قال أبو بكر بن عبد الله: فحدثت بهذا الحديث عطاء الخرساني فقال: أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت: لا, قال أما إنك لو رأيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع, فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته. قال عطاء الخراساني: حدثني يحيى بن يعمر أن قيصر بعث رجلاً يدعى قطمة بجيش من الروم, وبعث كسرى شهريراز فالتقيا بأذرعات وبصرى, وهي أدنى الشام إليكم, فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس, ففرحت بذلك كفار قريش, وكرهه المسلمون, قال عكرمة: ولقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنكم أهل كتاب, والنصارى أهل كتاب, ونحن أميون, وقد ظهر إخواتكم من أهل فارس على إخواننا من أهل الكتاب, وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم, فأنزل الله تعالى: {الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ} فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا, فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم, فو الله ليظهرن الله الروم على فارس, أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم, فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت يا أبا فضيل, فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله, فقال: أُناحِبُكَ عشر قلائص مني وعشر قلائص منك, فإن ظهرت الروم على فارس غرمت, وإِن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين, ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: "ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع, فزايده في الخطر وماده في الأجل" فخرج أبو بكر فلقي أبيا, فقال: لعلك ندمت ؟ فقال: لا, تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل, فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين, قال: قد فعلت, فظهرت الروم على فارس قبل ذلك, فغلبهم المسلمون. قال عكرمة: لما أن ظهرت فارس على الروم, جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز, فقال: لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى, فبلغت كسرى, فكتب كسرى إلى شهريراز: إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان, فكتب إليه: أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان له نكاية وصوت في العدو, فلا تفعل,فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفاً منه, فعجل إلي برأسه. فراجعه, فغضب كسرى فلم يجبه, وبعث بريداً إلى أهل فارس: إِني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان, ثم دفع إلى البريد صحيفة لطيفةٍ صغيرة, فقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد إليه أخوه, فأعطه هذه, فلما قرأ شهريراز الكتاب قال: سمعاً وطاعة, ونزل عن سريره وجلس فرخان, ودفع إليه الصحيفة قال: ائتوني بشهريراز, وقدمه ليضرب عنقه, قال, لا تعجل حتى أكتب وصيتي, قال: نعم, فدعا بالسفط فأعطاه الصحائف, قال: كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد, فرد الملك إلى أخيه شهريراز, وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد, ولا تحملها الصحف فالقني ولا تلقني إلا في خمسين رومياً, فإني ألقاك في خمسين فارسياً, فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي, وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق, وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلاً, ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما, مع كل واحد منهما سكين فدعيا ترجماناً بينهما, فقال شهريراز: إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا, وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت, ثم أمر أخي أن يقتلني وقد خلعناه جميعاً, فنحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما, ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين, فإذا جاوز اثنين فشا, قال: أجل, فقتلا الترجمان جميعاً بسكينيهما, فأهلك الله كسرى, وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية, ففرح والمسلمون معه. فهذا سياق غريب وبناء عجيب.
ولنتكلم عن كلمات هذه الآيات الكريمة, فقوله تعالى: {الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ} قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة, وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن(3/514)
إبراهيم, وهم أبناء عم بني إسرائيل, ويقال لهم بنو الأصفر, وكانوا على دين اليونان, واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك, وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة, ويقال لها المتحيرة, ويصلون إلى القطب الشمالي, وهو الذين أسسوا دمشق, وبنوا معبدها, وفيه محاريب إلى جهة الشمال, فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة, وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له قيصر, فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس وأمه مريم الهيلانية الفدقانية من أرض حران, كانت قد تنصرت قبله, فدعته إلى دينها, وكان قبل ذلك فيلسوفاً فتابعها, يقال تقية, واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس, واختلفوا اختلافاً منتشراً متشتتاً لا ينضبط, إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفاً, فوضعوا لقسطنطين العقيدة, وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة, وإنما هي الخيانة الحقيرة, ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل, وغير ذلك مما يحتاجون إليه, وغيروا دين المسيح عليه السلام, وزادوا فيه ونقصوا منه, فصلوا إلى المشرق, واعتاضوا عن السبت بالأحد, وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير, واتخذوا أعياداً أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس وغير ذلك من البواعيث والثعابين, وجعلوا له الباب, وهو كبيرهم, ثم البتاركة, ثم المطارنة, ثم الأساقفة والقساقسة, ثم الشمامسة, وابتدعوا الرهبانية, وبني لهم الملك الكنائس والمعابد, وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية, يقال إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة, وبني بيت لحم بثلاث محاريب, وبنت أمه القمامة, وهؤلاء هم الملكية يعنون الذين هم على دين الملك.
ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الأسكاف, ثم النسطورية أصحاب نسطورا, وهم فرق وطوائف كثيرة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة" والغرض أنهم استمروا على النصرانية, كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل, وكان من عقلاء الرجال, ومن أحزم الملوك وأدهاهم, وأبعدهم غوراً, وأقصاهم رأياً, فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كبيرة, فناوأه كسرى ملك الفرس وملك البلاد كالعراق وخراسان والري وجميع بلاد العجم, وهو سابور ذو الأكتاف, وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر, وله رياسة العجم, وحماقة الفرس, وكانوا مجوساً يعبدون النار, فتقدم عن عكرمة أنه: بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه, والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده, فقهره وكسره وقصره, حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية, فحاصره بها مدة طويلة, حتى ضاقت عليه, وكانت النصارى تعظمه تعظيماً زائداً, ولم يقدر كسرى على فتح البلد, ولا أمكنه ذلك لحصانتها لأن نصفها من ناحية البر, ونصفها الآخر من ناحية البحر, فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك, فلما طال الأمر, دبر قيصر مكيدة, ورأى في نفسه خديعة, فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ويشترط عليه ما شاء, فأجابه إلى ذلك, وطلب منه أموالاً عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة, فطاوعه قيصر وأوهمه أن عنده جميع ما طلب, واستقل عقله لما طلب منه ما طلب, ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عشره, وسأل كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته, ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه, فأطلق سراحه, فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينة فجمع أهل ملته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته في جند قد عينته من جيشي, فإن رجعت إليكم قبل الحول, فأنا ملككم, وإن لم أرجع إليكم قبلها, فأنتم بالخيار: إن شئتم استمررتم على بيعتي, وإن شئتم وليتم عليكم غيري, فأجابوه بأنك ملكنا مادمت حياً, ولو غبت عشرة أعوام, فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط هذا, وكسرى مخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع, فركب قيصر من فوره وسار مسرعاً حتى(3/515)
انتهى إلى بلاد فارس, فعاث في بلادهم قتلاً لرجالها ومن بها من المقاتلة أولاً فأولاً, ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن وهي كرسي مملكة كسرى, فقتل من بها وأخذ جميع حواصله وأمواله, وأسر نساءه وحريمه, وحلق رأس ولده وركبه على حماره, وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة, وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخذه, فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله تعالى, واشتد حنقه على البلد, فاشتد في حصارها بكل ممكن, فلم يقدر على ذلك, فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها, فلما علم قيصر بذلك, احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة, وركب في بعض الجيش, وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث, فحملت معه, وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعداً, ثم أمر بالقاء تلك الأحمال في النهر, فلما مرت بكسرى ظن وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك, فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس, وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض والخوض, فخاضوا وأسرعوا السير, ففاتوا كسرى وجنوده, ودخلوا القسطنطينية, فكان ذلك يوماً مشهوداً عند النصارى, وبقي كسرى وجيوشه حائرين لا يدرون ماذا يصنعون, لم يحصلوا على بلاد قيصر, وبلادهم قد خربتها الروم, وأخذوا حواصلهم, وسبوا ذراريهم, ونساءهم, فكان هذا من غلب الروم لفارس, وكان ذلك بعد تسع سنين من غلب الفرس للروم, وكانت الوقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبصرى على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما, وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز, وقال مجاهد: كان ذلك في الجزيرة, وهي أقرب بلاد الروم من فارس, فالله أعلم.
ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع, فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع, وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وغيرهما من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مناحبة {الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ} الآية "ألا احتطت يا أبا بكر, فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟" ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو أنه قال ذلك,.
وقوله تعالى: {لِلّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} أي من قبل ذلك ومن بعده, فبني على الضم لما قطع المضاف, وهو قوله قبل عن الإضافة ونويت {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ} أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى, وهم المجوس, وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قوله طائفة كثيرة من العلماء, كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم. وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر, ظهرت الروم على فارس, فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا به, وأنزل الله {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}.
وقال الآخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية. قاله عكرمة والزهري وقتادة وغير واحد. ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا وهو بيت المقدس, شكراً لله تعالى ففعل, فلما بلغ بيت المقدس لم يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع دحية بن خليفة, فأعطاه دحية لعظيم بصرى, فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر. فلما وصل إليه سأل من بالشام من عرب الحجاز, فأحضر له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة من كبار قريش, وكانوا بغزة, فجيء بهم إليه فجلسوا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان: أنا, فقال لأصحابه وأجلسهم خلفه: إني سائل هذا عن هذا(3/516)
الرجل, فإن كذب فكذبوه, فقال أبو سفيان, فو الله لولا أن يأثروا علي الكذب لكذبت, فسأله هرقل عن نسبه وصفته, فكان فيما سأله أن قال: فهل يغدر ؟ قال: قلت لا, ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها, يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين, فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية, لأن قيصر إنما وفى بنذره بعد الحديبية, والله أعلم.
ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت, فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي له إصلاحه وتفقد بلاده, ثم بعد أربع سنين من نصرته وفى بنذره, والله أعلم, والأمر في هذا سهل قريب, إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين, فلما انتصرت الروم على فارس, فرح المؤمنون بذلك, لأن الروم أهل كتاب في الجملة, فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس, كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى - إلى قوله - رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . وقال تعالى ههنا { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثني أسيد الكلابي قال: سمعت العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم, ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس, والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي في انتصاره وانتقامه من أعدائه {الرّحِيمُ} بعباده المؤمنين. وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق, وخبر صدق لا يخلف ولا بد من كونه ووقوعه, لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلين إلى الحق, ويجعل لها العاقبة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي بحكم الله في كونه, وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها, فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها, وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة, قال الحسن البصري: والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره, فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا, وهم في أمر الدين جهال.
{أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ مّا خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمّى وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوَاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُواْ السّوَءَىَ أَن كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}
يقول تعالى منبهاً على التفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها, وأنه لا إله غيره ولا رب(3/517)
سواه, فقال {أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ} يعني به النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي وما بينهما من المخلوقات المتنوعة والأجناس المختلفة, فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلاً بل بالحق, وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة, ولهذا قال تعالى: {وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ} ثم نبههم على صدق رسله فيما جاؤوا به عنه, بما أيدهم من المعجزات والدلائل الواضحات من إهلاك من كفر بهم ونجاة من صدقهم, فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضين, ولهذا قال {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم أيها المبعوث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأكثر أموالاً وأولاداً, وما أوتيتم معشار ما أوتوا, ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه وعمروا فيها أعماراً طوالاً, فعمروها أكثر منكم, واستغلوها أكثر من استغلالكم, ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا, أخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق, ولا حالت أموالهم ولا أولادهم بينهم وبين بأس الله, ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة, وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال {ولَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله واستهزؤوا بها, وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم, ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} وعلى هذا تكون السوأى منصوبة مفعولاً لأساؤوا, وقيل بل المعنى في ذلك {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} أي كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعلى هذا تكون السوأى منصوبة خبر كان, هذا توجيه ابن جرير, ونقله عن ابن عباس وقتادة, ورواه ابن أبي حاتم عنهما وعن الضحاك بن مزاحم, وهو الظاهر - والله أعلم - لقوله {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}.
{اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لّهُمْ مّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرّقُونَ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}
يقول تعالى: {اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ} أي كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته {ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم القيامة, فيجازي كل عامل بعمله. ثم قال {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} قال ابن عباس: ييأس المجرمون, وقال مجاهد: يفتضح المجرمون, وفي رواية يكتئب المجرمون { وَلَمْ يَكُن لّهُمْ مّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ} أي ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم. ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرّقُونَ} قال قتادة: هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها, يعني أنه إذا رفع هذا إلى عليين وخفض هذا إلى أسفل سافلين, فذلك آخر العهد بينهما, ولهذا قال تعالى: {فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال مجاهد وقتادة: ينعمون. وقال يحيى بن أبي كثير: يعني سماع الغناء والحبرة أعم من هذا كله, قال العجاج:(3/518)
فالحمد لله الذي أعطى الحبر ... موالي الحق إن المولى شكر
{فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}
هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة, وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند المساء, وهو إقبال الليل بظلامه, وعند الصباح وهو إسفار النهار عن ضيائه. ثم اعترض بحمده مناسبة للتسبيح وهو التحميد, فقال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي هو المحمود على ما خلق في السموات والأرض, ثم قال تعالى: {وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} فالعشاء هو شدة الظلام, والإظهار قوة الضياء, فسبحان خالق هذا وهذا, فالق الإصباح, وجاعل الليل سكناً, كما قال تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} وقال تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبّان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون, وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون" وقال الطبراني: حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثني الليث بن سعيد بن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه, عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ومن قال حين يصبح سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون, وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون, الآية بكمالها أدرك ما فاته في يومه, ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته" إسناد جيد ورواه أبو داود في سننه..
وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة, وهذه الآيات المتتابعة الكريمة كلها من هذا النمط, فإنه يذكر فيها خلقه الأشياء وأضدادها, ليدل خلقه على كمال قدرته, فمن ذلك إخراج النبات من الحب والحب من النبات, والبيض من الدجاج والدجاج من البيض, والإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان, والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن وقوله تعالى: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ - إلى قوله - وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} وقال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ - إلى قوله - وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً - إلى قوله - لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ولهذا قال ههنا {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لّتَسْكُنُوَاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مّوَدّةً وَرَحْمَةً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ(3/519)
يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على عظمته وكمال قدرته, أنه خلق أباكم آدم من تراب {ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} فأصلكم من تراب ثم من ماءٍ مهين, ثم تصور فكان علقة ثم مضغة, ثم صار عظاماً شكله على شكل الإنسان, ثم كسا الله تلك العظام لحماً, ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير, ثم خرج من بطن أمه صغيراً ضعيف القوى والحركة, ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون, ويسافر في أقطار الأقاليم, ويركب متن البحور, ويدور أقطار الأرض, ويتكسب ويجمع الأموال, وله فكرة وغور ودهاء ومكر ورأي وعلم واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه, فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب, وفاوت بينهم في العلوم والفكر, والحسن والقبح, والغنى والفقر, والسعادة والشقاوة, ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد وغندر قالا: حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب, والسهل والحزن وبين ذلك" ورواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أي خلق لكم من جنسكم إناثاً يكن لكم أزواجاً {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} يعني بذلك حواء, خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر, ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكوراً وجعل إناثهم من جنس آخر إما من جان أو حيوان, لما حصل هذا الإئتلاف بينهم وبين الأزواج, بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس, ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم, وجعل بينهم وبينهن مودة وهي المحبة, ورحمة وهي الرأفة, فإن الرجل يمسك المرأة إنما لمحبته لها أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد, أو محتاجة إليه في الإنفاق أو للألفة بينهما وغير ذلك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}
يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على قدرته العظيمة {خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي خلق السموات في ارتفاعها واتساعها, وسقوف أجرامها, وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات, والأرض في انخفاضها وكثافتها, وما فيها من جبال وأودية وبحار, وقفار وحيوان وأشجار. وقوله تعالى: {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ} يعني اللغات, فهؤلاء بلغة العرب, وهؤلاء تتر لهم لغة أخرى, وهؤلاء كرج, وهؤلاء روم, وهؤلاء فرنج وهؤلاء بربر, وهؤلاء تكرور, وهؤلاء حبشة, وهؤلاء هنود, وهؤلاء عجم, وهؤلاء صقالبة, وهؤلاء خزر, وهؤلاء أرمن, وهؤلاء أكراد, إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم وهي حلاهم, فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان, وليس يشبه واحد منهم الآخر, بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهراً(3/520)
كان أو خفياً يظهر عند التأمل, كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئته لا تشبه أخرى, ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر {إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ} أي ومن الآيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل والنهار, فيه تحصل الراحة وسكون الحركة وذهاب الكلال والتعب. وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار وهذا ضد النوم {إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي يعون.
قال الطبراني: حدثنا حجاج بن عمران السدوسي, حدثنا عمرو بن الحصين العقيلي, حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة, حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان, سمعت عبد الملك بن مروان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل, فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "قل اللهم غارت النجوم, وهدأت العيون, وأنت حي قيوم يا حي يا قيوم, أنم عيني وأهدىء ليلي " فقلتها, فذهب عني.
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السّمَآءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}
يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظمته أنه {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة وصواعق متلفة, وتارة ترجون وميضه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه, ولهذا قال تعالى: {وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء, فلما جاءها الماء {اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة, ولهذا قال {إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ثم قال تعالى :{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السّمَآءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} كقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا}. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين يقول: لا والذي تقوم السماء والأرض بأمره, أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها, ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسموات, وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم, ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} كما قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} وقال تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}.
{وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَىَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
يقول تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي ملكه وعبيده {كُلّ لّهُ قَانِتُونَ} أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً. وفي حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعاً "كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة" وقوله {وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني أيسر عليه, وقال مجاهد: الإعادة أهون عليه من البداءة, والبداءة عليه هينة, وكذا قال(3/521)
عكرمة وغيره وروى البخاري: حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب, أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " قال الله كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك, وشتمني ولم يكن له ذلك, فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته, وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً, وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" انفرد بإخراجه البخاري, كما انفرد بروايته أيضاً من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به. وقد رواه الإمام أحمد منفرداً به عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة: حدثنا أبو يونس سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو مثله.
وقال آخرون: كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء. وقال العوفي عن ابن عباس: كل عليه هين, وكذا قاله الربيع بن خُثيم, ومال إليه ابن جرير وذكر عليه شواهد كثيرة, قال: ويحتمل أن يعود الضمير في قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إلى الخلق, أي وهو أهون على الخلق. وقوله {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَىَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقال قتادة: مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره, وقال مثل هذا ابن جرير, وقد أنشد بعض المفسرين عند ذكر هذه الآية لبعض أهل المعارف:
إذا سكن الغدير على صفاء ... وجنب أن يحركه النسيم
ترى فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي ... يرى في صفوها الله العظيم
وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع بل قد غلب كل شيء, وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه, الحكيم في أقواله وأفعاله شرعاً وقدراً, وعن مالك في تفسيره المروي عنه عن محمد بن المنكدر في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} قال: لا إِله إِلا الله.
{ضَرَبَ لَكُمْ مّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لّكُمْ مّن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ}
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به, العابدين معه غيره, الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له, ملك له, كما كانوا في تلبيتهم يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك. فقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم {هَلْ لّكُمْ مّن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي يرتضي أحدكم أن يكون عبده شريكاً له في ماله فهو وهو فيه على السواء {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي تخافون أن يقاسموكم الأموال. قال أبو مجلز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك, وليس له ذاك, كذلك الله لا شريك له, والمعنى إن أحدكم يأنف من ذلك, فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه ؟ وهذا كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي من البنات حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً, وجعلوها بنات الله, وقد كان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم, يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون, أم يدسه في التراب ؟ فهم يأنفون من البنات, وجعلوا الملائكة بنات الله, فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم, فهذا أغلظ الكفر, وهكذا في هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه, وأحدهم يأبى غاية(3/522)
الإباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك, أن يكون عبده شريكه في ماله يساويه فيه ولو شاء لقاسمه عليه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قال الطبراني: حدثنا محمود بن الفرج الأصفهاني, حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي, حدثنا حماد بن شعيب عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك. فأنزل الله تعالى: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونزاهته بطريق الأولى والأحرى. قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ثم قال تعالى مبيناً أن المشركين إنما عبدوا غيره سفهاً من أنفسهم وجهلاً {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي المشركون {أَهْوَاءَهُمْ} أي في عبادتهم الأنداد بغير علم {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي فلا أحد يهديهم إذا كتب الله ضلالهم {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير ولا محيد لهم عنه, لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الّذِينَ فَرّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}
يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم, الذي هداك الله لها وكملها لك غاية الكمال, وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها, فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره, كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. وفي الحديث "إني خلقت عبادي حنفاء, فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام, ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية.
وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها, فيكون خبراً بمعنى الطلب, كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} وهو معنى حسن صحيح, وقال آخرون: هو خبر على بابه ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة, لا يولد أحد إلا على ذلك, ولا تفاوت بين الناس في ذلك. ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي لدين الله, وقال البخاري: قوله {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله, خلق الأولين دين الأولين, الدين والفطرة الإسلام.
حدثنا عبدان: أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري, أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء ؟" ثم يقول: "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به, وأخرجاه أيضاً من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة, فمنهم الأسود بن(3/523)
سريع التميمي.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا يونس عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه فأصبت ظهراً, فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟" فقال رجل: يا رسول الله أما هم أبناء المشركين ؟ فقال: "لا إنما خياركم أبناء المشركين - ثم قال - لا تقتلوا ذرية, لا تقتلوا ذرية - وقال - كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها, فأبواها يهودانها أو ينصرانها" ورواه النسائي في كتاب السير عن زياد بن أيوب عن هشيم, عن يونس وهو ابن عبيد بن الحسن البصري به.
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري. قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه, فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً".
ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة, حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين, فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم" أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً بذلك.
وقد قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عفان حدثنا حماد يعني ابن سلمة, أنبأنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: أتى علي زمان وأنا أقول: أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين, وأولاد المشركين مع المشركين, حتى حدثني فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنهم, فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". قال: فلقيت الرجل فأخبرني, فأمسكت عن قولي.
ومنهم عياض بن حمار المجاشعي. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم, فقال في خطبته: "إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال, وإِني خلقت عبادي حنفاء كلهم, وإِنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم, وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا, ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب, وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك, وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء, تقرؤه نائماً ويقظان: ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشاً, فقلت: يارب إذاً يثلغ رأسي فيدعه خبزة, قال: استخرجهم كما استخرجوك, واغزهم نغزك, وأنفق عليهم فسننفق عليك, وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله, وقاتل بمن أطاعك من عصاك - قال -: وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق, ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم, ورجل عفيف فقير متصدق وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً, والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه, ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك" وذكر البخيل أو الكذاب والشنظير: الفحاش. انفرد بإخراجه مسلم, فرواه من طرق عن قتادة به.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي فلهذا لا يعرفه أكثر الناس, فهم عنه ناكبون, كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الآية. وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال ابن زيد وابن جريج: أي راجعين إليه. {وَاتَّقُوهُ} أي خافوه وراقبوه, {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وهي الطاعة العظيمة, {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدون(3/524)
بها سواه. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا يوسف بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال: مر عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة ؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهي الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها, والصلاة وهي الملة, والطاعة وهي العصمة, فقال عمر: صدقت. حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية, حدثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر رضي الله عنه قال لمعاذ: ما قوام هذا الأمر ؟ فذكر نحوه.
وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه, وآمنوا ببعض وكفروا ببعض, وقرأ بعضهم: فارقوا دينهم, أي تركوه وراء ظهورهم, وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإسلام, كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} الآية, فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة, وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء, وهذه لأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة وهم أهل السنة والجماعة, المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه, كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية منهم فقال: "ما أنا عليه وأصحابي".
{وَإِذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ دَعَوْاْ رَبّهُمْ مّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ وَإِذَآ أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن الناس أنهم في حال الإضطرار يدعون الله وحده لا شريك له, وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم في حالة الاختيار يشركون بالله ويعبدون معه غيره. وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} هي لام العاقبة عند بعضهم, ولام التعليل عند آخرين, ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك, ثم توعدهم بقوله {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال بعضهم والله لو توعدني حارس درب لخفت منه, فكيف والمتوعد ههنا هو الذي يقول للشيء كن فيكون ؟ ثم قال منكراً على المشركين فيما اختلقوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أي حجة { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أي ينطق {بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} وهذا استفهام إنكار, أي لم يكن لهم شيء من ذلك.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} هذا إنكار على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله ووفقه, فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر. وقال {ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} أي يفرح في نفسه ويفخر على غيره, وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية. قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء. كما ثبت في الصحيح " عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله, فيوسع على قوم ويضيق على آخرين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.(3/525)
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لّلّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّباً لّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ}
يقول تعالى آمراً بإعطاء {ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ} أي من البر والصلة, {وَالْمِسْكِينَ} وهو الذي لا شيء له ينفق عليه أو له شيء لا يقوم بكفايته, {وَابْنَ السّبِيلِ} وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره, {ذَلِكَ خَيْرٌ لّلّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ} أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى, {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّباً لّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ} أي من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم, فهذا لا ثواب له عند الله, بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب والشعبي, وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه, إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة, قاله الضحاك, واستدل بقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه.
وقال ابن عباس: الربا رباءان: فربا لا يصح, يعني ربا البيع ؟ وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها, وأضعافها, ثم تلا هذه الآية {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} وإنما الثواب عند الله في الزكاة, ولهذا قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء. كما جاء في الصحيح "وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها, كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد".
وقوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أي هو الخالق الرزاق, يخرج الإنسان من بطن أمه عرياناً لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوة, ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك والرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب. كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن سلام أبي شرحبيل عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلح شيئاً فأعناه, فقال: "لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما, فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة, ثم يرزقه الله عز وجل".
وقوله تعالى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي بعد هذه الحياة, {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي يوم القيامة. وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} أي الذين تعبدونهم من دون الله {مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك, بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة, ثم يبعث الخلائق يوم القيامة, ولهذا قال بعد هذا كله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعالى وتقدس وتنزه وتعاظم وجل وعز عن أن يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أو والد, بل هو الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّشْرِكِينَ}
قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي وغيرهم: المراد بالبر ههنا الفيافي, وبالبحر الأمصار والقرى. وفي رواية عن ابن عباس وعكرمة: البحر الأمصار, والقرى ما كان منهما على جانب نهر. وقال آخرون بل(3/526)
المراد بالبر هو البر المعروف, وبالبحر هو البحر المعروف. وقال زيد بن رفيع {ظَهَرَ الْفَسَادُ} يعني انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط, وعن البحر تعمى دوابه, رواه ابن أبي حاتم, وقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن سفيان عن حميد بن قيس الأعرج عن مجاهد {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ} قال: فساد البر قتل ابن آدم, وفساد البحر أخذ السفينة غصباً.
وقال عطاء الخراساني: المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى, وبالبحر جزائره. والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون, ويؤيده ما قاله محمد بن إسحاق في السيرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح ملك أيلة, وكتب إليه ببحره, يعني ببلده, ومعنى قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ} أي بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي. وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض, لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة, ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود "لحد يقام في الأرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً" والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس أو أكثرهم أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات, وإذا تركت المعاصي كان سبباً في حصول البركات من السماء والأرض. ولهذا إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية, وهو تركها, فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف, فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج, قيل للأرض: أخرجي بركتك, فيأكل من الرمانة الفئام من الناس ويستظلون بقحفها, ويكفي لبن اللقحة الجماعة من الناس, وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير. ولهذا ثبت في الصحيح أن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا محمد والحسين قالا: حدثنا عوف عن أبي قحذم قال: وجد رجل في زمان زياد أو ابن زياد, صرة فيها حب, يعني من بر, أمثال النوى عليه مكتوب: هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل, وروى مالك عن زيد بن أسلم أن المراد بالفساد ههنا الشرك, وفيه نظر. وقوله تعالى: {يُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} الآية, أي يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه لهم ومجازاة على صنيعهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عن المعاصي, كما قال تعالى: {بَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثم قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} أي من قبلكم {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أي فانظروا ما حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم.
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ}
يقول تعالى آمراً عباده بالمبادرة إلى الإستقامة في طاعته والمبادرة إلى الخيرات {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ مِنَ اللّهِ } أي يوم القيامة إذا أراد كونه فلا راد له { يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ} أي يتفرقون, ففريق في الجنة وفريق في السعير, ولهذا قال تعالى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} أي يجازيهم مجازاة الفضل, الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله {إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ} ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور.(3/527)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىَ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}
يذكر تعالى نعمه على خلقه في إرسال الرياح مبشرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقبها, ولهذا قال تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رّحْمَتِهِ} أي المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} أي في البحر وإنما سيرها بالريح {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي في التجارات والمعايش والسير من إقليم إلى إقليم, وقطر إلى قطر {وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىَ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْرَمُواْ} هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه وإن كذبه كثير من قومه ومن الناس, فقد كذبت الرسل المتقدمون مع ما جاؤوا أممهم به من الدلائل الواضحات. ولكن انتقم الله ممن كذبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} أي هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً, كقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل, حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة" ثم تلا هذه الآية {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}.
{اللّهُ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لّظَلّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}
يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء, فقال تعالى: {اللّهُ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} إما من البحر كما ذكره غير واحد, أو مما يشاء الله عز وجل {فَيَبْسُطُهُ فِي السّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ} أي يمده فيكثره وينميه, ويجعل من القليل كثير, ينشىء سحابة ترى في رأي العين مثل الترس, ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق, وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالاً مملوءة, كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ - إلى قوله - كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وكذلك قال ههنا {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} قال مجاهد وأبو عمرو بن العلاء ومطر الوراق وقتادة: يعني قطعاً. وقال غيره: متراكماً, كما قاله الضحاك. وقال غيره: أسود من كثرة الماء, تراه مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض.
وقوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي فترى المطر وهو القطر, يخرج من بين ذلك السحاب {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي إليه يفرحون لحاجتهم بنزوله عليهم ووصوله إليهم. وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} معنى الكلام أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر,(3/528)
كانوا قنطين أزلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك, فلما جاءهم جاءهم على فاقة, فوقع منهم موقعاً عظيماً, وقد اختلف النحاة في قوله {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} فقال ابن جرير: هو تأكيد, وحكاه عن بعض أهل العربية. وقال آخرون: من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله, أي الإنزال لمبلسين, ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس, ويكون معنى الكلام أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله, ومن قبله أيضاً قد فات عندهم نزوله وقتاً بعد وقت, فترقبوه في إبانه, فتأخر, ثم مضت مدة فترقبوه فتأخر, ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط, فبعدما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج, ولهذا قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} يعني المطر {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها فقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} يقول تعالى : {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} يابسة على الزرع الذي زرعوه ونبت وشب واستوى على سوقه, فرأوه مصفراً, أي قد أصفر وشرع في الفساد لظلوا من بعده, أي بعد هذا الحال, يكفرون, أي يجحدون ما تقدم إليهم من النعم. كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ - إلى قوله- بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}.
فال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع, حدثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة, وأربعة عذاب, فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات, وأما العذاب: فالعقيم والصرصر وهما في البر, والعاصف والقاصف وهما في البحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب, حدثنا عمي, حدثنا عبد الله بن عياش, حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الريح مسخرة من الثانية - يعني الأرض الثانية - فلما أراد أن يهلك عاداً أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحاً تهلك عاداً, فقال: يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور, قال له الجبار تبارك وتعالى: لا إذاً تكفأ الأرض وما عليها, ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم, فهي التي قال الله في كتابه {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}" هذا حديث غريب, ورفعه منكر, والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه.
{فَإِنّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىَ وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا وَلّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مّسْلِمُونَ}
يقول تعالى: كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها, ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون وهم مع ذلك مدبرون عنك, كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق وردهم عن ضلالتهم بل ذلك إلى الله, فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء, ويهدي من يشاء ويضل من يشاء(3/529)
وليس ذلك لأحد سواه, ولهذا قال تعالى: {إِن تُسْمِعُ إِلاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مّسْلِمُونَ} أي خاضعون مستجيبون مطيعون, فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه وهذا حال المؤمنين, والأول مثل الكافرين, كما قال تعالى: {إنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم, حتى قال عمر: يا رسول الله ما تخاطب من قوم قد جيفوا ؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم, ولكن لا يجيبون" وتأولته عائشة على أنه قال: "إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق". وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعاً وتوبيخاً ونقمة.
والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة, من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاً "ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه, إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر . فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم ". وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت أليس قد مت ؟ قال بلى , قلت فأين أنت : قال أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فتلقى أخباركم . قال : قلت أجسامكم أم أرواحكم ؟ قال هيهات قد بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح ، قال : قلت فهل تعلمون بزيارتنا إياكم ؟ قال نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس . قال : قلت فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال لفضل يوم الجمعة وعظمته.
قال: وحدثنا محمد بن الحسين ثنا بكر بن محمد ثنا حسن القصاب قال : كنت أغدر مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبان فنقف على القبور فنسلم عليهم وندعوهم ثم ننصرف . فقلت ذات يوم لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين ؟ قال بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة . حدثنا خالد بن خداش ثنا جعفر بن سليمان عن أبي التياح يقول : كان مطرف يغدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج. قال : وسمعت أبا التياح يقول بلغنا أنه كان ينزل بغوطة فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره فقالوا : هذا مطرف يأتي يقولون سلام عليكم . حدثني محمد ابن الحسن ثنا يحي بن أ بي بكر ثنا الفضل بن الموفق ابن خال سفيان بن عيينة قال : لما مات أبي جزعت(3/530)
عليه جزعا شديدا فكنت آتي قبره في كل يوم ثم قصرت عن ذلك ماشاء الله ثم إني أتيته يوما فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت فرأيت كأن قبر أبي قد فرج وكأنه قاعد في قبره متوشح أكفانه عليه ما جئت مرة إلا علمتها وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك ، قال : فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا . حدثني محمد حدثنا يحي بن بسطام ثنا عثمان بن سويد الطفاوي قال وكانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة . قال لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت : يا ذخري وذخيرتي من عليه اعتمادي في حياتي وبعد . موتي لا تخذلني عند الموت ولا توحشني . قال : فماتت فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور ، فرأيتها ذات يوم في منامي فقلت لها يا أمي كيف أنت ؟ قالت أي بني إن للموت لكربة شديدة وإني بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه الريحان ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم النشر . فقلت لها ألك حاجة : قالت : نعم , قالت وماهي ؟ قالت لا تدع ما كنت تصنع من زياراتنا والدعاء لنا , فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك يقال لي : يار اهبة هذا ابنك قد أقبل فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات . حدثني محمد حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سليمان حدثنا بشر بن منصور قال : لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان ، فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على المقابر فقال: آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم , وتجاوز عن مسيئكم , وقل حسناتكم . لا يزيد على هؤلاء الكلمات قال : فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فأدعوا كما كنت أدعو ، قال : فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاؤوني فقلت: ما أنتم وما حجتكم ؟ قالوا : إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك ، قلت وما هي ؟ قالوا الدعوات التي كنت تدعوا بها ، قال قلت فإني أعود لذلك ، قال فما تركتها بعد . وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه . قال عبد الله بن المبارك حدثني ثور بن يزيد عن إبراهيم عن أيوب قال : تعرض أعمال الأحياء على الموتى فإذا رأوا حسنا فرحوا واستبشروا ، وإن رأو سواء قالوا اللهم راجع به.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال : دخل عباد بن عباد على إبراهيم ابن صالح وهو على فلسطين فقال عظني ، قال بم أعظك أصلحك الله ؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك . فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته . قال ابن أبي الدنيا وحدثني محمد بن الحسين ثني خالد بن عمرو الأموي ثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت لي شرة سمجة فمات أبي فتبت وندمت على ما فرطت ثم زللت أيما زلة ، فرأيت أبي في المنام فقال: أي بني ماكان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض علينا فنشبهها بأعمال الصالحين . فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدا فلا تخزني فيمن حولي من الأموات . قال : فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر وكان جارا لي بالكوفة أسألك إيابة لا رجعة فيها ولا حوار , يامصلح الصالحين وياهدي المضلين ويا أرحم الرحمين . وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة . وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله ابن رواحة يقول : اللهم إني إعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة . كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله . وقد شرع السلام على الموتى ، والسلام على الموتى ، والسلام على من لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا : سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لا حقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية . فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلم الرد والله أعلم.(3/531)
{اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}
ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالاً بعد حال, فأصله من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة, ثم يصير عظاماً, ثم تكسى العظام لحماً, وينفخ فيه الروح, ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى, ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً, ثم حدثاً ثم مراهقاً شاباً. وهو القوة بعد الضعف, ثم يشرع في النقص فيكتهل ثم يشيخ ثم يهرم, وهو الضعف بعد القوة, فتضعف الهمة والحركة والبطش, وتشيب اللمة, وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة, ولهذا قال تعالى: {ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}.
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن فضيل ويزيد, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن عمر {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} فقال {الله الذي خلقكم من ضعف ثم من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا} ثم قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأت علي, فأخذ علي كما أخذت عليك, ورواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث فضيل, ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن جابر عن عطية عن أبي سعيد بنحوه.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىَ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ فَيَوْمَئِذٍ لاّ ينفَعُ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة, ففي الدنيا فعلوا من عبادة الأوثان, وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضاً, فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا, ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىَ يَوْمِ الْبَعْثِ} أي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا, فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ} أي في كتاب الأعمال {إِلَىَ يَوْمِ الْبَعْثِ} أي من يوم خلقتم إلى أن بعثتم {وَلَكِنّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} قال الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة {لاّ ينفَعُ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي اعتذارهم عما فعلوا {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي ولا هم يرجعون إلى الدنيا, كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لّيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}(3/532)
يقول تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ} أي قد بينا لهم الحق, ووضحناه لهم, وضربنا لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق ويتبعوه {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لّيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ} أي لو رأوا أي آية كانت, سواء كانت باقتراحهم أو غيره, لا يؤمنون بها ويعتقدون أنها سحر وباطل, كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه, كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ولهذا قال ههنا {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي اصبر على مخالفتهم وعنادهم, فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك عليهم وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} أي بل اثبت على ما بعثك الله به, فإنه الحق الذي لا مرية فيه, ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هدى يتبع, بل الحق كله منحصر فيه. قال سعيد عن قتادة: نادى رجل من الخوارج علياً رضي الله عنه وهو في صلاة الغداة, فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فأنصت له علي حتى فهم ما قال, فأجابه وهو في الصلاة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقد رواه ابن جرير من وجه آخر فقال, حدثنا وكيع: حدثنا يحيى بن آدم عن شريك عن عثمان ابن أبي زرعة عن علي بن ربيعة قال: نادى رجل من الخوارج علياً رضي الله عنه وهو في صلاة الفجر, فقال {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}.
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا شريك عن عمران بن ظبيان عن أبي يحيى قال: صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر, فناداه رجل من الخوارج {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}.
(ما روي في فضل هذه السورة الشريفة واستحباب قراءتها في الفجر)
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير, سمعت شبيب أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, صلى بهم الصبح فقرأ فيها الروم فأوهم, فقال: "إنه يلبس علينا القرآن, فإن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء, فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء" وهذا إسناد حسن, ومتن حسن, وفيه سر عجيب, ونبأ غريب, وهو أنه صلى الله عليه وسلم تأثر بنقصان وضوء من ائتم به, فدل ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام. آخر تفسير سورة الروم. و لله الحمد والمنة.(3/533)
سورة لقمان
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الَمَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ بِالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
تقدم في سورة البقرة عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه السورة, وهو أنه سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين, وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة, فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة, وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها, ووصلوا أرحامهم وقراباتهم, وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة, فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك لم يراؤوا به, ولا أرادوا جزاءاً من الناس ولا شكوراً, فمن فعل ذلك كذلك, فهو من الذين قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ} أي على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي في الدنيا والآخرة.
{وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّىَ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنّ فِيَ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
لما ذكر تعالى حال السعداء, وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه, كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية, عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب, كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال: هو والله الغناء.
روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب, أخبرني يزيد بن يونس عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فقال عبد الله بن مسعود: الغناء والله الذي لا إله إلا هو, يرددها ثلاث مرات, حدثنا عمرو بن علي, حدثنا صفوان بن عيسى, أخبرنا حميد الخراط عن عمار عن سعيد بن جبير, عن أبي الصهباء أنه سأل ابن مسعود عن قول الله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: الغناء, وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن نديمة.
وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} في الغناء(3/534)
والمزامير. وقال قتادة: قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} والله لعله لا ينفق فيه مالاً, ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق, وما يضر على ما ينفع, وقيل: أراد بقوله يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} اشتراء المغنيات من الجواري. قال ابن أبي حاتم, حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن خلاد الصفار عن عبيد الله بن زحر, عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن, عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن وأكل أثمانهن حرام, وفيهن أنزل الله عز وجل علي {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}" وهكذا رواه الترمذي وابن جرير من حديث عبيد الله بن زحر بنحوه, ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب, وضعف علي بن يزيد المذكور.
(قلت) علي وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء, والله أعلم.
وقال الضحاك في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: يعني الشرك, وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله. وقوله {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله, وعلى قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة أو تعليلاً للأمر القدري, أي قيضوا لذلك ليكونوا كذلك. وقوله تعالى: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} قال مجاهد: ويتخذ سبيل الله هزواً يستهزىء بها. وقال قتادة: يعني ويتخذ آيات الله هزواً, وقول مجاهد أولى.
وقوله {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي كما استهانوا بآيات الله وسبيله أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر. ثم قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} أي هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها وأعرض وأدبر وتصامم وما به من صمم, كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها, { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي يوم القيامة, يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته.
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتُ النّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
هذا ذكر مآل الأبرار من السعداء في الدار الآخرة, الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين, وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لشريعة الله {لَهُمْ جَنّاتُ النّعِيمِ} أي يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسار من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والنساء والنضرة والسماع, الذي لم يخطر ببال أحد وهم في ذلك مقيمون دائماً لا يظعنون دائماً ولا يبغون عنها حولاً. وقوله تعالى: {وَعْدَ اللّهِ حَقّاً} أي هذا كائن لا محالة لأنه من وعد الله, والله لا يخلف الميعاد, لأنه الكريم المنان الفعال لما يشاء القادر على كل شيء {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء {الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله, الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً } الآية. وقوله {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}.
{خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ(3/535)
بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}
يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض, وما فيها وما بينهما, فقال تعالى: {خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} قال الحسن وقتادة: ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد, لها عمد لا ترونها, وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة الرعد بما أغنى عن إعادته, {وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ} يعني الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء, ولهذا قال {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تميد بكم.
وقوله تعالى: {وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ} أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها, ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله {وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي من كل زوج من النبات كريم, أي حسن المنظر. وقال الشعبي: والناس أيضاً من نبات الأرض, فمن دخل الجنة فهو كريم, ومن دخل النار فهو لئيم. وقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللّهِ} أي هذا الذي ذكره الله تعالى من خلق السموات والأرض وما بينهما صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره, وحده لا شريك له في ذلك, ولهذا قال تعالى: {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ} أي مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد {بَلِ الظّالِمُونَ} يعني المشركين بالله العابدين معه غيره {فِي ضَلاَلٍ} أي جهل وعمى {مّبِينٍ} أي واضح ظاهر لا خفاء به.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ}
اختلف السلف في لقمان: هل كان نبياً أو عبداً صالحاً من غير نبوة ؟ على قولين, الأكثرون على الثاني.وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً. وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير: قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال: كان قصيراً أفطس من النوبة. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر, ذا مشافر, أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة. وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله, فقال له سعيد بن المسيب: لا تحزن من أجل أنك أسود, فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال, ومهجع مولى عمر بن الخطاب, ولقمان الحكيم كان أسود نوبياً ذا مشافر.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي عن أبي الأشهب عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً, فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاه, فذبحها, قال: أخرج أطيب مضغتين فيها, فأخرج اللسان والقلب, ثم مكث ما شاء الله, ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة, فذبحها, قال: أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب, فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها, فأخرجتهما, وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها, فأخرجتهما ؟ فقال لقمان:إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا, ولا أخبث منهما إذا خبثا. وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد: كان لقمان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً.
وقال الأعمش: قال مجاهد: كان لقمان عبداً أسود عظيم الشفتين, مشقق القدمين. وقال حكام بن سالم عن سعيد الزبيدي عن مجاهد: كان لقمان الحكيم عبداً حبشياً, غليظ الشفتين, مصفح القدمين, قاضياً على بني إسرائيل, وذكر غيره أنه كان قاضياً على بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا الحكم, حدثنا عمرو بن قيس قال: كان لقمان عبداً أسود, غليظ الشفتين, مصفح القدمين, فأتاه رجل وهو في مجلس ناس يحدثهم, فقال له: ألست الذي(3/536)
كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال: نعم, قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر قال: إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته, فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك, فقال له: ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس ؟ قال: بلى, قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: قدر الله, وأداء الأمانة, وصدق الحديث, وتركي ما لا يعنيني, فهذه الآثار منها ما هو مصرح فيه بنفي كونه نبياً, ومنها ما هو مشعر بذلك, لأن كونه عبداً قد مسه الرق ينافي كونه نبياً, لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها, ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبياً, وإنما ينقل كونه نبياً عن عكرمة إن صح السند إليه, فإنه رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة, قال: كان لقمان نبياً, وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي, وهو ضعيف, والله أعلم.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش القتباني عن عمر مولى غفرة, قال: وقف رجل على لقمان الحكيم, فقال: أنت لقمان, أنت عبد بني الحسحاس ؟ قال: نعم, قال: أنت راعي الغنم ؟ قال: نعم, قال: أنت الأسود ؟ قال: أما سوادي فظاهر, فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال: وطء الناس بساطك, وغشيهم بابك, ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن صَغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك, قال لقمان: غضي بصري وكفي لساني, وعفة طعمتي وحفظي فرجي, وقولي بصدق, ووفائي بعهدي, وتكرمتي ضيفي, وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني, فذاك الذي صيرني إلى ما ترى. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل, حدثنا عمرو بن واقد, عن عبدة بن رباح, عن ربيعة عن أبي الدرداء أنه قال يوماً وذكر لقمان الحكيم, فقال: ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال, ولكنه كان رجلاً صمصامة سكيتاً, طويل التفكر, عميق النظر, لم ينم نهاراً قط, ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخع, ولا يبول ولا يتغوط, ولا يغتسل, ولا يعبث ولا يضحك, وكان لا يعيد منطقاً نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد, وكان قد تزوج وولد أولاد, فماتوا فلم يبك عليهم, وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر, فبذلك أوتي ما أوتي.
وقد ورد أثر غريب عن قتادة رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي, حدثنا العباس بن الوليد, حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي, حدثنا سعيد عن ابن بشير قتادة قال: خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة, فاختار الحكمة على النبوة, قال: فأتاه جبريل وهو نائم, فذر عليه الحكمة, أو رش عليه الحكمة, قال: فأصبح ينطق بها, قال سعيد: فسمعت عن قتادة يقول: قيل للقمان: كيف اخترت الحكمة على النبوة, وقد خيرك ربك ؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه, ولكنت أرجو أن أقوم بها, ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة, فكانت الحكمة أحب إلي. فهذا من رواية سعيد بن بشير, وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه, فالله أعلم, والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي الفقه في الإسلام,ولم يكن نبياً ولم يوح إليه.
وقوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي الفهم والعلم والتعبير {أَنِ اشْكُرْ للّهِ} أي أمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه, ثم قال تعالى: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}. وقوله {وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ} أي غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعاً, فإنه الغني عما سواه, فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَبُنَيّ لاَ تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ(3/537)
بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْناً عَلَىَ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده, وهو لقمان بن عنقاء بن سدون, واسم ابنه ثاران في قول حكاه السهيلي, وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر, وأنه آتاه الحكمة, وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه, فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً, ثم قال محذراً له {إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أي هو أعظم الظلم. قال البخاري: حدثنا قتيبة, حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بذاك, ألا تسمع إلى قول لقمان {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}" ورواه مسلم من حديث الأعمش به, ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين, كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن, وقال ههنا {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} قال مجاهد: مشقة وهن الولد, وقال قتادة جهداً على جهد, وقال عطاء الخراساني ضعفاً على ضعف.
وقوله {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين, كما قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} الآية, ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, لأنه قال في الآية الأخرى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً, ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه, كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ولهذا قال {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.
قال ابن حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا عبيد الله, أخبرنا إسرائيل عن أبي اسحاق عن سعيد بن وهب قال: قدم علينا معاذ بن جبل, وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فقام فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: "إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً, وأن تطيعوني لا آلوكم خيراً, وإن المصير إلى الله إلى الجنة أو إلى النار إقامة فلا ظعن, وخلود فلا موت".
وقوله {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} أي إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك, ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً, أي محسناً إليهما, {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يعني المؤمنين, {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قال الطبراني في كتاب العشرة: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد, حدثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال: أنزلت في هذه الآية {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} الآية, قال: كنت رجلاً براً بأمي, فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت لتدعن دينك هذا أولا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي , فيقال: يا قاتل أمه, فقلت: لا تفعلي يا أمه, فإني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوماً وليلة لم تأكل, فأصبحت قد جهدت, مكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل, فأصبحت قد اشتد جهدها, فلما رأيت ذلك(3/538)
قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء, فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي, فأكلت.
{يَبُنَيّ إِنّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه عن لقمان الحكيم, ليمتثلها الناس ويقتدوا بها, فقال {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل, وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله إنها ضمير الشأن والقصة, وجوز على هذا رفع مثقال, والأول أولى. وقوله عز وجل {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أي أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط, وجازى عليها إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} الآية. وقال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء, أو غائبة ذاهبة في أرجاء السموات والأرض, فإن الله يأتي بها, لأنه لا تخفى عليه خافية, ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض, ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي لطيف العلم, فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت, {خَبِيرٌ} بدبيب النمل في الليل البهيم.
وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} أنها صخرة تحت الأرضين السبع, وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة إن صح ذلك, ويروى هذا عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمرو وغيرهم, وهذا - والله أعلم - كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, والظاهر - والله أعلم - أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة, فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه. كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان".
ثم قال {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} أي بحدودها وفروضها وأوقاتها {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أي بحسب طاقتك وجهدك {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى, فأمره بالصبر. وقوله {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور وقوله {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يقول لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقاراً منك لهم, واستكباراً عليهم, ولكن ألن جانبك وابسط وجهك إليهم, كما جاء في الحديث "ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط, وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة, والمخيلة لا يحبها الله".
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يقول لا تتكبر فتحقر عباد الله, وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك, وكذا روى العوفي وعكرمة عنه. وقال مالك عن زيد بن أسلم {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} لا تتكلم وأنت معرض, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة ويزيد بن الأصم وأبي الجوزاء وسعيد بن(3/539)
جبير والضحاك وابن زيد وغيرهم. وقال إبراهيم النخعي: يعني بذلك التشديق في الكلام. والصواب القول الأول. وقال ابن جرير: وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها, حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها, فشبه به الرجل المتكبر, ومنه قول عمرو بن حيي التغلبي.
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما
وقال أبو طالب في شعره:
وكنا قديماً لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الرؤوس نقيمها
وقوله {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً, لا تفعل ذلك يبغضك الله, ولهذا قال {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي مختال معجب في نفسه, فخور أي على غيره. وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} وقد تقدم الكلام على ذلك في موضعه. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى, حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بن قيس بن شماس قال: ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدد فيه, فقال: "إن الله لا يحب كل مختال فخور" فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها, ويعجبني شراك نعلي, وعلاقة سوطي, فقال: "ليس ذلك الكبر, إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس" ورواه من طريق أخرى بمثله, وفيه قصة طويلة, ومقتل ثابت ووصيته بعد موته.
وقوله {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبط, ولا بالسريع المفرط, بل عدلاً وسطا بين. وقوله {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه, ولهذا قال {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير, أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه, ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى, وهذا التشبيه في هذا بالحمير, يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه".
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية: حدثنا قتيبة بن سعيد , حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله, وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان, فإنها رأت شيطاناً" وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن جعفر بن ربيعة به, وفي بعض الألفاظ: بالليل, فالله أعلم.
فهذه وصايا نافعة جداً, وهي من قصص القرآن عن لقمان الحكيم, وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة, فلنذكر منها أنموذجاً ودستوراً إلى ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا سفيان, أخبرني نهشل بن مجمع الضبي عن قزعة عن ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئاً حفظه". وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن موسى بن سليمان, عن القاسم يحدث عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع, فإنه مخوفة بالليل مذمة بالنهار".
وقال: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان عن ضمرة, حدثنا الثري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان , أخبرنا ابن المبارك, حدثنا عبد الرحمن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام, يعني السلام, ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد(3/540)
نطقوا, فإن أفاضوا في ذكر الله, فأجل سهمك معهم, وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا ضمرة عن حفص بن عمر قال: وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه, وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل, فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر, قال: فتفطر ابنه.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني, حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي, حدثنا أنس بن سفيان المقدسي عن خليفة بن سلام عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتخذوا السودان, فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم, والنجاشي, وبلال المؤذن" قال أبو القاسم الطبراني أراد الحبش.
فصل في الخمول والتواضع
وذلك متعلق بوصية لقمان عليه السلام لابنه. وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتاباً مفرداً, ونحن نذكر منه مقاصده, قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا عبد الله بن موسى المدني عن أسامة بن زيد بن حفص بن عبد الله بن أنس عن جده أنس بن مالك, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رب أشعث ذي طمرين يصفح عن أبواب الناس إذا أقسم على الله لأبره" ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت, وعلي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره, وزاد "منهم البراء بن مالك".
وقال أبو بكر بن سهل التميمي: حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا نافع بن زيد عن عياش بن عباس عن عيسى بن عبد الرحمن, عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه دخل المسجد, فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما يبكيك يا معاذ ؟ قال: حديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعته يقول: "إن اليسير من الرياء شرك, وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء, الذين إذا غابوا لم يفتقدوا, وإذا حضروا لم يعرفوا, قلوبهم مصابيح الهدى, ينجون من كل غبراء مظلمة".
حدثنا الوليد بن شجاع, حدثنا عفان بن علي عن حميد بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره, لو قال: اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة, ولم يعطه من الدنيا شيئاً". وقال أيضاً: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم يسأله ديناراً أو درهماً أو فلساً لم يعطه, ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها, ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها, ولم يمنعها إياه لهوانه عليه, ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقال أيضاً: حدثنا إسحاق ابن إبراهيم, أخبرنا جعفر بن سليمان, حدثنا عوف قال: قال أبو هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم, وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا, وإذا قالوا لم ينصت لهم, حوائج أحدهم تتجلجل في صدره, لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم". قال: وأنشدني عمر بن شبة عن ابن عائشة قال: قال عبد الله بن المبارك:
ألا رب ذي طمرين في منزل غدا ... زرابيه مبثوثة ونمارقه
قد اطردت أنهاره حول قصره ... وأشرق والتفت عليه حدائقه(3/541)
وروي أيضاً من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم, عن أبي أمامة مرفوعاً "قال الله: من أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ, ذو حظ من صلاة, أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر, وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع إن صبر على ذلك" قال: ثم أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده, وقال: "عجلت منيته, وقل تراثه, وقلت بواكيه" وعن عبد الله بن عمرو قال: أحب عباد الله إلى الله الغرباء, قيل: ومن الغرباء ؟ قال: الفرارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى بن مريم.
وقال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أنعم عليك, ألم أعطك, ألم أسترك ؟ ألم... ألم... ألم أُخمل ذكرك. ثم قال الفضيل: إن استطعت ألا تعرف فافعل, وما عليك أن لا يثنى عليك, وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس محموداً عند الله. وكان ابن محيريز يقول: اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً. وكان الخليل بن أحمد يقول: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك, واجعلني في نفسي من أوضع خلقك. وعند الناس من أوسط خلقك.
(باب ما جاء في الشهرة)
ثم قال: حدثنا أحمد بن عيسى المصري, حدثنا ابن وهب عن عمر بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب, عن سنان بن سعد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حسب امرىء من الشر إلا من عصم الله أن يشير الناس إليه بالإصابع في دينه ودنياه, وإن الله لا ينظر إلى صوركم, ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم" وروي مثله عن إسحاق بن البهلول عن ابن أبي فديك, عن محمد بن عبد الواحد الأخنسي, عن عبد الواحد بن أبي كثير عن جابر بن عبد الله مرفوعاً مثله, وروي عن الحسن مرسلاً نحوه فقيل للحسن: فإنه يشار إليك بالأصابع, فقال: إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق.
وعن علي رضي الله عنه قال: لا تبدأ لأن تشتهر, ولا ترفع شخصك لتذكر, وتعلم واكتم, واصمت تسلم, تسر الأبرار وتغيظ الفجار. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال أيوب: ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه. وقال محمد بن العلاء: من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس. وقال سماك بن سلمة: إياك وكثرة الأخلاء وقال أبان بن عثمان: إن أحببت أن يسلم إليك دينك فأقل من المعارف. كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم.
وقال: حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا شعبة عن عوف عن أبي رجاء قال: رأى طلحة قوماً يمشون معه فقال: ذباب طمع وفراش النار.
وقال ابن إدريس عن هارون بن ابن عنترة عن سليم بن حنظلة قال: بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال: إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال ابن عون عن الحسن: خرج ابن مسعود فاتبعه أناس, فقال: والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وقال حماد بن زيد: كنا إذا مررنا على المجلس ومعنا أيوب فسلم, ردوا رداً شديداً, فكان ذلك يغمه. وقال عبد الرزاق عن معمر: كان أيوب يطيل قميصه, فقيل له في ذلك, فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص, واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبي صلى الله عليه وسلم, فلبسهما أياماً ثم خلعهما, وقال: لم أر الناس يلبسونهما. وقال إبراهيم النخعي: لا تلبس من الثياب ما يشهر في الفقهاء ولا ما يزدريك السفهاء. وقال الثوري: كانوا يكرهون من الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم. والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه.
وحدثنا خالد بن خداش, حدثنا حماد عن أبي حسنة صاحب الزيادي قال: كنا عند أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال: إياكم وهذا الحمار النهاق. وقال الحسن رحمه الله: إن قوماً جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم, فصاحب الكساء بكسائه أعظم من صاحب المطرف بمطرفه ما لهم تفاقدوا. وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ما(3/542)
لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان, وقلوبكم قلوب الذئاب, البسوا ثياب الملوك, وألينوا قلوبكم بالخشية.
(فصل في حسن الخلق)
قال أبو التياح عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً وعن عطاء عن ابن عمر: قيل يا رسول الله أي المؤمنين أفضل ؟ قال: "أحسنهم خلقاً". وعن نوح بن عباد عن ثابت عن أنس مرفوعاً "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الآخرة وشرف المنازل, وإنه لضعيف العبادة, وإنه ليبلغ بسوء خلقه درك جهنم وهو عابد" وعن سيار بن هارون عن حميد عن أنس مرفوعاً "ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة" وعن عائشة مرفوعاً "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار".
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس, حدثنا عبد الله بن إدريس, أخبرني أبي وعمي عن جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة, فقال: "تقوى الله وحسن الخلق". وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: "الأجوفان: الفم والفرج" وقال أسامة بن شريك: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته الأعراب من كل مكان, فقالوا: يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال: "حسن الخلق".
وقال يعلى بن سماك عن أم الدرداء عن أبي الدرداء يبلغ به قال: ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق, وكذا رواه عطاء عن أم الدرداء به. وعن مسروق عن عبد الله مرفوعاً "إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً". حدثنا عبد الله بن أبي بدر, حدثنا محمد بن عيسى عن محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليعطي العبد على الثواب من حسن الخلق, كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه الأجر ويروح". وعن مكحول عن أبي ثعلبة مرفوعاً "إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً, وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منزلاً في الجنة مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون" وعن أبي أويس عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعاً "ألا أخبركم بأكملكم إيماناً أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يؤلفون ويألفون".
وقال الليث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة عن بكر ابن أبي الفرات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حسن الله خلق رجل وخلقه فتطعمه النار". وعن عبد الله بن غالب الحداني عن أبي سعيد مرفوعاً "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق". وقال ميمون بن مهران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق" وذلك أن صاحبه لا يخرج من ذنب إلا وقع في آخر. قال: حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو المغيرة الأحمسي, حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن رجل من قريش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق, إن الخلق الحسن ليذيب الذنوب. كما تذيب الشمس الجليد, وإن الخلق السيء ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل". وقال عبد الله بن إدريس عن أبيه عن جده عن أبي هريرة مرفوعاً "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم, ولكن يسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق" . وقال محمد بن سيرين: حسن الخلق عون على الدين.
(فصل في ذم الكبر)
قال علقمة عن ابن مسعود رفعه "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر, ولا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان" وقال إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً "من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر, أكبه الله على وجهه في النار" حدثنا إسحاق بن إسماعيل,(3/543)
حدثنا أبو معاوية عن عمر بن راشد عن إياس بن سلمة عن أبيه مرفوعاً "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله من الجبارين, فيصيبه ما أصابهم من العذاب".
وقال مالك بن دينار: ركب سليمان بن داود عليهما السلام ذات يوم البساط في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن, فرفع حتى سمع تسبيح الملائكة في السماء, ثم خفضوه حتى مست قدمه ماء البحر, فسمعوا صوتاً لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسف به أبعد مما رفع قال: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان حتى إن أحدنا ليقذر نفسه فيقول: خرج من مجرى البول مرتين.
وقال الشعبي: من قتل اثنين فهو جبار, ثم تلا {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} وقال الحسن: عجباً لابن آدم يغسل الخرء بيده في اليوم مرتين, ثم يتكبر يعارض جبار السموات. قال: حدثنا خالد بن خداش, حدثنا حماد بن زيد عن علي بن الحسن عن الضحاك بن سفيان, فذكر حديث ضرب مثل الدنيا بما يخرج من ابن آدم وقال الحسن عن يحيى عن أبي قال: إن مطعم بن آدم ضرب مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه. وقال محمد بن الحسين بن علي - من ولد علي رضي الله عنه - ما دخل قلب رجل شيء من الكبر, إلا نقص من عقله بقدر ذلك.
وقال يونس بن عبيد: ليس مع السجود كبر, ولا مع التوحيد نفاق. ونظر طاوس إلى عمر بن عبد العزيز وهو يختال في مشيته, وذلك قبل أن يستخلف, فطعن طاوس في جنبه بأصبعه, وقال: ليس هذا شأن من في بطنه خرء ؟ فقال له كالمعتذر إليه: يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كانت بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلمون هذه المشية.
(فصل في الإختيال)
عن أبي ليلى عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعاً "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه" ورواه عن إسحاق بن إسماعيل عن سفيان بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعاً مثله. وحدثنا محمد بن بكار, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره, وبينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه خسف الله به الأرض, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" وروى الزهري عن سالم عن أبيه بينما رجل إلى آخره.
{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ}
يقول تعالى منبهاً خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم, وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد, وجعله إياها لهم سقفاً محفوظاً, وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار, وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة الشبه والعلل, ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم, بل منهم من يجادل في الله, أي في توحيده وإرساله الرسل ومجادلته في ذلك بغير علم, ولا مستند من حجة صحيحة, ولا(3/544)
كتاب مأثور صحيح, ولهذا قال تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ} أي مبين مضيء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} أي لهؤلاء المجادلين في توحيد الله {اتّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ} أي على رسوله من الشرائع المطهرة {قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} أي لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين, قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} أي فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه, ولهذا قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ}.
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ وَإِلَىَ اللّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوَاْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمّ نَضْطَرّهُمْ إِلَىَ عَذَابٍ غَلِيظٍ}
يقول تعالى مخبراً عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه, ولهذا قال {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في عمله باتباع ما به أمر, وترك ما عنه زجر {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} أي فقد أخذ موثقاً من الله متيناً لا يعذبه {وَإِلَىَ اللّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} أي لا تحزن عليهم يا محمد في كفرهم بالله وبما جئت به, فإن قدر الله نافذ فيهم, وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما عملوا, أي فيجزيهم عليه {إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ} فلا تخفى عليه خافية, ثم قال تعالى: {نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً} أي في الدنيا {ثُمّ نَضْطَرّهُمْ} أي نلجئهم {إِلَىَ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي فظيع صعب مشق على النفوس, كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ}
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء المشركين به أنهم يعرفون أن الله خالق السموات والأرض وحده لا شريك له, ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له, ولهذا قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ} أي إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. ثم قال تعالى: {لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} أي هو خلقه وملكه {إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ} أي الغني عما سواه. وكل شيء فقير إليه, الحميد في جميع ما خلق, له الحمد في السموات والأرض على ما خلق وشرع, وهو المحمود في الأمور كلها.
{وَلَوْ أَنّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}(3/545)
يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا, وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد, ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها, كما قال سيد البشر وخاتم الرسل "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ} أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً وجعل البحر مداداً وأمده سبعة أبحر معه, فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفذ ماء البحر, ولو جاء أمثالها مدداً, وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة, ولم يرد الحصر ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, بل كما قال تعالى في الآية الأخرى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} فليس المراد بقوله {بِمِثْلِهِ} آخر فقط بل بمثله ثم بمثله, ثم بمثله ثم هلم جرا, لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته.
قال الحسن البصري: لو جعل شجر الأرض أقلاماً, وجعل البحر مداداً, وقال الله إن من أمري كذا ومن أمري كذا, لنفد ماء البحر وتكسرت الأقلام. وقال قتادة: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد, فقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} أي لو كان شجر الأرض أقلاماَ ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه. وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها, وقد أنزل الله ذلك {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية, يقول: لو كان البحر مداداً لكلمات الله, والأشجار كلها أقلاماً, لا نكسرت الأقلام وفني ماء البحر, وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء, لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني كما ينبغي, حتى يكون هو الذي يثني على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول.
وقد روي أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود. قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جيبر أو عكرمة عن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد أرأيت قولك {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلاكما" قالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها في علم الله قليل, وعندكم من ذلك ما يكفيكم" وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية, وهكذا روي عن عكرمة وعطاء بن بشار, وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية, لا مكية, والمشهور أنها مكية, والله أعلم.
وقوله {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه, فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه, حكيم في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه. وقوله تعالى: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة, الجميع هين عليه, {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة, فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة, كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة, ولهذا قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية.
{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ الْلّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِيَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى وَأَنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللّهَ(3/546)
هُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ}
يخبر تعالى أنه {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} يعني يأخذ منه في النهار فيطول ذاك, ويقصر هذا, وهذا يكون زمن الصيف, يطول النهار إلى الغاية, ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار, وهذا يكون في الشتاء {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قيل إلى غاية محدودة, وقيل إلى يوم القيامة, وكلا المعنيين صحيح, ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر رضي الله عنه الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب فتسجد تحت العرش, ثم تستأذن ربها فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح, حدثنا يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس أنه قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها, فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها, قال: وكذلك القمر, إسناده صحيح.
وقوله {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} كقوله {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } ومعنى هذا أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء, كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} أي إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق, أي الموجود الحق الإله الحق, وأن كل ما سواه باطل, فإنه الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه, لأن كل ما في السموات والأرض الجميع خلقه وعبيده, لا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه, ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذباباً لعجزوا عن ذلك , ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي العلي الذي لا أعلى منه, الكبير الذي هو أكبر من كل شيء, فكل خاضع حقير بالنسبة إليه.
{أَلَمْ تَرَ أَنّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مّوْجٌ كَالظّلَلِ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ كُلّ خَتّارٍ كَفُورٍ}
يخبر تعالى أنه هو الذي سخر البحر لتجري فيه الفلك بأمره, أي بلطفه وتسخيره, فإنه لو لا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت, ولهذا قال {يُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} أي من قدرته { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي صبار في الضراء شكور في الرخاء, ثم قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي كالجبال والغمام {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} الآية.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال مجاهد: أي كافر كأنه فسر المقتصد ههنا بالجاحد, كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}. وقال ابن زيد: هو المتوسط في العمل, وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى: {مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية, فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل, ويحتمل أن يكون مراداً هنا أيضاً, ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام والآيات الباهرات في(3/547)
البحر, ثم بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام, والدؤوب في العبادة, والمبادرة إلى الخيرات, فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصراً والحالة هذه والله أعلم. وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} فالختار هو الغدار, قاله مجاهد والحسن وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم: وهو الذي كلما عاهد نقض عهده, والختر أتم الغدر وأبلغه. قال عمرو بن معد يكرب.
وإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر
وقوله {كَفُورٍ} أي جحود للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها.
{يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ}
يقول تعالى منذراً للناس يوم المعاد, وآمراً لهم بتقواه والخوف منه والخشية من يوم القيامة حيث {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه. وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه. لم يقبل منه, ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة { وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يعني الشيطان. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة, فإنه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه, وليس من ذلك شيء بل كان ما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} قال وهب بن منبه: قال عزير عليه السلام: لما رأيت بلاء قومي, اشتد حزني وكثر همي وأرق نومي, فضرعت إلى ربي وصليت وصمت, فأنا في ذلك أتضرع أبكي, إذ أتاني الملك فقلت له, خبرني هل تشفع أرواح المصدقين للظلمة أو الآباء لأبنائهم ؟ قال: إن القيامة فيها فصل القضاء, وملك ظاهر ليس فيه رخصة لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن, ولا يؤخذ فيه والد عن ولده, ولا ولد عن والده, ولا أخ عن أخيه, ولا عبد عن سيده, ولا يهتم أحد به غيره, ولا يحزن لحزنه, ولا أحد يرحمه, كل مشفق على نفسه, ولا يؤخذ إنسان عن إنسان, كل يهمه همه, ويبكي عوله, ويحمل وزره, ولا يحمل وزره معه غيره, رواه ابن أبي حاتم.
{إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ}
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها, فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها, فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك, ومن يشاء الله من خلقه, وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه, ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى أو شقياً أو سعيداً, علم الملائكة الموكلون بذلك, ومن شاء الله من خلقه, وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان, لا علم لأحد بذلك, وهذه شبيهة بقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الآية. وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح(3/548)
الغيب.
قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثني حسين بن واقد, حدثني عبد الله بن بريدة, سمعت أبي بريدة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}" هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجوه.
(حديث ابن عمر) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}" انفرد بإخراجه البخاري, فرواه في كتاب الإستسقاء في صحيحه عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان بن سعيد الثوري به. ورواه في التفسير من وجه آخر, فقال: حدثنا يحيى بن سليمان,حدثنا ابن وهب, حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر أن أباه حدثه أن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفاتيح الغيب خمس" ثم قرأ {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام} انفرد به أيضاً. ورواه الإمام أحمد عن غندر عن شعبة عن عمر بن محمد أنه سمع أباه يحدث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}".
(حديث ابن مسعود) رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن شعبة, حدثني عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: قال عبد الله: أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وكذا رواه عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة به. وزاد في آخره. قال: قلت له أنت سمعته من عبد الله ؟ قال: نعم, أكثر من خمسين مرة, ورواه أيضاً عن وكيع عن مسعر عن عمرو بن مرة به. وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن, ولم يخرجوه.
