بها. وقال محمد بن كعب القرظي {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} قال: شهادة أن لا إله إلا الله, ثم قرأ {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}.
وقوله: {كَلاّ} هي حرف ردع لما قبلها, وتأكيد لما بعدها {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أي من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما يتمناه وكفره بالله العظيم , {وَنَمُدّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} أي في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا, {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي من مال وولد نسلبه منه عكس ما قال إنه يؤتى في الدار الآخرة مالاً وولداً زيادة على الذي له في الدنيا, بل في الآخرة يسلب منه الذي كان له في الدنيا, ولهذا قال تعالى: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} أي من المال والولد. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قال: نرثه.
قال مجاهد: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ماله وولده. وذلك الذي قال العاص بن وائل. وقال عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قال: ما عنده. وهو قوله: {لأوتين مالاً وولداً}. وفي حرف ابن مسعود: ونرثه ما عنده وقال قتادة {وَيَأْتِينَا فَرْداً} لا مال له ولا ولد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قال: ما جمع من الدنيا وما عمل فيها, قال {وَيَأْتِينَا فَرْداً} قال: فرداً من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير.
{وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنّمَا نَعُدّ لَهُمْ عَدّاً}
يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الاَلة {عِزّاً} يعتزون بها ويستنصرونها ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا فقال: {كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أي يوم القيامة {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أي بخلاف ما ظنوا فيهم كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقرأ أبو نهيك {كُلٌ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ}. وقال السدي: {كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أي بعبادة الأوثان.
وقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أي بخلاف ما رجوا منهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قال: أعواناً. قال مجاهد: عوناً عليهم تخاصمهم وتكذبهم. وقال العوفي عن ابن عباس {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}, قال: قرناء. وقال قتادة: قرناء في النار يلعن بعضهم بعضاً, ويكفر بعضهم ببعض. وقال السدي {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قال: الخصماء الأشداء في الخصومة, وقال الضحاك {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قال: أعداء. وقال ابن زيد: الضد البلاء, وقال عكرمة: الضد الحسرة.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزّهُمْ أَزّاً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: تغويهم إغواءاً, وقال العوفي عنه: تحرضهم على محمد وأصحابه. وقال مجاهد: تشليهم إشلاء وقال قتادة: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله, وقال سفيان الثوري: تغريهم إغراءاً وتستعجلهم استعجالاً. وقال السدي: تطغيهم طغياناً. وقال عبد الرحمن بن زيد: هذا كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقوله: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنّمَا نَعُدّ لَهُمْ عَدّاً} أي لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم {إِنّمَا نَعُدّ لَهُمْ عَدّاً} أي إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط, وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله. وقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الآية, {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}(3/167)
{قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} وقال السدي: إنما نعد لهم عداً: السنين والشهور والأيام والساعات. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} قال: نعد أنفاسهم في الدنيا.
{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىَ جَهَنّمَ وِرْداً لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَنِ عَهْداً}
يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا, واتبعوا رسله وصدقوهم فيما أخبروهم, وأطاعوهم فيما أمروهم به, وانتهوا عما عنه زجروهم, أنه يحشرهم يوم القيامة وفداً إليه, والوفد هم القادمون ركباناً, ومنه الوفود وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة. وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه, وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم, فإنهم يساقون عنفاً إلى النار {وِرْداً} عطاشاً, قاله عطاء وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد, وههنا يقال: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً} قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً, فيقول: من أنت ؟ فيقول أما تعرفني ؟ فيقول: لا, إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك, فيقول: أنا عملك الصالح, هكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه, فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه, فذلك قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً} قال: ركبانا.
وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى, حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً} قال: على الإبل. وقال ابن جريج: على النجائب. وقال الثوري: على الإبل النوق. وقال قتادة {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً} قال: إلى الجنة. وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا سويد بن سعيد, أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق, حدثنا النعمان بن سعد, قال: كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه, فقرأ هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً} قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على أرجلهم, ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها, عليها رحائل من ذهب, فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة, وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به. وزاد عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد والباقي مثله.
وروى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً جداً مرفوعاً عن علي, فقال: حدثنا أبي, حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي, حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي, سمعت أبا معاذ البصري قال: إن علياً كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرأ هذه الآية {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمَنِ وَفْداً} فقال: ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده,إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر, فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان, فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس, ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبداً, وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة, فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفحة, فيسمع لها طنين يا علي, فيبلغ كل حوراء(3/168)
أن زوجها قد أقبل, فتبعث قيمها فيفتح له, فإذا رآه خر له - قال مسلمة أراه قال ساجداً - فيقول: ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك, فيتبعه, ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة, فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه, ثم تقول: أنت حبي وأنا حبك, وأنا الخالدة التي لا أموت, وأنا الناعمة التي لا أبأس, وأنا الراضية التي لا أسخط, وأنا المقيمة التي لا أظعن, فيدخل بيتاً من رأسه إلى سقفه مائة ألف ذراع, بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق: أحمر وأصفر وأخضر, ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها. وفي البيت سبعون سريراً, على كل سرير سبعون حشية, على كل حشية سبعون زوجة, على كل زوجة سبعون حلة, يرى مخ ساقها من وراء الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه, الأنهار من تحتهم تطرد أنهار من ماء غير آسن, قال: صاف لا كدر فيه, وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ولم يخرج من ضروع الماشية وأنهار من خمر لذة للشاربين لم يعتصرها الرجال بأقدامهم, وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل فيستحلي الثمار, فإن شاء أكل قائماً وإن شاء قاعداً وإن شاء متكئاً, ثم تلا: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض, وربما قال أخضر, فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها, أي الألوان شاء, ثم يطير فتذهب فيدخل الملك فيقول: سلام عليكم {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت لأهل الأرض لأضاءت الشمس معها سواد في نور" هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعاً, وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه, وهو أشبه بالصحة, والله أعلم.
وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىَ جَهَنّمَ وِرْداً} أي عطاشا {لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ} أي ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض, كما قال تعالى مخبراً عنهم: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم}. وقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} هذا استثناء منقطع بمعنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً, وهو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} قال: العهد شهادة أن لا إله إلا الله, ويبرأ إلى الله من الحول والقوة, ولا يرجو إلا الله عز وجل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عثمان بن خالد الواسطي حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن المسعودي, عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة, عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله يعني ابن مسعود هذه الآية {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} ثم قال: اتخذوا عند الله عهداً, فإن الله يوم القيامة يقول: من كان له عند الله عهد فليقم, قالوا: يا أبا عبد الرحمن فعلمنا. قال: قولوا: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة, فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أن لا تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير, وإني لا أثق إلا برحمتك, فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إليّ يوم القيامة, إنك لا تخلف الميعاد. وقال المسعودي: فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن, أخبرنا ابن مسعود وكان يحلق بهن خائفاً مستجيراً مستغفراً راهباً راغباً إليك, ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي بنحوه.
{وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِي لِلرّحْمَنِ أَن يَتّخِذَ وَلَداً إِن كُلّ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرّحْمَنِ عَبْداً لّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّاً وَكُلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}(3/169)
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام وذكر خلقه من مريم بلا أب, شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً, تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً, فقال: {وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ} أي في قولكم هذا {شَيْئاً إِدّاً} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك: أي عظيماً. ويقال إداً بكسر الهمزة وفتحها, ومع مدها أيضاً ثلاث لغات أشهرها الأولى وقوله: {تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرّحْمَنِ وَلَداً} أي يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً, لأنهم مخلوقات ومؤسسات على توحيده, وأنه لا إله إلا هو, وأنه لا شريك له ولا نظير له, ولا ولد له, ولا صاحبة له, ولا كفء له, بل هو الأحد الصمد.
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
قال ابن جرير: حدثني علي, حدثنا عبد الله, حدثني معاوية عن علي, عن ابن عباس في قوله: {تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرّحْمَنِ وَلَداً} قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين, وكادت أن تزول منه لعظمة الله, وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك, كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله, فمن قالها عند موته وجبت له الجنة", فقالوا: يا رسول الله فمن قالها في صحته ؟ قال: "تلك أوجب وأوجب". ثم قال: "والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن, فوضعن في كفة الميزان, ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن" هكذا رواه ابن جرير, ويشهد له حديث البطاقة, والله أعلم.
وقال الضحاك: {تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ} أي يتشققن فرقاً من عظمة الله, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {وَتَنشَقّ الأرْضُ}, أي غضباً له عز وجل, {وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً}, قال ابن عباس: هدماً, وقال سعيد بن جبير: هداً ينكسر بعضها على بعض متتابعات. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري, حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا مسعر عن عون عن عبد الله قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان, هل مر بك اليوم ذاكر الله عز وجل ؟ فيقول: نعم ويستبشر, قال عون: لهي للخير أسمع أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره, ثم قرأ {تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرّحْمَنِ وَلَداً}.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا المنذر بن شاذان, حدثنا هودة, حدثنا عوف عن غالب بن عجرد, حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال: بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة - أو قال - كان لهم فيها منفعة, ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم: اتخذ الرحمن ولداً, فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر. وقال كعب الأحبار: غضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له ولدا, وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم" أخرجاه في الصحيحين. وفي لفظ "أنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم". وقوله: {وَمَا يَنبَغِي لِلرّحْمَنِ أَن يَتّخِذَ وَلَداً} أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته, لأنه لا كفء له من خلقه, لأن جميع الخلائق عبيد له, ولهذا قال: {إِن كُلّ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرّحْمَنِ عَبْداً لّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّاً} أي قد علم عددهم منذ(3/170)
خلقهم إلى يوم القيامة, ذكرهم وأنثاهم, صغيرهم وكبيرهم, {وَكُلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} أي لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له, فيحكم في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة, ولا يظلم أحداً.
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّاً فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لّدّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}
يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات, وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها الشريعة المحمدية - يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة, وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه, وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة, حدثنا سهيل عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل, فقال: يا جبريل, إني أحب فلاناً فأحبه قال فيحبه جبريل, قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه, قال: فيحبه أهل السماء, ثم يوضع له القبول في الأرض, وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه, قال: فيبغضه جبريل, ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه, قال: فيبغضه أهل السماء, ثم يوضع له البغضاء في الأرض". ورواه مسلم من حديث سهيل, ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة, عن نافع مولى ابن عمر, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر, حدثنا ميمون أبو محمد المرائي, حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليلتمس مرضاة الله عز وجل, فلا يزال كذلك فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني, ألا وإن رحمتي عليه, فيقول جبريل: رحمة الله على فلان, ويقولها حملة العرش, ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السموات السبع, ثم يهبط إلى الأرض" غريب. ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية, عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقة من الله - قال شريك: هي المحبة - والصيت في السماء, فإذا أحب الله عبداً قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلاناً, فينادي جبريل: إن ربكم يمق - يعني يحب - فلاناً فأحبوه - أرى شريكاً قد قال: فتنزل له المحبة في الأرض - وإذا أبغض عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه, قال: فينادي جبريل: إن ربكم يبغض فلاناً فأبغضوه - أرى شريكاً قال -: فيجري له البغض في الأرض" غريب, ولم يخرجوه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو داود الحفري, حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - وهو الدراوردي عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه, فينادي في السماء, ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض, فذلك قول الله عز وجل: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّاً}, رواه مسلم والترمذي, كلاهما عن عبد الله عن قتيبة, عن الدراوردي به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال علي بن أبي(3/171)
طلحة عن ابن عباس في قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّاً} قال: حباً, وقال مجاهد عنه: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّاً}, قال: محبة في الناس في الدنيا, وقال سعيد بن جبير عنه, يحبهم ويحببهم, يعني إلى خلقه المؤمنين, كما قال مجاهد أيضاً والضحاك وغيرهم. وقال العوفي عن ابن عباس أيضاً: الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق. وقال قتادة {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّاً} إيْ والله في قلوب أهل الإيمان, وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم وقال قتادة: وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: ما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه الله عز وجل رداء عمله.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه الله قال: قال رجل: والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها, فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائماً يصلي, وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج, فكان لا يعظم, فمكث بذلك سبعة أشهر, وكان لا يمر على قوم إلا قالوا: انظروا إلى هذا المرائي, فأقبل على نفسه فقال: لا أراني أذكر إلا بشر, لأجعلن عملي كله لله عز وجل, فلم يزد على أن قلب نيته, ولم يزد على العمل الذي كان يعمله, فكان يمر بعد بالقوم فيقولون: رحم الله فلاناً الآن, وتلا الحسن {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّاً} وقد روى ابن جرير أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف, وهو خطأ, فإن هذه السورة بكمالها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة, ولم يصح سند ذلك, والله أعلم.
