلا من هداه الله تعالى وألهمه رشده، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".
{لِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}
يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً } أي يرزقه البنات فقط. قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام. { إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذّكُورَ } أي يرزقه البنين فقط، قال البغوي: كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى { أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } أي يعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى أي هذا وهذا، قال البغوي: كمحمد صلى الله عليه وسلم { وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً } أي لا يولد له. قال البغوي: كيحيى وعيسى عليهما السلام، فجعل الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد له. { إِنَّهُ عَلِيمٌ } أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام { قَدِيرٌ } أي على من يشاء من تفاوت الناس في ذلك، وهذا المقام شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي دلالة على قدرته تعالى وتقدس حيث خلق الخلق على أربعة أقسام، فآدم عليه الصلاة والسلام مخلوق من تراب لا من ذكر وأنثى، وحواء عليها السلام مخلوقة من ذكر بلا أنثى، وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام من ذكر وأنثى، وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر، فتمت الدلالة بخلق عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام. ولهذا قال تعالى: { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } فهذا المقام في الآباء والمقام الأول في الأبناء وكل منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير.
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نّهْدِي بِهِ مَن نّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الأمور}
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جنات الله عز وجل، وهو أنه تبارك وتعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(4/147)
"إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وقوله تعالى: { أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحاً" كذا جاء في الحديث، وكان قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا. وقوله عز وجل: { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إ } كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } فهو علي عليم خبير حكيم. وقوله عز وجل: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا } يعني القرآن { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ } أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} أي القرآن { نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } كقوله تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً } الآية.
وقوله تعالى: { وَإِنَّكَ } أي يا محمد { لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهو الخلق القويم، ثم فسره بقوله تعالى: { صِرَاطِ اللَّهِ } أي وشرعه الذي أمر به الله {الذي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } أي ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه { أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } أي ترجع الأمور فيفصلها ويحكم فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.(4/148)
سورة الزخرف
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{حمَ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنّهُ فِيَ أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مّسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نّبِيّ فِي الأوّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نّبِيّ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىَ مَثَلُ الأوّلِينَ}
يقول تعالى: { حمَ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } أي البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ، لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، ولهذا قال تعالى: {إنا جعلناه} أي نزلناه { قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي بلغة العرب فصيحاً واضحاً { لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي تفهمونه وتتدبرونه، كما قال عز وجل: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }. وقوله تعالى: { وَإِنّهُ فِيَ أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيمٌ } بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى: { وَإِنَّهُ} أي القرآن { أُمِّ الْكِتَابِ } أي اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد { لَدَيْنَا } أي عندنا، قاله قتادة وغيره { لَعَلِيٌّ} أي ذو مكانة وشرف وفضل قاله قتادة { حَكِيمٌ} أي محكم بريء من اللبس والزيغ. وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله، كما قال تبارك وتعالى: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وقال تعالى: { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف كما ورد به الحديث إِن صح، لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى، لأنه نزل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم، لقوله تعالى: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }.
وقوله عز وجل: { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ؟} اختلف المفسرون في معناها فقيل معناها أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأبو الصالح ومجاهد والسدي واختاره ابن جرير، وقال قتادة في قوله تعالى {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً } والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاه إليهم عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك، وقول قتادة لطيف المعنى جداً، وحاصله أنه يقول في معناه إنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.
ثم قال جل وعلا مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه وآمراً له بالصبر عليهم: { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي(4/149)
الْأَوَّلِينَ } أي في شيع الأولين { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي يكذبونه ويسخرون به. وقوله تبارك وتعالى: { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أي فأهلكنا المكذبين بالرسل، وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد، كقوله عز وجل: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } والآيات في ذلك كثيرة جداً. وقوله جل جلاله: { وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ } قال مجاهد: سنتهم. وقال قتادة: عقوبتهم. وقال غيرهما: عبرتهم، أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله تعالى في آخر هذه السورة: { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ } وكقوله جلت عظمته: { سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } وقال عز وجل: { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ خَلَقَهُنّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالّذِي نَزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنّآ إِلَىَ رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ}
يقول تعالى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله، العابدين معه غيره { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد، ثم قال تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي فراشاً قراراً ثابتة تسيرون عليها وتقومون وتنامون وتنصرفون، مع أنها مخلوقة على تيار الماء، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي طرقاً بين الجبال والأودية { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، { وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ } أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم.
وقوله تبارك وتعالى: { فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً } أي أرضاً ميتة، فلما جاءها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ثم نبه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها، فقال: { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } ثم قال عز وجل: { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير وغير ذلك. ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ } أي السفن { وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } أي ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها، ولهذا قال جل وعلا: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } أي لتستووا متمكنين مرتفعين { عَلَى ظُهُورِهِ } أي على ظهور هذا الجنس { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ } أي فيما سخر لكم { إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي مقاومين، ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والسدي وابن زيد: مقرنين، أي مطيقين، { وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ }.(4/150)
ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة
(حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) رضي الله عنه. قال الإمام: حدثنا يزيد، حدثنا شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة قال: رأيت علياً رضي الله عنه أتى بدابة، فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى عليها قال: الحمد لله { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } ثم حمد الله تعالى ثلاثاً وكبر ثلاثاً، ثم قال: سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك، فقلت له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ فقال رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثلما فعلت ثم ضحك، فقلت: مم ضحكت يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال رب اغفر لي، ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري" وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي الأحوص، زاد النسائي ومنصور عن أبي إسحاق السبيعي عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي به. وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد قال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة:قلت لأبي إسحاق السبيعي: ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال: من يونس بن خباب، فلقيت يونس بن خباب فقلت: ممن سمعته ؟ فقال: من رجل سمعه من علي بن ربيعة، ورواه بعضهم عن يونس بن خباب عن شقيق بن عقبة الأسدي عن علي بن ربيعة الوالبي به.
(حديث عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته، فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وحمد ثلاثاً، وهلل واحدة، ثم استلقى عليه وضحك، ثم أقبل عليه فقال: "ما من امرىء مسلم يركب فيصنع كما صنعت، إلا أقبل الله عز وجل عليه، فضحك إليه كما ضحكت إليك" تفرد به أحمد.
(حديث عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن علي بن عبد الله البارقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثاً ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون - ثم يقول - اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا". وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى أهله قال: "آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون" وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج، والترمذي من حديث حماد بن سلمة، كلاهما عن أبي الزبير به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عمرو بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج، فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من بعير إلا في ذروته شيطان، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم، ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عز وجل" أبو لاس اسمه محمد بن الأسود بن خلف.
(حديث آخر) في معناه - قال أحمد: حدثنا عتاب، أخبرنا عبد الله، وعلي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك، أخبرنا أسامة بن زيد، أخبرني محمد بن حمزة أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله عز وجل ثم لا تقصروا عن حاجاتكم".
{وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مّبِينٌ أَمِ اتّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم(4/151)
بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرّحْمَنِ مَثَلاً ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله تعالى، كما ذكر الله عز وجل عنهم في سورة الأنعام في قوله تبارك وتعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وكذلك جعلوا له في قسمي البنات والبنين أخسهما وأردأهما وهو البنات، كما قال تعالى: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } وقال جل وعلا ههنا: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ } ثم قال جل وعلا: { أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ } وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار. ثم ذكر تمام الإنكار، فقال جلت عظمته { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك، يقول تبارك وتعالى: فكيف تأنفون من ذلك وتنسبونه إلى الله عز وجل، ثم قال سبحانه وتعالى: { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عيية أومن يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم، فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص كما قال بعض شعراء العرب:
وما الحلي إلا زينة من نقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
وأما إذا كان الجمال موفراً ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار لا عبارة لها ولا همة، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت: ما هي بنعم الولد نصرها بكاء، وبرها سرقة، وقوله تبارك وتعالى: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً } أي اعتقدوا فيهم ذلك، فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال: {أَشهدوا خلقهم} أي شاهدوه وقد خلقهم الله إناثاً { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُم } أي بذلك { وَيُسْأَلونَ } عن ذلك يوم القيامة وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله، فإنه عالم بذلك وهو يقرنا عليه، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ:
(أحدها) جعلهم لله تعالى ولداً، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً.
(الثاني) دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً.
(الثالث) عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عز وجل، بل بمجرد الآراء والأهواء والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء والخبط في الجاهلية الجهلاء.
(الرابع) احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً، وقد جهلوا في هذا الإحتجاج جهلاً كبيراً، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب(4/152)
يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } وقال عز وجل: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال جل وعلا في هذه الآية بعد أن ذكر حجتهم هذه: { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي بصحة ما قالوه واحتجوا به { إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } أي يكذبون ويتقولون. وقال مجاهد في قوله تعالى :{ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوَاْ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىَ مِمّا وَجَدتّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ}
يقول تعالى منكراً على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة {أم أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ } أي من قبل شركهم { فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } أي فيما هم فيه ليس الأمر كذلك، كقوله عز وجل: { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } أي لم يكن ذلك. ثم قال تعالى: { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد بأنهم كانوا على امة، والمراد بها الدين ههنا. وفي قوله تبارك وتعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } وقولهم: { وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ } أي وراءهم { مُهْتَدُونَ } دعوى منهم بلا دليل. ثم بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل، تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } وهكذا قال ههنا: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } ثم قال عز وجل: {قل} أي يا محمد لهؤلاء المشركين { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } أي لو علموا وتيقنوا صحة ما جئتم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله. قال الله تعالى: { فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أي كيف بادوا وهلكوا وكيف نجى الله المؤمنين.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ إِلاّ الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتّعْتُ هَؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ جَآءَهُمُ الْحَقّ وَرَسُولٌ مّبِينٌ وَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىَ رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا(4/153)
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً لّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلّ ذَلِكَ لَمّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا والآخرة عِندَ رَبّكَ لِلْمُتّقِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي إليها.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله عز وجل: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } يعني لا إله إلا الله لا يزال في ذريته من يقولها، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال ابن زيد: كلمة الإسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة، ثم قال جل وعلا: { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ } يعني المشركين { وَآبَاءَهُمْ } أي فتطاول عليهم العمر في ضلالهم { حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ } أي بين الرسالة والنذارة { وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } أي كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والراح كفراً وحسداً وبغياً { وَقَالُوا } أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس { لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } أي هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين ؟ يعنون مكة والطائف، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد، وقد ذكر غير واحد منهم أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي وقال مالك عن زيد بن أسلم والضحاك والسدي: يعنون الوليد بن المغيرة ومسعود بن عمرو الثقفي. وعن مجاهد: يعنون عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي وعنه أيضاً أنهم يعنون عتبة بن ربيعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: جباراً من جبابرة قريش، وعنه رضي الله عنهما أنهم يعنون الوليد بن المغيرة وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وعن مجاهد: يعنون عتبة بن ربيعة بمكة وابن عبد ياليل بالطائف. وقال السدي: عنوا بذلك الوليد بن المغيرة وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي، والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان قال الله تبارك وتعالى راداً عليهم في هذا الإعتراض { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } أي ليس الأمر مردوداً إليهم. بل إلى الله عز وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً. وأشرفهم بيتاً، وأطهرهم أصلاً.
ثم قال عز وجل مبيناً أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، فقال: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية. وقوله جلت عظمته: { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً } قيل معناه ليسخر بعضهم بعضاً في الأعمال لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، قاله السدي وغيره. وقال قتادة والضحاك ليملك بعضهم بعضاً وهو راجع إلى الأول: ثم قال عز وجل: { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } أي رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا، ثم قال سبحانه وتعالى: { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال هذا معنى قول ابن عباس(4/154)
والحسن وقتادة والسدي وغيرهم { لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } أي سلالم ودرجاً من فضة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي يصعدون ولبيوتهم أبواباً أي أغلاقاً على أبوابهم { وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } أي جميع ذلك يكون فضة { وَزُخْرُفاً } أي وذهباً، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد.
ثم قال تبارك وتعالى: { وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى، أي يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الآخرة، وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها كما ورد به الحديث الصحيح. وورد في حديث آخر "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء" أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافراً منها شيئاً" ثم قال سبحانه وتعالى: { وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم، ولهذا لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى صلى الله عليه وسلم من نسائه فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس وقال: "أو فيّ شاك أنت يا ابن الخطاب ؟" ثم قال صلى الله عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" وفي رواية "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة". وفي الصحيحين أيضاً وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتهم كما روى الترمذي وابن ماجه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبداً" قال الترمذي: حسن صحيح.
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنّهُمْ لَيَصُدّونَهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ حَتّىَ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظّلَمْتُمْ أَنّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصّمّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ فَإِمّا نَذْهَبَنّ بِكَ فَإِنّا مِنْهُم مّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَيْهِمْ مّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالّذِيَ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنّكَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}
يقول تعالى: { وَمَن يَعْشُ } أي يتعامى ويتغافل ويعرض { عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } والعشا في العين ضعف بصرها، والمراد ههنا عشا البصيرة {نقيض له شيطاناً فهو له قرين} كقوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } الآية، وكقوله: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وكقوله جل جلاله: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } الآية، ولهذا قال تبارك وتعالى ههنا: { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ(4/155)
عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا } أي هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ويهديه إلى صراط الجحيم. فإذا وافى الله عز وجل يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به { قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } وقرأ بعضهم { حَتَّى إِذَا جَاءَنَا } يعني القرين والمقارن. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سعيد الجريري قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة سفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله تبارك وتعالى إلى النار، فذلك حين يقول { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } والمراد بالمشرقين هاهنا هو ما بين المشرق والمغرب وإنما استعمل هاهنا تغليباً كما يقال: القمران والعمران والأبوان، قاله ابن جرير وغيره.
ثم قال تعالى: { وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } أي لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم. وقوله جلت عظمته: { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ وليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحكم العدل في ذلك ثم قال تعالى: { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} أي لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت { أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ } أي نحن قادرون على هذا وعلى هذا ولم يقبض الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقر عينه من أعدائه وحكمه في نواصيهم، وملكه ما تضمنته صياصيهم! هذا معنى قول السدي واختاره ابن جرير.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر قال: تلا قتادة { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } فقال: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة، ولن يري الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته شيئاً يكرهه حتى مضى، ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال: وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته من بعده فما رئي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله عز وجل، وذكر من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة نحوه، ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضاً، وفي الحديث "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون" ثم قال عز وجل { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي خذ بالقرآن المنزل على قلبك، فإنه هو الحق وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم الموصل إلى جنات النعيم والخير الدائم المقيم.
ثم قال جل جلاله: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } قيل معناه لشرف لك ولقومك، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه وأورد البغوي ههنا حديث الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين" رواه البخاري ومعناه أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم، فهم أفهم الناس له فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه، وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلص من المهاجرين السابقين الأولين ومن شابههم وتابعهم، وقيل معناه { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ } أي لتذكير لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم، كقوله تعالى: { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ } وكقوله تبارك وتعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} { وَسَوْفَ تُسْأَلونَ } أي عن هذا القرآن، وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له.
وقوله سبحانه وتعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله جلت عظمته: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } قال مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: واسأل(4/156)
الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا. وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا كأنه تفسير لا تلاوة، والله أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: واسألهم ليلة الإسراء، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جمعوا له، واختار ابن جرير الأول، والله أعلم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنّي رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ فَلَمّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مّنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيِهِم مّنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُواْ يَأَيّهَا السّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}
يقول تعالى مخبراً عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة والأتباع والرعايا من القبط وبني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وأنه بعث معه آيات عظاماً كيده وعصاه، وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات، ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها، وكذبوها وسخروا منها وضحكوا ممن جاءهم بها { وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، وجهلهم وخبالهم وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى عليه الصلاة والسلام ويتلطفون له في العبارة بقولهم: { يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ } أي العالم، قاله ابن جرير، وكان علماء زمانهم هم السحرة. ولم يكن السحر في زمانهم مذموماً عندهم فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك، وإنما هو تعظيم في زعمهم، ففي كل مرة يعدون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه، وهذا كقوله تبارك وتعالى: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ }.
{وَنَادَىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيَ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مّنْ هَذَا الّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلاَخِرِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده، أنه جمع قومه فنادى فيهم متبجحاً مفتخراً بملك مصر وتصرفه فيها { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } قال قتادة: قد كانت لهم(4/157)
جنات وأنهار ماء { أَفَلا تُبْصِرُونَ } أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك، يعني موسى وأتباعه فقراء ضعفاء وهذا كقوله تعالى : { فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى }.
وقوله: { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } قال السدي: يقول بل أنا خير من هذا الذي هو مهين، وهكذا قال بعض نحاة البصرة: إن أم ههنا بمعنى بل، ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قال ابن جرير: ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحاً واضحاً، ولكنها خلاف قراءة الأمصار فإنهم قرأوا { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } على الاستفهام (قلت) وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون لعنه الله بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام، وقد كذب في قوله هذا كذباً بيناً واضحاً) فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. ويعني بقوله مهين كما قال سفيان حقير، وقال قتادة والسدي: يعني ضعيف. وقال ابن جرير: يعني لا ملك له ولا سلطان ولا مال { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } يعني لا يكاد يفصح عن كلامه فهو عيي حصر. قال السدي { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } أي لا يكاد يفهم. وقال قتادة والسدي وابن جرير: يعني عيي اللسان، وقال سفيان: يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فمه وهو صغير، وهذا الذي قاله فرعون لعنه الله كذب واختلاق، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد وهو ينظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام بعين كافرة شقية، وقد كان موسى عليه السلام من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الألباب.
وقوله: { مَهِينٌ } كذب. بل هو المهين الحقير خلقة وخلقاً وديناً، وموسى هو الشريف الصادق البار الراشد. وقوله: { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } افتراء أيضاً فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل الله عز وجل أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله تبارك وتعالى له ذلك في قوله: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } وبتقدير أن يكون قد بقي شيء لم يسأل إزالته، كما قاله الحسن البصري وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام، فالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل، فهو يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته فإنهم كانوا جهلة أغبياء وهكذا قوله: { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أ } وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي. قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وغير واحد { أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } أي يكنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه، نظر إلى الشكل الظاهر ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم، ولهذا قال تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } قال الله تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: آسفونا أسخطونا، وقال الضحاك عنه: أغضبونا، وهكذا قال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وغيرهم من المفسرين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله بن أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثنا ابن لهيعة عن عقبة بن مسلم التجيبي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له" ثم تلا صلى الله عليه وسلم: { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، حدثنا قيس بن الربيع عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله رضي الله عنه، فذكر عنده موت الفجأة، فقال: تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر، ثم قرأ رضي الله عنه { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: وجدت النقمة مع الغفلة يعني قوله تبارك وتعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ(4/158)
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله سبحانه وتعالى: { َجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ } قال أبو مجلز: سلفاً لمثل من عمل بعملهم. وقال هو ومجاهد: ومثلاً أي عبرة لمن بعدهم، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
{وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ وَقَالُوَاْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مّلاَئِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنّهُ لَعِلْمٌ لّلسّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنّ بِهَا وَاتّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ وَلاَ يَصُدّنّكُمُ الشّيْطَانُ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ وَلَمّا جَآءَ عِيسَىَ بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلاُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ إِنّ اللّهَ هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
يقول تعالى مخبراً عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل: { وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ} قال غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك: يضحكون أي أعجبوا بذلك، وقال قتادة: يجزعون ويضحكون. وقال إبراهيم النخعي: يعرضون، وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } الآيات.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى التميمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، سلوا محمداً أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح عيسى بن مريم فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسوله الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته" فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان، الذين مضوا على طاعة الله عز وجل، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله، ونزل فيما يذكر من أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } الآيات ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي يصدون أمرك بذلك من قوله. ثم ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام فقال: { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } أي ما(4/159)
وضع على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلاً على علم الساعة يقول: { فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }.
وذكر ابن جرير من رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } قال: يعني قريشاً، لما قيل لهم: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إلى آخر الآيات. فقالت له قريش: فما ابن مريم ؟ قال: "ذاك عبد الله ورسوله" فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم رباً، فقال الله عز وجل: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا شيبان عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي رزين، عن أبي يحيى مولى ابن عقيل الأنصاري، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجل قط، ولا أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أو لم يفطنوا لها فيسألوا عنها. ثم طفق يحدثنا، فلما قام تلاومنا أن لا نكون سألناه عنها، فقلت: أنا لها إذا راح غداً، فلما راح الغد قلت: يا ابن عباس ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل قط، فلا تدري أعلمها الناس أم لم يفطنوا لها، فقلت: أخبرني عنها وعن اللاتي قرأت قبلها.
قال رضي الله عنه: نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير" وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، وما تقول في محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد ألست تزعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً، فإن كنت صادقاً كان آلهتهم كما يقولون. قال: فأنزل الله عز وجل: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } قلت: ما يصدون ؟ قال: يضحكون { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } قال: هو خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قبل يوم القيامة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يعقوب الدمشقي، حدثنا آدم، حدثنا شيبان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي أحمد مولى الأنصار عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير" فقالوا له: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً فقد كان يعبد من دون الله ؟ فأنزل الله عز وجل: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } وقال مجاهد في قوله تعالى: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } قالت قريش إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى عليه السلام. ونحو هذا قال قتادة وقوله: { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } قال قتادة: يقولون آلهتنا خير منه وقال قتادة: قرأ ابن مسعود رضي الله عنه وقالوا أآلهتنا خير أم هذا، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقوله تبارك وتعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً } أي مراء، وهم يعلمون أنه بوارد على الآية، لأنها لما لا يعقل، وهي قوله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ثم هي خطاب لقريش، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه، فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلاً منهم ليسوا يعتقدون صحتها وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا ابن نمير، حدثنا حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } وقد رواه الترمذي وابن ماجة وابن جرير من حديث حجاج بن دينار به، ثم قال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديثه كذا قال وقد روي من وجه آخر عن أبي أمامة رضي الله عنه بزيادة، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا حميد بن عياش الرملي، حدثنا مؤمل، حدثنا حماد، أخبرنا ابن مخزوم عن القاسم أبي عبد الرحمن الشامي عن أبي(4/160)
أمامة رضي الله عنه، قال حماد: لا أدري رفعه أم لا ؟ قال: ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالها التكذيب بالقدر، وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل، ثم قرأ { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا أبو كريب، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن عن عبادة بن عباد عن جعفر عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن، فغضب غضباً شديداً حتى كأنما صب على وجهه الخل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل" ثم تلا صلى الله عليه وسلم { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } وقوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } يعني عيسى عليه الصلاة والسلام. ما هو إلا عبد من عباد الله عز وجل أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة. { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ } أي دلالة وحجة وبرهاناً على قدرتنا على ما نشاء، وقوله عز وجل: { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ} أي بدلكم { مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } قال السدي: يخلفونكم فيها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: يخلف بعضهم بعضاً كما يخلف بعضكم بعضاً، وهذا القول يستلزم الأول، قال مجاهد: يعمرون الأرض بدلكم.
وقوله سبحانه وتعالى: { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } تقدم تفسير ابن إسحاق أن المراد من ذلك ما بعث به عيسى عليه الصلاة والسلام، من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الأسقام، وفي هذا نظر وأبعد منه ما حكاه قتادة عن الحسن البصري وسعيد بن جبير، أن الضمير في وأنه عائد على القرآن، بل الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام فإن السياق في ذكره، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة، كما قال تبارك وتعالى: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } أي أمارة ودليل على وقوع الساعة. قال مجاهد { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } أي آية للساعة خروج عيسى بن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة، وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً.
وقوله تعالى: { فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي لا تشكوا فيها أنها واقعة وكائنة لا محالة { وَاتَّبِعُونِ } أي فيما أخبركم به { هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } أي عن اتباع الحق { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أي بالنبوة { وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } قال ابن جرير يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية، وهذا الذي قاله حسن جيد ثم رد قول من زعم أن بعض ههنا بمعنى كل، واستشهد بقول لبيد الشاعر حيث قال:
نزال أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
وأولوه على أنه أراد جميع النفوس. قال ابن جرير إنما أراد نفسه فقط، وعبر بالبعض عنها، وهذا الذي قاله محتمل. وقوله عز وجل: { فَاتَّقُوا اللَّهَ } أي فيما أمركم به { وَأَطِيعُونِ } فيما جئتكم به { إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أي أنا وأنتم عبيد له فقراء مشتركون في عبادته وحده لا شريك له { هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم وهو عبادة الرب جل وعلا وحده. وقوله سبحانه وتعالى: { فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } أي اختلفت الفرق وصاروا شيعاً فيه، منهم من يقر(4/161)
بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول إنه الله. تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ولهذا قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }.
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ يَعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ}
يقول تعالى: هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل { إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي فإنها كائنة لا محالة وواقعة، وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها فحينئذ يندمون كل الندم حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم، وقوله تعالى: { الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ } أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة، إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة، فذكر خليله فقال: اللهم إن فلاناً خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثلما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له اذهب فلو تعلم ماله عندي لضحكت كثيراً وبكيت قليلاً قال: ثم يموت الآخر فتجتمع أرواحهما فيقال: ليثنِ أحدكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل. وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك. ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك. اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي. قال: فيموت الكافر الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثنِ كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل! رواه ابن أبي حاتم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة: صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين، وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن أحمد عن هشام بن عبد الله بن كثير، حدثنا أبو جعفر محمد بن الخضر بالرقة عن معافي، حدثنا حكيم بن نافع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي أحببته فيّ".
وقوله تبارك وتعالى: { يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } ثم بشرهم فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا(4/162)
بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } أي آمنت قلوبهم وبواطنهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم، قال المعتمر بن سليمان عن أبيه: إذا كان يوم القيامة فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع فينادي مناد { يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } فيرجوها الناس كلهم، قال: فيتبعها { الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } قال: فييأس الناس منها غير المؤمنين. { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ } أي يقال لهم ادخلوا الجنة { أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } أي نظراؤكم { تُحْبَرُونَ } أي تتنعمون وتسعدون وقد تقدم في سورة الروم. { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ } أي زبادي آنية الطعام { وَأَكْوَابٍ } وهي آنية الشراب أي من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ } وقرأ بعضهم تشتهيه الأنفس { وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } أي طيب الطعام والريح وحسن المنظر. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد قال: إن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب، ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى مثله، شهوته في آخرها كشهوته في أولها، ولو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئاً".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا عمرو بن سواد السرحي، حدثني عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم وذكر الجنة فقال: "والذي نفس محمد بيده، ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه، ثم يخطر على باله طعام آخر فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن هو ابن موسى حدثنا سكين بن عبد العزيز، حدثنا الأشعث الضرير عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من له لسبع درجات وهو على السادسة وفوقه السابعة، وإن له ثلاثمائة خادم ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلاثمائة صحفة - ولا أعلمه إلا قال من ذهب في كل صحفة لون ليس في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء في كل إناء لون ليس في الآخر، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليقول يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص مما عندي شيء، وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا، وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض" وقوله تعالى: { وَأَنْتُمْ فِيهَا } أي في الجنة { خَالِدُونَ } أي لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولاً.
ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحداً عمله الجنة، ولكن برحمة الله وفضله، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات قال ابن أبي حاتم: حدثنا الفضل بن شاذان المقري، حدثنا يوسف بن يعقوب يعني الصفار، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أهل النار يرى منزله من الجنة، فيكون له حسرة فيقول { َوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } فيكون له شكراً" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار. والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة. وذلك قوله تعالى { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وقوله تعالى: { لَكُمْ فِيهَا(4/163)
فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ } أي من جميع الأنواع { مِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي مهما اخترتم وأردتم. ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتم النعمة والغبطة، والله تعالى أعلم.
{إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظّالِمِينَ وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَكِنّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوَاْ أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لاَ نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىَ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}
لما ذكر تعالى حال السعداء ثنى بذكر الأشقياء فقال: { إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ} أي ساعة واحدة { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي آيسون من كل خير. { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظّالِمِينَ } أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم. وإرسال الرسل إليهم، فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد. { وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ } وهو خازن النار. قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى: { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } وقال عز وجل: { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك { قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} قال ابن عباس: مكث ألف سنة ثم قال: إنكم ماكثون رواه ابن أبي حاتم أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها ثم ذكر سبب شقوتهم، وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال: { لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ } أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه { وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة. واندموا حيث لا تنفعكم الندامة، ثم قال تبارك وتعالى: { أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } قال مجاهد: أرادوا كيد شر، فكدناهم وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى: { وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه، فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم، ولهذا قال: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } أي سرهم وعلانيتهم { بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضاً يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.
{قُلْ إِن كَانَ لِلرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ وَهُوَ الّذِي فِي السّمآءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ(4/164)
يَعْلَمُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ وَقِيلِهِ يَرَبّ إِنّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد { إِن كَانَ لِلرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ } أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك، لأني عبد من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته، فلو فرض هذا لكان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضاً كما قال عز وجل: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي الاَنفين، ومنهم سفيان الثوري والبخاري، حكاه فقال ويقال أول العابدين الجاحدين من عَبِد يعْبَد، وذكر ابن جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، حدثني ابن أبي ذئب عن أبي قسيط عن بعجة بن زيد الجهني أن امرأة منهم دخلت على زوجها وهو رجل منهم أيضاً، فولدت له في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فأمر بها أن ترجم، فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } وقال عز وجل: { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } قال: فو الله ما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها ترد، قال يونس: قال ابن وهب: عبد استنكف. وقال الشاعر:
متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما
وهذا القول فيه نظر لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره إن كان هذا فأنا ممتنع منه ؟ هذا فيه نظر فليتأمل اللهم إلا أن يقال: أن إنْ ليست شرطاً وإنما هي نافية، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ } يقول: لم يكن للرحمن ولد، فأنا أول الشاهدين. وقال قتادة هي كلمة من كلام العرب { إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي، وقال أبو صخر { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي فأنا أول من عبده بأن لا ولد له، وأول من وحده، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال مجاهد { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي أول من عبده ووحده وكذبكم، وقال البخاري { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } الاَنفين وهما لغتان رجل عابد وعبد، والأول أقرب على أنه شرط وجزاء ولكن هو ممتنع، وقال السدي { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } يقول : لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولداً ولكن لا ولد له، وهو اختيار ابن جرير ورد قول من زعم أن إنْ نافية. ولهذا قال تعالى: { سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد فإنه فرد أحد صمد، لا نظير له ولا كفء له فلا ولد له.
وقوله تعالى: { فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا } أي في جهلهم وضلالهم { وَيَلْعَبُوا } في دنياهم { حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم قوله تبارك وتعالى: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض يعبده أهلها وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي هو المدعو الله في السموات والأرض { وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي هو خالقها ومالكها، والمتصرف فيها بلا مدافعة ولا ممانعة، فسبحانه وتعالى عن الولد(4/165)
وتبارك، أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص، لأنه الرب العلي العظيم المالك للأشياء الذي بيده أزمة الأمور نقضاً وإبراماً. { وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي لا يجليها لوقتها إلا هو { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي فيجازي كلاً بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثم قال تعالى: { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي من الأصنام والأوثان { الشَّفَاعَةَ } أي لا يقدرون على الشفاعة لهم { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هذا استثناء منقطع. أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. ثم قال عز وجل: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره { مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل. ولهذا قال تعالى: { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ }.
وقوله جل وعلا: { وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ } أي وقال محمد صلى الله عليه وسلم، قيله أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، كما أخبر تعالى في الآية الأخرى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } وهذا الذي قلناه هو قول ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد وقتادة، وعليه فسر ابن جرير، قال البخاري: وقرأ عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ } وقال مجاهد في قوله: {وقيله يا رب إن هؤلاء لا يؤمنون} قال يؤثر الله عز وجل قول محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: هو قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل. ثم حكى ابن جرير في قوله تعالى: { وَقِيلِهِ يَا رَبِّ } قراءتين إحداهما النصب، ولها توجيهان: أحدهما أنه معطوف على قوله تبارك وتعالى: { نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} والثاني أن يقدر فعل وقال قيله، والثانية الخفض وقيله عطفاً على قوله: { وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } وتقديره وعلم قيله. وقوله تعالى: { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ } أي المشركين { وَقُلْ سَلامٌ } أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } هذا تهديد من الله تعالى لهم، ولهذا أحلّ بهم بأسه الذي لا يرد وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب والله أعلم. آخر تفسير سورة الزخرف.(4/166)
سورة الدخان
وهي مكية
قال الترمذي: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا زيد بن الحباب عن عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك" ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمر بن أبي خثعم يضعف قال البخاري منكر الحديث.
ثم قال: حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحباب عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له" ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهشام أبو المقدام يضعف، والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه، كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد رحمة الله عليهم أجمعين، وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل عامر بن واثلة عن زيد بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: "إني قد خبأت خبأ فما هو ؟" وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الدخان فقال: هو الدخ. فقال: "اخسأ ما شاء الله كان" ثم انصرف.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{حمَ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مّبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مّنْ عِنْدِنَآ إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مّوقِنِينَ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر كما قال عز وجل: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقد ذكرنا في الأحاديث الواردة في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان، والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري، أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى" فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض به النصوص. وقوله عز وجل: { إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } أي معلمين ما ينفعهم ويضرهم شرعاً لتقوم حجة الله على عباده.
وقوله: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال(4/167)
والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف وقوله جل وعلا: { حَكِيمٍ } أي محكم لا يبدل ولا يغير، ولهذا قال جل جلاله: { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَآ } أي جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه { إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } أي إلى الناس رسولاً يتلو عليهم آيات الله مبينات فإن الحاجة كانت ماسة إليه، ولهذا قال تعالى: { رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي الذي أنزل القرآن هو رب السموات والأرض وخالقها ومالكها وما فيها { إِن كُنتُم مّوقِنِينَ } أي إن كنتم متحققين ثم قال تعالى: { لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ } وهذه الآية كقوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } الآية.
{بَلْ هُمْ فِي شَكّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّمَآءُ بِدُخَانٍ مّبِينٍ يَغْشَى النّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رّبّنَا اكْشِفْ عَنّا الْعَذَابَ إِنّا مْؤْمِنُونَ أَنّىَ لَهُمُ الذّكْرَىَ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّبِينٌ ثُمّ تَوَلّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلّمٌ مّجْنُونٌ إِنّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنّكُمْ عَآئِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىَ إِنّا مُنتَقِمُونَ}
يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به، ثم قال عز وجل متوعداً لهم ومهدداً: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّمَآءُ بِدُخَانٍ مّبِينٍ } قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: دخلنا المسجد، يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة، فإذا رجل يقص على أصحابه { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه، فذكرنا له ذلك وكان مضطجعاً، ففزع فقعد وقال: إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم سأحدثكم عن ذلك، إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.
قال الله تعالى: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم فسقوا فنزلت { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } قال ابن مسعود رضي الله عنه: فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عز وجل: { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } قال يعني يوم بدر قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به، وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى: جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم:(4/168)
حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قال: كان يوم فتح مكة وهذا القول غريب جداً بل منكر. وقال آخرون لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه، قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم والدجال وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا". تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: "إني خبأت لك خبأ" قال: هو الدخ، قال صلى الله عليه وسلم: "اخسأ فلن تعدو قدرك" قال: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب، وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان، وهم يقرطمون العبارة، ولهذا قال هو الدخ، يعني الدخان، فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلى الله عليه وسلم: "اخسأ فلن تعدو قدرك".
ثم قال ابن جرير: وحدثني عصام بن رواد بن الجراح، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن أبي سعيد الثوري، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الآيات الدجال ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا، والدخان - قال حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } - يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره". قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً وإنما لم أشهد له بالصحة لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل رواداً عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان ؟ فقال له: لا ، قال فقلت: أقرأته عليه ؟ قال:لا ، قال فقلت: أقرىء عليه وأنت حاضر فأقر به ؟ فقال: لا ، فقلت له: فمن أين جئت به ؟ فقال: جاءني به قوم فعرضوه علي وقالوا لي اسمعه منا، فقرءوه علي ثم ذهبوا به فحدثوا به عني أو كما قال وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث ههنا، فإنه موضوع بهذا السند، وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير، وفيه منكرات كثيرة جداً، ولا سيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى، والله أعلم.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة والثالثة الدجال". ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه الزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه". ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفاً، وروى سعيد بن عوف عن الحسن مثله.(4/169)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي المشوي على الرضف، ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لِمَ ؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت. وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد، عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع، ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } أي بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: { يَغْشَى النَّاسَ } أي يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه { يَغْشَى النَّاسَ }.
وقوله تعالى: {هذا عذاب أليم} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً كقوله عز وجل: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون} أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وكذا قوله جل وعلا: { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ }. وهكذا قال جل وعلا ههنا: { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ }. يقول: كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون، وهذا كقوله جلت عظمته: { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } الآية وكقوله عز وجل: { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } إلى آخر السورة.
وقوله تعالى: { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } يحتمل معنيين: (أحدهما) أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى: { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وكقوله جلت عظمته: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }. و (الثاني) أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم. وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى: { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }. ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى(4/170)
إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ا} وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم، وقال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله.
وقوله عز وجل: { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه، وهو محتمل، والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً قال ابن جرير: حدثني ابن علية، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة، وهذا إسناد صحيح عنه وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله أعلم.
{وَلَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدّوَاْ إِلَيّ عِبَادَ اللّهِ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَن لاّ تَعْلُواْ عَلَى اللّهِ إِنّيَ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ وَإِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبّهُ أَنّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنّكُم مّتّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنّهُمْ جُندٌ مّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّمَآءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ وَلَقَدْ نَجّيْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنّهُ كَانَ عَالِياً مّنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىَ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم مّنَ الآيات مَا فِيهِ بَلاَءٌ مّبِينٌ}
يقول تعالى: ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر { وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } يعني موسى كليمه عليه الصلاة والسلام { أَنْ أَدّوَاْ إِلَيّ عِبَادَ اللّهِ } كقوله عز وجل: { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى }. وقوله جل وعلا: { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي مأمون على ما أبلغكموه. وقوله تعالى: { وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ } أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه كقوله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } { إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعات. { وَإِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح: هو الرجم باللسان وهو الشتم. وقال قتادة: الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قول أو فعل { وَإِن لّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا. فلما طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وأقام حجج الله تعالى عليهم. كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفراً وعناداً، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم كما قال تبارك وتعالى:(4/171)
{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا } وهكذا قال ههنا: { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ } فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله: { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } كما قال تعالى: { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى }.
وقوله عز وجل ههنا: { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ } وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر، أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان، ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكناً وبشره بأنهم جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركاً ولا يخشى، وقال ابن عباس رضي الله عنهما { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً } كهيئته وامضه، وقال مجاهد: رهواً طريقاً يبساً كهيئته. يقول: لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم، وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد، وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد ثم قال تعالى: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ } وهي البساتين { وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ } والمراد بها الأنهار والآبار { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة، وقال مجاهد وسعيد بن جبير { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } المنابر، وقال ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: نيل مصر سيد الأنهار سخر الله تعالى له كل نهر بين المشرق والمغرب وذلله له، فإذا أراد الله عز وجل أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله تبارك وتعالى له الأرض عيوناً، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله جل وعلا أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره، وقال في قول الله تعالى: { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } قال: كانت الجنان بحافتي نهر النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعاً، ما بين أسوان إلى رشيد، وكان له تسع خلج: خليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزرع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء، وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعاً لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها.
{ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } أي عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير، واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل كما قال تبارك وتعالى: { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ }. وقال في هذه الآية الأخرى { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ }.
وقال عز وجل ههنا: { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } وهم بنو إسرائيل كما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا(4/172)
ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أحمد بن إسحاق البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه". وتلا هذه الآية { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم، ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي، وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن طلحة، حدثني عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } ثم قال: "إنهما لا يبكيان على الكافر".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام، حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري، حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله قال: سأل رجل علياً رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال له: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من قبلك، إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء. وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب ، حدثنا طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن منهال عن سعيد بن جبير قال: أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال: يا أبا العباس أرأيت قول الله تعالى: { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال رضي الله عنه: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عز وجل منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا.
وقال سفيان الثوري عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان يقال تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد، وقال مجاهد أيضاً: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، قال فقلت له: أتبكي الأرض ؟ فقال: أتعجب وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ؟ وقال قتادة: كانوا أهون على الله عز وجل من أن تبكي عليهم السماء والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد السلام بن عاصم، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا المستورد بن سابق عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين، قلت لعبيد: أَليس السماء والأرض تبكي على المؤمن ؟ قال: ذاك مقامه حيث يصعد عمله. قال: وتدري ما بكاء السماء! قلت: لا . قال: تحمر وتصير وردة كالدهان، إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دماً وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء.
وحدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو زنيج، حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما(4/173)
احمرت آفاق السماء أربعة أشهر، قال يزيد: واحمرارها بكاؤها، وهكذا قال السدي في الكبير، وقال عطاء الخراساني: بكاؤها أن تحمر أطرافها وذكروا أيضاً في مقتل الحسين رضي الله عنه أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط، وأنه كسفت الشمس واحمر الأفق وسقطت حجارة، وفي كل من ذلك نظر، والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم، ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين رضي الله عنه ولم يقع شيء مما ذكروه، فإنه قتل أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أفضل منه بالإجماع، ولم يقع شيء من ذلك، وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل محصوراً مظلوماً ولم يكن شيء من ذلك. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل في المحراب في صلاة الصبح، وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ولم يكن شيء من ذلك. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة، يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه. ويوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس: خسفت لموت إبراهيم فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته.
وقوله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة. وقوله تعالى: { مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً} أي مستكبراً جباراً عنيداً كقوله عز وجل: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ } وقوله جلت عظمته { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ } من المسرفين أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه. وقوله جل جلاله: { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } قال مجاهد { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} على من هم بين ظهريه. وقال قتادة: اختيروا على أهل زمانهم ذلك، وكان يقال: إن لكل زمان عالماً، وهذا كقوله تعالى: { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } أي أهل زمانه ذلك كقوله عز وجل لمريم عليها السلام: { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } أي في زمنها فإن خديجة رضي الله عنها إما أفضل منها أو مساوية لها في الفضل، وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وفضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقوله جل جلاله: { وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ } أي الحجج والبراهين وخوارق العادات { مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ } أي اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به.
{إِنّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا الاُوْلَىَ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبّعٍ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}
يقول تعالى منكراً على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور، ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا فإن كان البعث حقاً { فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وهذه حجة باطلة وشبه فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في الدار الدنيا بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها، يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً، ثم قال تعالى متهدداً لهم ومتوعداً ومنذراً لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع، وهم سبأ، حيث أهلكهم الله عز وجل وخرب بلادهم وشردهم في البلاد وفرقهم شذر مذر، كما تقدم ذلك في سورة سبأ(4/174)
وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد، وكذلك ههنا شبههم بأولئك وقد كانوا عرباً من قحطان، كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير وهم سبأ كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً، كما يقال كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافراً، والنجاشي لمن ملك الحبشة وغير ذلك من أعلام الأجناس.
ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه وهو الذي مصر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يقرونه بالليل فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة، فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضاً وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر، ثم كر راجعاً إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون من الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن، وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة، وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر. وذكر أنه ملك دمشق وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن. ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ ولا أدري تبع لعيناً كان أم لا ؟ ولا أدري ذو القرنين نبياً كان أم ملكاً ؟" وقال غيره "عزير أكان نبياً أم لا ؟" وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن حماد الظهراني عن عبد الرزاق قال الدارقطني: تفرد به عبد الرزاق، ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً "عزير لا أدري أنبياً أم لا ؟ ولا أدري ألعين تبع أم لا ؟" ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكأنه والله أعلم كان كافراً ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن.
وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب، وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضاً وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن تبعاً هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ، وقد بسطنا قصتهم هنالك ولله الحمد والمنة، وقال سعيد بن جبير: كسا تبع الكعبة وكان سعيد ينهى عن سبه، وتبع هذا هو تبع الأوسط، واسمه أسعد أبو كريب بن ملك يكرب اليماني، ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستاً وعشرين سنة، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن(4/175)
هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد، قال في ذلك شعراً واستودعه عند أهل المدينة، فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره وهو:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيراً له وابن عم
وجا هدت بالسيف أعداءه ... و فرجت عن صدره كل غم
وذكر ابن أبي الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الإسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حيي وتميس، وروي حيي وتماضر ابنتي تبع، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئاً، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وقد ذكرنا في سورة سبأ شعراً في ذلك أيضاً. قال قتادة: ذكر لنا أن كعباً كان يقول في تبع نُعِتَ نَعتَ الرجل الصالح: ذم الله تعالى قومه ولم يذمه. قال: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لا تسبوا تبعاً فإنه قد كان رجلاً صالحاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي زرعة - يعني عمرو بن جابر الحضرمي، قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا تبعاً فإنه قد كان أسلم".
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة به وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا أحمد بن محمد بن أبي برزة، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم" وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري تبع نبياً كان أم غير نبي" وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر "لا أدري تبع كان لعيناً أم لا " فالله أعلم ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى البدي عن عكرمة عن ابن عباس موقوفاً. وقال عبد الرزاق: أخبرنا عمران أبو الهذيل، أخبرني تميم بن عبد الرحمن قال: قال عطاء بن أبي رباح لا تسبوا تبعاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سبه، والله تعالى أعلم.
{وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاّ مَن رّحِمَ اللّهُ إِنّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
يقول تعالى مخبراً عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل كقوله جل وعلا: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } وقال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } ثم قال تعالى: { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق، فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين. وقوله عز وجل: { مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم { يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً } أي لا ينفع قريب قريباً كقوله سبحانه وتعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي(4/176)
الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } وكقوله جلت عظمته: { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } أي لا يسأل أخاً له عن حاله وهو يراه عياناً. وقوله جل وعلا: { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصره من خارج، ثم قال: { إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ } أي لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله عز وجل بخلقه { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } أي هو عزيز ذو رحمة واسعة.
{إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىَ سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمّ صُبّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه: { إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعَامُ الأثِيمِ } الأثيم أي في قوله وفعله، وهو الكافر، وذكر غير واحد أنه أبو جهل، ولا شك في دخوله في هذه الآية، ولكن ليست خاصة به. قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرىء رجلاً { إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعَامُ الأثِيمِ } فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر أي ليس له طعام من غيرها، قال مجاهد: ولو وقعت قطرة منها في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم، وقد تقدم نحوه مرفوعاً، وقوله: { كَالْمُهْلِ } قالوا: كعكر الزيت { يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } أي من حرارتها ورداءتها، وقوله: { خُذُوهُ } أي الكافر، وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية خذوه ابتدره سبعون ألفاً منهم، وقوله: { فَاعْتِلُوهُ } أي سوقوه سحباً ودفعاً في ظهره، قال مجاهد { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } أي خذوه فادفعوه، وقال الفرزدق:
ليس الكرام بناحليك أباهم ... حتى ترد إلى عطية تعتل
{ إِلَىَ سَوَآءِ الْجَحِيمِ } أي وسطها { ثُمّ صُبّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } كقوله عز وجل: { يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد، فتفتح دماغه ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه، فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه، أعاذنا الله تعالى من ذلك. وقوله تعالى: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي لست بعزيز ولا كريم. وقد قال الأموي في مغازيه: حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل لعنه الله فقال: "إن الله تعالى أمرني أن أقول لك، أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى" قال: فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم، قال فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }. وقوله عز وجل: { إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } كقوله تعالى: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } ولهذا قال تعالى ههنا: { إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }.
{إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ(4/177)
مُتَقَابِلِينَ ،كَذَلِكَ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الاُولَىَ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مّن رّبّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنّهُمْ مّرْتَقِبُونَ}
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني، فقال: { إِنّ الْمُتّقِينَ } أي لله في الدنيا { فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } أي في الآخرة وهو الجنة، قد أمنوا فيها من الموت والخروج، ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ومن الشيطان وكيده وسائر الآفات والمصائب { فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ } وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم، وقوله تعالى: { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ } وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها { وَإِسْتَبْرَقٍ } وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالريش وما يلبس على أعالي القماش { وَإِسْتَبْرَقٍ } أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره. وقوله تعالى: { كَذَلِكَ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } أي هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نوح بن حبيب، حدثنا نصر بن مزاحم العطار. حدثنا عمر بن سعد عن رجل عن أنس رضي الله عنه رفعه نوح قال: لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها.
وقوله عز وجل: { يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا. وقوله: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } هذا استثناء يؤكد النفي فإنه استثناء منقطع، ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت" وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها الصلاة والسلام. وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً" رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به هكذا يقول أبو إسحاق، وأهل العراق يقولون أبو مسلم الأغر، وأهل المدينة يقولون أبو عبد الله الأغر. وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني: حدثنا أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج هو ابن حجاج عن عبادة عن عبيد الله بن عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس ويحيا فيها فلا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه".
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا سليم بن عبد الله الرقي، حدثنا مصعب بن إبراهيم، حدثنا عمران بن الربيع الكوفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: سئل نبي الله صلى الله عليه وسلم: أينام أهل الجنة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "النوم أخو الموت وأهل الجنة(4/178)
لا ينامون" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره، حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري، حدثنا المقدام بن داود، حدثنا عبد الله بن المغيرة، حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون"، وقال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن يعقوب ، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله: هل ينام أهل الجنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا ، النوم أخو الموت" ، ثم قال: لا نعلم أحداً أسنده عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه إلا الثوري ولا عن الثوري إلا الفريابي، هكذا قال، وقد تقدم خلاف ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلمهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم، فحصل لهم المطلوب ونجاهم من المرهوب ولهذا قال عز وجل: { فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً لن يدخله عمله الجنة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، وقوله تعالى: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلاً واضحاً بيناً جلياً بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأعلاها { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي يتفهمون ويعلمون.
ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له وواعداً له بالنصر، ومتوعداً لمن كذبه بالعطب والهلاك: { فَارْتَقِبْ } أي انتظر { إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ } أي فسيعملون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين كما قال تعالى: { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ } الآية. وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } .(4/179)
سورة الجاثية
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{حمَ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيات لّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثّ مِن دَآبّةٍ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مّن رّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات والأرض، وما فيها من المخلوقات المختلفة والأجناس، والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وما أنزل الله تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه، وسماه رزقاً لأن به يحصل الرزق { فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء. وقوله عز وجل: { وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ } أي جنوباً وشمالاً ودبوراً وصباً، برية وبحرية، ليلية ونهارية. ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح، ومنها ما هو غذاء للأرواح ومنها ما هو عقيم لا ينتج ، وقال سبحانه وتعالى: أولاً: { لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } ثم يوقنون ثم يعقلون وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى، وهذه الآيات شبيهة بآية البقرة وهي قوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً غريباً في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة، والله أعلم.
{تَلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لّكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَىَ عَلَيْهِ ثُمّ يُصِرّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ مّن وَرَآئِهِمْ جَهَنّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا هُدًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ}
يقول تعالى: { تَلْكَ آيَاتُ اللّهِ } يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ } أي متضمنة الحق من الحق، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ ثم قال تعالى: { وَيْلٌ لّكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ } أي أفاك في قوله كذاب حلاف مهين أثيم في فعله وقلبه كافر بآيات الله ولهذا قال: { يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَىَ عَلَيْهِ } أي تقرأ عليه { ثُمّ يُصِرّ } أي على كفره وجحوده استكباراً(4/180)
وعناداً { كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا } أي كأنه ما سمعها { فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذاباً أليماً موجعاً { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتّخَذَهَا هُزُواً } أي إذا حفظ شيئاً من القرآن كفر به واتخذه سخرياً وهزواً { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ } أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به، ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال: { مّن وَرَآئِهِمْ جَهَنّمُ } أي كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة { وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً } أي لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم { وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ } أي ولا تغني عنهم الاَلهة التي عبدوها من دون الله شيئاً { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ثم قال تبارك وتعالى: { هَذَا هُدىً } يعني القرآن { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } وهو المؤلم الموجع. والله سبحانه وتعالى أعلم.
{اللّهُ الّذِي سَخّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ}
يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر { لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ } وهي السفن فيه بأمره تعالى. فإنه هو الذي أمر البحر بحملها { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي في المتاجر والمكاسب { وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي على حصول المنافع المجلوبة من الأقاليم النائية القصية، ثم قال عز وجل: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } أي من الكواكب والجبال والبحار والأنهار، وجميع ما تنتفعون به أي الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ولهذا قال: { جَمِيعاً مِنْهُ } أي من عنده وحده لا شريك له في ذلك، كما قال تبارك وتعالى: { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ } كل شيء هو من الله. وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه، فذلك جميعاً منه ولا ينازعه فيه المنازعون، واستيقن أنه كذلك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا الفريابي عن سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي أراكة قال: سأل رجل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مم خلق الخلق ؟ قال: من النور والنار والظلمة والثرى. قال: وائت ابن عباس رضي الله عنهما فاسأله، فأتاه فقال له مثل ذلك، فقال: ارجع إليه فسله مما خلق ذلك كله. فرجع إليه فسأله فتلا { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ } هذا أثر غريب وفيه نكارة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }. وقوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } أي ليصفحوا عنهم ويتحملوا الأذى منهم وكان هذا في ابتداء الإسلام، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة، وقال مجاهد: { لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } لا ينالون نعم الله تعالى، وقوله تبارك وتعالى: { لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عز وجل مجازيهم بأعمالكم السيئة(4/181)
في الآخرة، ولهذا قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم خيرها وشرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ وَآتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ مّنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنّ رَبّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمّ جَعَلْنَاكَ عَلَىَ شَرِيعَةٍ مّنَ الأمْرِ فَاتّبِعْهَا وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَإِنّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللّهُ وَلِيّ الْمُتّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم وجعله الملك فيهم، ولهذا قال تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ } أي من المآكل والمشارب { وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ } أي في زمانهم { وَآتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ مّنَ الأمْرِ } أي حججاً وبراهين وأدلة قاطعات، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة، وإنما كان ذلك بغياً منهم على بعضهم بعضاً { إِنّ رَبّكَ } يا محمد { يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي سيفصل بينهم بحكمه العدل، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم وأن تقصد منهجهم، ولهذا قال جل وعلا: { ثُمّ جَعَلْنَاكَ عَلَىَ شَرِيعَةٍ مّنَ الأمْرِ فَاتّبِعْهَا } أي اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين، وقال جل جلاله ههنا: { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي وماذا تغني عنهم ولا يتهم لبعضهم بعضاً فإنهم لا يزيدونهم إلا خساراً ودماراً وهلاكاً { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، ثم قال عز وجل: { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } يعني القرآن { وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }.
{أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَىَ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىَ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىَ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّهِ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ}
يقول تعالى: {لا يستوي المؤمنون والكافرون} كما قال عز وجل: { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } وقال تبارك وتعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } أي عملوها وكسبوها { أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ؟} أي نساويهم بهم في الدنيا والآخرة { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار. قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا مؤمل بن إهاب، حدثنا بكير بن عثمان التنوخي، حدثنا الوضين(4/182)
بن عطاء عن يزيد بن مرثد الباجي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن الله تعالى بنى دينه على أربعة أركان، فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله من الفاسقين، قيل: وما هن يا أبا ذر ؟ قال يسلم حلال الله لله وحرام الله لله وأمر الله لله ونهي الله لله لا يؤتمن عليهن إلا الله.
قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "كما أنه لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار". هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أنهم وجدوا حجراً بمكة في أس الكعبة مكتوب عليه: تعملون السيئات وترجون الحسنات أجل كما يجنى من الشوك العنب. وقد روى الطبراني من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن مسروق أن تميماً الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية { أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } ولهذا قال تعالى: { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } وقال عز وجل: { وَخَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ } أي بالعدل { وَلِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
ثم قال جل وعلا: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي إنما يأتمر بهواه، فما رآه حسناً فعله وما رآه قبيحاً تركه، وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين، وعن مالك فيما روي عنه من التفسير لا يهوي شيئاً إلا عبده، وقوله: { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين: أحدهما وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك، والآخر وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئاً يهتدي به ولا يرى حجة يستضيء بها. ولهذا قال تعالى: { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } كقوله تعالى: { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاّ الدّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ مّا كَانَ حُجّتَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدرية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } قال الله تعالى: { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } أي يتوهمون ويتخيلون فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول تعالى يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره" وفي رواية "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا فقال الله تعالى في كتابه: { وَقَالُوا مَا هِيَ(4/183)
إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } ويسبون الدهر فقال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن شريح بن النعمان عن ابن عيينة مثله. ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار" وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "يقول الله تعالى: استقرضت عبدي فلم يعطني وسبني عبدي، يقول وادهراه وأنا الدهر" قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" كانت العرب في جاهليتهم إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر، فينسبون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال، هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد، والله أعلم، وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث.
وقوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي إذا استدل عليهم وبين لهم الحق، وأن الله تعالى قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها { مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي أحيوهم إن كان ما تقولونه حقاً. قال الله تعالى: { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى { وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي إنما يجمعكم إلى يوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا { ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } { لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ } { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ } وقال ههنا { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي فلهذا ينكرون المعاد ويستبعدون قيام الأجساد قال الله تعالى: { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } أي يرون وقوعه بعيداً والمؤمنون يرون ذلك سهلاً قريباً.
{وَلِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَىَ كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَىَ إِلَىَ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال عز وجل: { وَيَوْمَ تَقُومُ السّاَعةُ } أي يوم القيامة { يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
وقال ابن أبي حاتم: قدم سفيان الثوري المدينة فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس، فقال له: يا شيخ أما علمت أن لله تعالى يوماً يخسر فيه المبطلون ؟ قال: فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله تعالى، ذكره ابن أبي حاتم ثم قال تعالى: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال إن هذا إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة، لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، حتى إبراهيم الخليل عليه الصلاة(4/184)
والسلام ويقول: نفسي نفسي نفسي! لا أسألك اليوم إلا نفسي. وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليقول: لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني! قال مجاهد وكعب الأحبار والحسن البصري { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} على الركب. وقال عكرمة: جاثية متميزة على ناحيتها وليس على الركب، والأول أولى. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرى، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم" وقال إسماعيل بن أبي رافع المدني عن محمد بن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً في حديث الصور: فيتميز الناس وتجثو الأمم، وهي التي يقول الله تعالى: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } وهذا فيه جمع بين القولين ولا منافاة، والله أعلم.وقوله عز وجل: { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } يعني كتاب أعمالها كقوله جل جلاله: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } ولهذا قال سبحانه وتعالى: { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها كقوله عز وجل: { يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ولهذا قال جلت عظمته: { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } أي يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص كقوله جل جلاله: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } وقوله عز وجل: { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}أ ي إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة، مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً ثم قرأ { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مّجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنّ وعْدَ اللّهِ حَقّ وَالسّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مّا نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِن نّظُنّ إِلاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنّكُمُ اتّخَذْتُمْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَغَرّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبّ السّمَاوَتِ وَرَبّ الأرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ}
يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة وهي الخالصة الموافقة للشرع { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } وهي الجنة كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } أي البين الواضح. ثم قال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً، أما قرئت عليكم آيات الله تعالى فاستكبرتم عن اتباعها، وأعرضتم عن(4/185)
سماعها، وكنتم قوماً مجرمين في أفعالكم مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب ؟ { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا } أي إِذا قال لكم المؤمنون ذلك { قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ } أي لا نعرفها { إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً } أي إِن نتوهم وقوعها إِلا توهماً أي مرجوحاً ولهذا قال: { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي بمتحققين. قال الله تعالى: { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة { وَحَاقَ بِهِمْ } أي أحاط بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي من العذاب والنكال { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ } أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم { كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } أي فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }. وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: "ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول: بلى يارب. فيقول أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني".
قال الله تعالى: { ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً } أي إِنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخرياً تسخرون وتستهزؤن بها { وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي خدعتكم فاطمأننتم إِليها فأصبحتم من الخاسرين، ولهذا قال عز وجل: { فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أي من النار { وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي لا يطلب منهم العتبى بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب ثم لما ذكر تعالى حكمه في المؤمنين والكافرين، قال: { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ } أي المالك لهما وما فيهما، ولهذا قال { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ثم قال جل وعلا: { وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } قال مجاهد: يعني السلطان أي هو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه فقير إِليه. وقد ورد في الحديث الصحيح "يقول الله تعالى: العظمة إِزاري، والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري" ورواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي إِسحاق عن الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقوله تعالى: { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي الذي لا يغالب ولا يمانع { الْحَكِيمُ } في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره تعالى وتقدس لا إِله إِلا هو.(4/186)
سورة الأحقاف
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{حمَ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ عَمّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلّ مِمّن يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَن لاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}
يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، صلوات الله عليه دائماً إِلى يوم الدين، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، ثم قال تعالى: { مَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ} أي لا على وجه العبث والباطل { وَأَجَلٍ مّسَمًى } أي وإِلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص، وقوله تعالى: { وَالّذِينَ كَفَرُواْ عَمّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } أي لا هون عما يراد بهم، وقد أنزل الله تعالى إِليهم كتاباً وأرسل إِليهم رسولاً، وهم معرضون عن ذلك كله أي وسيعلمون غب ذلك. ثم قال تعالى: { قُلْ } أي لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره { أَرَأَيْتُمْ مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ } أي أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ } أي ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض وما يملكون من قطمير، إن الملك والتصرف كله إلا لله عز وجل، فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به ؟ من أرشدكم إلى هذا ؟ من دعاكم إليه ؟ أهو أمركم به ؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم ؟ ولهذا قال: { ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَذَآ } أي هاتوا كتاباً من كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأمركم بعبادة هذه الأصنام { أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ } أي دليل بينٍ على هذا المسلك الذي سلكتموه { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً على ذلك، ولهذا قرأ آخرون: أو أثرة من علم أي أو علم صحيح تؤثرونه عن أحد ممن قبلكم، كما قال مجاهد في قوله تعالى: { أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ } أو أحد يأثر علماً، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أو بينة من الأمر. وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان عن صفوان بن سليم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال سفيان: لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أثرة من علم، قال: الخط. وقال أبو بكر بن عياش: أو بقية من علم. وقال الحسن البصري: أو أثارة شيء يستخرجه فيثيره. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وأبو بكر بن عياش أيضاً: أو أثارة من علم يعني الخط. وقال قتادة: {أو أثارة(4/187)
من علم} خاصة من علم وكل هذه الأقوال متقاربة. وهي راجعة إلى ما قلناه وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وأكرمه وأحسن مثواه.
وقوله تبارك وتعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } أي لا أضل ممن يدعو من دون الله أصناماً، ويطلب ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عما يقول لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش، لأنها جماد حجارة صم، وقوله تبارك وتعالى: { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } كقوله عز وجل: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } أي سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم. وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: { ِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }.
{وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىَ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ وَمَآ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ}
يقول عز وجل مخبراً عن المشركين في كفرهم وعنادهم: أنهم إِذا تتلى عليهم آيات الله بينات أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها يقولون { هَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ } أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك لعاقبني أشد العقوبة، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم، أن يجيرني منه، كقوله تبارك وتعالى: { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلا بلاغاً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ } وقال تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} هذا تهديد ووعيد أكيد وترهيب شديد.
وقوله عز وجل وعلا: { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ترغيب لهم إِلى التوبة والإنابة أي ومع هذا كله إِن رجعتم وتبتم تاب عليكم وعفا عنكم وغفر ورحم، وهذه الآية كقوله عز وجل في سورة الفرقان: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } وقوله تبارك وتعالى: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ } أي لست بأول رسول طرق العالم بل جاءت الرسل من قبلي فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إِليكم فإِنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إِلى الأمم، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ } ما أنا بأول رسول، ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.
وقوله تعالى: { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: نزل بعدها { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وهكذا قال عكرمة والحسن(4/188)
وقتادة: إِنها منسوخة بقوله تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين: هذا قد بين الله تعالى، ما هو فاعل بك يا رسول الله، فما هو فاعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى: { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } هكذا قال، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئاً لك يا رسول الله فما لنا ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، وقال الضحاك { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } أي ما أدري بماذا أومر وبماذا أنهى بعد هذا ؟ وقال أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري في قوله تعالى: { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } قال: أما في الآخرة فمعاذ الله وقد علم أنه في الجنة، ولكن قال: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي ؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة ؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره ولا شك أن هذا هو اللائق به صلى الله عليه وسلم، فإِنه بالنسبة إِلى الآخرة جازم أنه يصير إِلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إِليه أمره وأمر مشركي قريش إِلى ماذا، أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء، وهي امرأة من نسائهم أخبرته وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان رضي الله عنه عندنا فمرضناه، حتى إِذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله تعالى أكرمه" فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإِني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي". قالت: فقلت والله لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري، فجئت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك عمله" فقد انفرد بإِخراجه البخاري دون مسلم، وفي لفظ له "ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به" وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك، وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إِلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة وابن سلام والغميصاء وبلال وسراقة، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم، وقوله { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي إِنما أتبع ما ينزله الله علي من الوحي { وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي بين النذارة أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل، والله أعلم.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىَ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مّصَدّقٌ لّسَاناً عَرَبِيّاً لّيُنذِرَ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىَ لِلْمُحْسِنِينَ إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا(4/189)
كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن { أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ } هذا القرآن { مِنْ عِندِ اللّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ } أي ما ظنكم أن الله صانع بكم إِن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزل علي لأبلغكموه، وقد كفرتم به وكذبتموه. { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ مِثْلِهِ} أي وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به. وقوله عز وجل: { فَآمَنَ } أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إِسرائيل لمعرفته بحقيقته { وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أنتم عن اتباعه، وقال مسروق: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم {إ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره، فإِن هذه الآية مكية نزلت قبل إِسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهذا كقوله تبارك وتعالى: { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } وقال: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } قال مسروق والشعبي: ليس بعبد الله بن سلام هذه الآية مكية، وإِسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم واختاره ابن جرير. وقال مالك عن أبي النضر عن عامر بن سعد عن أبيه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إِنه من أهل الجنة، إِلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال: وفيه نزلت { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ } رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث مالك به، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ويوسف بن عبد الله بن سلام وهلال بن يساف والسدي والثوري ومالك بن أنس، وابن زيد أنهم كلهم قالوا: إِنه عبد الله بن سلام. وقوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيراً ما سبقنا هؤلاء إِليه، يعنون بلالاً وعماراً وصهيباً وخباباً رضي الله عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطأوا خطأ بيناً كما قال تبارك وتعالى: { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا: { لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ }.
وأما أهل السنة والجماعة، فيقولون: في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم هو بدعة لأنه لو كان خيراً لسبقونا إِليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إِلا وقد بادروا إِليها. وقوله تعالى: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } أي بالقرآن { فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } أي كذب قديم أي مأثور عن الناس الأقدمين فينتقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بطر الحق وغمط الناس" . ثم قال تعالى: { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } وهو التوراة { إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ } يعني القرآن { مُصَدِّقٌ } أي لما قبله من الكتب { لِسَاناً عَرَبِيّاً } أي فصيحاً بيناً واضحاً { لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } أي مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين، وقوله تعالى: { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فيما يستقبلون { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفهم { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم، والله أعلم.(4/190)
{وَوَصّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِيَ إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيّئَاتِهِمْ فِيَ أَصْحَابِ الْجَنّةِ وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ}
لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإِخلاص العبادة والاستقامة إِليه، عطف بالوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن كقوله عز وجل: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وقوله جل جلاله: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } إِلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وقال عز وجل ههنا { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } أي أمرناه بالإحسان إِليهما والحنو عليهما وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة، أخبرني سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد رضي الله عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين فلا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ونزلت هذه الآية { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } الآية. ورواه مسلم وأهل السنن إِلا ابن ماجه من حديث شعبة بإِسناده نحوه وأطول منه { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } أي قاست بسببه في حمله مشقة وتعباً من وحام وغثيان وثقل وكرب، إِلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، { وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدته { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً }.
وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } وقوله تبارك وتعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وهو استنباط قوي وصحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال محمد بن إِسحاق بن يسار عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها فقالت: وما يبكيك ؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله سبحانه وتعالى في ما شاء، فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه: فأتاه فقال له ما تصنع، قال: ولدت تماماً لستة أشهر، وهل يكون ذلك، فقال له علي رضي الله عنه: أما تقرأ القرآن: قال: بلى. قال: أما سمعت الله عز وجل يقول { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } وقال { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فلم نجده بقي إلا ستة أشهر قال: فقال عثمان رضي الله عنه والله ما فطنت بهذا، عليّ بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها قال: فقال معمر: فو الله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه. قال: وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة، فمازالت تأكله حتى مات، رواه ابن أبي حاتم، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله عز وجل: { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ }.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرين شهراً، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين لأن الله تعالى يقول { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي قوي وشب وارتجل. { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال إنه لا يتغير غالباً عما يكون عليه(4/191)
ابن الأربعين، قال أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قلت لمسروق: متى يؤخذ الرجل بذنوبه ؟ قال إذا بلغت الأربعين فخذ حذرك.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو عبد الله القواريري، حدثنا عروة بن قيس الأزدي، وكان قد بلغ مائة سنة، حدثنا أبو الحسن السلولي عمر بن أوس قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه، وإذا بلغ الستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفعه الله تعالى في أهل بيته، وكتب في السماء أسير الله في أرضه" وقد روي هذا من غير وجه، وهو في مسند الإمام أحمد، وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق، تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس، ثم تركتها حياءً من الله عز وجل، وما أحسن قول الشاعر:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: ابعد!
{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } أي في المستقبل { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي نسلي وعقبي { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها، وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد "اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتممها علينا" قال الله عز وجل: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله تعالى المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فيغفر لهم الكثير من الزلل ونتقبل منهم اليسير من العمل.
{ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } أي هم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله عز وجل من تاب إليه وأناب، ولهذا قال تعالى: { وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المعتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف، عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الروح الأمين عليه الصلاة والسلام قال: "يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فيقتص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة وسع الله تعالى له في الجنة" قال: فدخلت على يزداد فحدث بمثل هذا قال: قلت فإن ذهبت الحسنة ؟ قال { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني عن المعتمر بن سليمان بإسناده مثله وزاد عن الروح الأمين. قال: قال الرب جل جلاله: يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فذكره، وهو حديث غريب وإسناده جيد ولا بأس به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن معبد، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن أبي وحشية عن يوسف بن سعد، عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري(4/192)
حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة فقال له يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه، وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه، فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم، فسألوه فقال علي رضي الله عنه: كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم، قالها ثلاثاً. قال يوسف فقلت لمحمد بن حاطب: آلله لسمعت هذا عن علي رضي الله عنه ؟ قال: آلله لسمعت هذا عن علي رضي الله عنه.
{وَالّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيَ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَيَقُولُ مَا هَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ أُوْلَئِكَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِيَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنسِ إِنّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}
لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما ومالهم عنده من الفوز، والنجاة، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال: { وَالّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لّكُمَآ } وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقوله ضعيف، لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما وفي صحة هذا نظر، والله تعالى أعلم. وقال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما قاله ابن جريج وقال آخرون عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وهذا أيضاً قول السدي، وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق، فقال لوالديه { أُفّ لّكُمَآ } عقهما. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، أخبرني عبد الله بن المديني، قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وأن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية ؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ألست ابن اللعين الذين لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك ؟ قال وسمعتهما عائشة رضي الله عنها فقالت: يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا ؟ كذبت ما فيه نزلت ولكن نزلت في فلان ابن فلان، ثم انتحب مروان ثم نزل عن المنبر، حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف، وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما شيئاً، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة رضي الله عنها فلم يقدروا عليه، فقال(4/193)
مروان: إن هذا الذي أنزل فيه { وَالّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيَ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي} فقالت عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب: ما أنزل الله عز وجل فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله تعالى أنزل عذري.
(طريق أخرى) قال النسائي: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أمية بن خالد، حدثنا شعبة عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سنة هرقل وقيصر. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه { وَالّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لّكُمَآ } الآية. فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: كذب مروان والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض من لعنة الله.
وقوله: { أَتَعِدَانِنِيَ أَنْ أُخْرَجَ } أي أبعث { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي} أي قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } أي يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } قال الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم، من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. وقوله: { أُولَئِكَ } بعد قوله: { وَالَّذِي قَالَ } دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك. وقال الحسن وقتادة: هو الكافر الفاجر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة سهل بن داود من طريق هشام بن عمار، حدثنا حماد بن عبد الرحمن، حدثنا خالد بن الزبرقان الحلبي عن سليم بن حبيب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لعنهم الله تعالى من فوق عرشه، وأمنت عليهم الملائكة: مضل المساكين" قال خالد الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول: هلم أعطيك، فإذا جاءه قال: ليس معي شيء "والذي يقول للماعون ابن وليس بين يديه شيء، والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها، والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا" غريب جداً.
وقوله تبارك وتعالى: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } أي لكل عذاب بحسب عمله { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، درجات النار تذهب سفالاً ودرجات الجنة تذهب علواً، وقوله عز وجل: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً، وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب. وتنزه عنها ويقول: إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم وبخهم وقرعهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } وقال أبو مجلز: ليفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا فيقال لهم { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } وقوله عز وجل: { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } فجوزوا من جنس عملهم فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله سبحانه وتعالى من ذلك كله.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّيَ(4/194)
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ قَالَ إِنّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللّهِ وَأُبَلّغُكُمْ مّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ فَلَمّا رَأَوْهُ عَارِضاً مّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمّرُ كُلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىَ إِلاّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذب من قومه { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } وهو هود عليه الصلاة والسلام، بعثه الله عز وجل إلى عاد الأولى وكانوا يسكنون الأحقاف، جمع حقف وهو الجبل من الرمل، قاله ابن زيد، وقال عكرمة: الأحقاف الجبل والغار، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الأحقاف واد بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار، وقال قتادة: ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال الشحر، قال ابن ماجه: باب إذا دعا فليبدأ بنفسه. حدثنا الحسين بن علي الخلال، حدثنا أبي، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحمنا الله وأخا عاد" وقوله تعالى: { وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعني وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين كقوله عز وجل: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } وكقوله جل وعلا: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } أي قال لهم هود ذلك فأجابه قومه قائلين { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } أي لتصدنا عن آلهتنا {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعاداً منهم وقوعه كقوله جلت عظمته { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ } أي الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فسيفعل ذلك بكم وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به { وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } أي لا تعقلون ولا تفهمون.
قال الله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي لما رأوا العذاب مستقبلهم، اعتقدوا أنه عارض ممطر، ففرحوا واستبشروا به وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر. قال الله تعالى: { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي هو العذاب الذي قلتم فأْتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين { تُدَمِّرُ } أي تخرب { كُلَّ شَيْءٍ } من بلادهم مما من شأنه الخراب { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي بإذن الله لها في ذلك كقوله سبحانه وتعالى: { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } أي كالشيء البالي ولهذا قال عز وجل: { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} أي قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا. وقد ورد حديث في قصتهم وهو غريب جداً من غرائب الحديث وأفراده. قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي قال: حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال فحملتها فأتيت بها المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال رضي الله عنه، متقلداً السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما شأن الناس ؟ قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص(4/195)
رضي الله عنه وجهاً قال: فجلست فدخل منزله، أو قال رحله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل كان بينكم وبين تميم شيء ؟" قلت: نعم وكان لنا الدائرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك فهاهي بالباب، فأذن لها فدخلت فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً فاجعل الدهناء فحميت العجوز واستوفزت وقالت: يا رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك ؟ قال: قلت إن مثلي ما قال الأول معزى حملت حتفها، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد، قال: "وما وافد عاد ؟" وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه، قلت: إن عاداً قحطوا فبعثوا وفداً لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجىء إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير أفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر. فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها، خذها رماداً رمدداً، لا تبقى من عاد أحداً، قال: فلما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا قال أبو وائل: وصدق وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد. ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه كما تقدم في سورة الأعراف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى رأيت منه لهوته إِنما كان يبتسم وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله إِن الناس إِذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إِذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا" وأخرجاه من حديث ابن وهب.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا رأى ناشئاً في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإِن كان في صلاته ثم يقول: "اللهم إِني أعوذ بك من شر ما فيه" فإِن كشفه الله تعالى حمد الله عز وجل، وإِن أمطر قال: "اللهم صيباً نافعاً".
(طريق أخرى) قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر الطاهر، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن جريج يحدثنا عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا عصفت الريح قال: "اللهم إِني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" قالت: وإِذا تخبلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإِذا أمطرت سري عنه، فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها، فسألته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} " وقد ذكرنا قصة هلاك قوم عاد في سورة الأعراف وهود بما أغنى عن إِعادته هنا، ولله تعالى الحمد والمنة.
وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا إِسماعيل بن زكريا الكوفي، حدثنا أبو مالك بن مسلم الملائي عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فتح على عاد من الريح إِلا مثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم البدو إِلى الحضر، فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتهم، وكان أهل البوادي فيها، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا - قال - عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب" ، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/196)
{وَلَقَدْ مَكّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مّكّنّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَحَاقَ بِه مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ الْقُرَىَ وَصَرّفْنَا الاَيَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
يقول تعالى: ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريباً منه، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي وأحاط بهم العذاب، والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه، أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى } يعني أهل مكة، وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد، وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إِلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضاً، وقوله عز وجل: { وَصَرَّفْنَا الْآياتِ } أي بيناها وأوضحناها { َعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً } أي فهل نصروهم عند احتياجهم إِليهم. { بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إِليهم { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } أي: كذبهم { وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي وافتراؤهم في اتخاذهم إِياهم آلهة وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها، والله أعلم.
{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوَاْ أَنصِتُواْ فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْاْ إِلَىَ قَوْمِهِم مّنذِرِينَ قَالُواْ يَقَوْمَنَآ إِنّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيَ إِلَى الْحَقّ وَإِلَىَ طَرِيقٍ مّسْتَقِيمٍ يَقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاّ يُجِبْ دَاعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، سمعت عكرمة عن الزبير، { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } قال: بنخلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة { كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } قال سفيان: ألبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض، تفرد به أحمد، وسيأتي من رواية ابن جرير عن عكرمة، عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة (ح) وقال الإمام الشهير الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إِسماعيل القاضي أخبرنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم(4/197)
الشهب فرجعت الشياطين إِلى قومهم فقالوا مالكم، فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إِلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهناك حين رجعوا إِلى قومهم { فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً } وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } وإِنما أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه، وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة به، ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث أبي عوانة، وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو أحمد، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً، فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبث جنوده فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض، ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من حديث إسرائيل به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهكذا رواه أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً بمثل هذا السياق بطوله، وهكذا قال الحسن البصري إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم، وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل وإبائهم عليه، فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
قال: فلما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين، وهذا صحيح، ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور، وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره، والله أعلم، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن النخلة { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } قال صه، وكانوا تسعة وأحدهم زوبعة، فأنزل الله عز وجل: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ - إلى - ضلال مبين} فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً قوماً بعد قوم وفوجاً بعد فوج، كما ستأتي بذلك الأخبار في موضعها والآثار مما(4/198)
سنوردها إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي، عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن مسعر بن كدام، عن معن بن عبد الرحمن، قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقاً من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال: حدثني أبوك يعني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ويكون إثباتاً مقدماً على نفي ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أن يكون في المرة الأولى، ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة أي أعلمته باجتماعهم، والله أعلم، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات، والله أعلم.
قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(ذكر الروايات عنه بذلك)
قال الإمام أحمد: حدثنا إِسماعيل بن إبراهيم، حدثنا داود عن الشعبي وابن أبي زائدة، أخبرنا داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح - أو قال - في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله، فذكروا له الذي كانوا فيه فقال: "إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم" قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال: قال الشعبي: سألوه الزاد، قال عامر: سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه أن يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم - قال - فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن" وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه. وقال مسلم أيضاً: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود وهو ابن أبي هند عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل استطير ؟ اغتيل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: "أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن". قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم". (طريق أخرى) عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني عمي، حدثني يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون". (طريق أخرى) فيها أنه كان معه ليلة الجن. قال ابن جرير رحمه الله: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثنا عمي عبد الله بن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي، وكان من أهل الشام قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة: "من(4/199)
أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل" فلم يحضر منهم أحد غيري، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب، ذاهبين حتى بقي منهم رهط، ففرغ رسول الله، فأعطاهم عظماً وروثاً، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبي زرعة وهب بن راشد عن يونس بن يزيد الأيلي به.
ورواه البيهقي في الدلائل من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن يونس به، وقد روى إسحاق بن راهويه عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه، فذكر نحو ما تقدم ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق موسى بن عبيدة عن سعيد بن الحارث عن أبي المعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه، فذكر نحوه أيضاً. (طريق أخرى) قال أبو نعيم: حدثنا أبو مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي قال: حدثنا عفان وعكرمة قالا: حدثنا معتمر قال: قال أبي: حدثني أبو تميمة عن عمرو، ولعله قد يكون قال البكالي يحدثه عمرو عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا، فخط لي خطاً فقال: "كن بين ظهر هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت هلكت" فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة. (طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود رضي الله عنه: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل، قال: فكيف كان ؟ فذكر الحديث وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطاً وقال: "لا تبرح منها" فذكر مثل العجاجة السوداء فغشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذعر ثلاث مرات حتى كان قريباً من الصبح أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنمت ؟" فقلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول "اجلسوا" فقال صلى الله عليه وسلم: "لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "هل رأيت شيئاً ؟" قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مستشعرين ثياباً بيضاً قال صلى الله عليه وسلم: "أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة" فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل. ولا روثاً إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة".
(طريق أخرى) قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السملي وأبو نصر بن قتادة قال أخبرنا أبو محمد بن يحيى بن منصور القاضي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي، حدثنا روح بن صلاح، حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن نفراً من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتوني الليلة أقرأ عليهم القرآن" فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطاً وأجلسني فيه وقال لي: "لا تخرج من هذا" فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحمة فقال: "إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء" قال: فلما أصبحت قلت لأعلمن حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيراً.(4/200)
(طريق أخرى) قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا عثمان بن عمر عن الشمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون، فخط لي خطاً ثم تقدم إليهم، فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أرحلهم عنك. فقال: إني لن يجيرني من الله أحد. (طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان بن أبي فزارة العبسي، حدثنا أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كانت ليلة الجن قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أمعك ماء ؟" قلت: ليس معي ماء ولكن معي إِداوة فيها نبيذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تمرة طيبة وماء طهور" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث زيد به. (طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال: إنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله أمعك ماء ؟" قال: معي نبيذ في إداوة. قال صلى الله عليه وسلم: "اصبب عليّ" فتوضأ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله شراب وطهور" تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقد أورده الدارقطني من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني أبي عن ميناء عن عبد الله رضي الله عنه قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن، فلما انصرف تنفس فقلت: ما شأنك ؟ قال: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود" هكذا رأيته في المسند مختصراً، وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة فقال: حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، وحدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الرزاق عن أبيه عن ميناء عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود" قلت: استخلف. قال: "من ؟" قلت: أبا بكر. قال: فسكت ثم مضى ساعة فتنفس فقلت: ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؟ قال: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود" قلت: استخلف. قال: "من ؟" قلت: عمر. فسكت ساعة ثم مضى ثم تنفس فقلت ؟ ما شأنك ؟ قال: "نعيت إلي نفسي" قلت: فاستخلف قال صلى الله عليه وسلم: "من ؟" قلت: علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين" وهو حديث غريب جداً وأحرى به أن لا يكون محفوظاً، وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده إن شاء الله تعالى، فإن في ذلك الوقت كان في آخر الأمر لما فتحت مكة ودخل الناس والجان أيضاً في دين الله أفواجاً نزلت سورة { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، ووافقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه، وقد ورد في ذلك حديث سنورده إن شاء الله تعالى عند تفسيرها، والله أعلم وقد رواه أبو نعيم أيضاً عن الطبري عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن علي بن الحسين بن أبي بردة، عن يحيى بن سعيد الأسلمي، عن حرب بن صبيح عن سعيد بن سلمة عن أبي مرة الصنعاني، عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف، وهذا إسناد غريب وسياق عجيب.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط حوله، فكان أحدهم مثل سواد النخل وقال: "لا تبرح(4/201)
مكانك فأقرئهم كتاب الله" فلما رأى المرعى قال: كأنهم هؤلاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمعك ماء ؟" قلت: لا. قال: "أمعك نبيذ ؟" قلت: نعم فتوضأ به.
(طريق أخرى مرسلة) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني، أخبرنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ } قال هم اثنا عشر ألفاً جاؤوا من جزيرة الموصل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رضي الله عنه: "أنظرني حتى آتيك" وخط عليه خطاً وقال: "لا تبرح حتى آتيك" فلما خشيهم ابن مسعود رضي الله عنه كاد أن يذهب، فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة".
(طريق أخرى مرسلة أيضاً): قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } قال: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني ؟" فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل: يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة، فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل، قال فدخل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه، وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطاً ليثبته بذلك، قال: فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم تلا القرآن فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق" رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فهذه الطرق كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصداً فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل وشرع الله تعالى لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه، وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن ودعائه إياهم، وإنما كان بعيداً منه ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة، هذه طريقة البيهقي، وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود رضي الله عنه ولا غيره، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإِمام أحمد، وهي عند مسلم، ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى، والله أعلم، كما روى ابن أبي حاتم في تفسير {قل أوحي إِلي} من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذي لقوه بنخلة فجن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين، وتأوله البيهقي على أنه يقول فبتنا بشر ليلة بات بها قوم على غير ابن مسعود رضي الله عنه ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن، وهو محتمل على بعد، والله أعلم. وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي،: أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله الأديب، حدثنا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن يحيى عن جده سعيد بن عمرو قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداوة لوضوئه وحاجته، فأدركه يوماً فقال: "من هذا ؟" قال: أنا أبو هريرة. قال صلى الله عليه وسلم: "ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة" فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته فقلت: يا رسول الله ما بال العظم والروثة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاماً" أخرجه البخاري في صحيحه عن موسى بن إسماعيل عن عمرو بن يحيى بإسناده قريباً منه، فهذا يدل على ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يدل على تكرار ذلك.(4/202)
وقد روى ابن عباس غير ما روى عنه أولاً من وجه جديد، فقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الحميد الحماني، حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ } الآية. قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله رسلاً إلى قومهم. فهذا يدل على أنه روى القصتين. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا سويد بن عبد العزيز، حدثنا رجل سماه عن ابن جريج عن مجاهد { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ } الآية، قال كانوا سبعة نفر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين، وكانت أسماؤهم حيي وحسي ومنسى وساصر وناصر والاردوبيان والأحتم، وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال له بنو الشيصان وكانوا أكثر الجن عدداً وأشرفهم نسباً، وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري عن عاصم عن ذر عن بن مسعود رضي الله عنه كانوا تسعة أحدهم زوبعة، أتوه من أصل نخلة، وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة، وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان، وقيل: كانوا ثلاثمائة، وتقدم عن عكرمة على أنهم كانوا اثني عشر ألفاً، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرار وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في صحيحه: حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب، حدثني عمر هو ابن محمد قال: إن سالماً حدثه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا إلا كان كما يظن بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، علي بالرجل، فدعي له، فقال له ذلك فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك، قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقال:
ألم تر الجن وإِبلاسها ... ويأسها من بعد إنكاسها ... ولحوقها بالقلاص وأحلاسها
قال عمر رضي الله عنه: صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح، أمر نجيج رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله قال: فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري، وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه، ثم قال وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح، وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه، وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه، والله أعلم، وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه وهذا الرجل هو سواد بن قارب، وقد ذكرت هذا مستقصى في سيرة عمر رضي الله عنه فمن أراده فليأخذه من ثم، ولله الحمد والمنة. وقال البيهقي: حديث سواد بن قارب، ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني قراءة عليه، حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة، حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه، حدثنا أبو بكر القصري حدثنا محمد بن النواس الكوفي، حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس(4/203)
أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فقلت يا أمير المؤمنين وما سواد بن قارب ؟ قال فقال له عمر رضي الله عنه: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً، قال فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب قال: فقال له عمر رضي الله عنه: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان ؟ قال سواد رضي الله عنه: فإني كنت نازلاً بالهند وكان لي رئي من الجن، قال فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك، قال قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسها
...
وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
...
ما خير الجن كأنجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم
...
واسم بعينيك إلى رأسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال يا سواد بن قارب، إن الله عز وجل بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها
...
وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
...
ليس قداماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم
...
واسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها
...
وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
...
ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم
...
ما مؤمنو الجن ككفارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، قال فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي فما حللت تسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالمدينة يعني مكة، والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مرحباً بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك" قال: قلت يا رسول الله قد قلت شعراً فاسمعه مني قال صلى الله عليه وسلم: "قل يا سواد" فقلت:
أتاني رئي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الدعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غير ه ... و أنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... و إن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال لي: "أفلحت يا سواد" فقال عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الآن ؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن. ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين. ومما يدل على وفادتهم إليه صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلى المدينة الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة، حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عبدة المصيصي، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن أسلم أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني من حدثه عمرو بن غيلان(4/204)
الثقفي قال: أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلت له: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل، قلت: حدثني كيف كان شأنه! فقال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل يعشيه، وتركت فلم يأخذني أحد منهم، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا ؟" فقلت: أنا ابن مسعود، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أخذك أحد يعشيك ؟" فقلت: لا ، قال صلى الله عليه وسلم: "فانطلق لعلي أجد لك شيئاً". قال: فانطلقنا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة أم سلمة رضي الله عنها، فتركني قائماً ودخل إلى أهله ثم خرجت الجارية فقالت: يا ابن مسعود، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء فارجع إلى مضجعك، قال فرجعت إلى المسجد فجمعت حصباء المسجد فتوسدته والتففت بثوبي، فلم ألبث إلا قليلاً حتى جاءت الجارية فقالت: أجب رسول الله. فاتبعتها وأنا أرجو العشاء حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل فعرض به على صدري فقال صلى الله عليه وسلم: "انطلق أنت معي حيث انطلقت" قلت: ما شاء الله فأعادها علي ثلاث مرات. كل ذلك أقول ما شاء الله فانطلق، وانطلقت معه حتى أتينا بقيع الغرقد فخط صلى الله عليه وسلم بعصاه خطاً ثم قال: "اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك" ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل، حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت قبله العجاجة السوداء ففرقت فقلت: ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس، فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول: "اجلسوا" فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ثم ثاروا وذهبوا، فأتاني رسول الله فقال: "أنمت بعدي ؟" فقلت: لا ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى رأيت أن آتي البيوت، فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، وكنت أظنها هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فقال: "لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يختطفك بعضهم، فهل رأيت من شيء منهم ؟". فقلت: رأيت رجالاً سوداً مستشعرين بثياب بيض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك وفد جن نصيبين أتوني فسألوني الزاد والمتاع فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة" قلت: فما يغني عنهم ذلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت فلا يستنق أحد منكم بعظم ولا بعرة" وهذا إسناد غريب جداً ولكن فيه رجل مبهم لم يسم، والله تعالى أعلم. وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد: حدثني نمير بن زيد القنبر. حدثنا أبي، حدثنا قحافة بن ربيعة، حدثني الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال: "أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟" فأسكت القوم ثلاثاً، فمر بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها، وأفضينا إلى أرض براز فإذا برجال طوال كأنهم الرماح مستشعرين بثيابهم من بين أرجلهم، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم، وهذا حديث غريب، والله أعلم.
ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو محمد بن حبان، حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح، حدثنا يعقوب الدورقي، حدثنا الوليد بن بكير التيمي، حدثنا حصين بن عمر، أخبرني عبيد المكتب عن إبراهيم قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج حتى إذا كانوا في بعض الطريق إذا هم بحية تنثني على الطريق أبيض، ينفح منه ريح المسك فقلت لصحابي: امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية. قال: فما لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ثم نحيتها عن الطريق، فدفنتها(4/205)
وأدركت أصحابي في المتعشى. قال: فو الله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقالت واحدة منهن: أيكم دفن عمراً. قلنا: ومن عمرو، قالت: أيكم دفن الحية ؟ قال فقلت: أنا. قالت: أما والله لقد دفنت صواماً قواماً، يأمر بما أنزل الله تعالى، ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته من السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام. قال الرجل: فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجتنا ثم مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة، فأنبأته بأمر الحية فقال: صدقت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة" وهذا حديث غريب جداً، والله أعلم.
قال أبو نعيم، وقد روى الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي عن رجل من ثقيف بنحوه، وروى عبد الله بن أحمد والظهراني عن صفوان بن المعطل: هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة وأنهم قالوا إنه آخر التسعة موتاً الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن، وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه، عن معاذ بن عبيد الله بن معمر قال: كنت جالساً عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت بفلاة من الأرض، فذكر أنه رأى ثعبانين اقتتلا ثم قتل أحدهما الآخر، قال: فذهبت إلى المعترك فوجدت حيات كثيرة مقتولة، وإذ ينفح من بعضها ريح المسك، فجعلت أشمها واحدة واحدة حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة، فلففتها في عمامتي ودفنتها، فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد: يا عبد الله لقد هديت، هذان حيان من الجن بنو شعيبان وبنو قيس التقوا فكان من القتلى ما رأيت، واستشهد الذي دفنته وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال عثمان لذلك الرجل إن كنت صادقاً فقد رأيت عجباً، وإن كنت كاذباً فعليك كذبك. وقوله تبارك وتعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ } أي طائفة من الجن { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } أي استمعوا وهذا أدب منهم. وقد قال الحافظ البيهقي: حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي، حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: " ما لي أراكم سكوتاً ؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة {فبأي آلاء ربكما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك ونعمك ربنا نكذب فلك الحمد". ورواه الترمذي في التفسير عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم به قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن فذكره ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد عن زهير بن محمد به مثله. وقوله عز وجل: { فَلَمَّا قُضِيَ } أي فرغ كقوله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } {فقضاهن سبع سموات في يومين} {فإذا قضيتم مناسككم} { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا: { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل، ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولاً لقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى }. وقال عز وجل: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ }. وقال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} فكل نبي بعثه الله تعالى بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته.
فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } فالمراد هنا مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس كقوله: { يَخْرُجُ(4/206)
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } أي أحدهما ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبراً عنهم: { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } ولم يذكروا عيسى لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا أنزل من بعد موسى، وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه الصلاة والسلام أول مرة فقال: بخ بخ! هذا الناموس الذي كان يأتي موسى يا ليتني أكون فيه جذعاً. { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، وقوله: { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} أي في الاعتقاد والإخبار { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} في الأعمال فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب، فخبره صدق وطلبه عدل، كما قال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً }.
وقال سبحانه وتعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وهكذا قالت الجن { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } في الاعتقادات { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } أي في العمليات { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس، حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال: { أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } وقوله تعالى: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } قيل إن من ههنا زائدة وفيه نظر لأن زيادتها في الإثبات قليل، وقيل إنها على بابها للتبعيض { وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي ويقيكم من عذابه الأليم، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة، ولهذا قالوا هذا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة، فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة، والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله جل وعلا: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد، فلم يكن تعالى ليمتن عليهم جزاء لا يحصل لهم، وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضاً على ذلك قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } وما أشبه ذلك من الآيات.
وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنة، وهذه الجنة لا يزال فيها فضل ينشىء الله تعالى لها خلقاً أفلا يسكنها من آمن به وعمل صالحاً، وما ذكروه ههنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة، لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة والنار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة، ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشرع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة، وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها، ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم(4/207)
بنو آدم ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضاً عن الطعام والشراب كالملائكة لأنهم من جنسهم، وكل هذه الأقوال فيها نظر ولا دليل عليها، ثم قال مخبراً عنهم { وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ } أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به { وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ } أي لا يجيرهم منه أحد { أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وهذا مقام تهديد وترهيب فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب، ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً كما تقدم بيانه، ولله الحمد والمنة والله أعلم.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ بَلَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىَ النّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَىَ وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لّهُمْ كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ سَاعَةً مّن نّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
يقول تعالى: أولم ير هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد { أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ } أي ولم يكرثه خلقهم بل قال لها كوني فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة بل طائعة مجيبة وجلة، أفليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ؟ كما قال عز وجل في الآية الأخرى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ولهذا قال تعالى: { بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ثم قال جل جلاله مهدداً ومتوعداً لمن كفر به { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ } أي يقال لهم أما هذا حق أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } أي لا يسعهم إلا الاعتراف { قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ثم قال تبارك وتعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } أي على تكذيب قومهم لهم. وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال وأشهرها أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، قد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل فتكون { مِنَ } في قوله من الرسل لبيان الجنس، والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي، حدثنا السري بن حيان، حدثنا عباد بن عباد، حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً ثم طواه ثم ظل صائماً ثم طواه ثم ظل صائماً ثم قال: "يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله" { وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم كقوله تبارك وتعالى: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } وكقوله تعالى: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } كقوله جل وعلا: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } وكقوله عز وجل: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} الآية. وقوله جل وعلا: { بَلاغٌ } . قال ابن جرير يحتمل معنيين: أحدهما(4/208)
أن يكون تقديره، وذلك لبث بلاغ، والآخر أن يكون تقديره هذا القرآن بلاغ. وقوله تعالى: { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي لا يهلك على الله إلا هالك، وهذا من عدله عز وجل أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب، والله أعلم.(4/209)
سورة محمد
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ أَضَلّ أَعْمَالَهُمْ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَىَ مُحَمّدٍ وَهُوَ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ اتّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنّ الّذِينَ آمَنُواْ اتّبَعُواْ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ}
يقول تعالى: { الّذِينَ كَفَرُواْ } أي بآيات الله { وَصَدّواْ } غيرهم { عَن سَبِيلِ اللّهِ أَضَلّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها وأذهبها ولم يجعل لها ثواباً ولا جزاء كقوله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } ثم قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} أي آمنت قلوبهم وسرائرهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم {وَآمَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَىَ مُحَمّدٍ} عطف خاص على عام وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. وقوله تبارك وتعالى: { وَهُوَ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ } جملة معترضة حسنة ولهذا قال جل جلاله: { كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي أمرهم. وقال مجاهد: شأنهم. وقال قتادة وابن زيد: حالهم والكل متقارب. وقد جاء في حديث تشميت العاطس "يهديكم الله ويصلح بالكم" ثم قال عز وجل: { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ } أي إنما أبطلنا أعمال الكفار. وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شؤونهم لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل أي اختاروا الباطل على الحق { وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي يبين لهم مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنّةَ عَرّفَهَا لَهُمْ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لّهُمْ وَأَضَلّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
يقول تعالى مرشداً للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين { فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ } أي إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصداً بالسيوف { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ } أي أهلكتموهم قتلاً { فَشُدّواْ الْوَثَاقَ } الأسارى الذين تأسرونهم، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم،(4/210)
إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجاناً، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه، والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ، ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل يومئذ فقال: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه منسوخة بقوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } الآية، رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وقال الآخرون وهم الأكثرون: ليست بمنسوخة، ثم قال بعضهم: إنما الإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله. وقال آخرون منهم: بل له أن يقتله إن شاء لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر. وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: "ما عندك يا ثمامة ؟" فقال إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت. وزاد الشافعي رحمة الله عليه فقال: الإمام مخير بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضاً، وهذه المسألة محررة في علم الفروع وقد دللنا على ذلك في كتابنا الأحكام ولله سبحانه وتعالى الحمد والمنة.
وقوله عز وجل: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال مجاهد: حتى ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال". وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش عن إبراهيم بن سليمان، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال: إن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني سيبت الخيل وألقيت السلاح ووضعت الحرب أوزارها وقلت: لا قتال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن جاء القتال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يزيغ الله تعالى قلوب أقوام، فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، ألا إن عقد دار المؤمنين بالشام والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" وهكذا رواه النسائي من طريقين عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل السكوني به.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح قالوا يا رسول الله سيبت الخيل ووضعت السلاح ووضعت الحرب أوزارها قالوا لا قتال قال: "كذبوا الآن جاء القتال، ولا يزال الله تعالى يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك وعقر دار المسلمين بالشام". وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به، والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم، وهذا يقوي القول بعدم النسخ كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب. وقال قتادة { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك، وهذا كقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ }. ثم قال بعضهم: حتى تضع الحرب أوزارها أي أوزار المحاربين وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عز وجل، وقيل أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى. وقوله عز وجل: { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي هذا ولو شاء الله لا نتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم، ويبلو أخباركم كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي آل عمران وبراءة في قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }.(4/211)
وقال تبارك وتعالى في سورة براءة: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها . ومنهم من يجري عليه عمله طول برزخه، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي، حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه تكفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان" تفرد به أحمد رحمه الله.
(حديث آخر) قال أحمد أيضاً: حدثنا الحكم بن نافع، حدثني إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج الحور العين ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه". وقد أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدّين" وروي من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" ورواه أبو داود والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جداً.
وقوله تبارك وتعالى: { سَيَهْدِيهِمْ } أي إلى الجنة كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }. وقوله عز وجل { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي أمرهم وحالهم { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي عرفهم بها وهداهم إليها. قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً، وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا، وقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة. وقال مقاتل بن حيان: بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه، ذكره ابن أبي حاتم رحمه الله. وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضاً رواه البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا".
ثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } كقوله عز وجل: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } فإن الجزاء من جنس العمل ولهذا قال تعالى: { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } كما جاء في الحديث "من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة" ثم قال تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا(4/212)
فَتَعْساً لَهُمْ } عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش!" أي فلا شفاه الله عز وجل. وقوله سبحانه وتعالى: { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أحبطها وأبطلها، ولهذا قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } أي لا يريدونه ولا يحبونه { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }.
{ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ مَوْلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَأَنّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنّارُ مَثْوًى لّهُمْ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدّ قُوّةً مّن قَرْيَتِكَ الّتِيَ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ}
يقول تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } يعني المشركين بالله المكذبين لرسوله { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ } أي عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم، أي ونجى المؤمنين من بين أظهرهم، ولهذا قال تعالى: { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا }. ثم قال: { ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ مَوْلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَأَنّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىَ لَهُمْ} ولهذا لما قال أبو سفيان صخر بن حرب رئيس المشركين يوم أحد، حين سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجب وقال: أما هؤلاء فقد هلكوا، وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله بل أبقى الله تعالى لك ما يسوءك، وإن الذين عددت لأحياء، فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها، ولم أنه عنها، ثم ذهب يرتجز ويقول: اعل هبل اعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه ؟" فقالوا: يا رسول الله وما نقول قال صلى الله عليه وسلم قولوا: "الله أعلى وأجل" ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه ؟" قالوا: وما نقول يا رسول الله ؟ قال: قولوا: "الله مولانا ولا مولى لكم".
ثم قال سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي يوم القيامة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام خضما وقضما، وليس لهم همة إلا في ذلك، ولهذا ثبت في الصحيح "المؤمن يأكل في مِعىً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" ثم قال تعالى: {والنار مثوى لهم} أي يوم جزائهم، وقوله عز وجل: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } يعني مكة { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الرسل وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى ؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة فإن العذاب يوفر على الكافرين به في معادهم { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ }.
وقوله تعالى: { مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } أي الذين أخرجوك من بين أظهرهم. وقال ابن أبي حاتم: ذكر أبي عن محمد بن عبد الأعلى عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أتاه قال فالتفت إلى مكة وقال: "أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إلي، ولولا أن المشركين(4/213)
سورة الفتح
وهي مدنية
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال سمعت عبد الله بن مغفل يقول قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها قال معاوية لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت قراءته، أخرجاه من حديث شعبة به.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً}
نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى، فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله عز وجل هذه السورة من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحاً باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الأمر إليه، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبة، وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتانا فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح، حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قال: فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد عليّ، قال فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألححت كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال: فركبت راحلتي فحركت بعيري فتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء، قال: فإذا أنا بمناد يا عمر، قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيّ شيء قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله، وقال علي بن المديني هذا إسناد مدني جيد لم نجده إلا عندهم، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم(4/222)
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض" ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله لقد بين الله عز وجل ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه صلى الله عليه وسلم {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ - حتى بلغ - فَوْزاً عَظِيماً} أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا مجمع بن يعقوب قال: سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري رضي الله عنه، وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس ؟ قالوا: أوحي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: فقال: رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رسول الله أو فتح هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح" فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً. وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلاثمائة فارس أعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً ورواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى عن مجمع بن يعقوب به. وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا أبو بحر، حدثنا شعبة، حدثنا جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم قال: فقلنا أيقظوه فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك يفعل من نام أو نسي" قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي من غير وجه عن جامع بن شداد به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبداً شكوراً ؟" أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن ابن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم لك من ذنبك وما تأخر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً". أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن عوف الخراز وكان ثقة بمكة حدثنا محمد بن بشر حدثنا مسعر عن قتادة عن أنس قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه - أو قال ساقاه - فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً" غريب من هذا الوجه فقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} أي بيناً وظاهراً والمراد به صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والإيمان.
وقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على(4/223)
الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق وسيدهم في الدنيا والآخرة، ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة: "حبسها حابس الفيل" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئاً يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها" فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي في الدنيا والآخرة {ويهديك صراطاً مستقيماً } أي بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} أي بسبب خضوعك لأمر الله عز وجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك كما جاء في الحديث الصحيح "وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً. وما تواضع أحد لله عز وجل إلا رفعه الله تعالى" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما عاقبت أحداً عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه.
{هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوَاْ إِيمَاناً مّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّآنّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً وَلِلّهِ جُنُودُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
يقول تعالى: {هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ} أي جعل الطمأنينة، قال ابن عباس رضي الله عنهما وعنه: الرحمة وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة رضي الله عنهم، يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم، وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب، ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لا نتصر من الكافرين فقال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة والبراهين الدامغة، ولهذا قال جلت عظمته: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}.
ثم قال عز وجل: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} قد تقدم حديث أنس رضي الله عنه حين قالوا: هنيئاً لك يا رسول الله، هذا لك فما لنا ؟ فأنزل الله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ما كثين فيها أبداً {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها، بل يعفو ويصفح ويغفر ويستر ويرحم ويشكر {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} كقوله جل وعلا: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} الآية. وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أي يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} أي أبعدهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} ثم قال عز وجل مؤكداً لقدرته على الانتقام من الأعداء أعداء الإسلام ومن الكفرة والمنافقين {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}.(4/224)
{إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نّكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} أي على الخلق {وَمُبَشِّراً} أي للمؤمنين {وَنَذِيراً} أي للكافرين وقد تقدم تفسيرها في سورة الأحزاب. {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: تعظموه {وَتُوَقِّرُوهُ} من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام {وَتُسَبِّحُوهُ} أي تسبحون الله {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي أول النهار وآخره. ثم قال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتعظيماً وتكريماً: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} كقوله جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الفضل بن يحيى الأنباري: حدثنا علي بن بكار عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله" وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: "والله ليبعثنه الله عز وجل يوم القيامة له عينان ينظر بهما ولسان ينطق به ويشهد على من استلمه بالحق فمن استلمه فقد بايع الله تعالى" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ولهذا قال تعالى ههنا: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث والله غني عنه {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي ثواباً جزيلاً. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان وكانت تحت شجرة سمر بالحديبية، وكان الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قيل ألفاً وثلاثمائة، وقيل وأربعمائة، وقيل وخمسمائة، والأوسط أصح.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به، وأخرجاه أيضاً من حديث الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن أبي جابر رضي الله عنه قال: كنا يومئذ ألفاً وأربعمائة، ووضع يده في ذلك الماء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى رووا كلهم، وهذا مختصر من سياق آخر حين ذكر قصة عطشهم يوم الحديبية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاهم سهماً من كنانته فوضعوه في بئر الحديبية، فجاشت بالماء حتى كفتهم فقيل لجابر رضي الله عنه: كم كنتم يومئذ ؟ قال: كنا ألفاً وأربعمائة ولو كنا مائة ألف لكفانا، وفي رواية في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أنهم كانوا خمس عشرة مائة.
وروى البخاري من حديث قتادة قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال:(4/225)
خمس عشرة مائة، قلت فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كانوا أربع عشرة مائة قال رحمه الله: وهم، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة، قال البيهقي: هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول خمس عشرة مائة ثم ذكر الوهم فقال أربع عشرة مائة، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين، والمشهور الذي رواه غير واحد عنه أربع عشرة مائة، وهذا هو الذي رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن العباس الدوري عن يحيى بن معين عن شبابة بن سوار عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة، وكذلك هو الذي في رواية سلمة بن الأكوع ومعقل بن يسار والبراء بن عازب رضي الله عنهم، وبه يقول غير واحد من أصحاب المغازي والسير، وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه يقول: كان أصحاب الشجرة ألفاً وأربعمائة وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين. وروى محمد بن إسحاق في السيرة عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما بلغني عنه يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة، كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا بضع عشرة مائة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ذكر سبب هذه البيعة العظيمة
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة، ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه، نبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته. فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان رضي الله عنه حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان رضي الله عنه قد قتل، قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: "لا نبرح حتى نناجز القوم". ودعا رسول الله الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعهم على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر، فبايع الناس ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، فكان جابر رضي الله عنه يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته قد صبأ إليها يستتر بها من الناس، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان رضي الله عنه باطل، وذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قريباً من هذا السياق، وزاد في سياقه أن قريشاً بعثوا وعندهم عثمان رضي الله عنه، سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين بعض المسلمين وبعض المشركين(4/226)
وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوا، فسار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على أن لا يفروا أبداً. فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين، ودعوا إلى الموادعة والصلح.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا هشام، حدثنا الحسن بن بشر، حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رضي الله عنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، فبايع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وحاجة رسوله" فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه خيراً من أيديهم لأنفسهم. قال ابن هشام حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن أبي مليكة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه، فضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال عبد الملك بن هشام النحوي: فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: إن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي، وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي خالد عن الشعبي قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي فقال: ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " علام تبايعني ؟" فقال أبو سنان رضي الله عنه: على ما في نفسك، هذا أبو سنان وهب الأسدي رضي الله عنه.
وقال البخاري: حدثنا شجاع بن الوليد أنه سمع النضر بن محمد يقول: حدثنا صخر عن نافع رضي الله عنه قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر رضي الله عنهما أسلم قبل عمر وليس كذلك، ولكن عمر رضي الله عنه يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار، أن يأتي به، ليقاتل عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر رضي الله عنه لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله رضي الله عنه، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة، فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر رضي الله عنهما. ثم قال البخاري، وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال يعني عمر رضي الله عنه: يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدهم يبايعون فبايع، ثم رجع إلى عمر رضي الله عنه، فخرج فبايع، وقد أسنده البيهقي عن أبي عمرو الأديب عن أبي بكر الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، عن دحيم، حدثني الوليد بن مسلم فذكره، وقال الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه، وعمر رضي الله عنه آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة وقال: با يعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم عن قتيبة عنه. وروى مسلم عن يحيى بن يحيى عن يزيد بن زريع عن خالد عن الحكم بن عبد الله الأعرج، عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر.(4/227)
وقال البخاري: حدثنا المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال يزيد: قلت يا أبا مسلمة على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ ؟ قال: على الموت. وقال البخاري أيضاً: حدثنا أبو عاصم! حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ثم تنحيت فقال صلى الله عليه وسلم: "يا سلمة ألا تبايع ؟" قلت: قد بايعت، قال صلى الله عليه وسلم: "أقبل فبايع". فدنوت فبايعته، قلت: علام بايعته يا سلمة ؟ قال: على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد، وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم أنهم بايعوه على الموت. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها يعني الركي، فإما دعا وإما بصق فيها فجاشت فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة، فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى الله عليه وسلم: "بايعني يا سلمة" قال: فقلت يا رسول لله: قد بايعتك في أول الناس قال صلى الله عليه وسلم: "وأيضاً" قال ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلاً فأعطاني حجفة أو درقة، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس، قال صلى الله عليه وسلم: "ألا تبايع يا سلمة ؟" قال: قلت يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم، قال صلى الله عليه وسلم: "وأيضاً" فبايعته الثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك ؟" قال: قلت يا رسول الله لقيني عامر عزلاً فأعطيتها إياه فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "إنك كالذي قال الأول اللهم ابغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي". قال: ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا. قال: وكنت خادماً لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أسقي فرسه وأحسّه وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا في بعض أتيت شجرة فكَسَحت شوكها، ثم اضطجعت في أصلها في ظلها، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قتل ابن زُنيم! فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الأربعة، وهم رقود، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثاً في يدي ثم قلت: والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه! قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز من المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه" فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية، وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه أو قريباً منه.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فانطلقنا من قابل حاجين فخفي علينا مكانها، فإن كان تبينت لكم فأنتم أعلم، وقال أبو بكر الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزبير، حدثنا جابر رضي الله عنه قال، لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة وجدنا رجلاً منا يقال له الجد بن قيس مختبئاً تحت إبط بعيره، رواه مسلم من حديث ابن جريج عن ابن الزبير به. وقال الحميدي أيضاً: حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمع جابراً رضي(4/228)
الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم خير أهل الأرض اليوم" قال جابر رضي الله عنه: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة، قال سفيان إنهم اختلفوا في موضعها أخرجاه من حديث سفيان، وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي، حدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي حدثنا محمد بن ثابت العبدي عن خداش بن عياش عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر" قال: فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره فقلنا تعال فبايع. فقال: أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا قرة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل" فكان أول من صعد خيل بني الخزرج ثم تبادر الناس بعد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر" فقلنا: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، فإذا هو رجل ينشد ضالة، رواه مسلم عن عبيد الله به. وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها: "لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد" قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة رضي الله عنها {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} رواه مسلم، وفيه أيضاً عن قتيبة عن الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: إن عبداً لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها فإنه قد شهد بدراً والحديبية" ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} كما قال عز وجل في الآية الأخرى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لّن يَنقَلِبَ الرّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىَ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنّ السّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً وَمَن لّمْ يُؤْمِن بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً وَلِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً}
يقول تعالى مخبراً رسوله صلى الله عليه وسلم بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم وتركوا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذروا بشغلهم لذلك وسألوا أن يستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك قول(4/229)
منهم لا على سبيل الاعتقاد بل على وجه التقية والمصانعة، ولهذا قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس، وهو العليم بسرائركم وإن صانعتمونا ونافقتمونا، ولهذا قال تعالى: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ثم قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص بل تخلف نفاق {بلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أي اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم، وتستباد خضراؤهم ولا يرجع منهم مخبر {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد، وقال قتادة: فاسدين، وقيل هي لغة عمان. ثم قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف ما هو عليه في نفس الأمر. ثم بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والأرض {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي لمن تاب إليه وأناب وخضع لديه.