(حديث أبي هريرة) قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إسحاق عن جرير عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله, ما الإيمان ؟ قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته, وكتبه ورسله ولقائه, وتؤمن بالبعث الآخر" قال: يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان" قال: يا رسول الله ما الإحسان ؟ قال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال: يا رسول الله متى الساعة ؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل, ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها, وإذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله, {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية, ثم انصرف الرجل فقال: "ردوه علي" فأخذوا ليردوه, فلم يروا شيئاً, فقال: "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم" ورواه البخاري أيضاً في كتاب الإيمان, ومسلم عن طرق عن أبي حيان به. وقد تكلمنا عليه في أول شرح البخاري, وذكرنا ثم حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ذلك بطوله, وهو من أفراد مسلم.(3/549)
(حديث ابن عباس) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا عبد الحميد, حدثنا شهر, حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فأتاه جبريل, فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً كفيه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: حدثني ما الإسلام ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تسلم وجهك لله عز وجل, وتشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله" قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت ؟ قال: "إذا فعلت ذلك فقد أسلمت" قال: يا رسول الله, فحدثني ما الإيمان ؟ قال: "الإيمان أن تؤمن بالله واليوم الآخر, والملائكة والكتاب والنبيين, وتؤمن بالموت وبالحياة بعد الموت, وتؤمن بالجنة والنار, والحساب والميزان, وتؤمن بالقدر كله: خيره وشره" قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ قال: "إذا فعلت ذلك فقد آمنت" قال: يا رسول الله حدثني ما الإحسان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه, فإن كنت لا تراه فإنه يراك" قال: يا رسول الله فحدثني متى الساعة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " - سبحان الله - في خمس لا يعلمهن إلا هو {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك" - قال: أجل يا رسول الله, فحدثني, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت الأمة ولدت ربتها - أو ربها - ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان, ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس, فذلك من معالم الساعة وأشراطها" قال: يا رسول الله ومن أصحاب الشاء الحفاة الجياع العالة ؟ قال: "العرب" حديث غريب, ولم يخرجوه.
(حديث رجل من بني عامر) روى الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمة: "اخرجي إليه, فإنه لا يحسن الإستئذان, فقولي له فليقل: السلام عليكم, أأدخل ؟" قال: فسمعته يقول ذلك, فقلت: السلام عليكم, أأدخل ؟ فأذن لي فدخلت, فقلت: بمَ أتيتنا به ؟ قال: "لم آتكم إلا بخير, أتيتكم بأن تعبدوا الله وحده لا شريك له, وأن تدعوا اللات والعزى, وأن تصلوا بالليل والنهار خمس صلوات, وأن تصوموا من السنة شهراً, وأن تحجوا البيت, وأن تأخذوا الزكاة من مال أغنيائكم فتردوها على فقرائكم" قال: فقال فهل بقي من العلم شيء لا تعلمه ؟ قال: "قد علّمني الله عز وجل خيراً, وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل: الخمس {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية, وهذا إسناد صحيح.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: جاء رجل من أهل البادية فقال: إن امرأتي حبلى, فأخبرني ما تلد, وبلادنا مجدبة, فأخبرني متى ينزل الغيث, وقد علمت متى ولدت, فأخبرني متى أموت فأنزل الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ - إلى قوله - عَلِيمٌ خَبِيرٌ} قال مجاهد: وهي مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب, ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً}.
وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} قال قتادة: أشياء استأثر الله بهن, فلم يطلع عليهنّ ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة, أو في أي شهر, أو ليل أو نهار {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى, أحمر أو أسود, وما هو {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} أخير أم شر, ولا تدري يا ابن آدم متى تموت لعلك الميت غداً,(3/550)
لعلك المصاب غداً {مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض, أفي بحر أم بر أو سهل أو جبل. وقد جاء في الحديث "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة" فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير في مسند أسامة بن زيد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جعل الله ميتة عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة".
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة, حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن أبي إسحاق عن مطر بن عكاش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى الله ميتة عبد بأرض جعل له إليها حاجة" وهكذا رواه الترمذي في القدر من حديث سفيان الثوري به, ثم قال: حسن غريب, ولا يعرف لمطر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث, وقد رواه أبو داود في المراسيل, فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا أيوب عن أبي المليح بن أسامة عن أبي عزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله قبض روح عبد بأرض جعل له فيها - أو قال - بها حاجة" وأبو عزة هذا هو يسار بن عبيد الله, ويقال ابن عبد الهذلي. وأخرجه الترمذي من حديث إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن علية, وقال: صحيح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام الأصفهاني, حدثنا المؤمل بن إسماعيل, حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي عزة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ - إلى - عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن ثابت الجحدري ومحمد بن يحيى القطعي قالا: حدثنا عمر بن علي, حدثنا إسماعيل عن قيس عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة" ثم قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحداً يرفعه إلا عمر بن علي المقدمي. وقال ابن أبي الدنيا: حدثني سليمان بن أبي مسيح قال: أنشدني محمد بن الحكم لأعشى همدان:
فما تزود مما كان يجمعه ... سوى حنوط غداة البين مع خرق
وغير نفحة أعواد تشب له ... وقل ذلك من زاد لمنطلق
لا تأسين على شيء فكل فتى ... إلى منيته سيار في عنق
وكل من ظن أن الموت يخطئه ... معلل بأعاليل من الحمق
بأيما بلدة تقدر منيته ... إن لا يسير إليها طائعاً يُسق
أورده الحافظ ابن عساكر رحمه الله في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث, وهو أعشى همدان, وكان الشعبي زوج أخته, وهو مزوج بأخت الشعبي أيضاً, وقد كان ممن طلب العلم والتفقه, ثم عدل إلى صناعة الشعر فعرف به, وقد روى ابن ماجه عن أحمد بن ثابت وعمر بن شبة, كلاهما عن عمر بن علي مرفوعاً إذا كان أجل أحدكم بأرض أوثبته له إليها حاجة, فإذا بلغ أقصى أثره قبضه الله عز وجل, فتقول الأرض يوم القيامة: رب هذا ما أودعتني, قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما جعل الله منية عبد بأرض إلا جعل له إليها حاجة".
آخر تفسير سورة لقمان ، والحمد لله رب العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل(3/551)
سورة السجدة
روى البخاري في كتاب الجمعة: حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة {الَمَ تَنزِيلُ} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} ورواه مسلم أيضاً من حديث سفيان الثوري به. وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا الحسن بن صالح عن ليث عن أبي الزبير عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة, وتبارك الذي بيده الملك, تفرد به أحمد.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الَمَ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقّ مِن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ}
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم قال تعالى مخبراً عن المشركين {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي اختلقه من تلقاء نفسه {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي يتبعون الحق.
{اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
يخبر تعالى أنه خالق للأشياء فخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى على العرش, وقد تقدم الكلام على ذلك {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} أي بل هو المالك لأزمة الأمور, الخالق لكل شيء, المدبر لكل شيء, القادر على كل شيء, فلا ولي لخلقه سواه, ولا شفيع إلا من بعد إذنه {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} يعني أيها العابدون غيره المتوكلون على من عداه, تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أو عديل, لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقد أورد النسائي ههنا حديثاً فقال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب, حدثني محمد بن الصباح, حدثنا أبو عبيدة الحداد, حدثنا الأخضر بن عجلان عن أبي جريج المكي عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال: "إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى على العرش في اليوم السابع, فخلق التربة يوم السبت, والجبال يوم الأحد, والشجر يوم الاثنين, والمكروه يوم الثلاثاء, والنور يوم الأربعاء, والدواب يوم الخميس, وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر, وخلقه من أديم الأرض: أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها, من أجل ذلك جعل الله من بني آدم الطيب والخبيث" هكذا أورد هذا الحديث إسناداً ومتنا, وقد أخرج(3/552)
مسلم والنسائي أيضاً من حديث حجاج بن محمد الأعور, عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية, عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق وقد علله البخاري في كتاب التاريخ الكبير فقال: وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح, وكذا علله غير واحد من الحفاظ, والله أعلم.
قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة, كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} الآية, وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة وسمك السماء خمسمائة سنة وقال مجاهد وقتادة والضحاك: النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام وصعوده في مسيرة خمسمائة عام, ولكنه يقطعها في طرفة عين, ولهذا قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المدبر لهذه الأمور, الذي هو شهيد على أعمال عباده, يرفع إليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها, هو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه, ودانت له العباد والرقاب, الرحيم بعباده المؤمنين, فهو عزيز في رحمته رحيم في عزته.
{الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ}
يقول تعالى مخبراً أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها. وقال مالك عن زيد بن أسلم {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قال: أحسن خلق كل شيء كأنه جعله من المقدم والمؤخر, ثم لما ذكر تعالى خلق السموات والأرض, شرع في ذكر خلق الإنسان, فقال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} يعني خلق أبا البشر آدم من طين {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} أي يتناسلون كذلك من نطفة من بين صلب الرجل وترائب المرأة {ثُمَّ سَوَّاهُ} يعني آدم لما خلقه من تراب, خلقاً سوياً مستقيماً {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} يعني العقول {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل, فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عز وجل.
{وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في استبعادهم المعاد حيث قالوا {أئذا ضللنا في الأرض} أي تمزقت أجسامنا وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت {أئنا لفي خلق جديد} أي أئنا لنعود بعد تلك الحال ؟ يستعبدون ذلك , وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قدرتهم العاجزة لا بالنسبة إلى قدرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم, الذي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون, ولهذا قال تعالى: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} ثم قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة, كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في سورة إبراهيم, وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور, قاله قتادة وغير واحد وله أعوان, وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم وتناولها ملك الموت, قال مجاهد: حويت له(3/553)
الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يشاء, ورواه زهير بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه مرسلاً, وقاله ابن عباس رضي الله عنهما.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن أبي يحيى المقري, حدثنا عمر بن سمرة عن جعفر بن محمد قال: سمعت أبي يقول: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن" فقال ملك الموت: يا محمد طب نفساً وقر عيناً, فإني بكل مؤمن رفيق, واعلم أن ما في الأرض بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات, حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم,والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الأمر بقبضها. قال جعفر: بلغني أنه إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة, فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان, ولقنه الملك لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحال العظيمة. وقال عبد الرزاق: حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال سمعت مجاهداً يقول: ما على ظهر الأرض من بيت شعر أو مدر إلا وملك الموت يطوف به كل يوم مرتين. وقال كعب الأحبار: والله ما من بيت فيه أحد من أهل الدنيا إلا وملك الموت يقوم على بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوفاه, رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي يوم معادكم وقيامكم من قبوركم لجزائكم.
{وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لأتينا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ إِنّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة وقالهم حين عاينوا البعث وقاموا بين يدي الله عز وجل, حقيرين ذليلين ناكسي رؤوسهم, أي من الحياء والخجل يقولون {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك, كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وهكذا هؤلاء يقولون {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} أي إلى دار الدنيا {نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} أي قد أيقنا وتحققنا فيها أن وعدك حق ولقاءك حق, وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى دار الدنيا لكانوا كما كانوا فيها كفاراً يكذبون بآيات الله ويخالفون رسله, كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الآية, وقال ههنا {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} {لَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي من الصنفين فدارهم النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها, نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك, {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به واستبعادكم وقوعه وتناسيكم له إذ عاملتموه معاملة من هو ناس له {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي سنعاملكم معاملة الناسي, لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء, بل من باب المقابلة كما قال تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وقوله تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي(3/554)
بسبب كفركم وتكذيبكم, كما قال تعالى في الآية الأخرى {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً - إلى قوله - فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً}.
{إِنّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرّواْ سُجّداً وَسَبّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يقول تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} أي إنما يصدق بها {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً} أي استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي عن أتباعهم والانقياد لها كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة, قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ثم قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والإضطجاع على الفرش الوطيئة, قال مجاهد والحسن في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} يعني بذلك قيام الليل. وعن أنس وعكرمة ومحمد بن المنكدر وأبي حازم وقتادة: هو الصلاة بين العشاءين, وعن أنس أيضاً: هو انتظار صلاة العتمة. ورواه ابن جرير بإسناد جيد. وقال الضحاك: هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي خوفاً من وبال عقابه وطمعاً في جزيل ثوابه {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية, ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والآخرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى, فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمذاني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول: ربنا أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي, ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزموا, فعلم ما عليه من الفرار وما له في الرجوع, فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي, فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه". وهكذا رواه أبو داود في الجهاد عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار, قال: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه, تعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت - ثم قال: - ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة, والصدقة تطفيء الخطيئة, وصلاة الرجل في جوف الليل - ثم قرأ - {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثم قال - ألا أخبرك برأس الأمر(3/555)
وعموده وذروة سنامه ؟ - فقلت: بلى يارسول الله فقال: - "رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروه سنامه الجهاد في سبيل الله" - ثم قال -: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " فقلت: بلى يا نبي الله, فأخذ بلسانه ثم قال "كف عليك هذا". فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به, فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ, وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم" ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم من طرق عن معمر به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه ابن جرير من حديث شعبة عن الحكم قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة, وقيام العبد في جوف الليل" وتلا هذه الآية {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ورواه أيضاً من حديث الثوري عن منصور بن المعتمر عن الحكم, عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ومن حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت, والحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ مرفوعاً بنحوه. ومن حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر, عن معاذ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} قال: "قيام العبد من الليل".
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا فطر بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت والحكم وحكيم بن جرير عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي لله في غزوة تبوك فقال: "إن شئت أنبأتك بأبواب الخير: الصوم جنة, والصدقة تطفىء الخطيئة, وقيام الرجل في جوف الليل" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} الآية, ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم, ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} - الآية - فيقومون وهم قليل".
وقال البزار: حدثنا عبد الله بن شبيب, حدثنا الوليد بن العطاء بن الأغر, حدثنا عبد الحميد بن سليمان, حدثني مصعب عن زيد بن أسلم عن أبيه, قال: قال بلال: لما نزلت هذه الآية {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} الآية, كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء, فنزلت هذه الآية {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ثم قال: لا نعلم روى أسلم عن بلال سواه, وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق.
وقوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية, أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد, لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب, جزاء وفاقاً, فإن الجزاء من جنس العمل قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم, فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر, رواه ابن أبي حاتم.
قال البخاري قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية, حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قال: وحدثنا سفيان, حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال الله مثله. قيل لسفيان رواية, قال: فأي شيء ؟ ورواه مسلم والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الترمذي: حسن صحيح, ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر, حدثنا أبو أسامة عن الأعمش, حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر ذخراً من بله ما اطلعتم عليه" ثم قرأ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح: قرأ أبو هريرة {قُرّاَتِ أَعْيُنٍ}(3/556)
انفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" أخرجاه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق, قال: ورواه الترمذي في التفسير, وابن جرير من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال حماد بن سلمة عن ثابت بن أبي رافع, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حماد: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يدخل الجنة ينعم لا يبأس, لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه, في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وروى الإمام أحمد: حدثنا هارون, حدثنا ابن وهب, حدثني أبو صخر أن أبا حازم حدثه قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى, ثم قال في آخر حديثه "فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" ثم قرأ هذه الآية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع - إلى قوله - يعملون} وأخرجه مسلم في صحيحه عن هارون بن معروف وهارون بن سعيد, كلاهما عن ابن وهب به وقال ابن جرير: حدثني العباس بن أبي طالب, حدثنا معلى بن أسد, حدثنا سلام بن أبي مطيع عن قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه عز وجل قال: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" لم يخرجوه. وقال مسلم أيضاً في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر وغيره, حدثنا سفيان, حدثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن سعيد, سمعا الشعبي يخبر عن المغيرة بن شعبة قال: سمعته على المنبر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل: ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة, فيقال له: ادخل الجنة, فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك مَلكٍ من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب, فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله, ومثله فقال في الخامسة, رضيت رضيت ربي, فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله, ولك ما اشتهت ولذت عينك, فيقول: رضيت رب, قال: رب فأعلاهم منزلة ؟ قال: أولئك الذين أردت, غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها, فلم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر, قال: ومصداقه من كتاب الله عز وجل {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية, ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر وقال: حسن صحيح. قال: ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة ولم يرفعه, والمرفوع أصح.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن منير المدائني, حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد, حدثنا زياد بن خيثمة عن محمد بن جحادة عن عامر بن عبد الواحد قال, بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكانه سبعين سنة, ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه, فتقول: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب, فيقول: من أنت ؟ فتقول: أنا من المزيد, فيمكث معها سبعين سنة, ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه, فتقول له: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب, فيقول: من أنت ؟ فتقول: أنا التي قال الله {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: تدخل عليهم الملائكة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات, معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم, وذلك قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ويخبرون أن الله عنهم راض. وروى ابن جرير:(3/557)
حدثنا سهل بن موسى الرازي, حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أبي اليمان الهوزني أو غيره, قال: الجنة مائة درجة, أولها درجة فضة, وأرضها فضة, ومساكنها فضة, وآنيتها فضة, وترابها المسك, والثانية ذهب, وأرضها ذهب, ومساكنها ذهب, وآنيتها ذهب, وترابها المسك, والثالثة لؤلؤ, وأرضها لؤلؤ, ومساكنها اللؤلؤ, وآنيتها اللؤلؤ, وترابها المسك, وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم تلا هذه الآية {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} الآية.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا معتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين قال: "يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ينقص بعضها من بعض, فإن بقيت حسنة واحدة وسع الله له في الجنة", قال: فدخلت على بزداد فحدث بمثل هذا الحديث, قال: فقلت فأين ذهبت الحسنة ؟ قال {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} الآية, قلت: قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قال: العبد يعمل سراً أسره إلى لله لم يعلم به الناس, فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين.
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ أَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوَىَ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمّا الّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النّارُ كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ وَلَنُذِيقَنّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الأدْنَىَ دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ ثُمّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}
يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله, بمن كان فاسقاً أي خارجاً عن طاعة ربه, مكذباً لرسل الله إليه, كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الآية, ولهذا قال تعالى ههنا {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} أي عند الله يوم القيامة, وقد ذكر عطاء بن يسار والسدي وغيرهما أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط, ولهذا فصل حكمهم فقال {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا يمقتضاها وهي الصالحات {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} أي التي فيها المساكن والدور والغرف العالية {نُزُلاً} أي ضيافة وكرامة {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} أي خرجوا عن الطاعة فمأواهم النار, كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها, كقوله {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآية قال الفضيل بن عياض: "والله إن الأيدي لموثقة, وإن الأرجل لمقيدة, وإن اللهب ليرفعهم, والملائكة تقمعهم {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً.
وقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قال ابن عباس: يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها, وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه. وروي(3/558)
مثله عن أبي بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد وقتادة وعبد الكريم الجزري وخصيف. وقال ابن عباس في رواية عنه: يعني به إقامة الحدود عليهم. وقال البراء بن عازب ومجاهد وأبو عبيدة: يعني به عذاب القبر. وقال النسائي, أخبرنا عمرو بن علي, أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص, وأبي عبيدة عن عبد الله {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قال: سنون أصابتهم.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القواريري, حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن عروة عن الحسن العوفي عن يحيى الجزار, عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب في هذه الآية {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} قال: القمر والدخان قد مضيا والبطشة واللزام, ورواه مسلم من حديث شعبة به موقوفاً نحوه. وعند البخاري عن ابن مسعود نحوه. وقال عبد الله بن مسعود أيضاً في رواية عنه: العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر, وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم. قال السدي وغيره: لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير, فأصيبوا أو غرموا, ومنهم من جمع له الأمران.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أي لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها, ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها. قال قتادة.: إياكم والإعراض عن ذكر الله, فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة, وأعوز أشد العوز, وعظم من أعظم الذنوب, ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام. وروى ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي, حدثنا محمد بن المبارك, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله عن عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله يقول: ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق, أو عق والديه, أو مشى مع ظالم ينصره فقد أجرم, يقول الله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش به وهذا حديث غريب جداً.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنّ رَبّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه آتاه الكتاب, وهو التوراة, وقوله تعالى: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} قال قتادة: يعني به ليلة الإسراء, ثم روي عن أبي العالية الرياحي قال: حدثني ابن عم نبيكم, يعني ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة, ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض, سبط الرأس, ورأيت مالكاً خازن النار والدجال" في آيات أراهن الله إياه {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن علي الحلواني, حدثنا روح بن عبادة. حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي العالية, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} قال: جعل موسى هدى لبني إسرائيل, وفي قوله {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}(3/559)
قال: من لقاء موسى ربه عز وجل. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ} أي الكتاب الذي آتيناه {هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ} كما قال تعالى في سورة الإسراء {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً}.
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} أي لما كانوا صابرين على أوامر الله, وترك زواجره, وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به, كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله, ويدعون إلى الخير, ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, ثم لما بدلوا وحرفوا وأولوا, سلبوا ذلك المقام, وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه, فلا عملاً صالحاً ولا اعتقاداً صحيحاً, ولهذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ} قال قتادة وسفيان: لما صبروا عن الدنيا وكذلك قال الحسن بن صالح قال سفيان: هكذا كان هؤلاء, ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا قال وكيع: قال سفيان: لا بد للدين من العلم, كما لا بد للجسد من الخبز. وقال ابن بنت الشافعي: قرأ أبي على عمي أو عمي على أبي: سئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ألم تسمع قوله {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قال: لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوساء. قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} الآية, كما قال هنا {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي من الاعتقادات والأعمال.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ}
يقول تعالى: أولم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل, ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من قويم السبل, فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} ولهذا قال {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي هؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين, فلا يرون منها أحداً ممن يسكنها ويعمرها, ذهبوا منها {كأن لم يغنوا فيها} كما قال {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} وقال {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ - إلى قوله - وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ولهذا قال ههنا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ} أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل, ونجاة من آمن بهم, لآيات وعبراً ومواعظ ودلائل متناظرة {أَفَلا يَسْمَعُونَ} أي أخبار من تقدم كيف كان أمرهم.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح, وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته, ولهذا قال تعالى: {إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} وهي التي لا نبات فيها, كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أي يبساً لا تنبت شيئاً, وليس المراد من قوله {إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} أرض مصر فقط, بل هي بعض المقصود وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست هي المقصودة وحدها, ولكنها مرادة قطعاً من هذه الآية, فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو(3/560)
نزل عليها مطراً لتهدمت أبنيتها, فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة, وفيه طين أحمر, فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضاً, لينبت الزرع فيه, فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم, وطين جديد من غير أرضهم, فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبدً.
قال ابن لهيعة عن قيس بن حجاج عمن حدثه قال: لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص, حين دخل بؤونة من أشهر العجم, فقالوا: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها قال: وما ذاك ؟ قالوا: إن كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر, عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها, فأرضينا أبويها, وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون, ثم ألقيناها في هذا النيل, فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام, إن الإسلام يهدم ما كان قبله, فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء, فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك, فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت, وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا, فألقها في النيل, فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها, فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر, أما بعد, فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري, وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك, فنسأل الله أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة, قد قطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم. رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب السنة له, ولهذا قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} كما قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} الآية, ولهذا قال ههنا {أَفَلا يُبْصِرُونَ}.
وقال ابن أبي نجيح عن رجل عن ابن عباس في قوله {إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} قال: هي التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً إلا ما يأتيها من السيول, وعن ابن عباس ومجاهد: هي أرض باليمن, وقال الحسن رحمه الله: هي قرى بين اليمن والشام. وقال عكرمة والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد: الأرض الجرز التي لا نبات فيها, وهي مغبرة, قلت: وهذا كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} الآيتين.
{وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنّهُمْ مّنتَظِرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن استعجال الكفار ووقوع بأس الله بهم, وحلول غضبه ونقمته عليهم, استبعاداً وتكذيباً وعناداً {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} أي متى تنصر علينا يا محمد ؟ كما تزعم أن لك وقتاً علينا وينتقم لك منا, فمتى يكون هذا ؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين, قال الله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الأخرى {لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} الآيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة فقد أبعد النجعة, وأخطأ فأفحش, فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء, وقد كانوا قريباً من ألفين, ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} الآية, وكقوله {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا(3/561)
بِالْحَقِّ} الآية, وقال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وقال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} وقال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}.
ثم قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ} أي أعرض عن هؤلاء المشركين, وبلغ ما أنزل إليك من ربك, كقوله: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية, وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعد وسينصرك على من خالفك, إنه لا يخلف الميعاد. وقوله {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} أي أنت منتظر وهم منتظرون ويتربصون بكم الدوائر {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك, وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك من وبيل عقاب الله لهم, وحلول عذابه بهم, وحسبنا الله ونعم الوكيل.
آخر تفسير سورة السجدة ولله الحمد والمنة.(3/562)
سورة الأحزاب
قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا خلف بن هشام, حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها ؟ قال: قلت ثلاثاً وسبعين آية, فقال: قط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة, ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة, نكالاً من الله, والله عليم حكيم, ورواه النسائي من وجه آخر عن عاصم وهو ابن أبي النجود, وهو ابن بهدلة به, وهذا إسناد حسن, وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضاً, والله أعلم.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكّلْ عَلَىَ اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً}
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى, فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا, فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى. وقد قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه, فإنه عليم بعواقب الأمور, حكيم في أقواله وأفعاله, ولهذا قال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي من قرآن وسنة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي فلا تخفى عليه خافية, وتوكل على الله, أي في جميع أمورك وأحوالك {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي وكفى به وكيلا لمن توكل عليه وأناب إِليه.
{مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ ادْعُوهُمْ لاَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن لّمْ تَعْلَمُوَاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مّا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً}
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي أمراً معروفاً حسياً, وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي أماً له, كذلك لا يصير الدعي ولداً للرجل إِذا تبناه فدعاه ابناً له, فقال {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} كقوله عز وجل {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} الآية. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} هذا هو المقصود بالنفي, فإِنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي(3/563)
الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم, كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة, فكان يقال له زيد بن محمد, فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} كما قال تعالى في أثناء السورة {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} وقال ههنا {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً, فإِنه مخلوق من صلب رجل آخر, فما يمكن أن يكون أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} قال سعيد بن جبير {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي العدل, وقال قتادة {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أي الصراط المستقيم.
وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين, وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر, فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليه. هكذا روى العوفي عن ابن عباس, وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا زهير عن قابوس يعني ابن أبي ظبيان, قال: إِن أباه حدثه قال: قلت لابن عباس: أرأيت قول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ما عنى بذلك ؟ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي فخطر خطرة, فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين: قلباً معكم وقلباً معهم, فأنزل الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني, عن عبد بن حميد وعن أحمد بن يونس, كلاهما عن زهير وهو ابن معاوية به. ثم قال: وهذا حديث حسن, وكذا رواه ابن جرير وابن حاتم من حديث زهير به.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ضرب له مثل: يقول ليس ابن رجل آخر ابنك, وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه, وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عز وجل {ادْعُوهُمْ ِلآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء, فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إِلى آبائهم في الحقيقة, وأن هذا هو العدل والقسط والبر. قال البخاري رحمه الله: حدثنا مُعلى بن أسد, حدثنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة قال: حدثني سالم عن عبد الله بن عمر قال: إِن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إِلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ ِلآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن موسى بن عقبة به. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك, ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما: يارسول الله إِنا كنا ندعو سالماً ابناً, وإِن الله قد أنزل ما أنزل, وإِنه كان يدخل علي وإِني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً, فقال صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه تحرمي عليه" الحديث, ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي, وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه, وقال عز وجل {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} وقال تبارك وتعالى في آية التحريم {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} احترازاً عن زوجة الدعي فإِنه ليس من الصلب, فأما الابن من الرضاعة فمنزل منزلة ابن الصلب شرعاً بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين " حرّموا من الرضاعة ما يحرم من النسب", فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبيب, فليس مما نهى عنه في هذه الآية بدليل ما رواه الإمام أحمد(3/564)
وأهل السنن إِلا الترمذي, من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العُرني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدّمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع, فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول "أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" قال أبو عبيدة وغيره: أُبَيْنِيّ تصغير بَني وهذا ظاهر الدلالة, فإِن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر.
وقوله {ادْعُوهُمْ ِلآبَائِهِمْ} في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه, وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان, وأيضاً ففي صحيح مسلم من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يابني" ورواه أبو داود والترمذي. وقوله عز وجل {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إِلى آبائهم إِن عرفوا, فإِن لم يعرفوا فهم إِخوانهم في الدين ومواليهم, أي عوضاً عما فاتهم من النسب, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي, ياعم ياعم, فأخذها علي رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك, فاحتملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها, فكل أدلى بحجة, فقال علي رضي الله عنه: أنا أحق بها وهي ابنة عمي: وقال زيد: ابنة أخي, وقال جعفر بن أبي طالب: ابنة عمي وخالتها تحتي, يعني أسماء بنت عميس, فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم" وقال لعلي رضي الله عنه: "أنت مني وأنا منك". وقال لجعفر رضي الله عنه: "أشبهت خلقي وخلقي". وقال لزيد رضي الله عنه: "أنت أخونا ومولانا" ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالحق, وأرضى كلا من المتنازعين. وقال لزيد رضي الله عنه "أنت أخونا ومولانا". كما قال تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إِبراهيم, حدثنا ابن علية, عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه: قال الله عز وجل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فأنا ممن لا يعرف أبوه فأنا من إِخوانكم في الدين, قال أبي: والله إِني لأظنه لو علم أن أباه كان حماراً لانتمى إِليه, وقد جاء في الحديث "من ادعى إِلى غير أبيه وهو يعلمه كفر" وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم, ولهذا قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}.
ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} إِي إِذا نسبتم بعضهم إِلى غير أبيه في الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع, فإِن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إِثمه, كما أرشد إِليه في قوله تبارك وتعالى آمراً عباده أن يقولوا {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: قد فعلت". وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران, وإِن اجتهد فأخطأ فله أجر". وفي حديث آخر "إِن الله تبارك وتعالى رفع عن أمتي الخطأ. والنسيان وما يكرهون عليه" وقال تبارك وتعالى ههنا {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي وإِنما الإثم على من تعمد الباطل, كما قال عز وجل {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية. وفي الحديث المتقدم "ليس من رجل ادعى إِلى غير أبيه وهو يعلمه إِلا كفر". وفي القرآن المنسوخ: فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس عن(3/565)
عمر رضي الله عنهم أنه قال: إِن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق, وأنزل معه الكتاب, فكان فيما أنزل عليه آية الرجم, فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده, ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فإِنما أنا عبد الله, فقولوا عبده ورسوله" وربما قال معمر "كما أطرت النصارى ابن مريم" ورواه في الحديث الآخر "ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب, والنياحة على الميت, والاستسقاء بالنجوم".
{النّبِيّ أَوْلَىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاّ أَن تَفْعَلُوَاْ إِلَىَ أَوْلِيَآئِكُمْ مّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً}
قد علم الله تعالى شفقة رسوله على أمته ونصحة لهم, فجعله أولى بهم من أنفسهم, وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم, كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وفي الصحيح "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إِليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". وفي الصحيح أيضاً أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله, والله لأنت أحب إِلي من كل شيء إلا من نفسي, فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يا عمر حتى أكون أحب إِليك من نفسك" فقال: يا رسول الله, والله لأنت أحب إِلي من كل شيء حتى من نفسي, فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر" ولهذا قال تعالى في هذه الآية {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
وقال البخاري عند هذه الآية الكريمة: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح, حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إِلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة, اقرؤوا إِن شئتم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا, وإِن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه" تفرد به البخاري ورواه أيضاً في الاستقراض, وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن فليح به مثله, ورواه أحمد من حديث أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه, فأيما رجل مات وترك ديناً فإِليّ, ومن ترك مالاً فهو لورثته" ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به نحوه.
وقال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي في الحرمة والاحترام, والتوقير والإكرام والإعظام, ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إِلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع, وإِن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر, وهو من باب إِطلاق العبارة لا إِثبات الحكم, وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم, ونص الشافعي رضي الله عنه على أنه يقال ذلك, وهل يقال لهن أمهات المؤمنين فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغييباً ؟ وفيه قولان, صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يقال ذلك, وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه. وقد روي عن أبي كعب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قرآ {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم(3/566)
وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم}. وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن, وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه, حكاه البغوي وغيره, واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي, حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم, فإِذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها, ولا يستطب بيمينه". وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة. وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث ابن عجلان, والوجه الثاني أنه لا يقال ذلك, واحتجوا بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}.
وقوله تعالى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي في حكم الله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار, وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم, كما قال ابن عباس وغيره: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذا قال سعيد بن جبير وغيره من السلف والخلف. وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثاً عن الزبير بن العوام فقال: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي من ساكني بغداد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا, فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وأورثناهم, فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد, وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً, وآخى عثمان رضي الله عنه رجلاً من بني زريق بن سعد الزرقي, ويقول بعض الناس غيره, قال الزبير رضي الله عنه: وواخبت أنا كعب بن مالك فجئته فابتعلته, فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى, والله يابني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة, فرجعنا إِلى مواريثنا.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية. وقوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} أي هذا الحكم, وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض, حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير, قاله مجاهد وغير واحد, وإِن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إِلى ما هو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي, والله أعلم.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً}
يقول الله تعالى مخبراً عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إِقامة دين الله تعالى, وإِبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق, كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إِرسالهم, وكذلك هذا, ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولو العزم, وهو من باب عطف الخاص على العام, وقد صرح بذكرهم أيضاً في هذه الآية, وفي قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ(3/567)
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا} فذكر الطرفين, والوسط الفاتح, والخاتم, ومن بينهما على الترتيب, فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها, كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه, ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة الدمشقي, حدثنا محمد بن بكار, حدثنا سعيد بن بشير, حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم" سعيد بن بشير فيه ضعف, وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً وهو أشبه, ورواه بعضهم عن قتاده موقوفاً: والله علم.
وقال أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا أبو أحمد حدثنا حمزة الزيات, حدثنا عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خيار ولد آدم خمسة: نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم. موقوف وحمزة فيه ضعف, وقد قيل إِن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه الصلاة والسلام, كما قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: ورفع أباهم آدم, فنظر إِليهم يعني ذريته, وأن فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك, فقال: رب لو سويت بين عبادك, فقال: إِني أحببت أن أشكر, ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور, وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة, وهو الذي يقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وهذا قول مجاهد أيضاً, وقال ابن عباس: الميثاق الغليظ العهد.
وقوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} قال مجاهد: المبلغين المؤدين عن الرسل. وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} أي من أممهم {عَذَاباً أَلِيماً} أي موجعاً فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم, ونصحوا الأمم وأفصحوا لهم عن الحق الجلي الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء, وإِن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين, فما جاءت به الرسل هو الحق, ومن خالفهم فهو على الضلال.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَآءُوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَاْ}
يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإِحسانه إِلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إِياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا, وذلك عام الخندق, وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور. وقال موسى بن عقبة وغيره: كان في سنة أربع, وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفراً من أشراف يهود بن النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إِلى خيبر, منهم سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع, خرجوا إِلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم, ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة, فأجابوهم إِلى ذلك, ثم خرجوا إِلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضاً, وخرجت(3/568)
قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدها أبو سفيان صخر بن حرب, وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر, والجميع قريب من عشرة آلاف, فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم, أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق, وذلك بإِشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه, فعمل المسلمون فيه واجتهدوا, ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر, وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات. وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريباً من أحد, ونزلت طائفة منهم أعالي أرض المدينة, كما قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم نحو ثلاثة آلاف, وقيل سبعمائة, فأسندوا ظهورهم إِلى سلع ووجوههم إِلى نحو العدو, والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الخيالة والرجال أن تصل إِليهم, وجعل النساء والذراري في آطام المدينة, وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة, ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل, فذهب إِليهم حيي بن أخطب النضري, فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ومالؤوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعظم الخطب واشتد الأمر وضاق الحال, كما قال الله تبارك وتعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريباً من شهر, إِلا أنهم لا يصلون إِليهم ولم يقع بينهم قتال, إِلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري وكان من الفرس الشجعان المشهورين في الجاهلية, ركب ومعه فوارس, فاقتحموا الخندق وخلصوا إِلى ناحية المسلمين, فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إِليه, فيقال إِنه لم يبرز أحد فأمر علياً رضي الله عنه فخرج إِليه فتجاولا ساعة ثم قتله علي رضي الله عنه, فكان علامة النصر.
ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحاً شديدة الهبوب قوية حتى لم يبق لهم خيمة ولا شيء, ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار, حتى ارتحلوا خائبين خاسرين, كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً} قال مجاهد: وهي الصبا, ويؤيده الحديث الآخر: "نصرت بالصبا, وأهلكت عاد بالدبور" وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود عن عكرمة قال قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت الشمال: إِن الحرة لا تسري بالليل, قال: فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج, عن حفص بن غياث, عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, فذكره وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يونس حدثنا ابن وهب, حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أرسلني خالي عثمان بن مظعون رضي الله عنه ليلة الخندق في برد شديد وريح إِلى المدينة, فقال: أئتنا بطعام ولحاف, قال: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي وقال: "من أتيت من أصحابي فمرهم يرجعوا" قال: فذهبت والريح تسفي كل شيء, فجعلت لا ألقى أحداً إِلا أمرته بالرجوع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما يلوي أحد منهم عنق, قال: وكان معي ترس لي, فكانت الريح تضربه علي, وكان فيه حدي, قال: فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي فأبعدها إِلى الأرض.
وقوله {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف, فكان رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان إِلي, فيجتمعون إِليه, فيقول: النجاء, النجاء لما ألقى الله عز وجل في قلوبهم من الرعب. وقال محمد بن إِسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال فتى من أهل الكوفة(3/569)
لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال: نعم يا ابن أخي, قال: وكيف كنتم تصنعون ؟ قال: والله لقد كنا نجهد, قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض, ولحملناه على أعناقنا. قال: قال حذيفة رضي الله عنه: يا ابن أخي والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق, وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل, ثم التفت فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ؟ - يشترط له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع - أدخله الله الجنة" قال: فما قام رجل, ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل, ثم التفت إِلينا فقال مثله, فما قام منا رجل, ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل, ثم التفت إِلينا فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ؟ - يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة" فما قام من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد, فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني, فقال صلى الله عليه وسلم: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون, ولا تحدثنّ شيئاً حتى تأتينا".
قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله عز وجل تفعل بهم ما تفعل, لا تقر لهم قراراً ولا ناراً ولا بناء, فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش, لينظر كل امرىء من جليسه, قال حذيفة رضي الله عنه: فأخذت بيد الرجل إِلى جنبي فقلت: من أنت ؟ فقال: أن فلان بن فلان, ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إِنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف, وأخلفتنا بنو قريظة, وبلغنا عنهم الذي نكره, ولقينا من هذه الريح ما ترون, والله ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء, فارتحلوا فإِني مرتحل, ثم قام إِلى جمله وهو معقول فجلس عليه, ثم ضربه فوثب به على ثلاث, فما أطلق عقاله إِلا وهو قائم, ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلي أن لا تحدث شيئاً حتى تأتيني لو شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة رضي الله عنه: فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل, فلما رآني أدخلني بين رجليه وطرح علي طرف المرط, ثم ركع وسجد, وإِني لفيه, فلما سلم أخبرته الخبر, وسمعت غطفان بما فعلت قريش, فانشمروا راجعين إِلى بلادهم.
وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن إِبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال له رجال: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت, فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة" فلم يجبه منا أحد, ثم الثانية ثم الثالثة مثله, ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا حذيفة قم فأتنا بخبر من القوم" فلم أجد بداً إِذ دعاني باسمي أن أقوم فقال: "ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي" قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم, فإِذا أبو سفيان يَصْلي ظهره بالنار, فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه, ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعرهم علي, ولو رميته لأصبته, قال: فرجعت كأنما أمشي في حمام, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت, فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها, فلم أزل نائماً حتى الصبح, فلما أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قم يا نومان".
ورواه يونس بن بكير عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم قال: إِن رجلاً قال لحذيفة رضي الله عنه: نشكو إِلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, إِنكم أدركتموه ولم ندركه, ورأيتموه ولم نره, فقال حذيفة رضي الله عنه: ونحن نشكو إِلى الله إِيمانكم به ولم تروه, والله لا تدري يا ابن أخي لو أدركته كيف كنت تكون, لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة, ثم ذكر نحو ما تقدم مطولاً. وروى بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه نحو ذلك أيضاً,(3/570)
وقد أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل من حديث عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي عن عبد العزيز بن أخي حذيفة قال ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه: أما والله لو شاهدنا ذلك كنا فعلنا وفعلنا, فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك, لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً, وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا, وقريظة لليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا, وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه, فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إِن بيوتنا عورة وما هي بعورة, فما يستأذنه أحد منهم إِلا أذن له, ويأذن لهم فيتسللون, ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إِذ استقبلنا رسول الله رجلاً رجلاً, حتى أتى علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إِلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي, قال: فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي فقال: "من هذا ؟" فقلت: حذيفة. قال: "حذيفة ؟" فتقاصرت الأرض فقلت: بلى يارسول الله كراهية أن أقوم, فقمت فقال: "إِنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم" قال: وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قهراً. قال: فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته" قال: فو الله ما خلق الله تعالى فزعاً ولا قرّاً في جوفي إِلا خرج من جوفي, فما أجد فيه شيئاً, قال: فلما وليت, قال صلى الله عليه وسلم: "يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتني" قال: فخرجت حتى إِذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد, فإِذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته, ويقول: الرحيل الرحيل, ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك, فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار, فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني" قال: فأمسكت ورددت سهمي إِلى كنانتي, ثم إِني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر, فإِذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم. وإِذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً, فو الله إِني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفَرَسَتْهم, الريح تضربهم بها, ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت في الطريق أو نحواً من ذلك إِذ أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين, فقالوا: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم, فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملته يصلي, فو الله ما عدا أن رجعت راجعني القر, وجعلت أقرقف فأومأ إِلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي, فدنوت منه فأسبل عليّ شملته, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر صلى, فأخبرته خبر القوم, وأخبرته أني تركتهم يرتحلون, وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} وأخرج أبو داود في سننه منه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر صلى, من حديث عكرمة بن عمار به.
وقوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي الأحزاب {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أنهم بنو قريظة {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي شدة الخوف والفزع {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} قال ابن جرير: ظن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين, وأن الله سيفعل ذلك. وقال محمد بن إِسحاق في قوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق, حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر, وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إِلى الغائط.
وقال الحسن في قوله عز وجل { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ظنون مختلفة, ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه(3/571)
يستأصلون, وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق, وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري, حدثنا أبو عامر, (ح) وحدثنا أبي, حدثنا أبو عامر العقدي, حدثنا الزبير يعني ابن عبد الله مولى عثمان رضي الله عنه, عن رُتيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق: يارسول الله هل من شيء نقول, فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم, قولوا: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" قال: فضرب وجوه أعدائه بالريح, فهزمهم بالريح وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي عامر العقدي.
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً}
يقول الله تعالى مخبراً عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة, والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم, أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً, فحينئذ ظهر النفاق, وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} أما المنافق فنجم نفاقه, والذي في قلبه شبهة أو حسيكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إِيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال, وقوم آخرون قالوا كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} يعني المدينة. كما جاء في الصحيح "أريت في المنام دار هجرتكم, أرض بين حرتين, فذهب وهلي أنها هجر فإِذا هي يثرب" وفي لفظ: المدينة.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إِبراهيم بن مهدي, حدثنا صالح بن عمر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى, إِنما هي طابة هي طابة" تفرد الإمام أحمد, وفي إِسناده ضعف, والله أعلم. ويقال كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن مهلاييل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إِرم بن سام بن نوح, قاله السهيلي. قال: وروي عن بعضهم أنه قال: إِن لها في التوراة أحد عشر اسماً: المدينة وطابة وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة. وعن كعب الأحبار قال: إِنا نجد في التوراة يقول الله تعالى للمدينة: يا طيبة ويا طابة ويا مسكينة لا تُقلي الكنوز أرفع أحاجرك على أحاجر القرى.
وقوله {لا مُقَامَ لَكُمْ} أي ههنا يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة {فَارْجِعُوا} أي إِلى بيوتكم ومنازلكم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: هم بنو حارثة قالوا: بيوتنا نخاف عليها السراق, وكذا قال غير واحد, وذكر ابن إِسحاق أن القائل لذلك هو أوس بن قيظي, يعني اعتذروا في الرجوع إِلى منازلهم بأنها عورة أي ليس دونها ما يحجبها من العدو, فهم يخشون عليها منهم, قال الله تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} أي ليست كما يزعمون {إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} أي هرباً من الزحف.
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُواْ بِهَآ إِلاّ يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً قُل لّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ(3/572)
أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاّ تُمَتّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً قُلْ مَن ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوَءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها, ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعاً, وهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع, هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير, وهذا ذم لهم في غاية الذم, ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفرون من الزحف {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} أي وإِن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد لا بد من ذلك, ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة, ولهذا قال تعالى: {وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي بعد هربكم وفراركم {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} ثم قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي يمنعكم {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.
{قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَىَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً}
يخبر تعالى عن إِحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم {هَلُمَّ إِلَيْنَا} إِلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار, وهم مع ذلك {لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم. وقال السدي {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي في الغنائم, {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي من شدة خوفه وجزعه, وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي فإِذا كان الأمن تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً, وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة, وهم يكذبون في ذلك, وقال ابن عباس رضي الله عنهما {سَلَقُوكُمْ} أي استقبلوكم. وقال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة: أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم, وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق, وهم مع ذلك أشحة على الخير, أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير, فهم كما قال في أمثالهم الشاعر:
أفي السلم أعياراً جفاءً وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر, والأعيار جمع عير وهو الحمار, وفي الحرب كأنهم النساء الحيض, ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أي سهلاً هيناً عنده.(3/573)
{يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّواْ لَوْ أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مّا قَاتَلُوَاْ إِلاّ قَلِيلاً}
وهذا أيضاً من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} بل هم قريب منهم وإِن لهم عودة إِليهم {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} أي ويودون إِذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة, بل في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إِلا قليلاً لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم, والله سبحانه وتعالى العالم بهم.
{لّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}
هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله, ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل, صلوات الله وسلامه عليه دائماً إِلى يوم الدين, ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
ثم قال تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة, فقال تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: يعنون قوله تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب, ولهذا قال تعالى: {وصدق الله ورسوله}. وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إِلى الناس وأحوالهم, كما قال جمهور الأئمة: إِنه يزيد وينقص, وقد قررنا ذلك في أول شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, ومعنى قوله جلت عظمته {وَمَا زَادَهُمْ} أي ذلك الحال والضيق والشدة {إِلاَّ إِيمَاناً} بالله {وَتَسْلِيماً} أي انقياداً لأوامره وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
{مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مّن قَضَىَ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُواْ تَبْدِيلاً لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً}
لما ذكر عز وجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار, وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قال(3/574)
بعضهم: أجله. وقال البخاري: عهده وهو يرجع إِلى الأول {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أي وما غيروا عهد الله ولا نقضوه ولا بدلوه. قال البخاري: حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: لما نسخنا المصحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها إِلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه, الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} تفرد به البخاري دون مسلم, وأخرجه أحمد في مسنده والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما من حديث الزهري به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري, حدثني أبي عن ثمامة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ} الآية, انفرد به البخاري من هذا الوجه, ولكن له شواهد من طرق أخر. قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس: عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فشق عليه, وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غُيّبت عنه, لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال فهاب أن يقول غيرها, فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه, فقال له أنس رضي الله عنه: يا أبا عمرو أين واهاً لريح الجنة إِني أجده دون أحد قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه, قال: فوجد في جسده بضع وثمانين بين ضربة وطعنة ورمية, فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر فما عرفت أخي إِلا ببنانه, قال: فنزلت هذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه, وفي أصحابه رضي الله عنهم. ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به. ورواه النسائي أيضاً وابن جرير من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به نحوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس, رضي الله عنه قال: إِن عمه يعني أنس بن النضر رضي الله عنه, غاب عن قتال بدر, قال: غُيّبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين, لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين ليرين الله تعالى ما أصنع, قال: فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون, فقال: اللهم إِني أعتذر إِليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إِليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ رضي الله عنه دون أحد, فقال: أنا معك. قال سعد رضي الله عنه: فلم أستطع أن أصنع ما صنع, فلما قتل قال: فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم, وكانوا يقولون: فيه وفي أصحابه نزلت {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد, والنسائي فيه أيضاً عن إِسحاق بن إِبراهيم, كلاهما عن يزيد بن هارون به. وقال الترمذي: حسن. وقد رواه البخاري في المغازي عن حسان بن حسان, عن محمد بن طلحة عن مصرف عن حميد عن أنس رضي الله عنه به, ولم يذكر نزول الآية. ورواه ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن حميد عن أنس رضي الله عنه به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني, حدثنا سليمان بن أيوب بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله , حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة رضي الله عنه قال:(3/575)
لما أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد صعد المنبر, فحمد الله تعالى وأثنى عليه, وعزى المسلمين بما أصابهم, وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر, ثم قرأ هذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} الآية كلها, فقام إِليه رجل من المسلمين فقال: يارسول الله من هؤلاء ؟ فأقبلت وعلي ثوبان أخضران حضرميان, فقال: "أيها السائل: هذا منهم" وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطلحي به. وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضاً, وابن جرير من حديث يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما رضي الله عنه به. وقال: حديث غريب, لا نعرفه إلا من حديث يونس. وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عامر - يعني العقدي - حدثني إسحاق - يعني ابن طلحة بن عبيد الله - عن موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية رضي الله عنه, فلما خرجت دعاني فقال: ألا أضع عندك يا ابن أخي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه".
ورواه ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبد الحميد الحماني عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطلحي عن موسى بن طلحة قال: قام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يعني عهده {مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قال يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء. وقال الحسن {فمنهم من قضى نحبه} يعني موته على الصدق والوفاء, ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك, ومنهم من لم يبدل تبديلاً, وكذا قال قتادة وابن زيد. وقال بعضهم, نحبه نذره.
وقوله تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أي وما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر, بل استمروا على ما عاهدوا عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ}. وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب, فيظهر أمر هذا بالفعل, وأمر هذا بالفعل, مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه, ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم حتى يعملوا بما يعلمه منهم, كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} فهذا علم بالشيء بعد كونه وإن كان العلم السابق حاصلاً به قبل وجوده, وكذا قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} ولهذا قال تعالى ههنا {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه وقيامهم به ومحافظتهم عليه {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} وهم الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره فاستحقوا بذلك عقابه, وعذابه, ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه, وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان, ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه فهي الغالبة لغضبه قال {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}.
{وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}
يقول تعالى مخبراً عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية, ولولا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين, لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد, ولكن قال(3/576)
تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} فسلط عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب اجتماعهم من الهوى, وهم أخلاط من قبائل من قبائل شتى أحزاب وآراء, فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعاتهم, وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم, ولم ينالوا خيراً لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم, ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدواة وهمهم بقتله واستئصال جيشه, ومن هم بشيء وصدق همه بفعله, فهو في الحقيقة كفاعله.
وقوله تبارك وتعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} أي لم يحتاجوا إِلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم, بل كفى الله وحده ونصر عبده وأعز جنده, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إله إلا الله وحده, صدق وعده, ونصر عبده وأعز جنده, وهزم الأحزاب وحده, فلا شيء بعده" أخرجاه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب, اهزم الأحزاب, اللهم اهزمهم وزلزلهم". وفي قوله عز وجل {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش, وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم. قال محمد بن إسحاق, لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا, ولكنكم تغزونهم" فلم تغز قريش بعد ذلك, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة, وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن سفيان, حدثني أبو إسحاق قال: سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا" وهكذا رواه البخاري في صحيحه من حديث الثوري, وإسرائيل عن أبي إسحاق به, وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} أي بحوله وقوته ردهم خائبين لم ينالوا خيراً, وأعز الله الإسلام وأهله, وصدق وعده ونصر رسوله وعبده, فله الحمد والمنة.
{وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً}
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة, نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد, وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب النضري لعنه الله, دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد, وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعز الدهر, أتيتك بقريش وأحابيشها, وغطفان وأتباعها, ولا يزالون ههنا حتى يستأصلون محمداً وأصحابه, فقال له كعب: بل والله أتيتني بذل الدهر, ويحك ياحيي إنك مشؤوم, فدعنا منك, فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه, واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن, فيكون له أسوتهم, فلما نقضت قريظة, وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه وشق عليه وعلى المسلمين جداً, فلما أيده الله تعالى ونصره وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً, ووضع الناس السلاح, فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها, إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة(3/577)
والسلام معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج, فقال: أوضعت السلاح يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال لكن الملائكة لم تضع أسلحتها, وهذا الآن رجوعي من طلب القوم, ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة, وفي رواية فقال له: عذيرك من مقاتل أوضعتم السلاح ؟ قال: "نعم" قال لكنا لم نضع أسلحتنا بعد انهض إلى هؤلاء, قال صلى الله عليه وسلم: "أين ؟" قال: بني قريظة, فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم, فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره, وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة, وكانت على أميال من المدينة, وذلك بعد صلاة الظهر, وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق, فصلى بعضهم في الطريق وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إلا تعجيل المسير, وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة, فلم يعنف واحداً من الفريقين, وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه, وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة, فلما طال عليه الحال, نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه, لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية, واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك, كما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول في مواليه بني قينقاع, حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك, ولم يعلموا أن سعداً رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق, فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله وأنزله في قبة المسجد ليعوده من قريب, وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به, اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها, وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فأفجرها, ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة, فاستجاب الله تعالى دعاءه, وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلباً من تلقاء أنفسهم فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم, فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه, جعل الأوس يلوذون به ويقولون: يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم, ويرققونه عليهم ويعطفونه وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقهم, فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم" فقام إليه المسلمون, فأنزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم, فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك, فاحكم فيهم بما شئت" فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال وعلى من في هذه الخيمة ؟ قال: "نعم". قال وعلى من ههنا وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله , وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وإكراماً وإعظاماً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقال رضي الله عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة", وفي رواية "لقد حكمت بحكم الملك", ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدت في الأرض, وجيء بهم مكتفين, فضرب أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة, وسبى من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم, وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً, ولله الحمد والمنة. ولهذا قال تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل, كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديماً طمعاً في اتباع النبي الأمي الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} فعليهم لعنة الله.(3/578)
وقوله تعالى: {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} يعني حصونهم, كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف, ومنه سمي صياصي البقر, وهي قرونها لأنها أعلى شيء فيها, {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} وهو الخوف, لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم, وليس من يعلم كمن لا يعلم, وأخافوا المسلمين وراموا قتالهم ليعزوا في الدنيا, فانعكس عليهم الحال, وانقلبت إليهم القال, انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون, فكما رامو العز ذلوا, وأرادوا استئصال المسلمين فاستئصلوا, وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة, ولهذا قال تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} فالذين قتلوا هم المقاتلة والآسراء هم الأصاغر والنساء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم بن بشير, أخبرنا عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة, فشكوا في, فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا هل أنبت بعد, فنظروني فلم يجدوني أنبت, فخلي عني وألحقني بالسبي, وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي: حسن صحيح, ورواه النسائي أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عطية بنحوه. وقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أي جعلها لكم من قتلكم لهم {وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} قيل: خيبر, وقيل مكة, رواه مالك عن زيد بن أسلم وقيل فارس والروم, وقال ابن جرير يجوز أن يكون الجميع مراداً {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي, فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه, ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة, قالت: فجلست إلى الأرض, فمر سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه, فأنا أتخوف على أطراف سعد, قالت وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم, فمر وهو يرتجز ويقول:
ليت قليلاً يشهد الهيجا جمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل
قالت: فقمت فاقتحمت حديقة, فإذا فيها نفر من المسلمين, وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيهم رجل عليه تسبغة له, تعني المغفر, فقال عمر رضي الله عنه: ما جاء بك ؟ لعمري والله إنك لجريئة, وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز ؟ قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ, فدخلت فيها, فرفع الرجل التسبغة عن وجهه, فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه, فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم, وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله تعالى ؟ قالت: ورمى سعداً رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له, وقال له: خذها وأنا ابن العرقة, فأصاب أكحله فقطعه, فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة, قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية, قالت: فرقأ كُلْمه وبعث الله تعالى الريح على المشركين {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}, فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة, ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد, ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد, قالت: فجاءه جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبار, فقال: أوقد وضعت السلاح ؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح, اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم, قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته, وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا, فمر على بني تميم وهم جيران المسجد, فقال: "من مر بكم ؟" قالوا: مر بنا دحية الكلبي, وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام, فأتاهم رسول(3/579)
الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة, فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء, قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر, فأشار إليهم إنه الذبح, قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انزلوا على حكم سعد بن معاذ" فنزلوا, وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه, فأتى به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه, وحف به قومه فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك, وأهل النكاية ومن قد علمت, قالت: فلا يرجع إليهم شيئاً ولا يلتفت إليهم, حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قال: قال أبو سعيد فلما طلع, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله, قال: "أنزلوه" فأنزلوه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احكم فيهم" قال سعد رضي الله عنه: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم, وتسبى ذراريهم, وتقسم أموالهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله" ثم دعا سعد رضي الله عنه, فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها, وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك قال: فانفجر كلمه وكان قد برىء منه إلا مثل الخرص, ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله , قالت عائشة رضي الله عنها: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما, قالت: فو الذي نفس محمد بيده, إني لأعرف بكاء أبي بكر رضي الله عنه من بكاء عمر رضي الله عنه وأنا في حجرتي, وكانوا كما قال الله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} قال علقمة: فقلت أي أمه, فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد, ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم, وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها نحواً من هذا, ولكنه أخصر منه, وفيه دعا سعد رضي الله عنه.
{يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الآخرة فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنّ أَجْراً عَظِيماً}
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها, وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال, ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل, فاخترن رضي الله عنهنّ وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة, فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة. قال البخاري: حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه, قالت: فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك" وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه, قالت: ثم قال: "إن الله تعالى قال : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ِلأَزْوَاجِكَ}" إلى تمام الآيتين, فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي, فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ؟ وكذا رواه معلقاً عن الليث, حدثني يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها فذكره, وزاد:(3/580)
قالت ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت, وقد حكى البخاري أن معمراً اضطرب فيه, فتارة رواه عن الزهري عن أبي سلمة, وتارة رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي, حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزل الخيار قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أريد أن أذكر لك أمراً, فلا تقضي فيه شيئاً حتى تستأمري أبويك" قالت: قلت: وما هو يارسول الله ؟ قال فرده عليها, فقالت: وما هو يارسول الله ؟ قالت فقرأ صلى الله عليه وسلم عليها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى آخر الآية, قالت: فقلت بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة, قالت: ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا ابن وكيع, حدثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت آية التخيير بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عائشة إني عارض عليك أمراً فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك: أبي بكر وأم رومان رضي الله عنهما" فقالت: يارسول الله وما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} قالت: فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ولا أؤامر في ذلك أبوي أبا بكر وأم رومان رضي الله عنهما. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقرأ الحجر فقال: "إن عائشة رضي الله عنها قالت كذا وكذا" فقلن: ونحن نقول مثلما قالت عائشة رضي الله عنهن كلهن. رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة عن محمد بن عمرو به.
قال ابن جرير: وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي, حدثنا أبي حدثنا محمد بن إِسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل على نسائه أمر أن يخيرهن, فدخل علي فقال: "سأذكر لك أمراً فلا تعجلي حتى تستشيري أباك" فقلت: وما هو يارسول الله ؟ قال: "إِني أمرت أن أخيركن" وتلا عليها آية التخيير إِلى آخر الآيتين, قالت: فقلت وما الذي تقول: لا تعجلي حتى تستشيري أباك ؟ فإِني أختار الله ورسوله. فسر صلى الله عليه وسلم بذلك, وعرض على نسائه فتتابعن كلهن, فاخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن سنان البصري, حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح, حدثني الليث, حدثني عقيل عن الزهري, أخبرني عبد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت عائشة رضي الله عنها: أنزلت آية التخيير, فبدأ بي أول امرأة من نسائه, فقال صلى الله عليه وسلم: "إِني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك" قالت, وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه, قالت ثم قال: "إِن الله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ِلأَزْوَاجِكَ} الآيتين, قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت أفي هذا أستأمر أبوي ؟ فإِني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن, فقلن ما قالت عائشة رضي الله عنهن, وأخرجه البخاري ومسلم جميعاً عن قتيبة عن الليث عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاخترناه, فلم يعدها علينا شيئاً, أخرجاه من حديث الأعمش وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو, حدثنا زكريا بن إِسحاق عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس, والنبي صلى الله عليه وسلم(3/581)
جالس فلم يؤذن له, ثم أقبل عمر رضي الله عنه, فاستأذن فلم يؤذن له, ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما, فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه, وهو صلى الله عليه وسلم ساكت, فقال عمر رضي الله عنه: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك, فقال عمر رضي الله عنه: يارسول الله لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: "هن حولي يسألنني النفقة" فقام أبو بكر رضي الله عنه إِلى عائشة ليضربها, وقام عمر رضي الله عنه إِلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده, فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده, قال: وأنزل الله عز وجل الخيار, فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال: " إِني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك" قالت: وما هو ؟ قال: فتلا عليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ِلأَزْوَاجِكَ} الآية, قالت عائشة رضي الله عنها: أفيك أستأمر أبوي ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله, وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت, فقال صلى الله عليه وسلم: "إِن الله تعالى لم يبعثني معنفاً, ولكن بعثني معلماً ميسراً, لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إِلا أخبرتها" انفرد بإِخراجه مسلم دون البخاري, فرواه هو والنسائي من حديث زكريا بن إِسحاق المكي به.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا سريج بن يونس, حدثنا علي بن هشام بن البريد عن محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع, عن عثمان بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه الدنيا والآخرة ولم يخيرهن الطلاق, وهذا منقطع. وقد روي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك, وهو خلاف الظاهر من الآية, فإِنه قال: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن, وقد اختلف العلماء في جواز تزوج غيره لهن لو طلقهن على قولين, أصحهما نعم لو وقع ليحصل المقصود من السراح, والله أعلم. قال عكرمة: وكان تحته يومئذ تسع نسوة: خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيب وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن, وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي النضيرية وميمونة بنت الحارث الهلالية, وزينب بنت جحش الأسدية, وجويرية بنت الحارث المصطلقية, رضي الله عنهن وأرضاهن جميعاً.
{يَنِسَآءَ النّبِيّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنّ للّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً}
يقول الله تعالى واعظاً نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخر, واستقر أمرهن تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة. قال بن عباس رضي الله عنهما: وهي النشوز وسوء الخلق, وعلى كل تقدير فهو شرط, والشرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وكقوله عز وجل: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} فلما كانت محلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظاً صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع, ولهذا قال تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ(3/582)
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قال مالك عن زيد بن أسلم {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قال: في الدنيا والآخرة, وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أي سهلاً هيناً, ثم ذكر عدله وفضله في قوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ويستجب {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أي في الجنة فإِنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى العليين, فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إِلى العرش.
{يَنِسَآءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَآءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الأولى وَأَقِمْنَ الصّلاَةَ وَآتِينَ الزّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىَ فِي بُيُوتِكُنّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك, فقال تعالى مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إِذا اتقين الله عز وجل كما أمرهن, فإِنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة, ثم قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} قال السدي وغيره: يعني بذلك ترقيق الكلام إِذا خاطبن الرجال, ولهذا قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي دغل {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} قال ابن زيد: قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير, ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم, أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها.
وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي الزمن فلا تخرجن لغير حاجة, ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إِماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات" وفي رواية "وبيوتهن خير لهن". وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا حميد بن مسعدة, حدثنا أبو رجاء الكلبي روح بن المسيب ثقة, حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: جئن النساء إِلى رسول الله فقلن: يارسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى, فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قعدت - أو كلمة نحوها - منكن في بيتها, فإِنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى" ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت إِلا روح بن المسيب, وهو رجل من أهل البصرة مشهور.
وقال البزار أيضاً: حدثنا محمد المثنى, حدثني عمرو بن عاصم, حدثنا همام عن قتادة عن مورّق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِن المرأة عورة, فإِذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" رواه الترمذي عن بندار عن عمرو بن عاصم به نحوه. وروى البزار بإِسناده المتقدم وأبو داوود أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها, وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها" وهذا إِسناد جيد.
وقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال, فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} يقول: إِذا خرجتن من بيوتكن وكانت لهن مشية وتكسر(3/583)
وتغنج, فنهى الله تعالى عن ذلك, وقال مقاتل بن حيان {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده, فيواري قلائدها وقرطها وعنقها, ويبدو ذلك كله منها, وذلك التبرج, ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج.
وقال ابن جرير: حدثني ابن زهير, حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا داود ابن أبي الفرات, حدثنا علي بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تلا هذه الآية {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قال: كانت فيما بين نوح وإِدريس, وكانت ألف سنة, وإِن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل, وكان رجال الجبل صباحاً, وفي النساء دمامة. وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة, وإِن إِبليس لعنه الله أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام, فآجر نفسه منه فكان يخدمه, فاتخذ إِبليس شيئاً من مثل الذي يرمز فيه الرعاء, فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله, فبلغ ذلك من حوله فانتابوهم يسمعون إِليه, واتخذوا عيداً يجتمعون إِليه في السنة, فيتبرج النساء للرجال, قال ويتزين الرجال لهن, وإِن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك, فرأى النساء وصباحتهن, فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك, فتحولوا إِليهن فنزلوا معهن, وظهرت الفاحشة فيهن, فهو قول الله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.
وقوله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نهاهن أولاً عن الشر ثم أمرهن بالخير من إِقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له, وإِيتاء الزكاة وهي الإحسان إِلى المخلوقين {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا, لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً إِما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وهكذا روى ابن أبي حاتم قال: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا زيد بن الحبّاب حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم, فإِن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فصحيح, وإِن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففيه نظر, فإِنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك:
(الحديث الأول): قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد, أخبرنا علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إِذا خرج إِلى صلاة الفجر يقول: "الصلاة يا أهل البيت, إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عفان به. وقال: حسن غريب.
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو نعيم, حدثنا يونس عن أبي إِسحاق, أخبرني أبو داود عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا طلع الفجر جاء إِلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما, فقال: "الصلاة الصلاة , {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} " أبو داود الأعمى هو نفيع بن الحارث كذاب.
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن مصعب, حدثنا الأوزاعي, حدثنا شداد أبو عمار قال:(3/584)
دخلت على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. وعنده قوم, فذكروا علياً رضي الله عنه فشتموه, فشتمه معهم, فلما قاموا قال لي: شتمت هذا الرجل ؟ قلت: قد شتموه فشتمته معهم, ألا أخبركم بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: بلى , قال: أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه, فقالت: توجه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم, آخذ كل واحدٍ منهما بيده حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة رضي الله عنهما, وأجلسهما بين يديه, وأجلس حسناً وحسيناً رضي الله عنهما كل واحد منها على فخذه, ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساءه, ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي, وأهل بيتي أحق".
وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير عن الوليد بن مسلم, عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه, زاد في آخره قال واثلة رضي الله عنه: فقلت وأنا - يارسول الله صلى الله عليك - من أهلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وأنت من أهلي" قال واثلة رضي الله عنه: وإِنها من أرجى ما أرتجي, ثم رواه أيضاً عن عبد الأعلى بن واصل عن الفضل بن دكين, عن عبد السلام بن حرب عن كلثوم المحاربي عن شداد بن أبي عمار قال: إِني لجالس عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه, إِذ ذكروا علياً رضي الله عنه فشتموه, فلما قاموا قال: اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه إِني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم, فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له ثم قال لهم: "اللهم هؤلاء أهل بيتي, اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" قلت: يارسول الله وأنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وأنت" قال: فو الله إِنها لأوثق عمل عندي.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح, حدثني من سمع أم سلمة رضي الله عنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها, فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة, فدخلت عليه بها فقال صلى الله عليه وسلم لها: "ادعي زوجك وابنيك" قالت: فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم, فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له, وكان تحته صلى الله عليه وسلم كساء خيبري, قالت: وأنا في الحجرة أصلي, فأنزل الله عز وجل هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قالت رضي الله عنها: فأخذ صلى الله عليه وسلم فضل الكساء فغطاهم به, ثم أخرج يده فألوى بها إِلى السماء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" قالت: فأدخلت رأسي البيت, فقلت: وأنا معكم يارسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنك إِلى خير, إِنك إِلى خير" في إِسناده من لم يسم وهو شيخ عطاء, وبقية رجاله ثقات.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا مصعب بن المقداد, حدثنا سعيد بن زربي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة رضي الله عنها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة, تحملها على طبق, فوضعتها بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال: "أين ابن عمك وابناك ؟" فقالت رضي الله عنها في البيت, فقال صلى الله عليه وسلم: "ادعيهم" فجاءت إِلى علي رضي الله عنه فقالت: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وابناك, قالت أم سلمة رضي الله عنها: فلما رآهم مقبلين مد صلى الله عليه وسلم يده إِلى كساء كان على المنامة, فمده وبسطه وأجلسهم عليه ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله, فضمه فوق رؤوسهم, وأومأ بيده اليمنى إِلى ربه فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً".
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس, عن الأعمش عن حكيم بن سعد قال: ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة رضي الله عنها فقالت: في بيتي نزلت(3/585)
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قالت أم سلمة: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى بيتي فقال: "لا تأذني لأحد" فجاءت فاطمة رضي الله عنها, فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها, ثم جاء الحسن رضي الله عنه, فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه, ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه عن جده صلى الله عليه وسلم وأمه رضي الله عنها ثم جاء علي رضي الله عنه, فلم أستطع أن أحجبه, فاجتمعوا فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه, ثم قال: "هؤلاء أهل بيتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط, قالت: فقلت: يارسول الله وأنا ؟ قالت: فو الله ما أنعم, وقال: "إِنك إِلى خير".
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عوف عن أبي المعدل عن عطية الطفاوي عن أبيه قال: إِن أم سلمة رضي الله عنها حدثته قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم: في بيتي يوماً إِذ قالت الخادم: إِن فاطمة وعلياً رضي الله عنهما بالسدة, قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قومي فتنحي عن أهل بيتي" قالت: فقمت فتنحيت في البيت قريباً, فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين رضي الله عنهم, وهما صبيان صغيران, فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما, واعتنق علياً رضي الله عنه بإِحدى يديه, وفاطمة رضي الله عنها باليد الأخرى, وقبل فاطمة وقبل علياً: وأغدق عليهم خميصة سوداء, وقال: "اللهم إِليك لا إِلى النار أنا وأهل بيتي" قالت: فقلت وأنا يارسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "وأنت".