وقوله: {فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ} يعني القرآن {بِلَسَانِكَ} أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل {لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتّقِينَ} أي المستجيبين لله, المصدقين لرسوله, {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لّدّاً} أي عوجاً عن الحق مائلين إلى الباطل وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {قَوْماً لّدّاً} لا يستقيمون وقال الثوري عن إسماعيل وهو السدي عن أبي صالح {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لّدّاً} عوجاً عن الحق, وقال الضحاك: الألد الخصم. وقال القرظي: الألد الكذاب. وقال الحسن البصري {قَوْماً لّدّاً} صماً, وقال غيره: صم آذان القلوب. وقال قتادة: قوماً لداً يعني قريشاً وقال العوفي عن ابن عباس {قَوْماً لّدّاً} فجاراً, وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد.
وقال ابن زيد: الألد الظلوم, وقرأ قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. وقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله {هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أي هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً. وقال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد: يعني صوتاً, وقال الحسن وقتادة: هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً, والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي.
قال الشاعر:
فتوجست ركز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
آخر تفسير سورة مريم ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة طه والحمد لله.(3/172)
سورة طه
وهي مكية
روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر الخزامي: حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة - يعني عبد الرحمن بن يعقوب - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام, فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا, وطوبى لأجواف تحمل هذا, وطوبى لألسن تتكلم بهذا" هذا حديث غريب وفيه نكارة, وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ إِلاّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىَ تَنزِيلاً مّمّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسّمَاوَاتِ الْعُلَى الرّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىَ لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثّرَىَ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنّهُ يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى اللّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ}
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي, حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: طه يا رجل, وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبي مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا: طه بمعنى يا رجل.. وفي رواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل. وقال أبو صالح: هي معربة.
وأسند القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى, فأنزل الله تعالى: {طه} يعني: طأ الأرض يا محمد {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ} ثم قال: ولا يخفى بما في هذا الإكرام وحسن المعاملة وقوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ} قال جويبر عن الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه, فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى, فأنزل الله تعالى: {طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ إِلاّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىَ} فليس الأمر كما زعمه المبطلون, بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيراً كثيراً, كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير, حدثنا العلاء بن سالم, حدثنا إبراهيم الطالقاني, حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب, عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي(3/173)
وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي" إسناده جيد, وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي, ذكره أبو عمرو في استيعابه, وقال: نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة, وروى عنه سماك بن حرب.
وقال مجاهد في قوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ} هي كقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ} لا والله ما جعله شقاء, ولكن جعله رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنة {إِلاّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىَ} إن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر, وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه.
وقوله: {تَنزِيلاً مّمّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسّمَاوَاتِ الْعُلَى} أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك, رب كل شيء ومليكه القادر على ما يشاء, الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها, وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها, وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام, وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام, وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه. وقوله: {الرّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىَ} تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً, وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
وقوله: {لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثّرَىَ} أي الجميع ملكه, وفي قبضته, وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه, وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه ولا رب غيره. وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثّرَىَ} قال محمد بن كعب: أي ما تحت الأرض السابعة. وقال الأوزاعي: إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعباً سئل فقيل له: ما تحت هذه الأرض ؟ فقال: الماء. قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء, قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض, قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء, قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض, قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الصخرة, قيل: وما تحت الصخرة ؟ قال: ملك, قيل: وما تحت الملك ؟ قال: حوت معلق طرفاه بالعرش, قيل: وما تحت الحوت ؟ قال: الهواء والظلمة وانقطع العلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب, حدثنا عمي, حدثنا عبد الله بن عياش, حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام, والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء, والحوت على صخرة, والصخرة بيد الملك, والثانية سجن الريح, والثالثة فيها حجارة جهنم, والرابعة فيها كبريت جهنم, والخامسة فيها حيات جهنم, والسادسة فيها عقارب جهنم, والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه, فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه" وهذا حديث غريب جداً, ورفعه فيه نظر.
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال: قلت ابن الفضل الأنصاري ؟ قال: نعم, عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فأقبلنا راجعين في حر شديد, فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين, قال وكنت في أول العسكر إذا عارضنا رجل فسلم, ثم قال: أيكم محمد ؟ ومضى أصحابي ووقفت معه, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس, فقلت: أيها السائل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاك, فقال: أيهم هو ؟ فقلت: صاحب البكر الأحمر, فدنا منه فأخذ بخطام راحلته, فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت محمد ؟ قال: "نعم". قال: إني أريد أن أسألك(3/174)
عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سل عما شئت" قال: يا محمد أينام النبي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنام عيناه ولا ينام قلبه" قال: صدقت ثم قال: يا محمد من أين يشبه الولد أباه وأمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماء الرجل أبيض غليظ, وماء المرأة أصفر رقيق, فأي الماءين غلب على الآخر نزع الولد" فقال: صدقت, فقال: ما للرجل من الولد, وما للمرأة منه ؟ فقال "للرجل العظام والعروق والعصب, وللمرأة اللحم والدم والشعر" قال: صدقت, ثم قال: يا محمد ما تحت هذه ؟ - يعني الأرض - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق" فقال: فما تحتهم ؟ قال: "أرض". قال: فما تحت الأرض ؟ قال: "الماء". قال: فما تحت الماء ؟ قال: "ظلمة". قال: فما تحت الظلمة ؟ قال: "الهواء". قال: فما تحت الهواء ؟ قال: "الثرى". قال: فما تحت الثرى ؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء, وقال: "انقطع علم الخلق عند علم الخالق, أيها السائل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل". قال: فقال صدقت, أشهد أنك رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس هل تدرون من هذا ؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا جبريل عليه السلام" . هذا حديث غريب جداً, وسياق عجيب, تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا, وقد قال فيه يحيى بن معين: ليس يساوي شيئاً, وضعفه أبو حاتم الرازي, وقال ابن عدي: لا يعرف. قلت: وقد خلط في هذا الحديث, ودخل عليه شيء في شيء وحديث في حديث, وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه, والله أعلم.
وقوله: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنّهُ يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى} أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي يعلم السر وأخفى, كما قال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى} قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه {وَأَخْفَى} ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه, فالله يعلم ذلك كله, فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد, وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة, وهو قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وقال الضحاك {يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى} قال: السر ما تحدث به نفسك, وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد.
وقال سعيد بن جبير: أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً, والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غداً, وقال مجاهد {وَأَخْفَى} يعني الوسوسة, وقال أيضاً هو وسعيد بن جبير {وَأَخْفَى} أي ما هو عالمه مما لم يحدث به نفسه. وقوله: {اللّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ} أي الذي أنزل عليك القرآن, هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى, وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىَ إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى}
من هنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى, وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه, وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم, وسار بأهله قيل: قاصداً بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين, ومعه زوجته, فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية, ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب, وجعل يقدح بزند معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به, فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء, فينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً, أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه, فقال لأهله يبشرهم: {امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ(3/175)
آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ} أي شهاب من نار. وفي الآية الأخرى {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} وهي الجمر الذي معه لهب {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} دل على وجود البرد.
وقوله: {بِقَبَسٍ} دل على وجود الظلام, وقوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى} أي من يهديني الطريق, دل على أنه قد تاه عن الطريق, كما قال الثوري عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى} قال: من يهديني إلى الطريق, وكانوا شاتين وضلوا الطريق, فلما رأى النار قال: إن لم أجد أحداً يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها.
{فَلَمّآ أَتَاهَا نُودِيَ يَمُوسَىَ إِنّيَ أَنَاْ رَبّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىَ إِنّنِيَ أَنَا اللّهُ لآ إِلَهَ إِلآ أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصّلاَةَ لِذِكْرِيَ إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىَ فَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْهَا مَن لاّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىَ}
يقول تعالى: {فَلَمّآ أَتَاهَا} أي النار, واقترب منها {نُودِيَ يَمُوسَىَ} وفي الآية الأخرى {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} وقال ههنا {إِنّيَ أَنَاْ رَبّكَ} أي الذي يكلمك ويخاطبك {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف: كانتا من جلد حمار غير ذكي, وقيل: إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبقعة. وقال سعيد بن جبير: كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة, وقيل: ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل, وقيل غير ذلك, والله أعلم.
وقوله: {طُوًى} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو اسم للوادي, وكذا قال غير واحد, فعلى هذا يكون عطف بيان, وقيل عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه, وقيل: لأنه قدس مرتين, وطوى له البركة وكررت, والأول أصح كقوله: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً}. وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} كقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه, وقد قيل: إن الله تعالى قال يا موسى أتدري لم خصصتك بالتكليم من بين الناس ؟ قال: لا, قال: لأني لم يتواضع إلي أحد تواضعك. وقوله: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىَ} أي استمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك {إِنّنِيَ أَنَا اللّهُ لآ إِلَهَ إِلآ أَنَاْ} هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وقوله: {فَاعْبُدْنِي} أي وحدني, وقم بعبادتي من غير شريك {وَأَقِمِ الصّلاَةَ لِذِكْرِيَ} قيل: معناه صل لتذكرني, وقيل: معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي, ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة, عن أنس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها, فليصلها إذا ذكرها, فإن الله تعالى قال: {وأقم الصلاة لذكري}", وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها, لا كفارة لها إلا ذلك". وقوله: {إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ} أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها.
وقوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: أكاد أخفيها من نفسي, يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: من نفسه: وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {أَكَادُ أُخْفِيهَا} يقول: لا أطلع عليها أحداً غيري.(3/176)
وقال السدي: ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي, يقول: كتمتها عن الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت. وقال قتادة: أكاد أخفيها, وهي في بعض القراءات: أخفيها من نفسي, ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين. قلت وهذا كقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا منجاب, حدثنا أبو نميلة, حدثني محمد بن سهل الأسدي عن وقاء قال: أقرأنيها سعيد بن جبير: أكاد أخفيها, يعني بنصب الألف وخفض الفاء, يقول أظهرها, ثم قال أما سمعت قول الشاعر:
دأب شهرين ثم شهراً دميكاً ... بأريكين يخفيان غميراً
قال السدي: الغمير نبت رطب ينبت في خلال يبس, والأريكين موضع, والدميك الشهر التام, وهذا الشعر لكعب بن زهير. وقوله سبحانه وتعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} أي أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} الآية, المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين. أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة, وأقبل على ملاذه في دنياه, وعصى مولاه واتبع هواه, فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر {فَتَرْدَى} أي تهلك وتعطب, قال الله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}.