{سَيَقُولُ الْمُخَلّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىَ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلاَمَ اللّهِ قُل لّن تَتّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً}
يقول تعالى مخبراً عن الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى خيبر يفتحونها أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يأذن لهم في ذلك معاقبة لهم من جنس ذنبهم فإن الله تعالى قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ذلك شرعاً ولا قدراً ولهذا قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} قال مجاهد وقتادة وجويبر وهو الوعد الذي وعد به أهل الحديبية واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد هو قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، لأن هذه الآية التي في براءة نزلت في غزوة تبوك وهي متأخرة عن عمرة الحديبية، وقال ابن جريج {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يعني بتثبيطهم المسلمين عن الجهاد {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي أن نشرككم في المغانم {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أي ليس الأمر كما زعموا ولكن لا فهم لهم.
{قُل لّلْمُخَلّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىَ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلّوْاْ كَمَا تَوَلّيْتُمْ مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلّ(4/230)
يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً}
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم الذين هم أولو بأس شديد على أقوال (أحدها) أنهم هوازن، رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير أو عكرمة أو جميعاً، ورواه هشيم عن أبي بشر عنهما وبه يقول قتادة في رواية عنه (الثاني) ثقيف، قاله الضحاك. (الثالث) بنو حنيفة، قاله جويبر ورواه محمد بن إسحاق عن الزهري وروي مثله عن سعيد وعكرمة. (الرابع) هم أهل فارس، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه يقول عطاء ومجاهد وعكرمة في إحدى الروايات عنه. وقال كعب الأحبار: هم الروم، وعن ابن أبي ليلى وعطاء والحسن وقتادة: وهم فارس والروم، وعن مجاهد: هم أهل الأوثان، وعنه أيضاً: هم رجال أولو بأس شديد، ولم يعين فرقة، وبه يقول ابن جريج وهو اختيار ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الأشج، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق القواريري عن معمر عن الزهري في قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال: لم يأت أولئك بعد. وحدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن ابن أبي خالد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال: هم البارزون قال وحدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار الأعين ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة" قال سفيان: هم الترك، قال ابن أبي عمر: وجدت في مكان آخر، حدثنا ابن أبي خالد عن أبيه قال: نزل علينا أبو هريرة رضي الله عنه ففسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر" قال: هم البارزون يعني الأكراد، وقوله تعالى: {قَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} يعني شرع لكم جهادهم وقتالهم، فلا يزال ذلك مستمراً عليهم، ولكم النصرة عليهم أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار. ثم قال عز وجل: {فَإِنْ تُطِيعُوا} أي تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يعني زمن الحديبية حيث دعيتم فتخلفتم {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد فمنها لازم كالعمى والعرج المستمر، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياماً ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ. ثم قال تبارك وتعالى مرغباً في الجهاد وطاعة الله ورسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش {يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} في الدنيا بالمذلة وفي الآخرة بالنار، والله تعالى أعلم.
{لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وقد تقدم ذكر عدتهم وأنهم كانوا ألفاً وأربعمائة، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية، قال البخاري: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن طارق أن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون فقلت: ما هذا المسجد ؟ قالوا هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم.
وقوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي من الصدق والوفاء والسمع والطاعة {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ} وهي(4/231)
الطمأنينة {عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهو ما أجرى الله عز وجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم سائر البلاد والأقاليم عليهم وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا موسى يعني ابن عبيدة، حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال: بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البيعة البيعة نزل روح القدس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} قال: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه بإحدى يديه على الأخرى فقال الناس: هنيئاً لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ههنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف".
{وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً وَأُخْرَىَ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الّذِينَ كفَرُواْ لَوَلّوُاْ الأدْبَارَ ثُمّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}
قال مجاهد في قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} هي جميع المغانم إلى اليوم {فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني فتح خيبر، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما {فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني صلح الحديبية {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال، وكذلك كف أيدي الناس عنكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يعتبرون بذلك، فإن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء مع قلة عددهم، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم إنه العالم بعواقب الأمور، وإن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر كما قال عز وجل {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته، وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تبارك وتعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي وغنيمة أخرى وفتحاً آخر معيناً لم تكونوا تقدرون عليها، قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون، وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها فقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هي خيبر، وهذا على قوله عز وجل: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} إنها صلح الحديبية، وقاله الضحاك وابن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال قتادة: هي مكة واختاره ابن جرير، وقال ابن أبي ليلى والحسن البصري: هي فارس والروم، وقال مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن سماك الحنفي عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَأُخْرَى لَمْ(4/232)
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} يقول عز وجل مبشراً لعباده المؤمنين، بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولا نهزم جيش الكفر فاراً مدبراً لا يجدون ولياً ولا نصيراً، لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين. ثم قال تبارك وتعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن إلا نصر الله الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين مع قلة عدد المسلمين وعددهم وكثرة المشركين وعددهم.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً فيه خير للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة، وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه حين جاؤوا بأولئك السبعين الأسارى، فأوقفوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهم فقال: "أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه". قال وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح، من قبل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأخذوا. قال عفان: فعفا عنهم ونزلت هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} ورواه مسلم وأبو داود في سننه والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما من طرق عن حماد بن سلمة به. وقال أحمد أيضاً: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا الحسين بن واقد، حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وسهيل بن عمرو بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: "اكتب باسمك اللهم - وكتب - هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة" فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله "فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله تعالى بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل جئتم في عهد أحد ؟ أو هل جعل لكم أحداً أماناً ؟" فقالوا: لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية رواه النسائي من حديث حسين بن واقد به.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي، حدثنا جعفر عن ابن أبزى قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر رضي الله عنه: يا نبي الله، تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع ؟ قال: فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يدع فيها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى، فنزل بمنى فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في(4/233)
خمسمائة، فقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه: "يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل" فقال خالد رضي الله عنه: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي سيف الله، فقال: يا رسول الله ابعثني أين شئت، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ - إلى قوله تعالى - عَذَاباً أَلِيماً} قال فكف الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل.
ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه، وهذا السياق فيه نظر فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية، لأن خالداً رضي الله عنه لم يكن أسلم بل قد كان طليعة للمشركين يومئذ، كما ثبت في الصحيح، ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء لأنهم قاضوه على أن يأتي في العام القابل فيعتمر، ويقيم بمكة ثلاثة أيام، ولما قدم صلى الله عليه وسلم لم يمانعوه ولا حاربوه ولا قاتلوه. فإذا قيل: فيكون يوم الفتح ؟ فالجواب: ولا يجوز أن يكون يوم الفتح لأنه لم يسق عام الفتح هدياً، وإنما جاء محارباً مقاتلاً في جيش عرمرم، فهذا السياق فيه خلل وقد وقع فيه شيء فليتأمل والله أعلم. وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال: إن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحداً فأخذوا أخذاً، فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: وفي ذلك أنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً يقال له ابن زنيم اطلع على الثنية من الحديبية، فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً فأتوه باثني عشر فارساً من الكفار فقال لهم: "هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟" قالوا: لا، فأرسلهم وأنزل الله تعالى في ذلك: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية.
{هُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مّؤْمِنَاتٌ لّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مّعَرّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيّلُواْ لَعَذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَىَ وَكَانُوَاْ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً}
يقول تعالى مخبراً عن الكفار من مشركي العرب من قريش، ومن ما لأهم على نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي هم الكفار دون غيرهم {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي أنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الأمر {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أي صدوا الهدي أن يصل وهذا من بغيهم وعنادهم، وكان الهدي سبعين بدنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله عز وجل: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم، لكنا سلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل، ولهذا قال تعالى: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} أي إثم وغرامة {بِغَيْرِ عِلْمٍ(4/234)
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام، ثم قال تبارك وتعالى: {وْ تَزَيَّلُوا} أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلاً ذريعاً.
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد المكي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد مولى بني هاشم، حدثنا حجر بن خلف قال: سمعت عبد الله بن عوف يقول: سمعت جنيد بن سبع يقول: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} قال: كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين، ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به، وقال فيه عن أبي جمعة جنيد بن سبع فذكره، والصواب أبو جعفر حبيب بن سباع، ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف به: قال: كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة، وفينا نزلت {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} وقال ابن أبي حاتم، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري. حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة عن أبي حمزة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يقول لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلهم إياهم.
وقوله عز وجل: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وذلك حين أبوا أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم، وأبوا أن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} وهي قول "لا إله إلا الله" كما قال ابن جرير وعبد الله بن الإمام أحمد. حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا شعبة عن ثور عن أبيه عن الطفيل، يعني ابن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :{"وألزمهم كلمة التقوى} قال: "لا إله إلا الله" وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة، وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل" وأنزل الله في كتابه وذكر قوماً فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} وقال الله جل ثناؤه: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله، فاستكبروا عنها، واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية فكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة، وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري والله أعلم.
وقال مجاهد: كلمة التقوى الإخلاص، وقال عطاء بن أبي رباح هي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن عباية بن ربعي عن علي رضي الله عنه {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله والله اكبر وكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: يقول شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى، وقال سعيد بن جبير {وَأَلْزَمَهُمْ(4/235)
كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله والجهاد في سبيله وقال عطاء الخراساني هي لا إله إلا الله محمد رسول الله} وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال بسم الله الرحمن الرحيم. وقال قتادة {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} كان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي هو عليم بمن يستحق الخير ممن يستحق الشر، وقد قال النسائي: حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا شبابة بن سوار عن أبي رزين عن عبد الله بن العلاء بن نوير عن بشر بن عبد الله عن أبي إدريس عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يقرأ {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} ولو حميتم كما حَمَوا لفسد المسجد الحرام، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأغلظ له فقال إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله تعالى، فقال عمر رضي الله عنه: بل أنت رجل عندك علم وقرآن، فاقرأ وعلم مما علمك الله تعالى ورسوله.
وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون. أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش، قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل، قد لبست جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله تعالى دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش فو الله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهرني الله عز وجل أو تنفرد هذه السالفة" ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة، قال فسلك بالجيش تلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس خلأت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها". ثم قال صلى الله عليه وسلم للناس: "انزلوا" قالوا: يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه فيه، فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد صلى الله عليه وسلم، إن محمداً لم يأْت لقتال إنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحقه، فاتهموهم.
قال محمد بن إسحاق: قال الزهري وكانت خزاعة في عيبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، مشركها ومسلمها لا يخفون على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم شيئاً كان بمكة، فقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فو الله لا يدخلها أبداً علينا عنوة، ولا يتحدث بذلك العرب، ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أحد بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رجل غادر" فلما انتهى إلى(4/236)
رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، كلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بنحو مما تكلم مع أصحابه، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني، وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي" فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش لقد رأيت ما لا يحل صد الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس على محله، قالوا: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك. فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأنا ولد، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه فقال: يا محمد جمعت أوباش الناس ثم جئت بهم لبيضتك لنقضها، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً، قال وأبو بكر رضي الله عنه قاعد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه ؟ قال من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "هذا ابن أبي قحافة " قال: أما والله لو لا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها، ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديد، قال: فقرع يده ثم قال أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل والله أن لا تصل إليك قال ويحك ما أفظك وأغلظك! فتبسم رسول الله قال: من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة" قال: أغدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ؟ قال: فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه، وأخبره بأنه لم يأت يريد حرباً. قال فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ وضوءاً إلا ابتدروه، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت ملكاً قط مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً فروا رأيكم.
قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له الثعلب، فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش، فمنعتهم الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عمر رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بها من بني عدي أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني بها عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد، وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته، فخرج عثمان رضي الله عنه حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنزل عن دابته وحمله بين يديه أردفه خلفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان رضي الله عنه: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: واحتبسته قريش عندها قال: وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل. قال محمد: فحدثني الزهري أن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو وقالوا: ائت محمداً فصالحه ولا تلن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(4/237)
"قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلما وأطالا الكلام وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتى أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر أوليس برسول الله ؟ أولسنا بالمسلمين ؟ أوليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا عمر إلزم غرزه حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله. فقال عمر رضي الله عنه: وأنا أشهد، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أولسنا بالمسلمين ؟ أوليسوا بالمشركين ؟ قال صلى الله عليه وسلم "بلى" قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني" ثم قال عمر رضي الله عنه: ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً. قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" فقال له سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليه، ومن أتى قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا أسلال ولا أغلال. وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب: أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا، نحن في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك وأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه، دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا. فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه قال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال "صدقت " فقام إليه فأخذ بتلابيبه قال وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ قال فزاد الناس شراً إلى ما بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهداً وإنا لن نغدر بهم". قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجعل يمشي مع أبي جندل، ويقول اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه، قال يقول: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه. قال: فضن الرجل بأبيه، قال ونفذت القضية، فلما فرغا من الكتاب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس انحروا واحلقوا" قال: فما قام أحد، قال ثم عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها، فما قام رجل، ثم عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها فما قام رجل، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقال: "يا أم سلمة ما شأن الناس ؟" قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا(4/238)
يكلم أحداً حتى إذا أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق، قال: فقام الناس ينحرون ويحلقون، حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح، هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه، وهكذا رواه يونس بن بكير وزياد البكائي عن أبي إسحاق بنحوه .
وقد رواه أيضاً عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به نحوه، وخالفه في أشياء، وقد رواه البخاري رحمه الله في صحيحه فساقه سياقة حسنة مطولة بزيادات جيدة، فقال في كتاب الشروط من صحيحه: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهم حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة وسار، حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك. فقال صلى الله عليه وسلم: "أشيروا أيها الناس علي، أترون أن نميل على عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت ؟" وفي لفظ: "أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع عنقاً من المشركين، وإلا تركناهم محزونين" ، وفي لفظ "فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محرونين، وإن نجوا يكن عنقاً قطعها الله عز وجل. أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ". فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد ولا حرباً، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، وفي لفظ: فقال أبو بكر رضي الله عنه: الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين ولم نجىء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فروحوا إذن" وفي لفظ "فامضوا على اسم الله تعالى" حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين" فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: جل حل فألحت، فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها". ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله العطش، فانتزع صلى الله عليه وسلم من كنانته سهماً ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:: "إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهتكهم الحرب، فأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمّه، وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره". قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا قد جئنا من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قاله رسول(4/239)
الله صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد ؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني ؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحواً من قوله لبديل بن ورقاء، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تك الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات أنحن نفر وندعه ؟ قال: من ذا ؟ قالوا أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه وقال: من هذا ؟ قال: "المغيرة بن شعبة". قال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك.
وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء". ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فو الله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم فرجع عروة إلى أصحابه. فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل منهم من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له". فبعثت واستقبله الناس يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل فاجر" فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، وقال معمر: أخبرني أيوب عن عكرمة أنه قال: لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم" قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بعلي رضي الله عنه وقال: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل بن عمرو: أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم - ثم قال - هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله" قال الزهري: وذلك لقوله: "والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك(4/240)
إلا رددته إلينا فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد" قال: فو الله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" قال: ما أنا بمجيز ذلك لك قال: "بلى فافعل" قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله عز وجل. قال عمر رضي الله عنه: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقاً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى" قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى" قلت فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري" قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟". قلت: لا. قال صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً ؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت: لا. قال: فإنك تأتيه وتطوف به.
قال الزهري قال عمر رضي الله عنه: فعملت لذلك أعمالاً. قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال: فو الله ما قام منهم رجل حتى قال صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من الناس، قالت له أم سلمة رضي الله عنها: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ - حتى بلغ - بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت منه ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذعراً" فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله تعالى منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد".
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} - حتى بلغ - {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن(4/241)
الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت. هكذا ساقه البخاري ههنا، وقد أخرجه في التفسير وفي عمرة الحديبية وفي الحج وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة، كلاهما عن الزهري به.
ووقع في بعض الأماكن عن الزهري عن عروة عن مروان والمسور عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهذا أشبه والله أعلم، ولم يسقه أبسط من ههنا، وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع، وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هنا، ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. وقال البخاري في التفسير: حدثنا أحمد بن إسحاق السلمي، حدثنا يعلى، حدثنا عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل أسأله، فقال كنا بصفين، فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نعم، فقال سهل بن حنيف: اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ فقال: "بلى" . قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً" فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً، فنزلت سورة الفتح. وقد رواه البخاري أيضاً في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان بن سلمة عن سهل بن حنيف به، وفي بعض ألفاظه: يا أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددته، وفي رواية: فنزلت سورة الفتح فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأها عليه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: إن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "اكتب من محمد رسول الله" قال: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب من محمد بن عبد الله" واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لا نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقال: يا رسول الله أنكتب هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله" رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به. وقال أحمد أيضاً، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عكرمة بن عمار قال حدثني سماك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا فقلت لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي رضي الله عنه: "اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قالوا لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امح يا علي اللهم إنك تعلم أني رسولك امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله" والله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة أخرجت من هذه ؟ قالوا نعم ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي بنحوه وروى الإمام أحمد عن يحيى بن آدم عن زهير بن حرب عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها.
{لّقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ(4/242)
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً}
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فقال له فيما قال أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: "بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟" قال لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنك آتيه ومطوف به" وبهذا أجاب الصديق رضي الله عنه أيضاً حذو القذة بالقذة ولهذا قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} هذا لتحقيق الخبر وتوكيده وليس هذا من الإستثناء في شيء. وقوله عز وجل: {آمِنِينَ} أي في حال دخولكم. وقوله: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} حال مقدرة لأنهم في حال دخولهم لم يكونوا محلقين ومقصرين وإنما كان هذا في ثاني الحال. كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله المحلقين" قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين" قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين" قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "والمقصرين" في الثالثة أو الرابعة. وقوله سبحانه وتعالى: {لا تَخَافُونَ} حال مؤكدة في المعنى فأثبت لهم الأمن حال الدخول ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة. فأقام بها ذا الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد، قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة. فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار أصحابه يلبون. فلما كان صلى الله عليه وسلم قريباً من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد ما عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك ؟" قال: "دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال صلى الله عليه وسلم: "لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج". فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان، فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى(4/243)
وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول:
باسم الذي لا دين إلا دينه ... باسم الذي محمد رسوله
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله ... قد أنزل الرحمن في تنزيله
في صحف تتلى على رسوله
بأن خير القتل في سبيله
... يا رب إني مؤمن بقيله
فهذا مجموع من روايات متفرقة. قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء دخلها وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه آخذ بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... إني شهيد أنه رسوله
خلوا فكل الخير في رسوله ... يا رب إني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بين يديه وفي رواية: وابن رواحة آخذ بغرزه وهو رضي الله عنه يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد نزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله ... يا رب إني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله
اليوم نضربكم على تأويله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن عبد الله، يعني ابن عثمان عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول ما يتباعثون من العجف، فقال أصحابه لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غداً حين ندخل على القوم وبنا جمامة. قال صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم"، فجمعوا له وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا وحثا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال: "لا يرى القوم فيكم غميزة" فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنة. قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع.وقال أحمد أيضاً: حدثنا(4/244)
يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. فقال المشركون: أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.
وفي لفظ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم صبيحة رابعة يعني من ذي القعدة، فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. قال البخاري: وزاد ابن سلمة. يعني حماد بن سلمة، عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال ارملوا، ليري المشركين قوتهم والمشركون من قبل قعيقعان، وحدثنا محمد، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته. ورواه في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة به. وقال أيضاً: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم، أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، انفرد به البخاري دون مسلم، وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا فليح وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم، حدثنا أبي، حدثنا فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً عليهم إلا سيوفاً ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج فخرج صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم أيضاً.
وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضانا عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقر بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: "أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله" ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "امح رسول الله" قال رضي الله عنه: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحداً إن أراد أن يقيم بها".
فلما دخلها ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة رضي الله عنه تنادي يا عم يا عم، فتناولها علي رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه: أنا أخذتها وهي ابنة عمي. وقال جعفر رضي الله عنه: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد رضي الله عنه: ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم" وقال لعلي رضي الله عنه: "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر رضي الله(4/245)
عنه "أشبهت خلقي وخلقي" وقال صلى الله عليه وسلم لزيد رضي الله عنه: "أنت أخونا ومولانا" قال علي رضي الله عنه: ألا تتزوج ابنة حمزة رضي الله عنه ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إنها ابنة أخي من الرضاعة" تفرد به من هذا الوجه. وقوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي فعلم الله عز وجل من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتحاً قريباً، وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين، ثم قال تبارك وتعالى مبشراً للمؤمنين بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم على عدوه، وعلى سائر أهل الأرض: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أي بالعلم النافع والعمل الصالح، فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي على أهل جميع الأديان من سائر الأرض من عرب وعجم ومليين ومشركين {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} أي أنه رسوله وهو ناصره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىَ عَلَىَ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنْهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
يخبر تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب فقال: {مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ} وهذا مبتدأ وخبر، وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال: {وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} كما قال عز وجل: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار، رحيماً براً بالأخيار، غضوباً عبوساً في وجه الكافر ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً". وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، كلا الحديثين في الصحيح.
وقوله سبحانه وتعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم، وهو أكبر من الأول كما قال جل وعلا: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} وقوله جل جلاله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: سيماهم في وجوههم يعني السمت الحسن. وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن منصور عن مجاهد {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال: الخشوع. قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون. وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم، وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه(4/246)
بالنهار، وقد أسنده ابن ماجه في سننه عن إسماعيل بن محمد الطلحي عن ثابت بن موسى عن شريك، عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمود بن محمد المروزي، حدثنا حامد بن آدم المروزي، حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن سلمة بن كهيل، عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيراً فخير وإن شراً فشر" العرزمي متروك. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا زهير، حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة" ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي عن زهير به، فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ثم قال {وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي فراخه {فَآزَرَهُ} أي شده {اسْتَغْلَظَ} أي شب وطال {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه، في رواية عنه، بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك، والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم: ثم قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} من هذه لبيان الجنس {مَغْفِرَةً} أي لذنوبهم {وَأَجْراً عَظِيماً} أي ثواباً جزيلاً ورزقاً كريماً. ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل. قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" .
آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة.(4/247)
سورة الحجرات
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوَاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ أُوْلَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَىَ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
هذه آيات أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين، فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام، فقال تبارك وتعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ} أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: "بمَ تحكم ؟" قال: بكتاب الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجد ؟" قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجد ؟" قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وقال العوفي عنه: نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه، وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه، وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم، وقال سفيان الثوري {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} بقول ولا فعل، وقال الحسن البصري {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال: لا تدعوا قبل الإمام، وقال قتادة: ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا، لو صنع كذا، فكره الله تعالى ذلك وتقدم فيه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي فيما أمركم به {نَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي لأقوالكم {عَلِيمٌ} بنياتكم.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته، وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي، حدثنا نافع بن عمر عن أبي مليكة، قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما، ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى:(4/248)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم.
ثم قال البخاري: حدثنا حسن بن محمد، حدثنا حجاج عن ابن جريج، حدثني ابن أبي ملكية أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} حتى انقضت الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} الآية. وهكذا رواه ههنا منفرداً به أيضاً وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حصين بن عمر عن مخارق عن طارق بن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قلت: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار. حصين بن عمر، هذا وإن كان ضعيفاً لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحو ذلك، والله أعلم. وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا أزهر بن سعد، أخبرنا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده في بيته منكساً رأسه فقال له: ما شأنك ؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: "اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة" تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ - إلى قوله - وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزيناً ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، بل هو من أهل الجنة" قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه فقال: بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى آخر الآية، جلس ثابت رضي الله عنه في بيته قال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: "يا أبا عمرو ما شأن ثابت أَشتكى ؟"(4/249)
فقال سعد رضي الله عنه: إنه لجاري وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد رضي الله عنه فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت رضي الله عنه: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهل الجنة" ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدرامي عن حيان بن هلال عن سليمان بن المغيرة به، قال ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه، وعن قطن بن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه، وقال ليس فيه ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه. حدثني هدبة بن عبد الأعلى الأسدي، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة. فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه، والصحيح أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه موجوداً، لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس، وهذه الآيات نزلت في وفد بني تميم، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} قال: قعد ثابت بن قيس رضي الله عنه في الطريق يبكي، قال: فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان فقال: ما يبكيك يا ثابت ؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا صيت رفيع الصوت. قال: فمضى عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وغلبه البكاء فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله تعالى، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وأتى عاصم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: "اذهب فادعه لي" فجاء عاصم رضي الله عنه إلى المكان فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضبة، قال: فخرجا فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ثابت ؟" فقال رضي الله عنه: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟" فقال: رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله، ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية: وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك، فقد نهى الله عز وجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال: من أين أنتما ؟ قالا: من أهل الطائف، فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً. وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام، لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائماً، ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم، ولهذا قال تبارك وتعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}.
وقوله عز وجل: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده، خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح: "إن(4/250)
الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض" ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك، وأرشد إليه، ورغب فيه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أي أخلصها لها وجعلها أهلاً ومحلاً {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها {ولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
{إَنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنّهُمْ صَبَرُواْ حَتّىَ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه، كما يصنع أجلاف الأعراب فقال: {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة. ثم قال جل ثناؤه داعياً لهم إلى التوبة والإنابة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه، أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: يا محمد يا محمد، وفي رواية: يا رسول الله، فلم يجبه فقال: يا رسول الله إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل" وقال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي، حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق عن البراء في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن حمدي زين وذمي شين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل" وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلاً. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب، وهما عند الحجاج جالسان، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} قالوا: أسلمنا ولم يقاتلك بنو أسد، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي الباهلي. حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: اجتمع أناس من العرب فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكاً نعش بجناحه. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد يا محمد، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني، فمدها فجعل يقول: "لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد، لقد صدق الله قولك يا زيد" ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة، عن المعتمر بن سليمان به.(4/251)
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىَ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَآعْلَمُوَاْ أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ وَلَكِنّ اللّهَ حَبّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَنِعْمَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله، فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عز وجل عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال، وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ولله تعالى الحمد والمنة، وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به. ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته. وترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول لم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأتى الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم ؟ قالوا: إليك. قال: ولم ؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟" قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن يكون كانت سخطة الله تعالى ورسوله. قال فنزلت الحجرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ - إلى قوله - الْحَكِيمُ} ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به.
ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به، غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب أنه الحارث بن ضرار كما تقدم. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة فسمع بذلك القوم فتلقوه(4/252)
يعظمون أمر رسول الله قالت فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قالت فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلاً مصدقاً فسررنا بذلك وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال رضي الله عنه فأذن بصلاة العصر قالت ونزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وروى ابن جرير أيضاً من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضباً شديداً، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهم بهم، فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في الكتاب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} إلى آخر الآية. وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم، فتلقوه بالصدقة فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك، زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التثبث من الله والعجلة من الشيطان" وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت في الوليد بن عقبة، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} وقوله عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز حدثنا علي بن مسعدة، حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام علانية والإيمان في القلب - قال ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول - التقوى ههنا التقوى ههنا" {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان، وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة، وقوله تعالى:(4/253)
{أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي عز وجل" فصاروا خلفه صفوفاً فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق" ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد ابن أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به. وفي الحديث المرفوع: "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن" ثم قال: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىَ الأخرى فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّىَ تَفِيَءَ إِلَىَ أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ}
يقول تعالى آمراً بالإصلاح بين الفئتين الباغين بعضهم على بعض: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم، وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة، والواقعات المهولة. وقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي حتى ترجع إلى أمر الله" ورسوله، وتسمع للحق وتطيعه، كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قلت: يا رسول الله، هذا نصرته مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يحدث أن أنساً رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إليه قال: "إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك" فقال رجل من(4/254)
الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك. قال: فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيهم {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ورواه البخاري في الصلح عن مسدد ومسلم في المغازي عن محمد بن عبد الأعلى كلاهما عن المعتمر بن سليمان عن أبيه به نحوه.
وذكر سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر بالصلح بينهما، وقال السدي: كان رجل من الأنصار يقال له عمران، كانت له امرأة تدعى أم زيد، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها، فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها، وإن الرجل كان قد خرج، فاستعان أهل الرجل، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم الآية، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم وفاؤوا إلى أمر الله تعالى. وقوله عز وجل: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي اعدلوا بينهما فيما كان أصاب بعضهم لبعض بالقسط وهو العدل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين أيدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا" ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى به. وهذا إسناده جيد قوي رجاله على شرط الصحيح، وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وماولوا" ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أي الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" وفي الصحيح "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" وفي الصحيح أيضاً "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك مثله" والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي الصحيح أيضاً "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، حدثنا عبد الله، أخبرنا مصعب بن ثابت حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد في الرأس" تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده، وقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يعني الفئتين المقتتلتين {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في جميع أموركم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىَ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىَ أَن يَكُنّ خَيْراً مّنْهُنّ وَلاَ تَلْمِزُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}(4/255)
ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكبر بطر الحق وغمص الناس - ويروى - وغمط الناس" والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} فنص على نهي الرجال، وعطف نهي النساء. وقوله تبارك وتعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} والهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال عز وجل: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي يحتقر الناس ويهمزهم طاغياً عليهم ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال، ولهذا قال ههنا: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي لا يقتل بعضكم بعضاً. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل بن حيان {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي لا يطعن بعضكم على بعض، وقوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} أي لا تداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا داود بن أبي هند عن الشعبي قال: حدثني أبو جبيرة بن الضحاك، قال فينا نزلت في بني سلمة {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا واحداً منهم باسم من تلك الأسماء، قالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا، فنزلت {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن داود به. وقوله جل وعلا: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} أي بئس الصفة والاسم الفسوق. وهو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يتناعتون بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} أي من هذا {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ}
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً، فليتجنب كثير منه احتياطاً وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً. وقال أبو عبد الله بن ماجة: حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحمصي، حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي قيس النضري، حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً" تفرد به ابن ماجة من هذا الوجه، وقال مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولاتحسسوا ولا تنافسوا ولاتحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً" رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن العتبي عن مالك به.
وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" رواه مسلم والترمذي وصححه من حديث سفيان بن عيينة به.(4/256)
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي، حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني، حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري، حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال عن أبيه، عن جده حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن" فقال الرجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض" وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد رضي الله عنه قال: أُتِيَ ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد الله رضي الله: قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا ليث عن إبراهيم بن نشيط الخولاني عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن دخين كاتب عقبة قال: قلت لعقبة: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم، قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دخين فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا وإني داع لهم الشرط فتأخذهم، فقال له عقبة: ويحك لا تفعل ؟ فإني سمعت رسول الله يقول: "من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤدة من قبرها"
رواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد به نحوه، وقال سفيان الثوري عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم" فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها، ورواه أبو داود منفرداً به من حديث الثوري به. وقال أبو داود أيضاً: حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة، وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم" {وَلا تَجَسَّسُوا} أي على بعضكم بعضاً والتجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالباً في الخير كما قال عز وجل إخباراً عن يعقوب أنه قال {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً" وقال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشيء. والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمع على أبوابهم، والتدابر: الصرم، رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به وقال: حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة عن العلاء. وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ومسروق وقتادة وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة. وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن سفيان، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد: تعني قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" قالت: وحكيت له إنساناً فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أني حكيت إنساناً وإن لي كذا وكذا" ورواه الترمذي من حديث يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع ثلاثتهم عن سفيان الثوري، عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة سلمة بن صهيب الأرحبي عن عائشة رضي الله عنها به وقال: حسن صحيح.(4/257)
وقال ابن جرير: حدثني ابن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة رضي الله عنها بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي إنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتبتها" والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا من رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: "ائذنوا له بئس أخو العشيرة!" وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: "أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" وكذا ما جرى مجرى ذلك، ثم بقيتها على الترحيم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الأكيد، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوه ذاك شرعاً، فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها كما قال صلى الله عليه وسلم في العائد في هبته: "كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه" وقد قال: "ليس لنا مثل السوء" وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
وقال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم" ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به وقال: حسن غريب. وحدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" تفرد به أبو داود وقد روي من حديث البراء بن عازب. فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا إبراهيم بن دينار، حدثنا مصعب بن سلام عن حمزة بن حبيب الزيات، عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها - أو قال - في خدورها، فقال: يا معشر من آمن بلسانه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته". (طريق أخرى) عن ابن عمر. قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يحيى بن أكثم، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أوفى بن دلهم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" قال: ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا قتيبة عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول، عن وقاص بن ربيعة عن المستورد أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كسا ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة" تفرد به أبو داود. وحدثنا ابن مصفى حدثنا بقية وأبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما(4/258)
عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخشمون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" تفرد به أبو داود وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدة، أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، أخبرنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال: "ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال ونساء موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم، فيجذون منه الجذة مثل النعل ثم يضعونها في في أحدهم. فيقال له كل كما أكلت وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه، فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الهمازون واللمازون أصحاب النميمة، فيقال: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه وهو يكره على أكل لحمه" ، هكذا أورد هذا الحديث وقد سقناه بطوله في أول تفسير سورة سبحان ولله الحمد والمنة، وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموا يوماً ولا يفطرن أحد حتى آذن له، فصام الناس، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ظللت منذ اليوم صائماً فائذن لي فأفطر فأذن له ويجيء الرجل فيقول ذلك، فيأذن له حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين، فائذن لهما فليفطرا، فأعرض عنه ثم أعاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صامتا، وكيف صام من ظل يأكل من لحوم الناس ؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا" ففعلتا، فقاءت كل واحدة منهما علقة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار" إسناد ضعيف ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون. حدثنا سليمان التيمي قال: سمعت رجلاً يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ههنا امرأتين صامتا وإنهما كادتا تموتان من العطش، أراه قال بالهاجرة، فأعرض عنه أوسكت عنه، فقال: يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا تموتان، فقال: ادعهما . فجاءتا قال: فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما قيئي. فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى: قيئي، فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً ودماً عبيطاً وغيره حتى ملأت القدح، ثم قال: "إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس".
وهكذا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي، كلاهما عن سليمان بن طرخان التيمي به مثله أو نحوه، ثم رواه أيضاً من حديث مسدد عن يحيى القطان عن عثمان بن غياث. حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان عن سعد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم أمروا بصيام، فجاء رجل في نصف النهار فقال: يا رسول الله فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد فأعرض عنه مرتين أو ثلاثاً ثم قال "ادعهما" فجاء بعس أو قدح فقال لإحداهما: قيئي. فقاءت لحماً ودماً عبيطاً وقيحاً، وقال للأخرى مثل ذلك ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما. أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحاً. قال البيهقي: كذا قال عن سعد، والأول وهو عبيد أصح.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد، حدثنا أبي، حدثنا أبي أبو عاصم، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن ابن عمّ لأبي هريرة أنّ ماعزاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض عنه حتى قالها أربعاً، فلما(4/259)
كان في الخامسة قال: وتدري ما الزنا ؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً. قال: ما تريد إلى قول هذا ؟ قال: أريد أن تطهرني. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر ؟ قال: نعم يا رسول الله قال: فأمر برجمه، فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم تدعه نفسه حتى رجم الكلب ؟ ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: "أين فلان وفلان ؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" إسناد صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي. حدثنا واصل مولى ابن عيينة، حدثني خالد بن عرفطة عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس".
(طريق أخرى) قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا إبراهيم بن الأشعث، حدثنا الفضيل بن عياض عن سليمان عن أبي سفيان وهو طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن نفراً من المنافقين اغتابوا ناساً من المسلمين فلذلك بعثت هذه الريح" وربما قال "فلذلك هاجت هذه الريح" وقال السدي في قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} زعم أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما وينال من طعامهما، وأن سلمان رضي الله عنه لما سار الناس ذات يوم، وبقي سلمان رضي الله عنه نائماً لم يسر معهم، فجعل صاحباه يكلمانه فلم يجداه، فضربا الخباء فقالا: ما يريد سلمان أو هذا العبد شيئاً غير هذا أن يجيء إلى طعام مقدور وخباء مضروب، فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداماً، فانطلق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قدح له فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال صلى الله عليه وسلم: "ما يصنع أصحابك بالأدم ؟ قد ائتدموا" فرجع سلمان رضي الله عنه يخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقا حتى أتيا رسول الله فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاماً منذ نزلنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما" قال: ونزلت {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} أنه كان نائماً. وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار من طريق حبّان بن هلال عن حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاماً فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه، فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يقرئانك السلام ويستأدمانك فقال صلى الله عليه وسلم: "إنهما قد ائتدما" فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما" فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم "مُرَاهُ فليستغفر لكما" وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا محمد بن مسلم عن محمد بن إسحاق، عن عمه موسى بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من لحم أخيه في الدنيا قرب الله إليه لحمه في الآخرة فيقال له كله ميتاً كما أكلته حياً - قال - فيأكله ويكلح ويصيح" غريب جداً.
وقوله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} أي تواب على من تاب إليه رحيم لمن رجع إليه واعتمد عليه. قال الجمهور من العلماء: طريق(4/260)
المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ويعزم على أن لا يعود، وهل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه فطريقه إذاً أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك كما قال الإمام أحمد، حدثنا أحمد بن الحجاج، حدثنا عبد الله، أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبد الله بن سليمان أن إسماعيل بن يحيى المعافري أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجهني أخبره عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حمى مؤمناً من منافق يغتابه، بعث الله تعالى إليه ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال" وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله وهو ابن المبارك به بنحوه. وقال أبو داود أيضاً: حدثنا إسحاق بن الصباح، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا الليث، حدثني يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول: سمعت جابر بن عبد الله وأبا طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرىء يخذل امراءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرىء ينصر امرءاً مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته" تفرد به أبو داود.
{يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
يقول تعالى مخبراً للناس أنه خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك، وقيل: المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل، وقد لخصت هذه في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب الإنباه لأبي عمر بن عبد البر، ومن كتاب (القصد والأمم في معرفة أنساب العرب والعجم) فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضاً، منبهاً على تساويهم في البشرية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته، وقال مجاهد في قوله عز وجل {لِتَعَارَفُوا} كما يقال فلان بن فلان من كذا وكذا أي قبيلة كذا وكذا، وقال سفيان الثوري: كانت حمير ينتسبون إلى مخاليفها، وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها، وقد قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الملك بن عيسى الثقفي، عن يزيد مولى المنبعث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر" ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب، وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد رضي الله عنه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم ؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا(4/261)
نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله ابن خليل الله" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني" ؟ قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان، ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله وهو ابن عمر العمري به. (حديث آخر) قال مسلم رحمه الله: حدثنا عمرو الناقد، حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنان عن كثير بن هشام به. (حديث آخر) وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن أبي هلال عن بكر عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله" تفرد به أحمد رحمه لله. (حديث آخر) وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، حدثنا عبيد بن حنين الطائي، سمعت محمد بن حبيب بن خراش العصري يحدث عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى". (حديث آخر) قال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي، حدثنا الحسن بن الحسين، حدثنا قيس يعني ابن الربيع عن شبيب بن غرقدة، عن المستظل بن حصين عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان". ثم قال لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه. (حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى بن زكريا القطان، حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخاً في المسجد حتى نزل صلى الله عليه وسلم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: "يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى، إن الله عز وجل يقول : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} - ثم قال صلى الله عليه وسلم - أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم" هكذا رواه عبد بن حميد عن أبي عاصم الضحاك عن مخلد عن موسى بن عبيدة به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد، كلكم بنو آدم طف الصاع لم يملؤوه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى، وكفى بالرجل أن يكون بذياً بخيلاً فاحشاً". وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة به ولفظه "الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملؤوه، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا شريك عن سماك عن عبد الله بن عميرة زوج درة بنت أبي لهب، عن ذرة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله عز وجل، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم".(4/262)
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى، تفرد به أحمد. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي عليم بكم خبير بأموركم، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله، وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الأحاديث الشريفة من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ولا يشترط سوى الدين لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وذهب الآخرون إلى أدلة مذكورة في كتب الفقه، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في (كتاب الأحكام) ولله الحمد والمنة، وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلاً من بني هاشم يقول: أنا أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال غيره: أنا أولى به منك ولي منه نسبة.
{قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللّهَ بِدِينِكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
يقول تعالى منكراً على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً، وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم ؟ حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أو مسلم ؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم، فلم أعطه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم" أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به، فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام، وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة.
ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلماً ليس منافقاً لأنه تركه من العطاء، ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك، وهذا معنى قول(4/263)
ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك. وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا في قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي استسلمنا خوف القتل والسبي. قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة، وإنما قيل لهؤلاء تأديباً: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد. ثم قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} أي لا ينقصكم من أجوركم شيئاً كقوله عز وجل: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لمن تاب إليه وأناب.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي إنما المؤمنون الكمل {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي لم يشكوا ولا تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة هي التصديق المحض {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين، حدثنا عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل" وقوله سبحانه وتعالى: {قل أتعلمون الله بدينكم} أي أتخبرونه بما في ضمائركم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ثم قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} يعني الأعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى رداً عليهم: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في دعواكم ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟" كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن قيس عن أبي عون، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم" . ونزلت هذه الآية {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد بن جبير غير هذا الحديث ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} آخر تفسير سورة الحجرات، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.(4/264)
سورة ق
هذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح وقيل من الحجرات. وأما ما يقوله العوام إنه من (عم) فلا أصل له ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم. والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه باب تحزيب القرآن ثم قال: حدثنا مسدد، حدثنا قران بن تمام، حدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، سليمان بن حيّان، وهذا لفظه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده، قال عبد الله بن سعيد: حدثنيه أوس بن حذيفة ثم اتفقا قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، قال فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وأنزل الرسول صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له، قال مسدد: وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا، قال أبو سعيد، قائماً على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام، فأكثر ما يحدثنا به صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه قريش ثم يقول صلى الله عليه وسلم: "لا سواء وكنا مستضعفين مستذلين - قال مسدد بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة كانت الحرب سجالاً بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا" فلما كانت ليلة أبطأ عنا صلى الله عليه وسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة، قال صلى الله عليه وسلم: "إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه" . قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن ؟ فقالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة. وحزب المفصل وحده، ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر به، ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عبد الرحمن هو ابن يعلى الطائفي به.
إذا علم هذا فإذا عددت ثمانياً وأربعين سورة فالتي بعدهن سورة ق. بيانه ثلاث: البقرة وآل عمران والنساء. وخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة. وسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل. وتسع: سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان. وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس. وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاق والقتال والفتح والحجرات. ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة رضي الله عنهم. فتعين أن أوله سورة ق. وهو الذي قلنا ولله الحمد والمنة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد ؟ قال: بقاف واقتربت، ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث مالك به. وفي رواية لمسلم عن فليح عن ضمرة عن عبيد الله عن أبي واقد قال: سألني عمر رضي الله عنه، فذكره. (حديث آخر) وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن أم هشام بنت حارثة قالت: لقد كان تنورنا وتنور النبي صلى الله عليه وسلم واحداً سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا على رسول الله، وكان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس، رواه مسلم من حديث ابن إسحاق(4/265)
به. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن حبيب عن عبد الله بن محمد بن معن عن ابنة الحارث بن النعمان قالت ما حفظت ق إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة. قالت: وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً، وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة به، والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار كالعيد والجمع لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب، والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب، والله أعلم.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُمْ مّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيَ أَمْرٍ مّرِيجٍ}
{ق}: حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور كقوله تعالى: {ص - ون - والم - وحم - وطس} ونحو ذلك، قاله مجاهد وغيره وقد أسلفنا الكلام عليها في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا، والله أعلم، من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب،وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افترى في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعهد من قدم فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه وتبديل كتب الله وآياته، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول ويحكم فيه بالبطلان ويغلب على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل، والله أعلم.
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم،ولله الحمد والمنة، حتى أن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، رحمة الله عليه، أورد ههنا أثراً غريباً لا يصح سنده عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال: حدثنا أبي قال: حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي، حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله تبارك وتعالى من وراء هذه الأرض بحراً محيطاً بها، ثم خلق من وراء ذلك البحر جبلاً يقال له قاف، سماء الدنيا مرفوعة عليه، ثم خلق الله تعالى من وراء ذلك الجبل أرضاً مثل تلك الأرض سبع مرات، ثم خلق من وراء ذلك بحراً محيطاً بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلاً يقال له قاف السماء الثانية مرفوعة عليه، حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سموات، قال وذلك في قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} فإسناده هذا الأثر فيه انقطاع، والذي رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل {ق} هو اسم من أسماء الله عز وجل والذي ثبت عن مجاهد أنه حرف من حروف الهجاء كقوله تعالى: {ص - ن - حم - طس - الم} ونحو ذلك، فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: المراد قضي الأمر والله، وأن قوله جل ثناؤه {ق} قال: دلت على المحذوف من بقية الكلمة كقول الشاعر:
قلت لها قفي فقالت ق
وفي هذا التفسير نظر لأن الحذف في الكلام يكون إنما(4/266)
يكون إذا دل دليل عليه، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟ وقوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أي الكريم العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} واختلفوا في جواب القسم ما هو ؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} وفي هذا نظر بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم، وهو إثبات النبوة وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه، وإن لم يكن القسم يلتقي لفظاً، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} وهكذا قال ههنا: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر، كقوله جل جلاله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} أي وليس هذا بعجيب فإن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس.
ثم قال عز وجل مخبراً عنهم في تعجبهم أيضاً من المعاد واستبعادهم لوقوعه {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي يقولون أئذا متنا وبلينا وتقطعت الأوصال منا وصرنا تراباً، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب ؟ {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي بعيد الوقوع. والمعنى أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه. قال الله تعالى رداً عليهم: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أين صارت {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أي حافظ لذلك فالعلم شامل والكتاب أيضاً فيه كل الأشياء مضبوطة. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي ما تأكل من لحومهم وأبشارهم، وعظامهم وأشعارهم، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم، ثم بين تبارك وتعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل، والمريج: المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}.
{أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىَ لِكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ وَنَزّلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً مّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبّ الْحَصِيدِ وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ لّهَا طَلْعٌ نّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
يقول تعالى منبهاً للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه {أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا} أي بالمصابيح {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} قال مجاهد: يعني من شقوق، وقال غيره: فتوق، وقال غيره: صدوع، والمعنى متقارب كقوله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليل عن أن يرى عيباً أو نقصاً. وقوله تبارك وتعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي وسعناها وفرشناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبال لئلا تميد بأهلها وتضطرب، فإنها مقرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي(4/267)
من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقوله بهيج أي حسن المنظر {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي ومشاهدة خلق السموات والأرض وما جعل الله فيهما من الآيات العظيمة تبصرة ودلالة وذكرى لكل عبد منيب أي خاضع خائف وجل رجاع إلى الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} أي نافعاً { فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} أي حدائق من بساتين ونحوها {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وهو الزرع الذي يراد لحبه وادخاره {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أي طوالاً شاهقات، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وغيرهم: الباسقات الطوال {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} أي منضود {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} أي للخلق {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} وهي الأرض التي كانت هامدة، فلما نزل الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج من أزاهير وغير ذلك، مما يحار الطرف في حسنها، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك، كذلك يحيي الله الموتى وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث، كقوله عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تّبّعٍ كُلّ كَذّبَ الرّسُلَ فَحَقّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}
يقول تعالى مهدداً لكفار قريش، بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم، من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا كقوم نوح وما عذبهم الله تعالى به من الغرق العام لجميع أهل الأرض وأصحاب الرس، وقد تقدمت قصتهم في سورة الفرقان {وَثَمُودَ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور، وكيف خسف الله تعالى بهم الأرض، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق. {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وهو اليماني، وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ما أغنى عن إعادته ههنا، ولله الحمد والشكر.
{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسولهم، ومن كذب رسولاً فكأنما كذب جميع الرسل كقوله جل وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وإنما جاءهم رسول واحد فهم في نفس الأمر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب والنكال، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذبوا أولئك. وقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} أي أفعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} والمعنى أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه كما قال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقال الله جل جلاله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وقد تقدم في الصحيح "يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم يقول لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته".(4/268)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلّ نَفْسٍ مّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ لّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}
يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه وعلمه محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل" وقوله عز وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد وإنما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} كما قال في المحتضر {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} يعني ملائكته وكما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله عز وجل، وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك. فللملك لمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ولهذا قال تعالى ههنا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} يعني الملكين الذين يكتبان عمل الإنسان. {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أي مترصد {مَا يَلْفِظُ} أي ابن آدم {مَا يَلْفِظُ} أي ما يتكلم بكلمة {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي إلا ولها من يرقبها معد لذلك يكتبها لا يترك كلمة ولا حركة كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام. وهو قول الحسن وقتادة، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما، فعلى قولين وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده علقمة عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان صلى الله عليه وسلم تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه" فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث محمد بن عمرو به، وقال الترمذي: حسن صحيح وله شاهد في الصحيح. وقال الأحنف بن قيس: صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمير على صاحب الشمال فإن أصاب العبد خطيئة قال له أمسك، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها، رواه ابن أبي حاتم، وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى يخرج يوم القيامة فعند ذلك يقول تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً(4/269)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} ثم يقول: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله أكلت شربت ذهبت جئت رأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره، وذلك قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال يكتب الملك كل شيء حتى الأنين فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله. وقوله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} يقول عز وجل: وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو، وقيل الكافر، وقيل غير ذلك، وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان، أخبرنا عباد بن عباد عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال: إن عائشة رضي الله عنها قالت: حضرت أبي رضي الله عنه وهو يموت، وأنا جالسة عند رأسه فأخذته غشية، فتمثلت ببيت من الشعر:
من لا يزال دمعه مقنعاً ... فإنه لا بد مرة مدفوق
قالت: فرفع رضي الله عنه رأسه فقال: يا بنية ليس كذلك ولكن كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} وحدثنا خلف بن هشام، حدثنا أبو شهاب الخياط عن إسماعيل بن أبي خالد عن البهي قال: لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه: ليس كذلك، ولكن قولي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} وقد أوردت لهذا الأثر طرقاً كثيرة في سيرة الصديق رضي الله عنه عند ذكر وفاته، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: "سبحان الله إن للموت لسكرات" وفي قوله: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} قولان: (أحدهما) أن ما ههنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتتناءى وتفر قد حل بك ونزل بساحتك (والقول الثاني) أن نافية بمعنى ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه وقد قال الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا مؤمل بن علي الصائغ المكي، حدثنا حفص عن ابن عمر الحدي، حدثنا معاذ بن محمد الهذلي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب تطلبه الأرض بدين، فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهد دخل حجره وقالت له الأرض يا ثعلب ديني، فخرج وله حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات" ومضمون هذا المثل كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض، كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت. وقوله تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور والفزع والصعق والبعث، وذلك يوم القيامة. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له" قالوا: يا رسول الله كيف نقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل" فقال القوم: حسبنا الله ونعم الوكيل {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} أي ملك يسوقه إلى المحشر وملك يشهد عليه بأعماله هذا هو الظاهر من الآية(4/270)
الكريمة، وهو اختيار ابن جرير ثم روي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يحيى بن رافع مولى لثقيف قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ هذه الآية {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} فقال سائق يسوقها إلى الله تعالى وشاهد يشهد عليها بما عملت، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد. وقال مطرف عن أبي جعفر مولى أشجع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: السائق الملك والشهيد العمل، وكذلك قال الضحاك والسدي، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: السائق من الملائكة والشهيد الإنسان نفسه، يشهد على نفسه، وبه قال الضحاك بن مزاحم أيضاً. وحكى ابن جرير ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (أحدها) أن المراد بذلك الكافر، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه يقول الضحاك بن مزاحم وصالح بن كيسان.(والثاني) أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة، والدنيا كالمنام، وهذا اختيار ابن جرير، ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (والثالث) أن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وبه يقول زيد بن أسلم وابنه، والمعنى على قولهما: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك فبصرك اليوم حديد، والظاهر من السياق خلاف هذا بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو، والمراد بقوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} يعني من هذا اليوم {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي قوي لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصراً حتى الكفار في الدنيا، يكونون يوم القيامة على الاستقامة، لكن لا ينفعهم ذلك، قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}. وقال عز وجل: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون}.
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنّمَ كُلّ كَفّارٍ عَنِيدٍ مّنّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مّرِيبٍ الّذِي جَعَلَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيّ وَقَدْ قَدّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ}
يقول تعالى مخبراً عن الملك الموكل بعمل ابن آدم إنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل ويقول: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أي معتمد محضر بلا زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد: هذا كلام الملك السائق، يقول ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته وقد اختار ابن جرير أنه يعم السائق والشهيد، وله اتجاه وقوة، فعند ذلك يحكم الله تعالى في الخليقة بالعدل فيقول: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} وقد اختلف النحاة في قوله: {أَلْقِيَا} فقال بعضهم هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية كما روي عن الحجاج أنه كان يقول يا حرسي اضربا عنقه، ومما أنشد ابن جرير على هذه قول الشاعر:
فإن تزجراني يا ابن عفان أَنزجر ... وإن تتركاني أحم عرضاً ممنعا
وقيل: بل هي نون التأكيد سهلت إلى الألف، وهذا بعيد لأن هذا إنما يكون في الوقف، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب، فلما أدى الشهيد عليه أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم، وبئس المصير {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} أي كثير الكفر والتكذيب بالحق عنيد معاند للحق، معارض له بالباطل مع علمه بذلك {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي لا يؤدي ما عليه من الحقوق(4/271)
ولا بر فيه ولا صلة ولا صدقة {مُعْتَدٍ} أي فيما ينفقه ويصرفه يتجاوز فيه الحد. وقال قتادة: معتد في منطقه وسيره وأمره {مُرِيبٍ} أي شاك في أمره مريب لمن نظر في أمره {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أي أشرك بالله فعبد معه غيره {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} وقد تقدم في الحديث أن عنقاً من النار يبرز للخلائق فينادي بصوت يسمع الخلائق: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين، ثم تنطوي عليهم، قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية هو ابن هشام، حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج عنق من النار يتكلم يقول وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلهاً آخر، ومن قتل نفساً بغير نفس فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم".
{قَالَ قَرِينُهُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وغيرهم: هو الشيطان الذي وكل به {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} أي يقول عن الإنسان الذي قد أوفى القيامة كافراً يتبرأ منه شيطانه فيقول: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} أي ما أضللته {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي بل كان هو في نفسه ضالاً قابلاً للباطل معانداً للحق، كما أخبر سبحانه وتعالى في الآية الأخرى في قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
وقوله تبارك وتعالى: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} يقول الرب عز وجل للإنسي وقرينه من الجن، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق تعالى، فيقول الإنسي يا رب هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، ويقول الشيطان: {بَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي عن منهج الحق، فيقول الرب عز وجل لهما: { لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} أي عندي {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} أي قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قال مجاهد: يعني قد قضيت ما أنا قاض {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي لست أعذب أحداً إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه.
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوّابٍ حَفِيظٍ مّنْ خَشِيَ الرّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ لَهُم مّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت ؟ وذلك أنه تبارك وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين، فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها ويلقى وهي تقول: هل من مزيد أي هل بقي شيء تزيدوني ؟ هذا هو الظاهر في سياق الآية وعليه تدل الأحاديث. قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثني حرمي بن عمارة، حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى في النار وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع قدمه فتقول: قط قط" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر فيسكنهم الله تعالى(4/272)
في فضول الجنة" ثم رواه مسلم من حديث قتادة بنحوه، ورواه أبان العطار وسليمان التيمي عن قتادة بنحوه.
(حديث آخر) قال البخاري: حدثنا محمد بن موسى القطان، حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي، حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان: "يقال لجهنم هل امتلأت، وتقول هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط" ورواه أبو أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين به. (طريق أخرى) قال البخاري: وحدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط فهنالك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشىء لها خلقاً آخر".
(حديث آخر) قال مسلم في صحيحه. حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجت الجنة والنار فقالت النار: فيّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم فقضى بينهما فقال للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها" انفرد به مسلم دون البخاري من هذا الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى عن أبي سعيد رضي الله عنه بأبسط من هذا السياق فقال: حدثنا حسن وروح قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن عبيد الله بن عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "افتخرت الجنة والنار فقالت النار يا رب يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف، وقالت الجنة أي رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين فيقول الله تبارك وتعالى للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء، وقال للجنة أنت رحمتي وسعت كل شيء ولكل واحدة منكما ملؤها فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد، قال ويلقى فيها وتقول هل من مزيد، ويلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول قدني قدني، وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء تعالى أن يبقى فينشىء الله سبحانه وتعالى لها خلقاً ما يشاء".