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا الحسن بن عطية, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: إِن هذه الآية نزلت في بيتي {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قالت: وأنا جالسة على باب البيت, فقلت: يارسول الله ألست من أهل البيت ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنك إِلى خير, أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" قالت: وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
(طريق أخرى) رواها ابن جرير أيضاً عن أبي كريب عن وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا خالد بن مخلد, حدثني موسى بن يعقوب, حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص, عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال: أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها قالت: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم, ثم أدخلهم تحت ثوبه, ثم جأر إِلى الله عز وجل ثم قال: "هؤلاء أهل بيتي" قالت أم سلمة رضي الله عنها: فقلت يارسول الله أدخلني معهم, فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت من أهلي".
(طريق أخرى) رواها ابن جرير أيضاً عن أحمد بن محمد الطوسي, عن عبد الرحمن بن صالح, عن محمد بن سليمان الأصبهاني, عن يحيى بن عبيد المكي عن عطاء , عن عمر بن أبي سلمة عن أمه رضي الله عنها بنحو ذلك.
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا وكيع محمد بن بشير عن زكريا عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرطٌ مرحل من شعر أسود, فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله معه, ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ثم جاء علي رضي الله عنه فأدخله معه, ثم قال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر به.(3/586)
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سريج بن يونس أبو الحارث, حدثنا محمد بن يزيد عن العوام يعني ابن حوشب رضي الله عنه عن عم له قال: دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن علي رضي الله عنه, فقالت رضي الله عنها: تسألني عن رجل من أحب الناس إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت تحته ابنته وأحب الناس إِليه ؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم, فألقى عليهم ثوباً فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" قالت: فدنوت منهم فقلت: يارسول الله, وأنا من أهل بيتك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "تنحي فإِنك على خير".
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي, حدثنا مندل عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}" قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها كما تقدم, وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العجلي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفاً, والله سبحانه وتعالى أعلم.
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا أبو بكر الحنفي, حدثنا بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن سعد رضي الله عنه قال: قال سعد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي, فأخذ علياً وابنيه وفاطمة رضي الله عنهم, فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: "رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي".
(حديث آخر) وقال مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلد, عن ابن علية, قال زهير: حدثنا إِسماعيل بن إِبراهيم, حدثني أبو حيان حدثني يزيد بن حبان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلمة إِلى زيد بن أرقم رضي الله عنه, فلما جلسنا إِليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه, وغزوت معه, وصليت خلفه, لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني, وقدم عهدي, ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما حدثتكم فاقبلوا, ومالا فلا تكلفونيه, ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً, بين مكة والمدينة, فحمد الله تعالى وأثنى عليه, ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد, ألا أيها الناس فإِنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب, وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله تعالى, فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه, ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي" ثلاثاً, فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال: نساؤه من أهل بيته, ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده, قال: ومن هم ؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم, قال: كل هؤلاء حرم الصدقة بعده ؟ قال: نعم.
ثم رواه عن محمد بن بكار بن الريان عن حسان بن إِبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه, فذكر الحديث بنحو ما تقدم, وفيه فقلت له: من أهل بيته نساؤه ؟ قال: لا, وأيم الله إِن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر, ثم يطلقها فترجع إِلى أبيها,, أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.
هكذا وقع في هذه الرواية, والأولى أولى والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه, إِنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة, أو أنه ليس(3/587)
المراد بالأهل الأزواج فقط, بل هم مع آله, وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينهما وبين الرواية التي قبلها, وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إِن صحت, فإِن في بعض أسانيدها نظراً, والله أعلم, ثم الذي لا شك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فإِن سياق الكلام معهن, ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة, قاله قتادة وغير واحد, واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس, أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس, وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة, وأحظاهن بهذه الغنيمة, وأخصهن من هذه الرحمة العميمة, فإِنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها, كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه. قال بعض العلماء رحمه الله: لأنه لم يتزوج بكراً سواها, ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها, فناسب أن تخصص بهذه المزية, وأن تفرد بهذه المرتبة العليا, ولكن إِذا كان أزواجه من أهل بيته, فقرابته أحق بهذه التسمية, كما تقدم في الحديث "وأهل بيتي أحق". وهذا ما يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم, فقال: "هو مسجدي هذا" فهذا من هذا القبيل, فإِن الآية إِنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر, ولكن إِذا كان ذاك أسس على التقوى من أول يوم, فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك, والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي جميلة قال: إِن الحسن بن علي رضي الله عنهما استخلف حين قتل علي رضي الله عنهما, قال: فبينما هو يصلي إِذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجره, وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد, وحسن رضي الله عنه ساجد. قال: فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه, فمرض منها أشهراً ثم برأ, فقعد على المنبر فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا, فإِنا أمراؤكم وضيفانكم, ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قال فما زال يقولها حتى ما بقي أحد في المسجد إِلا وهو يحن بكاءً.
وقال السدي عن أبي الديلم قال: قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل من الشام: أما قرأت في الأحزاب {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ؟ فقال: نعم, ولأنتم هم ؟ قال: نعم. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} أي بلطفه بكن, بلغتن هذه المنزلة, وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن بذلك. قال ابن جرير رحمه الله: واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة, فاشكرن الله تعالى على ذلك واحمدنه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} أي ذا لطف بكن, إِذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة, وهي السنة. خبيراً بكن إِذ اختاركن لرسوله وقال قتادة {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} قال: يمتن عليهن بذلك, رواه ابن جرير. وقال عطية العوفي في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} يعني لطيفاً باستخراجها خبيراً بموضعها, رواه ابن أبي حاتم, ثم قال: وكذا روي عن الربيع بن أنس عن قتادة.
{إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ(3/588)
والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان: حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا عثمان بن حكيم, حدثنا عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إِلا ونداؤه على المنبر, وأنا أسرح شعري, فلففت شعري ثم خرجت إِلى حجرتي حجرة بيتي, فجعلت سمعي عند الجريد فإِذا هو يقول عند المنبر "ياأيها الناس إِن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}" إِلى آخر الآية, وهكذا رواه النسائي وابن جرير من حديث عبد الواحد بن زياد به مثله.
(طريق أخرى عنها) قال النسائي أيضاً: حدثنا محمد بن حاتم, حدثنا سويد, أخبرنا عبد الله بن شريك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها, أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يانبي الله مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون ؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي معاوية, عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يارسول الله يذكر الرجال ولا نذكر, فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية.
(طريق أخرى) قال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم سلمة رضي الله عنها: يارسول الله يذكر الرجال ولا نذكر, فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية.
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا سيار بن مظاهر العنزي, حدثنا أبو كدينة يحيى بن المهلب عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: ماله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ؟ فأنزل لله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية, وحدثنا بشر حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قال: دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله تعالى في القرآن ولم نذكر بشيء أما فينا ما يذكر؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية, فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دليل على أن الإيمان غير الإسلام, وهو أخص منه لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. وفي الصحيحين "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فيسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإِجماع المسلمين, فدل على أنه أخص منه كما قررناه أولاً في شرح البخاري.
وقوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} القنوت هو الطاعة في سكون {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إِليها وهو الإيمان, ثم القنوت ناشىء عنهما {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} هذا في الأقوال, فإِن الصدق خصلة محمودة ولهذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرب عليهم كذبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام, وهو علامة على الإيمان, كما أن الكذب أمارة على النفاق, ومن صدق نجا, "عليكم بالصدق فإِن الصدق يهدي إِلى البر, وإِن البر يهدي إِلى الجنة, وإِياكم والكذب, فإِن الكذب يهدي إِلى الفجور, وإِن الفجور يهدي إِلى النار, ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى(3/589)
الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً, ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً".
والأحاديث فيه كثيرة جداً, {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} هذه سجية الأثبات, وهي الصبر على المصائب, والعلم بأن المقدر كائن لا محالة وتلقي ذلك بالصبر عند الصدمة الأولى, أي أصعبه في أول وهلة, ثم ما بعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} الخشوع: السكون والطمأنينة, والتؤدة والوقار, والتواضع, والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته, كما في الحديث "اعبد الله كأنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك" {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} الصدقة هي الإحسان إِلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب يعطون من فضول الأموال طاعة لله وإِحساناً إِلى خلقه. وقد ثبت في الصحيحين "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلا ظله - فذكر منهم - ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" وفي الحديث الآخر "والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار". والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً له موضع بذاته {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه "والصوم زكاة البدن" أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعاً وشرعاً, كما قال سعيد بن جبير: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإِنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإِنه له وجاء" ناسب أن يذكر بعده {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} أي عن المحارم والمآثم إِلا عن المباح كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
وقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبيد الله, حدثنا محمد بن جابر عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كُتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراُ والذاكرات" وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قلت يارسول الله أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" قال: قلت يارسول الله ومن الغازي في سبيل الله تعالى ؟ قال: "لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دماً, لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الرحمن بن إِبراهيم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة, فأتى على جمدان فقال: "هذا جمدان سيروا فقد سبق المفردون" قالوا: وما المفردون ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين" قالوا: والمقصرين ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين" قالو, والمقصرين ؟ قال: "والمقصرين" تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم دون آخره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى, حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: إِنه بلغني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله عز وجل" وقال معاذ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة, ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا(3/590)
أعناقكم ؟" قالوا: بلى يارسول الله, قال صلى الله عليه وسلم "ذكر الله عز وجل".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِن رجلاً سأله فقال: أي المجاهدين أعظم أجراً يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أكثرهم لله تعالى ذكراً" قال: فأي الصائمين أكثر أجراً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أكثرهم لله عز وجل ذكراً" ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة. كل ذلك يقول رسول الله: "أكثرهم لله ذكراً" فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل". وسنذكر إِن شاء الله تعالى بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} الآية, إِن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم مغفرة منه لذنوبهم وأجراً عظيماً وهو الجنة.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً}
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الآية, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه, فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها, فقالت: لست بناكحته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بلى فانكحيه" قالت: يارسول الله أؤامر في نفسي ؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} الآية, قالت: قد رضيته لي يارسول الله منكحاً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قالت: إِذاً لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي.
وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه فاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حسباً, وكانت امرأة فيها حدة, فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الآية كلها, وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه, فامتنعت ثم أجابت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت أول من هاجر من النساء, يعني بعد صلح الحديبية, فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: قد قبلت, فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه - بعد فراقه زينب, فسخطت هي وأخوها وقالا: إِنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده, قال: فنزل القرآن {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} إِلى آخر الآية, قال: وجاء أمر أجمع من هذا {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال: فذاك خاص وهذا أجمع.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه, قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إِلى أبيها, فقال: حتى أستأمر أمها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إِذاً" قال: فانطلق الرجل إِلى امرأته فذكر ذلك لها, قالت: لاها الله ذا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا جليبيباً وقد منعناها من فلان وفلان, قال: والجارية في سترها تسمع, قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره, إِن كان قد رضيه لكم فأنكحوه, قال: فكأنها جلت عن أبويها, وقالا: صدقت فذهب أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِن كنت رضيته فقد(3/591)
رضيناه, قال صلى الله عليه وسلم: "فإِني قد رضيته" قال: فزوجها, ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب, فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم, قال أنس رضي الله عنه: فلقد رأيتها وإِنها لمن أنفق بيت بالمدينة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن ثابت عن كنانة بن نعيم العدوي, عن أبي برزة الأسلمي قال: إِن جليبيباً كان امرأ يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن, فقلت لامرأتي: لا يدخلن اليوم عليكن جليبيباً فإِنه إِن دخل عليكن لأفعلن ولأفعلن, قالت: وكانت الأنصار إِذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار "زوجني ابنتك" قال: نعم وكرامة يارسول الله ونعمة عين, فقال صلى الله عليه وسلم: "إِني لست أريدها لنفسي" قال: فلمن يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم "لجليبيب" فقال: يارسول الله أشاور أمها, فأتى أمها, فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك ؟ فقالت: نعم ونعمة عين, فقال: إِنه ليس يخطبها لنفسه إِنما يخطبها لجليبيب, فقالت: أجليبيب ابنه أجليبيب ابنه ؟ ألا لعمر الله لا نزوجه, فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها, قالت الجارية: من خطبني إِليكم ؟ فأخبرتها أمها, قالت: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ ادفعوني إِليه, فإِنه لن يضيعني, فانطلق أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "شأنك بها" فزوجها جليبيباً, قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له, فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه رضي الله عنهم: "هل تفقدون من أحد" ؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً, قال صلى الله عليه وسلم: "انظروا هل تفقدون من أحد" قالوا: لا. قال صلى الله عليه وسلم: "لكنني أفقد جليبيباً" قال صلى الله عليه وسلم: "فاطلبوه في القتلى" فطلبوه فوجدوه إِلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه, فقالوا: يارسول الله ها هو ذا إِلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه, فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه فقال: "قتل سبعة وقتلوه, هذا مني وأنا منه" مرتين أو ثلاثاً, ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ماله سرير إِلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم, ثم وضعه في قبره ولم يذكر أنه غسله رضي الله عنه, قال ثابت رضي الله عنه: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها. وحديث إِسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: قال: "اللهم صب عليها الخير صباً ولا تجعل عيشها كداً" وكذا كان, فما كان في الأنصار أيم أنفق منها, هكذا أورده الإمام أحمد بطوله, وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ نزلت هذه الآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
وقال ابن جريج: أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال: إِنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه, وقرأ ابن عباس رضي الله عنه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فهذه الآية عامة في جميع الأمور, وذلك أنه إِذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته, ولا اختيار لأحد هنا, ولا رأي ولا قول, كما قال تبارك وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وفي الحديث "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" ولهذا شدد في خلاف ذلك, فقال {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ(3/592)
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً}
يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو الذي أنعم الله عليه أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أي بالعتق من الرق, وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر حبيباً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له الحب, ويقال لابنه أسامة الحب بن الحب, قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إِلا أمره عليهم, ولو عاش بعده لاستخلفه, رواه الإمام أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد عن وائل بن داوود عن عبد الله البهي عنها.
وقال البزار: حدثنا خالد بن يوسف, حدثنا أبو عوانة, ح وحدثنا محمد بن معمر, حدثنا أبو داود حدثنا أبو عوانة, أخبرني عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: فقالا: يا أسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت: علي والعباس يستأذنان, فقال صلى الله عليه وسلم: "أتدري ما حاجتهما ؟" قلت: لا يارسول الله, قال صلى الله عليه وسلم: "لكني أدري" قال: فأذن لهما, قالا: يارسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إِليك ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أحب أهلي إِلي فاطمة بنت محمد" قالا: يارسول الله ما نسألك عن فاطمة, قال صلى الله عليه وسلم: "فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها, وأمها أميمة بنت عبد المطلب, وأصدقها عشرة دنانير وستين درهما, وخماراً وملحفة ودرعاً, وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر, قاله مقاتل بن حيان, فمكث عنده قريباً من سنة أو فوقها, ثم وقع بينهما, فجاء زيد يشكوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "أمسك عليك زوجك واتق الله" قال الله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم, أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها.
وقد روى الإمام أحمد ههنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن زيد عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً. وقد روى البخاري أيضاً بعضه مختصراً فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم, حدثنا معلى بن منصور عن حماد بن زيد, حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في زيد, حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه. قال: إن هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن هاشم مرزوق, حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} فذكرت له, فقال: لا ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها, فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إِليه قال: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" فقال: قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا إِسحاق بن شاهين, حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إِليه من كتاب الله تعالى لكتم {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} الوطر هو الحاجة والأرب, أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها, وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عز وجل بمعنى أنه أوحى إِليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر.
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم يعني ابن القاسم, أخبرنا النضر, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما(3/593)
انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "اذهب فاذكرها علي" فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها, قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إِليها وأقول إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها, فوليتها ظهري ونكصت على عقبي, وقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك, قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل, فقامت إِلى مسجدها, ونزل القرآن, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إِذن, ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم, فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته, فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يارسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر, فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه, فألقى الستر بيني وبينه, ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية كلها, ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة به.
وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات, وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما, فقالت زينب رضي الله عنها: أنا الذي نزل تزويجي من السماء, وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء, فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إِني لأدلي عليك بثلاث, وما من نسائك امرأة تدلي بهن: إِن جدي وجدك واحد, وإِني أنكحنيك الله عز وجل من السماء, وإِن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} أي إِنما أبحنا لك تزويجها, وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه, فكان يقول له زيد بن محمد, فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ - إِلى قوله تعالى - ادْعُوهُمْ ِلآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها, لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه, ولهذا قال تعالى في آية التحريم {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} ليحترز من الابن الدعي, فإِن ذلك كان كثيراً فيهم. وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه وهو كائن لا محالة, كانت زينب رضي الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
{مّا كَانَ عَلَى النّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً}
يقول تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج, وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصاً في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.(3/594)
{الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً}
يمدح تبارك وتعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها {وَيَخْشَوْنَهُ} أي يخافونه ولا يخافون أحداً سواه, فلا تمنعهم سطوة أحد عن إِبلاغ رسالات الله تعالى {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً, وسيد الناس في هذا المقام بل وفي كل مقام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه قام بأداء الرسالة وإِبلاغها إِلى أهل المشارق والمغارب إِلى جميع أنواع بني آدم, وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع, فإِنه قد كان النبي قبله إِنما يبعث إِلى قومه خاصة, وأما هو صلى الله عليه وسلم فإِنه بعث إِلى جميع الخلق عربهم وعجمهم {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده, فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم, بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله, في ليله ونهاره, وحضره وسفره, وسره وعلانيته, فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إِلى زماننا هذا, فبنورهم يقتدي المهتدون, وعلى منهجهم يسلك الموفقون, فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله, فيقول الله ما يمنعك أن تقول فيه ؟ فيقول رب خشيت الناس, فيقول: فأنا أحق أن يخشى" ورواه أيضاً عن عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن عمرو بن مرة. ورواه ابن ماجه عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش به.
وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد, أي لم يكن أباه وإِن كان قد تبناه, فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم فإِنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها, فماتوا صغاراً وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية, فمات أيضاً رضيعاً, وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين, فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث, وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم, ثم ماتت بعده لستة أشهر.
وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} كقوله عز وجل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده, وإِذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى, لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة, فإِن كل رسول نبي ولا ينعكس, وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها, وترك فيها موضع لبنة لم يضعها, فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة, فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به, وقال حسن صحيح.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا المختار بن فلفل, حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعد ولا نبي" قال: فشق ذلك على الناس, فقال: "ولكن المبشرات" قالوا: يارسول الله وما المبشرات ؟ قال: "رؤيا الرجل المسلم, وهي جزء من أجزاء النبوة" وهكذا(3/595)
رواه الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به, وقال: صحيح غريب من حديث المختار بن فلفل.
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إِلا موضع لبنة, فكان من دخلها فنظر إِليها قال: ما أحسنها إِلا موضع هذه اللبنة, فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" ورواه البخاري ومسلم والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به, وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إِلا لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة" انفرد به مسلم من رواية الأعمش به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عثمان بن عبيد الراسبي قال: سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نبوة بعدي إِلا المبشرات" قيل: وما المبشرات يارسول الله ؟ قال: "الرؤيا الحسنة" - أو قال - "الرؤيا الصالحة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وأجملها إِلا موضع لبنة من زاوية من زواياها, فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون: ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فكنت أنا اللبنة" أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
(حديث آخر) عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال الإمام مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إِسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم, ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأرسلت إِلى الخلق كافة, وختم بي النبيون" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إِسماعيل بن جعفر, وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأتمها إِلا موضع لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة" ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا معاوية بن صالح, حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي, عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إِني عند الله لخاتم النبيين, وإِن آدم لمنجدل في طينته".
(حديث آخر) قال الزهري: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِن لي أسماء أنا محمد, وأنا أحمد, وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي" أخرجاه في الصحيحين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى ابن إِسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله ابن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال: "أنا محمد النبي الأمي - ثلاثاً - ولا نبي بعدي, أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه, وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش, وتجوز بي , وعوفيت وعوفيت أمتي, فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم, فإِذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله,(3/596)
وحرموا حرامه" تفرد به الإمام أحمد.
ورواه الإمام أحمد أيضاً عن يحيى بن إِسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة لهيعة عن عبد الله بن سريج الخولاني عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, فذكر مثله سواء, والأحاديث في هذا كثيرة, فمن رحمة الله تعالى بالعباد إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم إِليهم, ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإِكمال الدين الحنيف له, وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده, ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل, لو تحرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله, وكذلك كل مدع لذلك إِلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال, فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها, وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه, فإِنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إِلا على سبيل الاتفاق أو لما لهم فيه من المقاصد إِلى غيره ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم, كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الآية, وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فإِنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه, مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات, فصلوات الله وسلامه عليهم دائماً مستمراً ما دامت الأرض والسموات.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن, لما لهم في ذلك من جزيل الثواب, وجميل المآب. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد, حدثني مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إِعطاء الذهب والورق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم" قالوا: وما هو يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ذكر الله عز وجل" وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس البراغمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه به, قال الترمذي: رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه, فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا فرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه: "اللهم اجعلني أعظم شكرك, وأتبع نصيحتك, وأكثر ذكرك, وأحفظ وصيتك", ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي فضالة الفرج بن فضالة عن أبي سعيد(3/597)
الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه, فذكر مثله, وقال: غريب, وهكذا رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه, فذكره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال: سمعت عبد الله بن بسر يقول: جاء أعرابيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يارسول الله أي الناس خير ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "من طال عمره وحسن عمله" وقال الآخر: يارسول الله إِن شرائع الإسلام قد كثرت علينا, فمرني بأمر أتشبث به, قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى" وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به, وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال: إِن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون ". وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد, حدثنا عقبة بن مكرم العمي, حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري, حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي ثبيب الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذكروا الله ذكراً كثيراً حتى يقول المنافقون إِنكم تراؤون".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي, سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن)عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة". وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً, ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر, فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه, ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه, فقال: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} بالليل والنهار في البر والبحر, وفي السفر والحضر, والغنى والفقر, والسقم والصحة, والسر والعلانية, وعلى كل حال. وقال عز وجل: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته, والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً, وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله.
وقوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي عند الصباح والمساء, كقوله عز وجل {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} هذا تهييج إلى الذكر, أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم, كقوله عز وجل {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة, حكاه البخاري عن أبي العالية, ورواه أبو جعفر الرازي(3/598)
عن الربيع بن أنس عنه, وقال غيره: الصلاة من الله عز وجل الرحمة. وقد يقال: لا منافاة بين القولين, والله أعلم.
وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار, كقوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} الآية. وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء ملائكته لكم, يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} أي في الدنيا والآخرة, أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم, وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغاة, وأما رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم, وصبي في الطريق, فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ, فأقبلت تسعى وتقول: ابني, ابني, وسعت فأخذته, فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار, قال فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا, والله لا يلقي حبيبه في النار" إسناده على شرط الصحيحين, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, ولكن في صحيح الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبياً لها فألصقته إلى صدرها وأرضعته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟" قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها"
وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} الظاهر أن المراد - والله أعلم - تحيتهم, أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام أي يوم يسلم عليهم كما قال عز وجل: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة, واختاره ابن جرير. (قلت) وقد يستدل له بقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر, مما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
{يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ لَهُمْ مّنَ اللّهِ فَضْلاً كِبِيراً وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً}
قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا فليح بن سليمان, حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة, قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وحرزاً للأميين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل, لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع السيئة بالسيئة, ولكن يعفو ويصفح ويغفر, ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء,(3/599)
بأن يقولوا لا إله إلا الله, فيفتح بها أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله,قيل ابن رجاء, وقيل ابن صالح,عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به.
وقال البخاري في البيوع: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه, وقال وهب بن منبه: إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء: أن قم في قومك بني إسرائيل فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أمياً من الأميين, أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه مبشراً ونذيراً لا يقول الخنا, أفتح به أعيناً كمهاً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلال, وأعلم به بعد الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به بعد القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة, وأهواء متشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي, ألهمهم التسبيح والتحميد, والثناء والتكبير والتوحيد, في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قياناً وقعوداً ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً, ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً, يطهرون الوجوه والأطراف ويشدون الثياب في الأنصاف, قربانهم دماؤهم, وأناجيلهم في صدورهم, رهبان بالليل ليوث بالنهار, وأجعل في أهل بيته, وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين, أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون, وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم, وأجعل دائرة السوء على من خالفهم, أو بغى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم, أجعلهم ورثة لنبيهم, والداعية إلى ربهم, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم, ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم. هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال: "انطلقا فبشرا ولا تنفرا, ويسرا ولا تعسرا, إنه قد أنزل علي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}" ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي, عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي, عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله, وقال في آخره "فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن". فقوله تعالى: {شَاهِداً} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}. وقوله عز وجل:(3/600)
{وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك {وَسِرَاجاً مُنِيراً} أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي اصفح وتجاوز عنهم, وكل أمرهم إلى الله تعالى, فإن فيه كفاية لهم, ولهذا قال جل جلاله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً}
هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة منها إطلاق النكاح على العقد وحده, وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها, وقد اختلفوا في النكاح: هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطء أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال, واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده إلا في هذه الآية, فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تبارك وتعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.
وقوله تعالى: {الْمُؤْمِنَاتِ} خرج مخرج الغالب إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق, وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح, لأن الله تعالى قال: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فعقب النكاح بالطلاق, فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله, وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى, وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق, فعندهما متى تزوجها طلقت منه, واختلفا فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فقال مالك: لا تطلق حتى يعين المرأة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه, فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور المروزي, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا يونس يعني ابن أبي إسحاق, قال: سمعت آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق, قال: ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن مطر عن الحسن بن مسلم بن يناق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما قال الله عز وجل: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح, وهكذا روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فلا طلاق قبل النكاح. وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي. هذا حديث حسن, وهو أحسن شيء روي في هذا الباب, وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طلاق قبل نكاحٍ".
وقوله عز وجل: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} هذا أمر مجمع عليه بين العلماء, أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها, فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت, ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها, فإنها(3/601)
تعتد منه أربعة أشهر وعشراً, وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً. وقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمي لها. قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وقال عز وجل {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل, فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف, وإن لم يكن سمى لها صداقاً أمتعها على قدر عسره ويسره, وهو السراح الجميل.
{يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِيَ آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيَ أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً}
يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور ههنا, كما قاله مجاهد وغير واحد. وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشاً وهو نصف أوقية, فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان, فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر, ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها, كذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها - رضي الله عنهن أجمعين -.
وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم, وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما, وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام, وكانتا من السراري رضي الله عنهما. وقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} الآية, هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط, فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً, واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته, فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى, فأباح بنت العم والعمة, وبنت الخال والخالة, وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع, وإنما قال: { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} فوحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الإناث لنقصهن كقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وله نظائر كثيرة.
وقوله تعالى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث الرازي, حدثنا عبيد الله بن موسى, حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت(3/602)
إليه فعذرني, ثم أنزل الله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قالت: فلم أكن أحل له, ولم أكن ممن هاجر معه كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى به, ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عنها بنحوه, ورواه الترمذي في جامعه. وهكذا قال أبو رزين وقتادة إن المراد من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أي أسلمن, وقال الضحاك: قرأ ابن مسعود {وَاللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}.
وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} الآية, أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الآية توالى فيها شرطان, كقوله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وكقول موسى عليه السلام {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وقال ههنا: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق, أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك, فقامت قياماً طويلاً, فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟" فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك, فالتمس شيئاً" فقال: لا أجد شيئاً, فقال: "التمس ولو خاتماً من حديد" فالتمس فلم يجد شيئاً, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء ؟" قال: نعم سورة كذا وسورة كذا - السور يسميها - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن" أخرجاه من حديث مالك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا مرحوم, سمعت ثابتاً يقول: كنت مع أنس جالساً وعنده ابنة له, فقال أنس: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله هل لك في حاجة ؟ فقالت ابنته: ما كان أقل حياءها, فقال: "هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها" انفرد بإخراجه البخاري من حديث مرحوم بن عبد العزيز عن ثابت البناني عن أنس به. وقال أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن بكير, حدثنا سنان بن ربيعة عن الحضرمي عن أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا, فذكرت من حسنها وجمالها فآثرتك بها, فقال: "قد قبلتها" فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تشك شيئاً قط, فقال: "لا حاجة لي في ابنتك" لم يخرجوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا ابن أبي الوضاح يعني محمد بن مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقال ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه: أن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه: كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة صالحة. فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم أو هي امرأة أخرى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع, حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة, ستاً من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة, وثلاثاً من بني عامر بن صعصعة, وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين, وامرأة من بني بكر بن(3/603)
كلاب من القرظيات, وهي التي اختارت الدنيا, وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه, وزينب بنت جحش الأسدية, والسبيتين صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} قال: هي ميمونة بنت الحارث, فيه انقطاع, هذا مرسل, والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصارية, وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته, فالله أعلم. والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير, كما قال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى, حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن منصور الجعفي, حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس بن بكير, أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به, لأنه مردود إلى مشيئته, كما قال الله تعالى: { إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} أي إن اختار ذلك.
وقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قال عكرمة أي لا تحل الموهوبة لغيرك, ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً, وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما, أي أنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها, كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق لما فوضت, فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها, والموت والدخول سواء في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم, فأما هو عليه الصلاة والسلام فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها, لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي, ولا شهود, كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها, ولهذا قال قتادة في قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يقول: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم} قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في قوله: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر, وما شاؤوا من الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم, وهم الأمة وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
{تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِيَ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن تَقَرّ أَعْيُنُهُنّ وَلاَ يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً}
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل الله عز وجل {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية, قالت: إني أرى(3/604)
ربك يسارع لك في هواك. وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة, فدل هذا على أن المراد بقوله: {تُرْجِي} أي تؤخر {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أي من الواهبات {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أي من شئت قبلتها ومن شئت رددتها, ومن رددتها فأنت فيها أيضاً بالخيار بعد ذلك إن شئت عدت فيها فآويتها, ولهذا قال: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ}.
قال عامر الشعبي في قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية, كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم, فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده, منهن أم شريك وقال آخرون: بل المراد بقوله {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية, أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن, فتقدم من شئت وتؤخر من شئت, وتجامع من شئت وتترك من شئت, هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لهن, ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم, واحتجوا بهذه الآية الكريمة.
وقال البخاري: حدثنا حبان بن موسى, حدثنا عبد الله هو ابن المبارك, وأخبرنا عاصم الأحول عن معاذ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} فقلت لها: ما كنت تقولين ؟ فقالت: كنت أقول إن كان ذلك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً, فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجود القسم, وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات, ومن ههنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء, اللاتي عنده أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم, وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي, وفيه جمع بين الأحاديث, ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم, فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم, لا جناح عليك في أي ذلك فعلت, ثم مع هذا أن تقسم لهن اختياراً منك, لا أنه على سبيل الوجوب, فرحن بذلك واستبشرن به, وحملن جميلك في ذلك, واعترفن بمنتك عليهن في قسمتك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل, ثم يقول: "اللهم هذا فعلي فيما أملك, فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة, وزاد أبو داود بعد قوله: "فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني القلب. وإسناده صحيح, ورجاله كلهم ثقات, ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} أي بضمائر السرائر {حَلِيماً} أي يحلم ويغفر.
{لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إِلاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ رّقِيباً}
ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم, أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضاً عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول لله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الآية, فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن, وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن, ولو أعجبه حسنهن إلا(3/605)
الإماء والسراري فلا حرج عليه فيهن, ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الآية, وأباح له التزوج, ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن.
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء, ورواه أيضاً من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة, ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة, حدثني عمر بن أبي بكر, حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الخزاعي عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عبد الله بن وهب بن زمعة عن أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم, وذلك قول الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة, الأولى ناسخة للتي بعدها, والله أعلم.
وقال آخرون: بل معنى الآية {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك, اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك, وهذا ما روي عن أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه, وعكرمة والضحاك في رواية, وأبي رزين في رواية عنه, وأبي صالح والحسن وقتادة في رواية, والسدي وغيرهم, قال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية عن داود بن أبي هند, حدثني محمد بن أبي موسى عن زياد عن رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توفين أما كان له أن يتزوج ؟ فقال: وما يمنعه من ذلك ؟ قال: قلت قول الله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} فقال: إنما أحل الله له ضرباً من النساء, فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ - إلى قوله تعالى - إِِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ثم قيل له: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} ورواه عبد الله بن أحمد من طرق عن داود به.
وروى الترمذي عن ابن عباس قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} فأحل الله فتياتكم المؤمنات, وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وحرم كل ذات دين غير الإسلام, ثم قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الآية.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ - إلى قوله تعالى - خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء, وقال مجاهد {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد ما سمي لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وقال أبو صالح {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية, ويتزوج بعد من نساء تهامة وما شاء من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال عكرمة {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي التي سمى الله.
واختار ابن جرير رحمه الله: أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء, وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً, وهذا الذي قاله جيد, ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف, فإن كثيراً منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة, والله أعلم. ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها! وعزم على فراق سودة حتى وهبت يومها لعائشة, ثم أجاب بأن هذا كان قبل نزول قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} الآية, وهذا الذي قاله من أن هذا كان قبل نزول الآية صحيح, ولكن لا يحتاج إلى ذلك, فإن الآية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في(3/606)
عصمته وأنه لا يستبدل بهن غيرهن, ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال, فالله أعلم, فأما قضية سودة ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وهي سبب نزول قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} الآية. وأما قضية حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة, عن صالح بن صالح بن حيي عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها, وهذا إسناد قوي. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو كريب, حدثنا يونس بن بكير عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة وهي تبكي, فقال: ما يبكيك ؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك, إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي, والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبداً, ورجاله على شرط الصحيحين.
وقوله تعالى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} فنهاه عن الزيادة إن طلق واحدة منهن, واستبدال غيرها بها, إلا ما ملكت يمينه, وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً مناسباً ذكره ههنا, فقال: حدثنا إبراهيم بن نصر, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله القرشي, عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك: وأبادلك بامرأتي, أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي, فأنزل الله {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} قال فدخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة, فدخل بغير إذن, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين الاستئذان ؟" فقال: يارسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت, ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه عائشة أم المؤمنين" قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ؟ قال "يا عيينة إن الله قد حرم ذلك" فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا ؟ قال: "هذا أحمق مطاع, وإنه على ما ترين لسيد قومه" ثم قال البزار: إسحاق بن عبد الله لين الحديث جداً, وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه وبينا العلة فيه.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللّهِ عَظِيماً إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً}
هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية, وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه, كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث, قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى, فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن, فأنزل الله آية الحجاب, وقلت لأزاوج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في(3/607)
الغيرة {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} فنزلت كذلك, وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة.
وقد قال البخاري: حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر, فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب, وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه, وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما, وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث, فالله أعلم.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي, حدثنا معتمر بن سليمان, سمعت أبي, حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش, دعا القوم فطعموا, ثم جلسوا يتحدثون, فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا, فلما رأى ذلك قام, فلما قام, قام من قام وقعد ثلاثة نفر, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل, فإذا القوم جلوس, ثم إنهم قاموا فانطلقوا, فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل, فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} الآية, وقد رواه أيضا في موضع آخر, ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر بن سليمان به.
ثم رواه البخاري منفرداً به من حديث أيوب عن أبي قلابة, عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه, ثم قال: حدثنا أبو معمر, حدثنا عبد الوارث, حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم زينت بنت جحش بخبز ولحم, فأرسلت على الطعام داعياً, فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون, ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون, فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه, فقلت: يارسول الله ما أجد أحداً أدعوه, قال: "ارفعوا طعامكم". وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم , فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته" قالت: وعليك السلام ورحمة الله, كيف وجدت أهلك يا رسول الله ؟ بارك الله لك ؟ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة, ويقلن له كما قالت عائشة, ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون, وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء, فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة, فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا, فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجة, أرخى الستر بيني وبينه, وأنزل آية الحجاب. انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة سوى النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الوارث, ثم رواه عن إسحاق هو ابن منصور عن عبد الله بن بكر السهمي عن حميد عن أنس بنحو ذلك, وقال رجلان: انفرد به من هذا الوجه, وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو المظفر, حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه, فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تور فقالت: اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرئه مني السلام وأخبره أن هذا منا له قليل, قال أنس: والناس يومئذ في جهد, فجئت به فقلت: يارسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك, وهي تقرئك السلام وتقول: أخبره أن هذا منا له قليل, فنظر إليه ثم قال: "ضعه" فوضعته في ناحية البيت ثم قال: "اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً" فسمى رجالاً كثيراً وقال: "ومن لقيت من المسلمين" فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين, فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس, فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا ؟ فقال: كانوا زهاء ثلاثمائة. قال(3/608)
أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جىء به" فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال: "ما شاء الله" ثم قال "ليتحلق عشرة عشرة, وليسموا, وليأكل كل إنسان مما يليه" فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارفعه" قال: فجئت فأخذت التور, فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت ؟ قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط, فأطالوا الحديث, فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء, ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرج فسلم على حجره وعلى نسائه, فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه, ابتدروا الباب فخرجوا, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة, فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن, فخرج وهو يتلو هذا الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآيات, قال أنس: فقرأهن علي قبل الناس, فأنا أحدث الناس بهن عهداً, وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن جعفر بن سليمان به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وعلقه البخاري في كتاب النكاح, فقال: وقال إبراهيم بن طهمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس فذكر نحوه. ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الجعد به, وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك عن شريك عن بيان بن بشر عن أنس بنحوه, ورواه البخاري والترمذي من طريقين آخرين عن بيان بن بشر الأحمسي الكوفي عن أنس بنحوه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بن مالك بنحو ذلك, ولم يخرجوه, ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ومن حديث الزهري عن أنس بنحو ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز وهاشم بن القاسم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: "اذهب فاذكرها علي" قال: فانطلق زيد حتى أتاها - قال - وهي تخمر عجينها, فلما رأيتها عظمت في صدري, وذكر تمام الحديث كما قدمناه عند قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً} وزاد في آخره بعد قوله: ووعظ القوم بما وعظوا به. قال هاشم في حديثه {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية. وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب, حدثني عمي عبد الله بن وهب, حدثني يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح - وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك, فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل, فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت امرأة طويلة, فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب, قالت: فأنزل الله الحجاب, هكذا وقع في هذه الرواية, والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب.
كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها, وكانت امرأة جسيمة, لا تخفى على من يعرفها, فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا, فانظري كيف تخرجين ؟ قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق, فدخلت فقالت: يارسول الله إني خرجت لبعض حاجتي, فقال لي عمر: كذا وكذا, قالت: فأوحى الله إليه, ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه, فقال: "إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن" لفظ البخاري, فقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام, حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك, وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول(3/609)
على النساء" الحديث, ثم استثنى من ذلك فقال تعالى :{إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} قال مجاهد وقتادة وغيرهما: أي غير متحينين نضجه واستواءه, أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول, فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه, وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن, وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين, وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها.
ثم قال تعالى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو غيره" وأصله في الصحيحين, وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع لقبلت, فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض" ولهذا قال تعالى: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث, ونسوا أنفسهم حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} وقيل المراد إن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به, ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه عليه السلام حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك, ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية, ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن, فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن مسعر عن موسى بن أبي كثير عن مجاهد عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب, فمر عمر فدعاه فأكل, فأصابت إصبعه إصبعي, فقال حسن أو أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين, فنزل الحجاب {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} قال بن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن أبي حماد, حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده, قال رجل لسفيان: أهي عائشة ؟ قال: قد ذكروا ذلك, وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وذكر بسنده عن السدي إن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه, حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك, ولهذا اجتمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده, لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم, واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته: هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله {مِنْ بَعْدِهِ أ} أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها, فما نعلم في حلها لغيره والحالة هذه نزاعاً, والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا عبد الوهاب, حدثنا داود عن عامر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة ابنة الأشعث - يعني ابن قيس - فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك, فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة, فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه, إنها لم يخيرها رسول الله ولم يحجبها, وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها: قال: فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه وسكن, وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك, وشدد فيه وتوعد عليه بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} ثم قوله تعالى:(3/610)
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم, فإن الله يعلمه, فإنه لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
{لاّ جُنَاحَ عَلَيْهِنّ فِيَ آبَآئِهِنّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنّ وَلاَ إِخْوَانِهِنّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنّ وَلاَ نِسَآئِهِنّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ وَاتّقِينَ اللّهَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً}
لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب, بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم, كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} وفيها زيادات على هذه, وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقد سأل بعض السلف فقال: لم يذكر العم والخال في هاتين الآيتين ؟ فأجاب عكرمة والشعبي بأنهما لم يذكرا لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما. قال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد, حدثنا داود عن الشعبي وعكرمة في قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} الآية, قلت: ما شأن العم والخال لم يذكرا ؟ قال لأنهما ينعتانهما لأبنائهما وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها. وقوله تعالى: {وَلا نِسَائِهِنَّ} يعنى بذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات. وقوله تعالى: {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني به أرقاءهن من الذكور والإناث كما تقدم التنبيه عليه وإيراد الحديث فيه, قال سعيد بن المسيب: إنما يعني به الإماء فقط, رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} أي واخشينه في الخلوة والعلانية, فإنه شهيد على كل شيء, لا تخفى عليه خافية فراقبن الرقيب.
{إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النّبِيّ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ صَلّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً}
قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة, وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس: يصلون يبركون, هكذا علقه البخاري عنهما, وقد رواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كذلك, وروي مثله عن الربيع أيضاً, وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كما قاله سواء, رواهما ابن أبي حاتم: وقال أبو عيسى الترمذي: وروي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم, قالوا: صلاة الرب الرحمة, وصلاة الملائكة الاستغفار.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو الأودي, حدثنا وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة, قال الأعمش أراه عن عطاء بن أبي رباح {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} قال: صلاته تبارك وتعالى سبوح قدوس, سبقت رحمتي غضبي والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين, وأن الملائكة تصلي عليه, ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه, ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين: العلوي والسفلي جميعاً.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق عن جعفر يعني ابن المغيرة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: هل يصلي ربك ؟ فناداه ربه عز وجل: يا موسى سألوك هل يصلي ربك,(3/611)
فقل: نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي, فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} الآية وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} الآية, وفي الحديث "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف", وفي الحديث الآخر "اللهم صل على آل أبي أوفى" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر وقد سألته أن يصلي عليها وعلى زوجها "صلى الله عليك وعلى زوجك", وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه, وكيفية الصلاة عليه, ونحن نذكر منها إن شاء الله ما تيسر والله المستعان.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد, أخبرنا أبي عن مسعر عن الحكم عن ابن أبي ليلى. عن كعب بن عجرة قال: قيل يارسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه, فكيف الصلاة ؟ قال: "قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على آل إبراهيم , إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد".
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية ؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك, فكيف الصلاة ؟ فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على آل إبراهيم , إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد" وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة في كتبهم من طرق متعددة عن الحكم وهو ابن عتيبة, زاد البخاري وعبد الله بن عيسى كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى فذكره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفه, حدثنا هشيم بن بشير عن يزيد بن أبي زياد, حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت {{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} , قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام عليك, فكيف الصلاة عليك, قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد" وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول وعلينا معهم. ورواه الترمذي بهذه الزيادة, ومعنى قولهم أما السلام عليك فقد عرفناه هو الذي في التشهد, الذي كان يعلمهم إياه كما كان يعلمهم السورة من القرآن, وفيه السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
(حديث آخر) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف, حدثنا الليث عن ابن الهاد عن عبد الله بن خباب, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام, فكيف نصلي عليك ؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك, كما صليت على آل إبراهيم, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم" قال أبو صالح عن الليث: على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم. حدثنا إبراهيم بن حمزة, حدثنا ابن أبي حازم والداروردي عن يزيد يعني ابن الهاد قال: كما صليت على إبراهيم, وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم. وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث ابن الهاد به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: قرأت على عبد الرحمن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرو(3/612)
بن سليم أنه قال: أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته, كما صليت على إبراهيم, وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد" وقد أخرجه بقية الجماعة سوى الترمذي من حديث مالك به.
(حديث آخر) قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: قرأت على مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر أخبرني محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: وعبد الله بن زيد هو الذي كان أري النداء بالصلاة, أخبره عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة, فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله, فكيف نصلي عليك ؟ قال: فسكت رسول الله حتى تمنينا أنه لم يسأله, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم في العالمين, إنك حميد مجيد, والسلام كما قد علمتم" وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث مالك به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن إسحاق, عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زي بن عبد ربه, عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا: يارسول الله أما السلام فقد عرفناه, فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا ؟ فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" وذكره ورواه الشافعي رحمه الله في مسنده عن أبي هريرة بمثله, ومن ههنا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير, فإن تركه لم تصح صلاته, وقد شرع بعض المتأخرين من المالكية وغيرهم يشنع على الإمام الشافعي في اشتراطه ذلك في الصلاة, ويزعم أنه قد تفرد بذلك, وحكى الإجماع على خلافه أبو جعفر الطبري والطحاوي والخطابي وغيرهم فيما نقله القاضي عياض عنهم, وقد تعسف هذا القائل في رده على الشافعي, وتكلف في دعواه الإجماع في ذلك, وقال ما لم يحط به علماً, فإنا قد روينا وجوب ذلك والأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة, كما هو ظاهر الآية, ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وأبو مسعود البدري وجابر بن عبد الله, ومن التابعين: الشعبي وأبو جعفر الباقر ومقاتل بن حيان, وإليه ذهب الشافعي لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضاً, وإليه ذهب الإمام أحمد أخيراً فيما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقي به, وبه قال إسحاق بن راهوية والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن المواز المالكي رحمهم الله, حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما علمهم أن يقولوا لما سألوه, وحتى إن بعض أصحابنا أوجب الصلاة على آله فيما حكاه البندنيجي وسليم الرازي وصاحبه نصر بن إبراهيم المقدسي, ونقله إمام الحرمين وصاحبه الغزالي قولاً عن الشافعي. والصحيح أنه وجه على أن الجمهور على خلافه, وحكوا الإجماع على خلافه, وللقول بوجوبه ظواهر الحديث والله أعلم.
والغرض أن الشافعي رحمه الله يقول بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة سلفاً وخلفاً كما تقدم, ولله الحمد والمنة, فلا إجماع على خلافه في هذه المسألة لا قديماً ولا حديثاً, والله أعلم. ومما يؤيد ذلك الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه, والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من رواية حيوة بن شريح المصري عن أبي هانىء حميد بن هانىء عن عمرو بن مالك أبي علي الجنبي عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا" ثم دعاه فقال له أو لغيره "إذا صلى(3/613)
أحدكم فليبدأ بتمجيد الله عز وجل والثناء عليه, ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعد بما شاء" وكذا الحديث الذي رواه ابن ماجه من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له, ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه, ولا صلاة لمن لم يصل على النبي, ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار" ولكن عبد المهيمن هذا متروك وقد رواه الطبراني من رواية أخيه أبي بن عباس, ولكن في ذلك نظر, وإنما يعرف من رواية عبد المهيمن, والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا إسماعيل عن أبي داود الأعمى عن بريدة قال: قلنا يارسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك, فكيف نصلي عليك ؟ قال: "قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد, كما جعلتها على إبراهيم وآل إبراهيم, إنك حميد مجيد" أبو داود الأعمى اسمه نفيع بن الحارث, متروك.
(حديث آخر) موقوف. رويناه من طريق سعيد بن منصور ويزيد بن هارون وزيد بن الحباب, ثلاثتهم عن نوح بن قيس: حدثنا سلامة الكندي أن علياً رضي الله عنه كان يعلم الناس هذا الدعاء: اللهم داحي المدحوات, وبارىء المسموكات, وجبار القلوب على فطرتها: شقيها وسعيدها, اجعل شرائف صلواتك, ونوامي بركاتك, وفضائل آلائك, على محمد عبدك ورسولك الفاتح لما أغلق, والخاتم لما سبق, والمعلن الحق بالحق, والدامغ لجيشات الأباطيل, كما حمل فاضطلع بأمرك لطاعتك, مستوفزاً في مرضاتك غير نكل في قدم, ولا واهن في عزم, واعياً لوحيك, حافظاً لعهدك, ماضياً على نفاذ أمرك حتى أورى قبساً لقابس, آلاء الله تصل بأهله أسبابه, به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم, وأبهج موضحات الأعلام, ونائرات الأحكام, ومنيرات الإسلام, فهو أمينك المأمون, وخازن علمك المخزون, وشهيدك يوم الدين, وبعيثك نعمة, ورسولك بالحق رحمة, اللهم أفسح له في عدنك, واجزه مضاعفات الخير من فضلك, مهنآت غير مكدرات, من فوز ثوابك المحلول وجزيل عطائك المجمول, اللهم أعل على بناء البانين بنيانه. وأكرم مثواه لديك ونزله, وأتمم له نوره واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة, مرضي المقالة ذا منطق عدل, وخطة فصل, وحجة وبرهان عظيم, هذا مشهور من كلام علي رضي الله عنه, وقد تكلم عليه ابن قتيبة في مشكل الحديث, وكذا أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي في جزء جمعه في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في إسناده نظراً. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: سلامة الكندي هذا ليس بمعروف ولم يدرك علياً, كذا قال, وقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني هذا الأثر عن محمد بن علي الصائغ عن سعيد بن منصور: حدثنا نوح بن قيس عن سلامة الكندي قال: كان علي رضي الله عنه يعلمنا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم داحي المدحوات, وذكره.
(حديث آخر) موقوف قال ابن ماجه: حدثنا الحسين بن بيان حدثنا زياد بن عبد الله, حدثنا المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة, عن الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأحسنوا الصلاة عليه, فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه, قال: فقالوا له علمنا, قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين, وإمام المتقين,وخاتم النبيين, محمد عبدك ورسولك, إمام الخير وقائد الخير, ورسول الرحمة, اللهم ابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون, اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى أل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وهذا موقوف, وقد روى إسماعيل القاضي عن عبد الله بن عمرو أو عمر على الشك من الراوي قريباً من هذا.
(حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا أبو(3/614)
كريب, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا أبو إسرائيل عن يونس بن خباب قال: خطبنا بفارس فقال {{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فقال: أنبأني من سمع ابن عباس يقول: هكذا أنزل, فقلنا: أو قالوا يا رسول الله علمنا السلام عليك, فكيف الصلاة عليك ؟ قال: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وارحم محمداً وآل محمد, كما رحمت آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم, إنك حميد مجيد" فيستدل بهذا الحديث من ذهب إلى جواز الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم كما هو قول الجمهور, ويعضده حديث الأعرابي الذي قال: اللهم ارحمني ومحمداً, ولا ترحم معنا أحداً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حجرت واسعاً" وحكى القاضي عياض عن جمهور المالكية منعه, قال: وأجازه أبو محمد بن أبي زيد.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, أخبرنا شعبة عن عاصم بن عبيد الله قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى علي صلاة, لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي, فليقل عبد من ذلك أو ليكثر" ورواه ابن ماجه من حديث شعبة به.
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا بندار, حدثنا محمد بن خالد بن عشمة, حدثني موسى بن يعقوب الزمعي, حدثني عبد الله بن كيسان أن عبد الله بن شداد أخبره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" تفرد بروايته الترمذي رحمه الله, ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
(حديث آخر) قال إسماعيل القاضي: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن يعقوب بن زيد بن طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من ربي فقال لي: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشراً" فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله ألا أجعل نصف دعائي لك ؟ قال: "إن شئت". قال: ألا أجعل ثلثي دعائي لك ؟ قال: "إن شئت". قال: ألا أجعل دعائي لك كله. قال: "إذن يكفيك الله هم الدنيا وهم الآخرة" فقال شيخ كان بمكة يقال له منيع لسفيان عمن أسنده: لا أدري.
(حديث آخر) قال إسماعيل القاضي: حدثنا سعيد بن سلام العطار, حدثنا سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل فيقول: "جاءت الراجفة تتبعها الرادفة, جاء الموت بما فيه" فقال أبي: يا رسول الله إني أصلي من الليل, أفأجعل لك ثلث صلاتي ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشطر". قال: أفأجعل لك شطر صلاتي ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثلثان". قال: أفأجعل لك صلاتي كلها ؟ قال: "إِذن يغفر لك الله ذنبك كله".
وقد رواه الترمذي بنحوه, فقال: حدثنا هناد, حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا ذهب ثلثا الليل, قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا الله, اذكروا الله, جاءت الراجفة تتبعها الرادفة, جاء الموت بما فيه, جاء الموت بما فيه" قال أَبي: قلت يا رسول الله إِني أكثر الصلاة عليك, فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال: "ما شئت" قلت: الربع ؟ قال: "ما شئت, فإن زدت فهو خير لك" قلت: فالنصف ؟ قال: "ما شئت, فإن زدت فهو خير لك". قلت فالثلثين ؟ قال: "ما شئت, فإن زدت فهو خير لك" قلت: أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال : "إِذن تكفي همك, ويغفر لك ذنبك" ثم قال: هذا حديث حسن. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي عن أبيه قال: قال رجل: يا رسول الله أرأيت إِن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال: "إِذن(3/615)
يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ويونس هو ابن محمد, قالا: حدثنا ليث عن يزيد بن الهاد عن عمرو بن أبي عمر عن أبي الحويرث, عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاتبعته حتى دخل نخلاً, فسجد فأطال السجود حتى خفت أو خشيت أن يكون قد توفاه الله أو قبضه, قال فجئت أنظر فرفع رأسه فقال: "مالك يا عبد الرحمن ؟" قال فذكرت ذلك له فقال: "إن جبريل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه, ومن سلم عليك سلمت عليه".
(طريق آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا سليمان بن بلال, حدثنا عمرو بن أبي عمرو بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الرحمن بن عوف قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقته, فدخل فاستقبل القبلة, فخر ساجداً فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها, فدنوت منه ثم جلست, فرفع رأسه فقال: "من هذا ؟" قلت: عبد الرحمن. قال: "ما شأنك ؟" قلت: يا رسول الله سجدت سجدة خشيت أن يكون الله قبض روحك فيها, فقال: "إن جبريل أتاني فبشرني أن الله عز وجل يقول لك: من صلى عليك صليت عليه, ومن سلم عليك سلمت عليه, فسجدت لله عز وجل شكراً" ورواه إِسماعيل بن إِسحاق القاضي في كتابه عن يحيى بن عبد الحميد عن الدراوردي, عن عمرو بن عبد الواحد عن أبيه, عن عبد الرحمن بن عوف به, ورواه من وجه آخر عن عبد الرحمن.
(حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الرحيم بن بحير بن عبد الله بن معاوية بن بحير ريان, حدثنا يحيى بن أيوب , حدثني عبد الله بن عمر عن الحكم بن عتيبة عن إِبراهيم النخعي, عن الأسود بن يزيد عن عمرو بن الخطاب رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فلم يجد أحداً يتبعه, ففزع عمر فأتاه بمطهرة من خلفه, فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً في مشربة, فتنحى عنه من خلفه حتى رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه, فقال: "أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجداً فتنحيت عني, إن جبريل أتاني فقال: من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه عشر صلوات ورفعه عشر درجات" وقد اختار هذا الحديث الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج على الصحيحين, وقد رواه إسماعيل القاضي عن القعنبي عن سلمة بن وردان عن أنس عن عمر بنحوه ورواه أيضاً عن يعقوب بن حميد عن أنس بن عياض عن سلمة بن وردان, عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب بنحوه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت بن سليمان مولى الحسن بن علي, عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه, فقالوا: يا رسول الله إِنا لنرى السرور في وجهك, فقال: "إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً, ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً, قلت: بلى" ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة به, وقد رواه إسماعيل القاضي عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال, عن عبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة بنحوه.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا أبو معشر عن إسحاق بن كعب بن عجرة, عن أبي طلحة الأنصاري قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً طيب النفس يرى في وجهه البشر, قالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر, قال: "أجل أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة, كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات, ورفع له عشر درجات,(3/616)
ورد عليه مثلها" وهذا أيضاً إسناد جيد, ولم يخرجوه.
(حديث آخر) روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وعامر بن ربيعة وعمار وأبي طلحة وأنس وأبي بن كعب. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا شريك عن ليث عن كعب عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا علي, فإنها زكاة لكم وسلوا الله لي الوسيلة فإِنها درجة في أعلى الجنة, ولا ينالها إلا رجل, وأرجو أن أكون أنا هو" تفرد به أحمد. وقد رواه البزار من طريق مجاهد عن أبي هريرة بنحوه, فقال: حدثنا محمد بن إِسحاق البكالي, حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا داود بن علية عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا علي فإِنها زكاة لكم, وسلوا الله لي الدرجة الوسيلة من الجنة" فسألناه أو أخبرنا فقال: "هي درجة في أعلى الجنة, وهي لرجل, وأرجو أن أكون ذلك الرجل" في إِسناده بعض من تكلم فيه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إِسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن مريح الخولاني, سمعت أبا قيس مولى عمرو بن العاص, سمعت عبد الله بن عمرو يقول: من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة, فليقل عبد من ذلك أو ليكثر, وسمعت عبد الله بن عمرو يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال: "أنا محمد النبي الأمي - قاله ثلاث مرات - ولا نبي بعدي, أوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه, وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش وتجوز بي, عوفيت وعوفيت أمتي, فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم, فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله, أحلوا حلاله وحرموا حرامه".
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو سلمة الخراساني, حدثنا أبو إسحاق عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذكرت عنده فليصل علي, ومن صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشراً" ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي داود الطيالسي عن أبي سلمة وهو المغيرة بن مسلم الخراساني, عن أبي إِسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي عن أنس به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا يونس بن عمرو يعني يونس بن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات, وحط عنه عشر خطيئات".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو وأبو سعيد, قالا حدثنا سليمان بن بلال عن عمارة بن غزية عن عبد الله بن علي بن الحسين, عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البخيل من ذكرت عنده ثم لم يُصلّ علي" وقال أبو سعيد: "فلم يصل علي" ورواه الترمذي من حديث سليمان بن بلال, ثم قال: هذا حديث حسن غريب صحيح, ومن الرواة من جعله من مسند الحسين بن علي, ومنهم من جعله من مسند علي نفسه.
(حديث آخر) قال إسماعيل القاضي: حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد بن سلمة عن معبد بن بلال العنزي, حدثنا رجل من أهل دمشق عن عوف بن مالك عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي".
(حديث آخر) مرسل. قال إِسماعيل: وحدثنا سليمان بن حرب, حدثنا جرير بن حازم, سمعت الحسن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرىء من البخل أن أذكر عنده فلا يصلي علي".
(حديث آخر) قال الترمذي: حدثنا أحمد بن إِبراهيم الدورقي, حدثنا ربعي بن إِبراهيم عن عبد الرحمن(3/617)
بن إِسحاق, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي, ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له, ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة " ثم قال: حسن غريب.
قلت: وقد رواه البخاري في الأدب عن محمد بن عبيد الله: حدثنا ابن أبي حازم عن كثير بن زيد, عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه, ورويناه من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. قال الترمذي: وفي الباب عن جابر وأنس. قلت: وابن عباس وكعب بن عجرة, وقد ذكرت طرق هذا الحديث في أول كتاب الصيام عند قوله: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر, وهو مذهب طائفة من العلماء منهم الطحاوي والحليمي, ويتقوى بالحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه: حدثنا جبارة بن المغلس, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة" جبارة ضعيف, ولكن رواه إسماعيل القاضي من غير وجه عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال: قال رسول الله "من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة" وهذا مرسل يتقوى بالذي قبله, والله علم.
وذهب آخرون إِلى أنه تجب الصلاة عليه في المجلس مرة واحدة, ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس, بل تستحب, نقله الترمذي عن بعضهم, ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه, ولم يصلوا على نبيهم إِلا كان عليهم ترة يوم القيامة, فإن شاء عذبهم وإِن شاء غفر لهم" تفرد به الترمذي من هذا الوجه, ورواه الإمام أحمد عن حجاج ويزيد بن هارون كلاهما عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة مرفوعاً مثله, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. وقد رواه إسماعيل القاضي من حديث شعبة عن سليمان عن ذكوان عن أبي سعيد قال: "ما من قوم يقعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم يوم القيامة حسرة وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب". وحكي عن بعضهم أنه إنما تجب الصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - في العمر مرة واحدة امتثالاً لأمر الآية. ثم هي مستحبة في كل حال, وهذا هو الذي نصره القاضي عياض بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الجملة. قال وقد حكى الطبراني أن محمل الآية على الندب وادعى فيه الإجماع قال ولعله فيما زاد على المرة والواجب فيه مرة كالشهادة له بالنبوة, وما زاد على ذلك فمندوب ومرغب فيه من سنن الإسلام وشعار أهله.
(قلت) وهذا قول غريب, فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة, فمنها واجب ومنها مستحب على ما نبينه.
فمنه بعد النداء للصلاة للحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا حيوة, حدثنا كعب بن علقمة أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يقول: إنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم مؤذناً فقولوا مثلما يقول, ثم صلوا علي فإنه من صلى عليّ صلى الله عليه بها عشراً, ثم سلوا الله لي الوسيلة, فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إِلا لعبد من عباد الله, وأرجو أن أكون أنا هو, فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة" وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث كعب بن علقمة.
(طريق أخرى) قال إِسماعيل القاضي: حدثنا محمد بن أبي بكر, حدثنا عمرو بن علي بن أبي بكر الجشمي عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله(3/618)
صلى الله عليه وسلم: "من سأل الله لي الوسيلة حقت عليه شفاعتي يوم القيامة".
(حديث آخر) قال إسماعيل القاضي, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا سعيد بن زيد عن ليث عن كعب الأحبار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا علي فإِن صلاتكم علي زكاة لكم, وسلوا الله لي الوسيلة" قال: فإما حدثنا وإِما سألناه, قال: "الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل, وأرجو أن أكون أنا ذلك الرجل" ثم رواه عن محمد بن أبي بكر عن معتمر عن ليث وهو ابن أبي سليم به, وكذا الحديث الآخر. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم عن وفاء الحضرمي عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى على محمد وقال اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي" وهذا إسناد لا بأس به ولم يخرجوه.
(أثر آخر) - قال إِسماعيل القاضي: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان, حدثني معمر عن ابن طاوس عن أبيه, سمعت ابن عباس يقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى وارفع درجته العليا, وأعطه سؤله في الآخرة والأولى, كما آتيت إبراهيم وموسى عليهما السلام. إِسناد جيد قوي صحيح.
ومن ذلك عند دخول المسجد والخروج منه للحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عن جدته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم, ثم قال: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك, وإذا خرج صلى على محمد وسلم, ثم قال"اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك".
وقال إِسماعيل القاضي: حدثنا يحيى بن عبد الحميد, حدثنا سفيان بن عمر التميمي عن سليمان الضبي عن علي بن الحسين قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة, فقد قدمنا الكلام عليها في التشهد الأخير ومن ذهب إِلى ذلك من العلماء, منهم الشافعي رحمه الله وأكرمه, وأحمد, وأما التشهد الأول فلا يجب فيه قولاً واحداً وهل تستحب ؟ على قولين للشافعي, ومن ذلك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة, فإِن السنة أن يقرأ في التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب, وفي الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, وفي الثالثة يدعو للميت, وفي الرابعة يقول اللهم لا تحرمنا أجره, ولا تفتنا بعده.
قال الشافعي رحمه الله: حدثنا مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام, ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه, ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, ويخلص الدعاء للجنازة , وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها, ثم يسلم سراً في نفسه. ورواه النسائي عن أبي أمامة نفسه أنه قال من السنة, فذكره, وهذا من الصحابي في حكم المرفوع على الصحيح. ورواه إسماعيل القاضي عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن المسيب أنه قال: السنة في الصلاة على الجنازة, فذكره.
وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عمر والشعبي, ومن ذلك في صلاة العيد قال إِسماعيل القاضي: حدثنا مسلم بن إِبراهيم, حدثنا هشام الدستوائي, حدثنا حماد بن أبي سليمان عن إِبراهيم عن علقمة أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة, خرج عليهم الوليد بن عقبة يوماً قبل العيد فقال لهم: إِن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه ؟ قال عبد الله: تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة وتحمد ربك, وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر(3/619)
وتفعل مثل ذلك, ثم تكبر وتفعل مثل ذلك, ثم تكبر وتفعل مثل ذلك, ثم تقرأ ثم تكبر وتركع, ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تركع, فقال حذيفة وأبو موسى: صدق أبو عبد الرحمن, إِسناد صحيح.
ومن ذلك أنه يستحب ختم الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قال الترمذي: حدثنا أبو داود, حدثنا النضر بن شميل عن أبي قرة الأسدي عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك. وكذا رواه أيوب بن موسى عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب. ورواه معاذ بن الحارث عن أبي قرة عن سعيد بن المسيب عن عمر مرفوعاً, وكذا رواه رزين بن معاوية في كتابه مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى علي, فلا تجعلوني كغمر الراكب, صلوا علي أول الدعاء وآخره وأوسطه" وهذه الزيادة إنما تروى من رواية جابر بن عبد الله في مسند الإمام عبد بن حميد الكشي حيث قال: حدثنا جعفر بن عون, أخبرنا موسى بن عبيدة عن إِبراهيم بن محمد بن إِبراهيم عن أبيه قال: قال جابر: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوني كقدح الراكب إذا علق تعاليقه أخذ قدحه فملأه من الماء, فإذا كان له حاجة في الوضوء توضأ, وإِن كان له حاجة في الشرب شرب وإِلا أهرق ما فيه, اجعلوني في أول الدعاء وفي وسط الدعاء وفي آخر الدعاء" وهذا حديث غريب, وموسى بن عبيدة ضعيف الحديث.
ومن آكد ذلك دعاء القنوت لما رواه أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث أبي الجوزاء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت, وعافني فيمن عافيت, وتولني فيمن توليت, وبارك لي فيما أعطيت, وقني شر ما قضيت, فإنك تقضي ولا يقضى عليك, وإِنه لا يذل من واليت, ولا يعز من عاديت, تباركت ربنا وتعاليت", وزاد النسائي في سننه بعد هذا وصلى الله على محمد.
ومن ذلك أنه يستحب الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة وليلة الجمعة. قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة, فيه خلق آدم وفيه قبض, وفيه النفخة, وفيه الصعقة, فأكثروا علي من الصلاة فيه, فإِن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله, وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت ؟ يعني وقد بليت, قال: "إِن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث حسين بن علي الجعفي, وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والنووي في الأذكار.
(حديث آخر) قال أبو عبد الله بن ماجه: حدثنا عمرو بن سواد المصري, حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال, عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي, عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة, فإنه مشهود تشهده الملائكة, وإِن أَحداً لا يصلي علي فيه إِلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها " قال: قلت وبعد الموت ؟ "قال إِن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق" هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع بين عبادة بن نسي وأبي الدرداء فإنه لم يدركه, والله أعلم.
وقد روى البيهقي من حديث أبي أمامة وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة, ولكن في إِسنادهما ضعف, والله أعلم. وروي مرسلاً عن الحسن البصري يقول: قال إِسماعيل القاضي: حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا جرير بن حازم, سمعت الحسن البصري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تأكل الأرض جسد من كلمه روح القدس" مرسل حسن, وقال القاضي(3/620)
وقال الشافعي: أخبرنا إِبراهيم بن محمد, أخبرنا صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة, فأكثروا الصلاة علي" هذا مرسل, وهكذا يجب على الخطيب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر في الخطبتين, ولا تصح الخطبتان إلا بذلك لأنها عبادة, وذكر الله شرط فيها فوجب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالأذان والصلاة, هذا مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله.
ومن ذلك أنه يستحب الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود: حدثنا ابن عوف هو محمد حدثنا المقري, حدثنا حيوة عن أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد يسلم علي إِلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" تفرد به أبو داود وصححه النووي في الأذكار: ثم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع, أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً, وصلوا علي, فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" تفرد به أبو داود أيضاً. وقد رواه الإمام أحمد عن سريج عن عبد الله بن نافع وهو الصائغ به, وصححه النووي أيضاً.
وقد روي من وجه آخر متصلاً قال القاضي إِسماعيل بن إِسحاق في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثنا جعفر بن إِبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عمن أخبره من أهل بيته, عن علي بن الحسين بن علي أن رجلاً كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما اشتهر عليه علي بن الحسين, فقال له علي بن الحسين: ما يحملك على هذا ؟ قال: أحب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له علي بن الحسين: هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي ؟ قال: نعم: قال له علي بن الحسين: أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً, ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم, فتبلغني صلاتكم وسلامكم" في إسناده رجل مبهم لم يسم, وقد روي من وجه آخر مرسلاً قال عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل, عن الحسن بن الحسن بن علي قال: رأى قوماً عند القبر فنهاهم وقال: إِن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً, ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً, وصلوا علي حيثما كنتم, فإن صلاتكم تبلغني" فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة فنهاهم. وقد روي أنه رأى رجلاً ينتاب القبر فقال: يا هذا ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء, أي الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
وقال الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن رشدين المصري, حدثنا سعيد بن أبي مريم, حدثنا محمد بن جعفر, أخبرني حميد بن أبي زينب عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا علي حيثما كنتم, فإن صلاتكم تبلغني" ثم قال الطبراني: حدثنا العباس بن حمدان الأصبهاني, حدثنا شعيب بن عبد الحميد الطحان, أخبرنا يزيد بن هارون بن أبي شيبان عن الحكم بن عبد الله بن خطاب عن أم أنيس بنت الحسن بن علي عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت قول الله عز وجل { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} - فقال -: "إن هذا من المكتوم, ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم, إِن الله عز وجل وكل بي ملكين لا أذكر عند عبد مسلم فيصلي علي إِلا قال ذانك الملكان غفر الله لك, وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين: آمين, ولا يصلي علي أحد إِلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك, ويقول الله وملائكته جواباً لذينك الملكين: آمين" غريب جداً, وإِسناده به ضعف شديد.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن السائب, عن زاذان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام" وهكذا رواه النسائي من حديث(3/621)
سفيان الثوري وسليمان بن مهران الأعمش كلاهما عن عبد الله بن السائب به. فأما الحديث الآخر "من صلى علي عند قبري سمعته, ومن صلى علي من بعيد بلغته" ففي إِسناده نظر تفرد به محمد بن مروان السدي الصغير وهو متروك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً. قال أصحابنا: ويستحب للمحرم إِذا لبى وفرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه الشافعي والدارقطني من رواية صالح بن محمد بن زائدة عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: كان يؤمر الرجل إِذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال, وقال إسماعيل القاضي: حدثنا عارم بن الفضل حدثنا عبد الله بن المبارك, حدثنا زكريا عن الشعبي عن وهب بن الأجدع قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إِذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعاً وصلوا عند المقام ركعتين, ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت فكبروا سبع مرات تكبيراً بين حمد الله وثناء عليه وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة لنفسك, وعلى المروة مثل ذلك, إسناد جيد حسن قوي, قالوا: ويستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر الله عند الذبح, واستأنسوا بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال بعض المفسرين: يقول الله تعالى: لا أذكر إلا ذكرت معي, وخالفهم في ذلك الجمهور وقالوا: هذا موطن يفرد فيه ذكر الله تعالى كما عند الأكل والدخول والوقاع وغير ذلك مما لم ترد فيه السنة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
(حديث آخر) قال إِسماعيل القاضي: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا عمرو بن هارون عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني", في إسناده ضعيفان, وهما عمرو بن هارون وشيخه, والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عبيدة الربذي به, ومن ذلك أنه يستحب الصلاة عليه عند طنين الأذن إِن صح الخبر في ذلك على أن الإمام أبا بكر محمد بن إِسحاق بن خزيمة قد رواه في صحيحه فقال: حدثنا زياد بن يحيى, حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله عن علي بن أبي رافع عن أبيه عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي وليقل ذكر الله من ذكرني بخير", إِسناده غريب, وفي ثبوته نظر, والله علم.