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَىَ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشّ بِهَا عَلَىَ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىَ قَالَ أَلْقِهَا يَمُوسَىَ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَىَ قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاُولَىَ}
هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام, ومعجزة عظيمة, وخرق للعادة باهر دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل, وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل. وقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَىَ} قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له, وقيل: وإنما قال له ذلك على وجه التقرير, أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها, فسترى ما نصنع بها الآن {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَىَ} استفهام تقرير {يَمُوسَىَ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكّأُ عَلَيْهَا} أي أعتمد عليها في حال المشي {وَأَهُشّ بِهَا عَلَىَ غَنَمِي} أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي. قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك: الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود, فهذا الهش ولا يخبط, وكذا قال ميمون بن مهران أيضاً.
وقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىَ} أي مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك, وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت, فقيل: كانت تضيء له بالليل وتحرس له الغنم إذا نام, ويغرسها فتصير شجرة تظله, وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة, والظاهر أنها لم تكن كذلك, ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه الصلاة والسلام صيرورتها ثعباناً فما كان يفر منها هارباً, ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية, وكذا قول بعضهم: إنها كانت لآدم عليه الصلاة والسلام, وقول الآخر: إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة,(3/177)
وروي عن ابن عباس أنه قال: كان اسمها ماشا, والله أعلم بالصواب.
وقوله تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَمُوسَىَ} أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَىَ} أي صارت في الحال حية عظيمة ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة, فإذا هي تهتز كأنها جان, وهو أسرع الحيات حركة, ولكنه صغير, فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة, {تَسْعَىَ} أي تمشي وتضطرب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن عبدة, حدثنا حفص بن جميع, حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَىَ} ولم تكن قبل ذلك حية, فمرت بشجرة فأكلتها, ومرت بصخرة فابتلعتها, فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً, ونودي: أن يا موسى خذها فلم يأخذها, ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف, فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين, فأخذها.
وقال وهب بن منبه في قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَىَ} قال فألقاها على وجه الأرض ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون فدب يلتمس كأنه يبتغي شيئاً يريد أخذه, يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها, ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها, عيناه توقدان ناراً, وقد عاد المحجن منها عرفاً, قيل: شعره مثل النيازك, وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف, فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً ولم يعقب, فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية, ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال: {خُذْهَا} بيمينك {وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاُولَىَ} وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف فدخلها بخلال من عيدان, فلما أمره بأخذها, أدلى طرف المدرعة على يده, فقال له ملك: أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً ؟ قال: لا ولكني ضعيف, ومن ضعف خلقت, فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب, ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها, وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين, ولهذا قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاُولَىَ} أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىَ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ آيَةً أُخْرَىَ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَىَ اذْهَبْ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِيَ أَمْرِي كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}
وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام, وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الآية الأخرى, وههنا عبر عن ذلك بقوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىَ جَنَاحِكَ} وقال في مكان آخر {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} وقال مجاهد: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىَ جَنَاحِكَ} كفك تحت عضدك, وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها, تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر. وقوله: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ} أي من غير برص ولا أذى ومن غير شين, قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم, وقال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح, فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل, ولهذا قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَىَ} وقال وهب: قال له ربه: أدنه فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة, فاستقر وذهبت عنه الرعدة, وجمع يده في العصا وخضع(3/178)
برأسه وعنقه.
وقوله: {اذْهَبْ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ} أي اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فاراً منه وهارباً فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم, فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى. قال وهب بن منبه: قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني, وإن معك أيدي ونصري, وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري, فأنت جند عظيم من جندي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي, وأمن مكري, وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي, وأنكر ربوبيتي وزعم أنه لا يعرفني, فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار, فإن أمرت السماء حصبته, وإن أمرت الأرض ابتلعته, وإن أمرت الجبال دمرته, وإن أمرت البحار غرقته, ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي إني أنا الغني لاغني غيري, فبلغه رسالتي, وادعه إلى عبادتي, وتوحيدي وإخلاصي وذكره أيامي, وحذره نقمتي وبأسي, وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي, وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى, وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة, ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا, فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني, وقل له أجب ربك فإنه واسع المغفرة وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزه بالمحاربة, تسبه وتتمثل به, وتصد عباده عن سبيله, وهو يمطر عليك السماء, وينبت لك الأرض لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب, ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل, ولكنه ذو أناة وحلم عظيم, وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده, فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت, ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة, ولا قليل مني, تغلب الفئة الكثيرة بإذني, ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به, ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين, ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين نظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت, ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما, وكذلك أفعل بأوليائي وقديماً ما جرت عادتي في ذلك, فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العناء, وما ذاك لهوانهم علي ولكن لسيتكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه الدنيا, واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا, فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع, وسيماهم في وجوههم من أثر السجود, أولئك أوليائي حقاً حقاً, فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل قلبك ولسانك, واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وباد أني وعرض لي نفسه ودعاني إليها, وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي, أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي, أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني, أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني, وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري, رواه ابن أبي حاتم
{قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي} هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عز وجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به, فإنه قد أمره بأمر عظيم وخطب جسيم, بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفراً, وأكثرهم جنوداً, وأعمرهم ملكاً, وأطغاهم وأبلغهم تمرداً, بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله, ولا يعلم لرعاياه إلهاً غيره, هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه, ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه, فهرب منهم هذه المدة بكمالها, ثم بعد هذا بعثه ربه عز وجل إليهم نذيراً يدعوهم إلى(3/179)
الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له, ولهذا قال: {رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي} أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري, وإلا فلا طاقة لي بذلك {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} وذلك لما كان أصابه, من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة, فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه, كما سيأتي بيانه, وما سأل أن يزول ذلك بالكلية, بل بحيث يزول العي, ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة, ولو سأل الجميع لزال, ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة, ولهذا بقيت بقية, قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أي يفصح بالكلام.
وقال الحسن البصري {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي} قال: حل عقدة واحدة. ولو سأل أكثر من ذلك أعطي. وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه, فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام, وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه, فآتاه سؤله فحل عقدة من لسانه, وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمرو بن عثمان, حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر, حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له: فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك, ولست تعرب في قراءتك, فقال القرظي: يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال: نعم. قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحلّ عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه, ولم يزد عليها, هذا لفظه.
وقوله: {وَاجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه, وهو مساعدة أخيه هارون له. قال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال فنبىء هارون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما السلام. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن نمير, حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه, عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر, فنزلت ببعض الأعراب, فسمعت رجلاً يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ؟ قالوا: لا ندري. قال: أنا والله أدري. قالت: فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه, قال: موسى حين سأل لأخيه النبوة, فقلت: صدق والله. قلت: وفي هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام: {وكان عند الله وجيهاً}.
وقوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قال مجاهد: ظهري, {وَأَشْرِكْهُ فِيَ أَمْرِي} أي في مشاورتي {كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقوله: {إِنّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة, وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون فلك الحمد على ذلك.
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَمُوسَىَ وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرّةً أُخْرَىَ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّكَ مَا يُوحَىَ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوّ لّي وَعَدُوّ لّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَمُوسَىَ}
هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام فيما سأل من ربه عز وجل, وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من أمر أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه, لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان, فاتخذت له تابوتاً, فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل, وتمسكه إلى(3/180)
منزلها بحبل, فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر, فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} فذهب به البحر إلى دار فرعون {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} أي قدراً مقدوراً من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى, فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش فرعون, ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له, ولهذا قال تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوّ لّي وَعَدُوّ لّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي} أي عند عدوك جعلته يحبك, قال سلمة بن كهيل {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي} قال: حببتك إلى عبادي {وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ} قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله وقال قتادة: تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى {وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ} بحيث أرى, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف, وغذاؤه عندهم غذاء الملك فتلك الصنعة.
وقوله: {إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها} وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها, قال الله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} فجاءت أخته وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة, فذهبت به وهم معها إلى أمه فعرضت عليه ثديها, فقبله ففرحوا بذلك فرحاً شديداً, واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أغنى وأجزل, ولهذا جاء في الحديث "مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها" وقال تعالى ههنا: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ} أي عليك {وَقَتَلْتَ نَفْساً} يعني القبطي {فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ} وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله, ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين, وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وقوله: {وَفَتَنّاكَ فُتُوناً} قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله في كتاب التفسير من سننه قوله {وَفَتَنّاكَ فُتُوناً}
(حديث الفتون)
حدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا أصبغ بن زيد, حدثنا القاسم بن أبي أيوب, أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام {وَفَتَنّاكَ فُتُوناً} فسألته عن الفتون ما هو ؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثاً طويلاً, فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون, فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً, فقال بعضهم: إن بني اسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه, وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب, فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام, فقال فرعون: كيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه, ففعلوا ذلك, فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم, والصغار يذبحون, قالوا: ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم, فاقتلوا عاماً كل مولد ذكر, واتركوا بناتهم, ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً, فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار, فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم, فتخافوا مكاثرتهم إياكم, ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم, فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان, فولدته علانية آمنة, فلما كان من قابل, حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن, وذلك من الفتون - يا ابن جبير - ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به, فأوحى الله إليها أن لا تخافي(3/181)
ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين, فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم, فلما ولدت فعلت ذلك, فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلت يابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه
فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون, فلما رأينه أخذنه, فأردن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن: إن في هذا مالاً, وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه, فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها, فلما فتحته رأت فيه غلاماً, فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط, وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى, فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه, وذلك من الفتون يا ابن جبير, فقالت لهم: أقروه, فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه, فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم, وإن أمر بذبحه لم ألمكم, فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك, فقال فرعون: يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها, ولكن حرمه ذلك" , فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئراً, فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت, فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها, فلم يقبل.
وأصبحت أم موسى والهاً فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكراً: أحي ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه, فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون, والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به, فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات: أنا أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون, فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك, وذلك من الفتون يا ابن جبير, فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ورجاء منفعة الملك فتركوها, فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر, فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه رياً, وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً, فأرسلت إليها فأتت بها وبه, فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي ترضعي ابني هذا, فإني لم أحب شيئاً حبه قط. قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع, فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً, فإني غير تاركة بيتي وولدي, وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه, فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده, فرجعت به إلى بيتها من يومها, وأنبته الله نباتاً حسناً, وحفظه لما قد قضى فيه.
فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم, فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أتريني ابني فدعتها يوماً تريها إياه فيه, وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك, وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كل إنسان منكم, فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون, فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به, ونحلت أمه لحسن أثرها عليه, ثم قالت: لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه فلما دخلت به عليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض, فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك, فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه,(3/182)
وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به.