(حديث آخر) وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثني عقبة بن مكرم، حدثنا يونس، حدثنا عبد الغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعرفني الله تعالى نفسه يوم القيامة، فأسجد سجدة يرضى بها عني ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط مضروب بين ظهراني جهنم، فيمرون أسرع من الطرف والسهم وأسرع من أجود الخيل، حتى يخرج الرجل منها يحبو وهي الأعمال، وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وأنا على الحوض" قيل: وما الحوض يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج. وأطيب ريحاً من المسك، وآنيته أكثر من عدد النجوم لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبداً ولا يصرف فيروى أبداً" وهذا القول هو اختيار ابن جرير. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الحمامي عن نصر(4/273)
الجزار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} قال: ما امتلأت قال تقول وهل من مكان يزاد في، وكذا رواه الحاكم بن أبان عن عكرمة {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} وهل في مدخل واحد قد امتلأت. قال الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهداً يقول: لا يزال يقذف فيها حتى تقول امتلأت فتقول: هل من مزيد، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا فعند هؤلاء أن قوله تعالى: {هَلِ امْتَلأْتِ} إنما هو بعدما يضع عليها قدمه فتنزوي وتقول حينئذ هل بقي في مزيد يسع شيئاً ؟ قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: وذلك حين لا يبقى فيها موضع يسع إبرة، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قال قتادة وأبو مالك والسدي {وَأُزْلِفَتِ} أدنيت وقربت من المتقين {غَيْرَ بَعِيدٍ} وذلك يوم القيامة، وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما هو آت قريب {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ} أي راجع تائب مقلع {حَفِيظٍ} أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه، وقال عبيد بن عمرو: الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله عز وجل {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله عز وجل كقوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل ذكر الله تعالى خالياً، ففاضت عيناه" {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} أي ولقي الله عز وجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه {ادْخُلُوهَا} أي الجنة {بِسَلامٍ} قال قتادة سلموا من عذاب الله عز وجل، وسلم عليهم ملائكة الله، وقوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبداً، ولا يظعنون أبداً ولا يبغون عنها حولاً، وقوله جلت عظمته: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} أي مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عمر بن عثمان، حدثنا بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال: من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ماذا تريدون فأمطره لكم ؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم، قال كثير: لئن أشهدني الله تعالى ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزينات. وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً"
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن عامر الأحول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة" ورواه الترمذي وابن ماجه عن بندار عن معاذ بن هشام به. وقال الترمذي حسن غريب وزاد: كما اشتهى، وقوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} كقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قال: يظهر لهم الرب عز وجل في كل جمعة، وقد رواه الإمام أبو عبد الله الشافعي مرفوعاً فقال في مسنده: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني موسى بن عبيدة، حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذه ؟" فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير، ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن، يدعو الله تعالى فيها بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد.(4/274)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل وما يوم المزيد ؟" قال عليه السلام: إن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الفردوس وادياً أفيح فيه كثب المسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله عز وجل: أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة. هكذا أورده الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الجمعة من الأم، وله طرق عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد أورد ابن جرير هذا الحديث من رواية عثمان بن عمير عن أنس رضي الله عنه بأبسط من هذا، وذكر ههنا أثراً مطولاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه موقوفاً وفيه غرائب كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل في الجنة ليتكىء في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول، ثم تأتيه امرأة تضرب على منكبه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد السلام فيسألها من أنت ؟ فتقول أنا من المزيد وإنه ليكون عليها سبعون حلة أدناها مثل النعمان من طوبى فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وإن عليها من التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب" وهكذا رواه عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقّبُواْ فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مّحِيصٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَمَا مَسّنَا مِن لّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السّجُودِ}
يقول تعالى: وكم أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين {مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً} أي كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ولهذا قال تعالى ههنا: {فَنَقّبُواْ فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مّحِيصٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أثروا فيها. وقال مجاهد {فَنَقّبُواْ فِي الْبِلاَدِ} ضربوا في الأرض وقال قتادة: فساروا في البلاد أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم بها، ويقال لمن طوف في البلاد نقب فيها، قال امرؤ القيس:
لقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقوله تعالى: {هَلْ مِن مّحِيصٍ} أي هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل فأنتم أيضاً لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص. وقوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىأي لعبرة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي لب يعي به وقال مجاهد: عقل {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه، وقال مجاهد: {أَوْ(4/275)
أَلْقَى السَّمْعَ} يعني لا يحدث نفسه في هذا بقلب، وقال الضحاك: العرب تقول ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه، وهو شاهد بقلب غير غائب، وهكذا قال الثوري وغير واحد. وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} فيه تقرير للمعاد لأن من قدر على خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى، وقال قتادة: قالت اليهود - عليهم لعائن الله - خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أي من إعياء ولا تعب ولا نصب، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وكما قال عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ؟}.
وقوله عز وجل: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجراً جميلاً {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر وقبل الغروب في وقت العصر، وقيام الليل كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته حولاً ثم نسخ في حق الأمة وجوبه ثم بعد ذلك نسخ الله تعالى ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات، ولكن منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة من حديث إسماعيل به.
وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي فصل له كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو التسبيح بعد الصلاة. ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك ؟" قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. قال صلى الله عليه وسلم: "أفلا أعلمكم شيئاً إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين" قال: فقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} هما الركعتان بعد المغرب وروي ذلك عن عمر وعلي وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي والحسن وقتادة وغيرهم. قال الإمام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر، وقال عبد الرحمن دبر كل صلاة. ورواه أبو داود والنسائي من حديث سفيان الثوري به، زاد النسائي ومطرف عن أبي إسحاق به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا ابن فضيل عن رشدين بن(4/276)
كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتين خفيفتين اللتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال يا ابن عباس "ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود" ورواه الترمذي عن أبي هشام الرفاعي عن محمد بن فضيل به. وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأنه بات في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها، وصلى تلك الليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة ثابت في الصحيحين وغيرهما. فأما هذه الزيادة فغريبة لا تعرف إلا من هذا الوجه ورشدين بن كريب ضعيف، ولعله من كلام ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه، والله أعلم.
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصّيْحَةَ بِالْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}
يقول تعالى: {وَاسْتَمِعْ} يا محمد {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ} قال قتادة: قال كعب الأحبار يأمر الله تعالى ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة، إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} أي من الأجداث {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِير} أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وإليه مصير الخلائق كلهم، فيجازي كلاّ بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعا} وذلك أن الله عز وجل ينزل مطراً من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها، كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض، فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فترجع كل روح إلى جسدها، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب سراعاً مبادرين إلى أمر الله عز وجل {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" ، وقوله عز وجل: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي تلك إعادة سهلة علينا، يسيرة لدينا كما قال جل جلاله {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}. وقال سبحانه وتعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} وقوله جل وعلا: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهولنك ذلك كقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك مما كلفت به. وقال مجاهد وقتادة والضحاك {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي لا تتجبر عليهم، والقول الأول أولى، ولو أراد ما قالوه لقال: ولا تكن جباراً عليهم، وإنما قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} بمعنى وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ، وقال الفراء: سمعت العرب تقول جبر فلان فلاناً على كذا أجبره، ثم قال عز وجل: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}(4/277)
أي بلغ أنت رسالة ربك فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده، كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} وقوله جل جلاله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ولهذا قال تعالى ههنا: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} كان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يابار يارحيم.
آخر تفسير سورة ق. والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل.(4/278)
سورة الذاريات
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{وَالذّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً إِنّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنّ الدّينَ لَوَاقِعٌ وَالسّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرّاصُونَ الّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَذَا الّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}
قال شعبة بن الحجاج عن سماك عن خالد بن عرعرة أنه سمع علياً رضي الله عنه، وشعبة أيضاً عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل أنه سمع علياً رضي الله عنه، وثبت أيضاً من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى، ولا عن سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك، فقام إليه ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى: {وَالذّارِيَاتِ ذَرْواً} قال علي رضي الله عنه، الريح، قال: {فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} قال رضي الله عنه: السحاب، قال: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} قال رضي الله عنه: السفن، قال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} قال رضي الله عنه الملائكة.
وقد روي في ذلك حديث مرفوع، فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن هانىء، حدثنا سعيد بن سلام العطار، حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، فأخبرني عن الذاريات ذرواً، فقال رضي الله عنه: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قلته. قال: فأخبرني عن المقسمات أمراً، قال رضي الله عنه هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن الجاريات يسراً، قال رضي الله عنه: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. ثم أمر بضربه فضرب مائة وجعل في بيت، فلما برأ دعا به فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: امنع الناس من مجالسته، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى رضي الله عنه، فحلف بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً، فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر: ما إخاله إلا قد صدق فخل بينه وبين مجالسة الناس. قال أبو بكر البزار: فأبو بكر بن أبي سبرة لين، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث. قلت: فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر رضي الله عنه، فإن قصة صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتاً وعناداً، والله أعلم. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة، وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم(4/279)
غير ذلك، وقد قيل إن المراد بالذاريات الريح كما تقدم،وبالحاملات وقراً السحاب كما تقدم، لأنها تحمل الماء كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت نفسي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذباً زلالا
فأما الجاريات يسراً فالمشهور عن الجمهور كما تقدم أنها السفن، تجري ميسرة في الماء جرياً سهلاً، وقال بعضهم: هي النجوم تجري يسراً في أفلاكها ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى إلى ما هو أعلى منه، فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق كذلك، والمقسمات أمراً الملائكة فوق ذلك تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية، وهذا قسم من الله عز وجل على وقوع المعاد، ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} أي لخبر صدق {وإن الدين} وهو الحساب {لَوَاقِعٌ} أي لكائن لا محالة.
ثم قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو صالح والسدي وقتادة وعطية العوفي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال الضحاك والمنهال بن عمرو وغيرهما مثل تجعد الماء والرمل والزرع، إذا ضربته الريح فينسج بعضه بعضاً طرائق طرائق، فذلك الحبك. قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من ورائكم الكذاب المضل، وإن رأسه من ورائه حبك حبك" يعني بالحبك الجعودة: وعن أبي صالح: ذات الحبك الشدة وقال خصيف: ذات الحبك ذات الصفاقة. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: ذات الحبك حبكت بالنجوم، وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمرو البكالي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} يعني السماء السابعة، وكأنه والله أعلم أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة، وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع، والله أعلم. وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء متسعة الأرجاء أنيقة البهاء، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزهرات وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} أي إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع، وقال قتادة: إنكم لفي قول مختلف ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به. {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي إنما يروج على من هو ضال في نفسه، لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه، ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غمر لا فهم له كما قال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يضل عنه من ضل. وقال مجاهد {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يؤفن عنه من أفن، وقال الحسن البصري: يصرف عن هذا القرآن من كذب به. وقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال مجاهد: الكذابون، قال: وهي مثل التي في عبس {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي لعن المرتابون. وهكذا كان معاذ رضي الله عنه يقول في خطبته. هلك المرتابون. وقال قتادة: الخراصون أهل الغرة والظنون. وقوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد في الكفر والشك غافلون لاهون {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} وإنما يقولون هذا تكذيباً وعناداً وشكاً واستبعاداً، قال الله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ(4/280)
يُفْتَنُونَن} قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد يفتنون يعذبون. قال مجاهد كما يفتن الذهب على النار، وقال جماعة آخرون كمجاهد أيضاً وعكرمة وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وسفيان الثوري: يفتنون يحرقون {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} قال مجاهد: حريقكم، وقال غيره: عذابكم {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً، والله أعلم.
{إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبّهُمْ إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّهُ لَحَقّ مّثْلَ مَآ أَنّكُمْ تَنطِقُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن المتقين لله عز وجل أنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال. وقوله تعالى: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} قال ابن جرير: أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمال أيضاً، ثم روي عن ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن أبي عمر عن مسلم البطين، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} قال: من الفرائض {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} قبل الفرائض يعملون، وهذا الإسناد ضعيف ولا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد رواه عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان، عن أبي عمر البزار عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره، والذي فسر به ابن جرير فيه نظر، لأن قوله تبارك وتعالى آخذين حال من قوله في جنات وعيون، فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربهم، أي من النعيم والسرور والغبطة، وقوله عز وجل: {إ ِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} أي في الدار الدنيا {مُحْسِنِينَ} كقوله جل جلاله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال جل وعلا: {كانوا قليلاً كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} اختلف المفسرون في ذلك على قولين: (أحدهما) أن {مَا} نافية تقديره كانوا قليلاً من الليل لا يهجعونه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً، وقال قتادة عن مطرف بن عبد الله: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل، إما من أولها وإما من أوسطها. وقال مجاهد: قل ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون، وكذا قال قتادة، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه وأبو العالية: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة، (والقول الثاني) أن {مَا} مصدرية تقديره كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ونومهم، واختاره ابن جرير. وقال الحسن البصري {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر، وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} كانوا لا ينامون إلا قليلاً ثم يقول: لست من أهل هذه الآية.
وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة، فإذا قوم قد باينونا بوناً بعيداً، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وعرضت عملي على عمل أهل(4/281)
النار، فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله وبرسل الله، مكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدت من خيرنا منزلة قوماً خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا ذكر الله تعالى قوماً فقال: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم، فقال له أبي رضي الله عنه: طوبى لمن رقد إذا نعس واتقى الله إذا استيقظ. وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها" فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: لمن هي يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائماً والناس نيام" وقال معمر في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} كان الزهري والحسن يقولان كانوا كثيراً من الليل ما يصلون، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ما ينامون. وقال الضحاك {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً} ثم ابتدأ فقال: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وهذا القول فيه بعد وتعسف.
وقوله عز وجل: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال مجاهد وغير واحد: يصلون وقال آخرون: قاموا الليل وأخروا الاستغفار إلى الأسحار كما قال تبارك وتعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن. وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فيعطى سؤله ؟ حتى يطلع الفجر" وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخباراً عن يعقوب أنه قال لبنيه {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} قالوا أخرهم إلى وقت السحر. وقوله تبارك وتعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة فقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقّ} أي جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم. أما السائل فمعروف وهو الذي يبتدىء بالسؤال، وله حق كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا: حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على فرس" ورواه أبو داود من حديث سفيان الثوري به. ثم أسنده من وجه آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروي من حديث الهرماس بن زياد مرفوعاً، وأما المحروم فقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: هو المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم، يعنى لا سهم له في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه، وقال الضحاك: هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب، قضى الله تعالى له ذلك. وقال أبو قلابة: جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل، فقال رجل من الصحابة رضي الله عنهم: هذا المحروم وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما وعطاء بن أبي رباح: المحروم المحارف. وقال قتادة والزهري: المحروم الذي لا يسأل الناس شيئاً. قال الزهري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان(4/282)
ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه" وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر. وقال سعيد بن جبير: هو الذي يجيء وقد قسم المغنم فيرضخ له. وقال محمد بن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في طريق مكة، فجاء كلب، فانتزع عمر رضي الله عنه كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم، وقال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم، واختار ابن جرير أن المحروم الذي لا مال له بأي سبب كان وقد ذهب ماله، سواء كان لا يقدر على الكسب أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها. وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا، فجاءه قوم لم يشهدوا الغنيمة، فنزلت هذه الآية {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وهذا يقتضي أن هذه مدنية وليس كذلك بل هي مكية شاملة لما بعدها، وقوله عز وجل: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه، ولهذا قال عز وجل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} قال قتادة: من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة. ثم قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} يعنى المطر {وَمَا تُوعَدُونَ} يعني الجنة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد. وقال سفيان الثوري: قرأ واصل الأحدب هذه الآية {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال: ألا إني أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ؟ فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئاً، فلما أن كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن نية منه، دخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت وقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون، وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك ههنا، قال مسدد عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن البصري قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا" ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن فذكره مرسلاً.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَىَ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرّةٍ فَصَكّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبّكِ إِنّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
هذه القصة قد تقدمت في سورة هود والحجر أيضاً فقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} أي الذين أرصد لهم الكرامة، وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل. وقوله تعالى: {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} الرفع أقوى(4/283)
وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} فالخليل اختار الأفضل، وقوله تعالى: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وذلك أن الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة ولهذا قال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وقوله عز وجل: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} أي انسل خفية في سرعة {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أي من خيار ماله، وفي الآية الأخرى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي مشوي على الرضف {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} أي أدناه منهم {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ؟} تلطف في العبارة وعرض حسن، وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتن عليهم أولاً فقال: نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعة وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي، فقربه إليهم لم يضعه وقال اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل. وقوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} أي استبشرت بهلاكهم لتمردهم وعتوهم على الله تعالى، فعند ذلك بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} ولهذا قال الله سبحانه وتعالى ههنا: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} فالبشارة له هي بشارة لها. لأن الولد منهما فكل منهما بشر به. وقوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} أي في صرخة عظيمة ورنة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وأبو صالح والضحاك وزيد بن أسلم والثوري والسدي وهي قولها {يَا وَيْلَتَى} {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} أي ضربت بيدها على جبينها قاله مجاهد وابن سابط، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لطمت أي تعجباً كما تتعجب النساء من الأمر الغريب {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي كيف ألد وأنا عجوز وقد كنت في حال الصبا عقيماً لا أحبل ؟ {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أي عليم بما تستحقون من الكرامة حكيم في أقواله وأفعاله.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوَاْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىَ قَوْمٍ مّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ مّسَوّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لّلّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ}
قال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} وقال ههنا: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي ما شأنكم وفيم جئتم {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يعنون قوم لوط {لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة} أي معلمة {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي مكتتبة عنده بأسمائهم كل حجر عليه اسم صاحبه، فقال في سورة العنكبوت: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} وقال تعالى ههنا: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} احتج بهذه من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام، لأنه أطلق(4/284)
عليهم المؤمنين والمسلمين، وهذا الاستدلال ضعيف لأن هؤلاء كانوا قوماً مؤمنين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس فاتفق الاسمان ههنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال، وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي جعلناها عبرة لما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
{وَفِي مُوسَىَ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىَ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ فَتَوَلّىَ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرّمِيمِ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتّعُواْ حَتّىَ حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}
يقول تعالى: {وَفِي مُوسَىَ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىَ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ} أي بدليل باهر وحجة قاطعة {فَتَوَلّىَ بِرُكْنِهِ} أي فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين استكباراً وعناداً. وقال مجاهد: تعزز بأصحابه، وقال قتادة: غلب عدو الله على قومه، وقال ابن زيد {فَتَوَلّىَ بِرُكْنِهِ} أي بجموعه التي معه ثم قرأ {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} والمعنى الأول قوي كقوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي معرض عن الحق مستكبر {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحراً أو مجنوناً قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ} أي ألقيناهم {فِي الْيَمِّ} وهو البحر {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.
ثم قال عز وجل {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أي المفسدة التي لا تنتج شيئاً قاله الضحاك وقتادة وغيرهما ولهذا قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} أي مما تفسده الريح {إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أي كالشيء الهالك البالي، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي عبد الله بن وهب، حدثني عبد الله يعني ابن عياش الغساني، حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الريح مسخرة من الثانية - يعني من الأرض الثانية- فلما أراد الله تعالى أن يهلك عاداً أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عاداً قال أي رب أرسل عليهم الريح قدر منخر الثور ؟ قال له الجبار تبارك وتعالى لا إذاً تطفأ الأرض ومن عليها ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله عز وجل في كتابه: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} هذا الحديث رفعه منكر والأقرب أن يكون موقوفاً على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من زاملتيه اللتين أصابهما يوم اليرموك، والله أعلم. قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} قالوا: هي الجنوب. وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} قال ابن جرير: يعني إلى وقت فناء آجالكم. والظاهر أن هذه كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} وهكذا قال ههنا: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} وذلك أنهم(4/285)
انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} أي من هرب ولا نهوض {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي لا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه. وقوله عز وجل: {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة من سور متعددة، والله أعلم.
{وَالسّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ فَفِرّوَاْ إِلَى اللّهِ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مّبِينٌ}
يقول تعالى منبهاً على خلق العالم العلوي والسفلي {وَالسّمَآءَ بَنَيْنَاهَا} أي جعلناها سقفاً محفوظا رفيعاً {بِأَيْدٍ} أي بقوة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد {وَإِنّا لَمُوسِعُونَ} أي قد وسعنا أرجاءها فرفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي {وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا} أي جعلناها فراشاً للمخلوقات {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} أي وجعلناها مهداً لأهلها {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي جميع المخلوقات أزواج سماء وأرض وليل ونهار، وشمس وقمر وبر وبحر وضياء وظلام، وإيمان وكفر وموت وحياة وشقاء وسعادة وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات، ولهذا قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أي الجأوا إليه واعتمدوا في أموركم عليه {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أي لا تشركوا به شيئاً {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِين} .
{كَذَلِكَ مَآ أَتَى الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكّرْ فَإِنّ الذّكْرَىَ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ فَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الّذِي يُوعَدُونَ}
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وكما قال لك هؤلاء المشركون قال المكذبون الأولون لرسلهم: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} قال الله عز وجل: {تَوَاصَوْا بِهِ ؟} أي أوصى بعضهم بعضاً بهذه المقالة {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم، فقال متأخرهم كما قال متقدمهم. قال الله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي فأعرض عنهم يامحمد {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} يعني فما نلومك على ذلك {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة، ثم قال جل جلاله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي إنما خلقتهم لأمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً. وهذا اختيار ابن جرير وقال ابن جريج: إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنس {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي إلا للعبادة، وقال السدي:(4/286)
من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ} هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك، وقال الضحاك: المراد بذلك المؤمنون.
وقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين} ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسرائيل، وقال الترمذي: حسن صحيح. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. فهو خالقهم ورازقهم. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا عمران - يعني ابن زائدة بن نشيط عن أبيه عن أبي خالد - هو الوالبي - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى - "ياابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة، وقال الترمذي: حسن غريب. وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن سلام بن شرحبيل: سمعت حبة وسواء ابني خالد يقولان: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملاً أو يبني بناء، قال أبو معاوية: يصلح شيئاً، فأعناه عليه فلما فرغ دعا لنا وقال: "لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يعطيه الله ويرزقه" . وقد ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء. وقوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً} أي نصيباً من العذاب {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يستعجلون ذلك فإنه واقع لا محالة {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} يعني يوم القيامة.
آخر تفسير سورة الذاريات ولله الحمد والمنة.(4/287)
سورة الطور
قال مالك عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه، أخرجاه من طريق مالك. وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" فطفت ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{وَالطّورِ وَكِتَابٍ مّسْطُورٍ فِي رَقّ مّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مّا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعّونَ إِلَىَ نَارِ جَهَنّمَ دَعّا هَذِهِ النّارُ الّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوَاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة أن عذابه واقع بأعدائه، وأنه لا دافع له عنهم، فالطور هو الجبل الذي يكون فيه أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى وأرسل منه عيسى، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طوراً إنما يقال له جبل {وَكِتَابٍ مّسْطُورٍ} قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهاراً ولهذا قال: {فِي رَقّ مّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة: "ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم" يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، كذلك ذاك البيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة، ولهذا وجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، وهو بحيال الكعبة، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون إليه والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا روح بن جناح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في السماء السابعة بيت يقال له المعمور بحيال الكعبة، وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم فينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج فينتفض انتفاضة، يخر عنه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكاً يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور، فيصلوا فيه(4/288)
فيفعلون ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبداً، ويولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفاً يسبحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة" هذا حديث غريب جداً، تفرد به روح بن جناح هذا وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعد الدمشقي، وقد أنكر عليه هذا الحديث جماعة من الحفاظ، منهم الجوزجاني والعقيلي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيرهم، قال الحاكم: لا أصل له من حديث أبي هريرة ولا سعيد ولا الزهري. وقال ابن جرير: حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة، أن رجلاً قال لعلي: ما البيت المعمور ؟ قال: بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبداً، وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري عن سماك، وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك.
ثم رواه ابن جرير عن أبي كريب عن طلق بن غنام، عن زائدة عن عاصم عن علي بن ربيعة قال: سأل ابن الكواء علياً عن البيت المعمور قال: مسجد في السماء يقال له الضراح، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبداً. ورواه من حديث أبي الطفيل عن علي بمثله وقال العوفي عن ابن عباس: هو بيت حذاء العرش تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه. وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف.
وقال قتادة والربيع بن أنس والسدي: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: "هل تدرون ما البيت المعمور" ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم" وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم الجن من قبيلة إبليس، فالله أعلم. وقوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} قال سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة عن علي {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يعني السماء. قال سفيان ثم تلا {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد واختاره ابن جرير: وقال الربيع بن أنس: هو العرش، يعني أنه سقف لجميع المخلوقات، وله اتجاه وهو مراد مع غيره كما قاله الجمهور. وقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال الربيع بن أنس: هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل الله منه المطر، الذي تحيا به الأجساد في قبورها يوم معادها، وقال الجمهور: هو هذا البحر، واختلف في معنى قوله المسجور فقال بعضهم: المراد أنه يوقد يوم القيامة ناراً كقوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي أضرمت فتصير ناراً تتأجج محيطة بأهل الموقف. ورواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وبه يقول سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير وغيرهم. وقال العلاء بن بدر: إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع وكذلك البحار يوم القيامة. كذا رواه عنه ابن أبي حاتم. وعن سعيد بن جبير {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} يعني المرسل، وقال قتادة: المسجور المملوء، اختاره ابن جرير ووجهه بأنه ليس موقداً اليوم فهو مملوء. وقيل: المراد به الفارغ.
قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال: الفارغ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت: إن الحوض مسجور يعني فارغاً. رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء. وقيل: المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه يقول السدي وغيره، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد، رحمه الله، في مسنده فإنه قال: حدثنا يزيد، حدثنا العوام، حدثني شيخ كان مرابطاً بالساحل قال: لقيت أبا صالح مولى(4/289)
عمر بن الخطاب فقال: حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات، يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم، فيكفه الله عز وجل" .
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثنا الحسن بن سفيان عن إسحاق بن راهويه عن يزيد، وهو ابن هارون، عن العوام بن حوشب، حدثني شيخ مرابط قال: خرجت ليلة لمحرسي لم يخرج أحد من الحرس غيري، فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف يحاذي رؤوس الجبال، فعل ذلك مراراً وأنا مستيقظ، فلقيت أبا صالح فقال: حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم، فيكفه الله عز وجل" فيه رجل مبهم لم يسم.
وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا هو المقسم عليه أي لواقع بالكافرين كما قال في الآية الأخرى: {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} أي ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك. قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن داود عن صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي قال: خرج عمر يعس في المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ {وَالطُّورِ - حتى إذا بلغ - إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} قال: قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث ملياً ثم رجع إلى منزله، فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه وقال الإمام أبو عبيد في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن صالح، حدثنا هشام بن حسان عن الحسن أن عمر قرأ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} فربا لها ربوة عيد منها عشرين يوماً. وقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} قال ابن عباس وقتادة: تتحرك تحريكاً. وعن ابن عباس: هو تشققها. وقال مجاهد: تدور دوراً وقال الضحاك: استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض. وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك في استدارة. قال: وأنشد أبو عبيدة معمر بن المثنى بيت الأعشى فقال:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل
{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} أي تذهب فتصير هباء منبثاً وتنسف نسفاً {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل ويتخذون دينهم هزواً ولعباً {يَوْمَ يُدَعُّونَ} أي يدفعون ويساقون {إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} وقال مجاهد والشعبي ومحمد بن كعب والضحاك والسدي والثوري: يدفعون فيها دفعاً {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعاً وتوبيخاً {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا} أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} أي سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ولا يظلم الله أحداً بل يجازي كلاً بعمله.
{إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتّكِئِينَ عَلَىَ سُرُرٍ مّصْفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ}
أخبر الله تعالى عن حال السعداء فقال {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من مآكل(4/290)
ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي وقد نجاهم من عذاب النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} أي هذا بذاك تفضلاً منه وإحساناً. وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} قال الثوري عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس السرر في الحجال، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمرو أنه سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه" . وحدثنا أبي، أخبرنا هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: بلغنا أن الرجل ليتكىء في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه، وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم، فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك، فيقلن قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيباً، ومعنى {مَصْفُوفَةٍ} أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حساناً من الحور العين، وقال مجاهد {وَزَوَّجْنَاهُمِْ} أنكحناهم بحور عين، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته ههنا.
{وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لّهُمْ كَأَنّهُمْ لُؤْلُؤٌ مّكْنُونٌ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُوَاْ إِنّا كُنّا قَبْلُ فِيَ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السّمُومِ إِنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنّهُ هُوَ الْبَرّ الرّحِيمُ}
يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك، ولهذا قال: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال الثوري عن عمر بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري به، وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به، ورواه البزار عن سهل بن بحر عن الحسن بن حماد الوراق، عن قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس مرفوعاً، فذكره ثم قال وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس موقوفاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد البيروتي، أخبرني محمد بن شعيب، أخبرني شيبان، أخبرني ليث عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال: هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً. وقال(4/291)
الحافظ الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، حدثنا شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به" وقرأ ابن عباس {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية يقول: والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة، وأولادهم الصغار تلحق بهم، وهذا راجع إلى التفسير الأول، فإن ذلك مفسر أصرح من هذا، وهكذا يقول الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وأبو صالح والربيع بن أنس والضحاك وابن زيد، وهو اختيار ابن جرير وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما في النار" فلما رأى الكراهية في وجهها قال: "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما" قالت: يا رسول الله فولدي منك ؟ قال: "في الجنة" قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية، هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء فقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول: باستغفار ولدك لك" إسناده صحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه ولكن له شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
وقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل وهو أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد فقال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أباً أو ابناً كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ في جنات يتساءلون عَنِ الْمُجْرِمِينَ} وقوله: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى. وقوله: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي يتعاطون فيها كأساً أي من الخمر، قاله الضحاك {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان ولا إثم أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا، قال ابن عباس: اللغو الباطل والتأثيم الكذب، وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون. وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، كما تقدم فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الفارغ عن الفائدة المتضمن هذياناً وفحشاً، وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} وقال: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} وقال ههنا {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} وقوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم، كما قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} وقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}(4/292)
أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وهذا كما يتحدث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}.
وقد ورد في هذا المقام حديث رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعيد بن دينار، حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان، فيتكىء هذا ويتكىء هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله عز وجل فغفر لنا" ثم قال البزار: لا نعرفه يروى إلا بهذا الإسناد. قلت: وسعيد بن دينار الدمشقي ؟ قال أبو حاتم: هو مجهول وشيخه الربيع بن صبيح، وقد تكلم فيه غير واحد من جهة حفظه وهو رجل صالح ثقة في نفسه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الآية {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فقالت: اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش في الصلاة ؟ قال: نعم.
{فَذَكّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نّتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبّصُواْ فَإِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ}
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال: {فَذَكّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} أي لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش، والكاهن الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء {وَلاَ مَجْنُونٍ} وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكراً عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} أي قوارع الدهر، والمنون الموت، يقولون ننتظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه، قال الله تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي انتظروا فإني منتظر معكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة. قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قريشاً لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم: احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم، فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ؟}.
ثم قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك. وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن، قال الله تعالى: {بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} أي(4/293)
كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه، فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ما جاءوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله.
{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مّغْرَمٍ مّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ}
هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم، أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان قال: حدثني عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به. وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركاً، فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك. ثم قال تعالى: {أَمْ خَلَقُواْ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ} أي أهم خلقوا السموات والأرض ؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله، وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له، ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} أي المحاسبون للخلائق، ليس الأمر كذلك بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي مرقاة إلى الملأ الأعلى {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال، أي وليس لهم سبيل إلى ذلك فليسوا على شيء وليس لهم دليل، ثم قال منكراً عليهم فيما نسبوه إليه من البنات وجعلهم الملائكة إناثاً، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث، بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} أي أجرة إبلاغك إياهم رسالة الله، أي لست تسألهم على ذلك شيئاً {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه ويثقلهم ويشق عليهم {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} يقول تعالى: أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم فالذين كفروا هم المكيدون {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد(4/294)
مع الله، ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
{وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مّرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النّجُومِ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السّمَآءِ سَاقِطاً} أي عليهم يعذبون به لما صدقوا، ولما أيقنوا بل يقولون: هذا سحاب مركوم، أي متراكم، وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}. وقال الله تعالى {فَذَرْهُمْ} أي دعهم يا محمد {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} وذلك يوم القيامة {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا، لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئاً {لا هُمْ يُنْصَرُونَ}. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم، بل إذا جلى عنهم مما كانوا فيه، عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه كما جاء في بعض الأحاديث "إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير، لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه" وفي الأثر الإلهي: كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ قال الله تعالى: يا عبدي كم أعاقبك وأنت لا تدري ؟ وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا والله يعصمك من الناس. وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال الضحاك: أي إلى الصلاة. سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وقد روي مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما، وروى مسلم في صحيحه عن عمر أنه كان يقول: هذا في ابتداء الصلاة، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وقال أبو الجوزاء {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي من نومك من فراشك، واختاره ابن جرير ويتأيد هذا القوم بما رواه الإمام أحمد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا عمير بن هانىء، حدثني جنادة بن أبي أمية. حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعارّ من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال، رب اغفر لي - أو قال- ثم دعا استجيب له، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته" وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السنن من حديث الوليد بن مسلم به. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال: من كل مجلس وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا محمد بن شعيب(4/295)
أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح أنه حدثه عن قول الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} يقول حين تقوم من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيراً، وإن كنت غير ذلك كان هذا كفارة له، وقد قال عبد الرزاق في جامعه: أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عثمان الفقير، أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، قال معمر: وسمعت غيره يقول هذا القول كفارة المجالس وهذا مرسل، وقد وردت مسندة من طرق يقوي بعضها بعضاً بذلك، فمن ذلك حديث ابن جريج عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك" رواه الترمذي، وهذا لفظه والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج، وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال إسناده على شرط مسلم، إلا أن البخاري علله، قلت: علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم، ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج، على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ورواه أبو داود، واللفظ له والنسائي والحاكم في المستدرك من طريق الحجاج بن دينار عن هاشم، عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخر عمره: إذا أراد أن يقوم من المجلس "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى، قال: "كفارة لما يكون في المجلس" وقد روي مرسلاً عن أبي العالية، فالله أعلم.
وهكذا رواه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء، وروي مرسلاً أيضاً فالله أعلم، وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر، إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك" وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة وصححه، ومن رواية جبير بن مطعم، ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفردت لذلك جزءاً على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله، وما يتعلق به ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}. وقوله تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قد تقدم في حديث ابن عباس، أنهما الركعتان اللتان قبيل صلاة الفجر، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى ابن سيلان عن أبي هريرة مرفوعاً "لا تدعوها وإن طردتكم الخيل" يعني ركعتي الفجر، رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب أحمد القول بوجوبهما، وهو ضعيف لحديث "خمس صلوات في اليوم والليلة" قال: هل علي غيرها قال: "لا إلا أن تطوع" وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر، وفي لفظ لمسلم "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".
آخر تفسير سورة الطور ولله الحمد والمنة.(4/296)
سورة النجم
قال البخاري: حدثنا نصر بن علي، أخبرني أبو أحمد - يعني الزبيدي - حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم قال: فسجد النبي صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً وهو أمية بن خلف، وقد رواه البخاري أيضاً في مواضع ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن أبي إسحاق به، وقوله في الممتنع إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ مَا ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىَ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ}
قال الشعبي وغيره: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق، رواه ابن أبي حاتم: واختلف المفسرون في معنى قوله: {وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ} فقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني بالنجم الثريا إذا سقط مع الفجر، وكذا روي عن ابن عباس وسفيان الثوري واختاره ابن جرير، وزعم السدي أنها الزهرة، وقال الضحاك {وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ} إذا رمي به الشياطين وهذا القول له اتجاه. وروى الأعمش عن مجاهد في قوله تعالى: {وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ} يعني القرآن إذا نزل، وهذه الآية كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} هذا هو المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال، وهو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي هو العالم بالحق، العادل عنه قصداً إلى غيره، فنزه الله رسوله وشرعه، عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود. وهي علم الشيء وكتمانه، والعمل بخلافه، بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد، ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي ما يقول قولاً عن هوى وغرض {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أي إنما يقول ما أمر به يبلغه إلى الناس كاملاً موفوراً من غير زيادة ولا نقصان كما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين - أو مثل أحد الحيين - ربيعة ومضر" فقال رجل: يا رسول الله أو ما ربيعة من مضر ؟ قال: "إنما أقول ما أقول".
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن الأخنس، أخبرنا الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب. فأمسكت عن الكتاب فذكرت(4/297)
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق" ورواه أبو داود عن مسدد وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه" ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث عن محمد بن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أقول إلا حقاً" قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال: "إني لا أقول إلا حقاً".
{عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىَ ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَىَ وَهُوَ بالأفق الأعْلَىَ ثُمّ دَنَا فَتَدَلّىَ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىَ فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىَ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىَ مَا يَرَىَ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ إِذْ يَغْشَىَ السّدْرَةَ مَا يَغْشَىَ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىَ لَقَدْ رَأَىَ مِنْ آيَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَىَ}
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه علمه الذي جاء به إلى الناس {شَدِيدُ الْقُوَىَ} وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى :{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} وقال ههنا {ذُو مِرَّةٍ} أي ذو قوة، قاله مجاهد والحسن وابن زيد. وقال ابن عباس: ذو منظر حسن، وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن. ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية ابن عمر وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" وقوله تعالى: {فَاسْتَوَى} يعني جبريل عليه السلام، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى، قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة: والأفق الأعلى الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد هو مطلع الشمس. وقال قتادة: هو الذي يأتي منه النهار، وكذا قال ابن زيد وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا مصرف بن عمرو اليامي أبو القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف، حدثني أبي عن الوليد هو ابن قيس عن إسحاق بن أبي الكهتلة، أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين: أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد فذلك قوله: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} وقد قال ابن جرير ههنا قولاً لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى أي هذا الشديد القوي ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، أي استويا جميعاً بالأفق الأعلى وذلك ليلة الإسراء، كذا قال ولم يوافقه أحد على ذلك، ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال وهو كقوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} فعطف بالآباء على المكنى في كنا من غير إظهار نحن فكذلك قوله فاستوى وهو، قال وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... و لا يستوي والخروع المتقصف
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه فاقترب منه(4/298)
وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعدما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مراراً ليتردى من رؤوس الجبال. فكلما هم بذلك ناداه جبريل من الهواء، يا محمد أنت رسول الله حقاً وأنا جبريل، فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الأفق، فاقترب منه وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة وجلالة قدره وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه. فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب طرفي، ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلي جبريل كأنه جلس لاطىء فعرفت فضل علمه بالله علي. وفتح لي باب من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت. وأوحي إلي ما شاء الله أن يوحي" ثم قال البزار: لا يرويه إلا الحارث بن عبيد، وكان رجلاً مشهوراً من أهل البصرة.
(قلت) الحارث بن عبيد هذا هو أبو قدامة الأيادي أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعفه، وقال: ليس هو بشيء، وقال الإمام أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حيان: كثر وهمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، فهذا الحديث من غرائب رواياته، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقاً عجيباً ولعله منام، والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم. انفرد به أحمد. وقال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن منبه عن وهب بن منبه عن ابن عباس قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته فقال: ادع ربك، فدعا ربه عز وجل فطلع عليه سواد من قبل المشرق فجعل يرتفع وينتشر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعق فأتاه فنعشه ومسح البزاق عن شدقه، تفرد به أحمد. وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب من طريق محمد بن إسحاق عن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عن هبار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولآذينه في ربه سبحانه وتعالى، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك" ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال: يا بني ما قلت له، فذكر له ما قاله، فقال: فما قال لك ؟ قال: قال: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك" قال: يا بني والله ما آمن عليك دعاءه، فسرنا حتى نزلنا الشراة وهي مأسدة ونزلنا إلى صومعة راهب فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها يسرح الأسد فيها كما تسرح الغنم. فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة، والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لابني عليها ثم افرشوا حولها، ففعلنا فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هزمةً ففسخ رأسه فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد.
وقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ(4/299)
أَدْنَى} أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين، أي بقدرهما إذا مدا، قاله مجاهد وقتادة وقد قيل إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها. وقوله تعالى: {أَوْ أَدْنَى} قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة وكذا قوله: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد فإن هذا ممتنع وهكذا ههنا هذه الآية {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إنما هو جبريل عليه السلام، وهو قول أم المؤمنين عائشة وابن مسعود وأبي ذر وأبي هريرة، كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله تعالى. وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين فجعل هذه إحداهما، وجاء في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس في حديث الإسراء: ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى، ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.
وقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، حدثنا زر بن حبيش قال: قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جبريل له ستمائة جناح" .
وقال ابن وهب: حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أول شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل: يا محمد يا محمد! فنظر رسول الله يميناً وشمالاً فلم ير أحداً ثلاثاً، ثم رفع بصره فإذا هو ثاني إحدى رجليه مع الأخرى على أفق السماء فقال يا محمد جبريل يسكنه. فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس، فنظر فلم ير شيئاً، ثم خرج من الناس ثم نظر فرآه فدخل في الناس فلم ير شيئاً، ثم خرج فنظر فرآه، فذلك قول الله عز وجل {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى - إلى قوله - ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} يعني جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} ويقولون: القاب نصف أصبع، وقال بعضهم: ذراعين كان بينهما، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب به وفي حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر شاهداً لهذا. وروى البخاري عن طلق بن غنام عن زائدة عن الشيباني قال: سألت زراً عن قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: حدثنا عبد الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح. وقال ابن جرير: حدثني ابن بزيع البغدادي، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض، فعلى ما ذكرناه يكون قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح. وقد ذكر عن سعيد بن جبير في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: أوحى الله إليه {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً - وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وقال غيره: أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى(4/300)
تدخلها أمتك. وقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} قال مسلم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: رآه بفؤاده مرتين، وكذا رواه سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثله، وكذا قال أبو صالح والسدي وغيرهما: إنه رآه بفؤاده مرتين، وقد خالفه ابن مسعود وغيره. وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم، وقول البغوي في تفسيره وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة فيه نظر والله أعلم.
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن عمرو بن المنهال بن صفوان، حدثنا يحيى بن كثير العنبري عن سلمة بن جعفر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه، قلت: أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. ثم قال: حسن غريب. وقال أيضاً: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال: لقي ابن عباس كعباً بعرفة فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم، فقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين، وقال مسروق: دخلت على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربه، فقالت: لقد تكلمت بشيء قفّ له شعري فقلت: رويداً، ثم قرأت {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فقالت: أين يذهب بك إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمداً رأى ربه أو كتم شيئاً مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فقد أعظم على الله الفرية ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد وله ستمائة جناح قد سد الأفق. وقال النسائي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد عليهم الصلاة والسلام ؟ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل رأيت ربك ؟ فقال: "نور أنى أراه" وفي رواية "رأيت نوراً" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال: قالوا: يا رسول الله رأيت ربك ؟ قال: "رأيته بفؤادي مرتين" ثم قرأ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ورواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلنا يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال: "لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين" ثم تلا {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}.
ثم قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أخبرني عباد بن منصور قال: سألت عكرمة عن قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} فقال عكرمة: تريد أن أخبرك أنه قد رآه، قلت نعم، قال: قد رآه ثم قد رآه، قال: فسألت عنه الحسن فقال: قد رأى جلاله وعظمته ورداءه، وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن مجاهد، حدثنا أبو عامر العقدي، أخبرنا أبو خلدة عن أبي العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك ؟ قال: "رأيت نهراً ورأيت وراء النهر حجاباً، ورأيت وراء الحجاب نوراً لم أر غيره" وذلك غريب جداً، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي عز وجل" فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد أيضاً: حدثنا(4/301)
عبد الرزاق، حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قال: قلت لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال نحري - فعلمت ما في السموات وما في الأرض. ثم قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قال: قلت نعم، يختصمون في الكفارات والدرجات، قال: وما الكفارات ؟ قال: قلت المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: قل يا محمد إذا صليت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون قال: والدرجات بذل الطعام وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام" وقد تقدم في آخر سورة ص عن معاذ نحوه.
وقد رواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال: حدثني أحمد بن عيسى التميمي، حدثني سليمان بن عمر بن سيار، حدثني أبي عن سعيد بن زربي عن عمر بن سليمان، عن عطاء عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت لا يارب، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السموات والأرض فقلت يا رب في الدرجات والكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فقلت يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمت موسى تكليماً وفعلت وفعلت فقال ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أضع عنك وزرك ؟ ألم أفعل بك ألم أفعل بك ؟ قال فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها قال فذاك قوله في كتابه: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي" إسناده ضعيف وقد ذكر الحافظ ابن عساكر بسنده إلى هبار بن الأسود رضي الله عنه أن عتبة بن أبي لهب لما خرج في تجارة إلى الشام قال لأهل مكة اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى، فبلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلط الله عليه كلباً من كلابه. قال هبار: فكنت معهم فنزلنا بأرض كثيرة الأسد، قال فلقد رأيت الأسد جاء فجعل يشم رؤوس القوم واحداً واحداً حتى تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم. وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة أن ذلك كان بأرض الزرقاء وقيل بالسراة، وأنه خالف ليلتئذ، وأنهم جعلوه بينهم وناموا من حوله فجاء الأسد فجعل يزأر ثم تخطاهم إليه فضخم رأسه لعنه الله.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وكانت ليلة الإسراء. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة سبحان بما أغنى عن إعادته ههنا، وتقدم أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء ويستشهد بهذه الآية، وتابعه جماعة من السلف والخلف، وقد خالفه جماعات من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وغيرهم، وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عنزر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه الآية {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتثر منه ريش التهاويل من الدر والياقوت" وهذا إسناد جيد قوي، وقال أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا شريك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به عليم.(4/302)
إسناده حسن أيضاً. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين، حدثني عاصم بن بهدلة قال، سمعت شقيق بن سلمة يقول: سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح" سألت عاصماً عن الأجنحة فأبى أن يخبرني، قال فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب، وهذا أيضاً إسناد جيد. وقال أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا حسين، حدثنا عاصم بن بهدلة حدثني شقيق بن سلمة قال: سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام في خضر معلق به الدر" إسناده جيد أيضاً. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن إسماعيل، حدثنا عامر قال: أتى مسروق عائشة فقال يا أم المؤمنين هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ؟ قالت: سبحان الله لقد قفّ شعري لما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية. ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب، ثم قرأت {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق قال: كنت عند عائشة فقلت: أليس الله يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: "إنما ذاك جبريل" لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض، أخرجاه في الصحيحين من حديث الشعبي به.
(رواية أبي ذر) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا همام: حدثنا قتادة عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. قال: وما كنت تسأله ؟ قال: كنت أسأله هل رأى ربه عز وجل ؟ فقال: إني قد سألته فقال: "قد رأيته نوراً أنى أراه" هكذا وقع في رواية الإمام أحمد وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ فقال: "نور أنى أراه". وقال حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء تسأله ؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر: قد سألته فقال "رأيت نوراً" وقد حكى الخلال في علله أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث فقال: مازلت منكراً له وما أدري ما وجهه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عون الواسطي، أخبرنا هشيم عن منصور عن الحكم عن إبراهيم عن أبيه عن أبي ذر قال: رآه بقلبه ولم يره بعينه، وحاول ابن خزيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شقيق وبين أبي ذر، وأما ابن الجوزي فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء فأجابه بما أجابه به، ولو سأله بعد الإسراء لأجابه بالإثبات، وهذا ضعيف جداً، فإن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد سألت عن ذلك بعد الإسراء ولم يثبت لها الرؤية، ومن قال إنه خاطبها على قدر عقلها أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه كابن خزيمة في كتاب التوحيد، فإنه هو المخطىء والله أعلم. وقال النسائي: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام عن منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر، عن عبد الملك بن أبي سليمان(4/303)
عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال رأى جبريل عليه السلام.
وقال مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس وغيرهم. وقوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان وغشيها نور الرب وغشيتها ألوان ما أدري ما هي ؟ وقال الإمام أحمد: حدثنا مالك بن مغول، حدثنا الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات. انفرد به مسلم. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره - شك أبو جعفر - قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة، فقيل له إن هذه السدرة، فغشيها نور الخلاق وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر، وقال فكلمه عند ذلك فقال له سل. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال كان أغصان السدرة لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم ورأى ربه بقلبه، وقال ابن زيد قيل: يا رسول الله أي شيء رأيت يغشى تلك السدرة ؟ قال: "رأيت يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله عز وجل". وقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذهب يميناً ولا شمالاً {وَمَا طَغَى} ما جاوز ما أمر به، وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطي، وما أحسن ما قال الناظم:
رأى جنة المأوى وما فوقها ولو ... رأى غيره ما قد رآه لتاها
وقوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} كقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع لأنه قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة سبحان. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن طلحة عن الوليد بن قيس عن إسحاق بن أبي الكهتلة قال محمد أظنه عن ابن مسعود أنه قال: إن محمداً لم ير جبريل في صورته إلا مرتين: أما مرة فإنه سأله أن يريه نفسه في صورته فأراه صورته فسد الأفق، وأما الأخرى فإنه صعد معه حين صعد به، وقوله: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} فلما أحَسّ جبريل ربه عز وجل عاد في صورته وسجد، فقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: خلق جبريل عليه السلام، وهكذا رواه أحمد وهو غريب.
{أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّىَ وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الاُخْرَىَ أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الاُنْثَىَ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىَ إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَآءٌ سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مّآ أَنَزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مّن رّبّهِمُ الْهُدَىَ أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنّىَ فَلِلّهِ الآخرة والأولى وَكَمْ مّن(4/304)
مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ}
يقول تعالى مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم البيوت لها مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليه السلام {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ} وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيت بالطائف، له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا اللات، يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرأوا اللات بتشديد التاء وفسروه بأنه كان رجلاً يلت للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال البخاري: حدثنا مسلم هو ابن إبراهيم، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال: كان اللات رجلاً يلت السويق سويق الحجاج، قال ابن جرير: وكذا العزى من العزيز، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، وكانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا الله مولانا ولا مولى لكم". وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعالَ أقامرك فليتصدق" فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية، كما قال النسائي: أخبرنا أحمد بن بكار، وعبد الحميد بن محمد قالا: حدثنا مخلد، حدثنا يونس عن أبيه، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى، فقال لي أصحابي: بئس ما قلت! قلت هجراً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وانفث عن شمالك ثلاثاً، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم لا تعد". وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري عن عائشة نحوه، وقد كان بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة. غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة. لها سدنة وحجاب وتهدى لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده: فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم، حلفاء بني هاشم، قلت: بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول:
يا عزى كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
وقال النسائي: أخبرنا علي بن المنذر، أخبرنا ابن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئاً" فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الحيل وهم يقولون: يا عزى، يا عزى، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول(4/305)
الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال "تلك العزى". قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب. قلت: وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان صخر بن حرب، فهدماها وجعلا مكانها مسجداً بالطائف. قال ابن إسحاق: كانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها، ويقال علي بن أبي طالب قال: وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. قلت: وكان يقال لها الكعبة اليمانية، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه، قال: وكانت فَلْس لطيء ومن يليها بجبل طيء من سلمى وأجا، قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرسوب والمخذْم، فنفله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما سيفا علي. قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له ريام، وذكر أنه كان به كلب أسود وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت. قال ابن إسحاق: وكانت رضاء بيتاً لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:
ولقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها قفراً بقاع أسمحا
قال ابن هشام: إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمرت من عدد السنين مئينا
مائة حدتها بعدها مائتان لي ... وعمرت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقي إلا كما قد فاتنا ... يوم يمر وليلة تحدونا
وقال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد، وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
بين الخورنق والسدير وبارق ... و البيت ذو الكعبات من سنداد
ولهذا قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ثم قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} أي أتجعلون له ولداً وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت {قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي جوراً باطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفهاً، وقال تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي من تلقاء أنفسكم {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي من حجة {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين. {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له.
ثم قال تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال، ولا كل من ود شيئاً يحصل له. قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته" تفرد به أحمد. وقوله: {فَلِلَّهِ(4/306)
الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} أي إنما الأمر كله لله مالك الدنيا والآخرة والمتصرف في الدنيا والآخرة، فهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟
{إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الاُنْثَىَ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مّن تَوَلّىَ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَاةَ الدّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىَ}
يقول تعالى منكراً على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وجعلهم لها أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} ولهذا قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي ليس لهم علم صحيح يُصَدّق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع .{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". وقوله تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا} أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره. وقوله: {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا، فذاك هو غاية ما لا خير فيه، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه. وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له" وفي الدعاء المأثور "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ عملنا" وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} أي هو الخالق لجميع المخلوقات والعالم بمصالح عباده، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته وهو العادل الذي لا يجور أبداً لا في شرعه ولا في قدره.
{وَلِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاّ اللّمَمَ إِنّ رَبّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنّةٌ فِي بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ}
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنه الغني عما سواه الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} أي يجازي كلاً بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الأخرى {إِنْ تَجْتَنِبُوا(4/307)
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} وقال ههنا: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وهذا استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن ثور، حدثنا معمر عن الأعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنا العينين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانياً وإلا فهو اللمم، وكذا قال مسروق والشعبي. وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له: ابن لبابة الطائفي قال: سألت أبا هريرة عن قول الله: {إِلَّا اللَّمَمَ} قال: القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة، فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل، وهو الزنا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إلا اللمم} إلا ما سلف وكذا قال زيد بن أسلم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن منصور عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: {إِلَّا اللَّمَمَ} قال: الذي يلم بالذنب ثم يدعه، قال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما
...
وأي عبد لك ما ألما ؟
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قول الله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} قال: الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه. قال: وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون:
إن تغفر اللهم تغفر جما
...
وأي عبد لك ما ألما ؟
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعاً قال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال: هو الرجل الذي يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما
...
وأي عبد لك ما ألما ؟
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان أبي عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل ثم قال: هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق، وكذا قال البزار: لا نعلمه يروى متصلاً إلا من هذا الوجه، وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة تنزيل، وفي صحته مرفوعاً نظر. ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيغ، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أراه رفعه في: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال: اللمم من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمم من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود، قال: فذلك الإلمام.
وحدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال: اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود إليه. وحدثني يعقوب، حدثنا ابن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قول الله: {ا الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: هو الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها. وقال ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس {إِلَّا اللَّمَمَ} يلم بها في الحين قلت: الزنا؟(4/308)
قال: الزنا ثم يتوب. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: اللمم، الذي يلم المرة. وقال السدي: قال أبو صالح سئلت عن اللمم فقلت: هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم، حكاه البغوي وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح - وهو ضعيف - عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو قال: اللمم ما دون الشرك، وقال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن عطاء عن ابن الزبير {إلا اللمم} قال: ما بين الحدين حد الدنيا وعذاب الآخرة، وكذا رواه شعبة عن الحكم عن ابن عباس مثله سواء. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا اللَّمَمَ} كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة، تكفره الصلوات فهو اللمم، وهو دون كل موجب، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وأخر عقوبته إلى الآخرة. وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} أي رحمته وسعت كل شيء ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر عنكم، وتقع منكم حين أنشأ أباكم من الأرض، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ثم قسمهم فريقين: فريقاً للجنة وفريقاً للسعير. وكذا قوله: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ؟ قال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط، وكنا فيمن بقي ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقي ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقي ثم صرنا شباباً فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخاً لا أبالك فماذا بعد هذا ننتظر ؟ رواه ابن أبي حاتم عنه. وقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا عمرو الناقد، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم" فقالوا: بمَ نسميها ؟ قال: "سموها زينب" وقد ثبت أيضاً في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك قطعت عنق صاحبك - مراراً - إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك" ثم رواه عن غندر عن شعبة عن خالد الحذاء به، وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من طرق عن خالد الحذاء به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا: أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه قال: فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب. ورواه مسلم وأبو داوود من حديث الثوري عن منصور به.
{أَفَرَأَيْتَ الّذِي تَوَلّىَ وَأَعْطَىَ قَلِيلاً وَأَكْدَىَ أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىَ أَمْ لَمْ يُنَبّأْ بِمَا فِي صُحُفِ(4/309)
مُوسَىَ وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّىَ أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىَ ثُمّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأوْفَىَ}
يقول تعالى ذاماً لمن تولى عن طاعة الله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} قال ابن عباس: أطاع قليلاً ثم قطعه، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وغير واحد. قال عكرمة وسعيد: كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئراً، فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل فيقولون أكدينا ويتركون العمل.
وقوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} أي أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى قد أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عياناً ؟ أي ليس الأمر كذلك. وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلاً وشحاً وهلعاً، ولهذا جاء في الحديث "أنفق بلالاً ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً" وقد قال الله تعالى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قال سعيد بن جبير والثوري: أي بلغ جميع ما أمر به، وقال ابن عباس {وَفَّى} لله بالبلاغ، وقال سعيد بن جبير {وَفَّى} ما أمر به، وقال قتادة {وَفَّى} طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه وهذا القول هو اختيار ابن جرير، وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فقام بجميع الأوامر وترك جميع النواهي وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قال "أتدري ما {وَفَّى} قلت: الله ورسوله أعلم. قال "وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار"
ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير وهو ضعيف. وقال الترمذي في جامعه: حدثنا أبو جعفر السمناني، حدثنا أبو مسهر، حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: "ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره" قال ابن أبي حاتم رحمه الله: وحدثنا أبي، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :"ألا أخبركم لمَ سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} حتى ختم الآية. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن رشدين بن سعد عن زبان به، ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل(4/310)
إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به" فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} الآية. والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضاً من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً" . وقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} أي يوم القيامة كقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهكذا قال ههنا: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} أي الأوفر.
{وَأَنّ إِلَىَ رَبّكَ الْمُنتَهَىَ وَأَنّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىَ وَأَنّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ والأنثى مِن نّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىَ وَأَنّ عَلَيْهِ النّشْأَةَ الاُخْرَىَ وَأَنّهُ هُوَ أَغْنَىَ وَأَقْنَىَ وَأَنّهُ هُوَ رَبّ الشّعْرَىَ وَأَنّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىَ وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىَ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىَ فَغَشّاهَا مَا غَشّىَ فَبِأَيّ آلاء رَبّكَ تَتَمَارَىَ}
يقول تعالى: {وَأَنّ إِلَىَ رَبّكَ الْمُنتَهَىَ} أي المعاد يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مسلم بن خالد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو النار، وذكر البغوي من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَأَنّ إِلَىَ رَبّكَ الْمُنتَهَىَ} قال: لا فكرة في الرب . قال البغوي: وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة" وكذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ، وإنما الذي في الصحيح "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا ؟ حتى يقول: من خلق ربك ؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته" وفي الحديث الآخر الذي في السنن "تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله تعالى فإن الله خلق ملكاً ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاثمائة سنة" أو كما قال: وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أي خلق في عباده الضحك والبكاء وسببهما وهما مختلفان {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} كقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} كقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فجعل منه الزوجين أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى(4/311)
أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} أي كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة وهي النشأة الأخرى يوم القيامة {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي ملك عباده المال وجعله لهم قنية مقيماً عندهم لا يحتاجون إلى بيعه، فهذا تمام النعمة عليهم، وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين، منهم أبو صالح وابن جرير وغيرهما، وعن مجاهد {أَغْنَى} موّل {وَأَقْنَى} أخدم، وكذا قال قتادة، وقال ابن عباس ومجاهد أيضاً {أَغْنَى} أعطى {وَأَقْنَى} رضي. وقيل: معناه أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه، قاله الحضرمي بن لاحق، وقيل: أغنى من شاء من خلقه، وأقنى أي أفقر من شاء منهم، قال ابن زيد، حكاهما ابن جرير وهما بعيدان من حيث اللفظ. وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم: هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له مرزم الجوزاء كانت طائفة من العرب يعبدونه {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} وهم قوم هود ويقال لهم عاد بن إرم بن سام بن نوح كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله تعالى وعلى رسوله فأهلكهم الله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} أي متتابعة.