(مسألة) وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما كتبه, وقد ورد في الحديث من طريق كادح بن رحمة عن نهشل عن الضحاك, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب" وليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة وقد روي من حديث أبي هريرة ولا يصح أيضاً, قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي شيخنا أحسبه موضوعاً, وقد روي نحوه عن أبي بكر وابن عباس ولا يصح من ذلك شيء والله أعلم. وقد ذكر الخطيب البغدادي في كتابه (الجامع لآداب الراوي والسامع) قال: رأيت بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كثيراً ما يكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة قال: وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظاً.
(فصل) وأما الصلاة على غير الأنبياء فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث اللهم صل على محمد وآله وأزواجه وذريته, فهذا جائز بالإجماع وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم فقال قائلون: يجوز ذلك, واحتجوا بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} , وبقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}, وبقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ(3/622)
وَتُزَكِّيهِمْ} الآية, وبحديث عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صل عليهم" فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى" أخرجاه في الصحيحين, وبحديث جابر أن امرأته قالت يا رسول الله صل علي وعلى زوجي, فقال "صلى الله عليك وعلى زوجك" قال الجمهور من العلماء لا يجوز إِفراد غير الأنبياء بالصلاة لأن هذا قد صار شعاراً للأنبياء إذ ذكروا, فلا يلحق بهم غيرهم فلا يقال: قال أبو بكر صلى الله عليه أو قال علي صلى الله عليه, وإِن كان المعنى صحيحاً, كما لا يقال: قال محمد عز وجل, وإِن كان عزيزاً جليلاً لأن هذا من شعار ذكر الله عز وجل وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء لهم, ولهذا لم يثبت شعاراً لأل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته, وهذا مسلك حسن.
وقال آخرون: لا يجوز ذلك لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء, يصلون على من يعتقدون فيهم, فلا يقتدى بهم في ذلك والله أعلم, ثم اختلف المانعون من ذلك: هل هو من باب التحريم أو الكراهة التنزيهية أو خلاف الأولى ؟ على ثلاثة أقوال, حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في كتاب الأذكار. ثم قال: والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع وقد نهينا عن شعارهم, والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال أصحابنا والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء, كما أن قولنا عز وجل مخصوص بالله تعالى فكما لا يقال محمد عز وجل وإِن كان عزيزاً جليلاً لا يقال أبو بكر أو علي صلى الله عليه, هذا لفظ بحروفه, قال: وأما السلام ؟ فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء فلا يقال علي عليه السلام وسواء في هذا الأحياء والأموات, وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: سلام عليك, وسلام عليكم أو السلام عليك أو عليكم, وهذا مجمع عليه انتهى ما ذكره
(قلت) وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن ينفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهه, وهذا وإِن كان معناه صحيحاً, لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإِن هذا من باب التعظيم والتكريم, فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين.
قال إِسماعيل القاضي حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب بن زياد حدثني عثمان بن حكيم بن عبادة بن حنيف عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا تصح الصلاة على أحد إِلا على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة, وقال أيضاً حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن جعفر بن برقان قال كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أما بعد فإِن ناساً من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة, وإِن ناساً من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإِذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك. أثر حسن.
قال إِسماعيل القاضي حدثنا معاذ بن أسد حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا ابن لهيعة حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب أن كعباً دخل على عائشة رضي الله عنها فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كعب: ما من فجر يطلع إِلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون ألفاً بالليل وسبعون ألفاً بالنهار حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفاً من الملائكة يزفونه.
(فرع) قال النووي إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول: صلى الله عليه فقط ولا عليه السلام فقط, وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلم تسليماً.(3/623)
{إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالآخرة وَأَعَدّ لَهُمْ عَذَاباً مّهِيناً وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً}
يقول تعالى متهدداً ومتوعداً من آذاه بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإِصراره على ذلك وإِيذاء رسوله بعيب أو بنقص - عياذاً بالله من ذلك - قال عكرمة في قوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} نزلت في المصورين. وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم, يسب الدهر وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره" ومعنى هذا أن الجاهلية كانوا يقولون يا خيبة الدهر فعل بنا كذا وكذا فيسندون أفعال الله وتعالى إلى الدهر ويسبونه وإنما الفاعل لذلك هو الله عز وجل فنهى عن ذلك. هكذا قرره الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء رحمهم الله.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب. والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء ومن آذاه فقد آذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله كما قال الإمام أحمد حدثنا يونس حدثنا إبراهيم بن سعد عن عبيدة بن أبي رائطة الحذاء التميمي عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن المغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم, ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم, ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله, ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " وقد رواه الترمذي من حديث عبيدة بن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن المغفل به, ثم قال وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم, ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم فإن الله عز وجل قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً فهم في الحقيقة منكسو القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين.
وقال أبو داود حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" وهكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به ثم قال حسن صحيح, وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن هشام عن عمار بن أنس عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "أي الربا أربى عند الله ؟" قالوا الله ورسوله أعلم قال: "أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىء مسلم" ثم قرأ {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}.
{يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ(3/624)
فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً لّئِن لّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنّكَ بِهِمْ ثُمّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاّ قَلِيلاً مّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوَاْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً}
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء, والجلباب هو الرداء فوق الخمار, قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد وهو بمنزلة الإزار اليوم. قال الجوهري: الجلباب الملحفة, قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلاً لها:
تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة, وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى وقال عكرمة تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الطهراني فيما كتب إليّ حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن خيثم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثنا يونس بن يزيد قال وسألناه يعني الزهري هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال عليها الخمار إن كانت متزوجة وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}, وروي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة وإنما نهى عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن واستدل بقوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر, لسن بإماء ولا عواهر. قال السدي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} قال كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلظ الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن, فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها, وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها, وقال مجاهد يتجلببن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة.
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك, ثم قال تعالى متوعداً للمنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال عكرمة وغيره هم الزناة ههنا {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} يعني الذين يقولون جاء الأعداء وجاءت الحروب وهو كذب وافتراء لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي لنسلطنك عليهم. وقال(3/625)
قتادة لنحرشنك بهم, وقال السدي لنعلمنك بهم {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا} أي في المدينة {إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ} حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} أي وجدوا {أُخِذُوا} لذلتهم وقلتهم {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} ثم قال تعالى: { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير.
{يَسْأَلُكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً إِنّ اللّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يَوْمَ تُقَلّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يَلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللّهَ وَأَطَعْنَا الرّسُولاَ وَقَالُواْ رَبّنَآ إِنّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلّونَا السّبِيلاْ رَبّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}
يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة وإن سأله الناس عن ذلك, وأرشده أن يرد علمها إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى في سورة الأعراف وهي مكية وهذه مدنية فاستمر الحال في رد علمها إلى الذي يقيمها لكن أخبره أنها قريبة بقوله: {وما وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} كما قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} أي أبعدهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} أي في الدار الآخرة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أي ماكثين مستمرين فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها {لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} أي وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه ثم قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} أي يسحبون في النار على وجوههم وتلوى وجوههم على جهنم يقولون وهم كذلك يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} وقال تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} وقال طاوس, سادتنا يعني الأشراف وكبراءنا يعني العلماء, رواه ابن أبي حاتم أي اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئاً وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} أي بكفرهم وإغوائهم إيانا {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} قرأ بعض القراء بالباء الموحدة, وقرأ آخرون بالثاء المثلثة وهما قريبا المعنى كما في حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً, ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" أخرجاه في الصحيحين, يروى كثيراً وكبيراً وكلاهما بمعنى صحيح واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه وفي ذلك نظر, بل الأولى أن يقول هذا تارة وهذا تارة كما أن القارىء مخير بين القراءتين أيهما قرأ فَحَسَن وليس له الجمع بينهما, والله أعلم.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة,(3/626)
حدثنا ضرار بن صرد, حدثنا علي بن هاشم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه في تسمية من شهد مع علي رضي الله عنه الحجاج بن عمرو بن غزية وهو الذي كان يقول عند اللقاء يا معشر الأنصار أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىَ فَبرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللّهِ وَجِيهاً}
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى كان رجلاً حيياً وذلك قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} هكذا أورد هذا الحديث ههنا مختصراً جداً وقد رواه في أحاديث الأنبياء بهذا السند بعينه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده إما برص وإما أدرة وإما آفة. وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام فخلا يوماً وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فو الله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً - قال - فذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} وهذا سياق حسن مطول وهذا الحديث من إفراد البخاري دون مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا عوف عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخلاس ومحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} قال: قال رسول الله: "إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه." ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولاً ورواه عنه في تفسيره عن روح عن عوف به. ورواه ابن جرير من حديث الثوري عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا. وهكذا رواه من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير وعبد الله بن الحارث عن ابن عباس في قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قال: قال قومه له إنك آدر فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على صخرة فخرجت الصخرة تشد بثيابه وخرج يتبعها عرياناً حتى انتهب به مجالس بني إسرائيل فرأوه ليس بآدر فذلك قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما سواء.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الاَدمي قالا: حدثنا يحيى بن حماد, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "كان موسى عليه السلام رجلاً حيياً وإنه أتى - أحسبه قال الماء - ليغتسل فوضع ثيابه على صخرة وكان لا يكاد تبدو عورته فقال بنو إسرائيل إن موسى آدر أو به آفة - يعنون أنه لا يضع ثيابه - فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل, فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال - أو كما قال - فذلك قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا(3/627)
وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون عليه السلام فقال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته كان ألين لنا منك وأشد حياء فآذوه من ذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجالس بني إسرائيل فتكلمت بموته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وإن الله جعله أصم أبكم وهكذا رواه ابن جرير عن علي بن موسى الطوسي عن عباد بن العوام به ثم قال وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى وجائز أن يكون الأول هو المراد فلا قول أولى من قول الله عز وجل
(قلت) يحتمل أن يكون الكل مراداً وأن يكون معه غيره, والله أعلم.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله قال: فقلت ياعدو الله أما لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه ثم قال: "رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش به.
(طريق أخرى) - قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, سمعت إسرائيل بن يونس عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني عن زيد بن زائدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه, قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة, قال: فتثبت حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنك قلت لنا: "لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئاً" وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا, فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ثم قال: "دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر".
وقد رواه أبو داود في الأدب عن محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل عن الوليد بن أبي هشام به مختصراً "لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" وكذا رواه الترمذي في المناقب عن الذهلي سواء إلا أنه قال زيد بن زائدة, ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن محمد عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل عن السدي عن الوليد بن أبي هشام به مختصراً أيضاً فزاد في إسناده السدي, ثم قال غريب من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} أي له وجاهة وجاه عند ربه عز وجل. قال الحسن البصري كان مستجاب الدعوة عند الله, وقال غيره من السلف لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه, ولكن منع الرؤية لما يشاء عز وجل. وقال بعضهم من وجاهته العظيمة عند الله أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه فأجاب الله سؤاله فقال {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه وأن يقولوا {قَوْلاً سَدِيداً} أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة وأن يغفر لهم الذنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها ثم(3/628)
قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وذلك أنه يجار من نار الجحيم ويصير إلى النعيم المقيم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن عوف, حدثنا خالد عن ليث عن أبي بردة, عن أبي موسى الأشعري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر, فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا فقال: "إن الله تعالى أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وتقولوا قولاً سديداً" ثم أتى النساء فقال: "إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله وتقلن قولاً سديداً".
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى حدثنا محمد بن عباد بن موسى, حدثنا عبد العزيز بن عمران الزهري حدثنا عيسى بن سمرة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر إلا سمعته يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} الآية, غريب جداً, وروى من حديث عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن محمد بن كعب عن ابن عباس موقوفاً: من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله, قال عكرمة القول السديد لا إله إلا الله وقال غيره السديد الصدق وقال مجاهد, هو السداد. وقال غيره: هو الصواب والكل حق.
{إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً}
قال العوفي عن ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال: يا رب وما فيها ؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله تعالى, {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الأمانة الفرائض, عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك, وأشفقوا عليه من غير معصية, ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} يعني غراً بأمر الله.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} قال: عرضت على آدم, فقال: خذها بما فيها, فإن أطعت غفرت لك, وإن عصيت عذبتك, قال: قبلت فما كان إلا مقدار ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة, وقد روى الضحاك عن ابن عباس قريباً من هذا, وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه, والله أعلم. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض, وقال آخرون: هي الطاعة, وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها. وقال قتادة: الأمانة الدين والفرائض والحدود, وقال بعضهم الغسل من الجنابة, وقال مالك عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها بل متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها وهو أنه إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقب فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفق الله وبالله المستعان.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد العزيز بن المغيرة البصري, حدثنا حماد بن واقد, يعني أبا عمر(3/629)
الصفار سمعت أبا معمر يعني عون بن معمر يحدث عن الحسن, يعني البصري أنه تلا هذه الآية {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} قال عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم, وحملة العرش العظيم, فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال: قيل لها إن أحسنت جزيت, وإن أسأت عوقبت قالت: لا ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد, التي شدت بالأوتاد, وذللت بالمهاد, قال: فقيل لها هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال: قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت, قالت: لا ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب, قال قيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال لها: إن أحسنت جزيت, وإن أسأت عوقبت قالت: لا.
وقال مقاتل بن حيان إن الله تعالى حين خلق خلقه جمع بين الإنس والجن والسموات والأرض والجبال فبدأ بالسموات فعرض عليهن الأمانة, وهي الطاعة, فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة, ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة ؟ فقلن: يا رب إنا لا نستطيع هذا الأمر وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون, ثم عرض الأمانة على الأرضين فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني, وأعطيكن الفضل والكرامة في الدنيا ؟ فقلن: لا صبر لنا على هذا يا رب, ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شيء أمرتنا به. ثم قرب آدم فقال له: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها ؟ فقال عند ذلك آدم: مالي عندك ؟ قال: يا آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة, فلك عندي الكرامة والفضل, وحسن الثواب في الجنة, وإن عصيت, ولم ترعها حق رعاتها, وأسأت فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار, قال: رضيت يا رب, وأتحملها, فقال الله عز وجل عند ذلك قد حملتكها فذلك قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} رواه ابن أبي حاتم. وعن مجاهد أنه قال: عرضها على السموات فقالت: يا رب حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر وما أريد ثواباً ولا أحمل فريضة. قال: وعرضها على الأرض فقالت: يا رب غرست في الأشجار وأجريت في الأنهار وسكان الأرض وما ذكر وما أريد ثواباً ولا أحمل فريضة, وقالت الجبال مثل ذلك قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} في عاقبة أمره, وهكذا قال ابن جريج. وعن ابن أشوع أنه قال: لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ضججن إلى الله ثلاثة أيام ولياليهن, وقلن: ربنا لا طاقة لنا بالعمل ولا نريد الثواب.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي, حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في هذه الآية {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية, قال الإنسان بين أذني وعاتقي, فقال الله عز وجل: إني معينك عليها, إني معينك على عينيك بطبقتين, فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق, ومعينك على لسانك بطبقتين, فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق, ومعينك على فرجك بلباس فلا تكشفه إلى ما أكره. ثم روي عن أبي حازم نحو هذا. وقال ابن جرير: حدثنا يونس, حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} الآية, قال: إن الله تعالى عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ويجعل لهن ثواباً وعقاباً, ويستأمنهن على الدين, فقلن لا, نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً, قال: وعرض الله تبارك وتعالى على آدم فقال: بين أذني وعاتقي, قال ابن زيد: قال الله تعالى له: أما إذا تحملت هذا فسأعينك, أجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك, فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك باباً وغلقاً, فإذا خشيت فأغلق, وأجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.
وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السكوني, حدثنا بقية, حدثنا عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير رضي الله عنه, وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأمانة والوفاء(3/630)
نزلا على ابن آدم مع الأنبياء فأرسلوا به, فمنهم رسول الله, ومنهم نبي , ومنهم نبي رسول, ونزل القرآن وهو كلام الله, وأنزلت العجمية والعربية, فعلموا أمر القرآن, وعلموا أمر السنن بألسنتهم, ولم يدع الله تعالى شيئاً من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينه لهم, فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح, ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس, ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب, فعالم يعمل وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها, حتى وصل إليّ وإلى أمتي, ولا يهلك على الله إلا هالك, ولا يغفله إلا تارك, فالحذر أيها الناس, وإياكم والوسواس الخناس, فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملاً" هذا حديث غريب جداً, وله شواهد من وجوه أخرى.
ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف العسقلاني, حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي, حدثنا أبو العوام القطان, حدثنا قتادة وأبان بن أبي عياش عن خليد العصري, عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن, وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - وكان يقول - وأيم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن وأدى الأمانة". قالوا: يا أبا الدرداء وما أداء الأمانة ؟ قال رضي الله عنه: الغسل من الجنابة, فإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره, وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري, عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي, عن أبي العوام عمران بن داود القطان به.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا تميم بن المنتصر, أخبرنا إسحاق عن شريك عن الأعمش, عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها - أو قال - يكفر كل شيء إلا الأمانة, يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول: اذهبوا به إلى أمه الهاوية, فيذهب به إلى الهاوية, فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها, فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم, حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين" قال: والأمانة في الصلاة, والأمانة في الصوم والأمانة في الوضوء, والأمانة في الحديث, وأشد ذلك الودائع, فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال: صدق.
وقال شريك: وحدثنا عياش العامري عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ولم يذكر الأمانة في الصلاة وفي كل شيء, إسناده جيد, ولم يخرجوه. ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد. حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر, حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال, ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه, فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك, تراه منتبراً وليس فيه شيء - قال: ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله قال - فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً, حتى يقال للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان, ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلماً ليردنه علي دينه, وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه علي ساعيه, فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً(3/631)
وفلاناً. وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا. حفظ أمانة, وصدق حديث, وحسن خليقة, وعفة طعمة" هكذا رواه الإمام أحمد في مسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما, وقد قال الطبراني في مسنده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما, حدثنا يحيى بن أيوب العلاف المصري, حدثنا سعيد بن أبي مريم, حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن ابن حجيرة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة, وصدق حديث, وحسن خليقة, وعفة طعمة" فزاد في الإسناد ابن حجيرة وجعله في مسند ابن عمر رضي الله عنهما.
وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة, قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: حدثنا شريك عن أبي إسحاق الشيباني عن خناس بن سحيم أو قال: جبلة بن سحيم, قال: أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي لا والأمانة, فجعل زياد يبكي ويبكي فظننت أني أتيت أمراً عظيماً, فقلت له: أكان يكره هذا ؟ قال: نعم, كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي, وقد ورد في ذلك حديث مرفوع قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس, حدثنا زهير, حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالأمانة فليس منا" تفرد به أبو داود رحمه الله.
وقوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي إنما حمل بني آدم الأمانة وهي التكاليف, ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات, وهم الذين يظهرون الإيمان خوفاً من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله {يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.(3/632)
سورة سبأ
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الْحَمْدُ للّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرّحِيمُ الْغَفُورُ}
يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة, لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة, المالك لجميع ذلك, الحاكم في جميع ذلك, كما قال تعالى: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} ولهذا قال تعالى ههنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره, كما قال تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}, ثم قال عز وجل: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} فهو المعبود أبداً, المحمود على طول المدى.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ} أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره {الْخَبِيرُ} الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شيء, وقال مالك عن الزهري: خبير بخلقه, حكيم بأمره, ولهذا قال عز وجل: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض, والحب المبذور, والكامن فيها, ويعلم ما يخرج من ذلك عدده وكيفيته وصفاته {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} أي من قطر ورزق, وما يعرج فيها, أي من الأعمال الصالحة وغير ذلك, {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أي الرحيم بعباده, فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة, الغفور عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ لّيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أولئك لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالّذِينَ سَعَوْا فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ وَيَرَى الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ هُوَ الْحَقّ وَيَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}
هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن مما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقع: المعاد, لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد, فإحداهن في سورة يونس عليه السلام, وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} والثانية هذه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}, والثالثة في سورة التغابن, وهي قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ(3/633)
يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فقال تعالى: {بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره, فقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال مجاهد وقتادة: لا يعزب عنه لا يغيب عنه, أي الجميع مندرج تحت علمه, فلا يخفى عليه شيء, فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت, فهو عالم أين ذهبت , أين تفرقت, ثم يعيدها كما بدأها أول مرة, فإنه بكل شيء عليم. ثم بين حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة, بقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي سعوا في الصد عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله , {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} أي لينعم السعداء من المؤمنين ويعذب الأشقياء من الكافرين, كما قال عز وجل: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}.
وقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها, وهي أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا, رأوه حينئذ عين اليقين, ويقولون يؤمئذ أيضاً {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} يقال أيضاً {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} العزيز هو المنيع الجناب الذي لا يغالب ولا يمانع, بل قد قهر كل شيء وغلبه, الحميد, في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره, وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا.
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنّةٌ بَلِ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرة فِي الْعَذَابِ وَالضّلاَلِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِن نّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لّكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ}
هذا إخبار من الله عز وجل عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة, واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق {إِنَّكُمْ} أي بعد هذا الحال {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك, وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين: إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله تعالى أنه قد أوحي إليه ذلك, أو أنه لم يتعمد, لكن لبس عليه كما يلبس على المعتوه والمجنون, ولهذا قالوا: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} قال الله عز وجل راداً عليهم {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} أي ليس الأمر كما زعموا, ولا كما ذهبوا إليه, بل محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق البار الراشد, الذي جاء بالحق, وهم الكذبة الجهلة الأغبياء {فِي الْعَذَابِ} أي: الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى {وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} من الحق في الدنيا, ثم قال تعالى منبهاً لهم على قدرته في خلق السموات والأرض, فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أي حيثما توجهوا وذهبوا, فالسماء مطلة عليهم, والأرض تحتهم, كما قال عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}.
قال عبد بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء(3/634)
والأرض} قال: إنك إن نظرت عن يمينك, أو عن شمالك, أو من بين يديك, أو من خلفك, رأيت السماء والأرض. وقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} أي لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وقدرتنا عليهم, ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا, ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} قال معمر عن قتادة: {مُنِيبٍ} تائب. وقال سفيان عن قتادة: المنيب المقبل إلى الله تعالى, أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجاع إلى الله, على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد, لأن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها, وهذه الأرضين في انخفاضها, وأطوالها وأعراضها, إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام, كما قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} وقال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنّا فَضْلاً يَجِبَالُ أَوّبِي مَعَهُ وَالطّيْرَ وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِي السّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مما آتاه من الفضل المبين, وجمع له بين النبوة والملك المتمكن, والجنود ذوي العدد والعدد, وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم, الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات, الصم الشامخات, وتقف له الطيور السارحات, والغاديات, والرائحات, وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل, فوقف فاستمع لقراءته, ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود" وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه, ومعنى قوله تعالى: {أَوِّبِي} أي سبحي, قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد, وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سبحي بلسان الحبشة, وفي هذا نظر, فإن التأويب في اللغة هو الترجيع, فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.
وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه - الجمل - في باب النداء منه {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي سيري معه بالنهار كله, والتأويب سير النهار كله, والإسآد سير الليل كله, وهذا لفظه, وهو غريب جداً لم أره لغيره, وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة, لكنه بعيد في معنى الآية ههنا, والصواب أن المعنى في قوله تعالى: {أَوِّبِي مَعَهُ} أي رجعي مسبحة معه كما تقدم, والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم: كان لا يحتاج أن يدخله ناراً ولا يضربه بمطرقة, بل كان يفتله بيده مثل الخيوط, ولهذا قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} وهي الدروع قال قتادة, وهو أول من عملها من الخلق, وإنما كانت قبل ذلك صفائح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا ابن سماعة حدثنا ابن ضمرة عن ابن شوذب قال: كان داود عليه السلام يرفع في كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلاف درهم, ألفين له, ولأهله, وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه السلام في تعليمه صنعة الدروع وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَقَدِّرْ(3/635)
فِي السَّرْدِ} لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة, ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر, وقال الحكم بن عيينة: لا تغلظه فيقصم, ولا تدقه فيقلق, وهكذا روي عن قتادة وغير واحد, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السرد حلق الحديد. وقال بعضهم: يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق, واستشهد بقول الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه الصلاة والسلام من طريق إسحاق بن بشر, وفيه كلام, عن أبي إلياس عن وهب بن منبه ما مضمونه أن داود عليه السلام كان يخرج متنكراً, فيسأل الركبان عنه وعن سيرته, فلا يسأل أحداً إلا أثنى عليه خيراً في عبادته وسيرته وعدله عليه السلام. قال وهب: حتى بعث الله تعالى ملكاً في صورة رجل, فلقيه داود عليه الصلاة والسلام فسأله كما كان يسأل غيره, فقال: هو خير الناس لنفسه ولأمته, إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملاً. قال: ما هي قال: يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين, يعني بيت المال, فعند ذلك نصب داود عليه السلام إلى ربه عز وجل في الدعاء أن يعلمه عملاً بيده يستغني به ويغني به عياله, فألان الله عز وجل له الحديد, وعلمه صنعة الدروع, فعمل الدروع, وهو أول من عملها, فقال الله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} يعني مسامير الحلق, قال: وكان يعمل الدرع, فإذا ارتفع من عمله درع باعها فتصدق بثلثها, واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله, وأمسك الثلث يتصدق به يوماً بيوم إلى أن يعمل غيرها, وقال: إن الله أعطى داود شيئاً لم يعطه غيره من حسن الصوت, إنه كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر, وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج, إلا على أصناف صوته عليه السلام, وكان شديد الاجتهاد, وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير,وكان قد أعطي سبعين مزماراً في حلقه. وقوله تعالى: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} أي في الذي أعطاكم الله تعالى من النعم {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي مراقب لكم بصير بأعمالكم وأقوالكم, لا يخفى علي من ذلك شيء.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ اعْمَلُوَاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ}
لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود, عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام من تسخير الريح له, تحمل بساطه غدوها شهر ورواحها شهر. قال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق, فينزل باصطخر يتغذى بها ويذهب رائحاً من اصطخر فيبيت بكابل, وبين دمشق واصطخر شهر كامل للمسرع وبين اصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.
وقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} قال ابن عباس رضي لله عنهما ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم, وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد: القطر النحاس. قال قتادة: وكانت باليمن, فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان عليه السلام قال السدي: وإنما أسيلت له ثلاثة أيام. وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن ربه. أي بقدره وتسخيره لهم بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ومن يعدل ويخرج منهم عن الطاعة {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} وهو الحريق.
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً, فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح,(3/636)
حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير, عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء, وصنف حيات وكلاب, وصنف يحلون ويظعنون" رفعه غريب جداً. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا حرملة, حدثنا ابن وهب, أخبرني بكر بن مضر عن محمد بن بحير عن ابن أنعم أنه قال: الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم الثواب وعليهم العقاب, وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض, وصنف حيات وكلاب. قال بكر بن مضر: ولا أعلم إلا أنه قال: حدثني أن الإنس ثلاثة أصناف: صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة, وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلاً, وصنف في صورة الناس على قلوب الشياطين.
وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق, حدثنا سلمة يعني ابن الفضل عن إسماعيل عن الحسن قال: الجن ولد إبليس, والإنس ولد آدم, ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون, وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب, ومن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمناً, فهو ولي الله تعالى, ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان.
وقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} أما المحاريب فهي البناء الحسن, وهو أشرف شيء في المسكن وصدره. وقال مجاهد: المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك: هي المساجد, وقال قتادة: هي القصور والمساجد. وقال ابن زيد: هي ا لمساكن. وأما التماثيل, فقال عطية العوفي والضحاك والسدي: التماثيل الصور. قال مجاهد: وكانت من نحاس. وقال قتادة: من طين وزجاج. وقوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} الجواب جمع جابية, وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء, كما قال الأعشى ميمون بن قيس:
تروح على آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {كَالْجَوَابِ} أي كالجوبة من الأرض. وقال العوفي عنه كالحياض, وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم. والقدور الراسيات, أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها, كذا قال مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال عكرمة: أثافيها منها. وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} أي وقلنا لهم: اعملوا شكراً على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا, وشكراً مصدر من غير الفعل, أو أنه مفعول له, وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول والنية, كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
قال أبو عبد الرحمن الحبلي: الصلاة شكر والصيام شكر, وكل خير تعمله لله عز وجل شكر, وأفضل الشكر الحمد, رواه ابن جرير, وروى هو وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح, وهذا لمن هو متلبس بالفعل, وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولاً وعملاً قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي بكر, حدثنا جعفر يعني ابن سليمان عن ثابت البناني, قال: كان داود عليه السلام قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة, فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي, فغمرتهم هذه الآية {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود, كان ينام نصف الليل, ويقوم ثلثه, وينام سدسه, وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود, كان يصوم يوماً ويفطر يوماً, ولا يفر إذا لاقى".
وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سنيد بن داود: حدثنا(3/637)
يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالت أم سليمان بن داود عليهم السلام, لسليمان, يابني لا تكثر النوم بالليل, فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيراً يوم القيامة" وروى ابن أبي حاتم عن داود عليه الصلاة والسلام ههنا أثراً غريباً مطولاً جداً وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمران بن موسى, حدثنا أبو زيد فيض بن إسحاق الرقي قال: قال فضيل في قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} قال داود: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك ؟ قال: "الآن شكرتني حين قلت إن النعمة مني". وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} إخبار عن الواقع.
{فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}
يذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه السلام, وكيف عمى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة, فإنه مكث متوكئاً على عصاه, وهي منسأته, كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد: مدة طويلة نحواً من سنة, فلما أكلتها دابة الأرض, وهي الأرضة, ضعفت وسقطت إلى الأرض, وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة. وتبينت الجن والإنس أيضاً أن الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب وفي صحته نظر.
قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منصور, حدثنا موسى بن مسعود, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن السائب عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان نبي الله سليمان عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه, فيقول لها: ما اسمك ؟ فتقول كذا, فيقول: لأي شيء أنت ؟ فإن كانت تغرس غرست, وإن كانت لدواء كتبت, فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك ؟ قالت: الخروب, قال: لأي شيء أنت ؟ قالت: لخراب هذا البيت, فقال سليمان عليه السلام: اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصاً فتوكأ عليها حولاً ميتاً والجن تعمل, فأكلتها الأرضة فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولاً في العذاب المهين" قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك, قال: فشكرت الجن للأرضة, فكانت تأتيها بالماء, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث إبراهيم بن طهمان به. وفي رفعه غرابة ونكارة, والأقرب أن يكون موقوفاً, وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات وفي بعض حديثه نكارة.
وقال السدي في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما, وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم. قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين, والشهر والشهرين, وأقل من ذلك وأكثر, فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه, فأدخله في المرة التي توفي فيها, فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا ينبت الله في بيت المقدس شجرة, فيأتيها فيسألها: فيقول ما اسمك ؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا, فإن كانت لغرس غرسها, وإن كانت تنبت دواء قالت: نبت دواء كذا وكذا, فيجعلها كذلك, حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة, فسألها: ما اسمك ؟ قالت: أنا الخروبة, قال ولأي شي نبت ؟ قالت: نبت لخراب هذا المسجد, قال سليمان عليه الصلاة والسلام: ما كان الله ليخربه وأنا حي, أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس, فنزعها وغرسها في حائط له, ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه, فمات ولم تعلم به الشياطين, وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج عليهم(3/638)
فيعاقبهم, وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب, وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه, فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جلداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب, فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر, فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام في المحراب إلا احترق, فمر ولم يسمع صوت سليمان, ثم رجع فلم يسمع, ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق, ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتاً, فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات, ففتحوا عليه فأخرجوه. ووجدوا منسأته, وهي العصا بلسان الحبشة, قد أكلتها الأرضة, ولم يعلموا منذ كم مات, فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة, ثم حسبوا على ذلك النحو, فوجدوه قد مات منذ سنة, وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه, فمكثوا يدينون له من بعد موته حولاً كاملاً, فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم يطلعون على الغيب, لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له, وذلك قول الله عز وجل: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم, ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام, ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب, ولكنا سننقل إليك الماء والطين, قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت, قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب ؟ فهو ما تأتيها به الشياطين شكراً لها, وهذا الأثر - والله أعلم - إنما هو مما تلقي من علماء أهل الكتاب, وهي وقف لا يصدق منه إلا ما وافق الحق, ولا يكذب منها إلا ما خالف الحق, والباقي لا يصدق ولا يكذب.
وقال ابن وهب وأسبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تبارك وتعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} قال: قال سليمان عليه السلام لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة, فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير وليس له باب, فقام يصلي فاتكأ على عصاه, قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه, ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت, قال: والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي, قال: فبعث الله عز وجل دابة الأرض, قال: والدابة تأكل العيدان يقال لها القادح, فدخلت فيها فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر ميتاً, فلما رأت ذلك الجن, انفضوا وذهبوا, قال: فذلك قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} قال أصبغ: بلغني عن غيره أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر, وذكر غير واحد من السلف نحواً من هذا, الله أعلم.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّاتِهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِيَ إِلاّ الْكَفُورَ}
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها, وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم, وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم, وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى, ثم أعرضوا عما أمروا به, فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ, شذر مذر, كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريباً وبه الثقة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة(3/639)
عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سمعت ابن عباس يقول: إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ: ما هو أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بل هو رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام منهم أربعة, فأما اليمانيون, فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير, وأما الشامية: فلخم وجذام وعاملة وغسان" ورواه عبد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به. وهذا إسناد حسن, ولم يخرجوه, وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر - في كتاب القصد والأمم, بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم - من حديث ابن لهيعة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما, فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.
وقال الإمام أحمد أيضاً وعبد بن حميد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي عن يحيى بن هانىء بن عروة عن فروة بن مسيك رضي لله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم" فقاتل بمقبل قومك مدبرهم" فلما وليت دعاني فقال: "لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام" فقلت: يارسول الله أرأيت سبأ, واد هو أو جبل أو ما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا بل هو رجل من العرب, ولد له عشرة فتيامن ستة, وتشاءم أربعة, تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار, الذين يقال لهم بجيلة وخثعم, وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان" وهذا أيضاً إسناد حسن وإن كان فيه أبو جناب الكلبي, وقد تكلموا فيه لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العنقري عن أسباط بن نصر عن يحيى بن هانىء المرادي عن عمه أو عن أبيه - شك - أسباط - قال: قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
(طريق أخرى) لهذا الحديث. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, حدثني ابن لهيعة عن توبة بن نمر عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال: كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية, فقال يوماً: ما أظن قوماً بأرض إلا وهم من أهلها, فقال علي بن أبي رباح: كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية, وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام, أفأقاتلهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت فيهم بشيء بعد" فأنزلت هذه الآية {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآيات, فقال له رجل: يا رسول الله ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ ما هو: أبلد أم رجل أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بل رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام أربعة, أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد الأشعريون وأنمار وحمير غير ما حلها, وأما الشام فلخم وجذام وغسان وعاملة" فيه غرابة من حيث ذكر نزول الآية بالمدينة, والسورة مكية كلها, والله سبحانه وتعالى أعلم.
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو أسامة, حدثنا الحسن بن الحكم, حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما هو: أرض أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ليس بأرض ولا امرأة, ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد, فتيامن ستة وتشاءم أربعة, فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان, وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار" فقال رجل: ما أنمار ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الذين منهم خثعم وبجيلة" ورواه الترمذي في جامعه عن أبي كريب وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو أسامة فذكره أبسط من هذا, ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال أبو عمر بن عبد البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان, حدثنا قاسم بن أصبغ, حدثنا أحمد بن زهير, حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي, حدثنا ابن كثير هو عثمان بن كثير عن الليث بن سعد عن موسى بن علي,(3/640)
عن يزيد بن حصين عن تميم الداري رضي الله عنه قال: إن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ, فذكر مثله, فقوي هذا الحديث وحسن. قال علماء النسب - منهم محمد بن إسحاق -: اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان,وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب, وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو, فأعطى قومه فسمي الرائش, والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً. وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم, وقال في ذلك شعراً:
سيملك بعدنا ملكاً عظيماً ... نبي لا يرخص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك ... يدينون القياد بغير دامي
ويملك بعدهم منا ملوك ... يصير الملك فينا باقتسام
ويملك بعد قحطان نبي ... تقي مخبت خير الأنام
يسمى أحمداً يا ليت أني ... أعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري ... بكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه ... ومن يلقاه يبلغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب - الإكليل - واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال:
(أحدها) أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاثة طرائق. (والثاني) أنه من سلالة عابر, وهو هود عليه الصلاة والسلام, واختلفوا أيضاً في كيفية نسبه به على ثلاثة طرائق أيضاً.
(والثالث) أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه على ثلاث طرائق أيضاً. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمة الله تعالى عليه في كتابه المسمى الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كان رجلاً من العرب" يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح, وعلى القول الثالث كان من سلالة الخليل عليه السلام, وليس هذا المشهور عندهم, والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون, فقال: "ارموا بني إسماعيل ؟ فإن أباكم كان رامياً" فأسلم قبيلة من الأنصار - والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ - نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم, ونزلت طائقة منهم بالشام, وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إنه قريب من المشلل, كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولد له عشرة من العرب" أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه, بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة, والأقل والأكثر, كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة" أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم, منهم من أقام ببلادهم, ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين, وتجتمع إليه أيضاً سيول أمطارهم وأوديتهم, فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سداً عظيماً محكماً, حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك الجبلين, فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن, كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار, وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه(3/641)
الثمار, فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه, وكان هذا السد بمأرب. بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل, ويعرف بسد مأرب, وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث, ولا شيء من الهوام,وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه, كما قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} ثم فسرها بقوله عز وجل: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.
وقوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا} أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم, وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله, كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: بعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً وقال السدي: أرسل الله عز وجل إليهم اثني عشر ألف نبي, والله أعلم.
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} المراد بالعرم المياه, وقيل الوادي, وقيل الجرذ, وقيل الماء الغزير, فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كرز, حكى ذلك السهيلي. وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك: إن الله عز وجل لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم, بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته. قال وهب بن منبه: وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمن فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير, وولجت إلى السد فنقبته فانهار عليهم, وقال قتادة وغيره: الجرذ هو الخلد, نقبت أسافله حتى إذا ضعف ووهى, وجاءت أيام السيول صدم الماء البناء فسقط, فانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك, ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال, فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة, كما قال الله تبارك وتعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والحسن وقتادة والسدي: وهو الأراك وأكلة البرير {وَأَثْلٍ} قال العوفي عن ابن عباس: هو الطرفاء. وقال غيره هو شجر يشبه الطرفاء, وقيل هو السمر, والله أعلم.
وقوله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر قال: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة, والمناظر الحسنة, والظلال العميقة, والأنهار الجارية, تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والتمر القليل, وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل, ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي عاقبناهم بكفرهم. قال مجاهد: ولا يعاقب إلا الكفور. وقال الحسن البصري: صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس: لا يناقش إلا الكفور. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي, حدثنا حجاج بن محمد, حدثنا أبو البيداء عن هشام بن صالح التغلبي عن ابن خيرة, وكان من أصحاب علي رضي الله عنه, قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة, والضيق في المعيشة, والتعسر في اللذة, قيل: وما التعسر في اللذة ؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيّاماً(3/642)
آمِنِينَ فَقَالُواْ رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ}
يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد, والبلاد الرخية, والأماكن الاَمنة, والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء, بل حيث نزل وجد ماء وثمراًو ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم, ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قال وهب بن منبه: هي قرى بصنعاء, وكذا قال أبو مالك, وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومالك عن زيد بن أسلم وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وغيرهم: يعني قرى الشام, يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.
وقال العوفي عن ابن عباس: القرى التي باركنا فيها بيت المقدس, وقال العوفي عنه أيضاً: هي قرى عربية بين المدينة والشام {قُرىً ظَاهِرَةً} أي بينة واضحة يعرفها المسافرون يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى, ولهذا قال تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلاً ونهاراً {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وقرأ آخرون {بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وذلك أنهم بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد, وأحبوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف, كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها, مع أنهم كانوا في عيش رغيد في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة, ولهذا قال لهم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وقال عز وجل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. وقال تعالى في حق هؤلاء: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أي بكفرهم {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي جعلناهم حديثاً للناس وسمراً يتحدثون به من خبرهم, وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء, تفرقوا في البلاد ههنا وههنا, ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ, وتفرقوا شذر مذر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: سمعت أبي يقول: سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ - إلى قوله تعالى - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} وكانت فيهم كهنة, وكانت الشياطين يسترقون السمع, فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء, فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال وأنه أخبر أن زوال أمرهم قد دنا وأن العذاب قد أظلهم, فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار, فقال لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالاً: يا بني إذا كان غداً وأمرتك بأمر فلا تفعله, فإذا انتهرتك فانتهرني, فإذا لطمتك فالطمني, قال: يا أبت لا تفعل إن هذا أمر عظيم وأمر شديد, قال: يا بني قد حدث أمر لا بد منه, فلم يزل به حتى وافاه على ذلك, فلما أصبحوا واجتمع الناس قال: يابني افعل كذا وكذا, فأبى(3/643)
فانتهره أبوه, فأجابه فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه, فوثب على أبيه فلطمه, فقال: ابني يلطمني ؟ علي بالشفرة, قالوا: ما تصنع بالشفرة ؟ قال: أذبحه, قالوا تريد أن تذبح ابنك ؟ الطمه أو اصنع ما بدا لك, قال: فأبى, قال: فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك, فجاء أخواله فقالوا: خذ منا ما بدا لك فأبى إلا أن يذبحه, قالوا: فلتموتن قبل أن تذبحه, قال: فإذا كان الحديث هكذا, فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه, اشتروا مني دوري, اشتروا مني أرضي, فلم يزل حتى باع دوره وأرضه وعقاره, فلما صار الثمن في يده وأحرزه قال: أي قوم إن العذاب قد أظلكم وزوال أمركم قد دنا, فمن أراد منكم داراً جديداً وحمى شديداً وسفراً بعيداً, فليلحق بعمان, ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير. وكلمة قال إبراهيم لم أحفظها - فليلحق ببصرى, ومن أراد الراسخات في الوحل: المطعمات في المحل, المقيمات في الضحل, فليلحق بيثرب ذات نخل, فأطاعه قومه, فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى, وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل, قال: فأتوا على بطن مر, فقال بنو عثمان هذا مكان صالح لا نبغي به بدلاً, فأقاموا به فسموا لذلك خزاعة, لأنهم انخزعوا من أصحابهم, واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة, وتوجه أهل عمان إلى عمان وتوجهت غسان إلى بصرى. هذا أثر غريب عجيب, وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤوساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم, وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن بسبب استشعاره بإرسال العرم عليهم, فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن فيما حدثني به أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم, فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك, فاعتزم على النقلة عن اليمن, وكان قومه, فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه, ففعل ابنه ما أمره به, فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي وعرض أمواله. فقال أشراف من أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو, فاشتروا منه أمواله وانتقل هو في ولده وولد ولده, وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر, فباعوا أموالهم وخرجوا معه, فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان, فحاربتهم عك وكانت حربهم سجالاً, ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد
وهذا البيت من قصيدة له. قال: ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان, فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام, ونزلت الأوس والخزرج يثرب, ونزلت خزاعة مراً, ونزلت أزد السراة السراة, ونزلت أزد عمان عمان, ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه, وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات. وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق, إلا أنه قال: فأمر ابن أخيه مكان ابنه - إلى قوله فباع ماله وارتحل بأهله فتفرقوا, رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, أخبرنا سلمة عن ابن إسحاق قال: يزعمون أن عمرو بن عامر وهو عم القوم, كان كاهناً فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم, فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون, فمن كان منكم ذا هم بعيد وحمل شديد, ومزاد جديد, فليلحق بكاس أو كرود. قال: فكانت وادعة بن عمرو. ومن كان منكم ذا هم مدن, وأمر دعن, فليلحق بأرض شن, فكانت عوف بن عمرو, وهم الذين يقال لهم بارق, ومن كان منكم يريد عيشاً آنياً, وحرماً آمناً فللحق بالأرزين, فكانت خزاعة, ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل,المطعمات في المحل, فيلحق بيثرب ذات النخل, فكانت الأوس والخزرج, وهما هذان الحيان من الأنصار(3/644)
ومن كان منكم يريد خمراً وخميراً وذهباً وحريراً, وملكاً وتأميراً, فليلحق بكوثى وبصرى, فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ومن كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمرو بن عامر, وكانت كاهنة فرأت في كهانتها ذلك, فالله أعلم أي ذلك كان, وقال سعيد عن قتادة عن الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام, وأما الأنصار فلحقوا بيثرب, وأما خزاعة فلحقوا بتهامة, وأما الأزد فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة واسمه ميمون بن قيس:
وفي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب قفى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء ماؤهم لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذا قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فطم
وقوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والاَثام, لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب شكور على النعم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني قالا: أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد عن أبيه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر, وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر, يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته". وقد رواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي إسحاق السبيعي به, وهو حديث عزيز من رواية عمر بن سعد عن أبيه, ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن". قال عبد: حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة {إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} قال: كان مطرف يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر, وإذا ابتلي صبر.
{وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ فَاتّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخرة مِمّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكّ وَرَبّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ حَفُيظٌ}
لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان, أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى, فقال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: هذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبليس حين امتنع من السجود لأدم عليه الصلاة والسلام, ثم قال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} وقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} والآيات في هذا كثيرة, وقال الحسن البصري: لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ومعه حواء, هبط إبليس فرحاً بما أصاب منهما, وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف, وكان(3/645)
ذلك ظناً من إبليس, فأنزل الله عز وجل {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقال عند ذلك إبليس: لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح أعده وأمنيه وأخدعه, فقال الله تعالى: "وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت, ولا يدعوني إلا أجبته, ولا يسألني إلا أعطيته, ولا يستغفر إلا غفرت له", رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي من حجة. وقال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا أكرهم على شيء, وما كان إلا غروراً وأماني, دعاهم إليها فأجابوه, وقوله عز وجل: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أي إنما سلطناه عليهم ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء, فيحسن عبادة ربه عز وجل في الدنيا ممن هو منها في شك.
وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي ومع حفظه ضل من ضل من أتباع إبليس, وبحفظه وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
{قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُواْ الْحَقّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ}
بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد, الذي لا نظير له ولا شريك له, بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض, فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من الآلهة التي عبدت من دونه {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور, بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه, قال قتادة في قوله عز وجل: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} من عون يعينه بشيء.
ثم قال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترىء أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة, كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال جل وعلا: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم, وأكبر شفيع عند الله تعالى أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء قال: "فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني, ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن, ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع, وسل تعطه, واشفع تشفع" الحديث بتمامه.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة, وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه, أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي, قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي زال الفزع عنها, قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله عز وجل:(3/646)
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} يقول: خلى عن قلوبهم, وقرأ بعض السلف, وجاء مرفوعاً إذا فرغ بالغين المعجمة ويرجع إلى الأول فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضاً ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم, حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا, ولهذا قال تعالى: {قَالُوا الْحَقَّ} أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. وقال آخرون: بل معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا: ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا, قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني ما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني ما فيها من الشك قال: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قال: وهذا في بني آدم هذا عند الموت, أقروا حين لا ينفعهم الإقرار, وقد اختار ابن جرير القول الأول: إن الضمير عائد على الملائكة, وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والآثار, ولنذكر منها طرفاً يدل على غيره.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بيده فحرفها, ونشر بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته, ثم يلقيها الآخر إلى من تحته, حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائه كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا, كذا وكذا فيصد بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه, وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة به, والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق قالا: حدثنا معمر, أخبرنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه, قال عبد الرزاق: من الأنصار, فرمي بنجم فاستنار, فقال صلى الله عليه وسلم: "ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية" قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية, قال: نعم ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته, ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرش, ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا, ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش, فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم, ويخبر أهل كل سماء سماء, حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون, فما جاؤوا به على وجهه فهو حق, ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون" هكذا رواه الإمام أحمد, وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبيد الله, أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن رجل من الأنصار به. وقال يونس عن رجال(3/647)
من الأنصار رضي الله عنهم, وكذا رواه النسائي في التفسير من حديث الزبيدي عن الزهري به, ورواه الترمذي فيه عن الحسين بن حريث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي, عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل من الأنصار رضي الله عنه, والله أعلم.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي, والسياق لمحمد بن عوف, قالا: حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا الوليد هو ابن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تلكم بالوحي, فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة من خوف الله تعالى, فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً, فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام, فيكلمه الله من وحيه بما أراد, فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة, كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول عليه السلام: قال الحق وهو العلي الكبير, فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل, فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض" وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم بن حماد به. وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول: ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم رحمه الله, وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما, وعن قتادة أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام, ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية.
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاّ بَلْ هُوَ اللّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ}
يقول تعالى مقرراً تفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية أيضاً, فكما كانوا يعترفون بأنهم لا يرزقهم من السماء والأرض, أي بما ينزل من المطر وينبت من الزرع إلا الله, فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره. وقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} هذا من باب اللف والنشر أي واحد من الفريقين مبطل, والآخر محق لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال, بل واحد منا مصيب, ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله تعالى, ولهذا قال: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. قال قتادة: قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين والله ما نحن وإياهم على أمر واحد إن أحد الفريقين لمهتد. وقال عكرمة وزياد بن أبي مريم: معناها إنا نحن لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين.
وقوله تعالى: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} معناه التبري منهم, أي لستم منا ولا نحن منكم, بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده وإفراد العبادة له, فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم, وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم برآء منا, كما قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(3/648)
لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
وقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} أي يوم القيامة يجمع بين الخلائق في صعيد واحد, ثم يفتح بيننا بالحق, أي يحكم بيننا بالعدل, فيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر, وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصر والسعادة الأبدية كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} ولهذا قال عز وجل: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أي الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور.
وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} أي أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أنداداً وصيرتموها له عدلاً {كَلَّا} أي ليس له نظير ولا نديد ولا شريك ولا عديل. ولهذا قال تعالى: {بَلْ هُوَ اللَّهُ} أي الواحد الأحد الذي لا شريك له {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي ذو العزة الذي قد قهر بها كل شيء وغلبت كل شيء, الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره, تبارك وتعالى وتقدس عما يقولون علواً كبيراً, والله أعلم.
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ لاّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ}
يقول تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} أي إلا إلى جميع الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}, {بَشِيراً وَنَذِيراً} أي تبشر من أطاعك بالجنة وتنذر من عصاك بالنار {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} كقوله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
قال محمد بن كعب في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} يعني إلى الناس عامة. وقال قتادة في هذه الآية: أرسل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم, فأكرمهم على الله تبارك وتعالى أطوعهم لله عز وجل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة, قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الله تعالى فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا: يا ابن عباس فبم فضله على الأنبياء ؟ قال رضي الله عنه: إن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في الصحيحين رفعه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت إلى الأسود والأحمر" قال مجاهد: يعني الجن والإنس. وقال غيره: يعني العرب والعجم, والكل صحيح.
ثم قال عز وجل مخبراً عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة:(3/649)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذه الآية كقوله عز وجل: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} الآية, ثم قال تعالى: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} أي لكم ميعاد مؤجل معدود محرر لا يزاد ولا ينقص, فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم كما قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} وقال عز وجل: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن نّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوَاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىَ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مّجْرِمِينَ وَقَالَ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نّكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِيَ أَعْنَاقِ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم, وبما أخبر به من أمر المعاد, ولهذا قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} قال الله عز وجل متهدداً لهم ومتوعداً ومخبراً عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} منهم وهم قادتهم وسادتهم {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي لولا أنتم تصدوننا لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاؤونا به فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان, وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك, ولهذا قالوا {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي بل كنتم تمكرون بنا ليلاً نهاراً وتغروننا وتمنوننا وتخبروننا أنا على هدى وأنا على شيء, فإذا جميع ذلك باطل وكذب ومين.
قال قتادة وابن زيد {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} يقول: بل مكركم بالليل والنهار, وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم بالليل والنهار {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً} أي نظراء وآلهة معه وتقيمون لنا شبهاً وأشياء من المحال تضلوننا بها {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه {وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي إِنما نجازيكم بأعمالكم كل بحسبه للقادة عذاب بحسبهم وللأتباع بحسبهم {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء, حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن صرد عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقاهم لهبها, ثم لفحتهم لفحة لم يبق لحم إلا سقط على العرقوب". وحدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا الطيب أبو الحسن عن الحسن بن يحيى الخشني قال: ما في جهنم دار ولا مغار ولا غل ولا(3/650)
قيد ولا سلسلة إِلا اسم صاحبها عليها مكتوب, قال: فحدثته أبا سليمان, يعني الداراني رحمة الله عليه, فبكى ثم قال: ويحك فكيف به لو جمع هذا كله عليه, فجعل القيد والغل في يديه, والسلسلة في عنقه, ثم أدخل النار وأدخل المغار ؟ اللهم سلم.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ قُلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىَ إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ وَالّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أولئك فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ}
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وآمراً بالتأسي بمن قبله من الرسل, ومخبره بأنه ما بعث نبياً في قرية إِلا كذبه مترفوها واتبعه ضعفاؤهم, كما قال قوم نوح عليه الصلاة والسلام {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} {مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} وقال الكبراء من قوم صالح {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وقال عز وجل: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} وقال تعالى: {كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} وقال جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} وقال جل وعلا ههنا: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} أي نبي أو رسول {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة, قال قتادة: هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي لا نؤمن به ولا نتبعه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا هارون بن إِسحاق, حدثنا محمد بن عبد الوهاب عن سفيان بن عاصم عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر, فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إِلى صاحبه يسأله ما فعل. فكتب إِليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إِنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم, قال: فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلني عليه, قال: وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب, قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِلام تدعو ؟ قال "أدعوا إلى كذا وكذا" قال: أشهد أنك رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "وما علمك بذلك ؟" قال: إِنه لم يبعث نبي إِلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم, قال: فنزلت هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} الآية, قال: فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إِن الله عز وجل قد أنزل تصديق ما قلت, وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل قال فيها: وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ فزعمت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل.
وقال تبارك وتعالى إِخباراً عن المترفين المكذبين: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد, واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم, وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة وهيهات لهم ذلك قال الله(3/651)
تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} وقال تبارك وتعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إِنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} وقال عز وجل {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} وقد أخبر الله عز وجل عن صاحب تينك الجنتين أنه كان ذا مال وثمر وولد, ثم لم يغن عنه شيئاً بل سلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة, ولهذا قال عز وجل ها هنا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب, فيفقر من يشاء ويغني من يشاء, وله الحكمة التامة البالغة والحجة القاطعة الدامغة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
ثم قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} أي ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم ولا إعتنائنا بكم. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا كثير, حدثنا جعفر, حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن إِنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ورواه مسلم وابن ماجه من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن برقان به, ولهذا قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي إِنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} أي في منازل الجنة العالية آمنون منن كل بأس وخوف وأذى ومن كل شر يحذر منه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي, حدثنا القاسم وعلي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إِسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن في الجنة لغرفاً ترى ظهورها من بطونها, وبطونها من ظهورها" فقال أعرابي: لمن هي ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لمن طيب الكلام, وأطعم الطعام, وأدام الصيام, وصلى بالليل والناس نيام" {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي يسعون في الصد عن سبيل الله واتباع رسله والتصديق بآياته {أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي بحسب ماله في ذلك من الحكمة يبسط على هذا من المال كثيراً. ويضيق على هذا ويقتر على رزقه جداً. وله في ذلك من الحكمة مالا يدركها غيره, كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي كما هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير وهذا غني موسع عليه, فكذلك هم في الآخرة هذا في الغرفات في أعلى الدرجات, وهذا في الغمرات في أسفل الدركات, وأطيب الناس في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه" رواه مسلم من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.
وقوله تعالى: {مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم, فهو يخلفة عليكم في الدنيا بالبدل, وفي الآخرة بالجزاء والثواب, كما ثبت في الحديث "يقول الله تعالى أنفق, أنفق عليك" وفي الحديث أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكاً تلفاً, ويقول الأخر: اللهم أعط منفقاً خلفاً", وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنفق بلالاً, ولا تخشى من ذي العرش إِقلالاً". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن يزيد بن عبد العزيز الفلاس, حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض, يعض الموسر ما في يده حذار الإنفاق" ثم تلا هذه الآية {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ(3/652)
يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
وقال الحافظ أبو يعلي الموصلي: حدثنا روح بن حاتم, حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض, يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق" قال الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} وفي الحديث "شرار الناس يبايعون كل مضطر ألا إن بيع المضطرين حرام, ألا إن بيع المضطرين حرام, المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله إن كان عندك معروف فعد به على أخيك, وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه" هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي إسناده ضعف. وقال سفيان الثوري عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال: قال مجاهد لا يتأولن أحدكم هذه الآية {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} إذا كان عند أحدكم ما يقيمه, فليقصد فيه, فإن الرزق مقسوم.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنّ أَكْثَرُهُم بِهِم مّؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ}
يخبر تعالى أنه يقرع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق, فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ليقربوهم إلى الله زلفى, فيقول للملائكة {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} أي أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم, كما قال تعالى في سورة الفرقان {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} وكما يقول لعيسى عليه الصلاة والسلام {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وهكذا تقول الملائكة {سُبْحَانَكَ} أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} أي نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعنون الشياطين, لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} كما قال تبارك وتعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله} قال الله عز وجل {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً} أي لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيجاً.
{وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدّكُمْ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَذَآ إِلاّ إِفْكٌ مّفْتَرًى وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ إِنْ هَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نّذِيرٍ وَكَذّبَ الّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
يخبر الله عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب, لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غضة طرية من لسان رسوله صلى الله عليه وسلم {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ(3/653)
يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} يعنون أن دين آبائهم هو الحق, وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل, عليهم وعلى آبائهم لعائن الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً} يعنون القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يودون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا, فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.
ثم قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي من الأمم {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي من القوة في الدنيا. وكذلك قال قتادة والسدي وابن زيد, كما قال تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} أي وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده, بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله, ولهذا قال: { فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.
{قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}
يقول تبارك وتعالى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي إنما آمركم بواحدة وهي {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي تقوموا قياماً خالصاً لله عز وجل من غير هوى ولا عصبية, فيسأل بعضكم بعضاً هل بمحمد من جنون. فينصح بعضكم بعضاً {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه, ويتفكر في ذلك, ولهذا قال تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} هذا معنى ما ذكره مجاهد ومحمد بن كعب والسدي وقتادة وغيرهم, وهذا هو المراد من الآية.
فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أعطيت ثلاثاً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر: أحلت لي الغنائم ولم تحل لمن قبلي, كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها, وبعثت إلى كل أحمر وأسود, وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أتيمم بالصعيد وأصلي فيها حيث أدركتني الصلاة", قال الله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي" فهو حديث ضعيف الإسناد, وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد, ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة, فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها, والله أعلم.
وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال البخاري عندها: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا محمد بن خازم حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: "يا صباحاه" فاجتمعت إليه قريش, فقالوا: مالك ؟ فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني" قالوا: بلى, قال صلى الله عليه وسلم: "فإني(3/654)
نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا. فأنزل الله عز وجل {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم. حدثنا بشير بن المهاجر, حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فنادى ثلاث مرات, فقال: "أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟" قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم, فبعثوا رجلاً يتراءى لهم فبينما هو كذلك أبصر العدو, فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه, فأهوى بثوبه, أيها الناس أوتيتم أيها الناس أوتيتم" ثلاث مرات, وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة جميعاً إن كادت لتسبقني" تفرد به الإمام أحمد في مسنده.
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٍ قُلْ إِنّ رَبّي يَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ قُلْ جَآءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنّمَآ أَضِلّ عَلَىَ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيّ رَبّي إِنّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي لا أريد منكم جعلاً ولا عطاء على أداء رسالة الله عز وجل إليكم ونصحي إياكم وأمركم بعبادة الله {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} أي إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي عالم بجميع الأمور بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم وما أنتم عليه.
وقوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يرسل الملك إلى من يشاء من عباده من أهل الأرض, وهو علام الغيوب فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض. وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي: جاء الحق من الله والشرع العظيم, وذهب الباطل وزهق واضمحل, كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح, ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وحده عند هذه الآية, كلهم من حديث الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة, عن ابن مسعود رضي الله عنه به, أي لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة وزعم قتاده والسدي أن المراد بالباطل ههنا إبليس, أي أنه لا يخلق أحداً ولا يعيده ولا يقدر على ذلك, وهذا وإن كان حقاً ولكن ليس هو المراد ههنا, والله أعلم.
وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} أي الخير كله من عند الله, وفيما أنزل الله عز وجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد, ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه, كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سئل عن تلك المسألة في المفوضة أقول فيها برأيي, فإن يكن صواباً فمن الله, وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. وقوله تعالى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} أي سميع لأقوال عباده قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه, وقد روى النسائي هنا حديث أبي موسى في الصحيحين "إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً, إنما تدعون سميعاً قريباً مجيباً".(3/655)
{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوَاْ آمَنّا بِهِ وَأَنّىَ لَهُمُ التّنَاوُشُ مِن مّكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ إِنّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مّرِيبِ}
يقول تبارك وتعالى: ولو ترى يا محمد إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة, فلا فوت أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم ولا ملجأ {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أي لم يمكنوا أن يمعنوا في الهرب بل أخذوا من أول وهلة. قال الحسن البصري: حين خرجوا من قبورهم. وقال مجاهد وعطية العوفي وقتادة: من تحت أقدامهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك: يعني عذابهم في الدنيا. وقال عبد الرحمن بن زيد: يعني قتلهم يوم بدر, والصحيح أن المراد بذلك يوم القيامة, وهو الطامة العظمى, وإِن كان ما ذكر متصلاً بذلك, وحكى ابن جرير عن بعضهم قال: إن المراد بذلك جيش يخسف بهم بين مكة والمدينة في أيام بني العباس رضي الله عنهم. ثم أورد في ذلك حديثاً موضوعاً بالكلية, ثم لم ينبه على ذلك, وهذا أمر عجيب غريب منه {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} أي يوم القيامة يقولون آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ولهذا قال تعالى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي وكيف لهم تعاطي الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم, وصاروا إلى الدار الآخرة وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء, فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان, كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد.
قال مجاهد {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} قال: التناول لذلك. وقال الزهري: التناوش تناولهم الإيمان وهم في الآخرة وقد انقطعت عنهم الدنيا, وقال الحسن البصري: أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال تعاطوا الإيمان من مكان بعيد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه وليس بحين رجعة ولا توبة, وكذا قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله.
وقوله تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال مالك عن زيد بن أسلم {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} قال: بالظن, قلت: كما قال تعالى: {رَجْماً بِالْغَيْبِ} فتارة يقولون شاعر, وتارة يقولون كاهن, وتارة يقولون ساحر, وتارة يقولون مجنون إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة, ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد ويقولون {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} قال قتادة ومجاهد: يرجمون بالظن لا بعث ولا جنة ولا نار.
وقوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} قال الحسن البصري والضحاك وغيرهما: يعني الإيمان وقال السدي { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} وهي التوبة, وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله. وقال مجاهد {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} من هذه الدنيا من مال وزهرة وأهل, وروي نحوه عن ابن عمر وابن عباس والربيع بن أنس رضي الله عنهم, وهو قول البخاري وجماعه, والصحيح أنه لا منافاة بين القولين, فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة فمنعوا منه.
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا أثراً غريباً عجيباً جداً فنذكره بطوله, فإنه قال: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا بشر بن حجر السامي, حدثنا علي بن منصور الأنباري عن الشرقي بن قطامي عن سعد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} إلى آخر الآية, قال: كان رجل من بني إسرائيل فاتحاً(3/656)
أي فتح الله تعالى له مالاً, فمات فورثه ابن له تافه أي فاسد, فكان يعمل في مال الله تعالى بمعاصي الله تعالى عز وجل, فلما رأى ذلك أخوات أبيه, أتوا الفتى فعذلوه ولاموه, فضجر الفتى فباع عقاره بصامت, ثم رحل فأتى عيناً ثجاجة فسرح فيها ماله وابتنى قصراً, فبينما هو ذات يوم جالس إذ حملت عليه ريح بامرأة من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً, أي ريحاً, فقالت: من أنت يا عبد الله ؟ فقال: أنا امرؤ من بني إسرائيل, قالت: فلك هذا القصر وهذا المال ؟ فقال: نعم. قالت: فهل لك من زوجة ؟ قال: لا. قالت: فكيف يهنيك العيش ولا زوجة لك ؟ قال: قد كان ذاك, قال: فهل لك من بعل ؟ قالت: لا, قال: فهل لك إلا أن أتزوجك ؟ قالت: إني امرأة منك على مسيرة ميل, فإذا كان الغد فتزود زاد يوم وائتني, وإِن رأيت في طريقك هولاً فلا يهولنك, فلما كان من الغد تزود زاد يوم وانطلق, فانتهى إلى قصر فقرع رتاجه, فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً, أي ريحاً, فقال: من أنت يا عبد الله ؟ فقال: أنا الإسرائيلي, قال: فما حاجتك ؟ قال: دعتني صاحبة القصر إلى نفسها, قال: صدقت, قال: فهل رأيت في الطريق هولاً ؟ قال: نعم ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس علي لهالني الذي رأيت, قال: ما رأيت ؟ قال: أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بكلبة فاتحة فاها, ففزعت فوثبت فإذا أنا من ورائها, وإذا جراؤها ينبحن من بطنها, فقال له الشاب: لست تدرك هذا, هذا يكون في آخر الزمان يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويسرهم حديثه, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بمائة عنز حفّل, وإذا فيها جدي يمصها, فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئاً فتح فاه يلتمس الزيادة, فقال: لست تدرك هذا, هذا يكون في آخر الزمان ملك يجمع صامت الناس كلهم حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئاً فتح فاه يلتمس الزيادة, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر فأعجبني غصن من شجرة منها ناضرة, فأردت قطعه فنادتني شجرة أخرى: يا عبد الله منا فخذ حتى ناداني الشجر أجمع يا عبد الله مني فخذ, فقال: لست تدرك هذا, هذا يكون في آخر الزمان يقل الرجال ويكثر النساء حتى أن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل, فإذا أنا برجل قائم على عين يغرف لكل إنسان من الماء, فإذا تصدعوا عنه صب في جرته فلم تعلق جرته من الماء بشيء, فال: لست تدرك هذا, هذا يكون في آخر الزمان القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله تعالى, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها, وإذا رجل قد أخذ بقرنيها, وإذا رجل قد أخذ بذنبها, وإذا راكب قد ركبها, وإذا رجل يحتلبها, فقال: أما العنز فهي الدنيا, والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها, وأما الذي أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقاً, وأما الذي أخذ بدنبها فقد أدبرت عنه, وأما الذي ركبها فقد تركها, وأما الذي يحلبها فبخ بخ ذهب ذلك بها, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل يمتح على قليب كلما أخرج دلوه صبه في الحوض فانساب الماء راجعاً إلى القليب, قال: هذا رجل رد الله عليه صالح عمله فلم يقبله, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل يبذر بذراً فيستحصد فإذا حنطة طيبة, قال: هذا رجل قبل الله صالح عمله وأزكاه له. قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل مستلق على قفاه, قال: يا عبد الله ادن مني فخذ بيدي وأقعدني, فو الله ما قعدت منذ خلقني الله تعالى, فأخذت بيده, فقام يسعى حتى ما أراه, فقال له الفتى هذا عمر الأبعد نفد, أنا ملك الموت, وأنا المرأة التي أتتك أمرني الله تعالى بقبض روح الأبعد في هذا المكان, ثم أصيره إلى نار جهنم, قال: ففيه نزلت هذه الآية {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} الآية, هذا أثر غريب وفي صحته نظر, وتنزيل الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا, كما جرى لهذا المغرور المفتون, ذهب يطلب(3/657)
مراده فجاءه ملك الموت فجأة بغتة وحيل بينه وبين ما يشتهي.
وقوله تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} أي كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}. وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} أي كانوا في الدنيا في شك ريبة, فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب, قال قتاده إياكم والشك والريبة, فإن من مات على شك بعث عليه, ومن مات على يقين بعث عليه.
آخر تفسير سورة سبأ والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.(3/658)
سورة فاطر
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الْحَمْدُ للّهِ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيَ أَجْنِحَةٍ مّثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قال سفيان الثوري عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعربيان يختصمان في بئر, فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها أي بدأتها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي بديع السموات والأرض. وقال الضحاك: كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض, فهو خالق السموات والأرض. وقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} أي بينه وبين أنبيائه {أُولِي أَجْنِحَةٍ} أي يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعاً {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي منهم من له جناحان, ومنهم من له ثلاثة, ومنهم من له أربعة, ومنهم من له أكثر من ذلك, كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء وله ستمائة جناح, بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب, ولهذا قال جل وعلا: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال السدي: يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء وقال الزهري وابن جريج في قوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} يعني حسن الصوت, رواه عن الزهري البخاري في الأدب, وابن أبي حاتم في تفسيره, وقرىء في الشاذ {يَزِيدُ فِي الْحَلْقِ} بالحاء المهلة, والله أعلم.
{مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
يخبر تعالى أنه ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي ولا منع. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم, حدثنا مغيرة, أخبرنا عامر عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: إن معاوية كتب إلى المغيرة بن شعبة اكتب لي بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعاني المغيرة فكتبت إليه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وسمعته ينهى عن قيل وقال: وكثرة السؤال وإضاعة المال, وعن وأد البنات, وعقوق الأمهات, ومنع وهات, وأخرجاه من طرق عن ورّاد به. وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمده, اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض, وملء ما شئت من شيء بعد, اللهم أهل الثناء والمجد, أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وهذه الآية كقوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ولها نظائر كثيرة. وقال الإمام مالك رحمة(3/659)
الله عليه: كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا مطروا يقول: مطرنا بنوء الفتح, ثم يقرأ هذه الآية {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ورواه ابن أبي حاتم عن يونس عن ابن وهب عنه.