وأريد به فتوناً فجاءت امرأة فرعون فقالت: ما بدالك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني ؟ فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به, ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقدمهن إليه, فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين, عرفت أنه يعقل, وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل, فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين, فتناول الجمرتين, فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده, فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به, وكان الله بالغاً فيه أمره, فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع, فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي, فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً, لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره, فوكز موسى الفرعوني فقتله, وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي, فقال موسى حين قتل الرجل: هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين, ثم قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار, فأتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون, فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم, فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه, فإن الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت, فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم, فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتاً إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر, فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى فندم على ما كان منه وكره الذي رأى, فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني, فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}, فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال, فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني, فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين, أن يكون إياه أراد, ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني, فخاف الإسرائيلي وقال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس, وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله, فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس, فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى, فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم, فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة, فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره, وذلك من الفتون يا ابن جبير.
فخرج موسى متوجهاً نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك, وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل, فإنه قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} يعني بذلك حابستين غنمهما, فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا: ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغترف في الدلو ماء كثيراً حتى كان أول الرعاء, فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما, وانصرف موسى عليه السلام فاستظل بشجرة وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلاً بطاناً, فقال: إن لكما اليوم لشأناً, فأخبرتاه بما صنع موسى, فأمر إحداهما أن تدعوه, فأتت موسى فدعته, فلما كلمه قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين ليس(3/183)
لفرعون ولا لقومه علينا سلطان, ولسنا في مملكته, فقالت إحداهما: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته وما أمانته ؟ فقالت: أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا, لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه, وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له, فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك, ثم قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق, فلم يفعل هذا إلا وهو أمين, فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت, فقال له: هل لك {أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ؟ ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة, وكانت سنتان عدة منه, فقضى الله عنه عدته فأتمها عشراً.
قال سعيد وهو ابن جبير: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت: لا, وأنا يومئذ لا أدري, فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك, فقال: أما علمت أن ثمانياً كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئاً, ويعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدته التي كان وعده, فإنه قضى عشر سنين, فلقيت النصراني فأخبرته ذلك, فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك, قلت: أجل وأولى, فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن, فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه, فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام, وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه, فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه, وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه, فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهما السلام, فانطلقا جميعاً إلى فرعون, فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما, ثم أذن لهما بعد حجاب شديد, فقالا: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} قال: فمن ربكما ؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن ؟ قال: فما تريدان ؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت, قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معنا بني إسرائيل, فأبى عليه وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين, فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة, فاغرة فاها, مسرعة إلى فرعون, فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل, ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء, يعني من غير برص, ثم ردها فعادت إلى لونها الأول, فاستشار الملأ حوله فيما رأى, فقالوا له: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}, يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش, وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب, وقالوا له: اجمع لهما السحرة, فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما, فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم, فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا: يعمل بالحيات, قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل, فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي, وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم, فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى.
قال سعيد بن جبير: فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء. فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ؟ فـ {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة, فأوحى الله إليه أن ألقِ عصاك, فلما(3/184)
ألقاها صارت ثعباناً عظيمة فاغرة فاها, فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جزراً إلى الثعبان تدخل فيه حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتعلته, فلما عرف السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا, ولكن هذا أمر من الله عز وجل, آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله, ونتوب إلى الله مما كنا عليه, فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه, وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه, فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه, وإنما كان حزنها وهمها لموسى, فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة, كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل, فإذا مضت أخلف موعده وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات, كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل, فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً, فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه, ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه, فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل, فيصير عاصياً لله.
فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى: إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه, ثم ذكر بعد ذلك العصا, فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى, فانفلق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى, فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه, التقى عليهم البحر كما أمر, فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه, فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه, ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} الآية. قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم, ومضى فأنزلهم موسى منزلاً وقال: أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم, فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها, فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً, وقد صامهن ليلهن ونهارهن, وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم, فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغه فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان, قال: يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح. قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك, ارجع فصم عشراً ثم ائتني.
ففعل موسى عليه السلام ما أمر به, فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك, وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ولكم فيهم مثل ذلك, فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية, ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا, فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير, ثم أوقد عليه النار فأحرقته, فقال: لا يكون لنا ولا لهم, وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل, ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا, فقضي له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة,(3/185)
فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام: يا سامري ألا تلقي ما في يدك, وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك ؟ فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر, ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد, فألقاها ودعا له هارون, فقال: أريد أن يكون عجلاً, فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد, فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار, قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه, وكان ذلك الصوت من ذلك, فتفرق بنو إسرائيل فرقاً, فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به ؟ قال: هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق, فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى, فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا, وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى, وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان, وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق, وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به, فقال لهم هارون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا, هذه أربعون يوماً قد مضت, وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه: يتبعه, فلما كلم الله موسى وقال له ما قال, أخبره بما لقي قومه من بعده {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} فقال لهم ما سمعتم في القرآن, وأخذ برأس أخيه يجره إليه, وألقى الألواح من الغضب, ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له, وانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً}, ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه, فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة, واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون, فقالوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا, فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل, فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض! فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل, فقال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} وفيهم من كان اطلع الله منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به, فلذلك رجفت بهم الأرض فقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ, الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} فقال: يا رب سألتك التوبة لقومي, فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي, هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة ؟ فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد, فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن, وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون, واطلع الله من ذنوبهم, فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا, وغفر الله للقاتل والمقتول.
ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة, وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب, فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف, فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها, فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم, فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون, ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم, ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون, خلقهم خلق منكر, وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها, فقالوا: يا موسى إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم, ولا ندخلها ما داموا فيها, فإن(3/186)
يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأه ؟ قال: نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه فقالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم, فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم, فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون, ويقول أناس: إنهم من قوم موسى, فقال الذين يخافون من بني إسرائيل: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} فأغضبوا موسى, فدعا عليهم وسماهم فاسقين, ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ, فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين, وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار, وظلل عليهم الغمام في التيه, وأنزل عليهم المن والسلوى, وجعل لهم ثياباً لا تبلىَ ولا تتسخ, وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً, وأمر موسى فضربه بعصاه, فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين, وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها, فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل, فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به, ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري, فقال له: يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره, وهكذا رواه النسائي في السنن الكبرى, وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما, كلهم من حديث يزيد بن هارون به, وهو موقوف من كلام ابن عباس, وليس فيه مرفوع إلا قليل منه, وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار, أو غيره, والله أعلم, وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً.
{إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَمُوسَىَ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ}
يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه السلام: إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه, يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل, ثم جاء موافقاً لقدر الله وإرادته من غير ميعاد, والأمر كله لله تبارك وتعالى, وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء, ولهذا قال: {ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَمُوسَىَ} قال مجاهد: أي على موعد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَمُوسَىَ} قال: على قدر الرسالة والنبوة. وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} أي اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي أي كما أريد وأشاء. وقال البخاري عند تفسيرها: حدثنا الصلت بن محمد, حدثنا مهدي بن ميمون, حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة, فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة ؟ قال: نعم, قال فوجدته مكتوباً عليّ قبل أن يخلقني, قال: نعم فحج آدم موسى" أخرجاه.
وقوله: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا, وقال مجاهد عن ابن عباس: لا تضعفا, والمراد أنهما لا يفتران في ذكر(3/187)
الله, بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون, ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه, وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له, كما جاء في الحديث "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه". وقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي تمرد وعتا وتجبر على الله وعصاه {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} هذه الآية فيها عبرة عظيمة, وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك, ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين, كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً},
يا من يتحبب إلى من يعاديه ... فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟
وقال وهب بن منبه: قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة. وعن عكرمة في قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} قال: لا إله إلا الله, وقال عمرو بن عبيد عن الحسن البصري {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} أعذرا إليه قولا له: إن لك رباً ولك معاداً, وإن بين يديك جنة وناراً, وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن سبرة عن علي في قوله {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} قال: كنه, وكذا روي عن سفيان الثوري: كنه بأبي مرة, والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق, ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع, كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
وقوله: {لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ} أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة, أو يخشى أي يوجد طاعة من خشية ربه, كما قال تعالى: {{لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ} فالتذكر الرجوع عن المحذور, والخشية تحصيل الطاعة, وقال الحسن البصري: {لعله يتذكر أو يخشى} يقول: لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه, وههنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل, ويروى لأمية بن أبي الصلت فيما ذكره ابن إسحاق.
وأنت الذي من فضل منّ ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
فقلت له: فاذهب وهارون فادعُوَا ... إلى الله فرعون الذي كان باغيا
فقولا له: هل أنت سويت هذه ... بلا وتد حتى استقلت كما هيا
وقولا له: أأنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذن بك بانيا
وقولا له: أأنت سويت وسطها ... منيراً إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له: من يخرج الشمس بكرة ... فيصبح مامَسّت من الأرض ضاحيا
وقولا له: من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبة في رؤوسه ؟ ... ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
{قَالاَ رَبّنَآ إِنّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىَ قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىَ فَأْتِيَاهُ فَقُولآ إِنّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مّن رّبّكَ وَالسّلاَمُ عَلَىَ مَنِ اتّبَعَ الْهُدَىَ إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنّ الْعَذَابَ عَلَىَ مَن كَذّبَ وَتَوَلّىَ}
يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السلام, أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: {إِنّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىَ} يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما, فيعاقبهما وهما لا(3/188)
يستحقان منه ذلك. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن يفرط يعجل. وقال مجاهد: يبسط علينا. وقال الضحاك عن ابن عباس أو أن يطغى: يعتدي {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىَ} أي لا تخافا منه, فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه, وأرى مكانكما ومكانه, لا يخفى عليّ من أمركم شيء, واعلما أن ناصيته بيدي, فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري, وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: لما بعث الله عز وجل موسى إلى فرعون قال: رب أي شيء أقول ؟ قال: قل هيا شراهيا. قال الأعمش: فسر ذلك: أنا الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء, إسناده جيد, وشيء غريب {فَأْتِيَاهُ فَقُولآ إِنّا رَسُولاَ رَبّكَ} قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال: مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما حتى أذن لهما بعد حجاب شديد.
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه, وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين فآذنوا بنا هذا الرجل, فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترىء أحد على أن يخبره بشأنهما حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه, فقال له: أيها الملك إن على بابك رجلاً يقول قولاً عجيباً يزعم أن له إلهاً غيرك أرسله إليك. قال ببابي ؟ قال: نعم, قال: أدخلوه, فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه, فلما وقف على فرعون قال: إني رسول رب العالمين, فعرفه فرعون, وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه, وهما لا يعرفانه, وكان طعامهما ليلتئذ الطفيل وهو اللفت, ثم عرفاه وسلما عليه, فقال له موسى: يا هارون إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني. قال: افعل ما أمرك ربك, فذهبا وكان ذلك ليلاً, فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون, فغضب وقال: من يجترىء على هذا الصنيع الشديد, فأخبره السدنة والبوابون بأن ههنا رجلاً مجنوناً يقول إنه رسول الله, فقال علي به, فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر الله في كتابه.
وقوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مّن رّبّكَ} أي بدلالة ومعجزة من ربك {وَالسّلاَمُ عَلَىَ مَنِ اتّبَعَ الْهُدَىَ} أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى, ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله "بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم, سلام على من اتبع الهدى, أما بعد, فإني أدعوك بدعاية الإسلام, فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين" وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً صورته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله, سلام عليك, أما بعد فإني قد أشركتك في الأمر, فلك المدر ولي الوبر, ولكن قريشاً قوم يعتدون, فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب, سلام على من اتبع الهدى, أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون {وَالسّلاَمُ عَلَىَ مَنِ اتّبَعَ الْهُدَىَ إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنّ الْعَذَابَ عَلَىَ مَن كَذّبَ وَتَوَلّىَ} أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته, كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} وقال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وقال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي كذب بقلبه, وتولى بفعله.