وقوله تعالى: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} أي دمرهم فلم يبق منهم أحداً {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} أي أشد تمرداً من الذين من بعدهم {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} يعني مدائن لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود، ولهذا قال: فغشاها ما غشى يعني من الحجارة التي أرسلها عليهم {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} قال قتادة، كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان، فانضرم عليهم الوادي شيئاً فشيئاً من نار ونفط وقطران كفم الأتون. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن وهب بن عطية عن الوليد بن مسلم عن خليد عنه به، وهو غريب جداً {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} أي ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري ؟ قاله قتادة وقال ابن جريج {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} يا محمد والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير.
{هَذَا نَذِيرٌ مّنَ النّذُرِ الأولى أَزِفَتِ الاَزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُواْ لِلّهِ وَاعْبُدُواْ}
{هَذَا نَذِيرٌ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {مّنَ النّذُرِ الأولى} أي من جنسهم أرسل كما أرسلوا كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} أي اقتربت القريبة وهي القيامة {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي لا يدفعها إذاً من دون الله أحد ولا يطلع على علمها سواه، والنذير الحذر لما يعاين من الشر الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم كما قال: {لَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} وفي الحديث: "أنا النذير العريان" أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئاً، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عرياناً مسرعاً، وهو مناسب لقوله: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة. كما قال في أول السورة التي بعدها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} وقال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثني أبو حاتم لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" وقال أبو حازم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو نضرة: لا أعلم إلا عن سهل بن سعد(4/312)
قال: "مثلي ومثل الساعة كهاتين" وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم قال: "مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان" ثم قال: "مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم" ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ذلك" وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان. ثم قال تعالى منكراً على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم {تَعْجَبُونَ} من أن يكون صحيحاً {وَتَضْحَكُونَ} منه استهزاء وسخرية {وَلا تَبْكُونَ} أي كما يفعل الموقنون به كما أخبر عنهم {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال: الغناء هي يمانية أسمد لنا غن لنا، وكذا قال عكرمة، وفي رواية عن ابن عباس {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} معرضون، وكذا قال مجاهد وعكرمة، وقال الحسن غافلون، وهو رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفي رواية عن ابن عباس تستكبرون، وبه يقول السدي، ثم قال تعالى آمراً لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والإخلاص {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} أي فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوه. قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. انفرد به دون مسلم، وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحداً يقرؤها إلا سجد معه. وقد رواه النسائي في الصلاة عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به.
آخر تفسير سورة النجم.(4/313)
سورة القمر
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مّسْتَمِرّ وَكَذّبُواْ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلّ أَمْرٍ مّسْتَقِرّ وَلَقَدْ جَآءَهُم مّنَ الأنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النّذُرُ}
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وقال: {اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ} وقد وردت الأحاديث بذلك. قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا: حدثنا خلف بن موسى، حدثني أبي عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم، وقد كادت الشمس أن تغرب، فلم يبق منها إلا سف يسير فقال: "والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس إلا يسيراً" قلت: هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العمي عن أبيه، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. (حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره) قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا شريك، حدثنا سلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عمر قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر فقال: "ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى" وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا محمد بن مطرف عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بعثت أنا والساعة هكذا" وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى وأخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، أخبرنا الأعمش عن أبي خالد عن وهب السوائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها" وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، حدثني إسماعيل بن عبيد الله قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنتم والساعة كهاتين" تفرد به أحمد رحمه الله، وشاهد ذلك أيضاً في الصحيح في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه. وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان، قال بهز، وقال قبل(4/314)
هذه المرة: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدرك لها قعراً، والله لتملؤنه أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام" وذكر تمام الحديث انفرد به مسلم.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا يعقوب، حدثني ابن علية، أخبرنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ، فجاءت الجمعة، فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق، فقلت لأبي: أيستبق الناس غداً ؟ فقال: يا بني إنك لجاهل، إنما هو السباق بالأعمال، ثم جاءت الجمعة الأخرى، فحضرنا فخطب حذيفة فقال: ألا إن الله عز وجل يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة. وقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "خمس قد مضين الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر" وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
(رواية أنس بن مالك): قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، وقال البخاري: حدثني عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك، أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما. وأخرجاه أيضاً من حديث يونس بن محمد المؤدب عن شيبان عن قتادة، ورواه مسلم أيضاً من حديث أبي داود الطيالسي ويحيى القطان وغيرهما عن شعبة عن قتادة به. (رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد. فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير عن أخيه سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن. وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به، ورواه البيهقي أيضاً من طريق إبراهيم بن طهمان وهشيم، كلاهما عن حصين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده فذكره.
(رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما) قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا بكر عن جعفر عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري أيضاً ومسلم من حديث بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عراك به مثله. وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود بن أبي هند عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في(4/315)
قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا، وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو البزار، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ - إلى قوله - مُسْتَمِرٌّ}. (رواية عبد الله بن عمر) قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري: حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن الأعمش، عن مجاهد عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انشق فلقتين، فلقة من دون الجبل وفلقة من خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد" وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد به، قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود وقال الترمذي: حسن صحيح. (رواية عبد الله بن مسعود) قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين، حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا" وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة به، وأخرجاه من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود به. وقال ابن جرير: حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش عن إبراهيم عن رجل عن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فانشق القمر فأخذت فرقة خلف الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا اشهدوا" قال البخاري: وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله بمكة وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة. قال: فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال: فجاء السفار فقالوا ذلك. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به. قال: فسئل السفار، قال: وقدموا من كل وجهة فقالوا: رأيناه، ورواه ابن جرير من حديث المغيرة به، وزاد فأنزل الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب عن محمد هو ابن سيرين قال: نبئت أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: لقد انشق القمر.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثني محمد بن عمارة، حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط عن سماك عن إبراهيم عن الأسود، عن عبد الله قال: لقد رأيت الجبل من فرج القمر حين انشق، ورواه الإمام أحمد عن مؤمل عن إسرائيل عن سماك عن إبراهيم، عن الأسود عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر. وقال ليث عن مجاهد: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "اشهد يا أبا بكر" فقال المشركون: سحر القمر حتى انشق. وقوله تعالى، {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً} أي دليلاً وحجة وبرهاناً {يُعْرِضُوا} أي لا ينقادوا له بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي ويقولون هذا الذي شاهدناه من الحجج سحر سحرنا به ومعنى(4/316)
{مُسْتَمِرٌّ} أي ذاهب، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما: أي باطل مضمحل لا دوام له {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أي كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم.
وقوله: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} قال قتادة: معناه أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر، وقال ابن جريج: مستقر بأهله، وقال مجاهد {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} أي يوم القيامة، وقال السدي: مستقر أي واقع، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} أي من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب مما يتلى عليهم في القرآن {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب. وقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه فمن الذي يهديه من بعد الله ؟ وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وكذا قوله تعالى: {مَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .
{فَتَوَلّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدّاعِ إِلَىَ شَيْءٍ نّكُرٍ خُشّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنّهُمْ جَرَادٌ مّنتَشِرٌ مّهْطِعِينَ إِلَى الدّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}
يقول تعالى: فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون هذا سحر مستمر، أعرض عنهم وانتظرهم {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} أي إلى شيء منكر فظيع، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء بل والزلازل والأهوال، {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة أبصارهم {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} وهي القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر في الآفاق، ولهذا قال: {مُهْطِعِينَ} أي مسرعين {إِلَى الدَّاعِ} لا يخالفون ولا يتأخرون {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي يوم شديد الهول عبوس قمطرير {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}.
{كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبّهُ أَنّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السّمَآءِ بِمَاءٍ مّنْهَمِرٍ وَفَجّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَىَ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىَ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ}
يقول تعالى: {كَذّبَتْ} قبل قومك يا محمد {قَوْمُ نُوحٍ فَكَذّبُواْ عَبْدَنَا} أي صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} قال مجاهد: وازدجر. أي استطير جنوناً، وقيل: وازدجر أي انتهروه وزجروه وتواعدوه لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين، قاله ابن زيد وهذا متوجه حسن {فَدَعَا رَبّهُ أَنّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} أي إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك. قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السّمَآءِ بِمَاءٍ مّنْهَمِرٍ} قال السدي: وهو الكثير {وَفَجّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً} أي نبعت جميع أرجاء الأرض حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيوناً {فَالْتَقَى المَآءُ} أي من السماء والأرض {عَلَىَ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي أمر مقدر.(4/317)
قال ابن جريج عن ابن عباس {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السّمَآءِ بِمَاءٍ مّنْهَمِرٍ} كثير لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءان على أمر قد قدر، وروى ابن أبي حاتم أن ابن الكواء سأل علياً عن المجرة فقال: هي شرج السماء، ومنها فتحت السماء بماء منهمر {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} قال ابن عباس وسعيد بن جبير والقرظي وقتادة وابن زيد: هي المسامير، واختاره ابن جرير، قال: وواحدها دسار. ويقال: دسير كما يقال حبيك وحباك والجمع حبك، وقال مجاهد: الدسر أضلاع السفينة. وقال عكرمة والحسن: هو صدرها الذي يضرب به الموج. وقال الضحاك: طرفاها وأصلها، وقال العوفي عن ابن عباس: هو كلكلها أي صدرها. وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصاراً لنوح عليه السلام. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة، والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ولهذا قال ههنا: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من يتذكر ويتعظ. قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وهكذا رواه البخاري، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وروى البخاري أيضاً من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . وقال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلاً سأل الأسود فهل من مذكر أو مدكر، قال: سمعت عبد الله يقرأ فهل من مدكر، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها {فهل من مدكر}. دالاً. وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي إسحاق. وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي، ولم يتعظ بما جاءت به نذري، وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس، كما قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} قال مجاهد: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} يعني هونا قراءته، وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن، وقال الضحاك عن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل، قلت: ومن تيسيره تعالى على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة، وقوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه ؟ وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي ؟.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن رافع، حدثنا ضمرة عن ابن شوذب، عن مطر هو الوراق في قوله تعالى: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} هل من طالب علم فيعان عليه، وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم عن مطر الوراق، ورواه ابن جرير، وروي عن قتادة مثله.
{كَذّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مّسْتَمِرّ تَنزِعُ النّاسَ(4/318)
كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ}
يقول تعالى مخبراً عن عاد قوم هود، إنهم كذبوا رسولهم أيضاً، كما صنع قوم نوح وأنه تعالى أرسل عليهم {رِيحاً صَرْصَراً} وهي الباردة الشديدة البرد {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} أي عليهم، قاله الضحاك وقتادة والسدي {مُسْتَمِرٍّ} عليهم نحسه ودماره لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي. وقوله تعالى: {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه فيسقط على الأرض، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس، ولهذا قال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ للذكر فهل من مدكر} .
{كَذّبَتْ ثَمُودُ بِالنّذُرِ فَقَالُوَاْ أَبَشَراً مّنّا وَاحِداً نّتّبِعُهُ إِنّآ إِذاً لّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مّنِ الْكَذّابُ الأشِرُ إِنّا مُرْسِلُو النّاقَةِ فِتْنَةً لّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبّئْهُمْ أَنّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلّ شِرْبٍ مّحْتَضَرٌ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىَ فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَد يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ}
وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحاً {كَذّبَتْ ثَمُودُ بِالنّذُرِ فَقَالُوَاْ أَبَشَراً مّنّا وَاحِداً نّتّبِعُهُ إِنّآ إِذاً لّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} يقولون: لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا. ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم ثم رموه بالكذب فقالوا: {بَلْ هُوَ كَذّابٌ أَشِرٌ} أي متجاوز في حد الكذب، قال الله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد. ثم قال تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً} أي اختباراً لهم، أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله صالح: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} أي انتظر ما يؤول إليه أمرهم، واصبر عليهم فإن العاقبة لك، والنصر في الدنيا والآخرة {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي يوم لهم ويوم للناقة كقوله: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} .
وقوله تعالى: {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} قال مجاهد: إذا غابت حضروا الماء. وإذا جاءت حضروا اللبن، ثم قال تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} قال المفسرون: هو عاقر الناقة، واسمه قدار بن سالف، وكان أشقى قومه. كقوله: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} {فَتَعَاطَى} أي خسر {فعقر فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فعاقبتهم فكيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أي فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات، قاله غير واحد من المفسرين، والمحتظر قال السدي هو المرعى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتسفيه الريح، وقال ابن زيد: كانت العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبيس الشوك فهو المراد من قوله: {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} وقال سعيد بن جبير: هشيم المحتظر هو التراب المتناثر من الحائط، وهذا قول غريب، والأول أقوى والله أعلم.
{كَذّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنّذُرِ إِنّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاّ آلَ لُوطٍ نّجّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ(4/319)
نَجْزِي مَن شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مّسْتَقِرّ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُدّكِرٍ}
يقول تعالى مخبراً عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه، وارتكبوا المكروه من إتيان الذكور وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، ولهذا أهلكهم الله هلاكاً لم يهلكه أمة من الأمم، فإنه تعالى أمر جبريل عليه السلام فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها وأتبعت بحجارة من سجيل منضود، ولهذا قال ههنا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} وهي الحجارة {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} أي خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد، حتى ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالماً لم يمسسه سوء، ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أي ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله وعذابه فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه بل شكوا فيه وتماروا به. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} وذلك ليلة ورد عليه الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل في صور شباب مرد حسان محنة من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، وذلك عشية ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} يعني نساءهم {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي ليس لنا فيهن أرب {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول، خرج عليهم جبريل عليه السلام فضرب أعينهم بطرف جناحه، فانطمست أعينهم، يقال إنها غارت من وجوههم، وقيل إنه لم تبق لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطاً عليه السلام إلى الصباح. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك لهم منه {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
{وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النّذُرُ كَذّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مّقْتَدِرٍ أَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسّاعَةُ أَدْهَىَ وَأَمَرّ}
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وقومه: إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا، والنذارة إن كفروا، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر أي فأبادهم الله ولم يبق منهم مخبر ولا عين ولا أثر، ثم قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ} أي أيها المشركون من كفار قريش {خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} يعني من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل وكفرهم بالكتب، أأنتم خير من أولئكم؟ {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أي أم معكم من الله براءة أن لا ينالكم عذاب ولا نكال؟ ثم قال تعالى مخبراً عنهم: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} أي يعتقدون أنهم يتناصرون بعضهم بعضاً، وأن جميعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء. قال الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي سيتفرق شملهم(4/320)
ويغلبون.
قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا خالد عن خالد، وقال أيضاً: حدثنا محمد حدثنا عفان بن مسلم عن وهيب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: "أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً" فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع من حديث خالد، وهو ابن مهران الحذاء به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة قال: لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال عمر: أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: "سيهزم الجمع ويولون الدبر" فعرفت تأويلها يومئذ.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم، أخبرني يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين فقالت: نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} هكذا رواه ههنا مختصراً، ورواه في فضائل القرآن مطولاً ولم يخرجه مسلم.
{إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسّ سَقَرَ إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ وَكُلّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزّبُرِ وَكُلّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مّسْتَطَرٌ إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ}
يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق، ثم قال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار، وكما كانوا ضلالاً يسحبون فيها على وجوههم لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ}. وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} وكقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية، الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة، وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلاً وما ورد فيه من الأحاديث في شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري رحمه الله، ولنذكر ههنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة.
قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه من حديث وكيع عن سفيان الثوري به. وقال البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا يونس بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ما نزلت هذه الآيات {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يوم يسحبون في النار(4/321)
على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر} إلا في أهل القدر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل بن صالح الأنطاكي، حدثني قرة بن حبيب عن كنانة، حدثني جرير بن حازم عن سعيد بن عمرو بن جعدة، عن ابن زرارة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال: "نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله".
وحدثنا الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم، وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له قد تكلم في القدر، فقال: أوقد فعلوها ؟ قلت: نعم، قال: فو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين. وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر وفيه مرفوع فقال: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي عن بعض إخوته عن محمد بن عبيد المكي عن عبد الله بن عباس قال: قيل له إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه وهو أعمى، قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس ؟ قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق إلياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيراً، كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً" ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة عن الأوزاعي عن العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد فذكر مثله لم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد: حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو صخر عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه. فكتب إليه عبد الله بن عمر أنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر" ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به. وقال أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم" لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه. وقال أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين عن أبي صخر حميد بن زياد عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة مسخ ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صخر حميد بن زياد به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن الطباع، أخبرني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم، عن طاوس اليماني قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" ورواه مسلم منفرداً به من حديث مالك.
وفي الحديث الصحيح "استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان" وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك جفت الأقلام وطويت الصحف" وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن سوار، حدثنا الليث عن معاوية عن أيوب بن زياد، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، حدثني أبي(4/322)
قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تطعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار. ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البلخي عن أبي داود الطيالسي عن عبد الواحد بن سليم عن عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه به وقال: حسن صحيح غريب. وقال سفيان الثوري عن منصور عن ربعي بن خراش، عن رجل عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره" وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به، ورواه من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن منصور عن ربعي عن علي فذكره وقال: هذا عندي أصح، وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك عن منصور عن ربعي عن علي به. وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانىء الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" زاد ابن وهب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه، كما أخبرنا بنفوذ قدره فيهم فقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلاً موجوداً كلمح البصر، لا يتأخر طرفة عين، وما أحسن ما قال بعض الشعراء:
إذا ما أراد الله أمراً فإنما
...
يقول له كن قولة فيكون
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} يعني أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك وقدر لهم من العذاب، كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} وقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} أي من أعمالهم {مُسْتَطَرٌ} أي مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير، حدثني عوف بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً" ورواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني، وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر. ثم قال سعيد فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنباً فاستصغره فأتاه آت في منامه فقال له يا سليمان:
لا تحقرن من الذنوب صغيراً
...
إن الصغير غداً يعود كبيرا
إن الصغير ولو تقادم عهده
...
عند الإله مُسطراً تسطيرا(4/323)
فازجر هواك على البطالة لا تكن
...
صعب القياد وشمرَنْ تشميرا
إن المحب إذا أحب إلهه
...
طار الفؤاد وألهم التفكيرا
فاسأل هدايتك الإله بنية
...
فكفى بربك هادياً ونصيرا
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر والسحب في النار على وجوههم، مع التوبيخ والتقريع والتهديد. وقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي في دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه وجوده وإحسانه {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} أي عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها. وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" انفرد بإخراجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة بإسناده مثله.
آخر تفسير سورة اقتربت ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.(4/324)
سورة الرحمن
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد عن عاصم عن زر أن رجلاً قال: كيف تعرف هذا الحرف من ماء غير آسن أو آسن ؟ فقال: كل القرآن قد قرأت. قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة واحدة، فقال: أهذا كهذا الشعر لا أبالك ؟ قد علمت. قرائن النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل، وكان أول مفصل ابن مسعود {الرَّحْمَنِ} وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد الرحمن بن واقد وأبو مسلم السعدي، حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد، عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد" ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد،ثم حكي عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه، ينكر رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا، ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عمرو بن مالك عن الوليد بن مسلم، وعن عبد الله بن أحمد بن شبويه عن هشام بن عمارة، كلاهما عن الوليد بن مسلم به ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن مالك البصري قالا: حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال: "ما لي أسمع الجن أحسن جواباً لربها منكم ؟" قالوا: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: "ما أتيت على قول الله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالت الجن لا بشيء من نعم ربنا نكذب" ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك به، ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الرّحْمَنُ عَلّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلّمَهُ البَيَانَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ وَالْحَبّ ذُو الْعَصْفِ وَالرّيْحَانُ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن، ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى: {الرّحْمَنُ عَلّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلّمَهُ البَيَانَ} قال الحسن: يعني النطق، وقال الضحاك وقتادة وغيرهما: يعني الخير والشر، وقول الحسن ههنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان(4/325)
والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها. وقوله تعالى: {الشّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب {لا لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
وعن عكرمة أنه قال: لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد، ثم كشف حجاباً واحداً من سبعين حجاباً دون الشمس، لما استطاع أن ينظر إليها. ونور الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزءاً من نور الستر. فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عياناً، رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} قال ابن جرير: اختلف المفسرون في معنى قوله والنجم بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق، فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النجم ما انبسط على وجه الأرض يعني من النبات، وكذا قال سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري، وقد اختاره ابن جرير رحمه الله تعالى. وقال مجاهد: النجم الذي في السماء. وكذا قال الحسن وقتادة، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} الآية.
وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} يعني العدل كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وهكذا قال ههنا: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل. ولهذا قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط كما قال تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} وقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} أي كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات، لتستقر لما على وجهها من الأنام وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الأنام الخلق {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً، والأكمام قال ابن جريج عن ابن عباس: هي أوعية الطلع وهكذا قال غير واحد من المفسرين، وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود، فيكون بسراً ثم رطباً ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمرو بن علي الصيرفي، حدثنا أبو قتيبة، حدثنا يونس بن الحارث عن الشعبي قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير، تخرج مثل آذان الحمير ثم تشقق مثل اللؤلؤ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر، ثم تينع فتنضج فتكون كأطيب فالوذج أكل، ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم، إن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا، وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وقيل: الأكمام رفاتها وهو الليف الذي على عنق النخلة، وهو قول الحسن وقتادة. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} قال علي بن أبي طلحة عن(4/326)
ابن عباس {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} يعني التبن. وقال العوفي عن ابن عباس: العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه، فهو يسمى العصف إذا يبس، وكذا قال قتادة والضحاك وأبو مالك عصفه تبنه. وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: والريحان يعني الورق. وقال الحسن: هو ريحانكم هذا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: والريحان خضر الزرع، ومعنى هذا - والله أعلم - أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف، وهو ما على السنبلة، وريحان وهو الورق الملتف على ساقها. وقيل: العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلاً والريحان الورق يعني إذا أدجن وانعقد فيه الحب، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة:
وقولا له من ينبت الحب في الثرى
...
فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه
...
ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان ؟ قاله مجاهد وغير واحد، ويدل عليه السياق بعده، أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون به: اللهم ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد. وكان ابن عباس يقول لا بأيها يا رب أي لا نكذب بشيء منها، قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يستمعون {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟.
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخّارِ وَخَلَقَ الْجَآنّ مِن مّارِجٍ مّن نّارٍ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ رَبّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تِكَذّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَيّ آلاَءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقه الجان من مارج من نار، وهو طرف لهبها، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه يقول عكرمة ومجاهد والحسن وابن زيد، وقال العوفي عن ابن عباس: {من مارج من نار} من لهب النار من أحسنها، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {من مارج من نار} من خالص النار، وكذلك قال عكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} يعني مشرقي الصيف والشتاء ومغربي الصيف والشتاء، وقال في الآية الأخرى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس. وقال في الآية الأخرى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ(4/327)
وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} وهذا المراد منه جنس المشارق والمغارب، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} قال ابن عباس: أي أرسلهما. وقوله: {يَلْتَقِيَانِ} قال ابن زيد: أي منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما، والمراد بقوله البحرين: الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة الفرقان عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} وقد اختار ابن جرير ههنا أن المراد بالبحرين: بحر السماء وبحر الأرض، وهو مروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية وابن أبزى، قال ابن جرير: لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء وأصداف بحر الأرض وهذا وإن كان هكذا لكن ليس المراد بذلك ما ذهب إليه، فإنه لا يساعده اللفظ فإنه تعالى قد قال: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} أي وجعل بينهما برزخاً، وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا، وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه، وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخاً وحجراً محجوراً.
وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى كما قال تعالى :{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن وقد صح هذا الإطلاق. واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل هو صغار اللؤلؤ، قاله مجاهد وقتادة وأبو رزين والضحاك وروي عن علي، وقيل كباره وجيده، حكاه ابن جرير عن بعض السلف ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس، وحكاه السدي عمن حدثه عن ابن عباس، وروي مثله عن علي ومجاهد أيضاً ومرة الهمداني، وقيل: هو نوع من الجواهر أحمر اللون، قال السدي عن أبي مالك عن مسروق عن عبد الله قال: المرجان الخرز الأحمر، قال السدي: وهو الكسد بالفارسية، وأما قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} فاللحم من كل من الأجاج والعذب والحلية إنما هي من المالح دون العذب. قال ابن عباس: ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر فوقعت في صدفة إلا صار منها اللؤلؤ، وكذا قال عكرمة، وزاد: فإذا لم تقع في صدفة نبتت بها عنبرة، وروي من غير وجه عن ابن عباس نحوه.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها فما وقع فيها، يعني من قطر فهو اللؤلؤ. إسناده صحيح، ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض، امتن بها عليهم فقال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ} يعني السفن التي تجري {فِي الْبَحْرِ} قال مجاهد: ما رفع قلعه من السفن فهي منشآت وما لم يرفع قلعه فليس بمنشآت، وقال قتادة: المنشآت يعني المخلوقات، وقال غيره، المنشآت بكسر الشين يعني البادئات {كَالْأَعْلامِ} أي كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم، مما فيه صلاح الناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، ولهذا قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا العرار بن سويد عن عميرة بن سعد قال: كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على شاطىء الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها فبسط علي يديه ثم قال: يقول الله عز وجل: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله.(4/328)
{كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىَ وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَسْأَلُهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبداً، قال قتادة: أنبأ بما خلق ثم أنبأ أن ذلك كله فان. وفي الدعاء المأثور: يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك. وقال الشعبي: إذا قرأت {كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا تسكت حتى تقرأ {وَيَبْقَىَ وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} وهذه الآية كقوله تعالى: {كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية بأنه ذو الجلال والإكرام أي هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف كقوله تعالى :{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وكقوله إخباراً عن المتصدقين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} قال ابن عباس: ذو الجلال والإكرام ذو العظمة والكبرياء، ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، وقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الأنات وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال من شأنه أن يجيب داعياً أو يعطي سائلاً، أو يفك عانياً أو يشفي سقيماً.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كل يوم هو يجيب داعياً ويكشف كرباً ويجيب مضطراً ويغفر ذنباً، وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السموات والأرض يحيي حياً ويميت ميتاً، ويربي صغيراً ويفك أسيراً وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحمصي، حدثنا جرير بن عثمان عن سويد بن جبلة هو الفزاري قال: إن ربكم كل يوم هو في شأن فيعتق رقاباً، ويعطي رغاباً، ويقحم عقاباً.
وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني عمرو بن بكر السكسكي، حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني عن أبيه، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فقلنا: يا رسول الله وما ذاك الشأن ؟ قال: "أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين".. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار وسليمان بن أحمد الواسطي قالا: حدثنا الوزير بن صبيح الثقفي أبو روح الدمشقي والسياق لهشام قال: سمعت يونس بن ميسرة بن حليس، يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} - قال - من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين". وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة عن هشام بن عمار به، ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع عن الوزير بن صبيح قال: ودلنا عليه الوليد بن مسلم عن مطرف عن الشعبي عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره قال: والصحيح الأول، يعني إسناده الأول.(4/329)
قلت: وقد روي موقوفاً كما علقه البخاري بصيغة الجزم فجعله من كلام أبي الدرداء فالله أعلم. وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: كل يوم هو في شأن قال "يغفر ذنباً، ويكشف كرباً" ثم قال ابن جرير: وحدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق في كل نظرة ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيّهَا الثّقَلاَنِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَمَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيّهَا الثّقَلاَنِ} قال: وعيد من الله تعالى للعباد وليس بالله شغل وهو فارغ، وكذا قال الضحاك: هذا وعيد، وقال قتادة: قد دنا من الله فراغ لخلقه، وقال ابن جريج {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنقضي لكم، وقال البخاري: سنحاسبكم لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب، يقال لأتفرغن لك وما به شغل، يقول: لأخذنك على غرتك. وقوله تعالى: {أَيُّهَا الثَّقَلانِ} الثقلان: الإنس والجن كما جاء في الصحيح: "ويسمعها كل شيء إلا الثقلين" وفي رواية "إلا الإنس والجن". وفي حديث الصور "الثقلان الإنس والجن" {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ثم قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أي لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم، لا تقدرون على التخلص من حكمه ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد على الذهاب {لَّا بِسُلْطَانٍ} أي إلا بأمر الله {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ولهذا قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الشواظ: هو لهب النار، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: الشواظ الدخان، وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع، وقال أبو صالح: الشواظ هو اللهب الذي فوق النار ودون الدخان. وقال الضحاك {شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} سيل من نار. وقوله تعالى: {وَنُحَاسٌ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَنُحَاسٌ} دخان النار، وروي مثله عن أبي صالح وسعيد بن جبير وأبي سنان. وقال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاساً، بضم النون وكسرها، والقراء مجمعة على الضم، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة:
يضيء كضوء سراج السليـ
...
ـط لم يجعل الله فيه نحاساً
يعني دخاناً هكذا قال، وقد روى الطبراني من طريق جويبر عن الضحاك أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال: هو اللهب الذي لا دخان معه، فسأله شاهداً على ذلك من اللغة، فأنشده قول أمية(4/330)
بن أبي الصلت في حسان:
ألا من مبلغ حسان عني
...
مغلغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قيناً
...
لدى القينات فسلاً في الحفاظ
يمانياً يظل يشد كيراً
...
وينفخ دائباً لهب الشواظ
قال: صدقت فما النحاس ؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب له، قال: فهل تعرفه العرب ؟ قال: نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول:
يضيء كضوء سراج السلي
...
ــطـ لم يجعل الله فيه نحاساً
وقال مجاهد: النحاس الأصفر يذاب فيصب على رؤوسهم، وكذا قال قتادة، وقال الضحاك: ونحاس سيل من نحاس، والمعنى على كل قول لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار، والنحاس المذاب عليكم لترجعوا، ولهذا قال: {فَلا تَنْتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{فَإِذَا انشَقّتِ السّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنّ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنّوَاصِي وَالأقْدَامِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَذِهِ جَهَنّمُ الّتِي يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
يقول تعالى: {فَإِذَا انشَقّتِ السّمَآءُ} يوم القيامة كما دلت عليه هذه الآيات مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها كقوله تعالى: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} وقوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} أي تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي، حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم" قال الجوهري: الطش المطر الضعيف، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} قال: هو الأديم الأحمر، وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} كالفرس الورد، وقال العوفي عن ابن عباس: تغير لونها، وقال أبو صالح: كالبرذوان الورد، ثم كانت بعد كالدهان، وحكى البغوي وغيره أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء، وفي الشتاء حمراء، فإذا اشتد البرد تغير لونها، وقال الحسن البصري: تكون ألواناً. وقال السدي: تكون كلون البغلة الوردة، وتكون كالمهل كدردي الزيت، وقال مجاهد {كَالدِّهَانِ} كألوان الدهان، وقال عطاء الخراساني: كلون دهن الورد في الصفرة، وقال قتادة: هي اليوم خضراء ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان. وقال أبو الجوزاء: في صفاء الدهن. وقال ابن جريج: تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم. وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ(4/331)
وَلا جَانٌّ} وهذه كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فهذا في حال وثم في حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، وقال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولهذا قال قتادة: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} قال: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا ؟ فهذا قول ثان. وقال مجاهد في هذه الآية: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم، وهذا قول ثالث، وكأن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم بل يقادون إليها ويلقون فيها كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلامات تظهر عليهم. وقال الحسن وقتادة: يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون.
قلت: وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء. وقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} أي يجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك، وقال الأعمش عن ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور، وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره، وقال السدي: يجمع بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يعني جده، أخبرني عبد الرحمن، حدثني رجل من كندة قال: أتيت عائشة فدخلت عليها وبيني وبينها حجاب فقلت: حدثك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك فيها لأحد شفاعة ؟ قالت: نعم لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شعار واحد قال: "نعم حين يوضع الصراط لا أملك لأحد فيها شفاعة حتى أعلم أين يسلك بي، ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه حتى أنظر ماذا يفعل بي - أو قال يوحى - وعند الجسر حين يستحد ويستحر" فقالت: وما يستحد وما يستحر ؟ قال: "يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف، ويستحر حتى يكون مثل الجمرة، فأما المؤمن فيجوزه لا يضره، وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدميه فيهوي بيديه إلى قدميه" قالت: فهل رأيت من يسعى حافياً فتأخذه شوكة حتى تكاد تنفذ قدميه، فإنه كذلك يهوي بيده ورأسه إلى قدميه فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه، فتقذفه في جهنم فيهوي فيها مقدار خمسين عاماً قلت: ما ثقل الرجل ؟ قالت: ثقل عشر خلقات سمان فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام. هذا حديث غريب جداً، وفيه ألفاظ منكر رفعها، وفي الإسناد من لم يسم ومثله لا يحتج به، والله أعلم. وقوله تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، هاهي حاضرة تشاهدونها عياناً، يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتصغيراً وتحقيراً. وقوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي تارة يعذبون في الجحيم وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}.
وقوله تعالى: {آن} أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة لا يستطاع من شدة ذلك، قال ابن عباس في قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي قد انتهى غليه واشتد حره، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن والثوري والسدي وقال قتادة: قد آن طبخه منذ خلق الله السموات والأرض، وقال محمد بن كعب القرظي: يؤخذ العبد فيحرك بناصيته في ذلك الحميم حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس وهي كالتي يقول الله تعالى: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} والحميم الآن يعني الحار، وعن القرظي رواية أخرى {حَمِيمٍ آنٍ} أي حاضر وهو قول ابن زيد أيضاً، والحاضر لا ينافي ما روي عن القرظي أولاً أنه(4/332)
الحار كقوله تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي حارة شديدة الحر لا تستطاع، وكقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} يعني استواءه ونضجه فقوله: {حَمِيمٍ آنٍ} أي حميم حار جداً. ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك قال ممتناً بذلك على بريته {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
قال ابن شوذب وعطاء الخراساني: نزلت هذه الآية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ} في أبي بكر الصديق، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن مصفي، حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ} نزلت في الذي قال: أحرقوني بالنار لعلّي أضل الله قال تاب يوماً وليلة، بعد أن تكلم بهذا فقبل الله منه وأدخله الجنة، والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره يقول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ} بين يدي الله عز وجل يوم القيامة {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} ولم يطغ ولا آثر الحياة الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى فأدى فرائض الله واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث عبد العزيز به، وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد: لا أعلمه إلا قد رفعه في قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وفي قوله: {ومن دونهما جنتان} جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين.
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المقري، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار أخبرني أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً هذه الآية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق ؟ فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال: "وإن رغم أنف أبي الدرداء" ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حرملة به، ورواه النسائي أيضاً عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل عن الجريري، عن موسى عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبي الدرداء به، وقد روي موقوفا على أبي الدرداء، وروي عنه أنه قال: إن من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق. وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم نعت هاتين الجنتين فقال: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أي أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة أن الأفنان أغصان الشجر(4/333)
يمس بعضها بعضاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا مسلم بن قتيبة، حدثنا عبد الله بن النعمان، سمعت عكرمة يقول: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} يقول: ظل الأغصان على الحيطان، ألم تسمع قول الشاعر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما
تدعو أبا فرخين صادف طاوياً ... ذا مخلبين من الصقور قطاما
وحكى البغوي عن مجاهد وعكرمة والضحاك والكلبي، أنه الغصن المستقيم، قال: وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد السلام بن حرب، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {ذواتا أفنان} ذواتا ألوان، قال: وروي عن سعيد بن جبير والحسن والسدي وخصيف والنضر بن عربي وابن سنان مثل ذلك، ومعنى هذا القول أن فيهما فنوناً من الملاذ، واختاره ابن جرير، وقال عطاء: كل غصن يجمع فنوناً من الفاكهة، وقال الربيع بن أنس {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} واسعتا الفنان وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها، والله أعلم، وقال قتادة: {ذواتا أفنان} يعني بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها، وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى، فقال: "يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو قال يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال". ورواه الترمذي من حديث يونس بن بكير به. وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه، قال حماد: ولا أعلمه إلا قد رفعه في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وفي قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قال: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين. {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال الحسن البصري: إحداهما يقال لها تسنيم، والأخرى السلسبيل. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، ولهذا قال بعد هذا: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. قال إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس، ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء يعني أن بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيناً في التفاضل.
{مُتّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كَأَنّهُنّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاّ الإِحْسَانُ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}
يقول تعالى: {مُتّكِئِينَ} يعني أهل الجنة، والمراد بالاتكاء ههنا الاضطجاع ويقال: الجلوس على صفة التربيع {عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو ما غلظ من الديباج، قاله عكرمة والضحاك وقتادة وقال أبو عمران الجوني، هو الديباج المزين بالذهب، فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة، فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى. قال أبو إسحاق عن هبيرة بن مريم عن عبد الله بن مسعود قال: هذه البطائن، فكيف لو رأيتم الظواهر. وقال مالك بن دينار: بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور، وقال سفيان الثوري أو شريك:(4/334)
بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد، وقال القاسم بن محمد: بطائنها من إستبرق وظواهرها من الرحمة، وقال ابن شوذب عن أبي عبد الله الشامي: ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر، وعلى الظواهر المحابس ولا يعلم ما تحت المحابس إلا الله تعالى، ذكر ذلك كله الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله، {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} أي ثمرهما قريب إليهم متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا، كما قال تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} وقال {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي لا تمتنع ممن تناولها بل تنحط إليه من أغصانها {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك {فِيهِنَّ} أي في الفرش {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي غضيضات عن غير أزواجهن فلا يرين شيئاً في الجنة أحسن من أزواجهن، قاله ابن عباس وقتادة وعطاء الخراساني وابن زيد، وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك. ولا في الجنة شيئاً أحب إلي منك فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} أي بل هن أبكار عرب أتراب لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن، وهذه أيضاً من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة، وقال أرطاة بن المنذر: سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة ؟ قال: نعم وينكحون، للجن جنيات وللإنس إنسيات، وذلك قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
ثم قال ينعتهن للخطاب {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: في صفاء الياقوت وبياض المرجان، فجعلوا المرجان ههنا اللؤلؤ. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون الأودي، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة من حرير حتى يرى مخها" وذلك قول الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه، وهكذا رواه الترمذي من حديث عبيدة بن حميد وأبي الأحوص عن عطاء بن السائب به، ورواه موقوفاً ثم قال: وهو أصح. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يونس عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء الثياب" تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه. وقد روى مسلم حديث إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا، الرجال أكثر في الجنة أم النساء ؟ فقال أبو هريرة: أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء، لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث همام بن منبه وأبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن طلحة عن حميد عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده - يعني سوطه - من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولطاب ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها" ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق عن حميد عن أنس بنحوه. وقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} أي لا لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقال البغوي، حدثنا أبو سعيد الشريحي، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام، حدثنا الحجاج بن يوسف المكتب، حدثنا بشر بن الحسين(4/335)
عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} وقال "هل تدرون ما قال ربكم ؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال "يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة" ولما كان في الذي ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل بل مجرد تفضل وامتنان قال بعد ذلك كله {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ومما يتعلق بقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ما رواه الترمذي والبغوي من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي عقيل الثقفي، عن أبي فروة يزيد بن سنان الرهاوي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة" ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر وروى البغوي من حديث علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة مولى حويطب بن عبد العزى، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يارسول الله ؟ فقال "وإن رغم أنف أبي الدرداء".
{وَمِن دُونِهِمَا جَنّتَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُدْهَآمّتَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضّاخَتَانِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتّكِئِينَ عَلَىَ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنّتَانِ} وقد تقدم في الحديث: جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقربين والأخريان لأصحاب اليمين وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين وقال ابن عباس {وَمِن دُونِهِمَا جَنّتَانِ} من دونهما في الدرج، وقال ابن زيد: من دونهما في الفضل. والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه: (أحدها) أنه نعت الأوليين قبل هاتين والتقدم يدل على الاعتناء ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنّتَانِ} وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني وقال هناك {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال ههنا {مُدْهَامَّتَانِ} أي سوداوان من شدة الري من الماء قال ابن عباس في قوله {مُدْهَامَّتَانِ} قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {مُدْهَامَّتَانِ} قال: خضراوان. وروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن أبي أوفى وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في إحدى الروايات وعطاء وعطية العوفي والحسن البصري، ويحيى بن رافع وسفيان الثوري نحو ذلك، وقال محمد بن كعب {مُدْهَامَّتَانِ} ممتلئتان من الخضرة، وقال قتادة: خضراوان(4/336)
من الري ناعمتان ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض. وقال هناك {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} وقال ههنا {نَضَّاخَتَانِ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، أي فياضتان والجري أقوى من النضخ، وقال الضحاك {نَضَّاخَتَانِ} أي ممتلئتان ولا تنقطعان وقال هناك {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} وقال ههنا {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم، ولهذا فسر قوله: {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} من باب عطف الخاص على العام كما قرره البخاري وغيره، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما، قال عبد بن حميد: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا حصين بن عمر، حدثنا مخارق عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أفي الجنة فاكهة ؟ قال: "نعم فيها فاكهة ونخل ورمان" قالوا: أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ قال "نعم وأضعاف" قالوا: فيقضون الحوائج ؟ قال "لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم ومنها حللهم وكريها ذهب أحمر وجذوعها زمرد أخضر، وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم، وحدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد هو ابن سلمة عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب". ثم قال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قيل المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة، وقيل: خيرات جمع خيرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه، قاله الجمهور، وروي مرفوعاً عن أم سلمة، وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة الواقعة إن شاء الله تعالى أن الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان خلقنا لأزواج كرام، ولهذا قرأ بعضهم {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} بالتشديد {حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم قال: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} وهناك قال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت وإن كان الجميع مخدرات، قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع بن سفيان عن جابر عن القاسم بن أبي بزة عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: إن لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليه كل يوم تحفة وكرامة وهدية، لم تكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات ولا بخرات ولا ذفرات، حور عين كأنهن بيض مكنون، وقوله تعالى: {فِي الْخِيَامِ} قال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون" ورواه أيضاً من حديث أبي عمران به وقال ثلاثون ميلاً، وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران به ولفظه "إن للمؤمنين في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أبي الربيع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن قتادة، أخبرني خليد العصري عن أبي الدرداء قال: الخيمة لؤلؤة واحدة فيها سبعون باباً من در، وحدثنا أبي، حدثنا عيسى بن أبي فاطمة، حدثنا جرير عن هشام عن محمد بن المثنى عن ابن عباس في قوله تعالى، {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} قال: خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ(4/337)
عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وقال عبد الله بن وهب: أخبرنا عمرو أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء" ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث به.
وقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} قد تقدم مثله سواء إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرفرف المحابس، وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم: هي المحابس، وقال العلاء بن بدر: الرفوف على السرير كهيئة المحابس المتدلي. وقال عاصم الجحدري {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري في رواية عنه، وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} قال: الرفرف رياض الجنة، وقوله تعالى: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي: العبقري الزرابي، وقال سعيد بن جبير هي عتاق الزرابي يعني جيادها، وقال مجاهد: العبقري الديباج، وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} فقال: هي بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها، وعن الحسن رواية أنها المرافق، وقال زيد بن أسلم: العبقري أحمر وأصفر وأخضر، وسئل العلاء بن زيد عن العبقري فقال: البسط أسفل من ذلك. وقال أبو حزرة يعقوب بن مجاهد: العبقري من ثياب أهل الجنة لا يعرفه أحد، وقال أبو العالية: العبقري الطنافس المخملة إلى الرقة ما هي، وقال القيسي: كل ثوب موشى عند العرب عبقري، وقال أبو عبيدة: هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي، وقال الخليل بن أحمد: كل شيء نفيس من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقرياً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر "فلم أرَ عبقرياً يفري فريه" وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة فإنه قد قال هناك: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} فوصف أهلها بالإحسان، وهو أعلى المراتب والنهايات كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين. ثم قال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} أي هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وقال ابن عباس {ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} ذي العظمة والكبرياء. وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عمير بن هانىء عن أبي العذراء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجلوا الله يغفر لكم" وفي الحديث الآخر "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان، وحامل القرآن غير المغالي فيه ولا الجافي عنه" وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو يوسف الحربي حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" وكذا رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به، ثم قال غلط المؤمل فيه وهو غريب وليس بمحفوظ، وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن حسان المقدسي عن ربيعة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألظوا بذي الجلال والإكرام"(4/338)
ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك به، وقال الجوهري ألظ فلان بفلان إذا لزمه، وقول ابن مسعود ألظو بياذا الجلال والإكرام أي الزموا، يقال: الإلظاظ هو الإلحاح. (قلت) وكلاهما قريب من الآخر، والله أعلم، وهو المداومة واللزوم والإلحاح. وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
آخر تفسير سورة الرحمن ولله الحمد والمنة.(4/339)
سورة الواقعة
قال أبو إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يارسول الله قد شبت، قال "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت" رواه الترمذي وقال: حسن غريب قال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري: حدثنا السري بن يحيى الشيباني عن أبي شجاع عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال: ماتشتكي ؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي ؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا آمر لك بطبيب ؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء ؟ قال: لا حاجة لي فيه ؟ قال: يكون لبناتك من بعدك. قال: أتخشى على بناتي الفقر ؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً" ثم قال ابن عساكر: كذا قال، والصواب عن شجاع كما رواه عبد الله بن وهب عن السري. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني السري بن يحيى أن شجاعاً حدثه عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً" فكان أبو ظبية لا يدعها، وكذا رواه أبو يعلى عن إسحاق بن إبراهيم عن محمد بن منيب عن السري بن يحيى عن شجاع عن أبي ظبية عن ابن مسعود به. ثم رواه أبو يعلى عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن محمد بن منيب العدني عن السري بن يحيى عن أبي ظبية عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً" لم يذكر في مسنده شجاعاً قال: وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة. وقد رواه ابن عساكر أيضاً من حديث حجاج بن نصير وعثمان بن اليمان عن السري بن يحيى عن شجاع عن أبي فاطمة قال: مرض عبد الله فأتاه عثمان بن عفان يعوده، فذكر الحديث بطوله، قال عثمان بن اليمان: كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل ويحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، وكانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رّافِعَةٌ إِذَا رُجّتِ الأرْضُ رَجّاً وَبُسّتِ(4/340)
الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرّبُونَ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ}
الواقعة من أسماء يوم القيامة سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ولا دافع يدفعها كما قال: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} وقال {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} وقال تعالى {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}. ومعنى {كَاذِبَةٌ} كما قال محمد بن كعب لابد أن تكون، وقال قتادة: ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة قال ابن جرير: والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية. وقوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} أي تخفض أقواماً إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزاء، وترفع آخرين إلى أعلى عليين إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وضعاء، هكذا قال الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعني، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن أبيه عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} تخفض أقواماً وترفع آخرين،، وقال عبيد الله العتكي عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قال: الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ورفعت أولياء الله إلى الجنة. وقال محمد بن كعب: تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين، وقال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين، وقال العوفي عن ابن عباس {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} أسمعت القريب والبعيد، وقال عكرمة: خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى، وكذا قال الضحاك وقتادة.
وقوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً} أي حركت تحريكاً فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها، ولهذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد في قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً} أي زلزلت زلزالاً، وقال الربيع بن أنس: ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه، وهذا كقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}. وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} أي فتتت فتاً، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم، وقال ابن زيد صارت الجبال كما قال الله تعالى: {كَثِيباً مَهِيلاً}.
وقوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} قال أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه: هباء منبثاً كرهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منه الشرر فإذا وقع لم يكن شيئاً، وقال عكرمة: المنبث الذي قد ذرته الريح وبثته. وقال قتادة {هَبَاءً مُنْبَثّاً} كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح. وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة وذهابها وتسييرها ونسفها وصيرورتها كالعهن المنفوش. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش. وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين، وقال السدي: وهم جمهور أهل الجنة، وآخرون عن يسار العرش وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ويؤتون(4/341)
كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار - عياذاً بالله من صنيعهم - وطائفة سابقون بين يديه عز وجل، وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عدداً من أصحاب اليمين، ولهذا قال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية. وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه، قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} قال: هي التي في سورة الملائكة {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}. وقال ابن جريج عن ابن عباس: هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة، وقال يزيد الرقاشي: سألت ابن عباس عن قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} قال: أصنافاً ثلاثة. وقال مجاهد {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} يعني فرقاً ثلاثة. وقال ميمون بن مهران: أفواجاً ثلاثة، وقال عبيد الله العتكي عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} اثنان في الجنة وواحد في النار. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قال: الضرباء، كل رجل من كل قوم كانوا يعملون عمله، وذلك بأن الله تعالى يقول {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: هم الضرباء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى، حدثنا البراء الغنوي، حدثنا الحسن عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} فقبض بيده قبضتين فقال: "هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي" وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسن: حدثنا ابن لهيعة، حدثنا خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة" ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم" وقال محمد بن كعب وأبو حرزة ويعقوب بن مجاهد {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} هم الأنبياء عليهم السلام. وقال السدي: هم أهل عليين، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال: يوشع بن نون، سبق إلى موسى ومؤمن آل يس، سبق إلى عيسى وعلي بن أبي طالب سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن هارون الفلاس عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزار، عن شعيب بن الضحاك المدائني عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح به.
وقال ابن أبي حاتم وذكر عن محمد بن أبي حماد: حدثنا مهران عن خارجة عن قرة عن ابن سيرين {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الذين صلوا إلى القبلتين ورواه ابن جرير من حديث خارجة به. وقال الحسن وقتادة {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أي من كل أمة، وقال الأوزاعي عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثم قال: أولهم رواحاً إلى المسجد وأولهم خروجاً في سبيل الله، وهذه الأقوال كلها صحيحة فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، كما قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وقال فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(4/342)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا يحيى بن زكريا الفزاري الرازي، حدثنا خارجة بن مصعب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: قالت الملائكة يا رب جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون فاجعل لنا الآخرة، فقال: لا أفعل، فراجعوا ثلاثاً فقال: لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له كن فيكون. ثم قرأ عبد الله {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الرد على الجهمية ولفظه: فقال الله عز وجل: لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فيكون.
{ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين عَلَىَ سُرُرٍ مّوْضُونَةٍ مّتّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ لاّ يُصَدّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مّمّا يَتَخَيّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً}
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء السابقين المقربين أنهم ثلة أي جماعة من الأولين وقليل من الآخرين، وقد اختلفوا في المراد بقوله الأولين والآخرين فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية وبالآخرين هذه الأمة، وهذا رواية عن مجاهد والحسن البصري، رواها عنهما ابن أبي حاتم: وهو اختيار ابن جرير واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد، ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني" ورواه الإمام أحمد عن أسود بن عامر عن شريك عن محمد بياع الملاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكره.
وقد روي من حديث جابر نحو هذا، ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمارة، حدثنا عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: لما نزلت {إذا وقعت الواقعة} ذكر فيها {ثلة من الأولين وقليل من الآخرين} قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأولين وقليل منا ؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة ثم نزل {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ألا وإن من آدم إلي ثلة وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " هكذا أورده في ترجمة عروة بن رويم إسناداً ومتناً، ولكن في إسناده نظر، وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" الحديث بتمامه وهو مفرد في صفة الجنة، ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير ههنا فيه نظر بل هو قول ضعيف، لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة، والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى :{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي من صدر هذه الأمة {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي من هذه الأمة.(4/343)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا عبد الله بن بكر المزني، سمعت الحسن أتى على هذه الآية {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فقال: أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين. ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السري بن يحيى قال: قرأ الحسن {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} قال ثلة ممن مضى من هذه الأمة، وحدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري حدثنا أبو هلال عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الآية {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قال: كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة، فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة، ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم كل أمة بحسبها، ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث بتمامه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زياد أبو عمر عن الحسن عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" فهذا الحديث، بعد الحكم بصحة إسناده، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها، والفضل للمتقدم وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني، ولكن العمدة الكبرى على الأول واحتياج الزرع إليه آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها ولهذا قال عليه السلام "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة" وفي لفظ "حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك" والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها، ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وفي لفظ "مع كل ألف سبعون ألفاً - وفي آخر - مع كل واحد سبعون ألفاً" .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هشام بن يزيد الطبراني، حدثنا محمد هو ابن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضمضم يعني ابن زرعة عن شريح هو ابن عبيد، عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض، تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم السلام" وحسن أن يذكر ههنا عند قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة حيث قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، أخبرنا جعفر بن محمد بن المستفاض الفريابي، حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مسرح الحراني، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني عن مسلمة بن عبد الله الجهني، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي عن أبي زمل الجهني رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يقول وهو ثان رجليه "سبحان الله وبحمده أستغفر الله إن الله كان تواباً" سبعين مرة ثم يقول: "سبعين بسبعمائة لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة" ثم يقول ذلك مرتين ثم يستقبل الناس بوجهه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا ثم يقول "هل رأى أحد منكم شيئاً ؟" قال أبو زمل: فقلت أنا يا رسول الله، فقال "خير تلقاه، وشر توقاه، وخير لنا، وشر على أعدائنا الحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك" فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لا حب والناس على الجادة منطلقين، فبينما هم كذلك إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله، يرف رفيفاً يقطر ماؤه فيه من أنواع الكلأ، قال وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فلم يظلموه يميناً ولا شمالاً، قال(4/344)
فكأني أنظر إليهم منطلقين، ثم جاءت الرعلة الثانية، وهم أكثر منهم أضعافاً فلما أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع ومنهم الآخذ الضغث، ومضوا على ذلك، قال ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا هذا خير المنزل، كأني أنظر إليهم يميلون يميناً وشمالاً، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى إذا هو تكلم يسمو فيقرع الرجال طولاً، وإذا عن يسارك رجل ربع باز كثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء إذا هو تكلم أصغيتم إكراماً له، وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقاً ووجهاً كلكم تأمونه تريدونه وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها.
قال: فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب، فذاك ما حملتكم عليه من الهدى وأنتم عليه، وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغدارة عيشها، مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ولم تتعلق منا ولم نردها ولم تردنا، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافاً، فمنهم المرتع ومنهم الآخذ الضغث ونجوا على ذلك، ثم جاء عظم الناس فمالوا في المرج يميناً وشمالاً فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت فمضيت على طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني، وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفاً، وأما الرجل الذي رأيت على يميني الاَدم الشثل فذلك موسى عليه السلام، إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه، والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه كأنما حمم شعره بالماء، فذلك عيسى بن مريم نكرمه لإكرام الله إياه، وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقاً ووجهاً فذاك أبونا إبراهيم كلنا نؤمه ونقتدي به، وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة علينا تقوم لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي " قال: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل فيحدثه بها متبرعاً.
وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} قال ابن عباس: أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وقتادة والضحاك وغيره، وقال السدي: مرمولة بالذهب واللؤلؤ، وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت، وقال ابن جرير: ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مضفور، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللاَلىء.
وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أي وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أي مخلدون على صفة واحدة لا يتكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أما الأكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان، والأباريق التي جمعت الوصفين والكؤوس الهنابات، والجميع من خمر من عين جارية معين، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة. وقوله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} أي لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال. وقال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطية وقتادة والسدي {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} يقول ليس لهم فيها صداع رأس وقالوا في قوله: {وَلا يُنْزِفُونَ} أي لا تذهب بعقولهم.
وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار، وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها، ويدل على ذلك حديث عكراش بن ذؤيب الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في مسنده، حدثنا العباس بن الوليد الترسي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية، حدثنا عبيد الله بن عكراش عن(4/345)
أبيه عكراش بن ذؤيب قال: بعثني مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى قال "من الرجل ؟" قلت: عكراش بن ذؤيب، قال "ارفع في النسب" فانتسبت له إلى مرة بن عبيد وهذه صدقة مرة بن عبيد، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "هذه إبل قومي هذه صدقات قومي" ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها، ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة فقال: "هل من طعام ؟" فأتينا بجفنة كالقصعة كثيرة الثريد والوذر، فجعل يأكل منها فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى فقال: " يا عكراش، كل من موضع واحد فإنه طعام واحد" . ثم أتينا بطبق فيه تمر أو رطب شك عبيد الله رطباً كان أوتمراً، فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق وقال: "يا عكراش، كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد" . ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثاً ثم قال: "يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار".
وهكذا رواه الترمذي مطولاً وابن ماجه جميعاً عن محمد بن بشار عن أبي الهذيل العلاء بن الفضل به، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد وعفان، وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا شيبان، قالوا حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت قال: قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه، فإذا أثنى عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه، فأتته أمرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة، فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة، فنظرت فإذا فلان بن فلان وفلان بن فلان فسمت اثني عشر رجلاً، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم، فقيل اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيذخ، قال فغمسوا فيه فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، فأتوا بصفحة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من بسره ما شاءوا فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم فأتى البشير من تلك السرية، فقال ما كان من رؤيا كذا وكذا فأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلاً، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة، فقال قصي رؤياك، فقصتها وجعلت تقول فجيء بفلان وفلان كما قال. هذا لفظ أبي يعلى، قال الحافظ الضياء: وهذا على شرط مسلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا علي بن المديني، حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة عادت مكانها أخرى" وقوله تعالى :{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} قال الإمام أحمد: حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة" فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة، فقال "آكلها أنعم منها - قالها ثلاثاً - وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها" انفرد به أحمد من هذا الوجه. وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل بن علي الخطمي عن أحمد بن علي الحيوطي عن عبد الجبار بن عاصم عن عبد الله بن زياد، عن زرعة عن نافع عن ابن عمر قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى ؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال "طوبى شجرة في الجنة ما يعلم طولها إلا الله كأمثال البخت" فقال أبو بكر: يا رسول(4/346)
الله إن هناك لطيراً ناعماً ؟ قال "أنعم منه من يأكله وأنت منهم إن شاء الله تعالى" وقال قتادة في قوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} وذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله إني أرى طيرها ناعمة كأهلها ناعمون، قال "من يأكلها والله يا أبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال البخت وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر".