{يَأَيّهَا النّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ}
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له كما أنه المستقل بالخلق والرزق, فكذلك فليفرد بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان, ولهذا قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان, ووضوح هذا البرهان, وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان, والله أعلم.
{وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السّعِيرِ}
ويقول تبارك وتعالى: وإِن يكذبوك يا محمد هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد, فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة, فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي المعاد كائن لا محالة {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي العيشة الدنيئة بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم, فلا تتلهوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهو الشيطان قاله ابن عباس رضي الله عنهما, أي لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته, فإنه غرار كذاب أفاك, وهذه الآية كالآية التي في آخر لقمان {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وقال مالك عن زيد بن أسلم هو الشيطان, كما قال المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب {يْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} أي هو مبارز لكم بالعداوة فعادوه أنتم أشد العداوة وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير, فهذا هو العدو المبين نسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان وأن يرزقنا اتباع كتاب الله, والاقتفاء بطريق رسله, إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير, وهذه كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}.
{الّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أَفَمَن زُيّنَ لَهُ(3/660)
سُوَءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير, ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد, لأنهم أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن, وأن الذين آمنوا بالله ورسله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي لما كان منهم من ذنب {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} على ما عملوه من خير. ثم قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} يعني كالكفار والفجار يعملون أعمالاً سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً, أي أفمن كان هكذا قد أضله الله ألك فيه حيلة, لا حيلة لك فيه {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي بقدره كان ذلك {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي لا تأسف على ذلك, فإن الله حكيم في قدره إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي, لما له في ذلك من الحجة البالغة والعلم التام, ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
وقال ابن أبي حاتم عند هذه الآية: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني أو ربيعة عن عبد الله بن الديلمي قال: أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط بالطائف يقال له الوهط, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة, ثم ألقى عليهم من نوره, فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ومن أخطأه منه ضل, فلذلك أقول جف القلم على ما علم الله عز وجل" ثم قال: حدثنا محمد بن عبدة القزويني, حدثنا حسان بن حسان البصري, حدثنا إبراهيم بن بشير, حدثنا يحيى بن معن, حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "الحمد لله الذي يهدي من الضلالة, ويلبس الضلالة على من أحب" وهذا أيضاً حديث غريب جداً.
{وَاللّهُ الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىَ بَلَدٍ مّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النّشُورُ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزّةَ فَلِلّهِ الْعِزّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالّذِينَ يَمْكُرُونَ السّيّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ وَاللّهُ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىَ وَلاَ تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمّرُ مِن مّعَمّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ}
كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها, كما في أول سورة الحج ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها, فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بعثها ونشورها, أنزل من تحت العرش مطراً يعم الأرض جميعاً, ونبتت الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة في الأرض ولهذا جاء في الصحيح "كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب, منه خلق ومنه يركب" ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} وتقدم في الحج حديث أبي رزين قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ قال صلى الله عليه وسلم "يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك محلا ثم مررت به ياهتز خضراً" قلت: بلى, قال(3/661)
صلى الله عليه وسلم: "فكذلك يحيي الله الموتى"
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} أي من كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى, فإنه يحصل له مقصوده لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة وله العزة جميعاً, كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} وقال عز وجل: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} وقال جل جلاله {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} قال مجاهد {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} بعبادة الأوثان {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} وقال قتادة {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} أي فليتعزز بطاعة الله عز وجل, وقيل من كان يريد علم العزة لمن هي {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} وحكاه ابن جرير.
وقوله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} يعني الذكر والتلاوة والدعاء, قاله غير واحد من السلف. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, أخبرني جعفر بن عون عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى, إن العبد المسلم إذا قال سبحان الله وبحمده والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر تبارك الله, أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا واستغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الله عز وجل, ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وحدثنا يعقوب بن إبراهيم , حدثنا ابن علية, أخبرنا سعيد الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: قال كعب الأحبار: إن سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل يذكرن لصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن, وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار رحمة الله عليه, وقد روي مرفوعاً.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, حدثنا موسى يعني ابن مسلم الطحان عن عون بن عبد الله عن أبيه أو عن أخيه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله, يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل, يذكرن بصاحبهن, ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شيء يذكر به" وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر خلف عن يحيى بن سعيد القطان عن موسى بن أبي عيسى الطحان, عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبيه أو عن أخيه, عن النعمان بن بشير رضي الله عنه به.
وقوله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: الكلم الطيب ذكر الله تعالى, يصعد به إلى الله عز وجل, والعمل الصالح أداء الفريضة, فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله وذكر الله تعالى به إلى الله عز وجل, ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله, فكان أولى به, وكذا قال مجاهد: العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب, وكذا قال أبو العالية وعكرمة وإبراهيم النخعي والضحاك والسدي والربيع بن أنس وشهر بن حوشب وغير واحد. وقال إياس بن معاوية القاضي, لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام. وقال الحسن وقتادة: لا يقبل قول إلا بعمل.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} قال مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب: هم المراؤون بأعمالهم, يعني يمكرون بالناس يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى, وهم بغضاء إلى الله عز وجل يراؤون بأعمالهم {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المشركون, والصحيح أنها عامة,(3/662)
والمشركون داخلون بطريق الأولى, ولهذا قال تعالى: {هُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أي يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى, فإنه ما أسر أحدٌ سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه, وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيراً فخير وإن شراً فشر, فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي, أما المؤمنين المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم, بل ينكشف لهم عن قريب وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية.
وقوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي ابتدأ خلق أبيكم من تراب, ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أي ذكراً وأنثى, لطفاً منه ورحمة أن جعل لكم أزواجاً من جنسكم لتسكنوا إليها. وقوله عز وجل: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} أي هو عالم بذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء بل {مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}.
وقوله عز وجل: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} أ ي ما يعطي بعض النطف من العمر الطويل يعلمه وهو عنده في الكتاب الأول {وما ينقص من عمره} الضمير عائد على الجنس لا على العين, لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى لا ينقص من عمره, وإنما عاد الضمير على الجنس قال ابن جرير: وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه أي هو ونصف ثوب آخر, وروي من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} يقول: ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له, فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه, وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر, ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له, فذلك قوله تعالى: {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} يقول: كل ذلك في كتاب عنده, وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} قال: ما لفظت الأرحام من الأولاد من غير تمام وقال عبد الرحمن في تفسيرها: ألا ترى الناس يعيش الإنسان مائة سنة وآخر يموت حين يولد فهذا هذا. وقال قتادة: والذي ينقص من عمره فالذي يموت قبل ستين سنة. وقال مجاهد {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} أي في بطن أمه يكتب له ذلك لم يخلق على عمر واحد, بل لهذا عمر, ولهذا عمر هو أنقص من عمره. فكل ذلك مكتوب لصاحبه بالغ ما بلغ, وقال بعضهم: بل معناه { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي ما يكتب من الأجل {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وهو ذهابه قليلاً قليلاً, الجميع معلوم عند الله تعالى سنة بعد سنة, وشهراً بعد شهر, وجمعة بعد جمعة, ويوماً بعد يوم, وساعة بعد ساعة, الجميع مكتوب عند الله تعالى في كتابه, نقله ابن جرير عن أبي مالك, وإليه ذهب السدي وعطاء الخراساني, واختار ابن جرير الأول, وهو كما قال.
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة: حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان قال: سمعت ابن وهب يقول: حدثني يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه". وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يونس بن يزيد الأيلي به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا الوليد بن الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو سرح, حدثنا عثمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة(3/663)
ابن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله تعالى لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها, وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد, فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره, فذلك زيادة العمر". وقوله عز وجل: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي سهل عليه, يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته, فإن علمه شامل للجميع, لا يخفى عليه شيء منها.
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
يقول تعالى منبهاً على قدرته العظيمة في خلقه لأشياء المختلفة خلق البحرين العذب الزلال , وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار والعمران والبراري والقفار, وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك {هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي مر وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار, وإنما تكون مالحة زعافاً مرة, ولهذا قال: {هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي مر. ثم قال تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} يعني السمك {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} كما قال عز وجل: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
وقوله جل وعلا: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} أي تمخره وتشقه بحيزومها وهو مقدمها المسنم الذي يشبه جؤجؤ الطير وهو صدره, وقال مجاهد: تمخر الريح السفن ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام وقوله جل وعلا: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي بأسفاركم بالتجارة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم, وهو البحر, تتصرفون فيه كيف شئتم, تذهبون أين أردتم, ولا يمتنع عليكم شيء منه, بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض, الجميع من فضله ورحمته.
{يُولِجُ الْلّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}
وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم في تسخيره الليل بظلامه, والنهار بضيائه, ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا فيعتدلان, ثم يأخذ من هذا في هذا, فيطول هذا ويقصر هذا, ثم يتقارضان صيفاً وشتاء {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي والنجوم السيارات, والثوابت الثاقبات, بأضوائهن أجرام السموات, الجميع يسيرون بمقدار معين, وعلى منهاج مقنن محرر, تقديراً من عزيز عليم {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} أي إلى يوم القيامة {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي الذي فعل هذا هو الرب العظيم الذي لا إله غيره {لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي من الأصنام والأنداد التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وعطاء وعطية العوفي والحسن وقتادة(3/664)
وغيرهم: القطمير هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة, أي لا يملكون من السموات والأرض شيئاً ولا بمقدار هذا القطمير.
ثم قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} يعني الآلهة التي تدعونها من دون الله لا تسمع دعاءكم, لأنها جماد لا أرواح فيها, {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أي لا يقدرون على شيء مما يطلبون منها {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يتبرؤون منكم, كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}. وقوله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى, فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
{يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىَ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ إِنّمَا تُنذِرُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَمَن تَزَكّىَ فَإِنّمَا يَتَزَكّىَ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}
يخبر تعالى بغناه عما سواه, وبافتقار المخلوقات كلها وتذللها بين يديه, فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} أي هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات, وهو تعالى الغني عنهم بالذات, ولهذا قال عز وجل: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له, وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم, وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع, ولهذا قال تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.
وقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي يوم القيامة {وإن تدع مثقلةٌ إلى حملها} أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تساعد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه {لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} أي وإن كان قريباً إليها حتى ولو كان أباها أو ابنها, كل مشغول بنفسه وحاله. قال عكرمة في قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} الآية, قال هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة, فيقول: يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني, وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة, فيقول له: يا مؤمن إن لي عندك يداً قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا وقد احتجت إليك اليوم, فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى منزل دون منزله, وهو في النار, وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول: يا بني أي والد كنت لك, فيثني خيراً, فيقول له: يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى, فيقول له ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت, ولكني أتخوف مثلما تتخوف, فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً, ثم يتعلق بزوجته فيقول: يا فلانة, أو يا هذه أي زوج كنت لك ؟ فتثني خيراً, فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها ممن ترين, قال: فتقول: ما أيسر ما طلبت, ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئاً, إني أتخوف مثل الذي تتخوف. يقول الله تعالى: { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} الآية, ويقول تبارك وتعالى: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} ويقول تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(3/665)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} رواه ابن أبي حاتم رحمه الله عن أبي عبد الله الطهراني عن حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة به.
ثم قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنّهى, الخائفون من ربهم, الفاعلون ما أمرهم به {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي ومن عمل صالحاً فإنما يعود نفعه على نفسه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي وإليه المرجع والمآب, وهو سريع الحساب, وسيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير, وإن شراً فشر.
{وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظّلُمَاتُ وَلاَ النّورُ وَلاَ الظّلّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مّنْ أُمّةٍ إِلاّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَبِالزّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمّ أَخَذْتُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
يقول تعالى: كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة كالأعمى والبصير لا يستويان, بل بينهما فرق وبون كثير, وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا لظل ولا الحرور, كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات, كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقال عز وجل: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} فالمؤمن بصير سميع في نور يمشي على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون, والكافر أعمى وأصم في ظلمات يمشي لا خروج له منها, بل هو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم, وظل من يحموم لا بارد ولا كريم.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} أي يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والإنقياد لها. {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها, كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم {إن أنت إلا نذير} أي إنما عليك البلاغ والإنذار, والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء, {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين, {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر, وأزاح عنهم العلل, كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} الآية, والآيات في هذا كثيرة.
وقوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} وهي المعجزات الباهرات والأدلة القاطعات {وَبِالزُّبُرِ} وهي الكتب {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي الواضح البين {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ومع هذا كله كذب أولئك رسلهم فيما جاؤوهم به, فأخذتهم أي بالعقاب والنكال {فَكَيْفَ كَانَ(3/666)
نَكِيرِ} أي فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيماً شديداً بليغاً, والله أعلم.
{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}
يقول تعالى منبهاً على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد, وهو الماء الذي ينزله من السماء, يخرج به ثمرات مختلفاً ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار, كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها, كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
وقوله تبارك وتعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان, كما هو المشاهد أيضاً من بيض وحمر, وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة, مختلفة الألوان أيضاً قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجدد الطرائق, وكذا قال أبو مالك والحسن وقتادة والسدي, ومنها غرابيب سود. قال عكرمة: الغرابيب الجبال الطوال السود, وكذا قال أبو مالك وعطاء الخراساني وقتادة: وقال ابن جرير: والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا: أسود غربيب, ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية: هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي سود غرابيب, وفيما قاله نظر.
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي كذلك الحيوانات من الأناسي والدواب, وهو كل ما دب على القوائم, والأنعام, من باب عطف الخاص على العام كذلك هي مختلفة أيضاً, فالناس منهم بربر وحبوش وطماطم في غاية السواد وصقالبة وروم في غاية البياض, والعرب بين ذلك والهنود دون ذلك, ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان حتى في الجنس الواحد بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان, بل الحيوان الواحد يكون أبلق فيه من هذا اللون وهذا اللون, فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل, حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح, حدثنا زياد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيصبغ ربك ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم صبغاً لا ينفض أحمر وأصفر وأبيض" وروي مرسلاً وموقوفاً, والله أعلم. ولهذا قال تعالى بعد هذا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به, لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى, كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئاً, وأحل حلاله وحرم حرامه, وحفظ وصيته وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله. وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وقال الحسن البصري:(3/667)
العالم من خشي الرحمن بالغيب, ورغب فيما رغب الله فيه, وزهد فيما سخط الله فيه, ثم تلا الحسن {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث, ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب عن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية, وإنّما العلم نور يجعله الله في القلب. قال أحمد بن صالح المصري: معناه أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية, وإنما العلم الذي فرض الله عز وجل أن يتبع, فإنما هو الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين, فهذا, لا يدرك إلا بالرواية, ويكون تأويل قوله: نور يريد به فهم العلم ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله, عالم بأمر الله, وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله, وعالم بأمر الله, ليس بعالم بالله, فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض, والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض, والعالم بأمر الله ليس العالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل.
{إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به, ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً, سراً وعلانية {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله, كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل القرآن أنه يقول لصاحبه: إن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة, ولهذا قال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ليوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم {إِنَّهُ غَفُورٌ} أي لذنوبهم {شَكُورٌ} للقليل من أعمالهم قال قتادة: كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا حيوة, حدثنا سالم بن غيلان قال: إنه سمع دراجاً أبا السمح يحدث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى إذا رضي عن العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الخير لم يعمله, وإذا سخط على العبد أثنى عليه بسبعة أضعاف من الشر لم يعمله" غريب جداً.
{وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنّ اللّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}
يقول تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد من الكتاب وهو القرآن {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المتقدمة بصدقها كما شهدت له بالتنويه, وأنه منزل من رب العالمين {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي هو خبير بهم بصير بمن يستحق ما يفضله به على من سواه, ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر, وفضل النبيين بعضهم على بعض, ورفع بعضهم درجات وجعل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
{ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ(3/668)
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}
يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة, ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع, فقال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} وهو المؤدي للواجبات, التارك للمحرمات, وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات, {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وهو الفاعل للواجبات والمستحبات, التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم, ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله, فظالمهم يغفر له, ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً, وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح وعبد الرحمن بن معاوية العتبي قالا: حدثنا أبو الطاهر بن السرح, حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني. حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". قال ابن عباس رضي الله عنهما: "السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله, والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم, وكذا روي عن غير واحد من السلف أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق, حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما فمنهم ظالم لنفسه قال هو الكافر وكذا روى عنه عكرمة, وبه قال عكرمة أيضاً فيما رواه ابن جرير. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: هم أصحاب المشأمة. وقال مالك عن زيد بن أسلم والحسن وقتادة: هو المنافق, ثم قد قال ابن عباس والحسن وقتادة: وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها, والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة, وهذا اختيار ابن جرير, كما هو ظاهر الآية, وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً ونحن إن شاء الله تعالى نورد منها ما تيسر.
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال: "هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة, وكلهم في الجنة" هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي إسناده من لم يسم, وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شعبه به نحوه. ومعنى قوله بمنزلة واحدة, أي في أنهم من هذه الأمة, وأنهم من أهل الجنة وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عقبة, عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء رضي الله عنه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب, وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذي يحبسون في طول(3/669)
المحشر, ثم هم الذين تلاقاهم الله برحمته, فهم الذين يقولون {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}.
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم, حدثنا الحسين بن حفص, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن رجل, عن أبي ثابت, عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "{ثم أورثنا الكتاب اصطفينا من عبادنا, فمنهم ظالم لنفسه} - قال - ف أما الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن, ثم يدخل الجنة" ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد, فجلس إلى جنب أبي الدرداء رضي الله عنه, فقال: اللهم آنس وحشتي, وارحم غربتي ويسر لي جليساً صالحاً, فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بك منك, سأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه وذكر هذه الآية { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}, فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب, وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً, وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن, وذلك قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}.
(الحديث الثالث) قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس, حدثنا ابن مسعود, أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي, حدثنا عمرو بن أبي قيس عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلهم من هذه الأمة".
(الحديث الرابع) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عزيز, حدثنا سلامة عن عقيل عن ابن شهاب عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب, وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة, وثلث يمحصون ويكشفون, ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون: لا إله إلا الله وحده, يقول الله تعالى صدقوا لا إله إلا أنا أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده, واحملوا خطاياهم على أهل النار, وهي التي قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة, قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فجعلهم ثلاثة أنواع, وهم أصناف كلهم, فمنهم ظالم لنفسه, فهذا الذي يمحص ويكشف" غريب جداً.
(أثر عن ابن مسعود) رضي الله عنه. قال ابن جرير: حدثني ابن حميد, حدثنا الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس عن عبد الله بن عيسى رضي الله عنه عن يزيد بن الحارث, عن شقيق أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب, وثلث يحاسبون حساباً يسيراً, وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول الله عز وجل: ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك وتعالى فتقول الملائكة: هؤلاء جاؤوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك شيئاً, فيقول الرب عز وجل: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية.
(أثر آخر) قال أبو داود الطيالسي عن الصلت بن دينار بن الأشعث عن عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية, فقالت لي: يا بني هؤلاء في الجنة, أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق, وأما المقتصد فمن اتبع أثره من(3/670)
أصحابه حتى لحق به, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم, قال: فجعلت نفسها رضي الله عنها معنا, وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع, وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: هي لأهل بدونا ومقتصدنا أهل حضرنا, وسابقنا أهل الجهاد, رواه ابن أبي حاتم.
وقال عوف الأعرابي: حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا كعب الأحبار رحمة الله عليه, قال: إن الظالم لنفسه من هذه الأمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة, ألم تر أن الله تعالى قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا - إلى قوله عز وجل - وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} قال: فهؤلاء أهل النار, رواه ابن جرير من طرق عن عوف به ثم قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, أخبرنا حميد عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال: إن ابن عباس رضي الله عنهما سأل كعباً عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا - إلى قوله - بِإِذْنِ اللَّهِ} قال: تماست مناكبهم ورب كعب, ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا الحكم بن بشير, حدثنا عمرو بن قيس عن أبي إسحاق السبيعي في هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية, قال أبو إسحاق: أما ما سمعت من ذي ستين سنة فكلهم ناج, ثم قال: حدثنا ابن حميد, حدثنا الحكم, حدثنا عمرو عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال: إنها أمة مرحومة, الظالم مغفور له, والمقتصد في الجنان عند الله, والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله. ورواه الثوري عن إسماعيل بن سميع عن رجل عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه بنحوه.
وقال أبو الجارود: سألت محمد بن علي - يعني الباقر - رضي الله عنهما عن قول الله تعالى {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} فقال: هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإِذا تقرر هذا, فإِن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة, فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة, وأولى الناس بهذه الرحمة, فإنهم كما قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا محمد بن يزيد, حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو بدمشق, فقال: ما أقدمك أي أخي ؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: أما قدمت لتجارة ؟ قال: لا, قال: أما قدمت لحاجة ؟ قال: لا, قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث ؟ قال: نعم. قال رضي الله عنه: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقاً يطلب فيها علماً, سلك الله تعالى به طريقاً إلى الجنة, وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم, وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء, وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب, إن العلماء هم ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً, وإنما ورثوا العلم, فمن أخذ به أخذ بحظ وافر" وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن قيس, ومنهم من يقول قيس بن كثير عن أبي الدرداء رضي الله عنه وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري, ولله الحمد والمنة, وقد تقدم في أول سورة طه حديث ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي".(3/671)
{جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِيَ أَذْهَبَ عَنّا الْحَزَنَ إِنّ رَبّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الّذِيَ أَحَلّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}
يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة, مأواهم جنات عدنٍ, أي جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على الله عز وجل {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ولهذا كان محظوراً عليهم في الدنيا, فأباحه الله تعالى لهم في الآخرة, وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" وقال: "هي لهم في الدنيا, ولكم في الآخرة".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن سواد السرحي, أخبرنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن أبا أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم, وذكر حلي أهل الجنة فقال: "مسورون بالذهب والفضة مكللة بالدر, وعليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة, وعليهم تاج كتاج الملوك, شباب جرد مرد مكحولون" {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وهو الخوف من المحذور, أزاحه عنا وأرحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا والآخرة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم, وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" رواه ابن أبي حاتم من حديثه.
وقال الطبراني: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي, حدثنا موسى بن يحيى المروزي, حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب الكوفي عن عبد العزيز بن حكيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور, وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, إن ربنا لغفور شكور" قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات, وشكر لهم اليسير من الحسنات {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} يقولون الذي أعطانا هذه المنزلة وهذا المقام من فضله ومَنّه ورحمته, لم تكن أعمالنا تساوي ذلك, كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة" قالوا: ولا أنت يارسول الله ؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل" { لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء. والنصب واللغوب كل منهما يستعمل في التعب, وكأن المراد بنفي هذا وهذا عنهم, أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم, والله أعلم, فمن ذلك أنهم كانوا يدئبون أنفسهم في العبادة في الدنيا, فسقط عنهم التكليف بدخولها, وصاروا في راحة دائمة مستمرة قال الله تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}.
{وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنّمَ لاَ يُقْضَىَ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ(3/672)
نُعَمّرْكُمْ مّا يَتَذَكّرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ وَجَآءَكُمُ النّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ}
لما ذكر تبارك وتعالى حال السعداء, شرع في بيان مآل الأشقياء, فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} كما قال تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى} وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها, فلا يموتون فيها ولا يحيون" وقال عز وجل: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم, ولكن لا سبيل إلى ذلك, قال الله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} وقال جل وعلا: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب الحق.
وقوله جلت عظمته: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أي ينادون فيها يجأرون إلى الله عز وجل بأصواتهم {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أ ي يسألون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول, وقد علم الرب جل جلاله أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه, وإنهم لكاذبون فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم, كما قال تعالى مخبراً عنهم في قولهم {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ لِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} أي لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك, ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه, ولذا قال ههنا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ؟} أي أو ما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم ؟ وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد ههنا, فروي عن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهما أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة.
وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة, فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر قد نزلت هذه الآية {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة, وكذا قال أبو غالب الشيباني. وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن رجل عن وهب بن منبه في قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال: عشرين سنة وقال هشيم عن منصور عن زاذان عن الحسن في قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال: أربعين سنة, وقال هشيم أيضاً عن مجاهد عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة, فليأخذ حذره من الله عز وجل, وهذه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما قال ابن جرير حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا بشر بن المفضل, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثيم عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أربعون سنة, هكذا رواه من هذا الوجه عن ابن عباس رضي الله عنهما به, وهذا القول هو اختيار ابن جرير, ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس, كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خُثيم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ستون سنة, فهذه الرواية أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما, وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضاً, لما ثبت في ذلك من الحديث كما سنورده, لا كما زعمه ابن جرير من أن الحديث لم يصح في ذلك, لأن في إسناده من يجب التثبت في أمره, وقد روى أصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه أنه قال: العمر الذي عيرهم الله به في قوله {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ستون سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا دحيم, حدثنا ابن أبي فديك, حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي عن ابن أبي حسين المكي, أنه حدثه عن عطاء هو ابن رباح(3/673)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة, قيل: أين أبناء الستين ؟ وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} " وكذا رواه ابن جرير عن علي بن شعيب عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك به, وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك به, وهذا الحديث فيه نظر لحال إبراهيم بن الفضل, والله أعلم.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ الستين أو سبعين سنة, لقد أعذر الله تعالى إليه, لقد أعذر الله تعالى إليه" وهكذا رواه الإمام البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه: حدثنا عبد السلام بن مطهر عن عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري, عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعذر الله عز وجل إلى إمرىء أخر عمره حتى بلغ ستين سنة" ثم قال البخاري: تابعه أبو حازم وابن عجلان عن سعيد المقبري, فأما أبو حازم فقال ابن جرير: حدثنا أبو صالح الفزاري, حدثنا محمد بن سوار, أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القادر أي الإسكندري, حدثنا أبو حازم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمره الله تعالى ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر" وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعاً عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن به.
ورواه البزار قال: حدثنا هشام بن يونس, حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة" يعني {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} وأما متابعة ابن عجلان فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله عز وجل إليه في العمر" وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقري به, ورواه أحمد أيضاً عن خلف عن أبي معشر عن أبي سعيد المقبري.
( طريق أخرى) عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن جرير: حدثني أحمد بن الفرج أبو عتبة الحمصي, حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا المطرف بن مازن الكناني, حدثني معمر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعذر الله عز وجل في العمر إلى صاحب الستين والسبعين" فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق, فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت وقول ابن جرير: إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري, والله أعلم. وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة, فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين, ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم, كما قال الشاعر.
إذا بلغ الفتى ستين عاماً ... فقد ذهب المسرة والفتاء
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به ويزيح به عنهم العلل, كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة, كما ورد بذلك الحديث. قال الحسن بن عرفة رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما(3/674)
بين الستين إلى السبعين, وأقلهم من يجوز ذلك" وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعاً في كتاب الزهد عن الحسن بن عرفة به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وهذا عجيب من الترمذي, فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى عن أبي هريرة حيث قال: حدثنا سليمان بن عمرو عن محمد بن ربيعة عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين, وأقلهم من يجوز ذلك" وقد رواه الترمذي في كتاب الزهد أيضاً عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن محمد بن ربيعة به, ثم قال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه, وقد روي من غير وجه هذا نصه بحروفه في الموضعين, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى الأنصاري, حدثنا ابن أبي فديك, حدثني إبراهيم بن الفضل مولى بني مخزوم عن المقبري, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين" وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقل أمتي أبناء سبعين" إسناده ضعيف.
(حديث آخر) في معنى ذلك. قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن هانىء, حدثنا إبراهيم بن مهدي عن عثمان بن مطر عن أبي مالك عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أنبئنا بأعمار أمتك, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين الخمسين إلى الستين" قالوا: يا رسول الله فأبناء السبعين ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قل من يبلغها من أمتي, رحم الله أبناء السبعين, ورحم الله أبناء الثمانين" ثم قال البزار: لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد, وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي, وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثاً وستين سنة, وقيل ستين, وقيل خمساً وستين, والمشهور الأول, والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة وأبي جعفر الباقر رضي الله عنه وقتادة وسفيان بن عيينة أنهم قالوا: يعني الشيب وقال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقرأ ابن زيد {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} وهذا هو الصحيح عن قتادة فيما رواه شيبان عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل, وهذا اختيار ابن جرير, وهو الأظهر لقوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل فأبيتم وخالفتهم, وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال تبارك وتعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ}. وقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي فذوقوا عذاب النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعمالكم, فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.
{إِنّ اللّهَ عَالِمُ غَيْبِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ هُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَسَاراً}
يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض, وإنه يعلم ما تكنه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر, وسيجازى كل عامل بعمله, ثم قال عز وجل { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} أي يخلف قوم لآخرين قبلهم وجيل لجيل قبلهم. كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي فإنما يعود وبال(3/675)
ذلك على نفسه دون غيره {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً} أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى, وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بخلاف المؤمنين, فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله, ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً إِنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من الأصنام والأنداد {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي ليس لهم شيء من ذلك ما يملكون من قطيمر. وقوله {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} أي أم أنزلنا عليهم كتاباً بما يقولون من الشرك والكفر ؟ ليس الأمر كذلك {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً} أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي يمنوها لأنفسهم وهي غرور وباطل وزور.
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما, فقال {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} أي أن تضطربا عن أماكنهما, كما قال عز وجل: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو, وهو مع ذلك حليم غفور أي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه, وهو يحلم فيؤخر, وينظر ويؤجل ولا يعجل, ويستر آخرين ويغفر, ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً بل منكراً, فقال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد, حدثني إسحاق بن إبراهيم, حدثني هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه الصلاة والسلام على المنبر قال: "وقع في نفس موسى عليه الصلاة والسلام: هل ينام الله عز وجل ؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً, وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة, وأمره أن يحتفظ بهما, قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان, ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان, قال: ضرب الله له مثلاً أن الله عز وجل لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض", والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع بل من الإسرائيليات المنكرة, فإن موسى عليه الصلاة والسلام أجل من أن يجوز على الله سبحانه وتعالى النوم, وقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز بأنه {لْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل, حجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
وقد قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه فقال: من أين جئت ؟ قال: من الشام, قال: من(3/676)
لقيت ؟ قال: لقيت كعباً, قال: ما حدثك ؟ قال: حدثني أن السموات تدور على منكب ملك, قال: أفصدقته أو كذبته ؟ قال: ما صدقته ولا كذبته, قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها, كذب كعب إن الله تعالى يقول {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود رضي الله عنه.
ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: ذهب جندب البجلي إلى كعب بالشام فذكر نحوه. وقد رأيت في مصنف للفقيه يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي سماه - سير الفقهاء - أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطباع عن وكيع عن الأعمش به, ثم قال: وأخبرنا زونان يعني عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب عن مالك أنه قال: السماء لا تدور, واحتج بهذه الآية, وبحديث " إن بالمغرب باباً للتوبة لا يزال مفتوحاً حتى تطلع الشمس منه" قلت: وهذا الحديث في الصحيح, والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لّيَكُونُنّ أَهْدَىَ مِنْ إِحْدَى الأمم فَلَمّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مّا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السّيّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّىءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّةَ آلأوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً}
يخبر تعالى عن قريش والعرب, أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم قبل إرسال الرسول إليهم {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}, أي من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل, قاله الضحاك وغيره كقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} وكقوله تعالى: { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزل معه من الكتاب العظيم, وهو القرآن المبين {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} أي ما ازدادوا إلا كفراً إلى كفرهم, ثم بين ذلك بقوله: {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ} أي: استكبروا عن اتباع آيات الله {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} أي ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.
قال ابن أبي حاتم: ذكر علي بن الحسين, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياك ومكر السيء, فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله, ولهم من الله طالب" وقال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به: من مكر أو بغى أو نكث, وتصديقها في كتاب الله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} وقوله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي لا تغير ولا تبدل, بل هي جارية كذلك في كل مكذب {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} أي {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} ولا يكشف ذلك عنهم ويحوله عنهم أحد, والله أعلم.
{أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ إِنّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ(3/677)
بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىَ ظَهْرِهَا مِن دَآبّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً}
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المكذين بما جئتهم به من الرسالة: سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل, كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها, فخلت منهم منازلهم, وسلبوا ما كانوا فيه من نعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد, وكثرة الأموال والأولاد, فما أغنى ذلك شيئاً, ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء, لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء إذا أراد كونه في السموات والأرض {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} أي عليم بجميع الكائنات قدير على مجموعها, ثم قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم, ثم قرأ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}. وقال سعيد بن جبير والسدي في قوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} أي لما سقاهم المطر فماتت جميع الدواب, {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أي ولكن ينظرهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم يومئذ, ويوفي كل عامل بعمله, فيجازي بالثواب أهل الطاعة وبالعقاب أهل المعصية, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً}.
آخر تفسير سورة فاطر و لله الحمد والمنة.(3/678)
سورة يس
وهي مكية
قال أبو عيس الترمذي: حدثنا قتيبة وسفيان بن وكيع, حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي عن الحسن بن صالح عن هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلباً, وقلب القرآن يس, ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات" ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن, وهارون أبو محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ولا يصح لضعف إسناده. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: منظور فيه, أما حديث الصديق رضي الله عنه فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول, وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال أبو بكر البزار: حدثنا عبد الرحمن بن الفضل, حدثنا زيد هو ابن الحباب, حدثنا حميد هو المكي مولى آل علقمة عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس" ثم قال: لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل, حدثنا حجاج بن محمد عن هشام بن زياد عن الحسن قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ يس في ليلة أصبح مغفوراً له, ومن قرأ حم التي يذكر فيها الدخان أصبح مغفور له" إسناده جيد. وقال ابن حبان في صحيحه: حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف, حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني, حدثنا أبي, حدثنا زياد بن خيثمة, حدثنا محمد بن جحادة عن الحسن عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله عز وجل غفر له".
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة سنام القرآن وذروته, نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً, واستخرجت {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} من تحت العرش فوصلت بها - أو فوصلت بسورة البقرة - ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له, واقرؤوها على موتاكم" وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان به.
ثم قال الإمام أحمد: حدثنا عارم, حدثنا ابن المبارك, حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي, عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوها على موتاكم" يعني يس, ورواه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك به, إلا أن في رواية النسائي عن أبي عثمان عن معقل بن يسار رضي الله عنه, ولهذا قال بعض العلماء: من خصائص هذه السورة أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله تعالى, وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة, وليسهل عليه خروج الروح, والله تعالى أعلم.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا صفوان قال: كان المشيخة يقولون: إذا قرئت - يعني يس - عند الميت خفف الله عنه بها. وقال البزار: حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي" يعني يس.(3/679)
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يسَ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقّ الْقَوْلُ عَلَىَ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ}
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة والضحاك والحسن وسفيان بن عيينة أن يس بمعنى يا إنسان. وقال سعيد بن جبير: هو كذلك في لغة الحبشة, وقال مالك عن زيد بن أسلم: هو اسم من أسماء الله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} أي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {إِنَّكَ} أي يا محمد {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي على منهج ودين قويم وشرع مستقيم {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به تنزيل من رب العزة الرحيم بعباده المؤمنين, كما قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}.
وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} يعني بهم العرب, فإنه ما أتاهم من نذير من قبله, وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم, كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم, وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . وقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} قال ابن جرير: لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن الله تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بالله ولا يصدقون رسله.
{إِنّا جَعَلْنَا فِيَ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُم مّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ إِنّمَا تُنذِرُ مَنِ اتّبَعَ الذِكْرَ وَخشِيَ الرّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ إِنّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىَ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيَ إِمَامٍ مّبِينٍ}
يقول تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غل, فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه, فارتفع رأسه فصار مقمحاً, ولهذا قال تعالى: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} والمقمح هو الرافع رأسه, كما قالت أم زرع في كلامها: وأشرب فأتقمح, أي أشرب فأروي, وأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً, واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين, كما قال الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي لا يأتليني
فاكتفى بذكر الخير عن الشر, لما دل الكلام والسياق عليه, وهكذا هذا لما كانالغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق, اكتفى بذكر العنق عن اليدين. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} قال: هو كقوله عز وجل: {وَلا(3/680)
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير. وقال مجاهد {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} قال: رافعي رؤوسهم, وأيديهم موضوعة على أفواههم, فهم مغلولون عن كل خير.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} قال مجاهد: عن الحق {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} قال مجاهد: عن الحق فهم يترددون. وقال قتادة: في الضلالات. وقوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} أي أغشينا أبصارهم عن الحق {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه. قال ابن جرير: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} بالعين المهملة من العشا, وهو داء في العين, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان, فهم لا يخلصون إليه, وقرأ {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ثم قال: من منعه الله تعالى لا يستطيع.وقال عكرمة: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً لأفعلن ولأفعلن, فأنزلت {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً - إلى قوله - فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} قال: وكانوا يقولون هذا محمد, فيقول: أين هو أين هو ؟ لا يبصره, رواه ابن جرير.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب قال: قال أبو جهل وهم جلوس: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم, وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن, وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح, ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها. وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب, وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه, فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ - حتى انتهى إلى قوله تعالى - وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته, وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار, فقال: مالكم ؟ قالوا: ننتظر محمداً, قال: قد خرج عليكم فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً, ثم ذهب لحاجته, فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال: وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: "وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه أحدهم".
وقوله تبارك وتعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي فقد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به, وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة, وكما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} {نَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر وهو القرآن العظيم {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أي لذنوبه {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي كثير واسع حسن جميل, كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ثم قال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي يوم القيامة, وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار, الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق, كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
وقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي من الأعمال, وفي قوله تعالى: {وَآثَارَهُمْ} قولان:
(أحدهما): نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم, وآثارهم التي آثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر, كقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها, وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل(3/681)
بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً" رواه مسلم من رواية شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه, وفيه قصة مجتابي النّمار المضريين, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن سليمان الجعفي, عن أبي المحياة يحيى بن يعلى عن عبد الملك بن عمير عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث بطوله, ثم تلا هذه الآية {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} وقد رواه مسلم من رواية أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن المنذر بن جرير عن أبيه فذكره.
وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له, أو صدقة جارية من بعده", وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: سمعت مجاهداً يقول في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قال: ما أورثوا من الضلالة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} يعني ما أثروا, يقول: ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم, فإن كانت خيراً فلهم مثل أجورهم لا ينقص من أجر من عمل به شيئاً, وإن كانت شراً فعليهم مثل أوزارهم ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً, ذكرهما ابن أبي حاتم, وهذا القول هو اختيار البغوي.
(والقول الثاني) أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية, قال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد {مَا قَدَّمُوا} أعمالهم {وَآثَارَهُمْ} قال: خطاهم بأرجلهم, وكذا قال الحسن وقتادة {وَآثَارَهُمْ} يعني خطاهم. وقال قتادة: لو كان الله عز وجل مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار, ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته, فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل. وقد وردت في هذا المعنى أحاديث:
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا أبي, حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, قال: خلت البقاع حول المسجد, فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم: "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد ؟" قالوا: نعم يارسول الله قد أردنا ذلك, فقال صلى الله عليه وسلم: "يا بني سلمة, دياركم تكتب آثاركم, دياركم تكتب آثاركم", وهكذا رواه مسلم من حديث سعيد الجريري وكهمس بن الحسن, كلاهما عن أبي نضرة واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي, عن جابر رضي عنه به.
(الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الوزير الواسطي, حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة, فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد, فنزلت {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تكتب" فلم ينتقلوا, تفرد بإخراجه الترمذي عند تفسيره هذه الآية الكريمة عن محمد بن الوزير به, ثم قال: حسن غريب من حديث الثوري, ورواه ابن جرير عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي, عن ابن المبارك عن سفيان الثوري عن طريف - وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي - عن أبي نضرة به.
وقد روي من غير طريق الثوري فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن زياد الساجي, حدثنا عثمان بن عمر, حدثنا شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة, عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد, فنزلت {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فأقاموا في مكانهم. وحدثنا(3/682)
محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية, والسورة بكمالها مكية, فالله أعلم.
(الحديث الثالث) قال ابن جرير: حدثنا نصر بن علي الجهضمي, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد, فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد,فنزلت {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقالوا: نثبت مكاننا, هكذا رواه, وليس فيه شيء مرفوع. ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل, عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد, فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد, فنزلت {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فثبتوا في منازلهم.
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, قال: توفي رجل في المدينة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم: وقال: "يا ليته مات في غير مولده", فقال رجل من الناس: ولم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا توفي في غير مولده, قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة", ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى وابن ماجه عن حرملة, كلاهما عن ابن وهب عن حيي بن عبد الله به. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا أبو نميلة, حدثنا الحسين عن ثابت قال: مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويداً, فلما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي,فقال: يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب ؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول, بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى, فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب, فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى, والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ, والإمام المبين ههنا هو أم الكتاب, قاله مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وكذا في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر, كما قال عز وجل: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُمَا فَعَزّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوَاْ إِنّآ إِلَيْكُمْ مّرْسَلُونَ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ قَالُواْ رَبّنَا يَعْلَمُ إِنّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَآ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}
ويقول تعالى: واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك {هُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه: إنها مدينة أنطاكية وكان بها ملك يقال له أنطيخس بن أنطيخس وكان يعبد الأصنام, فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل, وهم صادق وصدوق وشلوم, فكذبهم,(3/683)
وهكذا روي عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أنها أنطاكية, وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما سنذكره بعد تمام القصة إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} أي بادروهما بالتكذيب {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قويناهما وشددنا إزرهما برسول ثالث. قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي قال: كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا, واسم الثالث بوليس, والقرية أنطاكية {فَقَالُوا} أي لأهل تلك القرية {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} أي من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له, قاله أبو العالية, وزعم قتادة بن دعامة أنهم كانوا رسل المسيح عليه السلام إلى أهل أنطاكية {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر, فلم لا أوحي إلينا مثلكم ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة, وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة, كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله عز وجل: { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أي استعجبوا من ذلك وأنكروه.
وقوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}. وقوله تعالى حكاية عنهم في قوله جل وعلا: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} ولهذا قال هؤلاء {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين الله يعلم أنا رسله إليكم, ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام, ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار, كقوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} يقولون: إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم, فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة, وإن لم تجيبوا فستعلمون غبّ ذلك, والله أعلم.
{قَالُوَاْ إِنّا تَطَيّرْنَا بِكُمْ لَئِن لّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنّكُمْ وَلَيَمَسّنّكُمْ مّنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طَائِرُكُم مّعَكُمْ أَإِن ذُكّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ}
فعند ذلك قال لهم أهل القرية {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي لم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا. وقال قتادة: يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم. وقال مجاهد: يقولون لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} قال قتادة: بالحجارة. وقال مجاهد: بالشتم {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عقوبة شديدة, فقالت لهم رسلهم {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي مردود عليكم, كقوله تعالى في قوم فرعون {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} وقال قوم صالح {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} وقال قتادة ووهب بن منبه: أي أعمالكم معكم. وقال عز وجل: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} وقوله تعالى: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له, قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا, بل أنتم قوم مسرفون. وقال قتادة: أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا بل أنتم قوم مسرفون.(3/684)
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىَ قَالَ يَقَوْمِ اتّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتّبِعُواْ مَن لاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مّهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرّحْمَنُ بِضُرّ لاّ تُغْنِ عَنّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ إِنّيَ إِذاً لّفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ إِنّيَ آمَنتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ}
قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه: إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم, فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى, أي لينصرهم من قومه, قالوا: وهو حبيب, وكان يعمل الجرير وهو الحبال وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام, وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة. وقال ابن إسحاق عن رجل سماه عن الحكم عن مقسم أو عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: اسم صاحب يس حبيب, وكان الجذام قد أسرع فيه. وقال الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز: كان اسمه حبيب بن سري. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اسم صاحب يس حبيب النجار, فقتله قومه. وقال السدي: كان قصاراً. وقال عمر بن الحكم: كان إسكافاً. وقال قتادة: كان يتعبد في غار هناك, {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} أي على إبلاغ الرسالة وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم المعاد, فيجازيكم على أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} أي هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه لا يملكون من الأمر شيئاً, فإن الله تعالى لو أرادني بسوء {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه, ولا ينقذونني مما أنا فيه {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إن اتخذتها آلهة من دون الله.
وقوله تعالى: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب: يقول لقومه {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} الذي كفرتم به {فَاسْمَعُونِ} أي فاسمعوا قولي ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} أي الذي أرسلكم {فَاسْمَعُونِ} أي فاشهدوا لي بذلك عنده, وقد حكاه ابن جرير فقال: وقال آخرون: بل خاطب بذلك الرسل, وقال لهم: اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي, إني آمنت بربكم واتبعتكم, وهذا القول الذي حكاه عن هؤلاء أظهر في المعنى, والله أعلم. قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب رضي الله عنهما: فلما قال ذلك, وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه, ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون, فلم يزالوا به حتى أقعصوه, وهو يقول كذلك, فقتلوه رحمه الله.
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ قَالَ يَلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السّمَآءِ وَمَا كُنّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}(3/685)
قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود رضي الله عنه, أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره, وقال الله له: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فدخلها فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها. وقال مجاهد: قيل لحبيب النجار: ادخل الجنة, وذلك أنه قتل فوجبت له, فلما رأى الثواب {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً لا تلقاه غاشاً. لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه. وقال ابن عباس: نصح قومه في حياته بقوله {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وبعد مماته في قوله {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} رواه ابن أبي حاتم.
وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بإيماني بربي وتصديقي المرسلين ومقصودة أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم, لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل فرحمه الله ورضي عنه, فلقد كان حريصاً على هداية قومه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبيد الله, حدثنا ابن جابر هو محمد عن عبد الملك يعني ابن عمير قال: قال عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف أن يقتلوك" فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلق" فانطلق, فمر على اللات والعزى, فقال:لأصبحنك غداً بما يسوؤك, فغضبت ثقيف, فقال: يا معشر ثقيف إن اللات لا لات وإن العزى لا عزى, أسلموا تسلموا, يا معشر الأحلاف إن العزى لا عزى وإن اللات لالات, أسلموا تسلموا, قال ذلك ثلاث مرات, فرماه رجل فأصاب أكحله فقتله, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا مثله كمثل صاحب يس" {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار, أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول لله صلى الله عليه وسلم, فجعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول: نعم, ثم يقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع, فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا, ولا تسمع ذاك ؟ فيقول: نعم, فجعل يقطعه عضواً عضواً كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه, فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب: وكان والله صاحب يس اسمه حبيب.
وقوله تبارك وتعالى: { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضباً منه تبارك وتعالى عليهم, لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه, ويذكر عز وجل أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم, بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود فيما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عنه أنه قال في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أي ما كاثرناهم بالجموع, الأمر كان أيسر علينا من ذلك {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قال: فأهلك الله تعالى ذلك الملك الجبار, وأهلك أهل أنطاكية, فبادوا عن وجه الأرض فلم يبق منهم باقية, وقيل {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم, وقيل المعنى في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} أي من رسالة أخرى إليهم, قاله مجاهد وقتادة. قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قال ابن جرير: والأول أصح, لأن الرسالة لا تسمى جنداً. قال المفسرون. بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام, فأخذ بعضادتي باب بلدهم, ثم صاح بهم صيحة واحدة, فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تتردد في جسد وقد(3/686)
تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية, وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, كما نص عليه قتادة وغيره, وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره, وفي ذلك نظر من وجوه:
(أحدها) أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل, لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ - إلى أن قالوا - قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام. والله تعالى أعلم, ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}.
(الثاني) أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم, وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح, ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة, وهن: القدس لأنها بلد المسيح, وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها, والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين, ثم رومية لأنها مدنية الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده, ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها, كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم, كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين, فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت, فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم, والله أعلم.
(الثالث) أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة, وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم, بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين, ذكروه عند قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية, كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة, فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك, والله سبحانه وتعالى أعلم.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني, حدثنا حسين الأشقر, حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى عليه الصلاة والسلام يوشع بن نون, والسابق إلى عيسى عليه الصلاة والسلام صاحب يس, والسابق إلى محمد صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه" فإنه حديث منكر, لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر, وهو شيعي متروك, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
{يَحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ أَنّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ وَإِن كُلّ لّمّا جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أي يا ويل العباد. وقال قتادة {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أي يا حسرة العباد على أنفسهم على ما ضيعت من أمر الله, وفرطت في جنب الله, وفي بعض القراءات: يا حسرة العباد على أنفسهم, ومعنى هذا يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب, كيف كذبوا رسل الله, وخالفوا أمر الله, فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذبون منهم {مَا يَأْتِيهِمْ(3/687)
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي يكذبونه ويستهزئون به ويمجدون ما أرسل به من الحق.
ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل, كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة, ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفجرتهم من قولهم {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} وهم القائلون بالدور من الدهرية, وهم الذين يعتقدون جهلاً منهم أنهم يعودون إلى الدنيا, كما كانوا فيها, فرد الله تبارك وتعالى عليهم باطلهم, فقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ}.
وقوله عز وجل: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله جل وعلا, فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها, ومعنى هذا كقوله جل وعلا: {وَإِنَّ كُلّاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} وقد اختلف القراء في أداء هذا الحرف, فمنهم من قرأ {وإن كلاً لما} بالتخفيف فعنده أن إن للإثبات, ومنهم من شدد {لما} وجعل أن نافية, ولما بمعنى إلا, تقديره وما كل إلا جميع لدينا محضرون, ومعنى القراءتين واحد, والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَآيَةٌ لّهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنّاتٍ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الأزْوَاجَ كُلّهَا مِمّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمّا لاَ يَعْلَمُونَ}
يقول تبارك وتعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ} أي دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} أي إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات, فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء, اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج, ولهذا قال تعالى: {أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أي جعلناه رزقاً لهم ولأنعامهم {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} أي جعلنا فيها أنهاراً سارحة في أمكنة يحتاجون إليها ليأكلوا من ثمره, لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم, عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها.
وقوله جل وعلا: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم لا بسعيهم ولا كدهم ولا بحولهم وقوتهم, قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: ولهذا قال تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى واختار ابن جرير - بل جزم به, ولم يحك غيره إلا احتمالاً - أن {ما} في قوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} بمعنى الذي تقديره ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي غرسوه ونصبوه, قال: وهي كذلك في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ}, ثم قال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} أي من زروع وثمار ونبات {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} فجعلهم ذكراً وأنثى {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي من مخلوقات شتى لا يعرفونها, كما قال جلت عظمته: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
{وَآيَةٌ لّهُمُ الْلّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا هُم مّظْلِمُونَ وَالشّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لّهَا ذَلِكَ(3/688)
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّىَ عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ لاَ الشّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلّيْلُ سَابِقُ النّهَارِ وَكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
يقول تعالى ومن الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى العظيمة, خلق الليل والنهار هذا بظلامه وهذا بضيائه, وجعلهما يتعاقبان يجيء هذا فيذهب هذا, ويذهب هذا فيجيء هذا, كما قال تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} ولهذا قال عز وجل ههنا: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أي نصرمه منه, فيذهب فيقبل الليل, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} كما جاء في الحديث "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس, فقد أفطر الصائم" هذا هو الظاهر من الآية, وزعم قتادة أنها كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} وقد ضعف ابن جرير قول قتادة ههنا, وقال: إنما معنى الإيلاج الأخذ من هذا في هذا, وليس هذا مراداً في هذه الآية, وهذا الذي قاله ابن جرير حق.
وقوله جل جلاله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في معنى قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قولان:
(أحدهما) أن المراد مستقرها المكاني, وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب, وهي أينما كانت فهي تحت العرش هي وجميع المخلوقات, لأنه سقفها, وليس بكرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة, وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة, وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس, فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش, فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام وهو وقت نصف الليل, صارت أبعد ما تكون إلى العرش, فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث.
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم: في المسجد عند غروب الشمس, فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ؟" قلت: الله ورسوله أعلم, قال صلى الله عليه وسلم: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش, فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}".
حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي, حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه: قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تبارك وتعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال صلى الله عليه وسلم: "مستقرها تحت العرش" هكذا أورده ههنا, وقد أخرجه في أماكن متعددة, ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين غربت الشمس, فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس ؟" قلت: الله ورسوله أعلم, قال صلى الله عليه وسلم: "فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل, فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها, وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت, فترجع إلى مطلعها وذلك مستقرها - ثم قرأ - {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ} وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: "أتدري أين تذهب ؟" قلت: الله ورسوله أعلم, قال صلى الله عليه وسلم : "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش, فتستأذن فيؤذن لها, ويوشك أن تسجد, فلا يقبل منها ؟ وتستأذن فلا يؤذن لها, ويقال لها ارجعي من حيث جئت, فتطلع من مغربها, فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما,(3/689)
قال في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: إن الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم, حتى إذا غربت سلمت وسجدت واستأذنت يؤذن لها, حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها, فتقول إن المسير بعيد, وإني إن لا يؤذن لي لا أبلغ فتحبس ما شاء الله أن تحبس, ثم يقال لها اطلعي من حيث غربت, قال: فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل, أو كسبت في إيمانها خيراً. وقيل: المراد بمستقرها هو انتهاء سيرها, وهو غاية ارتفاعها في السماء في الصيف وهو أوجها, ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض.
(والقول الثاني) أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة, يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكور, وينتهي هذا العالم إلى غايته, وهذا هو مستقرها الزماني. قال قتادة {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي لوقتها ولأجل لا تعدوه, وقيل: المراد أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها, ثم تنتقل في مطالع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها, يروى هذا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي لا قرار لها ولا سكون, بل هي سائرة ليلاً ونهاراً, لا تفتر ولا تقف, كما قال تبارك وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} أي الذي لا يخالف ولا يمانع {الْعَلِيمِ} بجميع الحركات والسكنات, وقد قدر ذلك ووقته على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس, كما قال عز وجل: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وهكذا ختم آية حم السجدة بقوله تعالى: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
ثم قال جل وعلا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي جعلناه يسير سيراً آخر يستدل به على مضي الشهور, كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار, كما قال عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} الآية, وقال تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} فجعل الشمس لها ضوء يخصها, والقمر له نور يخصه, وفاوت بين سير هذه وهذا, فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد, ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاء, يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل, ثم يطول الليل ويقصر النهار, وجعل سلطانها بالنهار فهي كوكب نهاري, وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلاً قليل النور, ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة, ثم كلما ارتفع ازداد ضياءً وإن كان مقتبساً من الشمس حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة, ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهو أصل العذق. وقال مجاهد: العرجون القديم أي العذق اليابس يعني ابن عباس رضي الله عنهما أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى, وكذا قال غيرهما, ثم بعد هذا يبديه الله تعالى جديداً أول الشهر الآخر, والعرب تسمي كل ثلاث ليال من الشهر باسم باعتبار القمر, فيسمون الثلاث الأول غرر, واللواتي بعدها نقل واللواتي بعدها تسع, لأن أخراهن التاسعة واللواتي بعهدها عشر, لأن أولاهن العشرة, واللواتي بعدها البيض, لأن ضوء القمر فيهن إلى آخرهن, واللواتي بعدهن درع جمع درعاء, لأن أولهن أسود لتأخر القمر في أولهن منه, ومنه الشاة الدرعاء وهي التي رأسها أسود, وبعدهن ثلاث ظلم, ثم ثلاث حنادس, وثلاث دآدى, وثلاث محاق لانمحاق القمر أو الشهر فيهن. وكان أبو عبيدة رضي الله عنه ينكر التسع والعشر. كذا قال في كتاب غريب المصنف.(3/690)
وقوله تبارك وتعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قال مجاهد: لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه, إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا, وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قال: ذلك ليلة الهلال. وروى ابن أبي حاتم ههنا عن عبد الله بن المبارك أنه قال: إن للريح جناحاً, وإن القمر يأوي إلى غلاف من الماء. وقال الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح: لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا. وقال عكرمة في قوله عز وجل: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يعني أن لكل منهما سلطاناً! فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل.
وقوله تعالى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يقول: لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار, فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل. وقال الضحاك: لا يذهب الليل من ههنا حتى يجيء النهار من ههنا, وأومأ بيده إلى المشرق. وقال مجاهد {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يطلبان حثيثين يسلخ أحدهما من الآخر, والمعنى في هذا أنه لا فترة بين الليل والنهار, بل كان منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ, لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلباً حثيثاً.
وقوله تبارك وتعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يعني الليل والنهار والشمس والقمر, كلهم يسبحون أي يدورون في فلك السماء, قاله ابن عباس وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة وعطاء الخراساني. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: في فلك بين السماء والأرض, ورواه ابن أبي حاتم, وهو غريب جداً بل منكر. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد من السلف: في فلكة كفلكة المغزل. وقال مجاهد: الفلك كحديدة الرحى أو كفلكة المغزل, لا يدور المغزل إلا بها, ولا تدور إلا به.
{وَآيَةٌ لّهُمْ أَنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِن نّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاّ رَحْمَةً مّنّا وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ}
يقول تبارك وتعالى: ودلالة لهم أيضاً على قدرته تبارك وتعالى تسخيره البحر ليحمل السفن, فمن ذلك بل أوله سفينة نوح عليه الصلاة والسلام, التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم عليه الصلاة والسلام غيرهم, ولهذا قال عز وجل: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي آباءهم {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات, التي أمره الله تبارك وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المشحون الموقر, وكذا قال سعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي. وقال الضحاك وقتادة وابن زيد: وهي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام.
وقوله جل وعلا: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني بذلك الإبل, فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها, وكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة في رواية, وعبد الله بن شداد وغيرهم: وقال السدي في رواية: هي الأنعام. وقال ابن جرير: حدثنا الفضل بن الصباح, حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: أتدرون ما قوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قلنا: لا, قال: هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها, وكذا قال أبو مالك والضحاك وقتادة وأبو صالح والسدي أيضاً المراد بقوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أي السفن, ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جل وعلا: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}.
وقوله عز وجل: {وَإِنْ نَشَأْ(3/691)
نُغْرِقْهُمْ} يعني الذين في السفن {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا مغيث لهم مما هم فيه {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} أي مما أصابهم {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} وهذا استثناء منقطع تقديره ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر, ونسلمكم إلى أجل مسمى, ولهذا قال تعالى: {وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} أي إلى وقت معلوم عند الله عز وجل.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}
يقول تعالى مخبراً عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها, وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} قال مجاهد: من الذنوب, وقال غيره بالعكس, {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه, وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه, واكتفى عن ذلك بقوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} أي على التوحيد وصدق الرسل {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها.
وقوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي إذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي عن الذين آمنوا من الفقراء أي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أي هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه, فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في أمركم لنا بذلك. قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفار حين ناظروا المؤمنين وردوا عليهم, فقال لهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وفي هذا نظر, والله أعلم.
{وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىَ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}
يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} قال الله عز وجل: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة, وهذه والله أعلم - نفخة الفزع, ينفخ في الصور نفخة الفزع, والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم, فبينما هم كذلك إذ أمر الله عز وجل إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدها, فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً, وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء, ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم, ولهذا قال تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي على ما يملكونه, الأمر أهم من ذلك {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} وقد وردت ههنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر, ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم, ثم بعد ذلك نفخة البعث.(3/692)
{وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الأجْدَاثِ إِلَىَ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُواْ يَوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
هذه هي النفخة الثالثة, وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور, ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} والنسلان هو المشي السريع كما قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها, فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم, لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد. قال أبي بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والحسن وقتادة: ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة: وذلك بين النفختين, فلذلك يقولون من بعثنا من مرقدنا, فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون, قاله غير واحد من السلف {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وقال الحسن: إنما يجيبهم بذلك الملائكة, ولا منافاة إذ الجمع ممكن, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد: الجميع من قول الكفار {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} نقله ابن جرير, واختار الأول, وهو أصح, وذلك لقوله تبارك وتعالى في الصافات: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وقال الله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
وقوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} كقوله عز وجل: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} وقال جلت عظمته: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} وقال جل جلاله: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} أي إنما نأمرهم أمراً واحداً, فإذا الجميع محضرون {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي من عملها {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{إِنّ أَصْحَابَ الْجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مّا يَدّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ}
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات, فنزلوا في روضات الجنات, أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم. قال الحسن البصري وإسماعيل بن أبي خالد: في شغل عما فيه أهل النار من العذاب. وقال مجاهد {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي في نعيم معجبون أي به, وكذا قال قتادة, وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فاكهون أي فرحون. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار, وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي بسماع الأوتار, وقال أبو حاتم: لعله غلط من(3/693)
المستمع, وإنما هو افتضاض الأبكار.
وقوله عز وجل: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} قال مجاهد: وحلائلهم, {فِي ظِلالٍ} أي في ظلال الأشجار {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والسدي وخصيف {الْأَرَائِكِ} هي السرر تحت الحجال.
(قلت) نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين, والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عز وجل: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي من جميع أنواعها {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى. حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل مشمر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خطر لها, هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ, وريحانه تهتز, وقصر مشيد ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة, ومقام في أبد في دار سلامة, وفاكهة خضرة وخير ونعمة في محلة عالية بهية" قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها, قال صلى الله عليه وسلم: "قولوا إن شاء الله" فقال القوم: إن شاء الله, وكذا رواه ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به.
وقوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال ابن جريج: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجنة, وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما, كقوله تعالى : {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}. وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً, وفي إسناده نظر, فإنه قال: حدثنا موسى بن يوسف, حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب, حدثنا أبو عاصم العباداني, حدثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم, إذ سطع لهم نور, فرفعوا رؤوسهم, فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم, فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة, فذلك قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه, فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم". ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب به.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, حدثنا حرملة عن سليمان بن حميد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: إذا فرغ الله تعالى من أهل الجنة والنار, أقبل في ظلل من الغمام والملائكة, قال: فيسلم على أهل الجنة, فيردون عليه السلام, قال القرظي, وهذا في كتاب الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فيقول الله عز وجل: سلوني, فيقولون: ماذا نسألك أي رب ؟ قال: بلى سلوني, قالوا: نسألك أي رب رضاك, قال: رضائي أحلكم دار كرامتي, قالوا: يا رب فما الذي نسألك, فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم لا ينقصنا ذلك شيئاً. قال تعالى إن لدي مزيداً, قال: فيفعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه, قال: ثم تأتيهم التحف من الله عز وجل, تحملهم إليهم الملائكة, ثم ذكر نحوه. وهذا خبر غريب, أورده ابن جرير من طرق, والله أعلم.
{وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَبَنِيَ آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُواْ الشّيطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ}(3/694)
يقول تعالى مخبراً عما يؤول إليه الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم, كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} وقال عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يصيرون صدعين فرقتين {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}.
وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم, الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين, وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم, ولهذا قال تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان, وأمرتكم بعبادتي, وهذا هو الصراط المستقيم, فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ولهذا قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} يقال: جبلاً بكسر الجيم وتشديد اللام, ويقال جبلاً بضم الجيم والباء وتخفيف اللام, ومنهم من يسكن الباء, والمراد بذلك الخلق الكثير, قاله مجاهد وقتادة والسدي وسفيان بن عيينة.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له, وعدولكم إلى اتباع الشيطان. قال ابن جريج: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة, أمر الله تعالى جهنم, فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} فيتميز الناس ويجثون, وهي التي يقول الله عز وجل: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}".
{هَذِهِ جَهَنّمُ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّرَاطَ فَأَنّىَ يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىَ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ}
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذه التي حذرتكم الرسل, فكذبتموهم {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} كما قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}. وقوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترحوه في الدنيا, ويحلفون ما فعلوه, فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث التميمي, حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا سفيان عن عبيد المكتب عن الفضيل بن عمرو عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فضحك حتى بدت نواجذه, ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ممّ أضحك ؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم , قال صلى الله عليه وسلم: "من مجادلة العبد ربه يوم القيامة, يقول رب ألم(3/695)
تجرني من الظلم ؟ فيقول: بلى, فيقول: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي, فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً, والكرام الكاتبين شهوداً, فيختم على فيه, ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله, ثم يخلى بينه وبين الكلام, فيقول: بعداً لكن وسحقاً, فعنكن كنت أناضل" وقد رواه مسلم والنسائي, كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر, عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي, عن سفيان هو الثوري به. ثم قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي, وهو حديث غريب, والله تعالى أعلم, كذا قال. وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي وهو العقدي عن سفيان.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "إنكم تدعون مفدماً على أفواهكم بالفدام, فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه" , رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به, وقال سفيان بن عيينة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل, قال فيه: " ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت ؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك, وصمت وصليت وتصدقت, ويثني بخير ما استطاع - قال - فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ - قال - فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه, فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي - قال - فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق, وذلك ليعذر من نفسه, وذلك الذي سخط الله تعالى عليه" ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان بن عيينة به بطوله.
ثم قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه, فخذه من الرجل اليسرى" وروى ابن جرير عن محمد بن عوف عن عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن عياش به مثله. وقد جود إسناده الإمام أحمد رحمه الله, فقال: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد الحضرمي عمن حدثه, عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال".
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى هو الأشعري رضي الله عنه: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة, فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه, فيعترف فيقول: نعم أي رب عملت عملت عملت, قال: فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منها, قال: فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً وتبدو حسناته, فود أن الناس كلهم يرونها, ويدعى الكافر والمنافق للحساب, فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ويقول: أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل, فيقول له الملك: أما علمت كذا يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته, فإذا فعل ذلك ختم الله على فيه, قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى, ثم تلا {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
وقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: يقول ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى, فكيف يهتدون ؟ وقال مرة: أعميناهم: وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عمياً يترددون. وقال السدي: يقول ولو نشاء أعمينا أبصارهم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والسدي: فاستبقوا الصراط, يعني الطريق.(3/696)
وقال ابن زيد: يعني بالصراط ههنا الحق, فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} لا يبصرون الحق.
وقوله عز وجل: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أهلكناهم. وقال السدي: يعني لغيرنا خلقهم. وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة. وقال الحسن البصري وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً} أي إلى أمام {وَلا يَرْجِعُونَ} إلى وراء بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون و لا يتأخرون.
{وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره, رد إلى الضعف بعد القوة, والعجز بعد النشاط, كما قال تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} وقال عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} والمراد من هذا - والله أعلم الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال, لا دار دوام واسقرار, ولهذا قال عز وجل: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم, ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة, ثم إلى الشيخوخة ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها, وهي الدار الآخرة.
وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} يقول عز وجل مخبراً عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما علمه الشعر {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي ما هو في طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته, ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه. وقال أبو زرعة الرازي: حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذكره ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب الذي أكله الأسد بالزرقاء.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن هو البصري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
قال أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله, يقول تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وهكذا روى البيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه "أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة
فقال: إنما هو عيينة والأقرع, فقال صلى الله عليه وسلم: "الكل سواء" يعني في المعنى, صلوات الله وسلامه عليه, والله أعلم.
وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم في هذا البيت مناسبة أغرب فيها, حاصلها شرف الأقرع بن حابس على عيينة بن بدر الفزاري لأنه ارتد أيام الصديق رضي الله عنه بخلاف ذاك, والله أعلم, وهكذا روى الأموي في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر وهو يقول: "نفلق هاماً" فيقول الصديق رضي الله عنه متمماً للبيت:
من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وهذا لبعض الشعراء العرب في قصيدة له وهي في الحماسة. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم: حدثنا مغيرة عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل فيه ببيت طرفة:(3/697)
ويأتيك بالأخبار من لم تزود - وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة من طريق إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضاً من حديث المقدام بن شريح بن هانىء عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها كذلك, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أسامة عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ثم قال, ورواه غير زائدة عن سماك عن عطية عن عائشة رضي الله عنها, هذا في شعر طرفة بن العبد في معلقته المشهورة, وهذا المذكور منها أوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت رضي الله عنها: كان أبغض الحديث إليه, غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل ببيت أخي بني قيس, فيجعل أوله آخره, وآخره أوله, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا يا رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي" رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وهذا لفظه. وقال معمر عن قتادة: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت رضي الله عنها: لا. إلا بيت طرفة.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم تزود بالأخبار" فقال أبو بكر: ليس هذا هكذا, فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لست بشاعر ولا ينبغي لي" وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم وكيل المتقي ببغداد, حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير, حدثنا علي بن عمرو الأنصاري, حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً.
تفاءل بما تهوى يكن فلقلّما ... يقال لشيء كان إِلا تحقّقا
سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث فقال: هو منكر, ولم يعرف شيخ الحاكم و لا الضرير, وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه, ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم, فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون:
لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع صلى الله عليه وسلم صوته بقوله أبينا ويمدها, وقد روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً, وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"
لكن قالوا هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر, بل جرى على اللسان من غير قصد إليه, وكذلك ما(3/698)
ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار, فنكبت أصبعه, فقال صلى الله عليه وسلم:
"هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت"
وسيأتي عند قوله تعالى {إِلَّا اللَّمَمَ} إنشاد:
إن تغفر اللهم تغفر جماً ... وأي عبد لك ما ألما
وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له, فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش, ولا كهانة, ولا مفتعل, ولا سحر يؤثر, كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال, وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً, كما رواه أبو داود قال: حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أبالي ما أوتيت إن أنا شربت ترياقاً, أو تعلقت تميمة, أو قلت الشعر من قبل نفسي" تفرد به أبو داود
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بسائغ عنده الشعر ؟ فقالت: قد كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة رضي عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء, ويدع ما بين ذلك: وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي: حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً" انفرد به من هذا الوجه, وإسناده على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا قزعة بن سويد الباهلي عن عاص بن مخلد عن أبي الأشعث الصنعاني (ح) وحدثنا الأشيب, فقال عن أبي عاصم عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة, لم تقبل له صلاة تلك الليلة," وهذا حديث غريب من هذا الوجه, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, والمراد بذلك نظمه لا إنشاده, والله أعلم, على أن الشعر ما هو مشروع, وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام, كحسان بن ثابت رضي الله عنه, وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين, ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب, كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية, ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمن شعره, وكفر قلبه" وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت يقول عقب كل بيت "هيه" يعني يستطعمه, فيزيده من ذلك, وقد روى أبو داود من حديث أبي بن كعب وبريده بن الحصيب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان سحراً, وإن من الشعر حكماً" ولهذا قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ما علمه الله الشعر وما ينبغي له أي وما يصلح له {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي علمناه {إن هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي بيّن واضح جلي لمن تأمله وتدبره, ولهذا قال تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض, كقوله: {لأنذركم به ومن بلغ} وقال جل وعلا: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة, كما قال قتادة: حي(3/699)
القلب حي البصر. وقال الضحاك يعني عاقلاً {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي هو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا خَلَقْنَا لَهُم مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}
يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} قال قتادة: مطيقون, أي جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم, لا تمتنع منهم, بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه, ولو شاء لأقامه وساقه, وذاك ذليل منقاد معه, وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير. وقوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي منها ما يركبون في الأسفار ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} إذا شاؤوا ونحروا واجتزروا {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين {وَمَشَارِبُ} أي من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك, {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره ؟.
{وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى, قال الله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي لا تقدر الآلهة على نصر عابديها بل هي أضعف من ذلك وأقل وأحقر وأدحر, بل لا تقدر على الاستنصار لأنفسها, ولا الإنتقام ممن أرادها بسوء, لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.
وقوله تبارك وتعالى: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} قال مجاهد: يعني عند الحساب يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة عند حساب عابديها, ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم. وقال قتادة {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} يعني الآلهة {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا, وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً, إنما هي أصنام, وهكذا قال الحسن البصري, وهذا القول حسن, وهو اختيار ابن جرير رحمه الله تعالى. وقوله تعالى: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أي تكذيبهم لك وكفرهم بالله {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي نحن نعلم جميع ما هم فيه, وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم على ذلك يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلاً ولا حقيراً ولا صغيراً ولا كبيراً بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديماً وحديثاً.
{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الّذِي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ}(3/700)
قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة: جاء أبي بن خلف لعنه الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم, وهو يفته ويذروه في الهواء, وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم يميتك الله تعالى, ثم يبعثك, ثم يحشرك إلى النار" ونزلت هذه الآيات من آخر يس {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى آخرهن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد, حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا عثمان بن سعيد الزيات عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده, ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا ما بعد أرى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم يميتك الله, ثم يحييك, ثم يدخلك جهنم" قال: ونزلت الآيات من آخر يس, ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير فذكر هو ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما.
وروي من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء عبد الله بن أبي بعظم ففته وذكر نحو ما تقدم, وهذا منكر, لأن السورة مكية وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة, وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أبي بن حلف أو العاص بن وائل أو فيهما, فهي عامة في كل من أنكر البعث, والألف واللام في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ} للجنس يعم كل منكر للبعث {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي أولم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة, فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين, فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين, كما قال عز وجل: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} وقال تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي من نطفة من أخلاط متفرقة, فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته.
كما قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا جرير, حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بصق يوماً في كفه, فوضع عليها أصبعه, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه, حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد, فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟" ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن جرير بن عثمان به, ولهذا قال تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض للأجسام والعظام الرميمة, ونسي نفسه, وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود, فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده, ولهذا قال عز وجل: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها, أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله عنهما: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلاً حضره الموت فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً جزلاً, ثم أوقدوا فيه ناراً حتى إذ أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت, فخذوها فدقوها فذروها في اليم, ففعلوا, فجمعه الله تعالى إليه ثم قال له: لم فعلت ذلك ؟ قال: من خشيتك, فغفر الله عز وجل له" فقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ذلك وكان نباشاً, وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير بألفاظ كثيرة منها أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يذروا نصفه في البر, ونصفه في البحر في يوم رائح,(3/701)
أي كثير الهواء, ففعلوا ذلك, فأمر الله تعالى البحر, فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه, ثم قال له: كن, فإذا هو رجل قائم, فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: مخافتك وأنت أعلم, فما تلافاه أن غفر له.
وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضراً نضراً ذا ثمر وينع, ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً توقد به النار, كذلك هو فعال لما يشاء, قادر على ما يريد لا يمنعه شيء. قال قتادة في قوله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} يقول الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه, وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز, فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد, فيأخذ منه عودين أخضرين, ويقدح أحدهما بالآخر, فتتولد النار من بينهما, كالزناد سواء, وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي المثل: لكل شجر نار واستمجد المرخ والعفار. وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا الغاب.
{أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىَ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ إِنّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
يقول تعالى مخبراً منبهاً على قدرته العظيمة في خلق السموات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع, وما فيه من جبال ورمال وبحار وقفار, وما بين ذلك, ومرشداً إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة, كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقال عز وجل ههنا: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي مثل البشر, فيعيدهم كما بدأهم, قاله ابن جرير: وهذه الآية الكريمة كقوله عز وجل: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال تبارك وتعالى ههنا {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إنما يأمر بالشيء أمراً واحداً لا يحتاج إلى تكرار أو تأكيد:
إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له كن قوله فيكون
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن نمير, حدثنا موسى بن المسيب عن شهر عن عبد الرحمن بن غنْم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يقول: يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت, فاستغفروني أغفر لكم, وكلكم فقير إلا من أغنيت, إني جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء, عطائي كلام وعذابي كلام, إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون".
وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي تنزيه وتقديس وتبرئة من السوء للحي القيوم الذي بيده مقاليد السموات والأرض, وإليه يرجع الأمر كله, وله الخلق والأمر وإليه يرجع العباد يوم المعاد, فيجازي كل عامل بعمله وهو العادل المنعم المتفضل. ومعنى قوله سبحانه وتعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} كقوله عز وجل {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} وكقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} فالملك والملكوت واحد في المعنى كرحمة ورحموت, ورهبة ورهبوت, وجبر وجبروت, ومن الناس من زعم أن الملك(3/702)
هو عالم الأجساد, والملكوت هو عالم الأرواح, والصحيح الأول, وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان, حدثنا حماد عن عبد الملك بن عمير, حدثني ابن عم لحذيفة عن حذيفة وهو ابن اليمان - رضي الله عنه, قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة, فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات, وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه, من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ثم قال: "الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" وكان ركوعه مثل قيامه, وسجوده مثل ركوعه, فأنصرف وقد كادت تنكسر رجلاي. وقد روى أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة مولى الأنصار, عن رجل من بني عبس عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل, وكان يقول: "الله أكبر - ثلاثاً - ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" ثم استفتح فقرأ البقرة, ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه, وكان يقول في ركوعه "سبحان ربي العظيم" ثم رفع رأسه من الركوع, فكان قيامه نحواً من ركوعه وكان يقول في قيامه "لربي الحمد" ثم سجد فكان سجوده نحواً من قيامه, وكان يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى" ثم رفع رأسه من السجود وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده, وكان يقول: "رب اغفر لي, رب اغفر لي" فصلى أربع ركعات فقرأ فيهن البقرة, وآل عمران , والنساء والمائدة أو الأنعام - شك شعبة - هذا لفظ أبي داود وقال النسائي: أبو حمزة عندنا طلحة بن يزيد, وهذا الرجل يشبه أن يكون صلة, كذا قال, والأشبه أن يكون ابن عم حذيفة, كما تقدم في رواية الإمام أحمد, والله أعلم. وأما رواية صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه, فإنها في صحيح مسلم, ولكن ليس فيها ذكر الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب, حدثني معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس عن عاصم بن حميد عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة, فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل, ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ, قال: ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة" ثم سجد بقدر قيامه, ثم قال في سجوده مثل ذلك, ثم قام فقرأ بآل عمران, ثم قرأ سورة سورة, ورواه الترمذي في الشمائل والنسائي من حديث معاوية بن صالح به.
آخر تفسير سورة يس ولله الحمد والمنة(3/703)
المجلد الرابع
سورة الصافات
...
سورة الصافات
وهي مكية
قال النسائي أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد - يعني ابن الحارث - عن ابن أبي ذئب قال أخبرنا الحارث بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات، تفرد به النسائي.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{وَالصّافّاتِ صَفّا فَالزّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتّالِيَاتِ ذِكْراً إِنّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبّ الْمَشَارِقِ}
قال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: {وَالصّافّاتِ صَفّا} وهي الملائكة {فَالزّاجِرَاتِ زَجْراًً} هي الملائكة {فَالتّالِيَاتِ ذِكْراً} هي الملائكة، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس قال قتادة: الملائكة صفوف في السماء. وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعل لنا ترابها طهوراً إذا لم نجد الماء" وقد روى مسلم أيضاً وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟" قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف" وقال السدي وغيره معنى قوله تعالى: {فَالزّاجِرَاتِ زَجْراًً} أنها تزجر السحاب، وقال الربيع بن أنس {فَالزّاجِرَاتِ زَجْراًً} ما زجر الله تعالى عنه في القرآن، وكذا روى مالك عن زيد بن أسلم { فَالزّاجِرَاتِ زَجْراًً } قال السدي الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس وهذه الآية كقوله تعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً}. وقوله عز وجل: {إِنّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لا إله إلا هو رب السموات والأرض {وَمَا بَيْنَهُمَا} أي من المخلوقات {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب ثوابت وسيارات تبدو من المشرق وتغرب من المغرب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه وقد صرح بذلك في قوله عز وجل: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ } وقال تعالى في الآية الأخرى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر.
{إِنّا زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مّارِدٍ لاّ يَسّمّعُونَ إِلَىَ الْمَلإِ الأعْلَىَ وَيُقْذَفُونَ(4/5)
مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}
يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب، قرىء بالإضافة وبالبدل وكلاهما بمعنى واحد فالكواكب السيارة والثوابت يثقب ضوؤها جرم السماء الشفاف فتضيء لأهل الأرض كما قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} وقال عز وجل {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } فقوله جل وعلا ههنا: {وَحِفْظاً} تقديره وحفظناها حفظاً {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} يعني المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ولهذا قال جل جلاله { لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الأَعْلَى} أي لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى وهي السموات ومن فيها من الملائكة إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدرته كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند قوله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ولهذا قال تعالى: {وَيَقْذِفُونَ} أي يرمون { مِنْ كُلِّ جَانِبٍ } أي من كل جهة يقصدون السماء منها { دُحُوراً ً} أي رجماً يدحرون به ويزجرون ويمنعون من الوصول إلى ذلك ويرجمون {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أي في الدار الآخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر كما قال جلت عظمته {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} وقوله تبارك وتعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته ويلقيها الآخر إلى الذي تحته فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه فيذهب بها الأخر إلى الكاهن كما تقدم في الحديث ولهذا قال {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي مستنير. قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان للشياطين مقاعد في السماء قال فكانوا يستمعون الوحي قال وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا ترمى قال فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعاً قال فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشيطان إذا قصد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه قال فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله فقال ما هو إلا من أمر حدث قال قال فبعث جنوده فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة قال وكيع يعني بطن نخلة قال: فرجعوا إلى إبليس فأخبروه فقال هذا الذي حدث، وستأتي إن شاء الله تعالى الأحاديث الواردة مع الآثار في هذا المعنى عند قوله تعالى إخباراً عن الجن أنهم قالوا { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً }.
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَم مّنْ خَلَقْنَآ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاّزِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُوَاْ إِن هَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ }(4/6)
يقول تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقاً هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة ؟ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أم من عددنا فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث ؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا كما قال عز وجل: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ثم بين أنهم خلقوا من شيء ضعيف فقال: { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ } قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك: هو الجيد الذي يلتزق بعضه ببعض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة هو اللزج الجيد، وقال قتادة هو الذي يلزق باليد، وقوله عز وجل: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب وهو إعادة الأجسام بعد فنائها وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم ويسخرون مما تقول لهم من ذلك.
قال قتادة: عجب محمد صلى الله عليه وسلم وسخر ضلاّل بني آدم { وَإِذَا رَأَوْا آيَةً } أي دلالة واضحة على ذلك { يَسْتَسْخِرُونَ } قال مجاهد وقتادة يستهزئون { وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي إن هذا الذي جئت به إلا سحر مبين { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ } يستبعدون ذلك ويكذبون به { قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ } أي قل لهم يا محمد نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تصيرون تراباً وعظاماً وأنتم داخرون أي حقيرون تحت القدرة العظيمة كما قال تبارك وتعالى: { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ }. ثم قال جلت عظمته: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ } أي فإنما هو أمر واحد من الله عز وجل، يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم قياما بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، والله تعالى أعلم.
{وَقَالُواْ يَوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ احْشُرُواْ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنّهُمْ مّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}
يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا، فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم حيث لا ينفعهم الندم { وَقَالُواْ يَوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدّينِ } فتقول لهم الملائكة والمؤمنون { هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } وهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين في الموقف في محشرهم ومنشرهم ولهذا قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } قال النعمان بن بشير رضي الله عنه يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وأبو صالح وأبو العالية وزيد بن أسلم، وقال سفيان الثوري عن سماك عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } قال إخوانهم. وقال شريك عن سماك عن النعمان قال: سمعت عمر يقول { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } قال: أشباههم. قال يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، وقال خصيف عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أزواجهم نساؤهم وهذا غريب والمعروف عنه الأول كما رواه مجاهد(4/7)
وسعيد بن جبير عنه أزواجهم قرناؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم. وقوله تعالى: { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } أي أرشدوهم إلى طريق جهنم وهذا كقوله تعالى: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } وقوله تعالى: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ } أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا كما قال الضحاك عن ابن عباس يعني احبسوهم إنهم محاسبون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا النفيلي حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت ليثاً يحدث عن بشر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفاً معه إلى يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه وإن دعا رجل رجلاً" ثم قرأ { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ } ورواه الترمذي من حديث ليث بن أبي سليم، ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن معتمر عن ليث عن رجل عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً. وقال عبد الله بن المبارك: سمعت عثمان بن زائدة يقول إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ { مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ؟} أي كما زعمتم أنكم جميع منتصر { بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } أي منقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، والله أعلم.
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُوَاْ إِنّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُواْ بَلْ لّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَآ إِنّا لَذَآئِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنّا كُنّا غَاوِينَ فَإِنّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنّهُمْ كَانُوَاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنّا لَتَارِكُوَ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مّجْنُونٍ بَلْ جَآءَ بِالْحَقّ وَصَدّقَ الْمُرْسَلِينَ}
يذكر تعالى أن الكفار يتلاومون في عرصات القيامة كما يتخاصمون في دركات النار { فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وهكذا قالوا لهم ههنا { قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } قال الضحاك عن ابن عباس يقولون كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء، وقال مجاهد يعني عن الحق والكفار تقوله للشياطين. وقال قتادة قالت الإنس للجن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قال من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا عنه، وقال السدي تأتوننا من قبل الحق وتزينوا لنا الباطل وتصدونا عن الحق وقال الحسن في قوله تعالى: { قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } إي والله يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه، وقال ابن زيد معناه تحولون بيننا وبين الخير ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به، وقال يزيد الشرك من قبل لا إله إلا الله وقال(4/8)
خصيف يعنون من قبل ميامنهم، وقال عكرمة { قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } قال من حيث نأمنكم.
وقوله تعالى: { قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } تقول القادة من الجن والإنس للأتباع ما الأمر كما تزعمون بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان قابلة للكفر والعصيان { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه { بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة فلهذا استجبتم لنا وتركتم الحق الذي جاءتكم به الأنبياء وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاؤوكم به فخالفتموه { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } يقول الكبراء للمستضعفين حقت علينا كلمة الله أنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة { فَأَغْوَيْنَاكُمْ } أي دعوناكم إلى الضلالة { إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا، قال الله تبارك وتعالى: { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } أي الجميع في النار كل بحسبه { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا } أي في الدار الدنيا { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون قال ابن أبي حاتم حدثنا عبيد الله بن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا الليث عن ابن مسافر يعني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل" وأنزل الله تعالى في كتابه العزيز وذكر قوماً استكبروا فقال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} وقال ابن أبي حاتم أيضاً حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري عن أبي العلاء قال: يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون نعبد الله وعزيراً فيقال لهم: خذوا ذات الشمال، ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون نعبد الله والمسيح فيقال لهم: خذوا ذات الشمال، ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون ثم يقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون ثم يقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون فيقال لهم خذوا ذات الشمال. قال أبو نضرة فينطلقون أسرع من الطير. قال أبو العلاء ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون كنا نعبد الله تعالى فيقال لهم هل تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون نعم، فيقال لهم فكيف تعرفونه ولم تروه ؟ فيقولون نعلم أنه لا عدل له. قال فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين { وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى تكذيباً لهم ورداً عليهم: { بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق في جميع شرعة الله تعالى له من الأخبار والطلب { وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } أي صدقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة، والمناهج السديدة، وأخبر عن الله تعالى في شرعه وأمره كما أخبروا { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } الآية.
{إِنّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الألِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مّكْرَمُونَ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مّعِينٍ بَيْضَآءَ لَذّةٍ لّلشّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ عِينٌ كَأَنّهُنّ بَيْضٌ مّكْنُونٌ}(4/9)
يقول تعالى مخاطباً للناس: { إِنّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الألِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين كما قال تعالى: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وقال عز وجل: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وقال تعالى: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } وقال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } ولهذا قال جل وعلا ههنا { إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي ليسوا يذوقون العذاب الأليم ولا يناقشون في الحساب بل يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة إلى ما شاء الله تعالى من التضعيف. وقوله جل وعلا: { أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ } قال قتادة والسدي يعني الجنة ثم فسره بقوله تعالى: { فَوَاكِهُ } أي متنوعة { وَهُمْ مُكْرَمُونَ } أي يخدمون ويرفهون وينعمون { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال مجاهد لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى بن عبدك القزويني حدثنا حسان بن حسان حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية { عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ينظر بعضهم إلى بعض حديث غريب. وقوله تعالى: { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ } كما قال عز وجل في الآية الأخرى { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ } نزه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الآفات التي في خمر الدنيا من صداع الرأس ووجع البطن وهو الغول وذهابها بالعقل جملة فقال تعالى ههنا: { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي بخمر من أنهار جارية لا يخافون انقطاعها ولا فراغها قال مالك عن زيد بن أسلم: خمر جارية بيضاء أي لونها مشرق حسن بهي لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم. وقوله عز وجل: { لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي طعمها طيب كلونها وطيب الطعم دليل على طيب الريح بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك وقوله تعالى: { لا فِيهَا غَوْلٌ } يعني لا تؤثر فيها غولاً وهو وجع البطن قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وابن زيد كما تفعله خمر الدنيا من القولنج ونحوه لكثرة مائيتها، وقيل المراد بالغول ههنا صداع الرأس وروي هكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال قتادة هو صداع الرأس ووجع البطن وعنه وعن السدي لا تغتال عقولهم كما قال الشاعر:
فما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
وقال سعيد بن جبير لا مكروه فيها ولا أذى، والصحيح قول مجاهد أنه وجع البطن، وقوله تعالى: { وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ } قال مجاهد لا تذهب عقولهم وكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب والحسن وعطاء بن أبي مسلم الخراساني والسدي وغيرهم وقال الضحاك عن ابن عباس في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال كما ذكر في سورة الصافات وقوله تعالى: { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وزيد بن أسلم وقتادة والسدي وغيرهم. وقوله تبارك وتعالى: { عِينٌ } أي حسان الأعين وقيل ضخام الأعين وهو يرجع إلى الأول وهي النجلاء العيناء فوصف عيونهن بالحسن(4/10)
والعفة كقول زليخا في يوسف عليه الصلاة والسلام حين جملته وأخرجته على تلك النسوة فأعظمنه وأكبرنه وظنن أنه ملك من الملائكة لحسنه وبهاء منظره قالت: { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي وهكذا الحور العين { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }. ولهذا قال عز وجل: { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ } وقوله جل جلاله: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} يقول اللؤلؤ المكنون وينشد ههنا بيت أبي دهبل الشاعر وهو قوله في قصيدة له:
هي زهراء مثل لؤلؤة الغو
...
اص ميزت من جوهر مكنون
قال الحسن: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} يعني محصون لم تمسه الأيدي، وقال السدي: البيض في عشه مكنون وقال سعيد بن جبير { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} يعني بطن البيض وقال عطاء الخراساني هو السحاء الذي يكون بين قشرته العليا ولباب البيضة، وقال السدي { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} يقول بياض البيض حين نزع قشرته واختاره ابن جرير لقوله مكنون قال والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش وتنالها الأيدي بخلاف داخلها والله أعلم. وقال ابن جرير حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثنا محمد بن الفرج الصدفي الدمياطي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: { حُورٌ عِينٌ } قال: "العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر" قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } قال: رقتهن "كرقة الجلدة التي رأسها في داخل البيضة التي تلي القشر وهي الغرقىء". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو غسان النهدي حدثنا عبد السلام بن حرب عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا حزنوا، وأنا شفيعهم إذا حبسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على الله عز وجل ولا فخر، يطوف عليّ ألف خادم كأنهن البيض المكنون - أو اللؤلؤ المكنون " ، والله تعالى أعلم بالصواب.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مّنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مّطّلِعُونَ فَاطّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللّهِ إِن كِدتّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ إِنّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وماذا كانوا يعانون فيها وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } قال مجاهد يعني شيطاناً. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل المشرك يكون(4/11)
له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا، ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ويكون من الإنس فيقول كلاماً تسمعه الأذنان وكلاهما يتعاونان قال الله تعالى: { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } وكل منهما يوسوس كما قال الله عز وجل: { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } ولهذا { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } أي أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء يعني يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد والكفر والعناد، { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } قال مجاهد والسدي لمحاسبون. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي لمجزيون بأعمالنا وكلاهما صحيح قال تعالى: { قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } أي مشرفون يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة { فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وخليد العصري وقتادة والسدي وعطاء الخراساني يعني في وسط الجحيم، وقال الحسن البصري في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد، وقال قتادة ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي، وذكر لنا أن كعب الأحبار قال في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها فازداد شكراً { قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ } يقول المؤمن مخاطباً للكافر والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك { وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } أي ولولا فضل الله عليّ لكنتُ مثلك في سواء الجحيم حيث أنت محضر معك في العذاب ولكنه تفضل عليّ ورحمني فهداني للإيمان وأرشدني إلى توحيده { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } . وقوله تعالى: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } هذا من كلام المؤمن مغبطاً نفسه لما أعطاه الله تعالى من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب ولهذا قال عز وجل: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الظهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله عز وجل: { هَنِيئاً } أي لا يموتون فيها فعندها قالوا: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } وقال الحسن البصري: علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه فقالوا: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } قيل لا { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وقوله جل جلاله { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } قال قتادة هذا من كلام أهل الجنة، وقال ابن جرير هو من كلام الله تعالى ومعناه لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل تدخل في ضمن عموم هذه الآية الكريمة، قال أبو جعفر بن جرير حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن فرات بن ثعلبة النهراني في قوله: { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } قال إن رجلين كانا شريكين فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر ليس عندك حرفة ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك فقاسمه وفارقه ثم إن الرجل اشترى داراً بألف دينار كانت لملك مات فدعا صاحبه فأراه فقال كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار ؟ قال ما أحسنها، فلما خرج قال اللهم إن صاحبي هذا ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة بألف دينار فدعاه وصنع له طعاماً فلما أتاه قال إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار قال ما أحسن(4/12)
هذا فلما انصرف قال يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار ثم دعاه فأراه فقال إني ابتعت هذين البستانين بألفي دينار قال ما أحسن هذا فلما خرج قال يا رب إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار وأنا أسألك بستانين في الجنة فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله داراً تعجبه وإذا بامرأةٍ تطلع يضيء ما تحتها من حسنها ثم أدخله بستانين وشيئاً الله به عليم فقال عند ذلك ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا قال فإنه ذاك ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة، قال فإنه كان لي صاحب يقول أئنك لمن المصدقين قيل له فإنه في الجحيم قال هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم فقال عند ذلك { تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } الآيات قال ابن جرير وهذا يقوي قراءة من قرأ {أئنك أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } بالتشديد، وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الأبار أخبرنا أبو حفص قال سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } قال فقال لي ما ذكرك هذا قلت قرأته آنفاً فأحببت أن أسألك عنه فقال: أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن والأخر كافر فافترقا على ستة آلاف دينار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ثم افترقا فمكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئاً أتجرت في شيء ؟ فقال له المؤمن لا فما صنعت أنت ؟ فقال اشتريت به أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار - قال: فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم، قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال: اللهم إن فلاناً - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ثم يموت غداً ويتركها اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً في الجنة - قال: ثم أصبح فقسمها في المساكين - قال - ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا قال فما صنعت أنت ؟ قال كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها فاشتريت رقيقاً بألف دينار يقومون لي فيها ويعملون لي فيها فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم - قال - فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال اللهم إن فلاناً - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غداً فيتركهم أو يموتون فيتركونه، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف الدينار رقيقاً في الجنة - قال - ثم أصبح فقسمها في المساكين - قال - ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً فلانة قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار فجاءتني بها ومثلها معها فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية فوضعها بين يديه وقال اللهم إن فلاناً - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار فيموت غداً فيتركها أو تموت غداً فتتركه اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء في الجنة - قال - ثم أصبح فقسمها بين المساكين - قال - فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال فلبس قميصاً من قطن وكساء من صوف ثم أخذ مراً فجعله على رقبته يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته.(4/13)
قال فجاءه رجل فقال له يا عبد الله أتؤاجرني نفسك مشاهرة شهراً بشهر تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سرقينها قال أفعل قال فواجره نفسه مشاهرة شهراً بشهر يقوم على دوابه، قال وكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه فإذا رأى منها دابة ضامرة أخذ برأسه فوجأ عنقه ثم يقول له سرقت شعير هذه البارحة قال فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال لآتين شريكي الكافر فلأعملن في أرضه فليطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا، قال فانطلق يريده فانتهى إلى بابه وهو ممس فإذا قصر مشيد في السماء وإذا حوله البوابون فقال لهم استأذنوا لي على صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له انطلق إن كنت صادقاً فنم في ناحية فإذا أصبحت فتعرض له. قال فانطلق المؤمن فألقى نصف كسائه تحته ونصفه فوقه ثم نام فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له فخرج شريكه الكافر وهو راكب فلما رآه عرفه فوقف وسلم عليه وصافحه ثم قال له ألم تأخذ المال مثل ما أخذت ؟ قال بلى قال وهذه حالي وهذه حالك ؟ قال بلى قال أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال لا تسألني عنه، قال فما جاء بك ؟ قال جئت أعمل في أرضك هذه فتطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا، قال لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ولكن لا ترى مني خيراً حتى تخبرني ما صنعت في مالك قال أقرضته قال من ؟ قال المليء الوفي قال من ؟ قال الله ربي قال وهو مصافحه فانتزع يده من يده ثم قال { أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } قال السدي محاسبون قال فانطلق الكافر وتركه، قال فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان ويعيش الكافر في رخاء من الزمان قال فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول لمن هذا ؟ فيقال هذا لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ قال ثم يمر فإذ هو برقيق لا تحصى عدتهم فيقول لمن هذا ؟ فيقال هؤلاء لك، فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا، قال ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء فيقول لمن هذه فيقال هذه لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا، قال ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول: { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } قال فالجنة عالية والنار هاوية قال فيريه الله تعالى شريكه في وسط الجحيم من بين أهل النار فإذا رآه المؤمن عرفه فيقول: { تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } بمثل ما قد منّ عليه. قال فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت.
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزّقّومِ إِنّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لّلظّالِمِينَ إِنّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيَ أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ فَإِنّهُمْ لآكلون مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمّ إِنّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمّ إِنّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلّينَ فَهُمْ عَلَىَ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}(4/14)
يقول الله تعالى أهذا الذي ذكره من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ خير ضيافة وعطاء { أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } أي التي في جهنم وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك شجرة واحدة معينة كما قال بعضهم إنها شجرة تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها منها غصن، وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر يقال له الزقوم كقوله تعالى: { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ } يعني الزيتونة ويؤيد ذلك قوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ } وقوله عز وجل: { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ } قال قتادة ذكرت شجرة الزقوم فافتتن بها أهل الضلالة وقالوا صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله تعالى: { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } غذيت من النار ومنها خلقت. وقال مجاهد { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ } قال أبو جهل لعنه الله: إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه. قلت ومعنى الآية إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختباراً نختبر به الناس من يصدق منهم ممن يكذب كقوله تبارك وتعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً } . وقوله تعالى: { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } أي أصل منبتها في قرار النار { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } تبشيع لها وتكريه لذكرها. قال وهب بن منبه شعور الشياطين قائمة إلى السماء، وإنما شبهها برؤوس الشياطين وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر، وقيل المراد بذلك ضرب من الحيات رؤوسها بشعة المنظر، وقيل جنس من النبات طلعه في غاية الفحاشة وفي هذين الاحتمالين نظر، وقد ذكرهما ابن جرير والأول أقوى وأولى، والله أعلم. وقوله تعالى: { فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } . ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها ولا أقبح من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها لأنهم لا يجدون إلا إياها وما هو في معناها كما قال تعالى: { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } وقال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا أبي حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال: "اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه ؟" ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شرب الحميم على الزقوم، وقال في رواية عنه شوباً من حميم، مزجاً من حميم، وقال غيره يمزج لهم الحميم بصديد وغساق مما يسيل من فروجهم وعيونهم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو وأخبرني عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "يقرب - يعني إلى أهل النار - ماء فيتركه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فيه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره" وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر وهارون بن عنترة عن سعيد بن جبير قال إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم فيمشون تسيل أمعاؤهم وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعو بالثبور. وقوله عز(4/15)
وجل: { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ } أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وجحيم تتوقد وسعير تتوهج فتارة في هذا وتارة في هذا كما قال تعالى: { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } هكذا تلا قتادة هذه الآية وهو تفسير حسن قوي، وقال السدي في قراءة عبد الله رضي الله عنه {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم} وكان عبد الله رضي الله عنه يقول والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ثم قرأ { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } وروى الثوري عن ميسرة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء قال سفيان أراه ثم قرأ { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم قلت على هذا التفسير تكون ثم عاطفة لخبر على خبر. وقوله تعالى: { إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } أي إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان، ولهذا قال: { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } قال مجاهد شبيهة بالهرولة، وقال سعيد بن جبير يسفهون.
{وَلَقَدْ ضَلّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مّنذِرِينَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ}
يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى، وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ينذرون بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به وعبد غيره وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلك المكذبين ودمرهم ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم ولهذا قال تعالى: { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } .
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ عَلَىَ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمّ أَغْرَقْنَا الآخرين}
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلاً فذكر نوحاً عليه الصلاة والسلام وما لقي من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، فغضب الله تعالى لغضبه عليهم، ولهذا قال عز وجل: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } أي فلنعم المجيبون له { وَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وهو التكذيب والأذى {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام، وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال سام وحام ويافث وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم" ورواه الترمذي(4/16)
عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة به، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر، وقد روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، والمراد بالروم ههنا هم الروم الأول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة: سام ويافث وحام، وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وولد حام القبط والسودان والبربر،وروي عن وهب بن منبه نحو هذا والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما يذكر بخير، وقال مجاهد يعني لسان صدق للأنبياء كلهم، وقال قتادة والسدي أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. وقال الضحاك السلام والثناء الحسن، وقوله تعالى: { سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } مفسر لما أبقى عليه الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى ونجعل له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك ثم قال تعالى: { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } أي المصدقين الموحدين الموقنين { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } أي أهلكناهم فلم يبق منهم عين تطرف ولا ذكر ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.
{وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما { وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } يقول من أهل دينه، وقال مجاهد على منهاجه وسنته { إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن عوف قلت لمحمد بن سيرين ما القلب السليم ؟ قال يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وقال الحسن: سليم من الشرك وقال عروة لا يكون لعاناً.
وقوله تعالى: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد ولهذا قال عز وجل { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } قال قتادة يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم معه غيره.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النّجُومِ فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ فَتَوَلّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَىَ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوَاْ إِلَيْهِ يَزِفّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ}(4/17)
إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها فقال لهم كلاماً هو حق في نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه { فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } قال قتادة والعرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم، يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يلهيهم به فقال { إِنِّي سَقِيمٌ } أي ضعيف، فأما الحديث الذي رواه ابن جرير ههنا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثني هشام عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله تعالى، قوله { إِنِّي سَقِيمٌ } وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وقوله في سارة هي أختي" فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا ولما، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب" وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم عليه الصلاة والسلام الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله تعالى: { فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } وقال { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي. قال سفيان في قوله { إِنِّي سَقِيمٌ } يعني طعين وكانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلو بآلهتهم، وكذا قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فنظر نظرة في النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } فقالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج فقال إني مطعون فتركوه مخافة الطاعون. وقال قتادة عن سعيد بن المسيب رأى نجماً طلع فقال { إِنِّي سَقِيمٌ } كابد نبي الله عن دينه { فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } . وقال آخرون { فَقَالَ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } بالنسبة إلى ما يستقبل يعني مرض الموت، وقيل أراد { إِنِّي سَقِيمٌ } أي مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى، وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج فاضطجع على ظهره وقال { إِنِّي سَقِيمٌ } وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. ورواه ابن أبي حاتم، ولهذا قال تعالى: { فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعة واختفاء { َقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ؟} وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتبارك لهم فيه. وقال السدي: دخل إبراهيم عليه السلام إلى بيت الآلهة فإذا هم في بهو عظيم وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً ووضعوه بين أيدي الآلهة وقالوا إذا كان حين نرجع وقد باركت الآلهة في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيديهم من الطعام قال { أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ } وقوله تعالى: { فَراغ عليهم ضرباً باليمين} قال الفراء معناه مال عليهم ضرباً باليمين. وقال قتادة والجوهري فأقبل عليهم ضرباً باليمين. وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ولهذا تركهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون كما تقدم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك. وقوله تعالى ههنا: { فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } قال مجاهد وغير واحد أي يسرعون، وهذه القصة ههنا مختصرة وفي سورة الأنبياء مبسوطة فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا فعرفوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } يحتمل أن تكون ما مصدرية فيكون تقدير الكلام خلقكم وعملكم ويحتمل أن(4/18)
تكون بمعنى الذي تقديره والله خلقكم والذي تعملونه وكلا القولين متلازم، والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن علي بن المديني عن مروان بن معاوية عن أبي مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً قال: "إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته" وقرأ بعضهم { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر فقالوا { ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ } وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونجاه الله من النار وأظهره عليهم وأعلى حجته ونصرها ولهذا قال تعالى: { فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } .
{وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَىَ رَبّي سَيَهْدِينِ رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينِ فَبَشّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَبُنَيّ إِنّيَ أَرَىَ فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىَ قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَآ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىَ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرّيّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ}
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه بعد ما نصره الله تعالى على قومه وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وقال { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } يعني أولاداً مطيعين عوضاً من قومه وعشيرته الذين فارقهم، قال الله تعالى: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة أخرى بكره فأقحموا ههنا كذباً وبهتاناً إسحاق ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابه وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب فحسدوهم فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى مكة وهو تأويل وتحريف باطل فإنه لا يقال وحيدك إلا لمن ليس له غيره، وأيضاً فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضاً وليس ذلك في كتاب ولا سنة وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مسلم من غير حجة وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بغلام حليم وذكر أنه الذبيح ثم قال بعد ذلك { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } .(4/19)
وقال تعالى: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } أي يولد له في حياتهم ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير لأن الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً وإسماعيل وصف ههنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام ؟ وقوله تعالى: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران وينظر في أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعاً إلى هناك والله أعلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وسعيد ين جبير وعطاء الخراساني وزيد بن أسلم وغيرهم { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } بمعنى شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} قال عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا هذه الآية { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } . وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو عبد الملك الكرندي حدثنا سفيان بن عيينة عن إسرائيل بن يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا الأنبياء في المنام وحي" ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي امض لما أمرك الله من ذبحي { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ولهذا قال الله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً} . وقال تعالى: { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد شهادة الموت وقيل أسلما يعني استسلما وانقادا، إبراهيم امتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله ولأبيه قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن إسحاق وغيرهم ومعنى تله للجبين أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أكبّه على وجهه. وقال الإمام أحمد حدثنا سريج ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم ذهب به جبريل عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ثم تله للجبين وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض فقال يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه {أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين قال ابن عباس لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش، وذكر هشام الحديث في المناسك بطوله. ثم رواه أحمد بطوله من يونس عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره إلا أنه قال إسحاق فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تسمية الذبيح روايتان والأظهر عنه إسماعيل لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن قتادة عن جعفر بن إياس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال خرج عليه كبش من الجنة قد رعى قبل ذلك أربعين خريفاً فأرسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابنه(4/20)
واتبع الكبش فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء إلى الجمرة الوسطى فأخرجه عندها فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه فو الذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزابِ الكعبة حتى وحش يعني يبس. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرنا القاسم قال اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فجعل كعب يحدث عن الكتب فقال أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" فقال له كعب أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم قال فداك أبي وأمي - أو فداه أبي وأمي - أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟ إنه لما أري ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً فخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بابنه ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت غدا به لبعض حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه ؟ قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك، قال لبعض حاجته قال فإنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني ؟ قال يزعم أن ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين غدوت بابنك، قال لحاجة قال فإنك لم تغد به لحاجة وإنما غدوت به لتذبحه قال ولم أذبحه ؟ قال تزعم أن ربك أمرك بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمرني بذلك لأفعلن قال فتركه ويئس أن يطاع وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن يونس عن ابن يزيد عن ابن شهاب قال إن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن كعباً قال لأبي هريرة فذكره بطوله وقال في آخره وأوحى الله تعالى إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة استجبت لك فيها قال إسحاق اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تبارك وتعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي وبين أن يجيب شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له يا إسحاق سل تعط فقال أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بك شيئاً فاغفر له وأدخله الجنة" هذا حديث غريب منكر وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مدرجة وهي قوله إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق إلى آخره والله أعلم فهذا إن كان محفوظاً فالأشبه أن السياق إنما هو عن إسماعيل وإنما حرفوه بإسحاق حسداً منهم كما تقدم وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة حيث كان إسماعيل لا إسحاق فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام. وقوله تعالى: { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } أي قد حصل المقصود من رؤياك واضجاعك ولدك للذبح وذكر السدي وغيره أنه أمرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } . وقوله تعالى: { إِنَّا كَذَلِكَ(4/21)
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً} وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل خلافاً لطائفة من المعتزلة والدلالة من هذه ظاهرة لأن الله تعالى شرع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء وإنما كان المقصود من شرعه أولاً إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ولهذا قال تعالى: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك مستسلماً لأمر الله تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }. وقوله تعالى: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة قال أبو الطفيل: وجدوه مربوطاً بسمرة في ثبير، وقال الثوري أيضاً عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا داود العطار عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسحاق ابنه هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فكان مخزوناً حتى فدي به إسحاق وروي أيضاً عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى فدي به إسحاق، وروي أيضاً عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى شقق عنه ثبير وكان عليه عهن أحمر، وعن الحسن البصري أنه قال كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير وقال ابن جريج قال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام وقال مجاهد ذبحه بمنى عند المنحر. وقال هشيم عن سيار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما كان أفتى الذي جعل عليه نذراً أن ينحر نفسه فأمره بمائة من الإبل. ثم قال بعد ذلك لو كنت أفتيه بكبش لأجزأه أن يذبح كبشاً فإن الله تعالى قال في كتابه: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فُدي بكبش. وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال وعل وقال محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير. وقد قال الإمام أحمد حدثنا سفيان حدثني منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنه، وقالت مرة أنها سألت عثمان لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي" قال سفيان لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإن قريشاً توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفاً عن سلف وجيلاً بعد جيل إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
(فصل) في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو
(ذكر من قال هو إسحاق عليه الصلاة والسلام) قال حمزة الزيات عن أبي ميسرة رحمه الله قال: قال يوسف عليه الصلاة والسلام للملك في وجهه ترغب أن تأكل معي وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، وقال الثوري عن أبي سنان عن ابن أبي الهذيل أن يوسف عليه(4/22)
السلام قال للملك كذلك أيضاً وقال سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب يقولون بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فبم قالوا ذلك ؟ قال: "إن إبراهيم لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن". وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال افتخر رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال: أنا فلان بن فلان بن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله. وهذا صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكذا روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق، وعن أبيه العباس وعن علي بن أبي طالب مثل ذلك، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبو ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن أبي برزة ومكحول وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبو الهذيل وابن سابط وهذا اختيار ابن جرير، وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق، وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن أبي سفيان ابن العلاء بن حارثة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار أنه قال هو إسحاق وهذه الأقوال والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً فربما استمع له عمر رضي الله عنه فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه الأمة والله أعلم حاجة إلى حرف واحد مما عنده وقد حكى البغوي القول بأنه إسحاق عن عمر وعلي وابن مسعود والعباس رضي الله عنهم ومن التابعين عن كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي قال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد ورد في ذلك حديث لو ثبت لقلنا به على الرأس و العين ولكن لم يصح سنده. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال هو إسحاق ففي إسناده ضعيفان وهما الحسن بن دينار البصري متروك وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحديث. وقد رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان به مرفوعاً، ثم قال قد رواه مبارك بن فضالة عن الحسن عن الأحنف عن العباس رضي الله عنه وهذا أشبه وأصح والله أعلم.
(ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به) قد تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم وقال سعيد بن جبير وعامر الشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال المفدى إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود، وقال إسرائيل عن ثور عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الذبيح إسماعيل وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد هو إسماعيل عليه السلام وكذا قال يوسف بن مهران وقال الشعبي هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل عليه(4/23)
السلام قال ابن إسحاق وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال الله تعالى: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } ويقول الله تعالى: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه الموعد بما وعده وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيراً، وقال ابن إسحاق عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه وكان يرى أنه من علمائهم فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك قال محمد بن كعب وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر أي ابني إبراهيم أمر بذبحه فقال إسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لكون إسحاق أباهم والله أعلم أيهما كان وكل قد كان طاهراً طيباً مطيعاً لله عز وجل وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سألت أبي عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق فقال إسماعيل ذكره في كتاب الزهد. وقال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا الذبيح إسماعيل. وقال البغوي في تفسيره وإليه ذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب والسدي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن ابن عباس وحكاه أيضاً عن أبي عمرو بن العلاء وقد روى ابن جرير في ذلك حديثاً غريباً فقال حدثني محمد بن عمار الرازي حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي عن عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه حدثني عبد الله بن سعيد عن الصنابحي قال كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق فقال على الخبير سقطتم: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يا أمير المؤمنين وما الذبيحان ؟ فقال إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله له أمرها عليه ليذبحن أحد ولده قال فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل. وهذا حديث غريب جداً وقد رواه الأموي في مغازيه حدثنا بعض أصحابنا أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن القرشي حدثنا عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا الصنابحي قال حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق وذكره، كذا كتبته من نسخة مغلوطة وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي أي العمل، ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضاً قال وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام قال وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك هذا ما اعتمد عليه في تفسيره وليس ما ذهب(4/24)
إليه بمذهب ولا لازم بل هو بعيد جداً والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى والله أعلم. وقوله تعالى: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر، وقوله تعالى: { نَبِيّاً } حال مقدرة أي سيصير منه نبي صالح. وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما الذبيح إسحاق قال وقوله تعالى: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } قال بشر بنبوته قال وقوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } قال كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته. وحدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت داود يحدث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } قال إنما بشر به نبياً حين فداه الله عز وجل من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان الثوري عن داود عن عكرمة عن ابن عباس { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } قال بشر به حين ولد وحين نبىء وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } قال بعد ما كان من أمره لما جاد لله تعالى بنفسه وقال الله عز وجل { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } وقوله تعالى: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } كقوله تعالى: { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
{وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَىَ مُوسَىَ وَهَارُونَ وَنَجّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الاَخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىَ مُوسَىَ وَهَارُونَ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
يذكر تعالى ما أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قوم فرعون وقومه وما كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة من قتل الأبناء واستحياء النساء واستعمالهم في أخس الأشياء ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم وأقر أعينهم منهم فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم ثم أنزل الله عز وجل على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين وهو التوراة كما قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً } وقال عز وجل ههنا: { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي في الأقوال والأفعال { وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ } أي أبقينا لهما من بعدهما ذكراً جميلاً وثناء حسناً ثم فسره بقوله تعالى: { سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }.
{وَإِنّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللّهَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ فَكَذّبُوهُ فَإِنّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىَ إِلْ يَاسِينَ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا(4/25)
الْمُؤْمِنِينَ}
قال قتادة ومحمد بن إسحاق يقال إلياس هو إدريس، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إلياس هو إدريس، وكذا قال الضحاك وقال وهب بن منبه هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران بعثه الله تعالى في بني إسرائيل بعد حزقيل عليهما السلام وكانوا قد عبدوا صنماً يقال له بعل فدعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن عبادة ما سواه، وكان قد آمن به ملكهم ثم ارتد واستمروا على ضلالتهم ولم يؤمن به منهم أحد فدعا الله عليهم فحبس عنهم القطر ثلاث سنين ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعدوه الإيمان به إن هم أصابهم المطر، فدعا الله تعالى لهم فجاءهم الغيث فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر فسأل الله أن يقبضه إليه، وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب عليهما الصلاة والسلام فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا فمهما جاءه فليركبه ولا يهبه فجاءته فرس من نار فركب وألبسه الله تعالى النور وكساه الريش وكان يطير مع الملائكة ملكاً إنسياً سماوياً أرضياً هكذا حكاه وهب بن منبه عن أهل الكتاب والله أعلم بصحته { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ } أي ألا تخافون الله عز وجل في عبادتكم غيره { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي بعلاً يعني رباً. قال عكرمة وقتادة وهي لغة أهل اليمن، وفي رواية عن قتادة والسدي بعلاً يعني رباً. قال عكرمة وقتادة وهي لغة أهل اليمن، وفي رواية عن قتادة قال: وهي لغة أزد شنوءة. وقال ابن إسحاق أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق، وقال الضحاك هو صنم كانوا يعبدونه. وقوله تعالى: { أَتَدْعُونَ بَعْلاً} أي أتعبدون صنماً { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، قال الله تعالى: { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي للعذاب يوم الحساب { إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي الموحدين منهم وهذا استثناء منقطع من مثبت. وقوله تعالى: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي ثناء جميلاً { سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } كما يقال في إسماعيل إسماعين وهي لغة بني أسد، وأنشد بعض بني نمير في ضب صاده:
يقول رب السوق لما جينا ... هذا ورب البيت إسرائينا
ويقال ميكال وميكائين وإبراهيم وإبراهام وإسرائيل وإسرائين وطور سيناء وطور سينين وهو موضع واحد وكل هذا سائغ وقرأ آخرون {سلام على إدراسين} وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، وقرأ آخرون {سلام على آل ياسين} يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } قد تقدم تفسيره، والله أعلم.
{وَإِنّ لُوطاً لّمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ثُمّ دَمّرْنَا الآخرين وَإِنّكُمْ لّتَمُرّونَ عَلَيْهِمْ مّصْبِحِينَ وَبِالْلّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه بعثه إلى قومه فكذبوه فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلاً ونهاراً(4/26)
ولهذا قال تعالى: { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها.
{وَإِنّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىَ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُواْ فَمَتّعْنَاهُمْ إِلَىَ حِينٍ}
قد تقدمت قصة يونس عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" ونسبه إلى أمه وفي رواية إلى أبيه. وقوله تعالى: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الموقر أي المملوء بالأمتعة { فَسَاهَمَ } أي قارع { فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } أي المغلوبين، وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل جانب وأشرفوا على الغرق فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقي في البحر لتخف بهم السفينة فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات وهم يضنون به أن يلقى من بينهم فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك، وأمر الله تعالى حوتاً من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عليه السلام فلا يهشم له لحماً ولا يكسر له عظماً فجاء ذلك الحوت وألقى يونس عليه السلام نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها. ولما استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي فقام فصلى في بطن الحوت، وكان من جملة دعائه يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس، واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت فقيل ثلاثة أيام قاله قتادة. وقيل سبعة قاله جعفر الصادق رضي الله عنه، وقيل أربعين يوماً قاله أبو مالك. وقال مجاهد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية، والله تعالى أعلم بمقدار ذلك، وفي شعر أمية بن أبي الصلت:
وأنت بفضل منك نجيت يونسا ... وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وقوله تعالى: { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء قاله الضحاك بن قيس وأبو العالية ووهب بن منبه وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير، وقد ورد في الحديث الذي سنورده إن شاء الله تعالى ما يدل على ذلك إن صح الخبر، وفي حديث ابن عباس "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" . وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء بن السائب والسدي والحسن وقتادة { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } يعني المصلين، وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك، وقال بعضهم كان من المسبحين في جوف أبويه، وقيل المراد { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } هو قوله عز وجل { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } قاله سعيد بن جبير وغيره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه - ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت فقال اللهم لا إله إلا أنت(4/27)
سبحانك إني كنت من الظالمين، فأقبلت الدعوة تحف بالعرش، قالت الملائكة يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة فقال الله تعالى أما تعرفون ذلك ؟ قالوا يا رب ومن هو ؟ قال عز وجل عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة قالوا يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء، قال بلى فأمر الحوت فطرحه بالعراء" ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به، زاد ابن أبي حاتم قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: طرح بالعراء وأنبت الله عز وجل عليه اليقطينة قلنا يا أبا هريرة وما اليقطينة، قال شجرة الدباء. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من حشائش الأرض - قال فتتفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتاً من شعره وهو:
فأنبت يقطيناً عليه برحمة ... من الله لولا الله ألقى ضاحيا
وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسنداً مرفوعاً في تفسير سورة الأنبياء، ولهذا قال تعالى: { فَنَبَذْنَاهُ } أي ألقيناه { بِالْعَرَاءِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وهو الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء قيل على جانب دجلة وقيل بأرض اليمن فالله أعلم { وَهُوَ سَقِيمٌ } أي ضعيف البدن، قال ابن مسعود رضي الله عنه كهيئة الفرخ ليس عليه ريش، وقال السدي كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوس وقاله ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد أيضاً { وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاوس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد قالوا كلهم: اليقطين هو القرع. وقال هشيم عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير وكل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين وفي رواية عنه كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين، وذكر بعضهم في القرع فوائد منها سرعة نباته وتظليل ورقه لكبره ونعومته وأنه لا يقربها الذباب وجودة تغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً بلبه وقشره أيضاً وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء ويتتبعه من نواحي الصحفة. وقوله تعالى: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُون } روى شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بعد ما نبذه الحوت، رواه ابن جرير حدثني الحارث حدثنا أبو هلال عن شهر به، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت (قلت): ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولاً أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت فصدقوه كلهم وآمنوا به، وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون وقوله تعالى: { أَوْ يَزِيدُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه: بل يزيدون وكانوا مائة وثلاثين ألفاً وعنه مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفاً وعنه مائة ألف وبضعة وأربعين ألفاً والله أعلم، وقال سعيد بن جبير يزيدون سبعين ألفاً. وقال مكحول كانوا مائة ألف وعشرة آلاف رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال سمعت زهيراً يحدث عمن سمع أبا العالية يقول حدثني أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } قال: "يزيدون عشرين ألفاً" ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن الوليد بن مسلم عن زهير عن رجل عن(4/28)
أبي العالية عن أبي بن كعب به وقال غريب. ورواه ابن أبي حاتم من حديث زهير به. قال ابن جرير: وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك معناه إلى المائة الألف أو كانوا يزيدون عندكم، يقول كذلك كانوا عندكم ولهذا سلك ابن جرير ههنا ما سلكه عند قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } وقوله تعالى: { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ } وقوله تعالى: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد وقوله تعالى: { فَآمِنُوا } أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام جميعهم { فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي إلى وقت آجالهم كقوله جلت عظمته { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } .
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنّهُم مّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللّهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَىَ الْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنّةُ إِنّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ}
يقول تعالى منكراً على هؤلاء المشركين في جعلهم لله تعالى البنات سبحانه ولهم ما يشتهون أي من الذكور أي يودون لأنفسهم الجيد { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } أي يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه إلا البنين، يقول عز وجل فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم ولهذا قال تعالى: { فَاسْتَفْتِهِمْ } أي سلهم على سبيل الإنكار عليهم { أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } كقوله عز وجل: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى }. وقوله تبارك وتعالى: { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم كقوله جل وعلا { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ } أي يسألون عن ذلك يوم القيامة. وقوله جلت عظمته: { أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ } أي من كذبهم { لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ } أي صدر منه الولد { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فذكر الله تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب، فأولاً جعلوهم بنات الله فجعلوا لله ولداً تعالى وتقدس، وجعلوا ذلك الولد أنثى ثم عبدوهم من دون الله تعالى وتقدس وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم. ثم قال تعالى منكراً عليهم { أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } أيْ أيّ شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين كقوله عز وجل: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } ولهذا قال تبارك وتعالى: { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي مالكم عقول تتدبرون بها ما تقولون { أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } أي حجة على ما تقولونه، { فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي هاتوا برهاناً على ذلك يكون مستنداً إلى كتاب منزل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل بل لا يجوزه العقل بالكلية. وقوله تعالى: { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } قال مجاهد: قال المشركون الملائكة بنات الله تعالى فقال أبو بكر(4/29)
رضي الله عنه فمن أمهاتهن، قالوا بنات سروات الجن وكذا قال قتادة وابن زيد ولهذا قال تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } أي الذين نسبوا إليهم ذلك { إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي إن الذين قالوا ذلك لمحضرون في العذاب يوم الحساب لكذبهم في ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } قال زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، حكاه ابن جرير. وقوله جلت عظمته: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد وعما يصفه به الظالمون الملحدون علواً كبيراً. قوله تعالى: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } استثناء منقطع وهو من مثبت إلا أن يكون الضمير قوله تعالى: { عَمَّا يَصِفُونَ } عائد إلى الناس جميعهم ثم استثنى منهم المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي مرسل، وجعل ابن جرير هذا الاستثناء من قوله تعالى: { فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إلا عباد الله المخلصين} وفي هذا الذي قاله نظر والله سبحانه وتعالى أعلم.
{فَإِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنّآ إِلاّ لَهُ مَقَامٌ مّعْلُومٌ وَإِنّا لَنَحْنُ الصّآفّونَ وَإِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأوّلِينَ لَكُنّا عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
يقول تعالى مخاطباً للمشركين: { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذرىء للنار { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة كما قال تبارك وتعالى: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل، ثم قال تبارك وتعالى منزهاً للملائكة مما نسبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } أي له موضع مخصوص في السموات ومقامات العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه. وقال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد عن أبيه وكان بايع يوم الفتح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لجلسائه: "أطّت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد" ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } وقال الضحاك في تفسيره { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } قال كان مسروق يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم" فذلك قوله تعالى: { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ }.
وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن مسروق عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن في السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } وكذا قال سعيد بن جبير وقال قتادة كانوا يصلون الرجال والنساء جميعاً حتى نزلت { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } فتقدم الرجال وتأخر النساء { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } أي نقف صفوفاً في الطاعة كما تقدم عند قوله تبارك وتعالى: { وَالصَّافَّاتِ صَفّاً } قال ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزل { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } فصفوا وقال أبو نضرة كان عمر رضي الله عنه(4/30)
إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال: أقيموا صفوفكم استووا قياماً يريد الله تعالى بكم هدي الملائكة ثم يقول { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } تأخر يا فلان تقدم يا فلان ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً، وتربتها طهوراً" الحديث { وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } الملائكة { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } الملائكة { وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } الملائكة تسبح الله عز وجل. وقال قتادة { وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة كما قال تبارك وتعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } وقوله جل وعلا: { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي قد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله وما كان من أمر القرون الأولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جل جلاله { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً } وقال تعالى: { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } ولهذا قال تعالى هاهنا: { فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم عز وجل وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلّ عَنْهُمْ حَتّىَ حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ وَتَوَلّ عَنْهُمْ حَتّىَ حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}
يقول تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } أي تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وقال عز وجل: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } ولهذا قال جل جلاله: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } أي في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم وخالفهم كيف أهلك الله الكافرين ونجى عباده المؤمنين { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } أي تكون لهم العاقبة. وقوله جل وعلا: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } أي اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر، ولهذا قال بعضهم غيا ذلك إلى يوم بدر وما بعدها أيضاً في معناها، وقوله جلت عظمته { وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } ثم قال عز وجل: { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } أي هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم(4/31)
بك فإن الله تعالى يغضب عليهم بذلك ويعجل لهم العقوبة ومع هذا أيضاً كانوا من كفرهم وعنادهم يستعجلون العذاب والعقوبة. قال الله تبارك وتعالى: { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } أي فإذا نزل العذاب بمحلتهم فبئس ذلك اليوم يومهم بإهلاكهم ودمارهم، وقال السدي { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } يعني بدارهم { فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } أي فبئس ما يصبحون أي بئس الصباح صباحهم. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال: صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون: محمد والله محمد والخميس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" ورواه البخاري من حديث مالك عن حميد عن أنس رضي الله عنه. وقال الإمام أحمد حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: لما صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقد أخذوا مساحيهم وغدوا إلى حروثهم وأرضهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا مدبرين فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" لم يخرجوه من هذه الوجه وهو صحيح على شرط الشيخين، وقوله تعالى: { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
{سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزّةِ عَمّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَىَ الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ}
ينزه تبارك وتعالى نفسه ويقدسها ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون تعالى وتنزه وتقدس عن قولهم علواً كبيراً ولهذا قال تبارك وتعالى: { سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزّةِ } أي ذي العزة التي لا ترام { عَمّا يَصِفُونَ } أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين { وَسَلاَمٌ عَلَىَ الْمُرْسَلِينَ } أي سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيّته { وَالْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } أي له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال، ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه من النقص قرن بينهما في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة من القرآن ولهذا قال تبارك وتعالى: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين فأنا رسول من المرسلين". هكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد عنه كذلك، وقد أسنده ابن أبي حاتم رحمه الله فقال حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو بكر الأعين ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة قالا: حدثنا حسين بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين" وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا نوح حدثنا أبو هارون عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يسلم قال: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين" ثم يسلم، إسناده ضعيف. وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمار بن خالد الواسطي حدثنا شبابة عن يونس بن أبي إسحاق عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يكتال بالمكيال(4/32)
الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وروي من وجه آخر متصل موقوف على علي رضي الله عنه قال أبو محمد البغوي في تفسيره: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن منجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا إبراهيم بن سهلويه حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وروى الطبراني من طريق عبد الله بن صخر بن أنس عن عبد الله بن زيد بن أرقم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "من قال دبر كل صلاة { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ثلاث مرات فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر" وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وقد أفردت لها جزءاً على حدة والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/33)
سورة ص
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى: { وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ } أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد قال الضحاك في قوله تعالى: { ذِي الذّكْرِ } كقوله تعالى: { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أي تذكيركم وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي { ذِي الذّكْرِ } ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة، ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم هو قوله تعالى: { إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } وقيل قوله تعالى: { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير وضعفه ابن جرير، وقال قتادة جوابه { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } واختاره ابن جرير ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه قال جوابه {ص} بمعنى صدق حق { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } وقيل جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها والله أعلم، وقوله تبارك وتعالى: { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } أي إن هذا القران لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن يعتبر وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم { فِي عِزَّةٍ } أي استكبار عنه وحمية { وَشِقَاقٍ } أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة، ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء، فقال تعالى: { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي من أمة مكذبة { فَنَادَوْا } أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى وليس ذلك بمجد عنهم شيئاً كما قال عز وجل: { فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ } أي يهربون { لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى: { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال ليس بحين نداء ولا نزو ولا فرار. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ليس بحين مغاث وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد: - تذكر ليلى لات حين تذكر - وقال محمد بن كعب في قوله تعالى: { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } يقول نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم، وقال قتادة لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء، وقال مجاهد { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } ليس بحين فرار ولا إجابة وقد روي نحو هذا عن عكرمة وسعيد بن(4/34)
جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة، وعن مالك عن زيد بن أسلم { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } ولا نداء في غير حين النداء، وهذه الكلمة وهي لات هي لا التي للنفي زيدت معها التاء كما تزاد في ثم فيقولون ثمت ورب فيقولون ربت وهي مفصولة والوقف عليها، ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره ابن جرير أنها متصلة بحين ولا تحين مناص والمشهور الأول ثم قرأ الجمهور بنصب حين تقديره وليس الحين حين مناص ومنهم من جوز النصب بها، وأنشد:
تذكر حب ليلى لات حينا ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا
ومنهم من جوز الجر بها وأنشد:
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
وأنشد بعضهم أيضاً:
ولات ساعة مندم
بخفض الساعة وأهل اللغة يقولون النوص التأخر والبوص التقدم، ولهذا قال تبارك وتعالى: { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي ليس الحين حين فرار ولا ذهاب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
{وَعَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُم مّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ أَجَعَلَ الاَلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلاُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىَ آلِهَتِكُمْ إِنّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا في الْمِلّةِ الآخرة إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاَقٌ أَاُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكّ مّن ذِكْرِي بَل لّمّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ الْعَزِيزِ الْوَهّابِ أَمْ لَهُم مّلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسْبَابِ جُندٌ مّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحَزَابِ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً كما قال عز وجل: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } وقال جل وعلا ههنا: { وَعَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُم مّنذِرٌ مّنْهُمْ } أي بشر مثلهم وقال الكافرون { هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو ؟ أنكر المشركون ذلك قبحهم الله تعالى وتعجبوا من ترك الشرك بالله فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ } وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين { امْشُوا } أي استمروا على دينكم { َاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد، وقوله تعالى: { ِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } قال ابن جرير إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه.(4/35)
(ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات)
قال السدي إن ناساً من قريش اجتمعوا فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش فقال بعضهم لبعض انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه فلينصفنا منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شيء فتعيرنا به العرب يقولون تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه فبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب فاستأذن لهم على أبي طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فلما دخلوا عليه قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه، قال فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك قال صلى الله عليه وسلم: "يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم" قال وإلام تدعوهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم" فقال أبو جهل لعنه الله من بين القوم ما هي وأبيك لنعطينكها وعشراً أمثالها قال صلى الله عليه وسلم: "تقولون لا إله إلا الله" فنفروا وقالوا سلنا غيرها قال صلى الله عليه وسلم: "لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها" فقاموا من عنده غضاباً وقالوا والله لنشتمك وإلهك الذي أمرك بهذا { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد فلما خرجوا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه إلى قوله لا إله إلا الله فأبى وقال بل على دين الأشياخ ونزلت { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } .
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة حدثنا الأعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال فخشي أبو جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ؟ قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية" ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً فقالوا وما هي ؟ وقال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } قال ونزلت من هذا الموضع إلى قوله { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } لفظ أبي كريب وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد غير منسوب به نحوه، ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكر نحوه. وقال الترمذي حسن. وقولهم { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة.
قال مجاهد وقتادة وأبو زيد يعنون دين قريش وقال غيرهم يعنون النصرانية قاله محمد بن كعب والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة يعني النصرانية قالوا لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرتنا به النصارى { إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ } قال مجاهد وقتادة كذب وقال ابن عباس تخرص. وقولهم { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ(4/36)
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم قال في الآية الأخرى: { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } قال الله تعالى: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } ولهذا لما قالوا هذا الذي دلّ على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم.
قال الله تعالى: { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله تعالى ونقمته سيعلمون غب ما قالوا وما كذبوا به يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً. ثم قال تعالى مبيناً أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء فلا يهديه أحد من بعد الله، وإن العباد لا يملكون شيئاً من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير.
ولهذا قال تعالى منكراً عليهم { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } أي العزيز الذي لا يرام جنابه الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } وقوله تعالى: { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً } وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري صلى الله عليه وسلم وكما أخبر عز وجل عن قوم صالح عليه السلام حين قالوا { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ }.
وقوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم يعني طرق السماء، وقال الضحاك رحمه الله تعالى فليصعدوا إلى السماء السابعة.
ثم قال عز وجل: { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ } أي هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين وهذه الآية كقوله جلت عظمته: { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } كان ذلك يوم بدر { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ }.
{كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأحْزَابُ إِن كُلّ إِلاّ كَذّبَ الرّسُلَ فَحَقّ عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاَءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً مّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وَقَالُواْ رَبّنَا عَجّل لّنَا قِطّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة وقوله تعالى: { أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ } أي كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فما دفع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك ولهذا قال عز وجل: { إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر.
وقوله تعالى: { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } قال مالك عن زيد بن أسلم: أي ليس لها مثنوية أي ما(4/37)
ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عز وجل.
وقوله جل جلاله: { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } هذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب فإن القط هو الكتاب وقيل هو الحظ والنصيب. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد سألوا تعجيل العذاب، زاد قتادة كما قالوا { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وقيل سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة ليلقوا ذاك في الدنيا وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب. وقال ابن جرير سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا وهذا الذي قاله جيد وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد والله أعلم. ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد. قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً له بالصبر على أذاهم ومبشراً له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنّهُ أَوّابٌ إِنّا سَخّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ وَالطّيْرَ مَحْشُورَةً كُلّ لّهُ أَوّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}
يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد والأيد القوة في العلم والعمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي وابن زيد، الأيد القوة، وقرأ ابن زيد { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } وقال مجاهد الأيد القوة في الطاعة. وقال قتادة أعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة وفقهاً في الإسلام، وقد ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر، وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى وأنه كان أواباً" وهو الرجاع إلى الله عز وجل في جميع أموره وشؤونه.
وقوله تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار كما قال عز وجل: { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعاً له. قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن بشر عن مسعر عن عبد الكريم عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغه أن أم هانىء رضي الله عنها ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس رضي الله عنهما قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة يقول عز وجل: { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا يصلي الضحى فأدخلته على أم هانىء رضي الله عنها فقلت أخبري هذا ما أخبرتني به فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء قريب بعضهن(4/38)
من بعض فخرج ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } وكنت أقول أين صلاة الإشراق وكان بعد يقول صلاة الإشراق ولهذا قال عز وجل: { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } أي محبوسة في الهواء { كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } أي مطيع يسبح تبعاً له، وقال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد { كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } أي مطيع.
وقوله تعالى: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك، قال ابن أبي نجي عن مجاهد كان أشد أهل الدنيا سلطاناً، وقال السدي كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف، وقال بعض السلف بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفاً لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل، وقال غيره أربعون ألفاً مشتملون بالسلاح، وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه الصلاة والسلام أنه اغتصبه بقراً فأنكر الآخر ولم يكن للمدعي بينة فأرجأ أمرهما فلما كان الليل أمر داود عليه الصلاة والسلام في المنام بقتل المدعي، فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري ؟ فقال له إن الله تعالى أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة، فقال والله إن الله لم يأمر بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه وإني لصادق فيما ادعيت ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود عليه السلام فقتل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وهو الذي يقول الله عز وجل { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ }.
وقوله عز وعلا: { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } قال مجاهد يعني الفهم والعقل والفطنة، وقال مرة: الحكمة والعدل، وقال مرة: الصواب، وقال قتادة كتاب الله واتباع ما فيه، فقال السدي { الْحِكْمَةَ } النبوة وقوله جل جلاله { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } قال شريح القاضي والشعبي: فصل الخطاب الشهود والأيمان وقال قتادة شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل أو قال المؤمنون والصالحون وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة، وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي وقال مجاهد والسدي هو إصابة القضاء وفهم ذلك وقال مجاهد أيضاً هو الفصل في الكلام وفي الحكم وهذا يشمل هذا كله وهو المراد واختاره ابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شيبة النميري حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أول من قال: أما بعد داود عليه السلام وهو فصل الخطاب، وكذا قال الشعبي فصل الخطاب: أما بعد.
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُواْ الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَىَ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىَ بَعْضُنَا عَلَىَ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَىَ سَوَآءِ الصّرَاطِ إِنّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىَ نِعَاجِهِ وَإِنّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مّا هُمْ وَظَنّ دَاوُودُ أَنّمَا فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ وَخَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآبٍ}(4/39)
قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم حديثاً لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضاً. وقوله تعالى: { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما وقوله عز وجل: { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي غلبني يقال عز يعز إذا قهر وغلب. وقوله تعالى: { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أي اختبرناه. وقوله تعالى { وَخَرَّ رَاكِعاً } أي ساجداً { وَأَنَابَ } ويحتمل أنه ركع أولاً ثم سجد بعد ذلك، وقد ذكر أنه استمر ساجداً أربعين صباحاً { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد اختلف الأئمة في سجدة {ص} هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال حدثنا إسماعيل هو ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال السجدة في {ص} ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي حسن صحيح. وقال النسائي أيضاً عند تفسير هذه الآية أخبرني إبراهيم بن الحسن هو المقسمي حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في {ص} وقال: "سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة ونسجدها شكراً" تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات.
وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي حدثنا زاهر بن أبي طاهر الشحامي أخبرنا أبو سعيد الكنجدروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريج يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت، فسجدت الشجرة بسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي عندك أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع بها عني وزراً، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود.
قال ابن عباس رضي الله عنهما فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة، رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه، وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال البخاري عند تفسيرها أيضاً حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال سألت مجاهداً عن سجدة {ص} فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت فقال أو ما تقرأ { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه الصلاة والسلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر هو ابن عبد الله المزني أنه(4/40)
أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب {ص} فلما بلغ إلى الآية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداً قال فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد، تفرد به أحمد، وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر {ص} فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشرف الناس للسجود فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشرفتم" فنزل وسجد وتفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيحين.
وقوله تعالى: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العالية في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح "المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا" وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر" ورواه الترمذي من حديث فضيل وهو ابن مرزوق الأغر عن عطية به، وقال لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان سمعت مالك بن دينار في قوله تعالى: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} قال يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول وكيف وقد سلبته ؟ فيقول الله عز وجل إني أرده عليك اليوم قال فيرفع داود عليه الصلاة والسلام بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.
{يَدَاوُودُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَىَ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ}
هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد حدثنا مروان بن جناح حدثني إبراهيم أبو زرعة وكان قد قرأ الكتاب أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت فقلت يا أمير المؤمنين أقول ؟ قال: قل في أمان الله، قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام، إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه } الآية وقال عكرمة { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } هذا من المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا، وقال السدي لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب وهذا القول أمشى على ظاهر الآية والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
{وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النّارِ أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ(4/41)
مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ}
يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثاً وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تبارك وتعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي الذين لا يرون بعثاً ولا معاداً وإنما يعتقدون هذه الدار فقط { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم، ثم بين تعالى أنه عز وجل من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين فقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر وهذا الإرشاد يدل على العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي ذوو العقول وهي الألباب جمع لب وهو العقل، قال الحسن البصري والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، رواه ابن أبي حاتم.
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ الصّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنّيَ أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّىَ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدّوهَا عَلَيّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالأعْنَاقِ}
يقول تعالى مخبراً أنه وهب لداود سليمان أي نبياً كما قال عز وجل: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر. وقوله تعالى: { ِنعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن خالد حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا مكحول قال لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له يا بني ما أحسن ؟ قال سكينة الله والإيمان ؟ قال فما أقبح ؟ قال كفر بعد إيمان قال فما أحلى، قال روح الله بين عباده قال فما أبرد ؟ قال عفو الله عن الناس وعفو الناس بعضهم عن بعض قال داود عليه السلام فأنت نبي.