{قَالَ فَمَن رّبّكُمَا يَمُوسَىَ قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُولَىَ(3/189)
قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كِتَابٍ لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى}
يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه قال لموسى منكراً وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه ومليكه, قال {قَالَ فَمَن رّبّكُمَا يَمُوسَىَ} أي الذي بعثك وأرسلك من هو, فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري {قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ}. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يقول خلق لكل شيء زوجه. وقال الضحاك عن ابن عباس: جعل الإنسان إنساناً, والحمار حماراً, والشاة شاة. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: أعطى كل شيء صورته. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: سوى خلق كل دابة.
وقال سعيد بن جبير في قوله: {أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ} قال: أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه, ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة, ولا للدابة من خلق الكلب, ولا للكلب من خلق الشاة, وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح, وهيأ كل شيء على ذلك, ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح. وقال بعض المفسرين: أعطى كل شيء خلقه ثم هدى, كقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه, أي كتب الأعمال والآجال والأرزاق, ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه ولا يقدر أحد على الخروج منه.
يقول ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليقة على ما أراد {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُولَىَ} أصح الأقوال في معنى ذلك أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق, وقدر فهدى, شرع يحتج بالقرون الأولى, أي الذين لم يعبدوا الله, أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره, فقال له موسى في جواب ذلك, هم وإن لم يعبدوه فإن علمهم عند الله مضبوط عليهم, وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله, وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال {لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} أي لا يشذ عنه شيء, ولا يفوته صغير ولا كبير, ولا ينسى شيئاً يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط, وأنه لا ينسى شيئاً, تبارك وتعالى وتقدس وتنزه, فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان: أحدهما عدم الإحاطة بالشيء, والآخر نسيانه بعد علمه, فنزه نفسه عن ذلك.
{الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نّبَاتٍ شَتّىَ كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لأولي النّهَىَ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىَ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلّهَا فَكَذّبَ وَأَبَىَ}
من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عز وجل حين سأله فرعون عنه, فقال: {الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ} ثم اعترض الكلام بين ذلك, ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} وفي قراءة بعضهم مهاداً أي قراراً تستقرون عليها, وتقومون وتنامون عليها, وتسافرون على ظهرها {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} {وأنزل من السماء ماءً فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} أي من أنواع النباتات من زروع وثمار, ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أي شيء لطعامكم وفاكهتكم, وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} أي لدلالات وحججاً وبراهين {لِأُولِي النُّهَى} أي لذوي العقول السليمة المستقيمة, على أنه لا إله إلا الله ولا رب سواه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أي من الأرض مبدؤكم, فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم(3/190)
الأرض وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم, ومنها نخرجكم تارة أخرى {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} وهذه الآية كقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة, فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: "منها خلقناكم, ثم أخذ أخرى, وقال: وفيها نعيدكم, ثم أخرى, وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى". وقوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} يعني فرعون أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات, وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً, كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} الآية.
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَمُوسَىَ فَلَنَأْتِيَنّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى}
يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى, وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً, ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء, فقال: هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك, وتكاثرنا بهم ولا يتم هذا معك, فإن عندنا سحراً مثل سحرك, فلا يغرنك ما أنت فيه, {مّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} أي يوماً نجتمع نحن وأنت فيه, فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين ووقت معين, فعند ذلك {قَالَ} لهم موسى {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ} وهو يوم عيدهم ونيروزهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم, ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء ومعجزات الأنبياء وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية, ولهذا قال: {وَأَن يُحْشَرَ النّاسُ} أي جميعهم {ضُحًى} أي ضحوة من النهار, ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح, وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج, ولهذا لم يقل ليلاً ولكن نهاراً ضحى, قال ابن عباس: وكان يوم الزينة يوم عاشوراء. وقال السدي وقتادة وابن زيد: كان يوم عيدهم. وقال سعيد بن جبير: كان يوم سوقهم, ولا منافاة. قلت: وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده, كما ثبت في الصحيح, وقال وهب بن منبه: قال فرعون: يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه. قال موسى لم أومر بهذا إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك, فأوحى الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلاً, وقل له أن يجعل هو, قال فرعون: اجعله إلى أربعين يوماً ففعل, وقال مجاهد وقتادة: مكاناً سوى منصفاً. وقال السدي: عدلاً. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: مكاناً سوى مستو بين الناس وما فيه لا يكون صوب ولا شيء يتغيب بعض ذلك عن بعض مستو حين يرى.
{فَتَوَلّىَ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمّ أَتَىَ قَالَ لَهُمْ مّوسَىَ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىَ فَتَنَازَعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَىَ قَالُوَاْ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىَ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىَ}(3/191)
يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه لما تواعد هو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلومين تولى, أي شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته, كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان, وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً, كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} ثم أتي. أي اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة, وجلس فرعون على سرير مملكته, واصطف له أكابر دولته, ووقفت الرعايا يمنة ويسرة, وأقبل موسى عليه الصلاة والسلام متوكئاً على عصاه ومعه أخوه هارون, ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفاً, وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم, ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم, يقولون {أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة, وليست مخلوقة, فتكونون قد كذبتم على الله {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قيل معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم, فقائل يقول ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نبي, وقائل يقول بل هو ساحر, وقيل غير ذلك, والله أعلم.
وقوله: {وَأَسَرّواْ النّجْوَىَ} أي تناجوا فيما بينهم {قَالُوَاْ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وهذه لغة لبعض العرب, جاءت هذه القراءة على إعرابها, ومنهم من قرأ {إن هذين لساحران} وهذه اللغة المشهورة, وقد توسع النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه. والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم: تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون موسى وهارون - ساحران عالمان, خبيران بصناعة السحر, يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس, وتتبعهما العامة, ويقاتلا فرعون وجنوده, فينصرا عليه, ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىَ} أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر, فإنهم كانوا معظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها, يقولون: إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض, وتفردا بذلك وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم, وقد تقدم في حديث الفتون أن ابن عباس قال في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىَ} يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق, سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىَ} قال: يصرفا وجوه الناس إليهما.
وقال مجاهد {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىَ} قال: أولو الشرف والعقل والأسنان. وقال أبو صالح: بطريقتكم المثلى أشرافكم وسرواتكم. وقال عكرمة: بخيركم. وقال قتادة: وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل, وكانوا أكثر القوم عدداً وأمولاً, فقال عدو الله يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما. وقال عبد الرحمن بن زيد: بطريقتكم المثلى بالذي أنتم عليه. {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمّ ائْتُواْ صَفّاً} أي اجتمعوا كلكم صفاً واحداً, وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة لتبهروا الأبصار, وتغلبوا هذا وأخاه {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىَ} أي منا ومنه, أما نحن فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل, وأما هو فينال الرياسة العظيمة.
{قَالُواْ يَمُوسَىَ إِمّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمّآ أَن نّكُونَ أَوّلَ مَنْ أَلْقَىَ قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَىَ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىَ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنّكَ أَنتَ الأعْلَىَ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوَاْ إِنّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتَىَ فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً قَالُوَاْ آمَنّا(3/192)
بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَىَ}
يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام, أنهم قالوا لموسى {إِمّآ أَن تُلْقِيَ} أي أنت أولاً {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا} أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر, وليظهر للناس جلية أمرهم {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَىَ} وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وقال ههنا: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَىَ} وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد, بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها, وإنما كان حيلة, وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً, فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضاً.
وقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىَ} أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه, فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن ألقِ ما في يمينك يعني عصاك, فإذا هي تلقف ما صنعوا وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس, فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته وابتلعته, والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة, فقامت المعجزة واتضح البرهان, ووقع الحق وبطل السحر, ولهذا قال تعال: {إِنّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتَىَ} وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد حدثنا ابن معاذ أحسبه الصائغ عن الحسن عن جندب عن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أخذتم يعني الساحر فاقتلوه ثم قرأ {وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتَىَ} قال: لا يؤمن حيث وجد" وقد روى أصله الترمذي موقوفاً ومرفوعاً. فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه, ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل, وأنه حق لا مرية فيه, ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون, فعند ذلك وقعوا سجداً لله, وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون, ولهذا قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة, وفي آخر النهار شهداء بررة. وقال محمد بن كعب: كانوا ثمانين ألفاً, وقال القاسم بن أبي بزة: كانوا سبعين ألفاً, وقال السدي: بضعة وثلاثين ألفاً, وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة: كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفاً, وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً, وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن علي بن حمزة, حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت السحرة سبعين رجلاً, أصبحوا سحرة, وأمسوا شهداء. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا المسيب بن واضح بمكة, حدثنا ابن المبارك قال: قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً, رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها, قال: وذكر عن سعيد بن سلام, حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان عن سالم الأفطس عن سيعد بن جبير قوله: {فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً} قال: رأوا منازلهم تبين لهم في سجودهم, وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة.
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَآ أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ(3/193)
وَالّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَآ إِنّآ آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ}
يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل, حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة, ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم, وغلب كل الغلب, شرع في المكابرة والبهت, وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة, فتهددهم وتوعدهم وقال: {آمَنتُمْ لَهُ} أي صدقتموه {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} أي و ما أمرتكم بذلك وأفتنتم علي في ذلك, وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب {إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ} أي أنتم أخذتم السحر عن موسى, واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه, كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}, ثم أخذ يتهددهم فقال: {فَلاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ} أي لأجعلنكم مثلة, ولأقتلنكم ولأشهرنكم, قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك, رواه ابن أبي حاتم.
وقوله {وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَآ أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ} أي أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه على الهدى, فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه, فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم, هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل و {قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ} أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين, {وَالّذِي فَطَرَنَا} يحتمل أن يكون قسماً, ويحتمل أن يكون معطوفاً على البينات, يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين, فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت, {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} أي فافعل ما شئت, وما وصلت إليه يدك, {إِنّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَآ} أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال, ونحن قد رغبنا في دار القرار {إِنّآ آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي ما كان منا من الآثام خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ} قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل, فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء, وقال: علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض, قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا: {آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ} وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقوله: {وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ} أي خير لنا منك {وَأَبْقَىَ} أي أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا, وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه الله. وقال محمد بن كعب القرظي {والله خير} أي لنا منك إن أطيع {وأبقى} أي منك عذاباً إن عصي, وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضاً. والظاهر أن فرعون - لعنه الله - صمم على ذلك, وفعله بهم رحمة لهم من الله, ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.
{إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكّىَ}(3/194)
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون, يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي, ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد, فقالوا: {إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً} أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم {فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ} كقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} وقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} وقال تعالى: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا إسماعيل, أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها, فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون, ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر, فبثوا على أنهار الجنة, فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم, فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل" فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية, وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل, كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي, حدثنا حيان, سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية {إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون, وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون, فتجعل الضبائر, فيؤتى بهم نهراً يقال له الحياة أو الحيوان, فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل".