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني مجاهد بن موسى، حدثنا معن بن عيسى، حدثني ابن أخي ابن شهاب عن أبيه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال: "نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر" فقال عمر: إنها لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آكلها أنعم منها" وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن القعنبي عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب عن أبيه عن أنس، وقال حسن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو معاوية عن عبيد الله بن الوليد الرصافي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن في الجنة لطيراً فيه سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض، فيخرج من كل ريشة يعني لوناً أبيض من اللبن وألين من الزبد وأعذب من الشهد، ليس منها لون يشبه صاحبه ثم يطير" هذا حديث غريب جداً والرصافي وشيخه ضعيفان، ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني الليث، حدثنا خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي حازم عن عطاء عن كعب قال: إن طائر الجنة أمثال البخت يأكل من ثمرات الجنة ويشرب من أنهار الجنة، فيصطففن له فإذا اشتهى منها شيئاً أتى حتى يقع بين يديه، فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء، صحيح إلى كعب وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً".
وقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} قرأ بعضهم بالرفع وتقديره ولهم فيها حور عين! وقراءة الجر تحتمل معنيين: أحدهما أن يكون الإعراب على الإتباع بما قبله كقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ} كما قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وكما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} والاحتمال الثاني أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين، ولكن يكون ذلك في القصور لا بين بعضهم بعضاً، بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين، والله أعلم. وقوله تعالى: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه كما تقدم في سورة الصافات {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} وقد تقدم في سورة الرحمن وصفهن أيضاً، ولهذا قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
ثم قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} أي لا يسمعون في الجنة كلاماً لاغياً أي عبثاً خالياً من المعنى أو مشتملاً على معنى حقير أو ضعيف كما قال {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} أي كلمة لا غية {وَلا تَأْثِيماً} أي ولا كلاماً فيه قبح {إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض كما قال تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} وكلامهم أيضاً سالم من اللغو والإثم.
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مّنضُودٍ وَظِلّ مّمْدُودٍ وَمَآءٍ مّسْكُوبٍ(4/347)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مّرْفُوعَةٍ إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاَِصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ وَثُلّةٌ مّنَ الاَخِرِينَ}
لما ذكر تعالى مآل السابقين وهم المقربون، عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار، كما قال ميمون بن مهران أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين فقال {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي أي شيء أصحاب اليمين وما حالهم وكيف مآلهم. ثم فسر ذلك فقال تعالى: {فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ} قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن الأحوص وقسامة بن زهير والسفر بن قيس، والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وأبو حزرة وغيرهم: هو الذي لا شوك فيه، وعن ابن عباس: هو الموقر بالثمر، وهو رواية عن عكرمة ومجاهد، وكذا قال قتادة أيضاً: كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك به، والظاهر أن المراد هذا وهذا، فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر، وفي الآخرة على العكس من هذا لا شوك فيه وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله، كما قال الحافظ أبو بكر أحمد بن سلمان النجّاد، حدثنا محمد بن محمد هو البغوي، حدثني حمزة بن العباس، حدثنا عبد الله بن عثمان حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال رسول الله: "وما هي ؟" قال السدر فإن له شوكاً مؤذياً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس الله تعالى يقول {فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ} خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمراً تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام، ما فيها من لون يشبه الآخر". (طريق آخر) قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا محمد بن المبارك، حدثني يحيى بن حمزة، حدثني ثور بن يزيد، حدثني حبيب بن عبيد عن عتبة بن عبد السلمي قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجراً أكثر شوكاً منها، يعني الطلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصوة التيس الملبود، فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون الآخر" وقوله {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} الطلح شجر عظام يكون بأرض الحجاز من شجر العضاه واحدته طلحة، وهو شجر كثير الشوك، وأنشد ابن جرير لبعض الحداة:
بشرها دليلها وقالا
...
غداً ترين الطلح والجبالا
وقال مجاهد {مَنْضُودٍ} أي متراكم الثمر يذكر بذلك قريشاً لأنهم كانوا يعجبون من وجّ وظلاله من طلح وسدر وقال السدي: منضود مصفود. قال ابن عباس: يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل، قال الجوهري والطلح لغة في الطلع قلت: وقد روى ابن أبي حاتم من حديث الحسن بن سعد عن شيخ من همدان قال: سمعت علياً يقول هذا الحرف في طلح منضود، قال: طلع منضود، فعلى هذا يكون من صفة السدر، فكأنه وصفه بأنه مخضود، وهو الذي لا شوك له، وأن طلعه منضود وهو كثرة ثمره، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو معاوية عن إدريس عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} قال الموز، قال وروي عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقسامة بن زهير وقتادة وأبي حزرة مثل ذلك وبه، قال مجاهد وابن زيد: وزاد فقال: أهل اليمن يسمون الموز الطلح، ولم يحك ابن جرير غير هذا القول. وقوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب(4/348)
في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} ورواه مسلم من حديث الأعرج به. وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج، حدثنا فليح عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وكذا رواه مسلم من حديث الأعرج به. وكذا رواه البخاري عن محمد بن سنان عن فليح به، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، وكذا رواه حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة والليث بن سعد عن سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة: وعوف عن ابن سيرين، عن أبي هريرة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: حدثنا شعبة، سمعت أبا الضحاك يحدث أبا هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين - أو مائة - سنة هي شجرة الخلد". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد ابن سنان، حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو بن أبي سلمة عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها، واقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} إسناد جيد ولم يخرجوه، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبدة وعبد الرحيم والبخاري، كلهم عن محمد بن عمرو به، وقد رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سليمان به.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن زياد مولى بني مخزوم عن أبي هريرة قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} فبلغ ذلك كعباً فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد، لو أن رجلاً ركب حقة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرماً، إن الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن منهال الضرير: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} قال: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" وكذا رواه البخاري عن روح بن عبد المؤمن عن يزيد بن زريع، وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن عمران بن داود القطان عن قتادة به، وكذا رواه معمر وأبو هلال عن قتادة به، وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها" فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد، لتعدد طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله. وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو حصين قال: كنا على باب في موضع ومعنا أبو صالح وشقيق يعني الضبي، فحدث أبو صالح قال: حدثني أبو هريرة قال: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً، قال أبو صالح: أتكذب أبا هريرة ؟ قال: ما أكذب أبا هريرة ولكني أكذبك أنت، فشق ذلك على القراء يومئذ. قلت: فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا زياد بن الحسن بن الفرات القزاز عن أبيه عن جده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب" ثم قال: حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أبي الربيع، حدثنا أبو عامر العقدي عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها، مائة عام، قال: فيخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف(4/349)
وغيرهم فيتحدثون في ظلها، قال: فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحاً من الجنة، فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا. هذا أثر غريب إسناده جيد قوي حسن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن يمان حدثنا سفيان، حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون في قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} قال سبعون ألف سنة، وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان مثله، ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} قال: خمسمائة ألف سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا حصين بن نافع عن الحسن في قول الله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} قال: في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، وقال عوف عن الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" رواه ابن جرير وقال شبيب عن عكرمة عن ابن عباس: في الجنة شجر لا يحمل يستظل به، رواه ابن أبي حاتم، وقال الضحاك والسدي وأبو حزرة في قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} لا ينقطع، ليس فيها شمس ولا حر مثل قبل طلوع الفجر، وقال ابن مسعود: الجنة سجسج كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقد تقدمت الآيات كقوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} وقوله: {وَنُدْخِلُهُمْ} وقوله: {في ظِلالٍ وَعُيُونٍ} إلى غير ذلك من الآيات وقوله تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} قال الثوري: يجري في غير أخدود، وقد تقدم الكلام عند تفسير قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية. بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} أي يشبه الشكل الشكل ولكن الطعم غير الطعم، وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى: "فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر". وفيهما أيضاً من حديث مالك عن زيد عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فذكر الصلاة، وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت، قال: "إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا" ، وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبيد الله، حدثنا ابن عقيل عن جابر قال: بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه، ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر، فلما قضى الصلاة قال أبي بن كعب: يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئاً ما كنت تصنعه، قال: "إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت منها قطفاً من عنب لاَتيكم به فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص منه" وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر، حدثنا هشام بن يوسف، أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الحوض وذكر الجنة ثم قال الأعرابي: فيها فاكهة ؟ قال: "نعم وفيها شجرة تدعى طوبى". قال: فذكر شيئاً لا أدري ما هو، قال: أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال: "ليست تشبه شيئاً من شجر أرضك ؟" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتيت الشام" ؟ قال: لا. قال: "تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحدة وينفرش أعلاها". قال: ما عظم العنقود ؟ قال: "مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يفتر". قال: ما عظم أصلها ؟ قال: "لو ارتحلت جذعة من إبل(4/350)
أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرماً" قال: فيها عنب ؟ قال: "نعم" قال: فما عظم الحبة ؟ قال: "هل ذبح أبوك تيساً من غنمه قط عظيماً ؟" قال: نعم، قال: "فسلخ إهابه فأعطاه أمك فقال اتخذي لنا منه دلواً ؟" قال: نعم. قال الأعرابي: فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي ؟ قال: "نعم وعامة عشيرتك".
وقوله تعالى: {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي لا تنقطع شتاء ولا صيفاً بل أكلها دائم مستمر أبداً، مهما طلبوا وجدوا لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء، وقال قتادة: لا يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد، وقد تقدم في الحديث إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أخرى وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة قال النسائي وأبو عيسى الترمذي: حدثنا أبو كريب، حدثنا رشدين بن سعد عن عمر بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: "ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام" ثم قال الترمذي: هذا الحديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد، قال: وقال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث ارتفاع الفرش في الدرجات وبعدما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، هكذا قال إنه لا يعرف هذا إلا من رواية رشدين بن سعد، وهو المصري وهو ضعيف، هكذا رواه أبو جعفر بن جرير عن أبي كريب عن رشدين به.
ثم رواه هو وابن أبي حاتم كلاهما عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث فذكره، وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضاً عن نعيم بن حماد عن ابن وهب، وأخرجه الضياء في صفة الجنة من حديث حرملة عن ابن وهب به مثله، ورواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة، حدثنا دراج فذكره. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو معاوية جويبر عن أبي سهل يعني كثير بن زياد عن الحسن {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة. وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} جرى الضمير على غير مذكور. ولكن لما دل السياق وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها اكتفى بذلك عن ذكرهن وعاد الضمير عليهن كما في قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني الشمس على المشهور من قول المفسرين، وقال الأخفش في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} أضمرهن ولم يذكرن قبل ذلك، وقال أبو عبيدة: ذكرن في قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} فقوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} أي أعدناهن في النشأة الأخرى بعدما كن عجائز رمصاً، صرنَ أبكاراً عرباً أي بعد الثيوبة عدن أبكاراً عرباً متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة. وقال بعضهم عرباً أي غنجات، قال موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أنشأناهن قال نساء عجائز كن في الدنيا عمشاً رمصاً" رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال الترمذي: غريب، وموسى ويزيد ضعيفان، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس، حدثنا شيبان بن جابر عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} " يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا" . وقال عبد بن حميد: حدثنا مصعب بن مقدام، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال: "يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز" قال: فولت تبكي. قال: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ(4/351)
أَبْكَاراً}". وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا بكر بن سهل الدمياطي، حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي، أخبرنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: {حُورٌ عِينٌ} قال: "حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر" قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} قال: "صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي" قلت: أخبرني عن قوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قال "خيرات الأخلاق حسان الوجوه" قلت: أخبرني عن قوله {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} قال: "رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقىء" قلت: يا رسول الله أخبرني عن قوله {عُرُباً أَتْرَاباً} قال "هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصاً شمصاً، خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عرباً متعشقات محببات أتراباً على ميلاد واحد" قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال: "بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة" قلت: يا رسول الله وبم ذاك ؟ قال: "بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عز وجل. ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير. بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب، يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبداً ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً، طوبى لمن كنا له وكان لنا" قلت: يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها، من يكون زوجها ؟ قال: "يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً، فتقول يا رب إن هذا كان أحسن خلقاً معي فزوجنيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة".
وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة، فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم بدخولها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله، وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما في الدنيا، يدخل الأولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجاً من سندس وإستبرق، وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة، يعني وكبدها له مرآة، فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية، فبينما هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل، إلا أن لك أزواجاً غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة، كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شيء أحسن منك، وما في الجنة شيء أحب إلي منك" وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له: أنطأ في الجنة ؟ قال "نعم، والذي نفسي بيده دحماً دحماً، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكراً". وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي، حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكاراً" وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا عمران عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء"، قلت: يا رسول الله ويطيق ذلك ؟ قال: " يعطى قوة مائة" ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال: صحيح غريب. وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين عن أبي(4/352)
هريرة قال: قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة ؟ قال: "إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء" قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم.
وقوله: {عُرُباً} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني متجببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة هي كذلك، وقال الضحاك عن ابن عباس: العرب العواشق لأزواجهن وأزواجهن لهن عاشقون، وكذا قال عبد الله بن سرجس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية ويحيى بن أبي كثير وعطية والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم، وقال ثور بن يزيد عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن قوله: {عُرُباً} قال: هي الملقة لزوجها. وقال شعبة عن سماك عن عكرمة: هي الغنجة. وقال الأجلح بن عبد الله عن عكرمة: هي الشكلة، وقال صالح بن حيّان عن عبد الله بن بريدة في قوله: {عُرُباً} قال: الشكلة بلغة أهل مكة والغنجة بلغة أهل المدينة، وقال تميم بن حذلم: هي حسن التبعل. وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن: العرب حسنات الكلام وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سهل بن عثمان العسكري، حدثنا أبو علي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرباً - قال - كلامهن عربي". وقوله: {أَتْرَاباً} قال الضحاك عن ابن عباس: يعني في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة، وقال مجاهد: الأتراب المستويات، وفي رواية عنه الأمثال، وقال عطية الأقران. وقال السدي {أَتْرَاباً} أي في الأخلاق المتواخيات بينهن، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد، يعني لا كما كن ضرائر متعاديات. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة عن عبد الله بن الكهف عن الحسن ومحمد {عُرُباً أَتْرَاباً} قالا: المستويات الأسنان يأتلفن جميعاً ويلعبن جميعاً، وقد روى أبو عيسى الترمذي عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن أصواتاً لم تسمع الخلائق بمثلها - قال - يقلن نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له" ثم قال: هذا حديث غريب. وقال الحافظ أبو يعلى: أخبرنا أبو خيثمة، حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذئب عن فلان عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحور العين ليغنين في الجنة يقلن نحن خيرات حسان خبئنا لأزواج كرام" قلت: إسماعيل بن عمر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الأثبات. وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدحيم عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع عن ابن لأنس عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحور العين يغنين في الجنة نحن الحور الحسان خلقنا لأزواج كرام" وقوله تعالى: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي خلقن لأصحاب اليمين أو ادخرن لأصحاب اليمين أو زوجن لأصحاب اليمين، والأظهر أنه متعلق بقوله {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} فتقديره أنشأناهن لأصحاب اليمين، وهذا توجيه ابن جرير.
وروي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى قال: صليت ليلة ثم جلست أدعو وكان البرد شديداً فجعلت أدعو بيد واحدة، فأخذتني عيني فنمت فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول: يا أبا سليمان أتدعو بيد واحدة وأنا أغذى لك في النعيم منذ خمسمائة سنة. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} متعلقاً بما قبله وهو قوله: {أَتْرَاباً لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي في أسنانهم، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا(4/353)
يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء" وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة. وروى الطبراني واللفظ له من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع". وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن عمران القطان عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين بني ثلاث وثلاثين سنة" ثم قال: حسن غريب. وقال ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار" ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا القاسم بن هاشم، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا رواد بن الجراح العسقلاني، حدثنا الأوزاعي عن هارون بن ذئاب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعاً بذراع الملك! على حسن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة، وعلى لسان محمد جرد مرد مكحلون" وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا: حدثنا عمر عن الأوزاعي عن هارون بن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جرداً مرداً مكحلين. ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم". وقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن عبد الله بن مسعود، قال وكان بعضهم يأخذ عن بعض قال: أكرينا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غدونا عليه فقال: "عرضت علي الأنبياء وأتباعها بأممها فيمر علي النبي والنبي في العصابة! والنبي في الثلاثة والنبي وليس معه أحد - وتلا قتادة هذه الآية {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} قال: حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل قال: قلت ربي من هذا ؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل! قال: قلت رب فأين أمتي ؟ قال: انظر عن يمينك في الضراب قال فإذا وجوه الرجال قال: قال أرضيت ؟ قال: قلت: قد رضيت رب. قال: انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال قال: أرضيت ؟ قلت: قد رضيت رب. قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب". قال وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد قال سعيد وكان بدرياً قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: فقال "اللهم اجعله منهم" قال أنشأ رجل آخر قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "سبقك بها عكاشة" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن استطعتم فداكم أبي وأمي أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا، وإلا فكونوا من أصحاب الضراب، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق، فإني قد رأيت أناساً كثيراً قد تأشّبوا حوله - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" فكبرنا ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" قال: فكبرنا قال: "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" قال فكبرنا، قال ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قال: فقلنا بيننا: من هؤلاء السبعون(4/354)
ألفاً ؟ فقلنا: هم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا. قال: فبلغه ذلك فقال: "بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه، وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها، وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، حدثنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما جميعاً من أمتي".
{وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ لاّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ قُلْ إِنّ الأوّلِينَ والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إِلَىَ مِيقَاتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ ثُمّ إِنّكُمْ أَيّهَا الضّآلّونَ الْمُكَذّبُونَ لآكلون مِن شَجَرٍ مّن زَقّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ}
لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال: {وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشّمَالِ} أي أيّ شيء هم فيه أصحاب الشمال ؟ ثم فسر ذلك فقال: {فِي سَمُومٍ} وهو الهواء الحار {وَحَمِيمٍ} وهو الماء الحار {وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} قال ابن عباس: ظل الدخان، وكذا قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وقتادة والسدي وغيرهم، وهذه كقوله تعالى :{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ولهذا قال ههنا: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} وهو الدخان الأسود {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} أي ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر كما قال الحسن وقتادة {وَلا كَرِيمٍ} أي ولا كريم المنظر، قال الضحاك: كل شراب ليس بعذب فليس بكريم.
وقال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة في النفي فيقولون: هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم. وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة. وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه، ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون ما جاءتهم به الرسل {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} أي يقيمون ولا ينوون توبة {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وهو الكفر بالله وجعل الأوثان والأنداد أرباباً من دون الله. قال ابن عباس الحنث العظيم: الشرك. وكذا قال مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الشعبي: هو اليمين الغموس {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} يعني أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحداً، كما قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ولهذا قال ههنا: {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي هو موقت بوقت محدود، لا يتقدم(4/355)
ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص. {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم حتى يملأوا منها بطونهم، {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} وهي الإبل العطاش، واحدها أهيم والأنثى هيماء، ويقال: هائم وهائمة، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة: الهيم، الإبل العطاش الظماء، وعن عكرمة أنه قال: الهيم الإبل المراض تمص الماء مصاً ولا تروى. وقال السدي: الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبداً حتى تموت، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبداً. وعن خالد بن معدان أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة من غير أن يتنفس ثلاثاً، ثم قال تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، كما قال تعالى في حق المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} أي ضيافة وكرامة.
{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَىَ أَن نّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النّشْأَةَ الأولى فَلَوْلاَ تَذَكّرُونَ}
يقول تعالى مقرراً للمعاد، وراداً على المكذبين به من أهل الزيغ، والإلحاد من الذين قالوا {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد. فقال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى ؟ ولهذا قال: {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي فهلا تصدقون بالبعث! ثم قال مستدلاً عليهم بقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ؟ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} أي أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها أم الله الخالق لذلك ؟ ثم قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي صرفناه بينكم، وقال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي وما نحن بعاجزين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي نغير خلقكم يوم القيامة. {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} أي من الصفات والأحوال. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة، قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقال تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}
{أَفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكّهُونَ إِنّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ(4/356)
الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ}
يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ} وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أي تنبتونه في الأرض {أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} أي بل نحن الذين نقره قراره وننبته في الأرض. قال ابن جرير: وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي، حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولن زرعت ولكن قل حرثت" قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} ورواه البزار عن محمد بن عبد الرحيم عن مسلم الجرمي به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد عن عطاء عن أبي عبد الرحمن: لا تقولوا زرعنا ولكن قولوا حرثنا وروي عن حجر المدري أنه كان إذا قرأ {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} وأمثالها يقول: بل أنت يا رب. وقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم بل ولو نشاء لجعلناه حطاماً أي لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} ثم فسر ذلك بقوله: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي لو جعلناه حطاماً لظللتم تفكهون في المقالة تنوعون كلامكم فتقولون تارة إنا لمغرمون أي لملقون، وقال مجاهد وعكرمة: إنا لموقع بنا. وقال قتادة: معذبون وتارة يقولون بل نحن محرومون. وقال مجاهد أيضاً: إنا لمغرمون ملقون للشر أي بل نحن محارفون، قاله قتادة، أي لا يثبت لنا مال ولا ينتج لنا ربح، وقال مجاهد: بل نحن محرومون أي محدودون يعني لا حظ لنا، وقال ابن عباس ومجاهد {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تعجبون. وقال مجاهد أيضاً: فظلتم تفكهون تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم، وهذا يرجع إلى الأول، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم، وهذا اختيار ابن جرير. وقال عكرمة: فظلتم تفكهون تلاومون، وقال الحسن وقتادة والسدي: فظلتم تفكهون تندمون، ومعناه إما على ما أنفقتم أو على ما أسلفتم من الذنوب، قال الكسائي: تفكه من الأضداد، تقول العرب تفكهت بمعنى تنعمت، وتفكهت بمعنى حزنت. ثم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} يعني السحاب، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد {أم نحن المنزلون} يقول بل نحن المنزلون {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي زعافاً مراً لا يصلح لشرب ولا زرع {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} أي فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذباً زلالاً {لَكُمُ منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة، حدثنا فضيل بن مرزوق عن جابر عن أبي جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب الماء قال: "الحمد لله الذي سقانا عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا".
ثم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} أي بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها. وللعرب شجرتان (إحداهما) المرخ، (والأخرى) العفار، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار. وقوله تعالى: {نحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} قال مجاهد وقتادة: أي تذكر النار الكبرى، قال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا قوم ناركم هذه(4/357)
التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية. قال: "إنها قد ضربت بالماء ضربتين - أو مرتين - حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها" وهذا الذي أرسله قتادة قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد" وقال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، فقال: "إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً" رواه البخاري من حديث مالك ومسلم من حديث أبي الزناد ورواه مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به وفي لفظ "والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها" وقد قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الخلال، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا معن بن عيسى الفزار عن مالك عن عمه أبي سهل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سواداً من ناركم هذه بسبعين ضعفاً" قال الضياء المقدسي وقد رواه أبو مصعب عن مالك ولم يرفعه وهو عندي على شرط الصحيح. وقوله تعالى: {ومتاعاً للمقوين} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والنضر بن عربي: يعني بالمقوين المسافرين، واختاره ابن جرير وقال: ومنه قولهم أقوت الدار إذا رحل أهلها، وقال غيره: القي والقواء القفر الخالي البعيد من العمران. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقوي ههنا الجائع، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: ومتاعاً للمقوين، للحاضر والمسافر لكل طعام لا يصلحه إلا النار، وكذا روى سفيان عن جابر الجعفي عن مجاهد، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قوله: للمقوين يعني المستمتعين من الناس أجمعين، وكذا ذكر عن عكرمة، وهذا التفسير أعم من غيره، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع، ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى بها واشتوى، واستأنس بها وانتفع بها سائر الانتفاعات، لهذا أفرد المسافرين وإن كان ذلك عاماً في حق الناس كلهم! وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعي الشامي عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون شركاء في ثلاثة: النار والكلأ والماء" وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار" وله من حديث ابن عباس مرفوعاً مثل هذا زيادة وثمنه حرام، ولكن في إسناده عبد الله بن خراش بن حوشب وهو ضعيف، والله أعلم. وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة: الماء الزلال العذب البارد ولو شاء لجعله ملحاً أجاجاً كالبحار المغرقة، وخلق النار المحرقة وجعل ذلك مصلحة للعباد، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم وزجراً لهم في المعاد.
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ وَإِنّهُ لَقَسَمٌ لّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مّكْنُونٍ لاّ يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ تَنزِيلٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنّكُمْ تُكَذّبُونَ}(4/358)
قال جويبر عن الضحاك: إن الله تعالى لا يقسم بشيء من خلقه ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه، وهذا القول ضعيف، والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمته، ثم قال بعض المفسرين: لا ههنا زائدة وتقديره أقسم بمواقع النجوم، ورواه ابن جرير عن سعيد بن جبير ويكون جوابه {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وقال آخرون: ليست لا زائدة لا معنى لها بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسماً به على منفي كقول عائشة رضي الله عنها. لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، وهكذا ههنا تقدير الكلام: لا أقسم بمواقع النجوم، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أوكهانة بل هو قرآن كريم. وقال ابن جرير وقال بعض أهل العربية: معنى قوله: {فَلا أُقْسِمُ} فليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل أقسم واختلفوا في معنى قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} فقال حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً في السنين بعد. ثم قرأ ابن عباس هذه الآية، وقال الضحاك عن ابن عباس: نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة فهو قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} نجوم القرآن، وكذا قال عكرمة ومجاهد والسدي وأبو حزرة، وقال مجاهد أيضاً: مواقع النجوم في السماء ويقال مطالعها ومشارقها. وكذا قال الحسن وقتادة وهو اختيار ابن جرير، وعن قتادة: مواقعها منازلها، وعن الحسن أيضاً: أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة. وقال الضحاك {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} يعني بذلك الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا. وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أي معظم، في كتاب معظم محفوظ موقر. وقال ابن جرير حدثني إسماعيل بن موسى: أخبرنا شريك عن حكيم هو ابن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال: الكتاب الذي في السماء. وقال العوفي عن ابن عباس {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} يعني الملائكة، وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وأبو نهيك والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، حدثنا معمر عن قتادة {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوس النجس، والمنافق الرجس، وقال: وهي في قراءة ابن مسعود: ما يمسه إلا المطهرون، وقال أبو العالية {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ليس أنتم، أنتم أصحاب الذنوب، وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وهذا القول قول جيد، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله، وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. وقال آخرون {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أي من الجنابة والحدث قالوا: ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن ههنا المصحف، كما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر. وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يمس القرآن إلا طاهر" وهذه وجادة(4/359)
جيدة قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا ينبغي الأخذ به، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وفي إسناد كل منهما نظر، والله أعلم.
وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس هو كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق نافع. وقوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} قال العوفي عن ابن عباس: أي مكذبون غير مصدقين، وكذا قال الضحاك وأبو حزرة والسدي، وقال مجاهد {مُدْهِنُونَ} أي تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال بعضهم: معنى وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون أي تكذبون بدل الشكر، وقد روي عن علي وابن عباس أنهما قرآها {وتجعلون شكركم أنكم تكذبون} كما سيأتي وقال ابن جرير: وقد ذكر عن الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان بمعنى ما شكر فلان. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {وتجعلون رزقكم} يقول: شكركم أنكم تكذبون، وتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا بنجم كذا وكذا" وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مخول بن إبراهيم النهدي، وابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبيد الله بن موسى، وعن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى بن أبي بكير، ثلاثتهم عن إسرائيل به مرفوعاً، وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن حسين بن محمد وهو المروزي به، وقال: حسن غريب، وقد رواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى ولم يرفعه. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافراً يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا. وقرأ ابن عباس {وتجعلون شكركم أنكم تكذبون} وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. وقال مالك في الموطأ عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت في الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب" أخرجاه في الصحيحين وأبو داود والنسائي، كلهم من حديث مالك به.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي وعمرو بن سواد، حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا" انفرد به مسلم من هذا الوجه. وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا سفيان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين، يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا" ، قال محمد: هو ابن إبراهيم، فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي، فلما استسقى التفت إلى العباس فقال: يا عباس يا عم رسول الله كم أبقى من نوء الثريا ؟ فقال: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعاً، قال: فما مضت سابعة حتى مطروا، وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر، لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر، فإن هذا هو المنهي(4/360)
عن اعتقاده، وقد تقدم شيء من هذه الأحاديث عند قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا}.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا سفيان عن إسماعيل بن أمية فيما أحسبه أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ومطروا يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال: "كذبت بل هو رزق الله" ثم قال ابن جرير: حدثني أبو صالح الصراري، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي، حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم، عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين - ثم قال - {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} يقول قائل مطرنا بنجم كذا وكذا". وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعاً: "لو قحط الناس سبع سنين ثم أمطروا لقالوا مطرنا بنوء المجدع". وقال مجاهد {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال: قولهم في الأنواء مطرنا بنوء كذا، وبنوء كذا، يقول: قولوا هو من عند الله وهو رزقه، وهكذا قال الضحاك وغير واحد، وقال قتادة: أما الحسن فكان يقول بئس ما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب، فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ولهذا قال قبله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}.
{فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
يقول تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ} أي الروح {الْحُلْقُومَ} أي الحلق وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وقيل وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} ولهذا قال ههنا: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي بملائكتنا {وَلَكِن لاّ تُبْصِرُونَ} أي ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} وقوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ومقرها من الجسد إن كنتم غير مدينين. قال ابن عباس: يعني محاسبين، وروي عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والسدي وأبي حزرة مثله.
وقال سعيد ين جبير والحسن البصري {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه النفس، وعن مجاهد {غَيْرَ مَدِينِينَ} غير موقنين. وقال ميمون بن مهران: غير معذبين مقهورين.
{فَأَمّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنّاتُ نَعِيمٍ وَأَمّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضّآلّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنّ هَذَا لَهُوَ حَقّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ}
هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم، إما أن يكون من المقربين أو يكون ممن دونهم(4/361)
من أصحاب اليمين، وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله، ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ} أي المحتضر {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنّاتُ نَعِيمٍ} أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما تقدم في حديث البراء أن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَرَوْحٌ} يقول راحة وريحان يقول مستراحة، وكذا قال مجاهد: إن الروح الاستراحة، وقال أبو حزرة: الراحة من الدنيا، وقال سعيد بن جبير والسدي: الروح الفرح، وعن مجاهد {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} جنة ورخاء وقال قتادة: فروح فرحمة، وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وريحان ورزق، وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة، فإن من مات مقرباً حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة، والفرح والسرور والرزق الحسن، {وَجَنّاتُ نَعِيمٍ} وقال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه فيه. وقال محمد بن كعب: لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار، وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ولو كتبت ههنا لكان حسناً، من جملتها حديث تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى لملك الموت انطلق إلى فلان فائتني به فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب، ائتني فلأريحه - قال - فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة، ومعهم ضبائر الريحان - أصل الريحانة واحد - وفي رأسها عشرون لوناً لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك" وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية.
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا هارون عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} برفع الراء، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث هارون، وهو ابن موسى الأعور به، وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه، وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده وخالفه الباقون فقرءوا {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} بفتح الراء. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل أنه سمع درة بنت معاذ تحدث عن أم هانىء، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون النسم طيراً يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها" . هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن، ومعنى يعلق يأكل، ويشهد له بالصحة أيضاً ما رواه الإمام أحمد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن الإمام مالك بن أنس عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه". وهذا إسناد عظيم ومتن قويم.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش" الحديث. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا عطاء بن السائب قال: كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى رأيت شيخاً أبيض الرأس واللحية على حمار، وهو يتبع جنازة فسمعته يقول: حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قال: فأكب القوم يبكون، فقال: "ما(4/362)
يبكيكم ؟" فقالوا: إنا نكره الموت، قال: "ليس ذاك ولكنه إذا احتضر {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنّاتُ نَعِيمٍ} فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز وجل، والله عز وجل للقائه أحب {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} فإذا بشر بذلك كره لقاء الله والله تعالى للقائه أكره" ، هكذا رواه الإمام أحمد، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها شاهد لمعناه. وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي وأما إذا كان المحتضر من أصحاب اليمين {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين، وقال قتادة وابن زيد: سلم من عذاب الله وسلمت عليه ملائكة الله، كما قال عكرمة: تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين، وهذا معنى حسن، ويكون ذلك كقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} وقال البخاري {فَسَلامٌ لَكَ} أي مسلم لك أنك من أصحاب اليمين، وألغيت أن وبقي معناها كما تقول أنت مصدق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل، وقد يكون كالدعاء له كقولك سقياً لك من الرجال إن رفعت السلام، فهو من الدعاء، وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ومال إليه والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى {فَنُزُلٌ} أي فضيافة {مِنْ حَمِيمٍ} وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته. ثم قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد لأحد عنه {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن أيوب الغافقي، حدثني إياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم" وكذا رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب به، وقال روح بن عبادة: حدثنا حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة" هكذا رواه الترمذي من حديث روح، ورواه هو والنسائي أيضاً من حديث حماد بن سلمة، من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم به، وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير، وقال البخاري في آخر كتابه: حدثنا أحمد بن أشكاب حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل بإسناده مثله.
آخر تفسير سورة الواقعة و لله الحمد والمنة.(4/363)
سورة الحديد
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بقية بن الوليد، حدثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن ابن أبي بلال عن عرباض بن سارية أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: "إن فيهن آية أفضل من ألف آية" ، وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن بقية به. وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه النسائي عن ابن أبي السرح عن ابن وهب عن معاوية بن صالح عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلا، ولم يذكر عبد الله بن أبي بلال ولا العرباض بن سارية، والآية المشار إليها في الحديث هي والله أعلم قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل..
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{سَبّحَ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الأوّلُ والآخر وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض أي من الحيوانات والنباتات، كما قال في الآية الأخرى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي الذي قد خضع له كل شيء {الْحَكِيمُ} في خلقه وأمره وشرعه {لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت ويعطي من يشاء ما يشاء {وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى: {هُوَ الأوّلُ والآخر وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وهذه الآية هي المشار إليها في حديث عرباض بن سارية أنها أفضل من ألف آية، وقال أبو داود: حدثنا عباس بن عبد العظيم، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة - يعني ابن عمار - حدثنا أبو زميل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري ؟ قال: ما هو ؟ قلت: والله لا أتكلم به. قال: فقال لي: أشيء من شك ؟ قال وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} الآية، قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل {هُوَ الأوّلُ والآخر وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولاً. وقال البخاري: قال يحيى: الظاهر على كل شيء علماً والباطن على كل شيءٍ علماً. وقال شيخنا الحافظ المزي: يحيى هذا هو ابن زياد الفراء، له كتاب سماه معاني القرآن، وقد ورد في ذلك أحاديث، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله(4/364)
صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم "اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن ليس دونك شيء. اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر" ورواه مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير عن سهل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر، وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا فقال: حدثنا عقبة، حدثنا يونس، حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة، فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى ثم همس ما يدرى ما يقول، فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال: "اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله كل شيء ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى. أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت الأول الذي ليس قبلك شيء، وأنت الآخر الذي ليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر" السري بن إسماعيل هذا هو ابن عم الشعبي وهو ضعيف جداً والله أعلم.
وقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبد بن حميد وغير واحد المعنى واحد قالوا حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال حدث الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " هذا العنان هذه روايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه . ثم قال: هل تدرون ما فوقكم" ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف . ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها" ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن فوق ذلك سماء بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع سماوات - ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك" ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء مثل بعد ما بين السماءين ، ثم قال: هل تدرون ما الذي تحتكم" ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال "فإنها الأرض . ثم قال: هل تدرون ما الذي تحت ذلك. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع أرضين - بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم حبلاً إلى الأرض السفلى لهبط على الله" ثم قرأ: {هُوَ الأوّلُ والآخر وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويروى عن أيوب ويونس يعني ابن عبيد وعلي بن زيد وقالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف في كتابه، انتهى كلامه. وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن سريج عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره وعنده وبعد ما بين الأرضين مسيرة سبعمائة عام وقال: "لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى السابعة(4/365)
لهبط على الله" ثم قرأ {هُوَ الأوّلُ والآخر وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ورواه ابن أبي حاتم والبزار من حديث أبي جعفر الرازي عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة فذكر الحديث ولم يذكر ابن أبي حاتم آخره، وهو قوله لو دليتم بحبل وإنما قال: "حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام" ، ثم تلا {هُوَ الأوّلُ والآخر وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. وقال البزار: لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة، ورواه ابن جرير عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة {هُوَ الأوّلُ والآخر وَالظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ مر عليهم سحاب فقال: "هل تدرون ما هذا" ؟ وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء، إلا أنه مرسل من هذا الوجه، ولعل هذا هو المحفوظ والله أعلم. وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، رواه البزار في مسنده والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات، ولكن في إسناده نظر وفي متنه غرابة ونكارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال ابن جرير عند قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة قال: التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض فقال بعضهم لبعض: من أين جئت ؟ قال أحدهم: أرسلني ربي عز وجل من السماء السابعة وتركته ثَمّ. قال الآخر: أرسلني ربي عز وجل من الأرض السابعة وتركته ثَمّ. قال الآخر: أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ. قال الآخر: أرسلني ربي من المغرب وتركته ثَمّ. وهذا حديث غريب جداً، وقد يكون الحديث الأول موقوفاً على قتادة كما روي ههنا من قوله، والله أعلم.
{هُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لّهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ يُولِجُ الْلّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}
يخبر تعالى عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم أخبر تعالى باستوائه على العرش بعد خلقهن، وقد تقدم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ} أي يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نبات وزرع وثمار كما قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقوله تعالى: {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} أي من الأمطار. والثلوج والبرد والأقدار. والأحكام مع الملائكة الكرام. وقد تقدم في سورة البقرة أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا ومعها ملك يقررها في المكان الذي يأمر لله به حيث يشاء الله تعالى. وقوله تعالى: {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي من الملائكة والأعمال كما جاء في الصحيح "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل" . وقوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم براً أو بحراً، في ليل أو نهار في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء وتحت بصره وسمعه فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم كما قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ(4/366)
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
وقال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} فلا إله غيره ولا رب سواه، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وروى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن جنادة بن محفوظ بن علقمة: حدثني أبي عن نصر بن علقمة عن أخيه عن عبد الرحمن بن عائذ قال: قال عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال زودني حكمة أعيش بها فقال: "استح الله كما تستحي رجلاً من صالحي عشيرتك لا يفارقك" هذا حديث غريب، وروى أبو نعيم من حديث عبد الله بن علوية العامري مرفوعاً "ثلاث من فعلهن فقد طعم الإيمان إن عبد الله وحده وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا الشّرط اللئيمة ولا المريضة، ولكن من أوسط أموالكم وزكى نفسه" وقال رجل: يا رسول الله ما تزكية المرء نفسه ؟ فقال: "يعلم أن الله معه حيث كان". وقال نعيم بن حماد رحمه الله: حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي عن محمد بن مهاجر عن عروة بن رويم، عن عبد الرحمن بن غنم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت" غريب، وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
...
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
...
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور} أي هو المالك للدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} وهو المحمود على ذلك كما قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} ، فجميع ما في السموات والأرض ملك له، وأهلهما عبيد أرقاء أذلاء بين يديه كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ولهذا قال: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي إليه المرجع يوم القيامة فيحكم في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة بل إن يكن عمل أحدهم حسنة واحدة يضاعفها إلى عشرة أمثالها {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} وكما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وقوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي هو المتصرف في الخلق يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل ويقصر النهار وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وتارة يكون الفصل شتاءً ثم ربيعاً ثم قيظاً ثم خريفاً، وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه {وهو عليم بذات الصدور} أي يعلم السرائر وإن دقت وإن خفيت.
{آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمّا جَعَلَكُم مّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ هُوَ الّذِي يُنَزّلُ عَلَىَ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَإِنّ اللّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ وَمَا لَكُمْ(4/367)
أَلاّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار، وحث على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد الله تعالى إلى استعمال ما استخلفتم فيه من المال في طاعته، فإن تفعلوا وإلا حاسبكم عليه وعاقبكم لترككم الواجبات فيه، وقوله تعالى: {مِمّا جَعَلَكُم مّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك، أو يعصي الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت قتادة يحدث عن مطرف يعني ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: "ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟" ورواه مسلم من حديث شعبة به وزاد: "وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس". وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ثم قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد روينا في الحديث من طرق في أوائل شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: "أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً" ؟ قالوا: الملائكة. قال: " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم" ؟ قالوا: فالأنبياء. قال: " ومالهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم" ؟ قالوا: فنحن. قال: ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها ".
وقد ذكرنا طرفاً من هذه الرواية في أول سورة البقرة عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. وقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ويعني بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم وهو مذهب مجاهد فالله أعلم. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي حججاً واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس وإزاحة العلل وإزالة الشبه، ولما أمرهم أولاً بالإيمان والإنفاق ثم حثهم على الإيمان وبين أنه قد أزال عنهم موانعه حثهم أيضاً على الإنفاق فقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي أنفقوا ولا تخشوا فقراً وإقلالاً فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض وبيده مقاليدهما وعنده خزائنهما، وهو مالك العرش بما حوى، وهو القائل {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. وقال: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} فمن توكل على الله أنفق ولم يخش من ذي العرش إقلالاً، وعلم أن الله سيخلفه عليه.
وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل(4/368)
كفعله، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديداً فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهوراً عظيماً ودخل الناس في دين الله أفواجاً. ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة، وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح ههنا صلح الحديبية، وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا زهير، حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم" ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم، فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك، والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب، أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" فقلنا من هم يارسول الله أقريش ؟ قال: "لا ولكن أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً" فقلنا: أهم خير منا يارسول الله ؟ قال: "لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وهذا الحديث غريب بهذا السياق والذي في الصحيحين من رواية جماعة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ذكر الخوارج: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" . الحديث، ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر فقال: حدثني ابن البرقي حدثني ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" قلنا: من هم يا رسول الله ؟ قريش ؟ قال: "لا ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً" وأشار بيده إلى اليمن فقال: "هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية" فقلنا: يارسول الله هم خير منا ؟ قال: "والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه" ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال: "ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ". فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية، فإن كان ذلك محفوظاً كما تقدم فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخباراً عما بعده كما في قوله تعالى في سورة المزمل وهي مكية من أوائل ما نزل {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. فهي بشارة بما يستقبل وهكذا هذه والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يعني المنفقين قبل الفتح وبعده، كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ(4/369)
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} وهكذا الحديث الذي في الصحيح "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير" وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن فعل ذلك بعد ذلك وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق، وفي الحديث "سبق درهم مائة ألف" ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه له الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عز وجل، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها. وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الآية: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن يونس، حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمرو قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل جبريل فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال: "أنفق ماله علي قبل الفتح" قال: فإن الله يقول: اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟" فقال أبو بكر رضي الله عنه: أسخط على ربي عز وجل ؟ إني عن ربي راض. هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه والله أعلم. وقوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} قال عمر بن الخطاب: هو الإنفاق في سبيل الله، وقيل: هو النفقة على العيال، والصحيح أنه أعم من ذلك، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة، وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية، ولهذا قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} كما قال في الآية الأخرى: {أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي جزاء جميل ورزق باهر، وهو الجنة يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك يارسول الله. قال: فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح. قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح" وفي لفظ "رب نخلة مدلاة عروقها در وياقوت لأبي الدحداح في الجنة".
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىَ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن(4/370)
نّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىَ وَلَكِنّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرّتْكُمُ الأمَانِيّ حَتّىَ جَآءَ أَمْرُ اللّهِ وَغَرّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين المتصدقين أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة، بحسب أعمالهم كما قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {يَسْعَىَ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتّقد مرة ويطفأ مرة، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك حتى أن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه" وقال سفيان الثوري عن حصين، عن مجاهد، عن جنادة بن أبي أمية قال: إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم وسيماكم وحلالكم ونجواكم ومجالسكم، فإذا كان يوم القيامة، قيل: يا فلان هذا نورك، يا فلان لا نور لك، وقرأ {يَسْعَىَ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}. وقال الضحاك: ليس أحد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفىء نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفىء نور المنافقين فقالوا: ربنا أتمم لنا نورنا، وقال الحسن: {يَسْعَىَ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني على الصراط وقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي ابن وهب، أخبرنا عمي عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن مسعود أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يحدث، أنه سمع أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم" فقال له رجل: يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك ؟ فقال: "أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم".
وقوله {وَبِأَيْمَانِهِمْ} قال الضحاك أي وبأيمانهم كتبهم كما قال: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وقوله: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي قال لهم: بشراكم اليوم جنات أي لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة والزلازل العظيمة، والأمور الفظيعة، وأنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن با لله ورسوله وعمل بما أمر الله به وترك ما عنه زجر. قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبدة بن سليمان، حدثنا ابن المبارك، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر قال: خرجنا على جنازة في باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيت الدود وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من الله، فتبيض وجوه وتسود(4/371)
وجوه، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نوراً، ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} وهي خدعة الله التي يخدع بها المنافقين حيث قال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً، فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}. يقول سليم بن عامر: فما يزال المنافق مغتراً حتى يقسم النور ويميز الله بين المنافق والمؤمن، ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا ابن حيوة، حدثنا أرطاة بن المنذر، حدثنا يوسف بن الحجاج عن أبي أمامة قال: يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم فيتبعهم المنافقون فيقولون {انظرونا نقتبس من نوركم} وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلاً من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين فقالوا حينئذ {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا الحسن بن عرفة بن علوية القطان، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا إسحاق بن بشر بن حذيفة، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون انظرونا نقتبس من نوركم وقال المؤمنون ربنا أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً".
وقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} قال الحسن وقتادة: هو حائط بين الجنة والنار، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو الذي قال الله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} وهكذا روي عن مجاهد رحمه الله وغير واحد وهو الصحيح {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ - أي الجنة وما فيها - وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي النار قاله قتادة وابن زيد وغيرهما، قال ابن جرير وقد قيل إن ذلك السور سور بيت المقدس عند وادي جهنم. ثم قال: حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن سعيد بن عطية بن قيس عن أبي العوام مؤذن بيت المقدس قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: إن السور الذي ذكره الله في القرآن {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهو السور الشرقي باطنه المسجد وما يليه وظاهره وادي جهنم. ثم روي عن عبادة بن الصامت وكعب الأحبار وعلي بن الحسين زين العابدين نحو ذلك، وهذا محمول منهم على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثالاً لذلك، لا أن هذا هو الذي أريد من القرآن هذا الجدار المعين نفسه ونفس المسجد، وما وراءه من الوادي المعروف بوادي جهنم، فإن الجنة في السموات في أعلى عليين والنار في الدركات أسفل سافلين، وقول كعب الأحبار إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد فهذا من إسرائيلياته وترهاته، وإنما المراد بذلك السور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب كما كانوا في الدار الدنيا في كفر(4/372)
وجهل وشك وحيرة. {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين أما كنا معكم في الدار الدنيا نشهد معكم الجمعات ونصلي معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات ونؤدي معكم سائر الواجبات ؟ {قالوا بلى} أي فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين: بلى قد كنتم معنا {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ}.
قال بعض السلف: أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات وتربصتم أي أخرتم التوبة من وقت إلى وقت. وقال قتادة: {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالحق وأهله {وَارْتَبْتُمْ} أي بالبعث بعد الموت {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} أي قلتم سيغفر لنا وقيل غرتكم الدنيا {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} أي مازلتم في هذا حتى جاءكم الموت {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي الشيطان قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان والله مازالوا عليها حتى قذفهم الله في النار: ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين أنكم كنتم معنا أي بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تراؤون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلاً، قال مجاهد: كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم، وكانوا معهم أمواتاً ويعطون النور جميعاً يوم القيامة، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ويماز بينهم حينئذ. وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول، وهو أصدق القائلين {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ. ثم قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} كما قال ههنا {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه. وقوله تعالى: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي هي مصيركم وإليها منقلبكم، وقوله تعالى: {هِيَ مَوْلاكُمْ} أي هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم وبئس المصير.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ اعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الآيات لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ}
يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه. قال عبد الله بن المبارك: حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس أنه قال: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ} الآية، رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن حسين المروزي عن ابن المبارك به. ثم قال هو ومسلم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال، يعني الليثي، عن عون بن عبد الله عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ} الآية، إلا أربع سنين، كذا رواه مسلم في آخر الكتاب، وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية عن هارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب به. وقد رواه ابن ماجه من حديث موسى بن يعقوب الزمعي عن أبي حازم عن(4/373)
عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه مثله، فجعله من مسند ابن الزبير، لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب عن أبي حازم عن عامر عن ابن الزبير عن ابن مسعود فذكره. وقال سفيان الثوري عن المسعودي عن القاسم قال: ملّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله، فأنزل الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} قال: ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله فأنزل الله تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ} وقال قتادة {أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ} ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول ما يرفع من الناس الخشوع". وقوله تعالى: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمناً قليلاً ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي في الأعمال فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار، حدثنا شهاب بن خراش، حدثنا حجاج بن دينار عن منصور بن المعتمر عن الربيع بن عميلة الفزاري قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثاً ما سمعت أعجب إلي منه إلا شيئاً من كتاب الله أو شيئاً قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم واستلذته، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا تعالوا ندع بني إسرائيل إلى كتابنا هذا، فمن تابعنا عليه تركناه ومن كره أن يتابعنا قتلناه، ففعلوا ذلك وكان فيهم رجل فقيه، فلما رأى ما يصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ثم أدرجه، فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء إنكم أفشيتم القتل في بني إسرائيل فادعوا فلاناً فاعرضوا عليه كتابكم، فإنه إن تبعكم فسيتابعكم بقية الناس وإن أبى فاقتلوه، فدعوا فلاناً ذلك الفقيه قالوا: أتؤمن بما في كتابنا هذا، قال: وما فيه ؟ اعرضوه علي فعرضوه عليه إلى آخره، ثم قالوا: أتؤمن بما في كتابنا هذا ؟ قال: نعم آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن فتركوه فلما مات فتشوه فوجدوه معلقاً ذلك القرن، فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله فقال بعضهم لبعض: يا هؤلاء ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة، فافترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن" قال ابن مسعود: وإنكم أوشك بكم إن بقيتم أو بقي من بقي منكم أن تروا أموراً تنكرونها لا تستطيعون لها غيراً، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره. وروى أبو جعفر الطبري حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم قال: جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، فقال عبد الله. هلك من لم يعرف قلبه معروفاً ولم ينكر قلبه منكراً. إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم اخترعوا كتاباً من بين أيديهم وأرجلهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم، وقالوا نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب، فمن آمن(4/374)
به تركناه، ومن كفر به قتلناه، قال فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ثم جعل القرن بين ثندوتيه، فلما قيل له أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به ويومىء إلى القرن بين ثندوتيه، ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن. وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكيم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
{إِنّ الْمُصّدّقِينَ وَالْمُصّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
يخبر تعالى عما يثيب به المصدقين والمصدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة {وَأَقْرَضُواْ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً} أي دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله لا يريدون جزاءً ممن أعطوه ولا شكوراً، ولهذا قال: {يُضَاعَفُ لَهُمْ} أي يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف، وفوق ذلك {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي ثواب جزيل حسن ومرجع صالح ومآب كريم. وقوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ} هذا تمام لجملة وصف المؤمنين با لله ورسله بأنهم صديقون، قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ} هذه مفصولة {وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} وقال أبو الضحى {أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ} ثم استأنف الكلام فقال: {وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ} وهكذا قال مسروق والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم. وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ} قال: هم ثلاثة أصناف: يعني المصدقين والصديقين والشهداء، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} ففرق بين الصديقين والشهداء فدل على أنهما صنفان ولا شك أن الصديق أعلى مقاماً من الشهيد، كما رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله في كتابه الموطأ عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" قال: يارسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك به، وقال آخرون: بل المراد من قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فأخبر عن المؤمنين با لله ورسله بأنهم صديقون وشهداء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، ثم قال ابن جرير: حدثني صالح بن حرب أبو معمر، حدثنا إسماعيل بن يحيى، حدثنا ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن البراء بن عازب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مؤمنو أمتي شهداء" قال: ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ(4/375)
عِنْدَ رَبِّهِمْ} هذا حديث غريب. وقال أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: يجيئون يوم القيامة معاً كالأصبعين.
وقوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي في جنات النعيم كما جاء في الصحيحين "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تريدون ؟! فقالوا: نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قتلنا أول مرة، فقال: إني قد قضيت أنهم إليها لا يرجعون" . وقوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال كما قال الإمام أحمد، حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار عن أبي يزيد الخولاني قال: سمعت فضالة بن عبيد يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله فقتل فذاك الذي ينظر الناس إليه هكذا" ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنسوة عمر "والثاني مؤمن لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح جاءه سهم غرب فقتله فذاك في الدرجة الثانية، والثالث رجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الثالثة، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافاً كثيراً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة" وهكذا رواه علي بن المديني عن أبي داود الطيالسي عن ابن المبارك عن ابن لهيعة، وقال هذا إسناد مصري صالح، ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال: حسن غريب، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لما ذكر السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم.
{اعْلَمُوَاْ أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ أُعِدّتْ لِلّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
يقول تعالى موهناً أمر الحياة الدنيا ومحقراً لها: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية و نعمة زائلة فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا}.
وقوله تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها {ثُمَّ(4/376)
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفراً بعد ما كان خضراً نضراً، ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً أي يصير يبساً متحطماً، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزاً شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى، قليل الحركة يعجزه الشيء اليسير كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان. وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي هي متاع فانٍ غارّ لمن ركن إليه، فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى دار الآخرة. قال ابن جرير: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرءوا {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} " وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير ووكيع كلاهما عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك" انفرد بإخراجه البخاري في الرقاق من حديث الثوري عن الأعمش به. ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات من فعل الطاعات وترك المحرمات التي تكفر عنه الذنوب والزلات وتحصل له الثواب والدرجات فقال تعالى: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} والمراد جنس السماء والأرض كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وقال ههنا: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم، كما قدمناه في الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا: يارسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور بالدرجات العلى والنعيم المقيم قال "وما ذاك؟" قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. قال: "أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين" قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
{مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ}(4/377)
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: {مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ} أي في الآفاق وفي أنفسكم {إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ} أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة. وقال بعضهم: من قبل أن نبرأها عائد على النفوس، وقيل: عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها كما قال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثني ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالساً مع الحسن فقال رجل سله عن قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} فسألته عنها فقال: سبحان الله ومن يشك في هذا ؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة. وقال قتادة: ما أصاب من مصيبة في الأرض قال: هي السنون يعني الجدب {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} يقول: الأوجاع والأمراض، قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولا خلجان عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. وهذه الآية الكريمة العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق - قبحهم الله - وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة وابن لهيعة قالا: حدثنا أبو هانىء الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" . ورواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن زيد وثلاثتهم عن أبي هانىء به، وزاد ابن وهب "وكان عرشه على الماء" ورواه الترمذي وقال حسن صحيح. وقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل، لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون. وقوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم لأنه لو قدر شيء لكان {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي جاءكم، وتفسير آتاكم أي أعطاكم وكلاهما متلازم أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشراً وبطراً تفخرون بها على الناس، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي مختال في نفسه متكبر فخور أي على غيره. وقال عكرمة: ليس أحد إلا هو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً. ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} أي عن أمر الله وطاعته {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} كما قال موسى عليه السلام {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ}
يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} وهو النقل الصدق {وَالْمِيزَانَ} وهو العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة كما قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} وقال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ(4/378)
الْمِيزَانَ} ولهذا قال في هذه الآية: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي بالحق والعدل وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا به، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، والسرر المصفوفات {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}. وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين وبيان وإيضاح للتوحيد وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من خالف، شرع الله الهجرة وأمرهم بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي المنيب الجرشي الشامي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" ولهذا قال تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم والمنشار والإزميل والمجرفة والاَلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز، وما لا قوام للناس بدونه وغير ذلك. قال علباء بن أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم: السندان والكلبتان والميقعة يعني المطرقة، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسوله {إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِمَا النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمّ قَفّيْنَا عَلَىَ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ}
يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام لم يرسل بعده رسولاً ولا نبياً إلا من ذريته وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، لم ينزل من السماء كتاباً ولا أرسل رسولاً ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ} وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} وهم الحواريون {رَأْفَةً} أي رقة وهي الخشية {وَرَحْمَةً} بالخلق. وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعها أمة النصارى {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ما شرعناها لهم وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم. وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان (أحدهما) أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جبير وقتادة. (والآخر) - ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. وقوله تعالى:(4/379)
{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بما التزموا حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين (أحدهما) - الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله و (الثاني) - في عدم قيامهم بما التزموا مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي حدثنا السري بن عبد ربه، حدثنا بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه عن جده ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ياابن مسعود" قلت: لبيك يارسول الله. قال: "هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} " .
وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا داود بن المحبر، حدثنا الصعق بن حزن، حدثنا عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم" وذكر نحو ما تقدم وفيه " {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} هم الذين آمنوا بي وصدقوني {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وهم الذين كذبوني وخالفوني" ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر فإنه أحد الوضاعين للحديث، ولكن قد أسنده أبو يعلى عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن به مثل ذلك، فقوي الحديث من هذا الوجه. وقال ابن جرير وأبو عبد الرحمن النسائي واللفظ له: أخبرنا الحسين بن حريث، حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان بن سعيد عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلت التوراة والإنجيل فكان منهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم ما نجد شيئاً أشد من شتم يشتموناه هؤلاء إنهم يقرأون {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} هذه الآيات مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم فادعهم فليقرأوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك دعونا، فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم، ففعلوا ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}. والآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا القليل انحط منهم رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم وتصديقهم بالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} القرآن واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الذين يتشبهون بكم {ألَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ(4/380)
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} هذا السياق فيه غرابة، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين على غير هذا، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير، وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة المسافر أو قريباً منها، فلما سلم قال: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته ؟ قال: إنها المكتوبة وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئاً سهوت عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" ثم غدوا من الغد فقالوا: نركب فننظر ونعتبر، قال: نعم فركبوا جميعاً فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا خاوية على عروشها، فقالوا: أتعرف هذه الديار ؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل الديار أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفىء نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني والكف تزني والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر، حدثنا عبد الله أخبرنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل" ورواه الحافظ أبو يعلى عن عبد الله بن محمد بن أسماء عن عبد الله بن المبارك به ولفظه "لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله" . وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين - هو ابن محمد - حدثنا ابن عياش يعني إسماعيل عن الحجاج بن مروان الكلاعي وعقيل بن مدرك السلمي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاءه فقال: أوصني، فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض. تفرد به أحمد، والله تعالى أعلم.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ لّئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاّ يَقْدِرُونَ عَلَىَ شَيْءٍ مّن فَضْلِ اللّهِ وَأَنّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" أخرجاه في الصحيحين ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما وهو اختيار ابن جرير وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى عليه هذه الآية في حق هذه الأمة: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي ضعفين {مِن رّحْمَتِهِ} وزادهم {وَيَجْعَل لّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يعني هدى يتبصر به من العمى والجهالة ويغفر لكم، ففضلهم بالنور والمغفرة رواه ابن جرير عنه. وهذه الآية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ(4/381)
آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل عمر بن الخطاب حبراً من أحبار اليهود كم أفضل ما ضُعّفت لكم حسنة ؟ قال كفل ثلاثمائة وخمسين حسنة، قال فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين، ثم ذكر سعيد قول الله عز وجل: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال سعيد: والكفلان في الجمعة مثل ذلك، رواه ابن جرير. ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالاً فقال من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت النصارى، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذين عملتم، فغضب النصارى واليهود وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل عطاءً قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئاً ؟ قالوا: لا، قال: فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء" . قال أحمد وحدثناه مؤمل عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحو حديث نافع عنه انفرد بإخراجه البخاري فرواه عن سليمان بن حرب عن حماد عن نافع به، وعن قتيبة عن الليث عن نافع بمثله، وقال البخاري: حدثني محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا. فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا له بقية يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور" انفرد به البخاري ولهذا قال تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا إعطاء ما منع الله {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
قال ابن جرير {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها لكي يعلم وكذا حطّان بن عبد الله وسعيد بن جبير. قال ابن جرير: لأن العرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح فالسابق كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ بالله {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}.
آخر تفسير سورة الحديد و لله الحمد والمنة.(4/382)
سورة المجادلة
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيَ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقوله، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية، وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقاً فقال، وقال الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة فذكره وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير من غير وجه عن الأعمش به. وفي رواية لابن أبي حاتم عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية {قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}. قالت: وزوجها أوس بن الصامت، وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة هو أوس بن الصامت: وكان أوس امرءاً به لمم، فكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته، وإذا ذهب لم يقل شيئاً فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في ذلك وتشتكي إلى الله، فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} الآية. وهكذا روى هشام بن عروة عن أبيه أن رجلاً كان به لمم فذكر مثله، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، حدثنا جرير يعني ابن حازم قال: سمعت أبا يزيد يحدث قال: لقيت امرأة عمر يقال لها: خولة بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز، قال ويحك وتدري من هذه ؟ قال: لا. قال هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلا أن تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها. هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب وقد روي من غير هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا يعلى، حدثنا زكريا عن عامر قال: المرأة التي جادلت في زوجها خولة بنت الصامت وأمها معاذة التي أنزل الله فيها {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} صوابه خولة امرأة أوس بن الصامت.
{الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مّا هُنّ أُمّهَاتِهِمْ إِنْ أُمّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ(4/383)
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا فَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قال الإمام أحمد: حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب قالا: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة قالت: فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، قالت: فدخل علي يوماً فراجعته بشيء، فغضب فقال: أنت عليّ كظهر أمي. قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قالت: قلت كلا، والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إِلي، وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثياباً، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ياخويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه". قالت: فو الله ما برحت حتى نزل في قرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي: "يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآناً - ثم قرأ علي {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ - إلى قوله تعالى - وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "مريه فليعتق رقبة" قالت: فقلت يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال "فليصم شهرين متتابعين" قالت: فقلت والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام قال "فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر" قالت: فقلت والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر" قالت: فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر قال "قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيراً" قالت: ففعلت.
ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين عن محمد بن إسحاق بن يسار به، وعنده خولة بنت ثعلبة ويقال فيها خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقد تصغر فيقال خويلة، ولا منافاة بين هذه الأقوال فالأمر فيها قريب والله أعلم. هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة، فأما حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كانت سبب النزول ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة، من العتق أو الصيام أو الإطعام، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر الأنصاري قال: كنت امرأً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب في ليلتي شيئاً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت: انطلقوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري، فقالوا: لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت، فاصنع ما بدا لك. قال: فخرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري فقال لي "أنت بذاك" فقلت: أنا بذاك فقال "أنت بذاك" فقلت أنا بذاك قال "أنت بذاك" قلت نعم، ها أنا ذا فأمض في حكم الله(4/384)
عز وجل فإني صابر له قال: "أعتق رقبة" قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: "فصم شهرين متتابعين" قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال: "فتصدق" فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشَى ما لنا عشاء، قال: "اذهب إلى صاحب صدقة بني رزيق فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقاً من تمر ستين مسكيناً ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك" قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ فدفعوها إليّ، وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه واختصره الترمذي وحسنه، وظاهر السياق أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خويلة بنت ثعلبة، كما دل عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل. قال خصيف عن مجاهد عن ابن عباس: أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقاً، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أوساً ظاهر مني، وإنا إن افترقنا هلكنا وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته، وهي تشكو ذلك وتبكي ولم يكن جاء في ذلك شيء، فأنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ - إلى قوله تعالى - وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتقدر على رقبة تعتقها" قال: لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها. قال: فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعتق عنه ثم راجع أهله، رواه ابن جرير ولهذا ذهب ابن عباس والأكثرون إلى ما قلناه والله أعلم.
فقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياساً على الظهر، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقاً فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم، هكذا قال غير واحد من السلف. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي حمزة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، وكان تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة، فظاهر منها فأسقط في يديه، وقال ما أراك إلا قد حرمت علي وقالت له مثل ذلك، قال: فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه فقال: "يا خويلة" ما أمرنا في أمرك بشيء، فأنزل الله على رسوله فقال: "يا خويلة أبشري" قالت: خيراً - فقرأ عليها {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا - إلى قوله تعالى - وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} قالت: وأي رقبة لنا والله ما يجد رقبة غيري قال {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} قالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره قال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} قالت: من أين ما هي إلا أكلة إلي مثلها، قال: فدعا بشطر وسق ثلاثين صاعاً والوسق ستون صاعاً فقال: "ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك" وهذا إسناد قوي وسياق غريب، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي، حدثنا علي بن العاصم عن داود بن أبي هند عن أبي العالية قال: كانت خولة بنت دليج تحت رجل من الأنصار، وكان ضرير البصر فقيراً سيء الخلق، وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد رجل أن يطلق امرأته قال: أنت علي كظهر أمي، وكان لها منه عيل أو(4/385)
عيلان فنازعته يوماً في شيء فقال: أنت علي كظهر أمي، فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة، وعائشة تغسل شق رأسه فقدمت عليه ومعها عيلها، فقالت: يا رسول الله إن زوجي ضرير البصر فقير لا شيء له سيء الخلق، وإني نازعته في شيء، فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق، ولي منه عيل أو عيلان فقال: "ما أعلمك إلا قد حرمت عليه" . فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي أنا وصبيتي، قالت: ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الآخر، فدارت معها فقالت: يا رسول الله زوجي ضرير البصر فقير سيء الخلق وإن لي منه عيل أو عيلان وإني نازعته في شيء فغضب وقال: أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق، قالت: فرفع إلي رأسه وقال: "ما أعلمك إلا قد حرمت عليه" فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي أنا وصبيتي قال: ورأت عائشة وجه النبي صلى الله عليه وسلم تغير، فقالت لها: وراءك فتنحت، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيانه ذلك ما شاء الله، فلما انقطع الوحي قال: يا عائشة أين المرأة فدعتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبي فأتيني بزوجك" فانطلقت تسعى، فجاءت به فإذا هو كما قالت ضرير البصر فقير سيء الخلق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أستعيذ بالله السميع العليم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا - إلى قوله - وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُو} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها" قال لا، قال: "أفلا تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرتين والثلاث يكاد يعشو بصري. قال: "أفتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟" قال: لا، إلا أن تعينني. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أطعم ستين مسكيناً" قال: وحول الله الطلاق فجعله ظهاراً، ورواه ابن جرير عن ابن المثنى عن عبد الأعلى عن داود سمعت أبا العالية فذكر نحوه بأخصر من هذا السياق، وقال سعيد بن جبير: كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية، فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر وجعل في الظهار الكفارة، رواه ابن أبي حاتم بنحوه، وقد استدل الإمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله منكم فالخطاب للمؤمنين، وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، واستدل الجمهور عليه بقوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} على أن الأمة لا ظهار منها ولا تدخل في هذا الخطاب. وقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت علي كأمي أو مثل أمي أو كظهر أمي وما أشبه ذلك، لا تصير أمه بذلك إنما أمه التي ولدته، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} أي كلاماً فاحشاً باطلاً {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي عما كان منكم في حال الجاهلية، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان، ولم يقصد إليه المتكلم، كما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته يا أختي، فقال: "أختك هي؟" فهذا إنكار، ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده ولو قصده لحرمت عليه لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى: {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} فقال بعض الناس: العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره، وهذا القول باطل وهو اختيار ابن حزم وقول داود وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام، وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة، وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع والإمساك، وعنه أنه الجماع، وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريماً لا يرفعه إلا الكفارة، وإليه ذهب أصحابه(4/386)
والليث بن سعد وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء عن سعيد بن جبير {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم. وقال الحسن البصري: يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأساً أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} والمس النكاح، وكذا قال عطاء والزهري وقتادة ومقاتل بن حيان، وقال الزهري: ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر.
وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال: "ما حملك على ذلك يرحمك الله" قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل" ، وقال الترمذي: حسن غريب صحيح، ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلاً، قال النسائي: وهو أولى بالصواب. وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا، فههنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان، فحمل الشافعي رحمه الله ما أطلق ههنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب وهو عتق الرقبة، واعتضد في ذلك بما رواه عن مالك بسنده عن معاوية بن الحكم السلمي في قصة الجارية السوداء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" وقد رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد الله بن نمير عن إسماعيل بن يسار عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال إني ظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يقل الله تعالى: {من قبل أن يتماسا } " قال: أعجبتني، قال: "أمسك حتى تكفر" ثم قال البزار: لا يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا، وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة. وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِه} أي تزجرون به {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي خبير بما يصلحكم عليم بأحوالكم، وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} قد تقدمت الأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي شرعنا هذا لهذا. وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي محارمه فلا تنتهكوها. وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء كلا ليس الأمر كما زعموا بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا والآخرة.
{إِنّ الّذِينَ يُحَآدّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نّجْوَىَ ثَلاَثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ} أي واضحات لا يعاندها ولا(4/387)
يخالفها إلا كافر فاجر مكابر {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ} أي في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله والانقياد له والخضوع لديه.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً} وذلك يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ} أي فيخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر {أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ} أي ضبطه الله وحفظه عليهم وهم قد نسوا ما كانوا عملوا {وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي لا يغيب عنه شيء ولا يخفى ولا ينسى شيئاً، ثم قال تعالى مخبراً عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نّجْوَىَ ثَلاَثَةٍ} أي من سر ثلاثة {إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ} أي مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ورسله أيضاً مع ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم الله به وسمعه له، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضاً مع علمه بهم محيط بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء، ثم قال تعالى {ثمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُواْ عَنِ النّجْوَىَ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ وَيَقُولُونَ فِيَ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنّمَا النّجْوَىَ مِنَ الشّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُواْ عَنِ النّجْوَىَ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} قال اليهود، وكذا قال مقاتل بن حيان وزاد: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُواْ عَنِ النّجْوَىَ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثني سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه عن جده قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت عنده يطرقه من الليل أمر وتبدو له حاجة فلما كانت ذات ليلة كثر أهل النوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟" قلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيح فرقاً منه. فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟" قلنا: بلى يا رسول الله! قال: "الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل" هذا إسناد غريب وفيه بعض الضعفاء.(4/388)
وقوله تعالى: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أي يتحدثون فيما بينهم {بِالْأِثْمِ} وهو ما يختص بهم {بِالْأِثْمِ} وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفته يصرون عليها ويتواصون بها وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسروق عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة: وعليكم السام قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش" قلت: ألا تسمعهم يقولون السام عليك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أو ما سمعت أقول وعليكم" فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم: عليكم السام والذام واللعنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا". وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي، فسلم عليهم فردوا عليه فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "هل تدرون ما قال؟" قالوا سلم يا رسول الله قال "بل قال سام عليكم" أي تسامون دينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ردوه" فردوه عليه فقال نبي الله "أقلت سام عليكم؟" قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك" أي عليك ما قلت، وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة بنحوه.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام وإنما هو شتم في الباطن، ومع هذا يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول له في الباطن لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبياً حقاً لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا فقال الله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي جهنم كفايتهم في الدار الآخرة {يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر، أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سام عليكم، ثم يقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ؟ فنزلت هذه الآية {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} إسناد حسن ولم يخرجوه. وقال العوفي عن ابن عباس {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه سام عليك، قال الله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ثم قال الله تعالى مؤدباً عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها، قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.(4/389)
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي إنما النجوى وهي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءاً {مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليسوءهم وليس ذلك بضارهم شيئاً إلا بإذن الله ومن أحسّ من ذلك شيئاً فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله.
وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا: حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه" انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل، كلاهما عن حماد بن زيد عن أيوب به.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
يقول تعالى مؤدباً عباده المؤمنين وآمراً لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس} وقرىء {في المجلس} {فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ} وذلك أن الجزاء من جنس العمل كما جاء في الحديث الصحيح: "من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة" وفي الحديث الآخر: "ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" ولهذا أشباه كثيرة، ولهذا قال تعالى: {فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ} قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض. وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوه إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: "قم يا فلان وأنت يا فلان" فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله رجلاً يفسح لأخيه" فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية يوم الجمعة. رواه ابن أبي حاتم. وقد قال الإمام أحمد والشافعي حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن(4/390)
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا" وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع به.
وقال الشافعي: أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا" على شرط السنن ولم يخرجوه وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا فليح عن أيوب عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم" ورواه أيضاً عن سريج بن يونس ويونس بن محمد المؤدب عن فليح به ولفظه: "لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ولكن افسحوا يفسح الله لكم" تفرد به أحمد. وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص في ذلك محتجاً بحديث "قوموا إلى سيدكم" ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار" ومنهم من فصل فقال يجوز عند القدوم من سفر وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقدمه النبي حاكماً في بني قريظة فرآه مقبلاً قال للمسلمين "قوموا إلى سيدكم" وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم. فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك.
وفي الحديث المروي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه وعمر عن يساره، وبين يديه غالباً عثمان وعلي لأنهما كانا ممن يكتب الوحي، وكان يأمرهما بذلك كما رواه مسلم من حديث الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم" وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين أو ليأخذ البدريون من العلم نصيبهم، كما أخذ أولئك قبلهم أو تعليماً بتقديم الأفاضل إلى الأمام. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش عن عمارة بن عمير التيمي عن أبي معمر عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافاً، وكذا رواه مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طرق عن الأعمش به، وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء منهم والعلماء فبطريق الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة.
وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشياطين ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله" ولهذا كان أبي بن كعب سيد القراء إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلاً يكون من أفناد الناس، ويدخل هو في الصف المتقدم(4/391)
ويحتج بهذا الحديث: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى" وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه عملاً بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه، ولنقتصر على هذا المقدار من الأنموذج المتعلق بهذه الآية، وإلا فبسطه يحتاج إلى غير هذا الموضع. وفي الحديث الصحيح: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أقبل ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها، وأما الآخر فجلس وراء الناس، وأدبر الثالث ذاهباً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخبر الثلاثة، أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه". وقال الإمام أحمد: حدثنا عتاب بن زياد أخبرنا عبد الله، أخبرنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما" ورواه أبو داود والترمذي من حديث أسامة بن زيد الليثي به وحسنه الترمذي وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا في قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} يعني في مجالس الحرب قالوا: ومعنى قوله: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} أي انهضوا للقتال. وقال قتادة {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا وقال مقاتل إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف، أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده، فربما يشق ذلك عليه، عليه السلام وقد تكون له الحاجة فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا كقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا}.
وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي لا تعتقدوا أنه إذا أفسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل أو إذا أمر بالخروج فخرج، أن يكون ذلك نقصاً في حقه بل هو رفعة ورتبة عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره، ولهذا قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه قارىء لكتاب الله عالم بالفرائض قاضٍ، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب قوماً ويضع به آخرين" وهكذا رواه مسلم من غير وجه عن الزهري به، وروي من غير وجه عن عمر بنحوه، وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري، ولله الحمد والمنة.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لّمْ تَجِدُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(4/392)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يسارّه فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لّكُمْ وَأَطْهَرُ} ثم قال تعالى: {فَإِن لّمْ تَجِدُواْ} أي إلا من عجز عن ذلك لفقره {فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ} فما أمر بها إلا من قدر عليها. ثم قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} أي أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فنسخ وجوب ذلك عنهم، وقد قيل إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب قدم ديناراً صدقة تصدق به، ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن عشر خصال ثم أنزلت الرخصة، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال علي رضي الله عنه: آية في كتاب الله عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى دينار؟" قال: لا يطيقون. قال "نصف دينار" قال: لا يطيقون. قال "ما ترى" ؟ قال: شعيرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إنك لزهيد" قال: فنزلت {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} قال علي: فبي خفف الله عن هذه الأمة.
ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن يحيى بن آدم عن عبيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إلى آخرها قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى، دينار" قلت: لا يطيقونه وذكره بتمامه مثله، ثم قال: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه،ثم قال: ومعنى قوله شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب، ورواه أبو يعلى عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن آدم به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً - إلى - فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة فلما نزلت الزكاة نسخ هذا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه عليه السلام، فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فوسع الله عليهم ولم يضيق. وقال عكرمة والحسن البصري في قوله تعالى: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} نسختها الآية التي بعدها {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} إلى آخرها. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ومقاتل بن حيان: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ففطمهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة،فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.(4/393)
وقال معمر عن قتادة {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار. وهكذا روى عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن مجاهد قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وأحسبه قال: وما كانت إلا ساعة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ تَوَلّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم مّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ اتّخَذْوَاْ أَيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ لّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مّنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ عَلَىَ شَيْءٍ أَلاَ إِنّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشّيْطَانِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ الشّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ}
يقول الله تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن. وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين كما قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} وقال ههنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يعني اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن ثم قال تعالى: {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود، ثم قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يعني المنافقين يحلفون على الكذب، وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين عياذاً بالله منه، فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا جاؤوا الرسول حلفوا له بالله إنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه وإن كان في نفس الأمر مطابقاً، ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك. ثم قال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة وهي موالاة الكافرين ونصحهم ومعاداة المؤمنين، وغشهم، ولهذا قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر واتقوا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة، ثم قال تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي لن يدفع ذلك عنهم بأساً إذا جاءهم {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أي يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحداً {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي يحلفون باالله عز وجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ولهذا قال: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي حلفهم بذلك لربهم عز وجل.
ثم قال تعالى: منكراً عليهم حسبانهم {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فأكد الخبر عنهم بالكذب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير عن سماك بن حرب، حدثني سعيد بن جبير، أن ابن عباس حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين قد كاد يقلص عنهم الظل قال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا(4/394)
أتاكم فلا تكلموه" فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله فكلمه فقال: "علام تشتمني أنت وفلان وفلان" نفر دعاهم بأسمائهم، قال فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه، قال فأنزل الله عز وجل {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين عن سماك به، ورواه ابن جرير عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن سماك به نحوه، وأخرجه أيضاً من حديث سفيان الثوري عن سماك بنحوه إسناد جيد ولم يخرجوه، وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ثم قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أي استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله عز وجل، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه، ولهذا قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زائدة، حدثنا السائب بن حبيش عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية" قال زائدة: قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة. ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} يعني الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ثم قال تعالى: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
{إِنّ الّذِينَ يُحَآدّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأذَلّينَ كَتَبَ اللّهُ لأغْلِبَنّ أَنَاْ وَرُسُلِيَ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المعاندين المحاد لله ورسوله، يعني الذين هم في حد والشرع في حد، أي مجانبون للحق مشاقون له هم في ناحية والهدى في ناحية {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} أي في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب الأذلين في الدنيا والآخرة. {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قد حكم وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل، بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وقال ههنا: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه، وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة ثم قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي لا يوادّون المحادّين ولو كانوا من الأقربين كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} الآية.
وقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ(4/395)
إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة رضي الله عنهم: ولو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته. وقيل في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر {أو أبناءهم} في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن {وْ إِخْوَانَهُمْ} في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاً، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ، فالله أعلم.
قلت: ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم، وقال عمر: لا رأى ما أرى، يا رسول الله هل تمكنني من فلان قريب لعمر فأقتله، وتمكن علياً من عقيل وتمكن فلاناً من فلان ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين القصة بكمالها. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان أي كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته. قال السدي: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} جعل في قلوبهم الإيمان. وقال ابن عباس {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي قواهم. وقوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} كل هذا تقدم تفسيره غير مرة، وفي قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم والفضل العميم. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي هؤلاء حزب الله أي عباد الله وأهل كرامته. وقوله تعالى: {إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة في مقابلة ما ذكر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان ثم قال: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن حميد الواسطي، حدثنا الفضل بن عنبسة عن رجل قد سماه فقال: هو عبد الحميد بن سليمان - انقطع من كتابي - عن الذيال بن عباد قال: كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: اعلم أن الجاه جاهان جاه يجريه الله تعالى على أيدي أوليائه لأوليائه، وأنهم الخامل ذكرهم الخفية شخوصهم، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يدعوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة" فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال نعيم بن حماد: حدثنا محمد بن ثور عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمة فإني وجدت فيما أوحيته إلي {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال سفيان: يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان رواه أبو أحمد العسكري.
آخر تفسير سورة المجادلة ولله الحمد والمنة.(4/396)
سورة الحشر
وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير.
قال سعيد بن المنصور: حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر، قال: أنزلت في بني النضير، ورواه البخاري ومسلم من وجه آخر عن هشيم به، ورواه البخاري من حديث أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير: قال قلت لابن عباس سورة الحشر؟ قال سورة بني النضير.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الّذِيَ أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذّبَهُمْ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النّارِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ شَآقّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقّ اللّهَ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىَ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.
يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده كقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي منيع الجناب {الْحَكِيمُ} في قدره وشرعه. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني يهود بني النضير. قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهداً وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه فأحل الله بهم بأسه الذي لا مرد له، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصد، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون وظنوا هم أنها ما نعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئاً وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وسيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر، وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي لا يمكن أن تحمل معهم، ولهذا قال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله وكذب كتابه كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود سفيان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن(4/397)
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس، والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان أجمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم" فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهو الخلاخل، فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أيقنت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حبراً حتى نلتقي بمكان النصف، وليسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك.
فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم فقال لهم: "إنكم والله لا تؤمنون عندي إلا بعهد تعاهدونني عليه" فأبوا أن يعطوه عهداً فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه، فانصرف عنهم وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجلت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} يقول بغير قتال، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار، وكانا ذوي حاجة ولم يقسم من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة، ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار وبالله المستعان.
وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعين وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعاً إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت رجلين لأدينهما" وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكانت منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها. وقال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما فيما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعاً إلى المدينة. فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه، فقال رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم(4/398)
ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض وتعيبه على من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا فقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن إيجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة - سماك بن خرشة - ذكرا فقراً فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمرو بن كعب عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها. قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم ترَ ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني" فجعل يامين بن عمرو لرجل جعلاً على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون. قال ابن إسحاق: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها وهكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق بنحو ما تقدم، فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني بني النضير {مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس قال: من شك في أن أرض المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "اخرجوا" قالوا: إلى أين ؟ قال: "إلى أرض المحشر" وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة عن عوف عن الحسن قال: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قال: "هذا أول الحشر وأنا على الأثر" ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن به.
وقوله تعالى: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} أي في مدة حصاركم لهم وقصرها وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها، ولهذا قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى في الآية الأخرى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}.
وقوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي الخوف والهلع والجزع وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِين} قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك، وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم وتحملها على الإبل، وكذلك قال عروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد، وقال مقاتل بن حيان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال، وكان اليهود إذا علوا مكاناً أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها، يقول الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} . وقوله: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أي لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو(4/399)
ذلك، قاله الزهري عن عروة والسدي وابن زيد لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العذاب في نار جهنم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: ثم كانت وقعة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة وهي السلاح، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام، قال: والجلاء كتب عليهم في آي من التوراة وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيهم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ - إلى قوله - وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} وقال عكرمة: الجلاء القتل، وفي رواية عنه الفناء، وقال قتادة: الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد. وقال الضحاك: أجلاهم إلى الشام وأعطى كل ثلاثة بعيراً وسقاء، فهذا الجلاء.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدثنا محمد بن سعيد العوفي حدثني أبي عن عمي، حدثنا أبي عن جدي عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء، والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى. وروي أيضاً من حديث يعقوب بن محمد الزهري عن إبراهيم بن جعفر عن محمود بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جده، عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام. وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} أي حتم لازم لا بد لهم منه.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين، لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم. ثم قال: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} اللين نوع من التمر وهو جيد قال أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر، وقال كثيرون من المفسرين: اللينة ألوان التمر سوى العجوة. قال ابن جرير: هو جميع النخل ونقله عن مجاهد وهو البويرة أيضاً، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرهاباً وإرعاباً لقلوبهم، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: فبعث بنو النضير يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم. وقال مجاهد: نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه، وقد روي نحو هذا مرفوعاً، فقال النسائي: أخبرنا الحسن بن محمد عن عفان، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} قال: يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحاك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان(4/400)
بن موسى عن جابر وعن أبي الزبير عن جابر، قال: رخص لهم في قطع النخل ثم شدد عليهم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا أو علينا وزر فيما تركنا، فأنزل الله عز وجل {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق، وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة بنحوه، ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، قال: حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حارب قريظة، فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة، ولهما أيضاً عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة، فأنزل الله عز وجل فيه {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.
وللبخاري رحمه الله من رواية جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وهان على سراة بني لؤي
...
حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:
أدام الله ذلك من صنيع
...
وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنز ه
...
و تعلم أي أرضينا نضير
وكذا رواه البخاري ولم يذكره ابن إسحاق، وقال محمد بن إسحاق وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف:
لقد خزيت بغدرتها الحبور
...
كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنهم كفروا برب
...
عظيم أمره أمر كبير
وقد أوتوا معاً فهماً وعلماً
...
وجاءهمو من الله النذير
نذير صادق أدى كتاباً
...
وآيات مبينة تنير
فقالوا ما أتيت بأمر صدق
...
وأنت بمنكر منا جدير
فقال بلى لقد أديت حقاً
...
يصدقني به الفهم الخبير
فمن يتبعه يهد لكل رشد
...
ومن يكفر به يجز الكفور
فلما أشربوا غدراً وكفراً
...
وجد بهم عن الحق النفور
أرى الله النبي برأي صدق
...
وكان الله يحكم لا يجور
فأيده وسلطه عليهم
...
وكان نصيره نعم النصير
فغودر منهم وكعب صريعاً
...
فذلت بعد مصرعه النضير
على الكفين ثم وقد علته
...
بأيدينا مشهرة ذكور
بأمر محمد إذ دس ليلاً
...
إلى كعب أخا كعب يسير
فما كره فأنزله بمكر
...
ومحمود أخو ثقة جسور(4/401)
فتلك بنو النضير بدار سوء
...
أبادهمو بما اجترموا المبير
غداة أتاهمو في الزحف رهواً
...
رسول الله وهو بهم بصير
وغسان الحماة موازروه
...
على الأعداء وهو لهم وزير
فقال السلم ويحكمو فصدو
...
أو خالف أمرهم كذب وزور
فذاقوا غب أمرهم وبالا
...
لكل ثلاثة منهم بعير
وأجلوا عامدين لقينقاع
...
و غودر منهمو نخل ودور
قال: وكان مما قيل من الأشعار في بني النضير قول ابن القيم العبسي، ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريف، قال ابن هشام الأشجعي:
أهلي فداء لأمري غير هالك
...
أجلى اليهود بالحسى المزنم
يقيلون في جمر العضاه وبدلوا
...
أهيضب عوداً بالودي المكمم
فإن يك ظني صادقاً بمحمد
...
يروا خيله بين الصلا ويرمرم
يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم
...
عدو وما حي صديق كمجرم
عليهن أبطال مساعير في الوغى
...
يهزون أطراف الوشيج المقوم
وكل رقيق الشفرتين مهند
...
تورث من أزمان عاد وجرم
فمن مبلغ عني قريشاً رسالة
...
فهل بعدهم في المجد من متكرم
بأن أخاكم فاعلمن محمدا
...
تليد الندى بين الحجون وزمزم
فدينوا له بالحق تحسم أموركم
...
وتسموا من الدنيا إلى كل معظم
نبي تلاقته من الله رحمة
...
ولا تسألوه أمر غيب مرجم
فقد كان في بدر لعمري عبرة
...
لكم يا قريش والقليب الملمم
غداة أتى في الخزرجية عامداً
...
إليكم مطيعاً للعظيم المكرم
معاناً بروح القدس ينكي عدوه
...
رسولاً من الرحمن حقاً بمعلم
رسولاً من الرحمن يتلو كتابه
...
فلما أنار الحق لم يتلعثم
أرى أمره يزداد في كل موطن
...
علواً لأمر حمه الله محكم
وقد أورد ابن إسحاق رحمه الله ههنا أشعاراً كثيرة فيها آداب ومواعظ وحكم وتفاصيل للقصة، تركنا باقيها اختصاراً واكتفاء بما ذكرناه، ولله الحمد والمنة. قال ابن إسحاق: كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة، وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر.
{وَمَآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىَ فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(4/402)
يقول تعالى مبيناً ما الفيء وما صفته وما حكمه، فالفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاءه على رسوله، ولهذا تصرف فيه كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآيات فقال تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي من بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} يعني الإبل {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قدير لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر لكل شيء. ثم قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني النضير ولهذا قال تعالى: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} إلى آخرها والتي بعدها فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه. قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو ومعمر عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لو يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته، وقال مرة قوت سنته وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله عز وجل، هكذا أخرجه أحمد ههنا مختصراً، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم إلا ابن ماجه من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن الزهري به، وقد رويناه مطولاً.
وقال أبو داود رحمه الله: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس المعنى واحد قالا: حدثنا بشر بن عمر الزهراني حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس قال: أرسل إليّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله فقال حين دخلت عليه: يا مالك إنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم بشيء فاقسم فيهم، قلت لو أمرت غيري بذلك فقال خذه، فجاءه يرفا فقال يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص ؟ قال: نعم. فأذن لهم فدخلوا ثم جاءه يرفا فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في العباس وعلي ؟ قال: نعم، فأذن لهما فدخلا فقال العباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا يعني علياً، فقال بعضهم: أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرحهما، قال مالك بن أوس: خيل إلي أنهما قدما أولئك النفر لذلك، فقال عمر رضي الله عنه اتئدا ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" قالوا: نعم. ثم أقبل على علي والعباس فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" فقالا: نعم. فقال: إن الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحداً من الناس فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فكان الله تعالى أفاء على رسوله أموال بني النضير فو الله ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة، ويجعل ما بقي أسوة المال. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك ؟ قالوا: نعم. ثم أقبل على علي والعباس فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك ؟ قالا: نعم. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب(4/403)
أنت ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر، فلما توفي قلت أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها، فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها، فقلت إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها، فأخذتماها مني على ذلك ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إلي، أخرجوه من حديث الزهري به. قال الإمام أحمد: حدثنا عارم وعفان قالا: أخبرنا معمر سمعت أبي يقول: حدثنا أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات أو كما شاء الله حتى فتحت عليه قريظة والنضير قال فجعل يرد بعد ذلك، قال وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن أو كما شاء الله قال، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وجعلت تقول كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يعطيكهن وقد أعطانيهن، أو كما قالت فقال نبي الله: "لك كذا وكذا" قال وتقول كلا والله قال ويقول "لك كذا وكذا" قال وتقول كلا والله، قال: ويقول: "لك كذا وكذا" قال حتى أعطاها حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو قال قريباً من عشرة أمثاله، أو كما قال رواه البخاري ومسلم من طرق عن معتمر به، وهذه المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خمس الغنيمة، وقد قدمنا الكلام عليها في سورة الأنفال بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد.
وقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} أي جعلنا هذه المصارف لمال الفيء كيلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئاً إلى الفقراء. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن العوفي عن يحيى بن الجزار عن مسروق قال: جاءت امرأة إلى ابن مسعود قالت: بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة، أشيء وجدته في كتاب الله تعالى أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول. قال: فما وجدت فيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت: بلى. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة، قالت: فلعله في بعض أهلك، قال فادخلي فانظري، فدخلت فنظرت ثم خرجت قالت: ما رأيت بأساً، فقال لها: أما حفظت وصية العبد الصالح {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عز وجل، قال فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أم يعقوب، فجاءت إليه فقالت بلغني أنك قلت كيت وكيت، قال ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله تعالى، فقالت إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته،فقال إن كنت قرأتِهِ فقد وجدتِهِ أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت: بلى. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت: إني لأظن أهلك يفعلونه، قال: اذهبي فانظري فذهبت فلم تر من حاجتها شيئاً، فجاءت فقالت: ما رأيت شيئاً، قال: لو كان كذا لما تجامعنا. أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري، وقد ثبت في الصحيحين أيضاً(4/404)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" وقال النسائي: أخبرنا أحمد بن سعيد، حدثنا يزيد، حدثنا منصور بن حيان عن سعيد بن جبير، عن ابن عمرو ابن عباس أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه وارتكب ما عنه زجره ونهاه.
{لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ}
يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم وهؤلاء هم سادات المهاجرين. ثم قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم، وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم. قال عمر: وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم رواه البخاري ههنا أيضاً.
قوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال "لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" لم أره في الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين. قالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال "إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة" تفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا. فقالوا: أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي ولا يجدون في أنفسهم حسداً(4/405)
للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة. قال الحسن البصري {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} يعني الحسد {مِمَّا أُوتُوا} قال قتادة يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أنس قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لا حيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله، قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق، ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، فالله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يعني مما أوتوا المهاجرين، قال وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم" فقالوا أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك" قالوا: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: "هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر" فقالوا: نعم يا رسول الله. وقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يعني حاجة أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصدقة جهد المقل" وهذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} وقوله {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه، ومن هذا المقام تصدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟" فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله، وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم. وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا أبو أسامة حدثنا فضيل بن غزوان(4/406)
حدثنا أبو حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال: أتى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله" فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفيء السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد عجب الله عز وجل - أو ضحك - من فلان وفلانة" وأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وكذا رواه البخاري في موضع آخر ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن فضيل بن غزوان وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح. قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن القعنبي عن داود بن قيس به.
وقال الأعمش وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأقمر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا" ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة والنسائي من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مرة به، وقال الليث عن يزيد بن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن الجلاح عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا المسعودي عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال له عبد الله: وما ذاك ؟ قال: سمعت الله يقول {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً، فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل. وقال سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. رواه ابن جرير. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسحاق، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري عن عمه يزيد بن جارية عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة".
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من(4/407)
مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى: في هذه الآية الكريمة {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} أي قائلين {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً} أي بغضاً وحسداً {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب، لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عائشة أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} الآية.
وقال إسماعيل بن علية عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم. سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها" رواه البغوي، وقال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: هذه لرسول لله صلى الله عليه وسلم خاصة وقرى عربية فدك وكذا مما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل - وللفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم - والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم - والذين جاؤوا من بعدهم} فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق. قال أيوب - أو قال حظّ - إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود وفيه انقطاع. وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا أبو ثور عن معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ - حتى بلغ - عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية. ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى - حتى بلغ - للفقراء - وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ - وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا له فيها حق ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نّصَرُوهُمْ لَيُوَلّنّ الأدْبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ لأنتُمْ أَشَدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرًى مّحَصّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّىَ(4/408)
ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيَءٌ مّنكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنّهُمَا فِي النّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ}
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي لكاذبون فيما وعدوهم به إما لأنهم قالوا لهم قولاً، ومن نيتهم أن لا يفوا لهم به، وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} أي لا يقاتلون معهم {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} أي قاتلوا معهم {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} وهذه بشارة مستقلة بنفسها، كقوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} ولهذا قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ثم قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} يعني أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة. ثم قال تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي عداوتهم فيما بينهم شديدة، كما قال تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ولهذا قال تعالى: {حْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف، قال إبراهيم النخعي: يعني أهل الكتاب والمنافقين {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} ثم قال تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان: يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر.
وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني يهود بني قينقاع، وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق، وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا. وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم لئن قوتلتم لننصرنكم، ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان - والعياذ بالله - الكفر، فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل وقال {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} . وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها، فقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول إن راهباً تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها، ولها إخوة فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها، قال فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده، فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، فاسجد لي سجدة، فسجد له فلما سجد له قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.(4/409)
وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } قال: كانت امرأة ترعى الغنم وكان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، قال فنزل الراهب ففجر بها فحملت، فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل مصدق يسمع قولك، فقتلها ثم دفنها قال فأتى الشيطان إخوتها في المنام، فقال لهم إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا: لا بل قصها علينا. قال فقصها فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الأخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، قالوا: فو الله ما هذا إلا لشيء قال فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان، فقال إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه، قال فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل. وكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل بن حيان نحو ذلك، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برضيضا فالله أعلم. وهذه القصة مخالفة لقصة جريج العابد فإن جريجاً اتهمته امرأة بغي بنفسها، وادعت أن حملها منه ورفعت أمرها إلى ولي الأمر فأمر به فأنزل من صومعته وخربت صومعته وهو يقول ما لكم ما لكم؟ قالوا يا عدو الله فعلت بهذه المرأة كذا وكذا، فقال جريج اصبروا ثم أخذ ابنها وهو صغير جداً، ثم قال يا غلام من أبوك. قال أبي الراعي وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيماً بليغاً وقالوا نعيد صومعتك من ذهب، قال لا بل أعيدوها من طين كما كانت. وقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} أي فكان عاقبة الأمر بالكفر والفاعل له ومصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} أي جزاء كل ظالم.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ}
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة محتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بلكلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، قال: فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام الصلاة فصلى ثم خطب فقال: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة - إلى آخر الآية وقرأ الآية التي في الحشر { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره - حتى قال - ولو بشق تمرة" قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت،ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" انفرد بإخراجه مسلم من حديث(4/410)
شعبة بإسناده مثله، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه} أمر بتقواه وهو يشمل فعل ما به أمر وترك ما عنه زجر.
وقوله تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تأكيد ثان {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم، لا تخفى عليه منكم خافية ولا يغيب من أموركم جليل ولا حقير وقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أي لا تنسوا ذكر الله تعالى: فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي الخارجون عن طاعة الله الهالكون يوم القيامة الخاسرون يوم معادهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا المغيرة، حدثنا جرير بن عثمان عن نعيم بن نمحة قال: كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم، فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل، إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم وخلوا بالشقوة والسعادة، وأين الجبارون الأولون الذي بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه، إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم. هذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات، وشيخ جريز بن عثمان وهو نعيم بن نمحة لا أعرفه بنفي ولا إثبات، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حرير كلهم ثقات، وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر والله أعلم.
وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} . في آيات أخر دالات على أن الله تعالى يكرم الأبرار ويهين الفجار، ولهذا قال تعالى ههنا: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} أي الناجون المسلمون من عذاب الله عز وجل.
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ هُوَ اللّهُ الّذِي لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ هُوَ اللّهُ الّذِي لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدّوسُ السّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ يُسَبّحُ لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(4/411)
يقول تعالى معظماً لأمر القرآن ومبيناً علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه، لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ} أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعا} إلى آخرها يقول لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع، ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وكذا قال قتادة وابن جرير. وقد ثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكت لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده، ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده: فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع.
وهكذا هذه الآية الكريمة إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} الآية. وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. ثم قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات. وقوله تعالى: {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير بما أغنى عن إعادته ههنا، والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ثم قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة. وقوله تعالى: {الْقُدُّوسُ} قال وهب بن منبه أي الطاهر. وقال مجاهد وقتادة أي المبارك وقال ابن جريج تقدسه الملائكة الكرام {السَّلامُ} أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقوله تعالى: {الْمُؤْمِنُ} قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة: أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به. وقوله تعالى: {الْمُهَيْمِنُ} قال ابن عباس وغير واحد: أي الشاهد على خلقه بأعمالهم بمعنى هو رقيب عليهم كقوله {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وقوله {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَل} وقوله {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الآية. وقوله تعالى: {الْعَزِيزُ} أي الذي قد عز كل شيء فقهره وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه، ولهذا قال تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} أي الذي لا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته، كما تقدم في الصحيح "العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته" وقال قتادة: الجبار(4/412)
الذي جبر خلقه على ما يشاء. وقال ابن جرير: الجبار المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم. وقال قتادة: المتكبر يعني عن كل سوء ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} الخلق التقدير والبرء هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود وليس كل من قدر شيئاً ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل. قال الشاعر يمدح آخر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري
أي أنت تنفذ ما خلقت أي قدرت، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد، فالخلق التقدير والفري التنفيذ، ومنه يقال قدر الجلاد ثم فرى أي قطع على ما قدره بحسب ما يريده. وقوله تعالى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} أي الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار كقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ولهذا قال المصور أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف. ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر" وتقدم سياق الترمذي وابن ماجه له عن أبي هريرة أيضاً وزاد بعد قوله: "وهو وتر يحب الوتر". واللفظ للترمذي: "هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارىء، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدىء، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الأخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور". وسياق ابن ماجه بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير وقد قدمنا ذلك مبسوطاً مطولاً بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي فلا يرام جنابه {الْحَكِيمُ} في شرعه وقدره، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا خالد يعني ابن طهمان أبو العلاء الخفاف حدثنا نافع بن أبي نافع، عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة" ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري به. وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
آخر تفسير سورة الحشر، ولله الحمد والمنة.(4/413)
سورة الممتحنة
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوَاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسّوَءِ وَوَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن حاطباً هذا كان رجلاً من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضاً، وكان له بمكة أولاد ومال ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفاً لعثمان، فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال "اللهم عم عليهم خبرنا" فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً وبعثه مع قريش إلى أهل مكة، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يداً فأطلع الله تعالى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه، فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته. قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمه، أخبرني حسن بن محمد بن علي، أخبرني عبد الله بن أبي رافع وقال مرة إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره أنه سمع علياً رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها" ، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قلنا أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، قلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا حاطب ما هذا؟" قال: لا تعجل علي إني كنت امرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه صدقكم" . فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه من غير وجه عن سفيان بن عيينة به، وزاد البخاري في كتاب المغازي: فأنزل الله السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وقال في كتاب التفسير: قال عمرو ونزلت فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وقال لا أدري الآية في الحديث(4/414)
أو قال عمرو. قال البخاري قال علي يعني ابن المديني قيل لسفيان في هذا نزلت {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} فقال سفيان: هذا في حديث الناس حفظته من عمرو، ما تركت منه حرفاً ولا أدري أحداً حفظه غيري.
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس، وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين" ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتاب ؟ فقالت: ما معي كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على ما صنعت؟" قال حاطب: والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال: "صدق لا تقولوا له إلا خيراً" . فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه، فقال: "أليس من أهل بدر؟ - فقال - لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم، هذا لفظ البخاري في المغازي في غزوة بدر، وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن أبي سنان هو سعيد بن سنان عن عمرو بن مرة الجملي عن أبي البحتري الطائي، عن الحارث عن علي قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أسر إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة منهم حاطب بن أبي بلتعة، وأفشى في الناس أنه يريد خيبر، قال: فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إلا وعنده فرس فقال: "ائتوا روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذوه منها". فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لها هات الكتاب فقالت ما معي كتاب، فوضعنا متاعها وفتشناها فلم نجده في متاعها، فقال أبو مرثد لعله أن لا يكون معها، فقلت ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا فقلنا لها لتخرجنه أو لنعرينك. فقالت أما تتقون الله! ألستم مسلمين! فقلنا لتخرجنه أو لنعرينك. قال عمرو بن مرة. فأخرجته من حجزتها. وقال حبيب بن أبي ثابت: أخرجته من قبلها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة، فقام عمر فقال يا رسول الله خان الله ورسوله فائذن لي فلأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس قد شهد بدراً ؟ قالوا: بلى، وقال عمر: بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم إني بما تعملون بصير" ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فقال: "يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟" فقال: يا رسول الله إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، وكان لي بها مال وأهل ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله، فكتبت بذلك إليهم والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق حاطب فلا تقولوا لحاطب إلا خيراً" قال حبيب بن أبي ثابت: فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الآية.(4/415)
وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران، عن أبي سنان سعيد بن سنان بإسناده مثله. وقد ذكر ذلك أصحاب المغاري والسير فقال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة، زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم غيره أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه لقريش، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: "أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتاباً إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم" . فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة بني أبي أحمد، فاستنزلاها بالحليفة فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً فقال: "يا حاطب ما حملك على هذا" ؟ فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" . فأنزل الله عز وجل في حاطب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إلى قوله - قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} إلى آخر القصة.
وروى معمر عن الزهري عن عروة نحو ذلك، وهكذا ذكر مقاتل بن حيان أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أنه بعث سارة مولاة بني هاشم، وأنه أعطاها عشرة دراهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأدركاها بالجحفة وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم، وعن السدي قريباً منه، وهكذا قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة. فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.
ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام، حدثنا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم عن ربعي بن حراش سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالاً واحداً وثلاثة وخمسة(4/416)
وسبعة وتسعة وأحد عشر، قال فضرب لنا منها مثلاً وترك سائرها قال: "إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداء فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه" وقوله تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، ولهذا قال تعالى: {أنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم. وقوله تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء ؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضاً. وقوله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي قراباتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءاً، ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد، ولو كان قريباً إلى نبي من الأنبياء. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال "في النار" فلما قفى دعاه فقال "إن أبي وأباك في النار" ورواه مسلم وأبو داود من حديث حماد بن سلمة به.
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَءآؤاْ مّنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتّىَ تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ رّبّنَا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبّنَآ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ}
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ} أي وأتباعه الذين آمنوا معه {إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَءآؤاْ مّنْكُمْ} أي تبرأنا منكم {وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} أي بدينكم وطريقكم {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً} يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، مادمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم { َتّىَ تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَحْدَهُ} أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد. وقوله تعالى: {إِلاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنّ لَكَ} أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها(4/417)
إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} .
وقال تعالى في هذه الآية: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ - إلى قوله - إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي ليس لكم في ذلك أسوة أي في الاستغفار للمشركين هكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وغير واحد.
ثم قال تعالى مخبراً عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم، فلجأوا إلى الله وتضرعوا إليه فقالوا {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك وإليك المصير أي المعاد في الدار الآخرة {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قال مجاهد: معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، وكذا قال الضحاك، وقال قتادة: لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه، واختاره ابن جرير، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وقوله تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي واستر ذنوبنا عن غيرك واعف عنها فيما بيننا وبينك {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك {الْحَكِيمُ} في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك ثم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضاً لأن هذه الأسوة المثبتة ههنا هي الأولى بعينها، وقوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} تهييج إلى ذلك لكل مؤمن بالله والمعاد، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلّ} أي عما أمر الله به {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} كقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الغني الذي قد كمل في غناه وهو الله، هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار الحميد المستحمد إلى خلقه أي هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا رب سواه.
{عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مّوَدّةً وَاللّهُ قَدِيرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىَ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين {عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مّوَدّةً} أي محبة بعد البغضة ومودة بعد النفرة وألفة بعد الفرقة {وَاللّهُ قَدِيرٌ} أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة، كما قال تعالى ممتناً على الأنصار {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ(4/418)
إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} الآية. وكذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟" وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وفي الحديث "أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما " وقال الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
...
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان.
وقد قال مقاتل بن حيان: إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان صخر بن حرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته، فكانت هذه مودة ما بينه وبينه، وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح، وأبو سفيان إنما أسلم ليلة الفتح بلا خلاف، وأحسن من هذا ما رواه ابن أبي حاتم حيث قال: قرى على محمد بن عزيز، حدثني سلامة، حدثني عقيل، حدثني ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً فقاتله، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، قال ابن شهاب: وهو ممن أنزل الله فيه {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} الآية. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن قال: "نعم" قال: تأمرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: "نعم" قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: "نعم" قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها - الحديث - وقد تقدم الكلام عليه.
وقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أي يعاونوا على إخراجكم أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} أي تحسنوا إليهم {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} أي تعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال: "نعم صلي أمك" أخرجاه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا صناب وأقط وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها. فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخر الآية. فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها. وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث مصعب بن ثابت به، وفي رواية لأحمد ولابن جرير قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد من بني مالك بن حسل، وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة وأسماء أنهما قالتا: قدمت علينا أمنا المدينة وهي مشركة في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش فقلنا يا رسول الله إن أمنا قدمت علينا المدينة وهي راغبة أفنصلها ؟ قال:(4/419)
"نعم فصلاها" ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن الزهري عن عروة عن عائشة إلا من هذا الوجه.
(قلت): وهو منكر بهذا السياق لأن أم عائشة هي أم رومان وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} قد تقدم تفسير ذلك في سورة الحجرات وأورد الحديث الصحيح "المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا".
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} أي إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم ينهاكم الله عز وجل عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم، ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ لاَ هُنّ حِلّ لّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ وَآتُوهُم مّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِيَ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}
تقدم في سورة الفتح في ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش فكان فيه: على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وفي رواية: على أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وهذا قول عروة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد والزهري ومقاتل بن حيان والسدي، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة، وهذا من أحسن أمثلة ذلك وعلى طريقة بعض السلف ناسخة، فإن الله عز وجل أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن، وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش من المسند الكبير من طريق أبي بكر بن أبي عاصم عن محمد بن يحيى الذهلي عن يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن عمران عن مجمع بن يعقوب عن حنين بن أبي لبانة عن عبد الله بن أبي أحمد قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الهجرة فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلماه فيها أن يردها إليهما فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آيات الامتحان. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير عن قيس بن الربيع عن الأغر بن الصباح عن خليفة بن حصين عن أبي نصر الأسدي قال سئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، قال: كان يمتحنهن بالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله، ثم رواه من وجه آخر عن الأغر بن الصباح به، وكذا رواه البزار من طريقه وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب.(4/420)
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} وكان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله، وقال مجاهد: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فاسألوهن عما جاء بهن، فإذا كان جاء بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ولم يؤمن فارجعوهن إلى أزواجهن، وقال عكرمة: يقال لها ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا ولا فرار من زوجك فذلك قوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} وقال قتادة: كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن النشوز وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحرص عليه، فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن. وقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً. وقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، قد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا" ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر. وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول ولم يحدث لها صداقاً. كما قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا ابن إسحاق حدثنا داود بن الحصين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ولم يحدث شهادة ولا صداقاً، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ومنهم من يقول بعد سنتين، وهو صحيح، لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس ولا نعرف وجه هذا الحديث ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين، وسمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا الحديث وحديث ابن الحجاج يعني ابن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد، فقال يزيد: حديث ابن عباس أجود إسناداً والعمل على حديث عمرو بن شعيب، ثم قلت وقد روى حديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وضعفه الإمام أحمد وغير واحد، والله أعلم.
وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين، يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ نكاحها منه. وقال آخرون بل إذا انقضت العدة هي بالخيار، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت وحملوا عليه حديث ابن عباس، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يعني أزواج المهاجرات من المشركين ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري وغير واحد، وقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن أي تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك. وقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} تحريم من الله عز وجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن.
وفي الصحيح عن الزهري عن عروة عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ(4/421)
مُهَاجِرَاتٍ - إلى قوله - وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية. وقال ابن ثور عن معمر عن الزهري: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم، على أنه من أتاه منهم رده إِليهم، فلما جاء النساء نزلت هذه الآية وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى أزواجهن وقال {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال: وإنما حكم الله بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري: طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة. فتزوجها معاوية وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية، وهي أم عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم رجل من قومه وهما على شركهما، وطلق طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فتزوجها بعده خالد بن سعد بن العاص.
وقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} أي وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار إن ذهبن وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي في الصلح واستثناء النساء منه والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك، ثم قال تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} قال مجاهد وقتادة: هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئاً، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها، وقال ابن جرير: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري قال: أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين، فقال الله تعالى للمؤمنين به {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}. فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين، رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم، التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرن، ثم ردوا إلى المشركين فضلاً إن كان بقي لهم، والعقب ما كان بقي من صداق نساء الكفار حين آمن وهاجرن، وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية، يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة، وهكذا قال مجاهد {فَعَاقَبْتُمْ} أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} يعني مهر مثلها. وهكذا قال مسروق وإبراهيم وقتادة ومقاتل والضحاك وسفيان بن حسين والزهري أيضاً. وهذا لا ينافي الأول لأنه إن أمكن الأول فهو الأولى وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار، وهذا أوسع وهو اختيار ابن جرير، ولله الحمد والمنة.
{يَأَيّهَا النّبِيّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىَ أَن لاّ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنّ وَأَرْجُلِهِنّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنّ(4/422)
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنّ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
قال البخاري: حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ - إلى قوله - غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال عروة: قالت عائشة فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله: "قد بايعتك" كلاماً، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، وما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" هذا لفظ البخاري. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئاً الآية وقال "فيما استطعتن وأطقتن" قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله ألا تصافحنا ؟ قال "إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة" هذا إسناد صحيح وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة والنسائي أيضاً من حديث الثوري ومالك بن أنس، كلهم عن محمد بن المنكدر عن أميمة به، وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر، وقد رواه أحمد أيضاً من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن أميمة به وزاد: ولم يصافح منا امرأة، وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر به.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي عن محمد بن المنكدر، حدثتني أميمة بنت رقيقة وكانت أخت خديجة خالة فاطمة من فيها إلى فيّ فذكره، وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سليم عن أمه سلمى بنت قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلت معه القبلتين، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف قال: "ولا تغششن أزواجكن" قالت: فبايعناه ثم انصرفنا فقلت لامرأة منهن ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غش أزواجنا؟ قالت: فسألته فقال "تأخذ ماله فتحابي به غيره" . وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، حدثني أبي عن أمه عائشة بنت قدامة يعني ابن مظعون قالت أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول: "أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصينني في معروف - قلن نعم - فيما استطعتن" فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي أي بنية نعم، فكنت أقول كما يقلن.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها قالت: أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها، فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فانطلقت ورجعت فبايعها، ورواه مسلم. وفي رواية: فما وفى منهن امرأة غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان، وللبخاري عن أم عطية قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة غير خمسة نسوة. أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة امرأة معاذ وامرأتان أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد النساء(4/423)
بهذه البيعة يوم العيد، كما قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن جريج أن الحسن بن مسلم أخبره عن طاوس عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} حتى فرغ من الآية كلها ثم قال حين فرغ "أنتن على ذلك" فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، لا يدري الحسن من هي، قال: فتصدقن، قال: وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتح والخواتيم في ثوب بلال. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش عن سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله تبايعه على الإسلام فقال: "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى" وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم - قرأ الآية التي أخذت على النساء- {إذا جاءك المؤمنات} - فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه" أخرجاه في الصحيحين.
وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، وقال "فإن وفيتم فلكم الجنة" رواه ابن أبي حاتم، وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: "قل لهن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً" وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء فقالت: إني إن أتكلم يعرفني وإن عرفني قتلني، وإنما تنكرت فرقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت النسوة اللاتي مع هند وأبين أن يتكلمن فقالت هند وهي متنكرة: كيف تقبل من النساء شيئاً لم تقبله من الرجال ؟.