وقوله تعالى: { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } أي إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات قال مجاهد وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة والجياد السراع وكذا قال غير واحد من السلف، وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله عز وجل: { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } قال كانت عشرين فرساً ذات أجنحة كذا رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي قال كانت الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس فعقرها وهذا أشبه، والله أعلم،(4/42)
وقال أبو داود حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثنا عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب فقال صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا عائشة ؟" قالت رضي الله عنها بناتي ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع فقال صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الذي أرى وسطهن ؟" قالت رضي الله عنها فرس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الذي عليه ؟" قالت رضي الله عنها جناحان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرس له جناحان ؟" قالت رضي الله عنها أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة قالت رضي الله عنها فضحك صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه. وقوله تبارك وتعالى: { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمداً بل نسياناً كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه من ذلك عن جابر رضي الله عنه قال جاء عمر رضي الله عنه يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها" فقال: فقمنا إلى بطحان فتوضأ نبي الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب. ويحتمل أنه كان سائغاً في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال، والخيل تراد للقتال وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعاً فنسخ ذلك بصلاة الخوف، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حيث لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب لأنه قال بعده { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قال الحسن البصري: لا، قال: والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك، ثم أمر بها فعقرت وكذا قال قتادة، وقال السدي: ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حباً لها وهذا القول اختاره ابن جرير قال لأنه لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ويهلك مالاً من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضباً لله تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله عز وجل ما هو خير منها وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل، قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال: " إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عز وجل خيراً منه" .
{وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىَ كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمّ أَنَابَ قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاّ يَنبَغِي لأحَدٍ مّن بَعْدِيَ إِنّكَ أَنتَ الْوَهّابُ فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشّيَاطِينَ كُلّ بَنّآءٍ وَغَوّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآبٍ}(4/43)
يقول تعالى: { وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمَانَ } أي اختبرناه بأن سلبناه الملك { وَأَلْقَيْنَا عَلَىَ كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم يعني شيطاناً { ثُمّ أَنَابَ } أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأُبهته. قال ابن جرير، وكان اسم ذلك الشيطان صخراً قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وقيل آصف قاله مجاهد وقيل صرد قاله مجاهد أيضاً وقيل حقيق قاله السدي وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة، وقد قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال أمر سليمان عليه الصلاة والسلام ببناء بيت المقدس فقيل له ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد، قال فطلب ذلك فلم يقدر عليه فقيل إن شيطاناً في البحر يقال له صخر شبه المارد قال فطلبه وكانت في البحر عين يردها في كل سبعة أيام مرة فنزح ماءها وجعل فيها خمراً فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً، قال ثم رجع حتى عطش عطشاً شديداً ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً، قال ثم شربها حتى غلب على عقله قال فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فذل، قال وكان ملكه في خاتمه فأتى به سليمان عليه الصلاة والسلام فقال إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا لا يسمعن فيه صوت حديد قال فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليها فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة وكان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخل بالخاتم فانطلق يوماً إلى الحمام، وذلك الشيطان صخر معه وذلك عند مقارفة قارف فيها بعض نسائه قال فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ونزع ملك سليمان منه وألقي على الشيطان شبه سليمان قال فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه فجعل يقضي بينهم وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا فتن نبي الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القوة فقال والله لأجربنه قال: فقال يا نبي الله وهو لا يرى إلا أنه نبي الله أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمداً حتى تطلع الشمس أترى عليه بأساً قال: لا فبينما هو كذلك أربعين ليلة إذ وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً } قال هو الشيطان صخر.
وقال السدي { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي ابتلينا سليمان { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً } قال شيطاناً جلس على كرسيه أربعين يوماً قال كان لسيمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهم يقال لها جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم يأمن عليه أحداً من الناس غيرها فأعطاها يوماً خاتمه ودخل الخلاء، فخرج الشيطان في صورته فقال هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه فقالت: ألم تأخذه قبل ؟ قال: لا وخرج وكأنه تائه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً قال فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا لهن إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه قال فبكى النساء عند ذلك قال فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا يقرءون التوراة قال فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر وقال وأقبل سليمان عليه الصلاة والسلام في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فسألهم من صيدهم وقال إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصى فشجه فجعل(4/44)
يغسل دمه وهو على شاطىء البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته قال إنه زعم أنه سليمان، قال فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ولم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطىء البحر فشق بطونهما فجعل يغسل فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فردّ الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه الصلاة والسلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا فقال ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم كان هذا الأمر لا بد منه قال فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان اسمه حقيق قال وسخر الله له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله: { وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } .
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى: { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً } قال شيطاناً يقال له آصف فقال له سليمان عليه الصلاة والسلام كيف تفتنون الناس ؟ قال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان عليه الصلاة والسلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله تبارك وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهنّ ولم يقربنه وأنكرنه قال فكان سليمان عليه الصلاة والسلام يستطعم فيقول أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر. وأرى هذه كلها من الإسرائيليات، ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا: حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } قال أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي قالت أعطيته سليمان قال أنا سليمان قال كذبت ما أنت بسليمان فجعل لا يأتي أحداً يقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عز وجل قال وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان قال فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: أتنكرن من سليمان شيئاً، قلن نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه الصلاة والسلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته، وكان سليمان عليه السلام يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان عليه الصلاة والسلام فقال: تحمل لي هذا السمك ؟ فقال نعم قال بكم ؟ قال بسمكة من هذا السمك قال فحمل سليمان عليه الصلاة والسلام السمك ثم انطلق إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام فشق بطنها فإذا بالخاتم في جوفها فأخذه فلبسه، قال فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان عليه الصلاة والسلام في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى(4/45)
وجدوه يوماً نائماً فجاؤوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا أنماط معه من الرصاص، قال فأخذوه فأوثقوه وجاؤوا به إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سدّ بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } يعني الشيطان الذي كان سلط عليه، إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوي، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن صح عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفاً وتكريماً لنبيه عليه السلام. وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
قال يحيى بن أبي عروبة الشيباني: وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعاً لله عز وجل، رواه ابن أبي حاتم. وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبراً عجيباً فقال حدثنا أبي رحمه الله حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار أنه لما فرغ من حديث إرم ذات العماد قال له معاوية: يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام وما كان عليه ومن أي شيء هو، فقال كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مرصعاً بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ، وقد جعل له درجة منها مفصصاً بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ، وجعل على رؤوس النخل التي على يمين الكرسي طواويس من ذهب ثم جعل على رؤوس النخل التي على يسار الكرسي نسوراً من ذهب مقابلة الطواويس، وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتي صنوبر من ذهب وعلى يسارها أسدان من ذهب وعلى رؤوس الأسدين عمودان من زبرجد، وجعل من جانبي الكرسي كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما دراً وياقوتاً أحمر، ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكاً وعنبراً، فإذا أراد سليمان عليه السلام أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والأخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان، ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبراً من ذهب عليها سبعون قاضياً من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول، ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبراً من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة، فقال معاوية رضي الله عنه: وما الذي يديره يا أبا إسحاق ؟ قال: تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه دارت تلك الأسود والنسور والطواويس التي في أسفل الكرسي دُرْنَ إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رؤوسهن على رأس سليمان عليه الصلاة والسلام وهو جالس ثم ينضحن جميعاً ما في أجوافهن من(4/46)
المسك والعنبر على رأس سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام. ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوراة فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس. وذكر تمام الخبر وهو غريب جداً { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } قال بعضهم لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يصلح لأحد أن يسلبنيه بعدي كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } قال روح فرده خاسئاً وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به. وقال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك - ثم قال - ألعنك بلعنة الله" ثلاثاً وبسط يده كأنه يتناول شيئاً فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال صلى الله عليه وسلم: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يتأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة".
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائماً يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: "لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل" وقد روى أبو داود منه "من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل" عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد الزبيري به.
وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد بن عبد الله الديلمي قال دخلت على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو محاصر فتى من قريش يُزَنّ بشرب الخمر فقلت بلغني عنك حديث أنه "من شرب شربة من الخمر لم يقبل الله عز وجل له توبة أربعين صباحاً، وإن الشقي من شقي في بطن أمه، وإنه من أتى البيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه" فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله يقول: "من شرب الخمر شربة لا تقبل له صلاة(4/47)
أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد كان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة" قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل" وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن سليمان عليه السلام سأل الله تعالى ثلاثاً فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة، سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطانا إياها" وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثاً" وذكره وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه بإسناد وسياق غريبين. فقال الطبراني حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله يقول: "قال الله عز وجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتاً قي الأرض فبنى داود بيتاً لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثاً فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتاً قال ولم يا رب ؟ قال لما جرى على يديك من الدماء، قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه ولما تمّ قرّب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك قال أسألك ثلاث خصال حكماً يصادف حكمك وملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أما الثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن راشد اليمامي حدثنا إياس بن سلمة الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلا استفتحه بـ " سبحان الله ربي العلي الأعلى الوهاب" وقد قال أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن برقان عن صالح بن سمار قال لما مات نبي الله داود عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى إلى ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام أن سلني حاجتك قال أسألك أن تجعل لي قلباً يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي فقال الله عز وجل: أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني، لأهبن له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
قال الله جلت عظمته: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } والتي بعدها قال فأعطاه ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه، وروي عن بعض السلف أنه قال بلغني عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال: إلهي كن لسليمان كما كنت لي، فأوحى الله عز وجل إليه: أن قل لسليمان أن يكون لي كما كنت لي أكن له كما كنت لك. وقوله تبارك وتعالى: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } قال الحسن البصري رحمه الله لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضباً لله عز وجل(4/48)
عوضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع، الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.
وقوله جل وعلا: { حَيْثُ أَصَابَ } أي حيث أراد من البلاد. وقوله جل جلاله: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ } أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر، وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما فيها من اللاَلىء والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } أي موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى، أو قد أساء في صنيعه واعتدى.
وقوله عز وجل: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك أي مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يكون عبداً رسولاً - وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به - وبين أن يكون نبياً ملكاً يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح، اختار المنزلة الأولى بعدما استشار جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدراً عند الله عز وجل وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا والآخرة، ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عند الله يوم القيامة أيضاً فقال تعالى: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي في الدنيا والآخرة.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنّا وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ}
يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق في جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا، فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريباً، فلما طال المطال، واشتد الحال، وانتهى القدر، وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وفي هذه الآية الكريمة قال: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله ففعل فأنبع الله تعالى عيناً وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عيناً أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً، ولهذا قال تبارك وتعالى: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } قال ابن جرير وابن أبي حاتم جميعاً حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن(4/49)
عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك ؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق، قال وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، فو الله القدير على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً قال فإني أنا هو، قال وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض، هذا لفظ ابن جرير رحمه الله.
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك" انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به، ولهذا قال تبارك وتعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } قال الحسن وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم.
وقوله عز وجل: { رَحْمَةً مِنَّا } أي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته { وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة. وقوله جلت عظمته: { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ } وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، وقيل لغير ذلك من الأسباب فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثاً وهو الشمراخ فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه، ولهذا قال جل وعلا: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي رجاع منيب، ولهذا قال جل جلاله: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً } واستدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الإيمان وغيرها. وقد أخذوها بمقتضاه والله أعلم بالصواب.
{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ إِنّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ وَإِنّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلّ مّنَ الأخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}(4/50)
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما { أُولِي الْأَيْدِي } يقول أولي القوة والعبادة { وَالْأَبْصَارِ } يقول الفقه في الدين. وقال مجاهد { أُولِي الْأَيْدِي } يعني القوة في طاعة الله تعالى والأبصار يعني البصر في الحق وقال قتادة والسدي: أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين.
وقوله تبارك وتعالى: { إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } قال مجاهد أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم غيرها وكذا قال السدي ذكرهم للآخرة وعملهم لها. وقال مالك بن دينار نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها، وكذا قال عطاء الخراساني. وقال سعيد بن جبير يعني بالدار الجنة يقول أخلصناها لهم بذكرهم لها، وقال في رواية أخرى ذكرى الدار عقبى الدار، وقال قتادة كانوا يذكرون الناس الدار الآخرة والعمل لها، وقال ابن زيد جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الآخرة.
وقوله تعالى: { وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } أي لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون.
وقوله تعالى: { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ } قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله عز وجل: { هَذَا ذِكْرُ } أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر، قال السدي يعني القرآن العظيم.
{وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنّاتِ عَدْنٍ مّفَتّحَةً لّهُمُ الأبْوَابُ مُتّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نّفَادٍ}
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الآخرة لحسن مآب وهو المرجع والمنقلب ثم فسره بقوله تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي جنات إقامة مفتحة لهم الأبواب والألف واللام ههنا بمعنى الإضافة كأنه يقول مفتحة لهم أبوابها أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها، قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن ثواب الهباري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الله بن مسلم يعني ابن هرمز عن ابن سابط عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله - أو لا يسكنه - إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل" وقد ورد في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة.
وقوله عز وجل: { مُتَّكِئِينَ فِيهَا } قيل متربعين على سرر تحت الحجال { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } أي مهما طلبوا وجدوا وأحضر كما أرادوا { وَشَرَابٍ } أي من أي أنواعه شاؤوا أتتهم به الخدام { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن { أَتْرَابٌ } أي متساويات في السن والعمر هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسدي { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار. ثم أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال تعالى: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } كقوله عز وجل { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } وكقوله جل وعلا { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } وكقوله تعالى: { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي غير مقطوع وكقوله عز وجل: { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا(4/51)
تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } والآيات في هذا كثيرة جداً.
{هَذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ جَهَنّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مّقْتَحِمٌ مّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنّهُمْ صَالُو النّارِ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُواْ رَبّنَا مَن قَدّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النّارِ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىَ رِجَالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مّنَ الأشْرَارِ أَتّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار إِنّ ذَلِكَ لَحَقّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النّارِ}
لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال عز وجل: { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } وهم الخارجون عن طاعة الله عز وجل المخالفون لرسل الله صلى الله عليه وسلم { لَشَرَّ مَآبٍ } أي لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله جل وعلا: { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم { فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره، وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم.
ولهذا قال عز وجل: { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } أي وأشياء من هذا القبيل: الشيء وضده يعاقبون بها. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا" ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال لا نعرفه إلا من حديث رشدين كذا قال وقد تقدم في غير حديثه، ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به.
وقال كعب الأحبار: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه، رواه ابن أبي حاتم. وقال الحسن البصري في قوله تعالى: { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } ألوان من العذاب، وقال غيره كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوي إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة والجميع مما يعذبون به، ويهانون بسببه.
وقوله عز وجل: { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ } هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ } أي داخل { مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ } أي لأنهم من أهل جهنم { قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ } أي فيقول لهم الداخلون { بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } أي فبئس المنزل والمستقر والمصير { قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } كما قال عز وجل: { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } أي لكل منكم عذاب بحسبه { وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} هذا(4/52)
إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا مالنا لا نراهم معنا في النار. قال مجاهد: هذا قول أبي جهل يقول مالي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً وهذا ضرب مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار، فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا { مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } أي في الدار الدنيا { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ؟} يسألون أنفسهم بالمحال يقولون أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم، فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عز وجل: { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ - إلى قوله - ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك.
{قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأعْلَىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَىَ إِلَيّ إِلاّ أَنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ}
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله إنما أنا منذر لست كما تزعمون { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ } أي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه { رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي هو ما {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} لك جيمع ذلك ومتصرف فيه { الْعَزِيزُ الْغَفّارُ } أي غفار مع عظمته وعزته { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم { أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } أي غافلون، قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله عز وجل: { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } يعني القرآن.
وقوله تعالى: { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى ؟ يعني في شأن آدم عليه الصلاة والسلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هشام حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج صلى الله عليه وسلم سريعاً فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته فلما سلم قال صلى الله عليه وسلم: "كما أنتم" ثم أقبل إلينا فقال: "إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت لا أدري يا رب - أعادها ثلاثاً - فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات ؟ قلت: نقل الأقدام في الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال: وما الدرجات ؟ قلت: إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام، قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنها حق فادرسوها وتعلموها" فهو حديث المنام المشهور، ومن جعله(4/53)
يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق، وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به، وقال الحسن صحيح وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر، وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو في قوله تعالى:
{إِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيمٌ وَإِنّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيَ إِلَىَ يَوْمِ الدّينِ قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِيَ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَىَ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزّتِكَ لأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقّ وَالْحَقّ أَقُولُ لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنكَ وَمِمّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}
هذه القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة وفي أول سورة الأعراف وفي سورة الحجر وسبحان والكهف وههنا وهي أن الله سبحانه وتعالى أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام بأنه سيخلق بشراً من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراماً وإعظاماً واحتراماً وامتثالاً لأمر الله عز وجل فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنساً. كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه عز وجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله تعالى وكفر بذلك فأبعده الله عز وجل وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه، وحضرة قدسه، وسماه إبليس إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه. فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى
وقال: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } كما قال عز وجل: { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً } وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}
وقوله تبارك وتعالى: { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع الحق الأول وفسره مجاهد بأن معناه أنا الحق والحق أقول، وفي رواية عنه: الحق مني وأقول الحق، وقرأ آخرون بنصبهما قال السدي هو قسم أقسم الله به (قلت) وهذه الآية كقوله تعالى: { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وكقوله عز وجل: { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُور }.
{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ}(4/54)
يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجراً تعطونيه من عرض الحياة الدنيا { وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ } أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة، قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم، الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ} أخرجاه من حديث الأعمش، به وقوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } يعني القرآن ذكر لجميع المكلفين به من الإنس والجن، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وروى ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي غسان مالك بن إسماعيل: حدثنا قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { لِلْعَالَمِينَ } قال: الجن والإنس، وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وكقوله عز وجل: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وقوله تعالى: { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ } أي خبره وصدقه { بَعْدَ حِينٍ } أي عن قريب قال قتادة بعد الموت وقال عكرمة يعني يوم القيامة، ولا منافاة بين القولين فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة، وقال قتادة في قوله تعالى: { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } قال الحسن يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.(4/55)
سورة الزمر
وهي مكية
قال النسائي حدثنا محمد بن النضر بن مساور حدثنا حماد عن مروان أبي لبابة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لّهُ الدّينِ أَلاَ لِلّهِ الدّينُ الْخَالِصُ وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُلْفَىَ إِنّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفّارٌ لّوْ أَرَادَ اللّهُ أَن يَتّخِذَ وَلَداً لاّصْطَفَىَ مِمّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ}
يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن العظيم من عنده تبارك وتعالى فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك كما قال عز وجل: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} وقال تبارك وتعالى: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وقال جل وعلا ها هنا: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } أي المنيع الجناب { الْحَكِيمِ } أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ } أي فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد ولهذا قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له.
وقال قتادة في قوله تبارك وتعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } شهادة أن لا إله إلا الله ثم أخبر عز وجل عن عباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله تعالى في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به. قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: { إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون قديم(4/56)
الدهر وحديثه وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردّها والنهي عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له وأنّ هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وأخبر أن الملائكة التي في السموات من الملائكة المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقوله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي يوم القيامة {فيما فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ويجزي كل عامل بعمله { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } وقوله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله تعالى وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه، ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى فقال تبارك وتعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي لكان الأمر على خلاف ما يزعمون وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه بل هو محال وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عز وجل: { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } كل هذا من باب الشرط ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لمقصد المتكلم.
وقوله تعالى: { سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } أي تعالى وتنزه وتقدس عن أن يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي كل شيء عبد لديه فقير إليه وهو الغني عما سواه الذي قد قهر الأشياء فدانت وذلت وخضعت تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
{خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ يُكَوّرُ اللّيْلَ عَلَى النّهَارِ وَيُكَوّرُ النّهَارَ عَلَى اللّيْلِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفّارُ خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُصْرَفُونَ}
يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض وما بين ذلك من الأشياء وبأنه مالك الملك المتصرف فيه يقلب ليله ونهاره { يُكَوّرُ اللّيْلَ عَلَى النّهَارِ وَيُكَوّرُ النّهَارَ عَلَى اللّيْلِ } أي سخرهما يجريان متعاقبين لا يفتران كل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً كقوله تبارك وتعالى: { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } هذا معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والسدي وغيرهم. وقوله عز وجل: { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً } أي إلى مدة معلومة عند الله تعالى ثم ينقضي يوم القيامة { َلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } أي مع عزته وعظمته وكبريائه وهو غفار لمن عصاه ثم تاب أو أناب إليه.
وقوله جلت عظمته: { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة وهو آدم عليه الصلاة والسلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهي حواء عليها السلام كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً }(4/57)
يقول عز وجل أمّنْ هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً، لا يستوون عند الله كما قال تعالى: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وقال تبارك وتعالى ههنا: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً } أي في حال سجوده وفي حال قيامه ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة وليس هو القيام وحده كما ذهب إليه آخرون. وقال الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: القانت المطيع لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن والسدي وابن زيد: آناء الليل جوف الليل. وقال الثوري عن منصور بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء، وقال الحسن وقتادة آناء الليل أوله وأوسطه وآخره. وقوله تعالى: { يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي في حال عبادته خائف راج ولا بد في العبادة من هذا وهذا وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب ولهذا قال تعالى: { يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده: حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال له: "كيف تجدك ؟" فقال: أرجو وأخاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو وأمنه الذي يخافه". رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان به وقال الترمذي غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن أنس عن النبي مرسلاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شيبة عن عبيدة النميري حدثنا أبو خلف بن عبد الله بن عيسى الخراز حدثنا يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } قال ابن عمر ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل وقراءته حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة كما روى ذلك أبو عبيدة عنه رضي الله تعالى عنه، وقال الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
وقال الإمام أحمد: كتب إليّ الربيع بن نافع حدثنا الهيثم بن حميد عن زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة" وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب عن عبد الله بن يوسف والربيع بن نافع كلاهما عن الهيثم بن حميد به. وقوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } أي هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل، والله أعلم.
{قُلْ يَعِبَادِ الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ رَبّكُمْ لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةٌ إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ قُلْ إِنّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لّهُ الدّينَ وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوّلَ الْمُسْلِمِينَ}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه { قُلْ يَعِبَادِ الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ رَبّكُمْ لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدّنْيَا حَسَنَةٌ } أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم، وقوله:(4/59)
{ وَأَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةٌ } قال مجاهد: فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان، وقال شريك عن منصور عن عطاء في قوله تبارك وتعالى: { وَأَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةٌ } قال: إذا دعيتم إلى معصية فاهربوا ثم قرأ {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} وقوله تعالى: { إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال الأوزاعي ليس يوزن لهم ولا يكال لهم إنما يغرف لهم غرفاً، وقال ابن جريج بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط، ولكن يزادون على ذلك، وقال السدي { إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني في الجنة. وقوله: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ } أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له { وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } قال السدي يعني من أمته صلى الله عليه وسلم.
{قُلْ إِنّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لّهُ دِينِي فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ قُلْ إِنّ الْخَاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوّفُ اللّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَعِبَادِ فَاتّقُونِ}
يقول تعالى قل يا محمد وأنت رسول الله { إِنّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهو يوم القيامة وهذا شرط معناه التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } وهذا أيضاً تهديد وتبرّ منهم { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ } أي إنما الخاسرون كل الخسران { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبداً وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار أو أن الجميع أسكنوا النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور { أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي هذا هو الخسران المبين الظاهر الواضح ثم وصف حالهم في النار فقال: { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } كما قال عز وجل: { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }.
وقال تعالى: { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وقوله جل جلاله: { ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } أي إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده لينزجروا عن المحارم والمآثم. وقوله تعالى: { يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي.
{وَالّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوَاْ إِلَى اللّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىَ فَبَشّرْ عِبَادِ الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الألْبَابِ}
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهم والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ثم قال عز وجل: { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام حين آتاه التوراة { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا }. { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } أي المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة { وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي ذوو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة.(4/60)
{أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ لَكِنِ الّذِينَ اتّقَواْ رَبّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مّبْنِيّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللّهِ لاَ يُخْلِفُ اللّهُ الْمِيعَادَ}
يقول تعالى أفمن كتب الله أنه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك ؟ أي لا يهديه أحد من بعد الله لأنه من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده فلا مضل له. ثم أخبر عز وجل عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة وهي القصور أي الشاهقة { مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مّبْنِيّةٌ } طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات. قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفاً يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها" فقال أعرابي لمن هي يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام" ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق وقال حسن غريب. وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبل حفظه وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن ابن معانق أو أبي معانق عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس نيام" تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن معانق الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه به. وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في أفق السماء" قال فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: "كما تراءون الكوكب الذي في الأفق الشرقي أو الغربي" أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي حازم وأخرجاه أيضاً في الصحيحين من حديث مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا فزارة أخبرني فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع في تفاضل أهل الدرجات - فقالوا يا رسول الله أولئك النبيون ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بلى والذي نفسي بيده أقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل" ورواه الترمذي عن سويد عن ابن المبارك عن فليح به وقال حسن صحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو كامل قالا حدثنا زهير حدثنا سعد الطائي حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين رضي الله عنهما أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قلنا يا رسول الله إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد قال صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله عز وجل بقوم يذنبون كي يغفر لهم" قلنا: يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السموات ويقول الرب تبارك وتعالى وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" وروى الترمذي وابن ماجه بعضه من(4/61)
حديث سعد بن أبي مجاهد الطائي وكان ثقة عن أبي المدله وكان ثقة به. وقوله تعالى: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أ ي تسلك الأنهار من خلال ذلك كما يشاؤون وأين أرادوا { وَعْدَ اللَّهِ } أي هذا الذي ذكرنا وعد الله عباده المؤمنين { يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ }.
{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ أَفَمَن شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىَ نُورٍ مّن رّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}
يخبر تعالى أن أصل الماء من السماء كما قال عز وجل: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } فإذا أنزل الماء من السماء كمن في الأرض ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء وينبعه عيوناً ما بين صغار وكبار بحسب الحاجة إليها ولهذا قال تبارك وتعالى: { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو قتيبة عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ } قال ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فذلك قوله تعالى: { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ } فمن سره أن يعود الملح عذباً فليصعده، وكذا قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء، وقال سعيد بن جبير أصله من الثلج يعني أن الثلج يتراكم على الجبال فيسكن في قرارها فتنبع العيون من أسافلها. وقوله تعالى: { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعاً مختلفاً ألوانه أي أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه { ثُمَّ يَهِيجُ } أي بعد نضارته وشبابه يكتهل فتراه مصفراً قد خالطه اليبس { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } أي ثم يعود يابساً يتحطم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا تكون خضرة نضرة حسناء ثم تعود عجوزاً شوهاء والشاب يعود شيخاً هرماً كبيراً ضعيفاً وبعد ذلك كله الموت، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير، وكثيراً ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء وينبت به زرعاً وثماراً ثم يكون بعد ذلك حطاماً كما قال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً } وقوله تبارك وتعالى: { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } أي هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق كقوله عز وجل: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } ولهذا قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } أي فلا تلين عند ذكره ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم { أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }.
{اللّهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مّتَشَابِهاً مّثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم. قال الله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ(4/62)
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ } قال مجاهد يعني القرآن كله متشابه مثاني، وقال قتادة: الآية تشبه الآية والحرف يشبه الحرف وقال الضحاك: مثاني ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى وقال عكرمة والحسن: ثنى الله فيه القضاء زاد الحسن تكون السورة فيها آية وفي السورة الأخرى آية تشبهها، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: مثاني مردد ردد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة. وقال سعيد بن جبير عن عباس رضي الله عنهما: مثاني قال القرآن يشبه بعضه بعضاً ويرد بعضه على بعض، وقال بعض العلماء ويروى عن سفيان بن عيينة معنى قوله تعالى: { مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ } أنّ سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد فهذان من المتشابه وتارة تكون بذكر الشيء وضده كذكر المؤمنين ثم الكافرين وكصفة الجنة ثم صفة النار وما أشبه هذا فهذا من المثاني كقوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وكقوله عز وجل: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ - إلى أن قال - كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ - إلى أن قال - هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني أي في معنيين اثنين وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضاً فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله تعالى: { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } ذاك معنى آخر. وقوله تعالى: { َقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه (أحدها) أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات (الثاني) أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم كما قال تبارك وتعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وقال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.
(الثالث) أنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {تقشعر جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله} . ولم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون بما ليس فيهم بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة. قال عبد الرزاق حدثنا معمر قال تلا قتادة رحمه الله { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } قال هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله عز وجل بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان.
وقال السدي { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي إلى وعد الله، وقوله: { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي هذه صفة من هداه الله ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }(4/63)
{أَفَمَن يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوَءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}
يقول تعالى: { أَفَمَن يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوَءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ويفزع فيقال له ولأمثاله من الظالمين { ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } كمن يأتي آمناً يوم القيامة كما قال عز وجل: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال جل وعلا: { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } وقال تبارك وتعالى: { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر. كقول الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني
يعني الخير أو الشر. وقوله جلت عظمته: { كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} يعني القرون الماضية المكذبة للرسل أهلكهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق، وقوله جل وعلا: { فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي بما أنزل بهم من العذاب والنكال وتشفي المؤمنين بهم، فليحذر المخاطبون من ذلك فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم والذي أعده الله جل جلاله لهم في الآخرة من العذاب الشديد أعظم مما أصابهم في الدنيا ولهذا قال عز وجل: { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}
يقول تعالى: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان كما قال تبارك وتعالى: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي تعلمونه من أنفسكم، وقال عز وجل: { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } وقوله جل وعلا: { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس بل هو بيان ووضوح وبرهان، وإنما جعله الله تعالى كذلك، وأنزله بذلك { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد. ثم قال: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم { وَرَجُلاً سَلَماً } أي سالماً { لِرَجُلٍ } أي خالصاً لا يملكه أحد غيره { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} أي لا يستوي هذا وهذا. كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ؟ فأين هذا من هذا ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد: هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص، ولما كان هذا(4/64)
المثل ظاهراً بيناً جلياً قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي على إقامة الحجة عليهم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي فلهذا يشركون بالله. وقوله تبارك وتعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تحقق الناس موته مع قوله عز وجل: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } ومعنى هذه الآية أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الآخرة وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل فيفصل بينكم ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين. ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين. ثم إن هذه الآية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل المتنازعين في الدنيا فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن محمد بن عمرو عن أبي حاطب - يعني يحيى بن عبد الرحمن - عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال لما نزلت { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال الزبير رضي الله عنه: يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال رضي الله عنه: إن الأمر إذاً لشديد: وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان وعنده زيادة، ولما نزلت { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قال الزبير رضي الله عنه: أي رسول الله أي نعيم نسأل عنه وإنما نعيمنا الأسودان: التمر والماء، قال صلى الله عليه وسلم: "أما إن ذلك سيكون" وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان به وقال الترمذي: حسن وقال أحمد أيضاً: حدثنا ابن نمير حدثنا محمد - يعني ابن عمرو - عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن الزبير عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال الزبير رضي الله عنه: أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه" قال الزبير رضي الله عنه: والله إن الأمر لشديد، ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به وقال حسن صحيح وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن أبي عياش عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول الخصمين يوم القيامة جاران" تفرد به أحمد وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا" تفرد به أحمد رحمه الله. وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان فقال: "أتدري فيم تنتطحان يا أبا ذر ؟" قلت: لا قال صلى الله عليه وسلم: "ولكن الله يدري وسيحكم بينهما" وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا سهل بن محمد حدثنا حيان بن أغلب حدثنا أبي حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة فتخاصمه الرعية فيفلحون عليه فيقال له سد ركناً من أركان جهنم" ثم قال الأغلب بن تميم ليس بالحافظ. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } يقول: يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر، وقد روى ابن منده في كتاب الروح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد فتقول الروح للجسد أنت فعلت ويقول(4/65)
الجسد للروح أنتِ أمرت وأنت سولت فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما فيقول لهما إنّ مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير دخلا بستاناً فقال المقعد للضرير إني أرى ههنا ثماراً ولكن لا أصل إليها فقال له الضرير اركبني فتناولها فركبه فتناولها فأيهما المعتدي ؟ فيقولان كلاهما فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتما على أنفسكما، يعني أن الجسد للروح كالمطية وهي راكبه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا جعفر بن أحمد بن عوسجة حدثنا ضرار حدثنا أبو سلمة الخزاعي حدثنا منصور بن سلمة حدثنا القمي - يعني يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية وما نعلم في أي شيء نزلت { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال قلنا من نخاصم ؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة فمن نخاصم ؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر رضي الله عنهما: هذا الذي وعدنا ربنا عز وجل نختصم فيه، ورواه النسائي عن محمد بن عامر عن منصور بن سلمة به، وقال أبو العالية في قوله تبارك وتعالى: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال: يعني أهل القبلة، وقال ابن زيد: يعني أهل الإسلام وأهل الكفر، وقد قدمنا أن الصحيح العموم والله سبحانه وتعالى أعلم.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن كَذَبَ علَى اللّهِ وَكَذّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ وَالّذِي جَآءَ بِالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ لَهُم مّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفّرَ اللّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يقول عز وجل مخاطباً المشركين الذين افتروا على الله وجعلوا معه آلهة أخرى وادعوا أن الملائكة بنات الله وجعلوا لله ولداً تعالى عن قولهم علواً كبيراً، ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولهذا قال عز وجل: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } أي لا أحد أظلم من هذا لأنه جمع بين طرفي الباطل كذب على الله وكذب رسول الله قالوا الباطل وردوا الحق ولهذا قال جلت عظمته متوعداً لهم: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ } وهم الجاحدون المكذبون. ثم قال جل وعلا: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد: الذي جاء بالصدق هو الرسول صلى الله عليه وسلم وقال السدي: هو جبريل عليه السلام { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } قال: من جاء بلا إله إلا الله { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ الربيع بن أنس {والذين جاءوا بالصدق} يعني الأنبياء {وصدقوا به} يعني الأتباع. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } قال: أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا. وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير فإنه جاء بالصدق وصدق المرسلين وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } هو رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَصَدَّقَ بِهِ } قال المسلمون { أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما:اتقوا الشرك { لَهُم مّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ } يعني في الجنة مهما طلبوا وجدوا { جَزَاءُ(4/66)
الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} كما قال عز وجل في الآية الأخرى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }.
{أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِالّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّضِلّ أَلَيْسَ اللّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلْ أَفَرَأيْتُم مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللّهُ بِضُرّ هَلْ هُنّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكّلُ الْمُتَوَكّلُونَ قُلْ يَقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مّقِيمٌ}
يقول تعالى: { أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } وقرأ بعضهم {عباده} يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكل عليه وقال ابن حاتم ههنا: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو هانىء عن أبي علي عمرو بن مالك الجنبي عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به" ورواه الترمذي والنسائي من حديث حيوة بن شريح عن أبي هانىء الخولاني به وقال الترمذي صحيح { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِه } يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلاً منهم وضلالاً ولهذا قال عز وجل: { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} أي منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه فإنه العزيز الذي لا أعز منه ولا أشد انتقاماً منه ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } يعني المشركين كانوا يعترفون بأن الله عز وجل هو الخالق للأشياء كلها ومع هذا يعبدون معه غيره مما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ولهذا قال تبارك تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } أي لا تستطيع شيئاً من الأمر، وذكر ابن أبي حاتم ههنا حديث قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، جفت الصحف ورفعت الأقلام واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً. وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً" { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } أي الله كافيّ { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } كما قال هود عليه الصلاة والسلام حين قال قومه { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .(4/67)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا محمد بن حاتم عن أبي المقدام مولى آل عثمان عن محمد بن كعب القرظي حدثنا ابن عباس رضي الله عنهما رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل" ، وقوله تعالى: { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي على طريقتكم وهذا تهديد ووعيد { إِنِّي عَامِلٌ } أي على طريقتي ومنهجي { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي ستعلمون غب ذلك ووباله { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي في الدنيا { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي دائم مستمر لا محيد عنه وذلك يوم القيامة، أعاذنا الله منها.
{إِنّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنّاسِ بِالْحَقّ فَمَنِ اهْتَدَىَ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ اللّهُ يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الّتِي قَضَىَ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخرى إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ}
يقول تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: { إِنّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ } يعني القرآن { لِلنّاسِ بِالْحَقّ } أي لجميع الخلق من الإنس والجن لتنذرهم به {فمن اهتدى فلنفسه} أي فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه { وَمَن ضَلّ فَإنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا } أي إنما يرجع وبال ذلك على نفسه { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي بموكل أن يهتدوا { إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}. ثم قال تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان والوفاة الصغرى عند المنام كما قال تبارك وتعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ولهذا قال تبارك وتعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } فيه دلالة على أنه تجتمع في الملأ الأعلى كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره. وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا آوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". وقال بعض السلف تقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى. قال السدي إلى بقية أجلها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما يمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء ولا يغلط { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.(4/68)
{أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لّهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزّتْ قُلُوبُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَإِذَا ذُكِرَ الّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
يقول تعالى ذاماً للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان حداهم على ذلك وهي لا تملك شيئاً من الأمر بل وليس لها عقل تعقل به ولا سمع تسمع به ولا بصر تبصر به بل هي جمادات أسوأ من الحيوان بكثير، ثم قال: قل أي يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن ما اتخذوه من شفعاء لهم عند الله تعالى أخبرهم أن الشفاعة لا تنفع عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له فمرجعها كلها إليه { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي هو المتصرف في جميع ذلك { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يوم القيامة فيحكم بينكم بعدله ويجزي كلاً بعمله، ثم قال تعالى ذاماً للمشركين أيضاً: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ } أي إذا قيل لا إله إلا الله وحده { اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } قال مجاهد اشمأزت انقبضت وقال السدي نفرت وقال قتادة كفرت واستكبرت وقال مالك عن زيد بن أسلم استكبرت كما قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } أي عن المتابعة والانقياد لها فقلوبهم لا تقبل الخير ومن لم يقبل الخير يقبل الشر ولذلك قال تبارك تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } أي من الأصنام والأنداد قال مجاهد { ِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي يفرحون ويسرون.
{قُلِ اللّهُمّ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوَءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
يقول تبارك وتعالى بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر من المذمة لهم في حبهم الشرك ونفرتهم عن التوحيد { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي ادع أنت الله وحده لا شريك له الذي خلق السموات والأرض وفطرها أي جعلها على غير مثال سبق { عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي السر والعلانية { أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي في دنياهم ستفصل بينهم يوم معادهم ونشورهم وقيامهم من قبورهم. قال مسلم في صحيحه: حدثنا عبد بن حميد حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" . وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا سهيل عن أبي صالح وعبد الله بن عثمان بن خثيم عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول(4/69)
الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا لله أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، إلا قال عز وجل لملائكته يوم القيامة: إن عبدي قد عهد إلي عهداً فأوفوه إياه فيدخله الله الجنة" قال سهيل: فأخبرت القاسم بن عبد الرحمن أن عوناً أخبر بكذا وكذا فقال: ما فينا جارية إلا وهي تقول هذا في خدرها انفرد به الإمام أحمد، وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله أن أبا عبد الرحمن حدثه قال أخرج لنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قرطاساً وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا نقول: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت رب كل شيء وإله كل شيء أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك والملائكة يشهدون، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك من أن أقترف على نفسي إثماً أو أجره إلى مسلم. قال أبو عبد الرحمن رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن ينام، تفرد به أحمد أيضاً.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقلت له حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى بين يدي صحيفة فقال:هذا ما كتب لي رسول الله فنظرت فيها فإذا فيها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه أو أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم" ورواه الترمذي عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن عياش به وقال حسن غريب من هذا الوجه. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم حدثنا شيبان عن ليث عن مجاهد قال: قال أبو بكر الصديق: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي من الليل: اللهم فاطر السموات والأرض إلخ. وقوله عز وجل: { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } وهم المشركون { مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي ولو أن جميع ما في الأرض وضعفه معه { لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ } أي الذي أوجبه الله تعالى لهم يوم القيامة ومع هذا لا يقبل منهم الفداء ولو كان ملء الأرض ذهباً كما قال في الآية الأخرى: { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } أي وظهر لهم من الله من العذاب والنكال بهم ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم والمآثم { وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا.
{فَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ ضُرّ دَعَانَا ثُمّ إِذَا خَوّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنّا قَالَ إِنّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىَ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(4/70)
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن الإنسان أنه في حال الضراء يتضرع إلى الله عز وجل وينيب إليه ويدعوه وإذا خوله نعمة منه بغى وطغى وقال { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أي لما يعلم الله تعالى من استحقاقي له ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا، قال قتادة على علم عندي على خبر عندي قال الله عز وجل: { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي مع علمنا المتقدم بذلك فهي فتنة أي اختبار { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } فلهذا يقولون ما يقولون ويدعون ما يدعون { قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي فما صح قولهم ولا منعهم جمعهم وما كانوا يكسبون { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ } أي من المخاطبين { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي كما أصاب أولئك { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } كما قال تبارك وتعالى مخبراً عن قارون أنه قال له قومه { لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } وقال تعالى: { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } وقوله تبارك وتعالى: { أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } أي يوسعه على قوم ويضيقه على آخرين { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لعبراً وحججاً.
{قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ وَأَنِيبُوَاْ إِلَىَ رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتّبِعُوَاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَحَسْرَتَا عَلَىَ مَا فَرّطَتُ فِي جَنبِ اللّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنّ اللّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنّ لِي كَرّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَىَ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال يعلى إن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } ونزل { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا(4/71)
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج عن يعلى بن مسلم المكي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما به. والمراد من الآية الأولى قوله تعالى: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} الآية. وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو قبيل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } إلى آخر الآية فقال رجل يا رسول الله فمن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ألا ومن أشرك" ثلاث مرات تفرد به الإمام أحمد. وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا سريج بن النعمان حدثنا نوح بن قيس عن أشعث بن جابر الحداني عن مكحول عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصا له فقال: يا رسول الله لي غدارات وفجرات فهل يغفر لي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟" قال: بلى وأشهد أنك رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "قد غفر لك غدراتك وفجراتك" تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } ولا يبالي { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ورواه أبو داود والترمذي من حديث ثابت به. فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ولا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت فإن باب الرحمة والتوبة واسع قال الله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } وقال عز وجل: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً } وقال جل وعلا في حق المنافقين: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا لَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا } وقال جل جلاله: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم قال جلت عظمته: { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقال تبارك وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } قال الحسن البصري رحمة الله عليه انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة والآيات في هذا كثيرة جداً. وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة، فقال: لا فقتله وأكمل به مائة ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة فقال ومن يحل بينك وبين التوبة. ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأمر الله عز وجل أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها فقبضته ملائكة الرحمة، وذكر أنه نأى بصدره عند الموت وأن الله تبارك وتعالى أمر البلدة الخيرة أن تقترب وأمر تلك البلدة أن تتباعد، هذا معنى الحديث وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } إلى آخر الآية قال قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من(4/72)
زعم أن المسيح هو الله ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ومن زعم أن عزيراً ابن الله ومن زعم أن الله فقير ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول الله تعالى لهؤلاء: { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء، من قال أنا ربكم الأعلى وقال: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال سمعت ابن مسعود يقول إن أعظم آية في كتاب الله { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ } وإن أكثر آية في القرآن فرحاً في سورة الزمر { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ } وإن أشد آية في كتاب الله تفويضاً { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } فقال له مسروق صدقت. وقال الأعمش عن أبي سعيد عن أبي الكنود قال مر عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه على قاص وهو يذكر الناس فقال يا مذكر لم تقنط الناس من رحمة الله ؟ ثم قرأ { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } رواه ابن أبي حاتم رحمه الله.
(ذكر أحاديث فيها نفي القنوط)
قال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان حدثنا أبو عبيدة عبد المؤمن بن عبيد الله حدثني حسن السدوسي قال: دخلت على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم" تفرد به أحمد. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثني الليث حدثني محمد بن قيس قاص عمر بن عبد العزيز عن أبي صرمة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة قد كنت كتمت منكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله عز وجل قوماً يذنبون فيغفر لهم" هكذا رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي جميعاً عن قتيبة عن الليث بن سعد به. ورواه مسلم من وجه آخر به عن محمد بن كعب القرظي عن أبي صرمة وهو الأنصاري صحابي عن أبي أيوب رضي الله عنهما به. وقال الإمام أحمد حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك البكري قال سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة الذنب الندامة" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم" تفرد به أحمد. وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثني عبد الأعلى بن حماد القرشي حدثنا داود بن عبد الرحمن حدثنا أبو عبد الله مسلمة بن عبد الله الرازي عن أبي عمرو البجلي عن عبد الملك بن سفيان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب العبد المفتن التواب" ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت وحميد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: إن إبليس لعنه الله تعالى قال يا رب إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال فأنت مسلط، قال يا رب زدني، قال لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله، قال يا رب زدني قال أجعل صدورهم مساكن لكم وتجرون منهم مجرى الدم قال يا رب زدني قال أجلب عليهم(4/73)
بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، فقال آدم عليه الصلاة والسلام يا رب قد سلطته علي وإني لا أمتنع إلا بك قال تبارك وتعالى لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء، قال يا رب زدني قال الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أمحوها قال يا رب زدني قال باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد قال يا رب زدني قال: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وقال محمد بن إسحاق قال نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما في حديثه قال وكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم قال فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} قال عمر رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه قال: فقال هشام لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوت ولا أفهمها حتى قلت اللهم أفهمنيها فألقى الله عز وجل في قلبي أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة فقال: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } الخ، أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وهو القرآن العظيم { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي من حيث لا تعلمون ولا تشعرون ثم قال عز وجل: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عز وجل، وقوله تبارك وتعالى: { وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزىء غير موقن مصدق { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبر الله سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه. وقال تعالى: { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } وقد قال الإمام أحمد حدثنا أسود حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فتكون عليه حسرة، قال وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني قال فيكون له الشكر" ورواه النسائي من حديث أبي بكر بن عياش به. ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا وتحسروا على(4/74)
تصديق آيات الله واتباع رسله وقال الله سبحانه وتعالى: { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أي قد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي في الدار الدنيا وقامت حججي عليك فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللّهِ وُجُوهُهُم مّسْوَدّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ وَيُنَجّي اللّهُ الّذِينَ اتّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسّهُمُ السّوَءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه وتبيض فيه وجوه، تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة قال تعالى ههنا: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللّهِ} أي في دعواهم له شريكاً وولداً { وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} أي بكذبهم وافترائهم وقوله تعالى: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أي أليست جهنم كافية لهم سجناً وموئلاً لهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا عيسى بن أبي عيسى الخياط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا من النار في واد يقال له بولس من نار الأنيار ويسقون من عصارة أهل النار ومن طينة الخبال". وقوله تبارك وتعالى: { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ } أي بما سبق لهم من السعادة والفوز عند الله { لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ } أي يوم القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي ولا يحزنهم الفزع الأكبر بل هم آمنون من كل فزع مزحزحون عن كل شر نائلون كل خير.
{اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لّهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونّيَ أَعْبُدُ أَيّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشّاكِرِينَ}
يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته، وقوله عز وجل: { لّهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال مجاهد: المقاليد هي المفاتيح بالفارسية، وكذا قال قتادة وابن زيد وسفيان بن عيينة، وقال السدي { لّهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي خزائن السموات والأرض، والمعنى على كلا القولين أن أزمة الأمور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولهذا قال جل وعلا: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ } أي حججه وبراهينه { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثا غريباً جداً وفي صحته نظر ولكن نحن نذكره كما ذكره فإنه قال حدثنا يزيد بن سنان البصري بمصر حدثنا يحيى بن حماد حدثنا الأغلب بن تميم عن مخلد بن هذيل العبدي عن عبد الرحمن المدني عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فقال: "ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان"(4/75)
قال صلى الله عليه وسلم: "تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده، أستغفر الله ولا قوة إلا بالله، الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصالاً ستاً: أما أولاهن فيحرس من إبليس وجنوده وأما الثانية فيعطى قنطاراً من الأجر، وأما الثالثة فترفع له درجة في الجنة، وأما الرابعة فيتزوج من الحور العين، وأما الخامسة فيحضره اثنا عشر ملكاً، وأما السادسة فيعطى من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وله مع هذا يا عثمان من الأجر، كمن حج وتقبلت حجته واعتمر فتقبلت عمرته فإن مات من يومه طبع عليه بطابع الشهداء" ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد به مثله وهو غريب وفيه نكارة شديدة والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه فنزلت { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وهذه كقوله تعالى: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وقوله عز وجل: { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدقك.
{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسّمَاوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ}
يقول تبارك وتعالى: { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ } أي ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره وقدرته، قال مجاهد: نزلت في قريش، وقال السدي: ما عظموه حق تعظيمه، وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ } هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم. فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمراراها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. قال البخاري قوله تعالى: { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ } حدثنا آدم حدثنا شيبان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد الله عز وجل يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الآية ورواه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع من صحيحه والإمام أحمد: ومسلم والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما كلهم من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه، وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على أصبع والسموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، قال:(4/76)
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال وأنزل الله عز وجل { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } إلى آخر الآية، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به، وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن حسن الأشقر حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله سبحانه وتعالى السماء على ذه - وأشار بالسبابة - والأرض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه - كل ذلك يشير بأصابعه - قال فأنزل الله عز وجل { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } الآية وكذا رواه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن الصلت أبي جعفر عن أبي كدينة يحيى بن المهلب عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض" تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر. وقال البخاري في موضع آخر حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على أصبع وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك" تفرد به أيضاً من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر "يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم" فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرنّ به وقد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم زاد مسلم ويعقوب بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما به نحوه. ولفظ مسلم عن عبيد الله بن مقسم في هذا الحديث أنه نظر إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كيف يحكي النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ الله تبارك وتعالى سمواته وأرضيه بيده ويقول أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال البزار: حدثنا سليمان بن سيف حدثنا أبو علي الحنفي حدثنا عباد المنقري حدثني محمد بن المنكدر قال حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ - حتى بلغ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فقال المنبر هكذا فجاء وذهب ثلاث مرات والله أعلم، ورواه الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال صحيح. وقال الطبراني في المعجم الكبير حدثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي حدثنا حيان بن نافع عن صخر بن جويرية حدثنا سعيد بن سالم القداح عن معمر بن الحسن عن بكر بن خنيس عن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من أصحابه رضي الله عنهم: "إني قارىء عليكم آيات من آخر سورة الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة" فقرأها صلى الله عليه وسلم من عند { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ(4/77)
قَدْرِهِ } إلى آخر السورة فمنا من بكى ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك فقال صلى الله عليه وسلم: "إني سأقرؤها عليكم فمن لم يبك فليتباك" هذا حديث غريب جداً، وأغرب منه ما رواه في المعجم الكبير أيضاً حدثنا هاشم بن زيد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول ثلاث خلال غيبتهن عن عبادي لو رآهن رجل ما عمل بسوء أبداً: لو كشفت غطائي فرآني حتى استيقن ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا أتيتهم وقبضت السموات بيدي ثم قبضت الأرضين ثم قلت أنا الملك من ذا الذي له لملك دوني فأريهم الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير فيستيقنوها وأريهم النار وما أعددت لهم فيها من كل شر فيستيقنوها ولكن عمداً غيبت ذلك عنهم لأعلم كيف يعملون وقد بينته لهم" وهذا إسناد متقارب وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة والله أعلم.
{وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىَ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة فقوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ } هذه النفخة هي الثانية وهي نفخة الصعق وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض إلا من شاء الله كما جاء مصرحاً به مفسراً في حديث الصور المشهور ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء ويقول (لمن الملك اليوم) ثلاث مرات ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول { اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أنا الذي كنت وحدي وقد قهرت كل شيء وحكمت بالفناء على كل شيء، ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل ويأمره أن ينفخ بالصور مرة أخرى وهي النفخة الثالثة نفخة البعث قال الله عز وجل: { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } أي أحياء بعدما كانوا عظاماً ورفاتاً صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ }. وقال عز وجل: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً } وقال جل وعلا: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم قال: سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال سمعت رجلاً قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إنك تقول الساعة تقوم إلى كذا وكذا قال لقد هممت أن لا أحدثكم شيئاً إنما قلت سترون بعد قليل أمراً عظيماً ثم قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً أو أربعين ليلة فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي فيظهر فيهلكه الله تعالى ثم يلبث الناس بعده سنين سبعاً ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله تعالى ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته حتى لو أنّ أحدهم كان في كبد جبل لدخلت عليه" قال سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويبقى شرار الناس في(4/78)
خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً قال فيتمثل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها وهم في ذلك دارة أرزاقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى له وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل الله تعالى أو ينزل الله عز وجل مطراً كأنه الطل - أو الطل شك نعمان - فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال أيها الناس هلموا إلى ربكم { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ } قال ثم يقال أخرجوا بعث النار قال فيقال كم ؟ فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيومئذٍ تبعث الولدان شيباً ويومئذٍ يكشف عن ساق" انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه)
وقال البخاري حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال سمعت أبا صالح قال قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما بين النفختين أربعون" قالوا يا أبا هريرة أربعون يوماً ؟ قال رضي الله تعالى عنه أبيت، قالوا أربعون سنة ؟ قال أبيت، قالوا أربعون شهراً ؟ قال أبيت ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق.
وقال أبو يعلي: حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت جبريل عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } من الذين لم يشأ الله تعالى أن يصعقهم ؟ قال هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم ملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت نمارها ألين من الحرير مد خطاها مد أبصار الرجال يسيرون في الجنة يقولون عند طول النزهة انطلقوا بنا إلى ربنا لننظر كيف يقضي بين خلقه يضحك إليهم إلهي وإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه" رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش فإنه غير معروف والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تبارك وتعالى: { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } قال قتادة كتاب الأعمال { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يشهدون على الأمم بأنهم بلغوا رسالات الله إليهم { وَالشُّهَدَاءِ } أي الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } أي بالعدل { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } قال الله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } وقال جل وعلا: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } ولهذا قال عز وجل: { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ } أي من خير وشر { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ }.
{وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَىَ وَلَكِنْ حَقّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ}(4/79)
يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار وإنما يساقون سوقاً عنيفاً. بزجر وتهديد ووعيد كما قال عز وجل: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } أي يدفعون إليها دفعاً، وهذا وهم عطاش ظماء كما قال جل وعلا في الآية الأخرى: { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً } وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي منهم من يمشي على وجهه { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } وقوله تبارك وتعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعاً لتعجل لهم العقوبة ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية الذين هم غلاظ الأخلاق شداد القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } أي من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } أي يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه { وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } أي ويحذرونكم من شر هذا اليوم، فيقول الكفار لهم { بَلَى } أي قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة التي كنا نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل كما قال عز وجل مخبراً عنهم في الآية الأخرى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي رجعوا على أنفسهم بالملامة والندامة { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي بعداً لهم وخساراً.
وقوله تبارك وتعالى ههنا { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي كل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم ولهذا قال جل وعلا: { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوال لكم عنها { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } أي فبئس المصير وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه فبئس الحال وبئس المآل.
{وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حيث يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة زمراً أي جماعة بعد جماعة: المقربون ثم الأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء والصديقون مع أشكالهم والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم وكل صنف مع صنف كل زمرة يناسب بعضها بعضاً { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا } أي وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين إذا انتهوا إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول فيقصدون آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمداً صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين كما فعلوا في(4/80)
العرصات عند استشفاعهم إلى الله عز وجل أن يأتي لفصل القضاء ليظهر شرف محمد صلى الله عليه وسلم على سائر البشر في المواطن كلها وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة" وفي لفظ لمسلم "وأنا أول من يقرع باب الجنة".
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم حدثنا سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت ؟ فأقول محمد - قال - فيقول بك أمرت أن لا افتح لأحد قبلك" ورواه مسلم عن عمرو بن محمد الناقد وزهير بن حرب كلاهما عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان وهو ابن المغيرة القيسي عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا" ورواه البخاري عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك. ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق كلاهما عن معمر بإسناده نحوه وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب درّي في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون أمشاطهم الذهب والفضة ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء" وأخرجاه أيضاً من حديث جرير وقال الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "اللهم اجعله منهم" ثم قام رجل من الأنصار فقال يا رسول الله ادع الله تعالى أن يجعلني منهم فقال صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عكاشة" أخرجاه وقد روى هذا الحديث - في السبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب - البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وابن مسعود ورفاعة بن عرابة الجهني وأم قيس بنت محصن رضي الله عنهم ولهما عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو سبعمائة ألفٍ آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وعدني ربي عز وجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي عز وجل" وكذا رواه الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبي اليمان عامر بن عبد الله بن لحيّ عن أبي أمامة ورواه الطبراني عن عتبة بن عبد السلمي "ثم مع كل ألف سبعين ألفاً" ويروى مثله عن ثوبان وأبي سعيد الأنماري وله شواهد من وجوه كثيرة(4/81)
. وقوله تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } لم يذكر الجواب ههنا، وتقديره حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم إكراماً وتعظيماً وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء لا كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب والتأنيب فتقديره إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم، وإذا حذف الجواب ههنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل، ومن زعم أن الواو في قوله تبارك وتعالى: { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } واو الثمانية واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع، وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث الصحيحة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان" فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم وأرجو أن تكون منهم" رواه البخاري ومسلم من حديث الزهري بنحوه وفيهما من حديث أبي حازم سلمة بن دينار عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة ثمانية أبواب باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون" وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" وقال الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الجنة لا إله إلا الله".
ذكر سعة أبواب الجنة - نسأل الله من فضله العظيم أن يجعلنا من أهلها
وفي الصحيحين من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل "فيقول الله تعالى يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر - أو هجر ومكة - وفي رواية - مكة وبصرى" وفي صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، وفي المسند عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، وقال عبد بن حميد حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن ما بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة". وقوله تبارك وتعالى: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أي طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم وطاب جزاؤكم كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بين المسلمين في بعض الغزوات "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة - وفي رواية - مؤمنة" وقوله: { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر والعطاء والنعيم المقيم والملك الكبير(4/82)
يقولون عند ذلك { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في الدنيا { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } وقوله: { وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }. قال أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وابن زيد أي أرض الجنة فهذه الآية كقوله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } ولهذا قالوا { نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } أي أين شئنا حللنا فنعم الأجر أجرنا على عملنا وفي الصحيحين من حديث الزهري عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك".
وقال عبد الرحمن بن حميد: حدثنا روح بن عبادة حدثنا حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة فقال در مكة بيضاء مسك خالص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق" وكذا رواه مسلم من حديث أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه به، ورواه مسلم أيضاً عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن الجرير عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال إن ابن صائد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال: "در مكة بيضاء مسك خالص". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً } قال سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم فلم تغير أبشارهم بعدها أبداً ولم تشعث أشعارهم أبداً بعدها كأنما دهنوا بالدهان ثم عمدوا إلى الأخرى كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى أو قذى وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة { سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا وقد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قال وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين فيقول هذا فلان باسمه في الدنيا فيقلن أنت رأيته فيقول نعم فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة الباب قال فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة وزرابي مبثوثة، قال ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض ومن كل لون ثم يرفع طرفه إلى سقفه فلولا أن الله تعالى قدره له لألم أن يذهب ببصره إنه لمثل البرق ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين ثم يتكىء على أريكة من أرائكه ثم يقول: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ }.
ثم قال: حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي قال: سمعت أبا معاذ البصري يقول إن علياً رضي الله عنه كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو يؤتون - بنوق لها أجنحة وعليها رحال الذهب شراك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها(4/83)
أبداً وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون - أو فيأتون - باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفيحة فيسمع لها طنين بأعلى فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها فيفتح له فإذا رآه خرّ له - قال مسلمة أراه قال ساجداً - فيقول ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر الياقوت حتى تعتنقه ثم تقول أنت حبي وأنا حِبّك وأنا الخالدة التي لا أموت وأنا الناعمة التي لا أبأس وأنا الراضية التي لا أسخط وأنا المقيمة التي لا أظعن فيدخل بيتاً من أسه إلى سقفه مائة ألف ذراع بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق أصفر وأخضر وأحمر ليس فيها طريقة تشاكل صاحبتها في البيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون حشية على كل حشية سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من باطن الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه، الأنهار من تحتهم تطرد أنهار من ماء غير آسن" - قال صاف لا كدر فيه - "وأنهار من لبن لم يتغير طعمه" - قال لم يخرج من ضروع الماشية - "وأنهار من خمرة لذة للشاربين" - قال لم تعصرها الرجال بأقدامهم - "وأنهار من عسل مصفى" - قال لم يخرج من بطون النحل، يستجني الثمار فإن شاء قائماً وإن شاء قاعداً وإن شاء متكئاً - ثم تلا { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض قال وربما قال أخضر قال فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء ثم يطير فيذهب فيدخل الملك فيقول: {سلام عليكم تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت في الأرض لأضاءت الشمس معها سواداً في نور" هذا حديث غريب وكأنه مرسل، والله أعلم.
{وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ}
لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار وأنه نزّل كلاً في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور وقد فصل القضية وقضي الأمر وحكم بالعدل ولهذا قال عز وجل: { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي بين الخلائق { بِالْحَقِّ }. ثم قال { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي نطق الكون أجمعه ناطقه وبهيمة لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد قال قتادة افتتح الخلق بالحمد في قوله: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.(4/84)
تفسير سورة غافر
وهي مكية
قد كره بعض السلف منهم محمد بن سيرين أن يقال الحواميم وإنما يقال آل حم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شيء لباباً ولباب القرآن آل حم أو قال الحواميم وقال مسعر بن كدام كان يقال لهن العرائس وروى ذلك كله الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في كتاب فضائل القرآن. وقال حميد بن زنجويه: حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلاً فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن أورده البغوي. وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات أتأنق فيهن. وقال أبو عبيد حدثنا الأشجعي حدثنا مسعر هو ابن كدام عمن حدثه أن رجلاً رأى أبا الدرداء رضي الله عنه يبني مسجداً فقال له ما هذا ؟ فقال أبنيه من أجل آل حم وقد يكون هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء رضي الله عنه هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق، وقد يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وضع له فإن هذا الكلام يدل على النصر على الأعداء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض الغزوات: "إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون - وفي رواية - لا تنصرون" وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا أحمد بن الحكم بن ظبيان بن خلف المازني ومحمد بن الليث الهمداني قالا: حدثنا موسى بن مسعود حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء" ثم قال لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد ورواه الترمذي من حديث المليكي وقال تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{حمَ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذّنبِ وَقَابِلِ التّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا وقد قيل إن {حم} اسم من أسماء الله عز وجل وأنشدوا في ذلك بيتاً:
يذكرني حم والرمح شاجر ... فهلا تلاحم قبل التقدم(4/85)
وقد ورد في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة قال: حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون" وهذا إسناد صحيح، واختار أبو عبيد أن يروى فقولوا حم لا ينصروا أي إن قلتم ذلك لا ينصروا جعله جزاء لقوله فقولوا.
وقوله تعالى: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن من الله ذي العزة والعلم فلا يرام جنابه ولا يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه. وقوله. عز وجل: { غَافِرِ الذّنبِ وَقَابِلِ التّوْبِ } أي يغفر ما سلف من الذنب ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع لديه. وقوله جل وعلا: { شَدِيدِ الْعِقَابِ } أي لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى وهذه كقوله: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } يقرن هذين الوصفين كثيراً في مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف، وقوله تعالى: { ذِي الطَّوْلِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني السعة والغنى، وهكذا قال مجاهد وقتادة، وقال يزيد بن الأصم ذي الطول يعني الخير الكثير. وقال عكرمة { ذِي الطَّوْلِ } ذي المن. وقال قتادة ذي النعم والفواضل، والمعنى أنه المتفضل على عباده المتطول عليهم بما هم فيه من المنة والإنعام التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } الآية. وقوله جلت عظمته: { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي لا نظير له في جميع صفاته فلا إله غيره فلا إله ولا رب سواه { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي المرجع والمآب فيجازي كل عامل بعمله { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة فقرأ عمر رضي الله عنه {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } وقال اعمل ولا تيأس. رواه ابن أبي حاتم: واللفظ له وابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا عمر يعني ابن أيوب حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففقده عمر فقال ما فعل فلان بن فلان، فقالوا يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب. قال فدعا عمر كاتبه: فقال اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ثم قال لأصحابه ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه، فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده ويقول: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي. ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان وزاد فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع، فلما بلغ عمر خبره قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زل زلة فسددوه ووثقوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شيبة حدثنا حماد بن واقد حدثنا أبو عمر الصفار حدثنا ثابت البناني قال كنت مع مصعب بن الزبير رضي الله عنه في سواد الكوفة فدخلت حائطاً أصلي ركعتين فافتتحت حم المؤمن حتى بلغت لا إله إلا هو إليه المصير فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية فقال إذا قلت غافر الذنب فقل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، وإذا قلت وقابل التوب فقل يا قابل التوب اقبل توبتي، وإذا قلت شديد العقاب فقل يا شديد العقاب لا تعاقبني، قال(4/86)
فالتفت فلم أر أحداً فخرجت إلى الباب فقلت مر بكم رجل عليه مقطعات يمنية، قالوا ما رأينا أحداً فكانوا يرون أنه إلياس، ثم رواه من طريق أخرى عن ثابت بنحوه وليس فيه ذكر إلياس والله سبحانه وتعالى أعلم.
{مَا يُجَادِلُ فِيَ آيَاتِ اللّهِ إِلاّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمّتْ كُلّ أُمّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَلِكَ حَقّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ النّارِ}
يقول تعالى ما يدفع ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان { إِلاّ الّذِينَ كَفَرُواْ } أي الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ } أي في أموالها ونعيمها وزهرتها كما قال جل وعلا: { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } وقال عز وجل: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } ثم قال تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه بأن له أسوة فيمن سلف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه قد كذبهم أممهم وخالفوهم وما آمن بهم منهم إلا قليل فقال: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } وهو أول رسول بعثه الله ينهى عن عبادة الأوثان { وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي من كل أمة { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي ما حلوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي.
وقد قال أبو القاسم الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا معتمر بن سليمان قال سمعت أبي يحدث عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعان باطلاً ليدحض به حقاً فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم" وقوله جلت عظمته: { فَأَخَذْتُهُمْ } أي أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي فكيف بلغك عذابي لهم ونكالي بهم قد كان شديداً موجعاً مؤلماً. قال قتادة كان شديداً والله. وقوله جل جلاله: { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } أي كما حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من الأمم السالفة كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد بطريق الأولى والأحرى لأن من كذبك فلا وثوق له بتصديق غيرك، والله أعلم.
{الّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدْتّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ(4/87)
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة ومن حوله من الملائكة الكروبيين بأنهم يسبحون بحمد ربهم أي يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي خاشعون له أذلاء بين يديه وأنهم { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي من أهل الأرض ممن آمنوا بالغيب فقيض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب كما ثبت في صحيح مسلم "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله". وقد قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد وهو ابن أبي شبية حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق أمية بن أبي الصلت في شيء من شعره" فقال:
زحل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق" فقال:
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد
تأبى فما تطلع لنا في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق" وهذا إسناد جيد وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية كما قال تعالى: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } وهنا سؤال وهو أن يقال ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ودلالة هذا الحديث ؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود حدثنا محمد بن الصباح البزار حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: "ما تسمون هذه ؟" قالوا السحاب، قال: "والمزن" قالوا والمزن قال: "والعنان" قالوا والعنان، قال أبو داود ولم أتقن العنان جيداً، قال: "هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض ؟" قالوا لا ندري، قال: "بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ثم السماء فوقها كذلك حتى عد سبع سموات، ثم فوق السماء السابعة بحر ما بين أسفله وأعلاه مثل بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين السماء إلى سماء ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك" . ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سماك بن حرب به وقال الترمذي حسن غريب، وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية كما قال شهر بن حوشب رضي الله عنه: حملة العرش ثمانية: أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا يقولون إذا استغفروا للذين آمنوا { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً } أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } أي فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات وترك المنكرات { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة كما قال تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ(4/88)
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي ساوينا بين الكل في المنزلة لتقر أعينهم وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني بل رفعنا ناقص العمل فساويناه بكثير العمل تفضلاً منا ومنة. وقال سعيد بن جبير إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم ؟ فيقال إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة ثم تلا هذه الآية { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } الآية وأغش عباده للمؤمنين الشياطين. وقوله تبارك وتعالى: { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي الذي لا يمانع ولا يغالب وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك { وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } أي فعلها أو وبالها ممن وقعت منه { وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } أي لطفت به ونجيته من العقوبة { وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللّهِ أَكْبَرُ مِن مّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُواْ رَبّنَآ أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىَ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للّهِ الْعَلِيّ الْكَبِيرِ هُوَ الّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكّرُ إِلاّ مَن يُنِيبُ فَادْعُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن الكفار إنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظون وذلك عندما باشروا من عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخباراً عالياً نادوهم نداء بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان فيكفرون أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة. قال قتادة في قوله تعالى: { َمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } يقول لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة، وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذر بن عبيد الله الهمداني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير الطبري رحمة الله عليهم أجمعين. وقوله: { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه هذه الآية كقوله تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وكذا قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية. وقال السدي أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة، وقال ابن زيد: أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم عليه السلام ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة، وهذان القولان من السدي وابن زيد ضعيفان لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات، والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما، والمقصود من هذا كله أن الكفار(4/89)
يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله عز وجل في عرصات القيامة كما قال عز وجل: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } فلا يجابون ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة فلا يجابون قال الله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فإذا دخلوا النار وذاقوا مسّها وحسيسها ومقامعها وأغلالها كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة وهي قولهم { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } أي قدرتك عظيمة فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتاً ثم أمتنا ثم أحييتنا فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا فإنك قادر على ذلك لنعمل غير الذي كنا نعمل فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا، ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تجحده وتنفيه، ولهذا قال تعالى: { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } أي أنتم هكذا تكونون وإن رددتم إلى الدار الدنيا كما قال عز وجل: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وقوله جل وعلا: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الكبير } أي هو الحاكم في خلقه العادل الذي لا يجور فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء لا إله إلا هو، وقوله جل جلاله: { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها { وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً } وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه وهو ماء واحد فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء {وَمَا يَتَذَكَّر } أي يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها
{إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } أي من هو بصير منيب إلى الله تبارك وتعالى وقوله عز وجل: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا هشام يعني بن عروة بن الزبير عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن مدرس المكي قال: كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن هشام بن عروة وحجاج بن أبي عثمان وموسى بن عقبة ثلاثتهم عن أبي الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وذكر تمامه. وقد ثبت في الصحيح عن ابن الزبير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له(4/90)
الدين ولو كره الكافرون". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع حدثنا الخصيب بن ناصع حدثنا صالح يعني المري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه".
{رَفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ الْيَوْمَ تُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها كما قال تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الأرض السابعة في قول جماعة من السلف والخلف وهو الأرجح إن شاء الله وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة. وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة وقد تقدم في حديث الأوعال ما يدل على ارتفاعه عن السموات السبع بشيء عظيم. وقوله تعالى: { ُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } كقوله جلت عظمته: { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ } وكقوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } ولهذا قال عز وجل: { لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يوم التلاق اسم من أسماء يوم القيامة حذر الله منه عباده، وقال ابن جريج قال ابن عباس رضي الله عنهما يلتقي فيه آدم وآخر ولده وقال ابن زيد يلتقي فيه العباد. وقال قتادة والسدي وبلال بن سعد وسفيان بن عيينة يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والخالق والخلق، وقال ميمون بن مهران يلتقي الظالم والمظلوم، وقد يقال إن يوم التلاق يشمل هذا كله ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمله من خير وشر كما قاله آخرون.