وقوله تعالى: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ} أي ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله {فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ} أي الجنة ذات الدرجات العاليات, والغرف الآمنات, والمساكن الطيبات. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, أنبأنا همام, حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, والفردوس أعلاها درجة, ومنها تخرج الأنهار الأربعة, والعرش فوقها, فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس" ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون عن همام به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: كان يقال: الجنة مائة درجة في كل درجة مائة درجة, بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فيهن الياقوت والحلي, في كل درجة أمير يرون له الفضل والسؤدد, وفي الصحيحين: "إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم - قالوا يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء قال - بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" وفي السنن: "وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما". وقوله: {جَنّاتُ عَدْنٍ} أي إقامة, وهي بدل من الدرجات العلى {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين أبداً {وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكّىَ} أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك, وعبد الله وحده لا شريك له. واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من خير وطلب.
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىَ}(3/195)
يقول تعالى مخبراً أنه أمر موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل, ويذهب بهم من قبضة فرعون, وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة, وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب, فغضب فرعون غضباً شديداً, وأرسل في المدائن حاشرين, أي من يجمعون له الجند من بلدانه ورساتيقه, يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ, وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}, ثم لما جمع جنده واستوسق له جيشه, ساق في طلبهم فأتبعوهم مشرقين, أي عند طلوع الشمس {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي نظر كل من الفريقين إلى الآخر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ووقف موسى ببني إسرائيل البحر أمامهم, وفرعون وراءهم, فعند ذلك أوحى الله إليه {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} فضرب البحر بعصاه, وقال: انفلق علي بإذن الله, {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}, أي الجبل العظيم, فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يابساً كوجه الأرض, فلهذا قال: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً} أي من فرعون {وَلاَ تَخْشَىَ} يعني من البحر أن يغرق قومك, ثم قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ} أي البحر {مَا غَشِيَهُمْ} أي الذي هو معروف ومشهور, وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور, كما قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} وقال الشاعر:
أنا أبو النجم وشعري شعري
أي الذي يعرف وهو مشهور. وكما تقدم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد, كذلك يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود.
{يَبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مّنْ عَدُوّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطّورِ الأيْمَنَ وَنَزّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىَ وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ}
يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام, حيث أنجاهم من عدوهم فرعون, وأقر أعينهم منه وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة, لم ينج منهم أحد, كما قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا شعبة, حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, وجد اليهود تصوم عاشوراء, فسألهم فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون, فقال: "نحن أولى بموسى فصوموه" رواه مسلم أيضاً في صحيحه.
ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن, وهو الذي كلمه الله تعالى عليه, وسأل فيه الرؤية, وأعطاه التوراة هنالك, وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل كما يقصه الله تعالى قريباً, وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها, فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء, والسلوى طائر يسقط عليهم فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد, لطفاً من الله ورحمة بهم وإحساناً إليهم, ولهذا قال تعالى: {كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم, ولا تطغوا في رزقي فتأخذوه من غير حاجة, وتخالفوا ما أمرتكم به {فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي أغضب عليكم {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىَ}(3/196)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي فقد شقي. وقال شفي بن مانع: إن في جهنم قصراً يرمى الكافر من أعلاه, فيهوي في جهنم أربعين خريفاً قبل أن يبلغ الصلصال, وذلك قوله {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىَ} ورواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً} أي كل من تاب إلي, تبت عليه من أي ذنب كان, حتى أنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل. وقوله تعالى : {تَابَ} أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق. وقوله: {وَآمَنَ} أي بقلبه. {وَعَمِلَ صَالِحَاً} أي بجوارحه. وقوله: {ثم اهتدى} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي ثم لم يشكك. وقال سعيد بن جبير {ثُمّ اهْتَدَىَ} أي استقام على السنة والجماعة وروي نحوه عن مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف وقال قتادة {ثُمّ اهْتَدَىَ} أي لزم الإسلام حتى يموت وقال سفيان الثوري {ثُمّ اهْتَدَىَ} أي علم أن لهذا ثواباً, وثم ههنا لترتيب الخبر على الخبر, كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.
{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَمُوسَىَ قَالَ هُمْ أُوْلآءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ فَرَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتّمْ أَن يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مّوْعِدِي قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنّا حُمّلْنَآ أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً}
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وواعده ربه ثلاثين ليلة, ثم أتبعها عشراً, فتمت أربعين ليلة, أي يصومها ليلاً ونهاراً, وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك, فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور, واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون, ولهذا قال تعالى: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَمُوسَىَ قَالَ هُمْ أُوْلآءِ عَلَىَ أَثَرِي} أي قادمون ينزلون قريباً من الطور {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ} أي لتزداد عنى رضا {قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ} أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري.
وفي الكتب الإسرائيلية أنه كان اسمه هارون أيضاً, وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أي عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري.
وقوله: {فَرَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي بعدما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم, هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم, وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم, وفيها شرف لهم, وهم قوم قد عبدوا غير الله, ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة عقولهم وأذهانهم,(3/197)
ولهذا قال: رجع إليهم غضبان أسفاً, والأسف شدة الغضب. وقال مجاهد: غضبان أسفاً أي جزعاً, وقال قتادة والسدي: أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده {قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسَناً} أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة, كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه وما بالعهد من قدم, {أَمْ أَرَدتّمْ أَن يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رّبّكُمْ} أم ههنا بمعنى بل, وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني, كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي, قالوا أي بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي عن قدرتنا واختيارنا, ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد, يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر, فقذفناها أي ألقيناها عنا.
وقد تقدم في حديث الفتون أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار, وهي في رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس, إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة, ويجعل حجراً واحداً, حتى إذا رجع موسى عليه السلام, رأى فيه ما يشاء ثم جاء ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول, وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته, فدعا له هارون وهو لا يعلم ما يريد فأجيب له, فقال السامري عند ذلك: أسأل الله أن يكون عجلاً, فكان عجلاً له خوار أي صوت استدراجاً, وإمهالاً ومحنة واختباراً, ولهذا قال: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبادة بن النجتري, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل, فقال له: ما تصنع ؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع, فقال هارون: اللهم أعطه ما سأل على ما في نفسه, ومضى هارون. وقال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور فخار, فكان إذا خار سجدوا له, وإذا خار رفعوا رؤوسهم. ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال: أعمل ما ينفع ولا يضر. وقال السدي كان يخور ويمشي فقالوا: أي الضّلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه: {هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ} أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه, كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس, وبه قال مجاهد, وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {فَنَسِيَ}, أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم, وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال: {هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىَ} قال: فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط يعني مثله, يقول الله: {فَنَسِيَ} أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري. قال الله تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} أي العجل, أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه, {وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً}, أي في دنياهم ولا في أخراهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره. فيخرج من فمه فيسمع له صوت, وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري أن هذا العجل اسمه بهموت, وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل, فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير, كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب, يعني هل يصلي فيه أم لا ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق, قتلوا ابن بنت رسول الله يعني الحسين, وهم يسألون عن دم البعوضة.(3/198)
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَقَوْمِ إِنّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنّ رَبّكُمُ الرّحْمَنُ فَاتّبِعُونِي وَأَطِيعُوَاْ أَمْرِي قَالُواْ لَن نّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتّىَ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىَ}
يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل وإخباره إياهم, إنما هذا فتنة لكم وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً, ذو العرش المجيد الفعال لما يريد {فَاتّبِعُونِي وَأَطِيعُوَاْ أَمْرِي} أي فيما آمركم به, واتركوا ما أنهاكم عنه, {قَالُواْ لَن نّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتّىَ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىَ} أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه, وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.
{قَالَ يَهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ أَلاّ تَتّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَابْنَ أُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرّقْتَ بَيْنَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه, فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم, فامتلأ عند ذلك غضباً وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية, وأخذ برأس أخيه يجره إليه, وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك, وذكرنا هناك حديث "ليس الخبر كالمعاينة" وشرع يلوم أخاه هارون, فقال: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ أَلاّ تَتّبِعَنِ} أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي فيما كنت قدمت إليك, وهو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} {قَالَ يَابْنَ أُمّ} ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه, لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف, ولهذا قال: {يَابْنَ أُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} الآية, هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم, قال: {إِنّي خَشِيتُ} أن أتبعك فأخبرك بهذا, فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم, قال ابن عباس: وكان هارون هائباً مطيعاً له.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىَ إِلَهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً إِنّمَآ إِلَهُكُمُ اللّهُ الّذِي لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً}
يقول موسى عليه السلام للسامري: ما حملك على ما صنعت ؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت ؟ قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان السامري رجلاً من أهل باجرما, وكان من قوم يعبدون البقر, وكان حب عبادة البقر في نفسه, وكان قد أظهر الإسلام مع بني(3/199)
إسرائيل, وكان اسمه موسى بن ظفر, وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان, وقال قتادة: كان من قرية سامرا {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ} أي من أثر فرسه, وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث, أخبرني عبيد الله بن موسى, أخبرنا إسرائيل عن السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال: إن جبريل عليه السلام لما نزل فصعد بموسى عليه السلام إلى السماء, بصر به السامري من بين الناس, فقبض قبضة من أثر الفرس, قال: وحمل جبريل موسى عليهما السلام خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح, وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح, فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال: نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه, غريب.
وقال مجاهد: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ} قال: من تحت حافر فرس جبريل, قال: والقبضة ملء الكف, والقبضة بأطراف الأصابع, قال مجاهد: نبذ السامري, أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل, فانسبك عجلاً جسداً له خوار حفيف الريح فيه فهو خوراه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى, أخبرنا علي بن المديني, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا عمارة, حدثنا عكرمة أن السامري رأى الرسول, فألقي في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان, فقبض قبضة من أثر الرسول فيبست أصابعه على القبضة, فلما ذهب موسى للميقات, وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون, فقال لهم السامري: إنما أصابكم من أجل هذا الحلي, فاجمعوه فجمعوه, فأوقدوا عليه فذاب, فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت كن فيكون, فقذف القبضة وقال كن فكان عجلاً جسداً له خوار, فقال: {إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ولهذا قال {فَنَبَذْتُهَا} أي ألقيتها مع من ألقى {وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي} أي حسنته وأعجبها, إذا ذاك {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس, أي لا تماس الناس ولا يمسونك {وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً } أي يوم القيامة {لّن تُخْلَفَهُ} أي لا محيد لك عنه. وقال قتادة {أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} قال: عقوبة لهم وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس.
وقوله: {وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ} قال الحسن وقتادة وأبو نهيك: لن تغيب عنه. وقوله: {وَانظُرْ إِلَىَ إِلَهِكَ} أي معبودك {الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أي أقمت على عبادته يعني العجل {لّنُحَرّقَنّهُ} قال الضحاك عن ابن عباس والسدي: سحله بالمبارد وألقاه على النار. وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحماً ودماً, فحرقه بالنار, ثم ألقى رماده في البحر, ولهذا قال: {ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن رجاء, أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل, ثم صوره عجلاً, قال: فعمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد, فبرده بها وهو على شط نهر, فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب, فقالوا لموسى: ما توبتنا ؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً, وهكذا قال السدي, وقد تقدم في تفسير سورة البقرة, ثم في حديث الفتون بسط ذلك.
وقوله تعالى: {إِنّمَآ إِلَهُكُمُ اللّهُ الّذِي لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً} يقول لهم موسى عليه السلام: ليس هذا إلهكم, إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو, ولا تنبغي العبادة إلا له, فإن كل شيء فقير إليه عبد له. وقوله: {وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً} نصب على التمييز, أي هو عالم بكل شيء, {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}, و {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} , فلا {يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}, {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا(3/200)
وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}, {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}, والآيات في هذا كثيرة جداً.