ففطن إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعمر "قل لهن ولا يسرقن" قالت هند: والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا ؟ قال أبو سفيان: ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فدعاها فأخذت بيده فعاذت به فقال: "أنت هند" قالت: عفا الله عما سلف، فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ولا يزنين" فقالت: يا رسول الله، وهل تزني امرأة حرة ؟ قال "لا والله ما تزني الحرة - قال - ولا يقتلن أولادهن" قالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر، قال: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} قال {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال: منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه ويقطعن الشعور، ويدعون بالويل والثبور. وهذا أثر غريب وفي بعضه نكارة والله أعلم، فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله يخيفهما بل أظهر الصفاء والود لهما، وكذلك كان الأمر من جانبه عليه السلام لهما. وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الفتح، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/424)
الرجال على الصفا، وعمر بايع النساء تحتها عن رسول لله صلى الله عليه وسلم فذكر بقيته كما تقدم وزاد: فلما قال: ولا تقتلن أولادكن. قالت هند: ربيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي حدثتني أم غبطة بنت سليمان، حدثتني عمتي عن جدتها عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه فنظر إلى يدها فقال "اذهبي فغيري يدك" فذهبت فغيرتها بحناء ثم جاءت فقال "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً" فبايعته وفي يدها سواران من ذهب، فقالت: ما تقول في هذين السوارين؟ فقال "جمرتان من نار جهنم".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل عن حصين عن عامر هو الشعبي قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وفي يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال "ولا تقتلن أولادكن" فقالت امرأة: تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم ؟ قال، وكان بعد ذلك إذا جاء النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن، فإذا أقررن رجعن، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} أي من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها {عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ} أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج مقصراً في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أمثالها وإن كان من غير علمه عملاً بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" أخرجاه في الصحيحين. قوله تعالى: {وَلا يَزْنِينَ} كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} وفي حديث سمرة: ذكر عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} الآية، قال: فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة فو الله ما بايعنا إلا على هذا، قالت: فنعم إذاً، فبايعها بالآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل عن حصين عن عامر هو الشعبي قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال "ولا تقتلن أولادكن" فقالت امرأة: تقتل آباءهم وتوصي بأولادهم قال: وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن فإذا أقررن رجعن. وقوله تعالى: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} وهذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وقوله تعالى: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} قال ابن عباس: يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب. حدثنا عمرو يعني ابن الحارث عن ابن الهاد عن عبد الله بن يونس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين" وقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} يعني فيما أمرتهن به من معروف ونهيتهن عنه من منكر. قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت الزبير عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء. وقال ميمون بن مهران: لم يجعل الله طاعة لنبيه إلا في المعروف والمعروف طاعة، وقال ابن زيد: أمر(4/425)
الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وسالم بن أبي الجعد وأبي صالح وغير واحد: نهاهن يومئذ عن النوح، وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضاً. وقال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في هذه الآية ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة ولا تحدثن الرجال إلا رجلاً منكن محرماً، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله إن لنا أضيافاً وإنا نغيب عن نسائنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أولئك عنيت، ليس أولئك عنيت" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أخبرنا ابن أبي زائدة حدثني مبارك عن الحسن قال: كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا هارون عن عمرو عن عاصم عن ابن سيرين عن أم عطية الأنصارية قالت: كان فيما اشترط علينا رسول الله من المعروف حين بايعناه أن لا ننوح فقالت امرأة من بني فلان إن بني فلان أسعدوني فلا حتى أجزيهم، فانطلقت فأسعدتهم ثم جاءت فبايعت، قالت فما وفى منهن غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان أم أنس بن مالك. وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها. وقد روي نحوه من وجه آخر أيضاً قال: حدثنا ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن فروخ القتاب حدثني مصعب بن نوح الأنصاري قال: أدركت عجوزاً لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت فأتيته لأبايعه فأخذ علينا فيما أخذ أن لا تنحن، فقالت عجوز يا رسول الله إن أناساً قد كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني وإنهم قد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أسعدهم قال: "فانطلقي فكافئيهم" فانطلقت فكافأتهم ثم إنها أتته فبايعته وقال هو المعروف الذي قال الله عز وجل: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا القعنبي حدثنا الحجاج بن صفوان عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نعصيه في معروف أن لا نخمش وجهاً ولا ننشر شعراً ولا نشق جيباً ولا ندعوا ويلاً. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب، حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام على الباب وسلم علينا فرددن أو فرددنا عليه السلام، ثم قال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن قالت فقلنا: مرحباً برسول الله وبرسول رسول الله، فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئاً ولا تسرقن ولا تزنين، قالت: فقلنا نعم، قالت فمد يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهم اشهد، قالت، وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيض والعواتق ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنائز قال إسماعيل فسألت جدتي عن قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قالت: النياحة.
وفي الصحيحين من طريق الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" وفي الصحيحين أيضاً عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برىء من الصالقة والحالقة والشاقة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا هدبة بن خالد حدثنا أبان بن يزيد حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيداً حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت - وقال - النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم(4/426)
القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". ورواه مسلم في صحيحه منفرداً به من حديث أبان بن يزيد العطار به وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة رواه أبو داود. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن يزيد مولى الصهباء عن شهر بن حوشب عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال النوح، ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد عن أبي نعيم وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولى الصهباء به وقال الترمذي حسن غريب.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الْكُفّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}
ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها فقال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ} يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة أي من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. وقوله تعالى: {كَمَا يَئِسَ الْكُفّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} فيه قولان: أحدهما كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك لأنهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه. قال العوفي عن ابن عباس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} إلى آخر السورة يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل،وقال الحسن البصري {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} قال: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات، وقال قتادة: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا وكذا قال الضحاك، رواهن ابن جرير، والقول الثاني معناه كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير، قال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} قال كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه، وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وابن زيد والكلبي ومنصور، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
آخر تفسير سورة الممتحنة، ولله الحمد والمنة.(4/427)
سورة الصف
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وعن عطاء بن يسار،عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله، فلم يقم أحد منا فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلاً، فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف كلها، هكذا رواه الإمام أحمد وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي قراءة قال أخبرني أبي سمعت الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثني عبد الله بن سلام أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل، فلم يذهب إليه أحد منا وهبنا أن نسأله عن ذلك، قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلاً رجلاً حتى جمعهم ونزلت فيهم هذه السورة {سَبَّحَ لِلَّهِ} الصف. قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها. قال أبو سلمة: وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها. قال يحيى بن أبي كثير: وقرأها علينا أبو سلمة كلها. قال الأوزاعي وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها، قال أبي وقرأها علينا الأوزاعي كلها وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه فأنزل الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة فقرأها علينا ابن سلام، قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة، قال ابن كثير فقرأها علينا الأوزاعي، قال عبد الله فقرأها علينا ابن كثير. ثم قال الترمذي، وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي، فروى ابن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن سلام أو عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام، قلت: وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعمر عن ابن المبارك به، قال الترمذي وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي نحو رواية محمد بن كثير، قلت وكذا رواه الوليد بن يزيد عن الأوزاعي كما رواه ابن كثير، قلت وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه، وأنا أسمع، أخبرنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن اللتي، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حموية السرخسي، أخبرنا عيسى بن عمران السمرقندي. أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده، أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي فذكر بإسناده مثله، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار ولم يقرأها لأنه كان أمياً، وضاق الوقت عن تلقينها إياه ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي رحمه الله، أخبرنا القاضي تقي الدين بن سليمان بن الشيخ أبي عمر، أخبرنا أبو المنجا بن اللتي، فذكره بإسناده وتسلسل لي من طريقه وقرأها علي بكمالها ولله الحمد والمنة.(4/428)
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنّهُم بُنْيَانٌ مّرْصُوصٌ}
قد تقدم الكلام على قوله تعالى: {سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} غير مرة بما أغنى عن إعادته. وقوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} إنكار على من يعد وعداً أو يقول قولاً لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً، سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا، واحتجوا أيضاً من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان". وفي الحديث الآخر في الصحيح "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها" فذكر منهن إخلاف الوعد، وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صبي فذهبت لأخرج لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعالَ أعطك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أردت أن تعطيه؟" قالت: تمراً. فقال: "أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة" وذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى أنه إذا تعلق بالوعد غرم على الموعود وجب الوفاء به كما لو قال لغيره تزوج ولك علي كل يوم كذا فتزوج وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي وهو مبني على المضايقة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقاً، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم كقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أينما تكونوا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }. وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} الآية.
وهكذا هذه الآية معناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} وهذا اختيار ابن جرير: وقال مقاتل بن حيان: قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به، فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} فبين لهم فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين فأنزل الله في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}(4/429)
وقال: أحبكم إلي من قاتل في سبيلي. ومنهم من يقول: أنزلت في شأن القتال، يقول الرجل قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وضربت ولم يضرب وصبرت ولم يصبر. وقال قتادة والضحاك: نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون قتلنا وضربنا وطعنا وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك. وقال ابن زيد: نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك، وقال مالك عن زيد بن أسلم {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قال: في الجهاد. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ - إلى قوله - كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} فما بين ذلك في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة قالوا في مجلس لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت فأنزل الله تعالى هذا فيهم، فقال عبد الله بن رواحة لا أبرح حبيساً في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيداً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال: بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل كلهم قد قرأ القرآن، فقال أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم. وقال كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيناها غير أني قد حفظت منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوص} فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عباده المؤمنين إذا صفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هشيم، أخبرنا مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال" ورواه ابن ماجه من حديث مجالد عن أبي الوداك جبر بن نوف به وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا الأسود يعني ابن شيبان حدثني يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: قال مطرف كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه فلقيته، فقلت يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك، فقال: لله أبوك فقد لقيت فهات، فقلت كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة، قال أجل فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم قلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل ؟ فقال: رجل غزا في سبيل الله خرج محتسباً مجاهداً فلقي العدو فقتل وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وذكر الحديث هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق، وهذا اللفظ واختصره، وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر بأبسط من هذا السياق وأتم، وقد أوردناه في موضع آخر ولله الحمد. وعن كعب الأحبار أنه قال: يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: "عبدي المتوكل المختار ليس بفظ ولا غليط ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه الشام وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال، وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر،يوضون أطرافهم ويأتزرون على أنصافهم صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة" ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} رعاة الشمس يصلون الصلاة حيث أدركتهم لو على ظهر دابة. رواه ابن أبي حاتم. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال:(4/430)
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} أي ملتصق بعضه في بعض من الصف في القتال، وقال مقاتل بن حيان: ملتصق بعضه إلى بعض، وقال ابن عباس {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض.
وقال قتادة {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه. فكذلك الله عز وجل لا يحب أن يختلف أمره وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به، أورد ذلك كله ابن أبي حاتم، وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السكوني، حدثنا بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم عن يحيى بن جابر الطائي عن أبي بحرية قال: كانوا يكرهون القتال على الخيل ويستحبون القتال على الأرض لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} قال: وكان أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني ألتفت في الصف فجئوا في لحيي.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تّعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّا زَاغُوَاْ أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جَاءَهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ}
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تّعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ} أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر ولهذا قال "رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة والخذلان كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} ولهذا قال تعالى في هذه الآية {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} يعني التوراة قد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشراً بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة، وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب" ورواه مسلم من حديث الزهري به نحوه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: سمى لنا(4/431)
رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظنا فقال "أنا محمد وأنا أحمد والحاشر والمقفي ونبي الرحمة والتوبة والملحمة" ورواه مسلم من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به، وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الآية، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين} قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه. وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال: "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" وهذا إسناد جيد وروي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين" . وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك. قال "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام". وقال أحمد أيضاً: حدثنا حسن بن موسى، سمعت خديجاً أخا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلاً منهم عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن رواحة، وعثمان بن مظعون وأبو موسى، فأتوا النجاشي وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له: إن نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا قال: فأين هم؟ قالا: هم في أرضك فابعث إليهم فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه فسلم ولم يسجد فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك. قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل قال: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسوله فأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل وأمرنا بالصلاة والزكاة. قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفوك في عيسى ابن مريم، قال: ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه. قال: نقول كما قال الله عز وجل هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يعترضها ولد، قال: فرفع عوداً من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه، وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدراً، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته. قد رويت هذه القصة عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما وموضع ذلك كتاب السيرة والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث، وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم، وكذا على لسان عيسى ابن مريم، ولهذا قالوا: أخبرنا عن بدء أمرك يعني في الأرض قال: "دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ابن مريم ورؤيا أمي التي رأت" أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك،(4/432)
والإرهاص فذكره صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} قال ابن جريج وابن جرير {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} أحمد أي المبشر به في الأعصار المتقادمة المنوه بذكره في القرون السالفة. لما ظهر أمره وجاء بالبينات، قال الكفرة والمخالفون {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
يقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ} أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أنداداً وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ثم قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يحاولون أن يردوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفىء شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذاك ذلك مستحيل، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة براءة بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلّكمْ عَلَىَ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَىَ تُحِبّونَهَا نَصْرٌ مّن اللّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه، فأنزل الله تعالى هذه السورة ومن جملتها هذه الآية {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلّكمْ عَلَىَ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها، ثم قال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم الزلات وأدخلتكم الجنات والمساكن الطيبات والدرجات العاليات، ولهذا قال تعالى: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، ثم قال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها وهي {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه تكفل الله بنصركم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} وقوله تعالى: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي عاجل، فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة لمن أطاع الله ورسوله ونصر الله ودينه، ولهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.(4/433)
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُوَاْ أَنصَارَ اللّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنّصَارِيَ إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ فَآمَنَت طّآئِفَةٌ مّن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طّآئِفَةٌ فَأَيّدْنَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَىَ عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم وأن يستجيبوا لله ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي من معيني في الدعوة إلى الله عز وجل؟ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم أتباع عيسى عليه السلام {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أي نحن أنصارك على ما أرسلت به وموازروك على ذلك، ولهذا بعثهم دعاة إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيلين واليونانيين، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج: "من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي" حتى قيض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة فبايعوه ووازروه، وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه، وفوا له بما عاهدوا الله عليه، ولهذا سماهم الله ورسوله الأنصار وصار ذلك علماً عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقوله تعالى: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} أي لما بلغ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه وآزره من وازره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به وضلت طائفة، فخرجت عما جاءهم به وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وغلت فيه طائفة ممن اتبعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة وافترقوا فرقاً وشيعاً فمن قائل منهم: إنه ابن الله، وقائل إنه ثالث ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، ومن قائل إنه الله، وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء.
وقوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي عليهم، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن المنهال يعني ابن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلاً من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قال أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ قال: فقام شاب من أحدثهم سناً فقال: أنا. فقال له: اجلس. ثم عاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا، فقال له: اجلس, ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا، فقال: نعم أنت ذاك. قال: فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى عليه السلام من روزنة في البيت إلى السماء قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبيهه فقتلوه وصلبوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمنوا به، فتفرقوا فيه ثلاث فرق، فقالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى والطائفة التي آمنت في زمن عيسى {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين الكفار. هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة، وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه عن أبي كريب محمد بن العلاء عن(4/434)
أبي معاوية بمثله سواء، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح، والله أعلم.
آخر تفسير سورة الصف ولله الحمد والمنة.(4/435)
سورة الجمعة
وهي مدنية.
عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين، رواه مسلم في صحيحه.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض، أي من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} ثم قال تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} أي هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه، وهو المقدس، أي المنزه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم تفسيرهما غير مرة. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} الأميون هم العرب، كما قال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر، كما قال تعالى في قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به، وكذا قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقوله تعالى إخباراً عن القرآن: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته، صلوات الله وسلامه عليه، إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام بالآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة.
وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة على حين فترة من الرسل وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، أي نزراً يسيراً ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام، ولهذا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وذلك أن العرب كانوا قديماً متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام، فبدلوه(4/436)
وغيروه وقلبوه وخالفوه واستبدلوا بالتوحيد شركاً وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها، فبعث الله محمداً صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع، وجمع له تعالى وله الحمد والمنة جميع المحاسن ممن كان قبله وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين ولا يعطيه أحداً من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. وقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى: : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ} قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سُئل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال - أو رجل - من هؤلاء" ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير من طرق، عن ثور بن زيد الديلي عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة به، ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، لأنه فسر قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} بفارس، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم، يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى اتباع ما جاء به، ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال: هم الأعاجم وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو محمد عيسى ابن موسى عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" ثم قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} يعني بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره، وقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يعني ما أعطاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم من النبوة العظيمة وما خص به أمته من بعثته صلى الله عليه وسلم إليهم.
{مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُواْ التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ قُلْ يَأَيّهَا الّذِينَ هَادُوَاْ إِن زَعمْتُمْ أَنّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلّهِ مِن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ قُلْ إِنّ الْمَوْتَ الّذِي تَفِرّونَ مِنْهُ فَإِنّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمّ تُرَدّونَ إِلَىَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
يقول تعالى ذاماً لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها: مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً، أي كمثل الحمار إذا حمل كتباً لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملاً حسياً ولا يدري ما عليه، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه حفظوه لفظاً ولم يتفهموه ولا عملوا بمقتضاه، بل أولوه وحرفوه وبدلوه فهم أسوأ حالاً من الحمير، لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها، ولهذا قال(4/437)
تعالى في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وقال تعالى ههنا: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت ليس له جمعة" ثم قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي إن كنتم تزعمون أنكم على هدى، وأن محمداً وأصحابه على ضلالة، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين، أي فيما تزعمونه. قال الله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بما يعملون لهم من الكفر والظلم والفجور {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة على هذه المباهلة لليهود، حيث قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ، وقد أسلفنا الكلام هناك، وبينا أن المراد أن يدعوا على الضلال من أنفسهم أو خصومهم كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} ومباهلة المشركين في سورة مريم {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً}. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي، أبو زيد، حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال أبو جهل لعنه الله: إن رأيت محمداً عند الكعبة لأتينه حتى أطأ على عنقه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو فعل لأخذته الملائكة عياناً ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً" رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الكريم، قال البخاري وتبعه عمرو بن خالد عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم، ورواه النسائي أيضاً عن عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي عن عبيد الله بن عمرو الرقي به أتم.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} كقوله تعالى في سورة النساء {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وفي معجم الطبراني من حديث معاذ بن محمد الهذلي عن يونس عن الحسن عن سمرة مرفوعاً "مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره فقالت له الأرض ياثعلب ديني، فخرج له حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات".
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}
إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار، وفيه كمل جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها(4/438)
خيراً إلا أعطاه إياه، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عبيدة بن حميد عن منصور عن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة عن قرتع الضبي، حدثنا سلمان قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان ما يوم الجمعة؟" قلت: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم - أو أبوكم " وقد روي عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا فالله أعلم. وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة، وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدىء فيه الخلق، واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد" لفظ البخاري وفي لفظ لمسلم "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق". وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي ههنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها {فامضوا إلى ذكر الله} فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه لما أخرجاه في الصحيحين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" لفظ البخاري وعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: "ما شأنكم؟" قالوا: استعجلنا إلى الصلاة قال "فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" أخرجاه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها تمشون، وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". رواه الترمذي من حديث عبد الرزاق كذلك، وأخرجه من طريق يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بمثله، قال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة في قوله: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} يعني أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها، وكان يتأول قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي المشي معه، وروي عن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وغيرهما نحو ذلك.
ويستحب لمن جاء إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" ولهما عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده" رواه مسلم، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة" رواه أحمد والنسائي وابن حبان. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن(4/439)
أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها" وهذا الحديث له طرق وألفاظ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحسنه الترمذي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" أخرجاه. ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ويتنظف ويتسوك وينتظف ويتطهر. وفي حديث أبي سعيد المتقدم "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من طيب أهله" وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن عمران بن أبي يحيى، عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بداله ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى".
وفي سنن أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته" وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النمار فقال: "ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته" رواه ابن ماجه. وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه فهذا هو المراد، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنما كان هذا لكثرة الناس كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال: حدثنا آدم هو ابن أبي إياس، حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس، زاد النداء الثاني على الزوراء يعني يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء، وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم، حدثنا محمد بن راشد المكحولي عن مكحول أن النداء كان في الجمعة مؤذن واحد، حين يخرج الإمام ثم تقام الصلاة وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به، فأمر عثمان رضي الله عنه أن ينادي قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس. وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان، ويعذر المسافر والمريض وقيّم المريض وما أشبه ذلك من الأعذار، كما هو مقرر في كتب الفروع.
وقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة، ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني، واختلفوا هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا؟ على قولين وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم. وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم أي في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون. وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} أي فرغ منها {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}.(4/440)
لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، كما كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين، رواه ابن أبي حاتم. وروي عن بعض السلف أن قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة لقول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم اذكروا الله ذكراً كثيراً، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة، ولهذا جاء في الحديث "من دخل سوقاً من الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحي عنه ألف ألف سيئة" وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ مّنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ}
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} أي على المنبر تخطب، هكذا ذكره غير واحد من التابعين، منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة، وزعم مقاتل بن حيان أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم، وكان معها طبل فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر إلا القليل منهم، وقد صح بذلك الخبر فقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إدريس عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: قدمت عير مرة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً فنزلت {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا} أخرجاه في الصحيحين من حديث سالم به. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا هشيم عن حصين عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً" ونزلت هذه الآية {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} وقال: كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائماً. وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس، ولكن ههنا شيء ينبغي أن يعلم وهو: أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل، حدثنا محمود بن خالد عن الوليد، أخبرني أبو معاذ بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة، يعني فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير وقوله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} أي الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته.
آخر تفسير سورة الجمعة ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.(4/441)
سورة المنافقون
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتّخَذُوَاْ أَيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ آمَنُواّ ثُمّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنّهُمْ خُشُبٌ مّسَنّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن المنافقين أنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك بل على الضد من ذلك، ولهذا قال تعالى: {إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ} أي إذا حضروا عندك واجهوك بذلك، وأظهروا لك ذلك، وليس كما يقولون، ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله فقال: {وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ} ثم قال تعالى: {وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أي فيما أخبروا به وإن كان مطابقاً للخارج لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه، ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم. وقوله تعالى: {اتّخَذُوَاْ أَيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحلفان الآثمة ليصدقوا فيما يقولون، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خبالاً، فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس، ولهذا قال تعالى: {فَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} ولهذا كان الضحاك بن مزاحم يقرؤها {اتّخَذُوَاْ أَيْمَانَهُمْ جُنّةً} أي تصديقهم الظاهر جنة أي تقية يتقون به القتل، والجمهور يقرؤها {أَيْمَانَهُم} جمع يمين، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} أي إنما قدر عليهم النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران، واستبدالهم الضلالة بالهدى، فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون. أي فلا يصل إلى قلوبهم هدى ولا يخلص إليها خير فلا تعي ولا تهتدي.
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن، ولهذا قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم كما قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} فهم جهامات وصور بلا معاني، ولهذا قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ(4/442)
فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا عبد الملك بن قدامة الجمحي عن إسحاق بن بكير بن أبي الفرات عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول ولا يقربون المساجد إلا هجراً، ولا يأتون الصلاة إلا دبراً، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل صخب بالنهار" وقال يزيد بن مرة: سخب بالنهار.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىَ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّىَ يَنفَضّواْ وَلِلّهِ خَزَآئِنُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْهَا الأذَلّ وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}.
يقول تعالى مخبراً عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْاْ رُءُوسَهُمْ} أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم، ولهذا قال تعالى: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ} ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ} كما قال في سورة براءة، وقد تقدم الكلام على ذلك وإيراد الأحاديث المروية هنالك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان {لَوّوْاْ رُءُوسَهُمْ} قال ابن أبي عمر: وحوّل سفيان وجهه على يمينه ونظر شزراً ثم قال: هو هذا. وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول كما سنورده قريباً إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان. وقد قال محمد بن إسحاق في السيرة: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، يعني مرجعه من أحد، وكان عبد الله بن أبي بن سلول كما حدثني ابن شهاب الزهري له مقام يقومه كل جمعة، لا ينكر شرفاً له من نفسه ومن قومه، وكان فيهم شريفاً، إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع، يعني مرجعه بثلث الجيش ورجع الناس، قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس، أي عدو الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجراً أأن قمت أشدد أمره، فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك ؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني، لكأنما قلت بجراً أأن قمت أشدد أمره. قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي، وقال قتادة والسدي: أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي، وذلك أن غلاماً من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بحديث عنه وأمر شديد، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا(4/443)
هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه، وأنزل الله فيه ما تسمعون، وقيل لعدو الله: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يلوي رأسه، أي لست فاعلاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل حتى يصلي فيه، فلما كانت غزوة تبوك بلغه أن عبد الله بن أبي بن سلول قال: ليخرجن الأعز منها الأذل، فارتحل فبل أن ينزل آخر النهار، وقيل لعبد الله بن أبي: ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ - إلى قوله - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير. وقوله: إن ذلك كان في غزوة تبوك فيه نظر بل ليس بجيد، فإن عبد الله بن أبي بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل رجع بطائفة من الجيش، وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري، وكان أجيراً لعمر بن الخطاب وسنان بن وبر قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا، فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي، فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا، والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها، فسمعها زيد بن أرقم رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو غليم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبره الخبر، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه، لا، ولكن ناد يا عمر الرحيل" فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال، ما قال عليه زيد بن أرقم، وكان عند قومه بمكان فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل. وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال: والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل" قال: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل. ثم قال: ارفق به يا رسول الله، فو الله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكاً، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا، وصدر يومه حتى اشتد الضحى ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقين. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بشر بن موسى، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمر بن دينار، سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار: فقال الأنصاري: ياللأنصار! وقال المهاجرين يا للمهاجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة". وقال عبد الله بن أبي بن سلول: وقد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال جابر: وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كثر المهاجرون بعد ذلك، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي(4/444)
صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه".
ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد المروزي عن سفيان بن عيينة، ورواه البخاري عن الحميدي ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان به نحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن محمد بن كعب القرظي عن زيد بن أرقم قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك، قال: فلامني قومي وقالوا: ما أردت إلى هذا ؟ قال: فانطلقت فنمت كئيباً حزيناً، قال: فأرسل إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله قد أنزل عذرك وصدقك" قال: فنزلت هذه الآية {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا - حتى بلغ - لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} ورواه البخاري عند هذه الآية عن آدم بن أبي إياس عن شعبة، ثم قال: وقال ابن أبي زائدة عن الأعمش عن عمرو عن ابن أبي ليلى عن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضاً من حديث شعبة به.
(طريق أخرى عن زيد) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم، وقال ابن أبي بكير عن زيد بن أرقم قال: خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته، فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت فقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك! قال حتى أنزل الله {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال: فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثم قال: "إن الله قد صدقك". ثم قال أحمد أيضاً: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من حوله، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد يا رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا فأنزل الله تصديقي {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} قال كانوا رجالاً أجمل شيء، وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث زهير ورواه البخاري أيضاً والترمذي من حديث إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي عن زيد به. (طريق أخرى عن زيد) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي سعيد الأزدي، قال: حدثنا زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أناس من الأعراب، فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقوننا إليه فسبق أعرابي أصحابه ليملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار الأعرابي فأرخى زمام ناقته لتشرب، فأبى أن يدعه فانتزع حجراً فغاض الماء، فرفع الأعرابي خشبته فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره، وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله(4/445)
حتى ينفضوا من حوله، يعني الأعراب، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، فقال عبد الله لأصحابه: إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن معه، ثم قال لأصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل. قال زيد وأنا ردف عمي، قال فسمعت عبد الله بن أبي يقول ما قال، فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد، قال فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، قال فجاء إلي عمي فقال ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمسلمون، قال فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط، قال فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وقد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن أبا بكر لحقني وقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: ما قال شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر، فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين. انفرد بإخراجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى به، وزاد بعد قوله سورة المنافقين {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ - حتى بلغ - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا - حتى بلغ - لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}.
وقد روى عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عروة بن الزبير في المغازي، وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضاً هذه القصة بهذا السياق، ولكن جعلا الذي بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عبد الله بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أرقم من بني الحارث بن الخزرج، فلعله مبلغ آخر أو تصحيف من جهة السمع والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عزيز الأيلي، حدثني سلامة، حدثني عقيل، أخبرني محمد بن مسلم أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع، وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة، فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك أحدهما من المهاجرين والآخر من بهز، وهم حلفاء الأنصار، فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي فقال البهزي: يا معشر الأنصار، فنصره رجال من الأنصار، وقال المهاجري: يا معشر المهاجرين، فنصره رجال من المهاجرين حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال، ثم حجز بينهم فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبد الله بن أبي بن سلول فقال: قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع، قد تناصرت علينا الجلابيب وكانوا يدعون كل حديث الهجرة الجلابيب، فقال عبد الله بن أبي عدو الله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال مالك بن الدخشن وكان من المنافقين: ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، فسمع بذلك عمر بن الخطاب فأقبل يمشي حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه، يريد عمر عبد الله بن أبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟" قال عمر: نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس" فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الأنصار ثم أحد بني عبد الأشهل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟" قال: نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قرط أذنيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آذنوا بالرحيل" فهجر بالناس فسار يومه وليلته والغد حتى متع النهار، ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح(4/446)
بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المشلل. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟" قال عمر: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه، فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبراً" وأنزل الله عز وجل {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا - إلى قوله تعالى - يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} الآية. وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا". وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة، واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك! فقال: مالك ويلك؟ فقال: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه، فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن. وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا أبو هارون المدني قال: قال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول لأبيه: والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل، قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فو الذي بعثك بالحق، ما تأملت وجهه قط هيبة له، ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلآ أَخّرْتَنِيَ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصّدّقَ وَأَكُن مّنَ الصّالِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ اللّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
يقول تعالى آمراً لعباده المؤمنين بكثرة ذكره، وناهياً لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك، ومخبراً لهم بأنه من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال: {وَأَنفِقُواْ مِن مّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلآ أَخّرْتَنِيَ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصّدّقَ وَأَكُن مّنَ الصّالِحِينَ} فكل مفرط يندم عند الاحتضار ويسأل طول المدة ولو شيئاً يسيراً ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات، كان ما كان وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه، أما الكفار فكما قال تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ(4/447)
زَوَالٍ} وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. ثم قال تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي لا ينظر أحداً بعد حلول أجله. وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقاً في قوله وسؤاله ممن لورد لعاد إلى شر مما كان عليه ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو جناب الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: سأتلو عليك بذلك قرآناً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ - إلى قوله تعالى - وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعداً، قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والبعير. ثم قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن أبي حية وهو أبو جناب الكلبي عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ثم قال: وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره عن أبي جناب عن الضحاك عن ابن عباس من قوله وهو أصح، وضعف أبا جناب الكلبي. قلت: ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة الجهني عن عمه يعني أبا مشجعة بن ربعي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال "إن الله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له فيلحقه دعاؤهم في قبره".
آخر تفسير سورة المنافقين. ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.(4/448)
سورة التغابن
...
No pages(4/)
سورة الطلاق
...
No pages(4/)
سورة التحريم
...
No pages(4/)
سورة الملك
سورة القلم
...
No pages(4/)
سورة الحاقة
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الْحَاقّةُ مَا الْحَآقّةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقّةُ كَذّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطّاغِيَةِ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىَ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَىَ لَهُم مّن بَاقِيَةٍ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رّابِيَةً إِنّا لَمّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}
الْحَاقّةُ من أسماء يوم القيامة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ولهذا عظم الله أمرها فقال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقّةُ} ثم ذكر تعالى إهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى: {فَأَمّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطّاغِيَةِ} وهي الصيحة التي أسكتتهم والزلزلة التي أسكنتهم، هكذا قال قتادة الطاغية الصيحة، وهو اختيار ابن جرير، وقال مجاهد: الطاغية الذنوب، وكذا قال الربيع بن أنس وابن زيد إنها الطغيان وقرأ ابن زيد {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} وقال السدي فأهلكوا بالطاغية قال يعني عاقر الناقة {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي باردة قال قتادة والسدي والربيع بن أنس والثوري {عَاتِيَةٍ} أي شديدة الهبوب، قال قتادة. عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم. وقال الضحاك: {صَرْصَرٍ} باردة {عَاتِيَةٍ} عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، وقال علي وغيره: عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب. {سَخّرَهَا عَلَيْهِمْ} أي سلطها عليهم {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً} أي كوامل متتابعات مشائيم، قال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة والثوري وغيرهم: حسوماً متتابعات، وعن عكرمة والربيع بن خثيم مشائيم عليهم كقوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} قال الربيع: وكان أولها الجمعة وقال غيره الأربعاء، ويقال إنها التي تسميها الناس الأعجاز، وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وقيل لأنها تكون في عجز الشتاء، ويقال أيام العجوز لأن عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً فقتلها الريح في اليوم الثامن، حكاه البغوي والله أعلم.
قال ابن عباس: {خَاوِيَة} خربة، وقال غيره: بالية أي جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتاً على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان. وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن يحيى بن الضريس العبدي حدثنا ابن فضيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فتح الله على عاد من الريح التي هلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم فجعلتهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما(4/497)
فيها قالوا هذا عارض ممطرنا، فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة" وقال الثوري عن ليث عن مجاهد: الريح لها جناحان وذنب {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} أي هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب إليهم بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خلفاً. ثم قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قرىء بكسر القاف أي ومن عنده ممن في زمانه من أتباعه من كفار القبط، وقرأ آخرون بفتحها أي ومن قبله من الأمم المشبهين له. وقوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} وهم الأمم المكذبون بالرسل {بِالْخَاطِئَةِ} وهي التكذيب بما أنزل الله قال الربيع: {بِالْخَاطِئَةِ} أي بالمعصية، وقال مجاهد: بالخطايا، ولهذا قال تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} وهذا جنس أي كل كذب رسول الله إليهم كما قال تعالى {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} ومن كذب برسول فقد كذب بالجميع كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد ولهذا قال ههنا: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي عظيمة شديدة أليمة، قال مجاهد: رابية شديدة، وقال السدي: مهلكة.
ثم قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} أي زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود، وقال ابن عباس وغيره: طغى الماء كثر، وذلك بسبب دعوة نوح عليه السلام على قومه حين كذبوه وخالفوه، فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعم أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران عن أبي سنان سعيد بن سنان عن غير واحد عن علي بن أبي طالب قال: لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان، فخرج فذلك قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} أي زاد على الحد بإذن الله {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة} ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} أي عتت على الخزان، ولهذا قال تعالى ممتناً على الناس: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وهي السفينة الجارية على وجه الماء {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه أي وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار كما قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}. وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} وقال قتادة: أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة، والأول أظهر ولهذا قال تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي وتفهم هذه النعمة وتذكرها أذن واعية، قال ابن عباس: حافظة سامعة. وقال قتادة: {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله، وقال الضحاك {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} سمعتها أذن ووعت أي من له سمع صحيح وعقل رجيح، وهذا عام في كل من فهم ووعى. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد بن صبيح الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى، حدثنا علي بن حوشب: سمعت مكحولاً يقول: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي أن يجعلها أذن علي" قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فنسيته، وهكذا رواه ابن جرير عن علي بن سهل عن الوليد بن مسلم عن علي بن حوشب عن مكحول به وهو حديث مرسل. وقد قال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا جعفر بن محمد بن عامر، حدثنا بشر بن آدم، حدثنا عبد الله بن الزبير أبو محمد يعني والد أبي أحمد الزبيري، حدثني صالح بن الهيثم: سمعت بريدة الأسلمي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي "إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي(4/498)
وحق لك أن تعي" قال: فنزلت هذه الآية {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف عن بشر بن آدم به. ثم رواه ابن جرير من طريق آخر عن أبي داود الأعمى عن بريدة به ولا يصح أيضاً.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكّتَا دَكّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقّتِ السّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَىَ أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىَ مِنكُمْ خَافِيَةٌ}
يقول تعالى مخبراً عن أهوال يوم القيامة وأول ذلك نفخة الفزع ثم يعقبها نفخة الصعق حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث والنشور وهي هذه النفخة، وقد أكدها ههنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد، وقال الربيع: هي النفخة الأخيرة والظاهر ما قلناه، ولهذا قال ههنا: {وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكّتَا دَكّةً وَاحِدَةً} أي فمدت مد الأديم العكاظي وتبدلت الأرض غير الأرض {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} قال سماك عن شيخ من بني أسد عن علي قال: تنشق السماء من المجرة، رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جريج: هي كقوله {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} وقال ابن عباس: متخرقة والعرش بحذائها {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} الملك اسم جنس أي الملائكة على أرجاء السماء، قال ابن عباس: على ما لم يهِ منها أي حافاتها، وكذا قال سعيد بن جبير والأوزاعي، وقال الضحاك: أطرافها، وقال الحسن البصري: أبوابها، وقال الربيع بن أنس في قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يقول: على ما استدق من السماء ينظرون إلى أهل الأرض. وقوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العظيم أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب. وفي حديث عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب في ذكر حملة العرش أنهم ثمانية أوعال، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد، حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو السمح البصري، حدثنا أبو قبيل حيي بن هانىء أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينه مسيرة مائة عام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: كتب إلي أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري، حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش بعد ما بين شحمة أذنه وعنقه مخفق الطير سبعمائة عام" وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات، وقد رواه أبو داود في كتاب السنة من سننه، حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" هذا لفظ أبي داود.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} قال: ثمانية صفوف من الملائكة قال: وروي عن الشعبي وعكرمة والضحاك وابن جريج مثل ذلك، وكذا روى السدي عن أبي مالك عن ابن(4/499)
عباس: ثمانية صفوف، وكذا روى العوفي عنه، وقال الضحاك عن ابن عباس: الكروبيون ثمانية أجزاء كل جزء منهم بعدة الإنس والجن والشياطين والملائكة. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر، ولهذا قال تعالى: {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَة} وقد قال ابن أبي الدنيا: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل، أخبرنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا علي بن رفاعة عن الحسن عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع به وقد رواه الترمذي عن أبي كريب عن علي بن علي بن الحسن عن أبي هريرة به، وقد روى ابن جرير عن مجاهد بن موسى عن يزيد بن سليمان بن حيان عن مروان الأصغر عن أبي وائل عن عبد الله قال: يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: عرضتان معاذير وخصومات، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً مثله.
{فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ}
يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه وفرحه بذلك، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه {هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ} أي خذوا اقرءا كتابيه لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة، لأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات. قال عبد الرحمن بن زيد: معنى {هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ} أي هااقرءوا كتابيه وؤم زائدة كذا قال، والظاهر أنها بمعنى هاكم.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا بشر بن مطر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم الأحول عن أبي عثمان قال: المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله فيقرأ سيئاته، فكلما قرأ سيئة تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات، قال: فعند ذلك يقول: هاؤم اقرءوا كتابيه. وحدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني عبد الله بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي أي يظهر سيئاته في ظهر صحيفته فيقول له أنت عملت هذا، فيقول نعم أي رب، فيقول له إني لم أفضحك به وإني قد غفرت لك فيقول عند ذلك هاؤم اقرءوا كتابيه {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} حين نجا من فضيحته يوم القيامة. وقد تقدم في الصحيح حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدني الله العبد يوم القيامة فيقرره بذنوبه كلها حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله تعالى إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" وقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} أي قد كنت موقناً في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} قال(4/500)
الله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي مرضية {فِي جَنَّةٍ عَالِيَة} أي رفيعة قصورها، حسان حورها، نعيمة دورها، دائم حبورها.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو عتبة الحسن بن علي بن مسلم السكوني، حدثنا إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام الأسود قال: سمعت أبا أمامة قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتزاور أهل الجنة ؟ قال "نعم إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى فيحيونهم ويسلمون عليهم، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين تقصر بهم أعمالهم". وقد ثبت في الصحيح "إن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض". وقوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قال البراء بن عازب: أي قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره، وكذا قال غير واحد. قال الطبراني عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عطاء بن يسار عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية" وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من طريق سعدان بن سعيد عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعطى المؤمن جوازاً على الصراط: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية" وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} أي يقال لهم ذلك تفضلاً عليهم وامتناناً وإنعاماً وإحساناً، وإلا فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً منكم لن يدخله عمله الجنة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
{وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَىَ عَنّي مَالِيَهْ هّلَكَ عَنّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلّوهُ ثُمّ الْجَحِيمَ صَلّوهُ ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضّ عَلَىَ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ لاّ يَأْكُلُهُ إِلاّ الْخَاطِئُونَ}
وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العرصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} قال الضحاك: يعني موتة لا حياة بعدها، وكذا قال محمد بن كعب والربيع والسدي، وقال قتادة: تمنى الموت ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه، بل خلص الأمر إلي وحدي فلا معين لي ولا مجير، فعندها يقول الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أي يأمر الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر فتغله أي تضع الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها أي تغمره فيها. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد عن عمرو بن قيس عن المنهال بن عمرو قال: إذا قال الله تعالى خذوه ابتدره سبعون ألف ملك، إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفاً في النار. وروى ابن أبي الدنيا في الأهوال أنه يبتدره أربعمائة ألف ولا يبقى شيء إلا دقه، فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: إن الرب عليك غضبان فكل شيء غضبان عليك، وقال الفضيل بن عياض: إذا(4/501)
قال الرب عز وجل خذوه فغلوه ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أي اغمروه فيها.
وقوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوه} قال كعب الأحبار: كل حلقة منها قدر حديد الدنيا، وقال العوفي عن ابن عباس وابن جريج: بذراع الملك، وقال ابن جريج: قال ابن عباس {فَاسْلُكُوهُ} تدخل في أسته ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى. وقال العوفي عن ابن عباس: يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه. وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى جمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها" وأخرجه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به، وقال: هذا حديث حسن. وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم، فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، وللعباد بعضهم على بعض حق الإحسان والمعاونة على البر والتقوى، ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" وقوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} أي ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله تعالى لا حميم وهو القريب، ولا شفيع يطاع، ولا طعام له ههنا إلا من غسلين، قال قتادة: هو شر طعام أهل النار. وقال الربيع والضحاك: هو شجرة في جهنم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا أبو سعيد المؤدب عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس قال: ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال: الغسلين الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه: الغسلين صديد أهل النار.
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ تَنزِيلٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ}
يقول تعالى مقسماً لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم: إن القرآن كلامه ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة فقال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أضافه إليه على معنى التبليغ، لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} وهذا جبريل عليه السلام، ثم قال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} يعني أن محمداً رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي بمتهم. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم} وهكذا قال ههنا {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} فأضافه الله تارة إلى قول الرسول الملكي وتارة إلى الرسول البشري، لأن كلاً منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه، ولهذا قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شريح بن عبيد قال: قال عمر بن الخطاب: خرجت(4/502)
أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن قال: فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} قال: فقلت كاهن، قال: فقرأ {ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} إلى آخر السورة قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موضع، فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة، ولله الحمد والمنة.
{وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتّقِينَ وَإِنّا لَنَعْلَمُ أَنّ مِنكُمْ مّكَذّبِينَ وَإِنّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنّهُ لَحَقّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ}
يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا} أي محمد صلى الله عليه وسلم لو كان كما يزعمون مفترياً علينا فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئاً من عنده فنسبه إلينا وليس كذلك لعاجلناه بالعقوبة، ولهذا قال تعالى: {لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين} قيل: معناه لانتقمنا منه باليمين لأنها أشد في البطش، وقيل لأخذنا منه بيمينه {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} قال ابن عباس: وهو نياط القلب وهو العرق الذي القلب معلق فيه، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحكم وقتادة والضحاك، ومسلم البطين وأبو صخر حميد بن زياد، وقال محمد بن كعب هو القلب ومراقه وما يليه. وقوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أي فما يقدر أحد منكم أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئاً من ذلك. والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد لأن الله عز وجل مقرر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات. ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} يعني القرآن كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِم عَمىً} ثم قال تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} أي مع هذا البيان والوضوح سيوجد منكم من يكذب بالقرآن. ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال ابن جرير: وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة. وحكاه عن قتادة بمثله، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} يقول لندامة، ويحتمل عود الضمير على القرآن، أي وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين كما قال تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وقال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ولهذا قال ههنا {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي الخبر الصادق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب، ثم قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم} أي الذي أنزل هذا القرآن العظيم.
آخر تفسير سورة الحاقة ولله الحمد والمنة.(4/503)
سورة المعارج
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مّنَ اللّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً}
{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} فيه تضمين دل عليه حرف الباء كأنه مقدر استعجل سائل بعذاب واقع كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي وعذابه واقع لا محالة. قال النسائي: حدثنا بشر بن خالد، حدثنا أبو أسامة حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قال النضر بن الحارث بن كلدة وقال العوفي عن ابن عباس {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قال: ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ} دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة قال وهو قولهم {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقال ابن زيد وغيره {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع} أي واد في جهنم يسيل يوم القيامة بالعذاب وهذا القول ضعيف بعيد عن المراد، والصحيح الأول لدلالة السياق عليه.
وقوله تعالى: {وَاقِعٍ لّلْكَافِرِينَ} أي مرصد معد للكافرين، وقال ابن عباس: واقع جاء {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} أي لا دافع له إذا أراد الله كونه ولهذا قال تعالى: { مّنَ اللّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } قال الثوري عن الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ} قال: ذو الدرجات، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ذي المعارج يعني العلو والفواضل، وقال مجاهد: ذي المعارج معارج السماء، وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم. وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة تعرج تصعد، وأما الروح فقال أبو صالح: هم خلق من خلق الله يشبهون الناس وليسوا ناساً، قلت ويحتمل أن يكون المراد به جبريل ويكون من باب عطف الخاص على العام، ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم فإنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء كما دل عليه حديث البراء، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال عن زاذان عن البراء مرفوعاً الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة قال فيه: "فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله" والله أعلم بصحته، فقد تكلم في بعض رواته ولكنه مشهور، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من طريق ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عنه، وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا(4/504)
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
وقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فيه أربعة أقوال:[أحدها] أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة، وكذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة، وإنه من ياقوتة حمراء كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الآية: حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا حكام عن عمر بن معروف عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسين ألف سنة {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} يعني بذلك حين ينزل الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمائة عام وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن حكام بن سالم عن عمرو بن معروف عن ليث عن مجاهد قوله، لم يذكر ابن عباس وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا نوح المؤدب عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس قال: غلظ كل أرض خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، فذلك سبعة آلاف عام، وغلظ كل سماء خمسمائة عام وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}. (القول الثاني) أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: الدنيا عمرها خمسون ألف سنة، وذلك عمرها يوم سماها الله عز وجل يوماً {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} قال: اليوم الدنيا، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن الحكم بن أبان عن عكرمة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة لا يدري أحد كم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل. (القول الثالث) أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة وهو قول غريب جداً.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا بهلول بن المورق، حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني محمد بن كعب {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة. (القول الرابع) أن المراد بذلك يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: يوم القيامة وإسناده صحيح ورواه الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يوم القيامة وكذا قال الضحاك وابن زيد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: هو يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة وقد وردت أحاديث في معنى ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ما أطول هذا اليوم، فقال رسول الله: "والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" ورواه ابن جرير عن يونس(4/505)
عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به، إلا أن دراجاً وشيخه أبا الهيثم ضعيفان والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي عمر العداني قال: كنت عند أبي هريرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة فقيل له هذا أكثر عامري مالاً، فقال أبو هريرة، ردوه إلي فردوه فقال: نبئت أنك ذو مال كثير. فقال العامري: إي والله إن لي لمائة حمراً ومائة أدماً حتى عد من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل، فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل وأظلاف النعم، يردد ذلك عليه حتى جعل لون العامري يتغير فقال: ما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت له إبل لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها" قلنا: يا رسول الله ما نجدتها ورسلها؟ قال: "في عسرها ويسرها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدها عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله" فقال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة وتمنح وتفقر الظهر وتسقي الإبل وتطرق الفحل وقد رواه أبو داود من حديث شعبة والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة به. (طريق أخرى لهذا الحديث) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم، وفيه: "الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر" إلى آخره ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفرداً به دون البخاري من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة من كتاب الأحكام، والغرض من إيراده ههنا قوله: "حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية وعبد الوهاب عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن قوله {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قال فاتهمه، فقال: إنما سألتك لتحدثني، قال، هما يومان ذكرهما الله، والله أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم. وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} أي اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك واستعجالهم العذاب استبعاداً لوقوعه كقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} ولهذا قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} أي وقوع العذاب. وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع بمعنى مستحيل الوقوع {وَنَرَاهُ قَرِيباً} أي المؤمنون يعتقدون كونه قريباً، ، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة.(4/506)
{يَوْمَ تَكُونُ السّمَآءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصّرُونَهُمْ يَوَدّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الّتِي تُؤْوِيهِ وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ يُنجِيهِ كَلاّ إِنّهَا لَظَىَ نَزّاعَةً لّلشّوَىَ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلّىَ وَجَمَعَ فَأَوْعَىَ}
يقول تعالى العذاب واقع بالكافرين: {يَوْمَ تَكُونُ السّمَآءُ كَالْمُهْلِ} قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وغير واحد: أي كدردي الزيت {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أي كالصوف المنفوش، قاله مجاهد وقتادة و السدي، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوش} وقوله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} أي لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره، قال العوفي عن ابن عباس: يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون بينهم ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك يقول الله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وكقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وكقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وكقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وقوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا} أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض وبأعز ما يجده من المال ولو بملء الأرض ذهباً، أو من ولده الذي كان في الدنيا حشاشة كبده يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به ولا يقبل منه. قال مجاهد والسدي {وَفَصِيلَتِهِ} قبيلته وعشيرته، وقال عكرمة: فخذه الذي هو منهم، وقال أشهب عن مالك: فصيلته: أمه.
قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} يصف النار وشدة حرها {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} قال ابن عباس ومجاهد: جلدة الرأس، وقال العوفي عن ابن عباس {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} الجلود والهام، وقال مجاهد: ما دون العظم من اللحم، وقال سعيد بن جبير: للعصب والعقب. وقال أبو صالح {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} يعني أطراف اليدين والرجلين، وقال أيضاً {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} لحم الساقين، وقال الحسن البصري وثابت البناني {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} أي مكارم وجهه، وقال الحسن أيضاً: تحرق كل شيء فيه ويبقى فؤاده يصيح. وقال قتادة {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} أي نزاعة لهامته ومكارم وجهه وخلقه وأطرافه. وقال الضحاك: تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً، وقال ابن زيد: الشوى الاَراب العظام، فقوله نزاعة قال: تقطع عظامهم ثم تبدل جلودهم وخلقهم. وقوله تعالى: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أي تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان اطلق ذلق ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب، وذلك أنهم كما قال الله عز وجل: كانوا ممن أدبر وتولى أي كذب بقلبه وترك العمل بجوارحه {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أي جمع المال بعضه على بعض فأوعاه أي أوكاه ومنع حق الله منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة، وقد ورد في الحديث "لا توعي فيوعي الله عليك" وكان عبد الله بن عكيم لا يربط له كيساً ويقول: سمعت الله يقول: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} وقال الحسن البصري: يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا. وقال قتادة في قوله: {وجمع فأوعى} قال: كان جموعاً قموماً للخبيث.(4/507)
{إِنّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاّ الْمُصَلّينَ الّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ وَالّذِينَ فِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ مّعْلُومٌ لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ وَالّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مّشْفِقُونَ إِنّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاّ عَلَىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىَ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِي جَنّاتٍ مّكْرَمُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة {إِنّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} ثم فسره بقوله: {إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً} أي إذا مسه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير {وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا} أي إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله تعالى فيها. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن علي بن رباح، سمعت أبي يحدث عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شر ما في رجل: شح هالع وجبن خالع" ورواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح عن أبي عبد الرحمن المقري به وليس لعبد العزيز عنده سواه ثم قال تعالى: {إِلاّ الْمُصَلّينَ} أي الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم، إلا من عصمه الله ووفقه وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه وهم المصلون. {الّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} قيل: معناه يحافظون على أوقاتهاوواجباتها، قاله ابن مسعود ومسروق وإبراهيم النخعي، وقيل: المراد بالدوام ههنا السكون والخشوع كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قاله عقبة بن عامر: ومنه الماء الدائم وهو الساكن الراكد، وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده ليس بدائم على صلاته، لأنه لم يسكن فيها ولم يدم بل ينقرها نقر الغراب فلا يفلح في صلاته، وقيل: المراد بذلك الذين إذا عملوا عملاً داوموا عليه وأثبتوه كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " وفي لفظ "ما دام عليه صاحبه" قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً داوم عليه، وفي لفظ أثبته، وقال قتادة في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} ذكر لنا أن دانيال عليه السلام نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يصلون صلاة لو صلاّها قوم نوح ما غرقوا، أو قوم عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة، فعليكم بالصلاة فإنها خلق للمؤمنين حسن.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أي في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الذاريات. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب. ولهذا قال تعالى: {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} أي خائفون وجلون { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه ولهذا قال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي من الإماء {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وقد(4/508)
تقدم تفسير هذا في أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، وهذه صفات المؤمنين وضدها صفات المنافقين كما ورد في الحديث الصحيح "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وفي رواية "إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} أي محافظون عليها لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها ولا يكتمونها {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها كما تقدم في أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} سواء ولهذا قال هناك: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال ههنا: {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أي مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.
{فَمَالِ الّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنّةَ نَعِيمٍ كَلاّ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّمّا يَعْلَمُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنّا لَقَادِرُونَ عَلَىَ أَن نّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنّهُمْ إِلَىَ نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ}
يقول تعالى منكراً على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم مع هذا كله فارون منه متفرقون عنه، شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً، وشيعاً شيعاً، كما قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} الآية. وهذه مثلها فإنه قال تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أي فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين أي مسرعين نافرين منك، كما قال الحسن البصري: مهطعين أي منطلقين {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} واحدها عزة أي متفرقين، وهو حال من مهطعين أي في حال تفرقهم واختلافهم كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب متفقون على مخالفة الكتاب وقال العوفي عن ابن عباس {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}، قال قبلك ينظرون {عن اليمين وعن الشمال عزين} قال: العزين العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به، وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر، حدثنا قرة عن الحسن في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أي متفرقين يأخذون يميناً وشمالاً يقولون: ما قال هذا الرجل؟ وقال قتادة {مُهْطِعِينَ} عامدين {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أي فرقاً حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم وقال الثوري وشعبة وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس ومحمد بن فضيل ووكيع ويحيى القطان وأبو معاوية، كلهم عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق فقال: "ما لي أراكم عزين؟" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير من حديث الأعمش به، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال: "ما لي أراكم عزين؟"(4/509)
وهذا إسناده جيد ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا} أي: أيطمع هؤلاء والحالة هذه من فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا بل مأواهم جهنم. ثم قال تعالى مقرراً لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده مستدلاً عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها، وهم معترفون بها، فقال تعالى: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أي من المني الضعيف، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} وقال: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر} ثم قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أي الذي خلق السموات والأرض وجعل مشرقاً ومغرباً وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام ليس الأمر كما تزعمون أن لا معاد ولا حساب ولا بعث ولا نشور، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة، ولهذا أتى بلا في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي، وهو مضمون الكلام وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة. وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة، وهو خلق السموات والأرض وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات وسائر صنوف الموجودات، ولهذا قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال تعالى في الآية الأخرى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} وقال ههنا: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإن قدرته صالحة لذلك {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي بعاجزين كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} وقال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} واختار ابن جرير {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} أي: أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الأخر عليه والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ} أي يا محمد {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} أي دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي: يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إلى علم يسعون، وقال أبو العالية ويحيى بن أبي كثير إلى غاية يسعون إليها، وقد قرأ الجمهور إلى نصب بفتح النون وإسكان الصاد وهو مصدر بمعنى المنصوب، وقرأ الحسن البصري نصب بضم النون والصاد وهو الصنم أي كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه، يوفضون يبتدرون أيهم يستلمه أول. وهذا مروي عن مجاهد ويحيى بن أبي كثير ومسلم البطين وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وأبي صالح وعاصم بن بهدلة وابن زيد وغيرهم، وقوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي خاضعة {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} .
آخر تفسير سورة سأل سائل، ولله الحمد والمنة.(4/510)
سورة نوح
...
المشرق، وكل يقطع فلكه بحسبه، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة، هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} أي فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر للقمر منازل وبروجاً وفاوت نوره فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضي الشهور والأعوام، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} هذا اسم مصدر والإتيان به ههنا أحسن {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أي إذا متم {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً} أي بسطها ومهدها وقررها وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها، وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرزاق جعل السماء بناء والأرض مهاداً وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد لأنه لا نظير له ولا عديل ولا ند ولا كفء، ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا مشير بل هو العلي الكبير.
{قَالَ نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عَصَوْنِي وَاتّبَعُواْ مَن لّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظّالِمِينَ إِلاّ ضَلاَلاً}
يقول تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام إنه أنهى إليه، وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء، أنه من البيان المتقدم ذكره والدعوة المتنوعة المشتملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى أنهم عصوه وخالفوه وكذبوه، واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله ومتع بمال وأولاد وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام ولهذا قال: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً} قرىء وولده بالضم وبالفتح وكلاهما متقارب. وقوله تعالى: {ومكروا مكراً كباراً} قال مجاهد: كباراً أي عظيماً، وقال ابن زيد: كباراً أي كبيراً والعرب تقول أمر عجيب وعجاب وعجّاب، ورجل حسان وحسّان وجمال وجمّال بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد، والمعنى في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} أي بأتباعهم في تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى كما يقولون لهم يوم القيامة {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً} ولهذا قال ههنا: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا} وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. قال البخاري: حدثنا إبراهيم، حدثنا هشام عن ابن جريج، وقال عطاء عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لاَل ذي كلاع وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح(4/213)