وقوله جل جلاله: { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } أي ظاهرون بادون كلهم لا شيء يكنهم ولا يظلهم ولا يسترهم ولهذا قال: { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } أي الجميع في علمه على السواء. وقوله تبارك وتعالى: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قد تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه تعالى يطوي السموات والأرض بيده ثم يقول أنا الملك أنا الجبار أنا المتكبر، أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ وفي حديث الصور أنه عز وجل إذا قبض أرواح جميع خلقه فلم يبق سواه وحده لا شريك له حينئذ يقول لمن الملك اليوم ؟ ثلاث مرات ثم يجيب نفسه قائلاً { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي الذي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن غالب الدقاق حدثنا عبيد بن عبيدة حدثنا معتمر عن أبيه حدثنا أبو نضرة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات قال وينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا ويقول: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }. وقوله جلت عظمته: { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير(4/91)
ولا من شر بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها وبالسيئة واحدة قال تبارك وتعالى: { لا ظُلْمَ الْيَوْمَ } كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا - إلى أن قال - يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" وقوله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي يحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفساً واحدة كما قال جل وعلا: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وقال جل جلاله: { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ وَاللّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ}
يوم الآزفة اسم من أسماء يوم القيامة وسميت بذلك لاقترابها كما قال تعالى: { أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } وقال عز وجل: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } وقال جل وعلا: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } وقال: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } وقال جل جلاله: {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا} الآية. وقوله تبارك وتعالى: { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } قال قتادة وقفت القلوب في الحناجر من الخوف فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها، وكذا قال عكرمة والسدي وغير واحد، ومعنى كاظمين أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً } وقال ابن جريج { كَاظِمِينَ } أي باكين. وقوله سبحانه وتعالى: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم ولا شفيع يشفع فيهم بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير. وقوله تعالى: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } يخبر عز وجل عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من الله تعالى حق الحياء ويتقوه حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه فإنه عز وجل يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به وبهم المرأة الحسناء فإذا غفلوا لحظ إليها فإذا فطنوا غض بصره عنها فإذا غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض، وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على فرجها. رواه ابن أبي حاتم، وقال الضحاك { خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ } هو الغمز وقول الرجل رأيت ولم ير. أو لم أر وقد رأى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلم الله تعالى من العين في نظرها هل تريد الخيانة أم لا ؟ وكذا قال مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزني بها أم لا ؟ وقال السدي { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } أي من الوسوسة.
وقوله عز وجل: { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } أي يحكم بالعدل، قال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وهذا الذي فسر به ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية كقوله تبارك وتعالى: { لِيَجْزِيَ(4/92)
الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } وقوله جل وعلا: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي من الأصنام والأوثان والأنداد { لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } أي لا يملكون شيئاً ولا يحكمون بشيء { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أي سميع لأقوال خلقه بصير بهم فيهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحاكم العادل في جميع ذلك.
{أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَآثَاراً فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانَت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ إِنّهُ قَوِيّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
يقول تعالى: { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ } هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد { فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ } أي من الأمم المكذبة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة { وَآثَاراً فِي الأرْضِ } أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال عز وجل: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ } وقال تعالى: { وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } أي مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده عنهم راد، ولا وقاهم واق، ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها فقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات { فَكَفَرُوا } أي مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} تعالى أي أهلكهم ودمر عليهم وللكافرين أمثالها { إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي ذو قوة عظيمة وبطش شديد وهو { شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي عقابه أليم شديد وجيع، أعاذنا الله تبارك وتعالى منه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذّابٌ فَلَمّا جَآءَهُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوَاْ أَبْنَآءَ الّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيَ أَقْتُلْ مُوسَىَ وَلْيَدْعُ رَبّهُ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَىَ إِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}
يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ومبشراً له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات. والدلائل الواضحات. ولهذا قال تعالى: { بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } والسلطان هو الحجة والبرهان {إلى فرعون} وهو ملك القبط بالديار المصرية { وَهَامَانَ } وهو وزيره في مملكته { وَقَارُونَ } وكان أكثر الناس في زمانه مالاً وتجارة { فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } أي كذبوه وجعلوه ساحراً مجنوناً مموهاً كذاباً في أن الله أرسله وهذه(4/93)
كقوله تعالى: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا } أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله عز وجل أرسله إليهم { قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ } وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل. أما الأول فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم أو لمجموع الأمرين، وأما الأمر الثاني فللعلة الثانية ولإهانة هذا الشعب ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلام ولهذا قالوا: { أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } قال قتادة هذا أمر بعد أمر، قال الله عز وجل: { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } أي وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب وهالك في ضلال { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } وهذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى إلى قتل موسى عليه الصلاة والسلام أي قال لقومه دعوني حتى أقتل لكم هذا { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي لا أبالي به، وهذا في غاية الجحد والتهجم والعناد، وقوله قبحه الله: {إني أخاف إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } يعني موسى، يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم، وهذا كما يقال في المثل: صار فرعون مذكراً، يعني واعظاً يشفق على الناس من موسى عليه السلام. وقرأ الأكثرون { أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } وقرأ الآخرون { أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } وقرأ بعضهم { يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } بالضم { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي لما بلغه قول فرعون { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى } قال موسى عليه السلام استجرت بالله وعذت به من شره وشر أمثاله ولهذا قال: { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أيها المخاطبون { مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } أي عن الحق مجرم { لا يؤمن بيوم الحساب} ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: "اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم".
{وَقَالَ رَجُلٌ مّؤْمِنٌ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ يَقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ}
المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطياً من آل فرعون قال السدي: كان ابن عم فرعون ويقال إنه الذي نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام، واختاره ابن جرير ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيلياً لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه وكف عن قتل موسى عليه السلام، ولو كان إسرائيلياً لأوشك أن يعاجل بالعقوبة لأنه منهم وقال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون والذي قال: { يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} رواه ابن أبي حاتم وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى }(4/94)
فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل. وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر كما ثبت بذلك الحديث، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: {أتقتلون رجلاً أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني محمد بن إبراهيم التيمي حدثني عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ؟} انفرد به البخاري من حديث الأوزاعي قال وتابعه محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني حدثنا عبدة عن هشام يعني ابن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سئل ما أشد ما رأيت قريشاً بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال مر صلى الله عليه وسلم بهم ذات يوم فقالوا له أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ فقال: "أنا ذاك" فقاموا إليه فأخذوا بمجامع ثيابه فرأيت أبا بكر رضي الله عنه محتضنه من ورائه وهو يصيح بأعلى صوته وإن عينيه لتسيلان وهو يقول: يا قوم { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة فجعله من مسند عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقوله تعالى: { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } أي كيف تقتلون رجلاً لكونه يقول ربي الله وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق ؟ ثم تنزل معهم في المخاطبة فقال: { وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} يعني إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه فإن يك كاذباً فإن الله سبحانه وتعالى سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة وإن يكن صادقاً وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة فمن الجائز عندكم أن يكون صادقاً فينبغي على هذا أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه. وهكذا أخبر الله عز وجل عن موسى عليه السلام أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ } وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله ولا يمسوه بسوء ويصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته قال الله عز وجل: { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي أن لا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس، وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية وكان فتحاً مبيناً، وقوله جل وعلا: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } أي لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذباً كما تزعمون لكان أمره بيناً يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله فكانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب وهذا نرى أمره سديداً ومنهجه مستقيماً، ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله، ثم قال المؤمن محذراً قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } أي قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم(4/95)
واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } أي لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ولا ترد عنا شيئاً من بأس الله إن أرادنا بسوء قال فرعون لقومه راداً على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } أي ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي وقد كذب فرعون فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِر } وقال الله تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } فقوله: { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } كذب فيه وافترى وخان الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورعيته فغشهم وما نصحهم وكذا قوله: { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضاً في ذلك وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه قال الله تبارك وتعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } وقال جلت عظمته: { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} وفي الحديث "ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام" والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
{وَقَالَ الّذِيَ آمَنَ يَقَوْمِ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ وَيَقَوْمِ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنَادِ يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكّ مّمّا جَآءَكُمْ بِهِ حَتّىَ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مّرْتَابٌ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ وَعِندَ الّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبّارٍ}
هذا إخبار من الله عز وجل عن هذا الرجل الصالح مؤمن آل فرعون أنه حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة فقال: { يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } أي الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم المكذبة كيف حل بهم بأس الله وما رده عنهم راد ولا صده عنهم صاد { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ } أي إنما أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره فأنفذ فيهم قدره ثم قال: { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } يعني يوم القيامة وسمي بذلك، قال بعضهم لما جاء في حديث الصور أن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر وماجت وارتجت فنظر الناس إلى ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضاً وقال آخرون منهم الضحاك بل ذلك إذا جيء بجنهم ذهب الناس هراباً منهم فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر وهو قوله تعالى: { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } وقوله: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه والحسن والضحاك أنهم قرأوا يوم التناد بتشديد الدال من ند البعير إذا شرد وذهب وقيل لأن الميزان عنده ملك إذا وزن عمل العبد فرجح نادى بأعلى صوته ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف عمله نادى ألا قد شقي فلان بن فلان وقال قتادة: ينادي كل قوم بأعمالهم، ينادي أهل الجنة أهل الجنة(4/96)
وأهل النار أهل النار، وقيل سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ } ومناداة أهل النار أهل الجنة { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } ولمناداة أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار كما هو مذكور في سورة الأعراف، واختار البغوي وغيره أنه سمي بذلك لمجموع ذلك وهو قول حسن جيد، والله أعلم وقوله تعالى: { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي ذاهبين هاربين { كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } ولهذا قال عز وجل: { مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي من أضله الله فلا هادي له غيره. وقوله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} يعني أهل مصر وقد بعث الله فيهم رسولاً من قبل موسى عليه الصلاة والسلام وهو يوسف عليه الصلاة والسلام كان عزيز أهل مصر وكان رسولاً يدعو إلى الله تعالى أمته بالقسط فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي ولهذا قال تعالى: { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً } أي يئستم فقلتم طامعين: { لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً ً} وذلك لكفرهم وتكذيبهم { كذلك يضل الله من هو مسرف } أي كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه، ثم قال عز وجل: { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي الذين يدفعون الحق بالباطل ويجادلون بالحجج بغير دليل وحجة معهم من الله تعالى فإن الله عز وجل يمقت على ذلك أشد المقت ولهذا قال تعالى: { كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي والمؤمنون أيضاً يبغضون من تكون هذه صفته فإن من كانت هذه صفته يطبع الله على قلبه فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً ولهذا قال تبارك وتعالى: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ } أي على اتباع الحق { جَبَّارٍ } وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة وحكي عن الشعبي أنهما قالا: لا يكون الإنسان جباراً حتى يقتل نفسين وقال أبو عمران الجوني وقتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق، والله تعالى أعلم.
{وَقَالَ فَرْعَوْنُ يَهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لّعَلّيَ أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السّمَاوَاتِ فَأَطّلِعَ إِلَىَ إِلَهِ مُوسَىَ وَإِنّي لأظُنّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوَءُ عَمَلِهِ وَصُدّ عَنِ السّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبَابٍ}
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وعتوه وتمرده وافترائه في تكذيبه موسى عليه الصلاة والسلام أنه أمر وزيره هامان أن يبني له صرحاً وهو القصر العالي المنيف الشاهق وكان اتخاذه من الآجر المضروب من الطين المشوي كما قال تعالى: { فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً } ولهذا قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون البناء بالآجر وأن يجعلوه في قبورهم رواه ابن أبي حاتم، وقوله { لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } إلخ قال سعيد بن جبير وأبو صالح أبواب السموات وقيل طرق السموات { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً } وهذا من كفره وتمرده أنه كذب موسى عليه الصلاة والسلام في أن الله عز وجل أرسله إليه قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } أي بصنيعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية أنه يعمل شيئاً يتوصل به إلى تكذيب موسى عليه الصلاة والسلام ولهذا قال تعالى: { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } قال ابن عباس ومجاهد يعني إلا في خسار.(4/97)
{وَقَالَ الّذِيَ آمَنَ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ يَقَوْمِ إِنّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنّ الآخرة هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}
يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الجبار الأعلى فقال لهم: { يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ } لا كما كذب فرعون في قوله: { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الأخرى وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى عليه الصلاة والسلام فقال: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ } أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل { وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } أي الدار التي لا زوال لها ولا انتقال منها ولا ظعن عنها إلى غيرها بل إما نعيم وإما جحيم ولهذا قال جلت عظمته: { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا } أي واحدة مثلها { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله عز وجل ثواباً كثيراً لا انقضاء له ولا نفاد والله تعالى الموفق للصواب.
{وَيَقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ لاَ جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدّنْيَا وَلاَ فِي الآخرة وَأَنّ مَرَدّنَآ إِلَى اللّهِ وَأَنّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ}
يقول لهم المؤمن ما بالي أدعوكم إلى النجاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الله الذي بعثه { وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي على جهل بلا دليل { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ } أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه { لاَ جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ } يقول حقاً ؟ قال السدي وابن جرير معنى قوله { لاَ جَرَمَ } حقاً. وقال الضحاك { لاَ جَرَمَ } لا كذب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لا جرم} يقول: بلى إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ } قال مجاهد: الوثن ليس له شيء، وقال قتادة يعني الوثن لا ينفع ولا يضر، وقال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا كقوله تبارك وتعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } وقوله: { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ } أي في الدار الآخرة فيجازي كلاً بعمله ولهذا قال: { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عز وجل:(4/98)
{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } أي وأتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم { إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي هو بصير بهم تعالى وتقدس فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال وله الحجة البالغة والحكمة التامة والقدر النافذ. وقوله تبارك وتعالى: { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } أي في الدنيا والآخرة، وأما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام وأما في الآخرة فبالجنة { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ولهذا قال: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } أي أشده ألماً وأعظمه نكالاً، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً }.
ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ وقد قال الإمام أحمد حدثنا هاشم هو ابن القاسم أبو النضر حدثنا إسحاق بن سعيد هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص حدثنا سعيد يعني أباه عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية وقاك الله عذاب القبر قالت رضي الله عنها: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا، من زعم ذلك ؟" قالت هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئاً من المعروف إلا قالت وقاك الله عذاب القبر قال صلى الله عليه وسلم: "كذبت يهود وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة" ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته "القبر كقطع الليل المظلم، أيها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيراً وضحكتم قليلاً، أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق" وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وروى أحمد حدثنا يزيد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سألتها امرأة يهودية فأعطتها فقالت لها وقاك الله من عذاب القبر فأنكرت عائشة رضي لله عنها ذلك فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له فقال صلى الله عليه وسلم: "لا" قالت عائشة رضي الله عنها ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم" وهذا أيضاً على شرطهما. فيقال فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية وفيها دلالة على عذاب البرزخ ؟ والجواب أن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدواً وعشياً في البرزخ وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصاً بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها. وقد يقال إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب. ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود وهي تقول أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم، فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما يفتن يهود" قالت عائشة رضي الله عنها فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنكم تفتنون في القبور" وقالت عائشة رضي الله عنها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر، وهكذا رواه مسلم عن هارون بن سعيد وحرملة كلاهما عن ابن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به.(4/99)
وقد يقال إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بخصوصه استعاذ منه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روى البخاري من حديث شعبة عن أشعث ابن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فقالت نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم عذاب القبر حق" قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. فهذا يدل على أنه بادر صلى الله عليه وسلم إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر وقرر عليه، وفي الأخبار المتقدمة أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي فلعلهما قضيتان والله سبحانه أعلم وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً وقال قتادة في قوله تعالى: { غُدُوّاً وَعَشِيّاً } صباحاً ومساء ما بقيت الدنيا يقال لهم يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم، وقال ابن زيد هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة. وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا المحاربي حدثنا ليث عن عبد الرحمن بن ثروان عن هذيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاؤوا، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها، وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهذيل بن شرحبيل من كلامه في أرواح آل فرعون وكذلك قال السدي. وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه "ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم مصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا زيد بن أخرم حدثنا عامر بن مدرك الحارثي حدثنا عتبة - يعني ابن يقظان - عن قيس بن مسلم عن طارق عن شهاب عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى" قال قلنا يا رسول الله ما إثابة الله الكافر ؟ فقال: "إن كان قد وصل رحماً أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك" قلنا فما إثابته في الآخرة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "عذاباً دون العذاب" وقرأ { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } ورواه البزار في مسنده عن زيد بن أخرم ثم قال: لا نعلم له إسناداً غير هذا. وقال ابن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: رحمك الله رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضاً فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله عز وجل فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً قال وفطنتم إلى ذلك ؟ قال نعم، قال إن ذلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشياً فترجع إلى وكورها وقد احترقت أرياشها وصارت سوداً فينبت عليها من الليل ريش أبيض ويتناثر الأسود ثم تغدو على النار غدواً وعشياً ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دأبهم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } قال وكانوا(4/100)
يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل، وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل إليه يوم القيامة" أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.
{وَإِذْ يَتَحَآجّونَ فِي النّارِ فَيَقُولُ الضّعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مّغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مّنَ النّارِ قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُلّ فِيهَآ إِنّ اللّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنّمَ ادْعُواْ رَبّكُمْ يُخَفّفْ عَنّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ قَالُوَاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ بَلَىَ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ}
يخبر تعالى عن تحاج أهل النار في النار وتخاصمهم وفرعون وقومه من جملتهم فيقول الضعفاء وهم الأتباع للذين استكبروا وهم القادة والسادة والكبراء { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} أي أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ } أي قسطاً تتحملونه عنا { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } أي لا نتحمل عنكم شيئاً كفى بنا ما عندنا وما حملنا من العذاب والنكال { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } أي فقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا كما قال تعالى: { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ } لما علموا أن الله عز وجل لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم بل قد قال: { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } سألوا الخزنة وهم كالسجانين لأهل النار أن يدعوا لهم الله تعالى في أن يخفف عن الكافرين ولو يوماً واحداً من العذاب فقالت لهم الخزنة رادين عليهم { َوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي أو ما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل { قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا } أي أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود خلاصكم ونحن منكم براء ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم ولهذا قالوا: { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } أي إلا في ذهاب لا يقبل ولا يستجاب.
{إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوَءُ الدّارِ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىَ وَأَوْرَثْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِيّ وَالإِبْكَارِ إِنّ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ}(4/101)
قد أورد أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } سؤالاً فقال قد علم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجراً كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى فأين النصرة في الدنيا ثم أجاب عن ذلك بجوابين (أحدهما) أن يكون الخبر خرج عاماً والمراد به البعض قال وهذا سائغ في اللغة (الثاني) أن يكون المراد بالنصر والإنتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبهم أو بعد موتهم كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم وقد ذكر أن النمرود أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط الله تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إماماً وحكماً مقسطاً فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ويقتل الخنزير ويكسر الصليب، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام وهذه نصرة عظيمة وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب" وفي الحديث الآخر: "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث بالحرب" ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحداً وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً، قال السدي لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها. وهكذا نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناواه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم له وقتل صناديديهم، وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد، ثم منّ عليهم بأخذه الفداء منهم ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده فبلغوا عنه دين الله عز وجل ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا، وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة ولهذا قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل، قال مجاهد: الأشهاد الملائكة. وقوله تعالى: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } بدل من قوله: { وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وقرأ آخرون يوم بالرفع كأنه فسره به { وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ } وهم المشركون { مَعْذِرَتُهُمْ } أي لا يقبل منهم عذر ولا فدية { وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ } أي الإبعاد والطرد من الرحمة { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } وهي النار قاله السدي بئس المنزل والمقيل، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } أي سوء العاقبة وقوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } وهو ما بعثه الله عز وجل به من الهدى والنور { وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ } أي جعلنا لهم العاقبة(4/102)
وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه بما صبروا على طاعة الله تبارك وتعالى واتباع رسوله موسى عليه الصلاة والسلام وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوراة { هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وهي العقول الصحيحة السليمة. وقوله عز وجل: { فَاصْبِرْ } أي يا محمد { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك والله لا يخلف الميعاد وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك وقوله تبارك وتعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } هذا تهييج للأمة على الاستغفار { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ } أي في أواخر النهار وأوائل الليل { وَالْأِبْكَارِ } وهي أوائل النهار وأواخر الليل. وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } أي ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع وقولهم وقصدهم هو الموضوع { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } أي من حال مثل هؤلاء { هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان هذا تفسير ابن جرير.
وقال كعب وأبو العالية نزلت هذه الآية في اليهود { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } قال أبو العالية وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم وأنهم يملكون به الأرض فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم آمراً له أن يستعيذ من فتنة الدجال ولهذا قال عز وجل: { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وهذا قول غريب وفيه تعسف بعيد وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيَءُ قَلِيلاً مّا تَتَذَكّرُونَ إِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ لاّ رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}
يقول تعالى منبهاً على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة وأن ذلك سهل عليه يسير لديه بأنه خلق السموات والأرض وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى كما قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقال ههنا: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السموات والأرض وينكرون المعاد استبعاداً وكفراً وعناداً وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا ثم قال تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ } أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، بل بينهما فرق عظيم كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار { قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ } أي ما أقل ما يتذكر كثير من الناس ثم قال تعالى: { إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ } أي لكائنة وواقعة { لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها. قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أشهب حدثنا مالك عن شيخ قديم من أهل اليمن قدم من ثم قال: سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس واشتد حر الشمس، والله أعلم.(4/103)
{وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ}
هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة كما كان سفيان الثوري يقول: يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله وليس أحد كذلك غيرك يا رب. رواه ابن أبي حاتم وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبُنَيّ آدم حين يسأل يغضب
وقال قتادة: قال كعب الأحبار أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمة قبلها ولا نبي: كان إذا أرسل الله نبياً قال له أنت شاهد على أمتك وجعلتكم شهداء على الناس، وكان يقال له ليس عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وكان يقال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني حدثنا صالح المرّي قال: سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: "أربع خصال واحدة منهن لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين عبادي، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك علي فما عملت من خير جزيتك به وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك ". وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة" ثم قرأ { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير كلهم من حديث الأعمش به. وقال الترمذي: حسن صحيح ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير أيضاً من حديث شعبة عن المنصور والأعمش كلاهما عن ذر به، وكذا رواه ابن يونس عن أسيد بن عاصم بن مهران حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن ذر به، ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما وقال الحاكم صحيح الإسناد. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع أبو مليح المدني شيخ من أهل المدينة سمعه عن أبي صالح وقال مرة سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع الله عز وجل غضب عليه" تفرد به أحمد وهذا إسناد لا بأس به، وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا مروان الفزاري حدثنا صبيح أبو المليح سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يسأله يغضب عليه" قال ابن معين أبو المليح هذا اسمه صبيح كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد وأما أبو صالح هذا فهو الخوزي سكن شعب الخوز، قاله البزار في مسنده، وكذا وقع في روايته أبو المليح الفارسي عن أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه" وقال أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي: حدثنا همام حدثنا إبراهيم عن الحسن حدثنا نائل بن نجيح حدثني عائذ بن حبيب عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري وجدنا في ذؤابة سيفه كتاباً باسم الله الرحمن الرحيم(4/104)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبداً" . وقوله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } أي عن دعائي وتوحيدي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين حقيرين كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار ". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت أبي يحدث عن وهيب بن الورد حدثني رجل قال: كنت أسير ذات يوم في أرض الروم فسمعت هاتفاً من فوق رأس الجبل وهو يقول: يا رب عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحداً غيرك يا رب عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك. قال ثم ذهبت ثم جاءت الطامة الكبرى قال ثم عاد الثانية فقال يا رب عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يرضي غيرك قال وهيب وهذه الطامة الكبرى، قال فناديته أجني أنت أم إنسي ؟ قال بل إنسي اشغل نفسك بما يعنيك عما لا يعنيك.
{اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنّهَارَ مُبْصِراً إِنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ لاّ إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً وَالسّمَآءَ بِنَآءً وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَتَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيّ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ}
يقول تعالى ممتناً على خلقه بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه يستريحون من حركات ترددهم في المعايش بالنهار وجعل النهار مبصراً أي مضيئاَ ليتصرفوا فيه بالأسفار وقطع الأقطار والتمكن من الصناعات { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } أي لا يقومون بشكر نعم الله عليهم، ثم قال عز وجل: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي الذي فعل هذه الأشياء هو الله الواحد الأحد خالق الأشياء الذي لا إله غيره ولا رب سواه { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي فكيف تعبدون من الأصنام التي لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة منحوتة.
وقوله عز وجل: { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي كما ضل بعبادة غير الله كذلك أفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى. وجحدوا حجج الله وآياته وقوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً } أي جعلها لكم مستقراً بساطاً مهاداً تعيشون عليها وتتصرفون فيها وتمشون في مناكبها وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } أي سقفاً للعالم(4/105)
محفوظاً { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي فخلقكم في أحسن الأشكال ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم { وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي من المآكل والمشارب في الدنيا فذكر أنه خالق الدار والسكان والأرزاق فهو الخالق الرازق كما قال تعالى في سورة البقرة: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }. وقال تعالى ههنا بعد خلق هذه الأشياء: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين كلهم ثم قال تعالى: { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي هو الحي أزلاً وأبداً لم يزل ولا يزال وهو الأول والآخر والظاهر والباطن { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي لا نظير له ولا عديل { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو الحمد لله رب العالمين. قال ابن جرير: كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال لا إله إلا الله أن يتبعها بالحمد لله رب العالمين عملاً بهذه الآية. ثم روي عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق عن أبيه عن الحسين بن واقد عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى: { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وقال أبو أسامة وغيره عن إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن جبير قال إذا قرأت { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فقل لا إله إلا الله وقل على أثرها الحمد لله رب العالمين ثم قرأ { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا هشام يعني ابن عروة بن الزبير عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن بدر المكي قال كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل بهن دبر كل صلاة ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن هشام بن عروة وحجاج بن أبي عثمان وموسى بن عقبة ثلاثتهم عن أبي الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وذكر تمامه.
{قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَمّا جَآءَنِيَ الْبَيّنَاتُ مِن رّبّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوَاْ أَشُدّكُمْ ثُمّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّىَ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوَاْ أَجَلاً مّسَمّى وَلَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ هُوَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ}
يقول تبارك وتعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الله عز وجل ينهى أن يعبد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان وقد بين تبارك وتعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله جلت عظمته: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً } أي هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك { وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ } أي من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم بل تسقطه أمه سقطاً ومنهم من(4/106)
يتوفى صغيراً وشاباً وكهلاً قبل الشيخوخة كقوله تعالى: { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } وقال عز وجل ههنا: { وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قال ابن جريج تتذكرون البعث ثم قال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي هو المتفرد بذلك لا يقدر على ذلك أحد سواه { فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي لا يخالف ولا يمانع بل ما شاء كان لا محالة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ أَنّىَ يُصْرَفُونَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ ثُمّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلّواْ عَنّا بَل لّمْ نَكُنْ نّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ}
يقول تعالى ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله ويجادلون في الحق بالباطل كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } أي من الهدى والبيان { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، من الرب جل جلاله لهؤلاء كما قال تعالى: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وقوله عز وجل: { إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ } أي متصلة بالأغلال بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم ولهذا قال تعالى: { يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } كما قال تبارك وتعالى: { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } وقال تعالى بعد ذكر أكلهم الزقوم وشربهم الحميم: { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ - إلى أن قال - ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } وقال عز وجل: { إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتحقير والتصغير والتهكم والاستهزاء بهم، قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن منيع حدثنا منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة الخزامي عن خالد بن دريك عن يعلى بن منبه رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينشىء الله عز وجل سحابة لأهل النار سوداء مظلمة ويقال يا أهل النار أي شيء تطلبون ؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقولون نسأل بارد الشراب فتمطرهم أغلالاً تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمراً يلهب النار عليهم" هذا حديث غريب. وقوله تعالى: { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ } أي قيل لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله هل ينصرونكم اليوم { قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } أي ذهبوا فلم ينفعونا { بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً } أي جحدوا عبادتهم كقوله جلت عظمته: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ولهذا قال عز وجل: { كَذَلِكَ(4/107)
يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ }. وقوله: { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } أي تقول لهم الملائكة هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير حق ومرحكم وأشركم وبطركم { ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } أي فبئس المنزل والمقيل الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه، والله أعلم.
{فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه فإن الله تعالى سينجز لك ما وعدك من النصر والظفر على قومك وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ } أي في الدنيا وكذلك وقع فإن الله تعالى أقر أعينهم من كبرائهم وعظمائهم أبيدوا في يوم بدر ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في حياته صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل: { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة، ثم قال تعالى مسلياً له: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ } كما قال جل وعلا في سورة النساء سواء أي منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة { وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات إلا أن يأذن الله له في ذلك فيدل على صدقه فيما جاءهم به { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين { قُضِيَ بِالْحَقِّ } فينجي المؤمنين، ويهلك الكافرين ولهذا قال عز وجل: { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }.
{اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيّ آيَاتِ اللّهِ تُنكِرُونَ}
يقول تعالى ممتناً على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال إلى البلاد النائية، والأقطار الشاسعة والبقر تؤكل ويشرب لبنها وتحرث عليها الأرض، والغنم تؤكل ويشرب لبنها والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة كما فصل وبين في أماكن تقدم ذكرها في سورة الأنعام وسورة النحل وغير ذلك ولذا قال عز وجل ههنا {لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون} وقوله جل وعلا: { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم { فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ } أي لا تقدرون على إنكار شيء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.(4/108)
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدّ قُوّةً وَآثَاراً فِي الأرْضِ فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُم مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَلَمّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوَاْ آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}
يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم وما آثروه في الأرض وجمعوه من الأموال فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا رد عنهم ذرة من بأس الله وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل قال مجاهد: قالوا نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب وقال السدي: فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم فأتاهم من بأس الله تعالى ما لا قبل لهم به { وَحَاقَ بِهِمْ } أي أحاط بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي يكذبون ويستبعدون وقوعه { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } أي عاينوا وقوع العذاب بهم { قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } أي وحدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق: { آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قال الله تبارك وتعالى: { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } أي فلم يقبل الله منه لأنه قد استجاب لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام دعاءه حين قال: { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } وهكذا قال تعالى ههنا: { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } أي هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل ولهذا جاء في الحديث "إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة وعاين الملك فلا توبة حينئذ ولهذا قال تعالى: { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } آخر سورة غافر ولله الحمد والمنة.(4/109)
سورة فصلت
وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{حمَ تَنزِيلٌ مّنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيَ أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنّنَا عَامِلُونَ}
يقول تعالى: { حمَ تَنزِيلٌ مّنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ } يعني القرآن منزل من الرحمن الرحيم كقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وقوله: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } وقوله تبارك وتعالى: { كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ } أي بينت معانيه وأحكمت أحكامه { قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي في حال كونه قرآناً عربياً بيناً واضحاً فمعانيه مفصلة وألفاظه واضحة غير مشكلة كقوله تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أي هو معجز من حيث لفظه ومعناه { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وقوله تعالى: { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون { بَشِيراً وَنَذِيراً } أي تارة يبشر المؤمنين وتارة ينذر الكافرين { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } أي أكثر قريش فهم لا يفهمون منه شيئاً مع بيانه ووضوحه { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ } أي في غلف مغطاة { مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ } أي صمم عما جئتنا به { وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فلا يصل إلينا شيء مما تقوله { فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } أي اعمل أنت على طريقتك ونحن على طريقتنا لا نتابعك، قال الإمام العالم عبد بن حميد في مسنده: حدثني ابن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن الزيال بن حرملة الأسدي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه فقالوا ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا أنت يا أبا الوليد فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت خير أم عبد المطلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الاَلهة التي عِبْتَ وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً وأن في قريش كاهناً والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً، وإن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغت" قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - حتى بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فقال عتبة حسبك حسبك ما عندك غير هذا، فقال رسول الله(4/110)
صلى الله عليه وسلم: "لا" فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك ؟ قال ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك ؟ قال لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة. وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله سواه، وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي وقد ضعف بعض الشيء عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث إلى قوله: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم، فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمداً أبداً وقال والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب، وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى والله تعالى أعلم، وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط فقال حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيداً قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من السلطَة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع" قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: "أفرغت يا أبا الوليد ؟" قال نعم. قال: "فاستمع مني" قال أفعل. قال: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك" فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو(4/111)
الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. وهذا السياق أشبه من الذي قبله، والله أعلم.
{قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين { إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين إنما الله إله واحد { فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ } أي أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل { وَاسْتَغْفِرُوهُ } أي لسالف الذنوب { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} أي دمار لهم وهلاك عليهم { الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة وهذا كقوله تبارك وتعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وكقوله جلت عظمته: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وقوله عز وجل: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } والمراد بالزكاة ههنا طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك، وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام وتكون سبباً لزيادته وبركته وكثرة نفعه وتوفيقاً إلى استعماله في الطاعات، وقال السدي { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي يؤدون الزكاة، وقال معاوية بن قرة ليس هم من أهل الزكاة وقال قتادة يمنعون زكاة أموالهم وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين واختاره ابن جرير وفيه نظر لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة على ما ذكره غير واحد وهذه الآية مكية اللهم إلا أن يقال لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة وكان مأموراً به في ابتداء البعثة كقوله تبارك وتعالى: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بين أمرها بالمدينة ويكون هذا جمعاً بين القولين كما أن أصل الصلاة كان واجباً قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئاً فشيئاً والله أعلم. ثم قال جل جلاله بعد ذلك: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال مجاهد وغيره: غير مقطوع ولا مجبوب كقوله تعالى: { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } وكقوله عز وجل: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } وقال السدي غير ممنون عليهم وقد رد عليه هذا التفسير بعض الأئمة فإن المنة لله تبارك وتعالى على أهل الجنة قال الله تبارك وتعالى: { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ } وقال أهل الجنة فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا إن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
{قُلْ أَإِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ(4/112)
فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيَ أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَآءً لّلسّآئِلِينَ ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىَ فِي كُلّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
هذا إنكار من الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره وهو الخالق لكل شيء القاهر لكل شيء المقتدر على كل شيء فقال: { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً } أي نظراء وأمثالاً تعبدونها معه { ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم. وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى: {خلق السموات والأرض في ستة أيام} ففصل ههنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء فذكر أنه خلق الأرض أولاً لأنها كالأساس والأصل أن يبدأ بالأساس ثم بعده بالسقف كما قال عز وجل: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } الآية فأما قوله تعالى: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } ففي هذه الآية أن دحي الأرض كان بعد خلق السماء، فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله عنه فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه فإنه قال: وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فقد كتموا في هذه الآية وقال تعالى: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - إلى قوله - وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال تعالى: { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - إلى قوله - طَائِعِينَ } فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء قال: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } { عَزِيزاً حَكِيماً } { سَمِيعاً بَصِيراً } فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس رضي الله عنهما { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } في النفخة الأولى، ثم نفخ في الصور { فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون بينهم في النفخة الأخرى { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } وأما قوله: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } فإن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول لم نكن مشركين فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك يعرف أن الله تعالى لا يكتم حديثاً، وعنده { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى دحاها وقوله: { خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السموات في يومين { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } سمى نفسه بذلك وذلك قوله أي لم يزل كذلك فإن الله تعالى لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلفن عليك القرآن فإن كلاً من عند الله عز وجل. قال البخاري حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال هو ابن(4/113)
عمرو بالحديث. وقوله: { خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } يعني يوم الأحد ويوم الإثنين { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } أي جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس وقدر فيها أقواتها وهو ما تحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس يعني يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع اليومين السابقين أربعة ولهذا قال: { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } أي لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه وقال عكرمة ومجاهد في قوله عز وجل: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها ومنه العصب باليمن والسابوري بسابور والطيالسة بالري وقال ابن عباس وقتادة والسدي في قوله تعالى: { سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} أي لمن أراد السؤال عن ذلك وقال ابن زيد معناه وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين أي على وفق مراده من له حاجة إلى رزق أو حاجة فإن الله تعالى قدر له ما هو محتاج إليه وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى: { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } والله أعلم وقوله تبارك وتعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } وهو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض { فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْها } أي استجيبا لأمري وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين قال الثوري عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: { فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْها } قال: قال الله تبارك وتعالى للسموات أطلعي شمسي وقمري والنجوم وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } واختاره ابن جرير رحمه الله قالتا أتينا طائعين أي بل نستجيب لك مطيعين بما فينا مما تريد خلقه من الملائكة والجن والإنس جميعاً مطيعين لك، حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال وقيل تنزيلاً لهن معاملة من يعقل بكلامهما وقيل إن المتكلم من الأرض بذلك هو مكان الكعبة ومن السماء ما يسامته منها والله أعلم وقال الحسن البصري لو أبيا عليه أمره عليه لعذبهما عذاباً يجدان ألمه رواه ابن أبي حاتم { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } أي ففرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين أي آخرين وهما يوم الخميس ويوم الجمعة { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } أي ورتب مقرراً في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } وهي الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض { وَحِفْظاً } أي حرساً من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم قال ابن جرير حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس قال هناد: قرأت سائر الحديث أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال صلى الله عليه وسلم: "خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران فهذه أربعة { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } لمن سأله قال وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة" ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد قال: "ثم استوى على العرش" قالوا قد أصبت لو أتممت، قالوا ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً فنزل { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } هذا الحديث فيه غرابة فأما حديث ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة(4/114)
رضي الله عنه قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" فقد رواه مسلم والنسائي في كتابيهما من حديث ابن جريج به وهو من غرائب الصحيح وقد علله البخاري في التاريخ فقال رواه بعضهم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار وهو الأصح.
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبّنَا لأنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَأَمّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدّ مِنّا قُوّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيَ أَيّامٍ نّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أَخْزَىَ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتّقُونَ}
يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله تعالى فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم كما حلت بالأمم الماضين من المكذبين بالمرسلين { صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } أي ومن شاكلهما ممن فعل كفعلهما { إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } كقوله تعالى: { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي في القرى المجاورة لبلادهم بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ومبشرين ومنذرين، ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم، وما ألبس أولياءه من النعم، ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا بل كذبوا وجحدوا وقالوا: { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً } أي لو أرسل الله رسلاً لكانوا ملائكة من عنده { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي أيها البشر { كَافِرُونَ } أي لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا قال الله تعالى: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي بغوا وعتوا وعصوا { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟} أي منوا بشدة تركيبهم وقواهم واعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها وأن بطشه شديد كما قال عز وجل: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } فبارزوا الجبار بالعداوة وجحدوا بآياته وعصوا رسله فلهذا قال: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } قال بعضهم وهي شديدة الهبوب، وقيل الباردة. وقيل هي التي لها صوت والحق أنها متصفة بجميع ذلك فإنها كانت ريحاً شديدة قوية لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم وكانت باردة شديدة البرد جداً كقوله تعالى: { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } أي باردة شديدة وكانت ذات صوت مزعج، ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق صرصراً لقوة صوت جريه.(4/115)
وقوله تعالى: { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } أي متتابعات { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } وكقوله: { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } أي ابتدأوا العذاب في يوم نحس عليهم واستمر بهم هذا النحس { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} حتى أبادهم عن آخرهم واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة ولهذا قال: { لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى } أي أشد خزياً لهم { وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ } أي في الآخرة كما لم ينصروا في الدنيا وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال، وقوله عز وجل: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو العالية وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن زيد: بينا لهم، وقال الثوري دعوناهم { فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } أي بصرناهم وبينا لهم ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام فخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ } أي بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلاً وهواناً وعذاباً ونكالاً { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي من التكذيب والجحود { وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا } أي من بين أظهرهم لم يمسهم سوء ولا نالهم من ذلك ضرر بل نجاهم الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بتقواهم لله عز وجل.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللّهِ إِلَى النّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتّىَ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُوَاْ أَنطَقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنّ اللّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنّكُمُ الّذِي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنّارُ مَثْوًى لّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ}
يقول تعالى: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللّهِ إِلَى النّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار يوزعون أي تجمع الزبانية أولهم على آخرهم كما قال تبارك وتعالى: { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً } أي عطاشاً. وقوله عز وجل: { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي وقفوا عليها { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي بأعمالهم مما قدموه وأخروه لا يكتم منه حرف { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا } أي لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم فعند ذلك أجابتهم الأعضاء { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي فهو لا يخالف ولا يمانع وإليه ترجعون. قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا علي بن قادم حدثنا شريك عن عبيد المكتب عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وابتسم فقال صلى الله عليه وسلم: "ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت ؟" قالوا يا رسول الله من أي شيء ضحكت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول أي ربي أليس وعدتني أن لا تظلمني، قال بلى فيقول فإني لا أقبل علي شاهداً إلا من نفسي فيقول الله تبارك وتعالى أوليس كفى بي شهيداً وبالملائكة الكرام الكاتبين - قال - فيردد هذا الكلام مراراً - قال - فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول بعداً لكن وسحقاً،(4/116)
عنكن كنت أجادل" ثم رواه هو وابن أبي حاتم من حديث أبي عامر الأسدي عن الثوري عن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو عن الشعبي ثم قال لا نعلم رواه عن أنس رضي الله عنه غير الشعبي وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعاً عن أبي بكر بن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي عن الثوري به. ثم قال النسائي لا أعلم أحداً رواه عن الثوري غير الأشجعي وليس كما قال كما رأيت والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى: ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عز وجل عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته قال فإذا فعل ذلك ختم على فيه، قال الأشعري رضي الله عنه: فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا حسن عن ابن لهيعة قال دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقول هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقول أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقول احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله تعالى وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: سمعت أبي يقول حدثنا علي بن زيد عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لابن الأزرق إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم ثم يؤذن لهم فيختصمون فيجحد الجاحد بشركه بالله تعالى فيحلفون له كما يحلفون لكم فيبعث الله تعالى عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم جلودهم وأبصارهم وأيديهم ويختم على أفواههم ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح فتقول: { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فتقر الألسنة بعد الجحود. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي، عن رافع أبي الحسن قال وصف رجلاً جحد قال فيشير الله تعالى إلى لسانه فيربو في فمه حتى يملأه فلا يستطيع أن ينطق بكلمة ثم يقول لاَ رابه كلها تكلمي واشهدي عليه فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده وفرجه ويداه ورجلاه صنعنا عملنا فعلنا. وقد تقدم أحاديث كثيرة وآثار عند قوله تعالى في سورة يس { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } بما أغنى عن إعادته ههنا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا يحيى بن سليم الطائفي عن ابن خثيم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: "ألا تحدثون بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟" فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً ؟ قال يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت صدقت كيف يقدس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم" هذا حديث غريب من هذا الوجه ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن سليم به(4/117)
وقوله تعالى: { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } أي تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي ولا تبالون منه في زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم ولهذا قال تعالى: { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي هذا الظن الفاسد وهو اعتقادكم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً مما تعملون هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم { فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم. قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وختناه ثقفيان - أو ثقفي وختناه قرشيان - كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا، فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإذا لم نرفعه لم يسمعه فقال الآخر: إن سمع منه شيئاً سمعه كله - قال - فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ - إلى قوله - مِنَ الْخَاسِرِينَ } وهكذا رواه الترمذي عن هناد عن أبي معاوية بإسناده نحوه، وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضاً من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود بنحوه، ورواه البخاري ومسلم أيضاً من حديث السفيانين كلاهما عن منصور عن مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود رضي الله عنه به وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } قال: "إنكم تدعون يوم القيامة مفدماً على أفواهكم بالفدام فأول شيء يبين عن أحدكم فخذه وكفه" قال معمر: وتلا الحسن { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى أنا مع عبدي عند ظنه بي وأنا معه إذا دعاني" ثم افتر الحسن ينظر في هذا فقال: ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساءا العمل ثم قال: قال الله تبارك وتعالى: { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ - إلى قوله - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } الآية. وقال الإمام أحمد: حدثنا النضر بن إسماعيل القاص وهو أبو المغيرة حدثنا ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن فإن قوماً قد أرداهم سوء ظنهم بالله فقال الله تعالى: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وقوله تعالى: { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا هم في النار لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارهم فما لهم أعذار ولا تقال لهم عثرات. قال ابن جرير: ومعنى قوله تعالى: { وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا } أي يسألوا الرجعة إلى الدنيا فلا جواب لهم قال وهذا كقوله تعالى إخباراً عنهم: { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ }.
{وَقَيّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيّنُواْ لَهُم مّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِيَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ إِنّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ(4/118)
لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَسْوَأَ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللّهِ النّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُون وَقَال الّذِينَ كَفَرُواْ رَبّنَآ أَرِنَا اللّذَيْنِ أَضَلاّنَا مِنَ الْجِنّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ}
يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته وهو الحكيم في أفعاله بما قيض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن { فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين كما قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ }. وقوله تعالى: { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ممن فعل كفعلهم من الجن والإنس { إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي استووا هم وإياهم في الخسار والدمار. وقوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ } أي تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا للقرآن ولا ينقادوا لأوامره { وَالْغَوْا فِيهِ } أي إذا تلي لا تسمعوا له كما قال مجاهد والغوا فيه يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله، وقال الضحاك عن ابن عباس { وَالْغَوْا فِيهِ } عيبوه، وقال قتادة: اجحدوا به وأنكروه وعادوه { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ثم قال عز وجل منتصراً للقرآن ومنتقماً ممن عاداه من أهل الكفران { فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً } أي في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعهم { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي بشر أعمالهم وسيء أفعالهم { ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن مالك بن الحصين الفزاري عن أبيه عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: { الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } قال إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه. وهكذا روى العوفي عن علي رضي الله عنه مثل ذلك. وقال السدي عن علي رضي الله عنه فإبليس يدعو به كل صاحب شرك وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة فإبليس الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه وابن آدم الأول كما ثبت في الحديث "ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل". وقولهم: { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أي أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذاباً منا ولهذا قالوا { لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } أي في الدرك الأسفل من النار كما تقدم في الأعراف في سؤال الأتباع من الله تعالى أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } أي أنه تعالى قد أعطى كلاً منهم ما يستحقه من العذاب والنكال بحسب عمله وإفساده كما قال تعالى { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ }.
{إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيَ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رّحِيمٍ}(4/119)
يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا الجراح حدثنا سلم بن قتيبة أبو قتيبة الشعيري حدثنا سهيل بن أبي حزم حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها، وكذا رواه النسائي في تفسيره والبزار وابن جرير عن عمرو بن علي الفلاس عن سلم بن قتيبة به. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الفلاس به. ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن سعيد بن نمران قال: قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال هم الذين لم يشركوا بالله شيئاً ثم روى من حديث الأسود بن هلال قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال فقالوا: { رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } من ذنب فقال: لقد حملتموه على غير المحمل قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره. وكذا قال مجاهد وعكرمة والسدي وغير واحد وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني أخبرنا حفص بن عمر العدليّ عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال سئل ابن عباس رضي الله عنهما أي آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص ؟ قال قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } على شهادة أن لا إله إلا الله. وقال الزهري: تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما { قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } على أداء فرائضه، وكذا قال قتادة: قال وكان الحسن يقول اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة، وقال أبو العالية { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أخلصوا له الدين والعمل.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك قال صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم" قلت فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه. ورواه النسائي من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء به. ثم قال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إبراهيم بن سعد حدثني ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال صلى الله عليه وسلم: "قل ربي الله ثم استقم" قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول الله بطرف لسان نفسه ثم قال: "هذا" وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم" وذكر تمام الحديث. وقوله تعالى: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ } قال مجاهد والسدي وزيد بن أسلم وابنه: يعني عند الموت قائلين { أَلَّا تَخَافُوا } قال مجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة { أَلَّا تَخَافُوا } على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين فإنا نخلفكم فيه { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير: وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال: "إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان" وقيل إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم حكاه ابن جرير عن(4/120)
ابن عباس والسدي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد السلام بن مطهر حدثنا جعفر بن سليمان قال سمعت ثابتاً قرأ سورة حم السجدة حتى بلغ { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ } فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان لا تخف ولا تحزن { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } قال فيضمن من الله تعالى خوفه ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله تبارك وتعالى ولما كان يعمل في الدنيا وقال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جداً وهو الواقع. وقوله تبارك وتعالى: { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ } أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقربه العيون { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم { نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } أي ضيافة وعطاء من غفور لذنوبكم رحيم بكم رؤوف حيث غفر وستر ورحم ولطف. وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديث سوق الجنة عند قوله تعالى: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } فقال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبي)سعيد حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة رضي الله عنه أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد: أو فيها سوق ؟ فقال: نعم أخبرني رسول الله أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها ونزلوا بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ويوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور ما يرون أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً. قال أبو هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا، قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر" قلنا لا ، قال صلى الله عليه وسلم: "فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم تعالى ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى إنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم عملت كذا وكذا يذكره غدراته في الدنيا - أي رب أفلم تغفر لي، فيقول بلى، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه - قال - فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط - قال - ثم يقول ربنا عز وجل قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة وخذوا مااشتهيتم، قال فنأتي سوقاً قد حفت به الملائكة، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً. قال فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه. وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحباً وأهلاً بحبيبنا لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما(4/121)
فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به" وقد رواه الترمذي في صفة الجنة من جامعه عن محمد بن إسماعيل عن هشام بن عمار ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار به نحوه ثم قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قلنا يا رسول الله: كلنا نكره الموت قال صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحب الله لقاءه - قال - وإن الفاجر - أو الكافر - إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه" وهذا حديث صحيح وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ وَإِمّا يَنزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ}
يقول عز وجل: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ } أي دعا عباد الله إليه { وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه بل يأتمر بالخير ويترك الشر ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى وهذه عامة في كل من دعا إلى الخير وهو في نفسه مهتد ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء كما ثبت في صحيح مسلم "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة" وفي السنن مرفوعاً "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين" وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن الهروي حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة: حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: "سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين وهو بين الآذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه" قال: وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو كنت مؤذناً ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد قال: وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كنت مؤذناً لكمل أمري وما باليت أن لا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر للمؤذنين" ثلاثاً، قال: فقلت يا رسول الله تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف قال صلى الله عليه وسلم: "كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعافهم وتلك لحوم حرمها الله عز وجل على النار لحوم المؤذنين" قال وقالت عائشة رضي الله عنها ولهم هذه الآية { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قالت: فهو المؤذن إذا قال حي على الصلاة فقد دعا إلى الله وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة إنها نزلت في المؤذنين وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل {وعمل صالحا} يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة. ثم أورد البغوي(4/122)
حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين - صلاة - ثم قال في الثالثة - لمن شاء" وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من حديث عبد الله بن بريدة عنه وحديث الثوري عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال الثوري: لا أراه إلا قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة" ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة كلهم من حديث الثوري به وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه النسائي أيضاً من حديث سليمان التيمي عن قتادة عن أنس به. والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعاً بالكلية لأنها مكية والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبد الله بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه في منامه فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يلقيه على بلال رضي الله عنه فإنه أندى صوتاً كما هو مقرر في موضعه فالصحيح إذن أنها عامة كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فقال هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته وقال إنني من المسلمين هذا خليفة الله، وقوله تعالى: { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } أي فرق عظيم بين هذه وهذه { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
وقوله عز وجل: { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وهو الصديق إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك، ثم قال عز وجل: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك فإنه يشق على النفوس { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم. وقوله تعالى: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } أي أن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقة الذي سلطه عليك فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفه عنك ورد كيده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه"، وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف عند قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وفي سورة المؤمنين عند قوله: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ }.
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللّيْلُ وَالنّهَارُ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلّهِ الّذِي خَلَقَهُنّ إِن كُنتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالّذِينَ عِندَ رَبّكَ(4/123)
يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِيَ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
يقول تعالى منبهاً خلقه على قدرته وأنه الذي لا نظير له على ما يشاء قادر { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه وهما متعاقبان لا يفترقان، والشمس نورها وإشراقها والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه واختلاف سيره في سمائه ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور والأعوام، ويتبين حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات. ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال: { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره فإنه لا يغفر أن يشرك به ولهذا قال تعالى: { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا } أي عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره { فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } يعني الملائكة { يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ } كقوله عز وجل: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } . وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سفيان يعني ابن وكيع حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم وعذاباً لقوم". وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ } أي على قدرته على إعادة الموتى { أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً } أي هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
{إِنّ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىَ فِي النّارِ خَيْرٌ أَم مّن يَأْتِيَ آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمّا جَآءَهُمْ وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مّا يُقَالُ لَكَ إِلاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}
قوله تبارك وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } قال ابن عباس: الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه. وقال قتادة وغيره هو الكفر والعناد، وقوله عز وجل: { لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } فيه تهديد شديد ووعيد أكيد أي إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ولهذا قال تعالى: { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي أيستوي هذا وهذا ؟ لا يستويان. ثم قال عز وجل تهديداً للكفرة: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } وعيد أي من خير أو شر إنه عالم بكم وبصير بأعمالكم ولهذا قال: { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ثم قال جل جلاله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ } قال الضحاك والسدي وقتادة وهو القرآن { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد بمثله { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ } أي ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين ولهذا قال: { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } أي حكيم في(4/124)
أقواله وأفعاله حميد بمعنى محمود أي في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته. ثم قال عز وجل: { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } قال قتادة والسدي وغيرهما ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كذبوا وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على أذى قومك لك. وهذا اختيار ابن جرير ولم يحك هو ولا ابن أبي حاتم غيره وقوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } أي لمن تاب إليه { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } أي لمن استمر على كفره وطغيانه وعناده وشقاقه ومخالفته، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال نزلت هذه الآية { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد".
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيَ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ}
لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه ومع هذا لم يؤمن به المشركون نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت كما قال عز وجل: { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } وكذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت والعناد { لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي لقالوا هلا أنزل مفصلاً بلغة العرب ولأنكروا ذلك فقالوا أعجمي وعربي أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه ؟ هكذا روي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم ؟ وقيل المراد بقولهم لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي أي هل أنزل بعضها بالأعجمي وبعضها بالعربي ؟ هذا قول الحسن البصري وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله أعجمي وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في التعنت والعناد أبلغ ثم قال عز وجل: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ } أي قل يا محمد هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب { وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي لا يفهمون ما فيه { َهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً } أي لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال سبحانه وتعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } { أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } قال مجاهد يعني بعيد من قلوبهم قال ابن جرير معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول، وقلت وهذا كقوله تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم. وقال السدي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه: جالساً عند رجل من المسلمين يقضي إذ قال: يا لبيكاه فقال له عمر رضي الله عنه لم تلبي، هل رأيت أحداً أو دعاك أحد ؟ فقال دعاني داع من وراء البحر فقال عمر رضي الله عنه أولئك ينادون من مكان بعيد رواه ابن أبي حاتم. وقوله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } أي كذب وأوذي { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } بتأخير الحساب إلى يوم المعاد { لَقُضِيَ(4/125)
بَيْنَهُمْ } أي لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا بل كانوا شاكين فيما قالوه غير محققين لشيء كانوا فيه، هكذا وجهه ابن جرير وهو محتمل، والله أعلم.
{مّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ إِلَيْهِ يُرَدّ عِلْمُ السّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىَ وَلاَ تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قَالُوَاْ آذَنّاكَ مَا مِنّا مِن شَهِيدٍ وَضَلّ عَنْهُم مّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنّواْ مَا لَهُمْ مّن مّحِيصٍ}
يقول تعالى: { مّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } أي إنما يعود نفع ذلك على نفسه { وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أي إنما يرجع وبال ذلك عليه { وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ } أي لا يعاقب أحداً إلا بذنبه ولا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ثم قال جل وعلا: { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي لا يعلم ذلك أحد سواه كما قال محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر لجبريل عليه الصلاة والسلام وهو من سادات الملائكة حين سأله عن الساعة فقال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" وكما قال عز وجل: { إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } وقال جل جلاله: { لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } قوله تبارك وتعالى: { وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } أي الجميع بعلمه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وقد قال سبحانه وتعالى: { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا } وقال جلت عظمته: { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } وقال تعالى: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وقوله جل وعلا: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي } أي يوم القيامة ينادي الله المشركين على رؤوس الخلائق أين شركائي الذين عبدتموهم معي { قَالُوا آذَنَّاكَ } أي أعلمناك { مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ } أي ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكاً { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ } أي ذهبوا فلم ينفعوهم { وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي وظن المشركون يوم القيامة وهذا بمعنى اليقين { مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي لا محيد لهم عن عذاب الله كقوله تعالى: { وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً }.
{لاّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مّسّهُ الشّرّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مّنّا مِن بَعْدِ ضَرّآءَ مَسّتْهُ لَيَقُولَنّ هَذَا لِي وَمَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رّجّعْتُ إِلَىَ رَبّيَ إِنّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىَ فَلَنُنَبّئَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ}
يقول تعالى لا يمل الإنسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم وغير ذلك فإن مسه الشر وهو البلاء أو الفقر { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } أي يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مّنّا مِن بَعْدِ ضَرّآءَ مَسّتْهُ لَيَقُولَنّ هَذَا لِي وَمَآ } أي إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن هذا لي إني كنت أستحقه عند ربي { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } أي يكفر بقيام الساعة أي لأجل أنه خول نعمة يبطر ويفخر(4/126)
ويكفر كما قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } { وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } أي ولئن كان ثم معاد فليحسنن إلي ربي كما أحسن إلي في هذه الدار، يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين قال الله تبارك وتعالى: { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال ثم قال تعالى: { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عز وجل كقوله جل جلاله: { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ } أي الشدة { فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } أي يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض ما طال لفظه وقل معناه والوجيز عكسه وهو ما قل ودل وقد قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } الآية.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّهِ ثُمّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلّ مِمّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَآءِ رَبّهِمْ أَلاَ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ مّحِيطُ}
يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ } هذا القرآن { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } أي كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله ؟ ولهذا قال عز وجل: { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي في كفر و عناد ومشاقة للحق و مسلك بعيد من الهدى ثم قال جل جلاله: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ } أي سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقاً منزلا من عند الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية { فِي الْآفَاقِ } من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان قال مجاهد والحسن والسدي: ودلائل في أنفسهم قالوا: وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم نصر الله فيها محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه وخذل فيها الباطل وحزبه ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبح وغير ذلك وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يجوزها ولا يتعداها كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار عن شيخه أبي جعفر القرشي حيث قال وأحسن المقال:
وإذا نظرت تريد معتبرا ... فانظر إليك ففيك معتبر
أنت الذي تمسي وتصبح في الدنيا ... وكل أموره عبر
أنت المصرف كان في صغر ... ثم استقل بشخصك الكبر(4/127)
أنت الذي تنعاه خلقته ... ينعاه منه الشعر والبشر
أنت الذي تعطي وتسلب لا ... ينجيه من أن يسلب الحذر
أنت الذي لا شيء منه له ... و أحق منه بماله القدر
وقوله تعالى: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي كفى بالله شهيداً على أفعال عباده وأقوالهم وهو يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به عنه كما قال: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } الآية. وقوله تعالى: { أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ } أي في شك من قيام الساعة ولهذا لا يتفكرون فيه ولا يعملون له ولا يحذرون منه بل هو عندهم هدر لا يعبئون به وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا خلف بن تميم حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سعيد الأنصاري قال: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم، ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق والمكذب به هالك، ثم نزل. ومعنى قوله رضي الله عنه إن المصدق به أحمق أي لأنه لا يعمل له عمل مثله ولا يحذر منه ولا يخالف من هوله وهو ذلك مصدق به موقن بوقوعه وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه فهو أحمق بهذا الاعتبار والأحمق في اللغة ضعيف العقل، وقوله والمكذب به هالك هذا واضح، والله أعلم. ثم قال تعالى مقرراً أنه على كل شيء قدير وبكل شيء محيط وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى: { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } أي المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته وتحت طي علمه وهو المتصرف فيها كلها بحكمه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا إله إلا هو.(4/128)
سورة الشورى
وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{حمَ عَسَقَ كَذَلِكَ يُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيّ العَظِيمُ تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِن فَوْقِهِنّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرْضِ أَلاَ إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة. وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً منكراً فقال: أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن أرطأة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: أخبرني عن تفسير قول الله تعالى: { حمَ عَسَقَ } قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه فلم يجبه بشيء وكره مقالته، ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئاً فقال له حذيفة رضي الله عنه: أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها ونزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقاً فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عز وجل على إحداها ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وهم جميعاً فذلك قوله تعالى: { حمَ عَسَقَ } يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلاً منه سين: يعني سيكون ق: يعني واقع بهاتين المدينتين وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جداً ومنقطع فإنه قال: حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم حدثنا أبو عبد الله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال: صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال: أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر { حمَ عَسَقَ } فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا، قال حم اسم من أسماء الله تعالى، قال فعين ؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر، قال فسين ؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، قال فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس. وقوله عز وجل: { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك. وقوله تعالى: { اللَّهُ الْعَزِيزُ } أي في انتقامه { الْحَكِيمُ } في أقواله وأفعاله.(4/129)
قال الإمام مالك رحمه الله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يأتيني الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة رضي الله عنها فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصد عرقاً. أخرجاه في الصحيحين ولفظه للبخاري. وقد رواه الطبراني عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال - وقال - وهو أشده علي - قال - وأحياناً يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول". وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض" تفرد به أحمد، وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة. وقوله تبارك وتعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } كقوله تعالى: { الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } والآيات في هذا كثيرة. وقوله عز وجل: { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ } وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وقتادة والسدي وكعب الأحبار أي فرقاً من العظمة { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } كقوله جل وعلا: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً } وقوله جل جلاله: { أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } إعلام بذلك وتنويه به، وقوله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يعني المشركين { اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عداً، وسيجزيهم بها أوفر الجزاء { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ}
يقول تعالى وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي واضحاً جلياً بيناً { لّتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ } وهي مكة { وَمَنْ حَوْلَهَا } أي من سائر البلاد شرقاً وغرباً، وسميت مكة أم القرى لأنها أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها، ومن أوجز ذلك وأدله ما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: إن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" هكذا رواية الترمذي والنسائي(4/130)
وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله عز وجل: { وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وقوله تعالى: { لا رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة، وقوله جل وعلا: { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } كقوله تعالى: { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } أي يغبن أهل الجنة أهل النار، وكقوله عز وجل: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ليث حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان ؟" قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم للذي في يمينه: "هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم - ثم أجمل على آخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً - ثم قال صلى الله عليه وسلم للذي في يساره: هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأي شيء نعمل إن كان هذا الأمر قد فرغ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل" ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فقبضها ثم قال: "فرغ ربكم عز وجل من العباد - ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال فريق في الجنة - ونبذ باليسرى وقال - فريق في السعير" وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عن أبي قبيل عن شفي بن مانع الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما به، وقال الترمذي حسن صحيح غريب وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر عن سعيد بن عثمان عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه وعنده زيادات منها - ثم قال: فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله عز وجل - ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث به ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي قبيل عن شفي عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم فذكره.
ثم روي عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح عن يحيى بن أبي أسيد أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن الله تعالى يقول: إن الله تعالى لما خلق آدم نفضه نفض المزود وأخرج منه كل ذريته فخرج أمثال النغف فقبضهم قبضتين ثم قال شقي وسعيد ثم ألقاهما ثم قبضهما فقال فريق في الجنة وفريق في السعير وهذا الموقوف أشبه بالصواب والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد يعني ابن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نضرة قال: إن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعني يزورونه فوجدوه يبكي، فقالوا له ما يبكيك ؟ ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ من شاربك ثم أفره حتى تلقاني، قال بلى ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى قال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي" فلا أدري في أي القبضتين أنا وأحاديث القدر في الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جداً منها حديث علي وابن مسعود وعائشة وجماعة جمة رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تبارك وتعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي إما على الهداية أو على الضلالة ولكنه تعالى فاوت بينهم فهدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء عنه وله الحكمة والحجة البالغة ولهذا قال عز وجل: { وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا(4/131)
نَصِيرٍ }.
وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارس عن أبي سويد أنه حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب خلقك الذين خلقتهم جعلت منهم فريقاً في الجنة وفريقاً في النار لو ما أدخلتهم كلهم الجنة فقال يا موسى ارفع درعك فرفع قال قد رفعت قال ارفع فرفع فلم يترك شيئاً قال يا رب قد رفعت قال ارفع قال قد رفعت إلا ما لا خير فيه قال كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه.
{أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّي عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ومخبراً أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير، ثم قال عز وجل: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ} أي مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء { فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ } أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي } أي الحاكم في كل شيء { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي أرجع في جميع الأمور، وقوله جل جلاله: { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي خالقهما وما بينهما { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي من جنسكم وشكلكم منة عليكم وتفضلاً جعل من جنسكم ذكراً وأنثى { وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً } أي وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج. وقوله تبارك وتعالى: { يَذْرَأُكُمْ فِيهِ } أي يخلقكم فيه أي في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكوراً وإناثاً خلقاً من بعد خلق وجيلاً بعد جيل ونسلاً بعد نسل من الناس والأنعام وقال البغوي يذرؤكم فيه أي في الرحم وقيل في البطن وقيل في هذا الوجه من الخلقة. قال مجاهد نسلاً من الناس والأنعام، وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }. وقوله تعالى: { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } تقدم تفسيره في سورة الزمر وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وله الحكمة والعدل التام { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
{شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّهُ يَجْتَبِيَ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وَمَا تَفَرّقُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن(4/132)
رّبّكَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى لّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ}
يقول تعالى لهذه الأمة: { شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم . ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } الآية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عز وجل: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }. وفي الحديث "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ولهذا قال تعالى ههنا: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أي وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة. ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، وقوله عز وجل: { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّه } أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم قال جل جلاله: { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد، ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشقة ثم قال عز وجل: { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً. وقوله جلت عظمته: { أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَرَبّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها، قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه. وقوله: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي فللذي أَوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه. وقوله عز وجل: { وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عز وجل، وقوله تعالى: { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.
وقوله جل وعلا: { وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله: { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي في الحكم كما أمرني الله، وقوله جلت عظمته: { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك(4/133)
اختياراً وأنتم وإن لم تفعلوه اختياراً فله يسجد من في العالمين طوعاً واختياراً. وقوله تبارك وتعالى: { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ } أي نحن برآء منكم، كما قال سبحانه وتعالى: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } وقوله تعالى: { لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } قال مجاهد: أي لا خصومة. قال السدي: وذلك قبل نزول آية السيف، وهذا متجه لأن هذه الآية مكية، وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عز وجل: { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } أي يوم القيامة، كقوله: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } وقوله جل وعلا: { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي المرجع والمآب يوم الحساب.
{وَالّذِينَ يُحَآجّونَ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ اللّهُ الّذِيَ أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنّهَا الْحَقّ أَلاَ إِنّ الّذِينَ يُمَارُونَ فَي السّاعَةِ لَفِي ضَلاَلَ بَعِيدٍ}
يقول تعالى متوعداً الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به: { وَالّذِينَ يُحَآجّونَ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ} أي يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى { حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ } أي باطلة عند الله { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } أي منه { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي يوم القيامة، قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد: جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله ليصدوهم عن الهدى وطمعوا أن تعود الجاهلية، وقال قتادة: هم اليهود والنصارى قالوا: ديننا خير من دينكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالله منكم، وقد كذبوا في ذلك. ثم قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه { وَالْمِيزَانَ } وهو العدل والإنصاف، قاله مجاهد وقتادة، وهذه كقوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } وقوله: { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ }.
وقوله تبارك وتعالى: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } فيه ترغيب فيها وترهيب منها وتزهيد في الدنيا، وقوله عز وجل: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } أي: يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، وإنما يقولون ذلك تكذيباً واستبعاداً وكفراً وعناداً { وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي خائفون وجلون من وقوعها { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } أي كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها. وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد، وفي بعض ألفاظه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره، فناداه فقال: يا محمد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من صوته: "هاؤم" ، فقال له: متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟" فقال: حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت" ، فقوله في الحديث: "المرء مع من أحب" هذا متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها. وقوله تعالى: { أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ } أي يجادلون في وجودها ويدفعون وقوعها { لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } أي في جهل بين، لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }.(4/134)
{اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نّصِيبٍ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنّاتِ لَهُمْ مّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}
يقول تعالى مخبراً عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم لا ينسى أحداً منهم، سواء في رزقه البر والفاجر، كقوله عز وجل: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } ولها نظائر كثيرة، وقوله جل وعلا: { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } أي يوسع على من يشاء { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } أي لا يعجزه شيء ثم قال عز وجل: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ } أي عمل الآخرة { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } أي ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا وليس له إلى الآخرة هم البتة بالكلية حرمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها وإن لم يشأ لم يحصل لا هذه ولا هذه، وفاز الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، والدليل على هذا أن هذه الآية ههنا مقيدة بالآية التي في سبحان وهي قوله تبارك وتعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُورا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }.
وقال الثوري عن مغيرة عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب" وقوله جل وعلا: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأقوال الفاسدة وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة يجر قصبه في النار" لأنه أول من سيب السوائب، وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة وهو أول من فعل هذه الأشياء وهو الذي حمل قريشاً على عبادة الأصنام لعنه الله وقبحه ولهذا قال تعالى: { وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي شديد موجع في جهنم وبئس المصير.
ثم قال تعالى: { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا } أي في عرصات القيامة { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة هذا حالهم يوم معادهم وهم في هذا الخوف والوجل(4/135)
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ } فأين هذا من هذا ؟ أي أين من هو في العرصات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه ممن هو في روضات الجنات فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال الحسن بن عرفة: حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الآبار، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري عن أبي طيبة قال إن الشرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول ما أمطركم ؟ قال فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم حتى إن القائل منهم ليقول أمطرينا كواعب أتراباً. ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة به، ولهذا قال تعالى: { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } أي الفوز العظيم والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.
{ذَلِكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَىَ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلَىَ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات { ذَلِكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } أي هذا حاصل لهم كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به. وقوله عز وجل: { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة. قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاوساً يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى إلا المودة في القربى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد فقال ابن عباس: عجلت إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن لا تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، انفرد به البخاري، ورواه الإمام أحمد بن يحيى القطان عن شعبة به، وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن القاسم بن زيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا: حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم" وروى الإمام أحمد عن حسن بن موسى، حدثنا قزعة يعني ابن سويد بن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة بن سويد عن ابن نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجراً إلا أن توادوا الله وأن تقربوا إليه بطاعته" وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله وهذا كأنه تفسير بقول ثان كأنه يقول إلا المودة في القربى أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم.(4/136)