{كَذَلِكَ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لّدُنّا ذِكْراً مّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع, كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص, هذا وقد آتيناك من لدنا, أي من عندنا ذكراً, وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه, تنزيل من حكيم حميد, الذي لم يعط نبي من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم كتاباً مثله, ولا أكمل منه, ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن, وحكم الفصل بين الناس منه.
ولهذا قال تعالى: {مّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أي كذب به وأعرض عن إتباعه أمراً وطلباً, وابتغى الهدى من غيره, فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم, ولهذا قال: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} أي إثماً كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم, كما قال: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع, فمن اتبعه هدي ومن خالفه وأعرض عنه, ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة, ولهذا قال: {مّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} أي بئس الحمل حملهم.
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً}
ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور, فقال: "قرن ينفخ فيه". وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة أنه قرن عظيم, الدائرة منه بقدر السموات والأرض, ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام وجاء في الحديث "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته, وانتظر أن يؤذن له" فقالوا: يا رسول الله كيف نقول ؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا". وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} قيل: معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} قال ابن عباس: يتسارون بينهم, أي يقول بعضهم لبعض: إن لبثتم إلا عشراً أي في الدار الدنيا, لقد كان لبثكم فيها قليلاً عشرة أيام أو نحوها, قال الله تعالى: {نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي في حال تناجيهم بينهم {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي العاقل الكامل فيهم {إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً} أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد, لأن الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها, كأنها يوم واحد, ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة, وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة, ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ - إلى قوله - وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} الآية, وقال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ(3/201)
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إنما كان لبثكم فيها قليلاً, لو كنتم تعلمون لأثرتم الباقي على الفاني, ولكن تصرفتم فاسأتم التصرف, قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلآ أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً}
يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول ؟ {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً} أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً {فَيَذَرُهَا} أي الأرض {قَاعاً صَفْصَفاً} أي بساطاً واحداً, والقاع هو المستوي من الأرض, والصفصف تأكيد لمعنى ذلك, وقيل الذي لا نبات فيه, والأول أولى وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم, ولهذا قال: {لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلآ أَمْتاً} أي لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً, كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف {يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} أي يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه, ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ولكن حيث لا ينفعهم, كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} وقال: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} وقال محمد بن كعب القرظي: يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة, ويطوي السماء, وتتناثر النجوم, وتذهب الشمس والقمر, وينادي مناد, فيتبع الناس الصوت يؤمونه, فذلك قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} وقال قتادة: لا عوج له, لا يميلون عنه. وقال أبو صالح: لا عوج له أي لا عوج عنه.
وقوله: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمَنِ} قال ابن عباس: سكنت, وكذا قال السدي {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني وطء الأقدام, وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً} الصوت الخفي, وهو رواية عن عكرمة والضحاك. وقال سعيد بن جبير {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً} الحديث وسره ووطء الأقدام, فقد جمع سعيد كلا القولين, وهو محتمل, أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر, وهو مشيهم في سكون وخضوع, وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال, فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}.
{يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً}
يقول تعالى: {يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة {لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ} أي عنده {إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}, وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}, وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. وقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}, وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ(3/202)
صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}. وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم, وأكرم الخلائق على الله عز وجل أنه قال: "آتي تحت العرش, وأخر لله ساجداً, ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن, فيدعني ما شاء أن يدعني, ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع, واشفع تشفع - فيحد لي حداً, فأدخلهم الجنة ثم أعود" فذكر أربع مرات, صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء. وفي الحديث أيضاً "يقول تعالى أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان, فيخرجون خلقاً كثيراً, ثم يقول أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان, أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة, من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان" الحديث.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يحيط علماً بالخلائق كلهم {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}. وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ } قال ابن عباس وغير واحد: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت, القيوم الذي لا ينام, وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه, فهو الكامل في نفسه, الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلا به. وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي يوم القيامة, فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء, وفي الحديث "يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم" وفي الصحيح "إياكم والظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو به مشرك, فإن الله تعالى يقول: {إن الشرك لظلم عظيم}". وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} لما ذكر الظالمين ووعيدهم, ثنى بالمتقين وحكمهم, وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون, أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم, قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد, فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره, والهضم النقص.
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَتَعَالَىَ اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رّبّ زِدْنِي عِلْماً}
يقول تعالى: ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعاً لا محالة, أنزلنا القرآن بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي, {وَصَرّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ} أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات {فَتَعَالَىَ اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ} أي تنزه وتقدس الملك الحق الذي هو حق ووعده حق, ووعيده حق ورسله حق, والجنة حق والنار حق وكل شيء منه حق, وعدله تعالى أن لا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثة الرسل, والإعذار إلى خلقه لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وقوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ}, كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يعالج من الوحي شدة, فكان مما يحرك به لسانه, فأنزل الله هذه الآية يعني أنه عليه السلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي, كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن, فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه, فقال: {{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي أن نجمعه في صدرك, ثم تقرأه(3/203)
على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وقال في هذه الآية {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي بل أنصت, فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده {وَقُل رّبّ زِدْنِي عِلْماً} أي زدني منك علماً, قال ابن عيينة رحمه الله ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عز وجل, ولهذا جاء في الحديث "إن الله تابع الوحي على رسوله, حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن ثابت, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم انفعني بما علمتني, وعلمني ما ينفعني, وزدني علماً, والحمد الله على كل حال". وأخرجه الترمذي عن أبي كريب, عن عبد الله بن نميربه. وقال: غريب من هذا الوجه, ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس, عن أبي عاصم, عن موسى بن عبيدة به, وزاد في آخره "وأعوذ بالله من حال أهل النار".
{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدم فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ فَقُلْنَا يَآدَمُ إِنّ هَذَا عَدُوّ لّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَىَ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَىَ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي, وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه. وقال مجاهد والحسن: ترك. وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدم} يذكر تعالى تشريف آدم, وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً, وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف وفي الحجر والكهف, وسيأتي في آخر سورة {ص} يذكر تعالى فيها خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له تشريفاً وتكريماً, ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديماً, ولهذا قال تعالى: {فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ} أي امتنع واستكبر {فَقُلْنَا يَآدَمُ إِنّ هَذَا عَدُوّ لّكَ وَلِزَوْجِكَ} يعني حواء عليهما السلام {فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِن الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ} أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك, فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة {إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ } إنما قرن بين الجوع والعري, لأن الجوع ذل الباطن, والعري ذل الظاهر, {وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ} وهذان أيضاً متقابلان, فالظمأ حر الباطن وهو العطش, والضحى حر الظاهر.
وقوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَىَ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَىَ} قد تقدم أنه دلاهما بغرور {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة, فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد, يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه, وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد, فقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي الضحاك, سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي(3/204)
صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها, وهي شجرة الخلد" ورواه الإمام أحمد.
وقوله: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب, حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن الحسن, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس, كأنه نخلة سحوق, فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه, فأول ما بدا منه عورته, فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة, فأخذت شعره شجرة فنازعها, فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر, فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا, ولكن استحياء, أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم" فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب, فلم يسمعه منه, وفي رفعه نظر أيضاً.
وقوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ} قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب, وكذا قال قتادة والسدي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن عون, حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ} قال: ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما. وقوله: {وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ} قال البخاري: حدثنا قتيبة, حدثنا أيوب بن النجار عن يحي بن أبي كثير, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حاج موسى آدم, فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى, أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه, أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فحج آدم موسى", وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما من المسانيد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذئاب, عن يزيد بن هرمز قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتج آدم وموسى عند ربهما, فحج آدم موسى, قال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده, ونفخ فيك من روحه, وأسجد لك ملائكته, وأسكنك في جنته, ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك, قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه, وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء, وقربك نجياً, فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً, قال آدم: فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم, قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فحج آدم موسى", قال الحارث: وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَىَ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ}
يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس: اهبطوا منها جميعاً, أي من الجنة كلكم, وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} قال: آدم وذريته, وإبليس وذريته. وقوله: {فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى} قال أبو العالية: الأنبياء والرسل والبيان {فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَىَ} قال ابن عباس: لا يضل في(3/205)
الدنيا ولا يشقى في الآخرة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه {فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي ضنكا في الدنيا, فلا طمأنينة له ولا انشرح لصدره, بل صدره ضيق حرج لضلاله, وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء, فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك, فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: الشقاء. وقال العوفي عن ابن عباس: {فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: كلما أعطيته عبداً من عبادي قل أو كثر, لا يتقيني فيه, فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة, وقال أيضاً: إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين, فكانت معيشتهم ضنكاً, وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفاً لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب, فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به, اشتدت عليه معيشته, فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث, وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار.
وقال سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله: {مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه, وقال أبو حاتم الرازي: النعمان بن أبي عياش يكنى أبا سلمة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, أنبأنا الوليد, أنبأنا عبد الله بن لهيعة, عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل {فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: ضمة القبر له, والموقوف أصح. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا الربيع بن سليمان, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج أبو السمح عن ابن حجيرة واسمه عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن في قبره في روضة خضراء, ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً, وينور له قبره كالقمر ليلة البدر, أتدرون فيم أنزلت هذه الآية {فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أ تدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "عذاب الكافر في قبره, والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً. أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية, لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون" رفعه منكر جداً.
وقال البزار: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي: حدثنا محمد بن عمرو, حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ابن حجيرة, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: "المعيشة الضنك الذي قال الله إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة". وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا أبو الوليد, حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم {فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قال: "عذاب القبر" إسناد جيد.
وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ} قال مجاهد وأبو صالح والسدي: لا حجة له, وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم, ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً, كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} الآية, ولهذا يقول: {رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} أي في الدنيا {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ} أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك, تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها, كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فإن الجزاء من جنس العمل. فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه, فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص, وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد, حدثنا خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن رجل عن(3/206)
سعد بن عبادة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم", ثم رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن عبادة بن الصامت, عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله سواء.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدّ وَأَبْقَىَ}
يقول تعالى: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدّ وَأَبْقَىَ} أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم, فهم مخلدون فيه, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: "إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة".
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لأولي النّهَىَ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مّسَمّى فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ}
يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ} لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم, فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر, كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها {إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لأولي النّهَىَ} أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة, كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وقال في سورة الم السجدة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} الآية, ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مّسَمّى} أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه, والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة, لجاءهم العذاب بغتة, ولهذا قال لنبيه مسلياً له: {فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ} أي من تكذيبهم لك {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ} يعني صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يعني صلاة العصر, كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر, فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر, لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قرأ هذه الآية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" رواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير به, وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة, ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه, وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين".
وقوله: {وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ} أي من ساعاته فتهجد به, وحمله بعضهم على المغرب والعشاء, {وَأَطْرَافَ النّهَارِ} في مقابلة آناء الليل {لَعَلّكَ تَرْضَىَ} كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}(3/207)
وفي الصحيح "يقول الله تعالى يا أهل الجنة, فيقولون: لبيك ربنا وسعديك, فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك, فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك, فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" وفي الحديث الآخر "يا أهل الجنة, إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه: فيقولون: وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة, فيكشف الحجاب فينظرون إليه, فو الله ما أعطاهم خيراً من النظر إليه, وهي الزيادة"
{وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَىَ}
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم, فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة, لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور. وقال مجاهد: {أَزْوَاجاً مّنْهُمْ}, يعني الأغنياء, فقد آتاك خيراً مما آتاهم, كما قال في الآية الأخرى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الآية, وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف, كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ولهذا قال: {وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ} وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن, فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير, وليس في البيت إلا صبرة من قرظ وأهب معلقة, فابتدرت عينا عمر بالبكاء, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مايبكيك يا عمر ؟" فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه, وأنت صفوة الله من خلقه ؟ فقال: "أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها, إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله, ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد.
قال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا" قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال: "بركات الأرض". وقال قتادة والسدي: زهرة الحياة الدنيا, يعني زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنبتليهم. وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة, واصبر أنت على فعلها, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب, أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ, وكان له ساعة من الليل يصلي فيها, فربما لم يقم, فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم, وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله, وقال: {"وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}
وقوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب, كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - إلى قوله - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ولهذا قال: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ}. وقال الثوري: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً}, أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفاً, فإذا(3/208)
رجع إلى أهله, فدخل الدار قرأ {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ - إلى قوله - نَحْنُ نَرْزُقُكَ} ثم يقول: الصلاة. الصلاة رحمكم الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني, حدثنا سيار, حدثنا جعفر عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا, صلوا. قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة, وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تفعل, ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك" وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك", وروي أيضاً من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان, عن أبيه عن زيد بن ثابت, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره, وجعل فقره بين عينيه, ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له, ومن كانت الآخرة نيته, جمع له أمره وجعل غناه في قلبه, وأتته الدنيا وهي راغمة" وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة, وهي الجنة لمن اتقى الله. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع, وأنا أتينا برطب ابن طاب, فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة, وأن ديننا قد طاب".
{وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مّن رّبّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الاُولَىَ وَلَوْ أَنّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نّذِلّ وَنَخْزَىَ قُلْ كُلّ مّتَرَبّصٌ فَتَرَبّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ السّوِيّ وَمَنِ اهْتَدَىَ}
يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم: {لَوْلاَ} أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه, أي بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله ؟ قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الاُولَىَ} يعني القرآن الذي أنزله عليه الله, وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب, وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها, فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها, وهذه الآية كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" وإنما ذكر ههنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه السلام, وهو القرآن, وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر, كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم, لكانوا قالوا: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال: {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} كما قال(3/209)
تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - إلى قوله - ِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} الآية, وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} الآيتين, ثم قال تعالى: {قُلْ} أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} أي منا ومنكم {فَتَرَبَّصُوا} أي فانتظروا {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} أي الطريق المستقيم {وَمَنِ اهْتَدَى} إلى الحق وسبيل الرشاد, وهذا كقوله تعالى: { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وقال: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ}.
آخر تفسير سورة طه ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد.(3/210)
سورة الأنبياء
وهي مكية
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا غندر, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال بنو إسرائيل والكهف, ومريم, وطه, والأنبياء, هن من العتاق الأول وهن من تلادي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَآ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأوّلُونَ مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}
هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها, وأن الناس في غفلة عنها, أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها. وقال النسائي: حدثنا أحمد بن نصر, حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم {فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ} قال: "في الدنيا". وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وقال {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} الآية, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانىء أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول:
الناس في غفلاتهم ورحا المنية تطحن
فقيل له: من أين أخذ هذا؟ قال من قول الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ} وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الاَمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب, فأكرم عامر مثواه, وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً في العرب, وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك, فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك, نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ}.
ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار, فقال {مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ} أي جديد إنزاله {إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} كما قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه, وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضاً لم يشب, رواه البخاري بنحوه.(3/211)
وقوله: {وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ} أي قائلين فيما بينهم خفية {هَلْ هَذَآ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم, فكيف اختص بالوحي دونهم, ولهذا قال: {أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر, فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب {قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ} أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية, وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين, الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض. وقوله: {وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم, وفي هذا تهديد لهم ووعيد. وقوله: {بَلْ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ} هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن, وحيرتهم فيه وضلالهم عنه, فتارة يجعلونه سحراً, وتارة يجعلونه شعراً, وتارة يجعلونه أضغاث أحلام, وتارة يجعلونه مفترى, كما قال {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} وقوله {لْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية, ولهذا قال تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا, فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا, بل {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ذكر عن زيد بن الحباب, حدثنا ابن لهيعة: حدثنا الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي, حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرىء بعضُنا بعضاً القرآن, فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية, فوضع واتكأ, وكان صبيحاً فصيحاً جدلاً, فقال: يا أبا بكر, قل محمد يأتينا بآية كما جاء الأولون, جاء موسى بالألواح, وجاء داود بالزبور, وجاء صالح بالناقة, وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة, فبكى أبو بكر رضي الله عنه, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل" فقلنا: يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق, فقال: "إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك, وفضيلته التي فضلت بها, فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود, وأمرني أن أنذر الجن, وآتاني كتابه وأنا أمي, وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر, وذكر اسمي في الأذان, وأمدني بالملائكة, وآتاني النصر, وجعل الرعب أمامي, وآتاني الكوثر, وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة وروداً, ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعون رؤوسهم, وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس, وأدخل في شفاعتي سبعين ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب, وآتاني السلطان والملك, وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم, فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش, وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا" وهذا الحديث غريب جداً.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا(3/212)
جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ثُمّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ}
يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ} أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة, كما قال في الآية الأخرى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم, لأنهم أنكروا ذلك فقالوا {أبشر يهدوننا} ولهذا قال تعالى: {فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة ؟ وإنما كانوا بشراً, وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلاً منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم.
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أي بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} أي قد كانوا بشراً من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس, ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة, وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً, كما توهمه المشركون في قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} الآية.
وقوله: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} أي في الدنيا, بل كانوا يعيشون ثم يموتون {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل, تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه, وقوله: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك, ولهذا قال {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} أي أتباعهم من المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} أي المكذبين بما جاءت به الرسل.
{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمّآ أَحَسّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ إِلَىَ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ يَوَيْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ}
يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قال ابن عباس: شرفكم. وقال مجاهد: حديثكم. وقال الحسن: دينكم, {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي هذه النعمة, وتتلقونها بالقبول, كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} وقوله {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} هذه صيغة تكثير, كما قال: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} وقال تعالى: {وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها} الآية.
وقوله {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} أي أمة أخرى بعدهم {فَلَمّآ أَحَسّواْ بَأْسَنَآ} أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم {إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ} أي يفرون هاربين { لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ إِلَىَ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} هذا تهكم(3/213)
بهم نزراً, أي قيل لهم نزراً لا تركضوا هاربين من نزول العذاب, وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة. قال قتادة استهزاء بهم, {لَعَلّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم, {قَالُواْ يَوَيْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ} اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك, {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} أي ما زالت تلك المقالة, وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصداً, وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً.
{وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّآ إِن كُنّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبّحُونَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق, أي بالعدل والقسط, {يَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}, وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً كما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّآ إِن كُنّا فَاعِلِينَ} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّآ} يعني من عندنا, يقول: وما خلقنا جنة ولا ناراً ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً. وقال الحسن وقتادة وغيرهما {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نّتّخِذَ لَهْواً} اللهو المرأة بلسان أهل اليمن. وقال إبراهيم النخعي {لاّتّخَذْنَاهُ} من الحور العين. وقال عكرمة والسدي: والمراد باللهو ههنا الولد, وهذا والذي قبله متلازمان, وهو كقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير أو الملائكة سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
وقوله: {إِن كُنّا فَاعِلِينَ} قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم: أي ما كنا فاعلين. وقال مجاهد كل شيء في القرآن {إن} فهو إنكار. وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ} أي نبين الحق فيدحض الباطل, ولهذا قال: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي ذاهب مضمحل {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أي أيها القائلون لله ولد {مِمّا تَصِفُونَ} أي تقولون وتفترون. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً, فقال: {وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يستنكفون عنها, كما قال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً}.
وقوله: {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يتعبون ولا يملون {يُسَبّحُونَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً, مطيعون قصداً وعملاً, قادرون عليه, كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي, أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال: بينا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم: "هل تسمعون ما أسمع ؟" قالوا: ما نسمع من شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأسمع(3/214)
أطيط السماء, وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم" غريب, ولم يخرجوه, ثم رواه - أعني ابن أبي حاتم - من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلاً. وقال أبو إسحاق عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام, فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل. فقال: من هذا الغلام؟ فقالوا من بني عبد المطلب, قال فقبل رأسي ثم قال: يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس ؟
{أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: {أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} أي أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض, أي لا يقدرون على شيء من ذلك, فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه ؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض, فقال :{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ} أي في السموات والأرض {لَفَسَدَتَا} كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} وقال ههنا: { فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ} أي عما يقولون أن له ولداً أو شريكاً سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علواً كبيراً.
وقوله {لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه, ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعمله وحكمته وعدله ولطفه, {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي وهو سائل خلقه عما يعملون كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ}
{أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقّ فَهُمْ مّعْرِضُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ}
يقول تعالى: {اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ} يا محمد {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أي دليلكم على ما تقولون {هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ} يعني القرآن {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون, فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله, ولكن أنتم أيها المشركون لا تعملون الحق فأنتم معرضون عنه, ولهذا قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} كما قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له, والفطرة شاهدة بذلك أيضاً, والمشركون لا برهان لهم, وحجتهم داحضة عند ربهم, وعليهم غضب, ولهم عذاب شديد.
{وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ(3/215)
يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلَهٌ مّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ}
يقول تعالى رداً على من زعم أن له تعالى وتقدس ولداً من الملائكة, كمن قال ذلك من العرب: إن الملائكة بنات الله فقال: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ} أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات سامية, وهم له في غاية الطاعة قولاً وفعلاً {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به, بل يبادرون إلى فعله, وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليه منهم خافية {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
وقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ} كقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} . وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} في آيات كثيرة في معنى ذلك {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ} أي من خوفه ورهبته {مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلَهٌ مّن دُونِهِ} أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} أي كل من قال ذلك, وهذا شرط, والشرط لا يلزم وقوعه, كقوله {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}, وقوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
{أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السّمَآءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
يقول تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات, فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ} أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره, ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير, فكيف يليق أن يعبد معه غيره, أو يشرك به ما سواه, ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً أي كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر, ففتق هذه من هذه, فجعل السموات سبعاً, والأرض سبعاً, وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء, فأمطرت السماء وأنبتت الأرض, ولهذا قال {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء.
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال: سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار ؟ فقال: أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة ؟ ذلك لتعلموا أن الليل. قبل النهار. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن حمزة, حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد, عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما. قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله, ثم تعال فأخبرني بما قال لك, قال: فذهب إلى ابن عباس فسأله فقال ابن عباس: نعم كانت السموات رتقاً(3/216)
لا تمطر, وكانت الأرض رتقاً لا تنبت, فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر, وفتق هذه بالنبات, فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره, فقال ابن عمر: الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علماً, صدق هكذا كانت, قال ابن عمر: قد كنت أقول ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن, فالآن علمت أنه قد أوتى في القرآن علماً. وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً لا تمطر فأمطرت, وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: سألت أبا صالح الحنفي عن قوله: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} قال: كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سموات, وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين, وهكذا قال مجاهد, وزاد: ولم تكن السماء والأرض متماستين. وقال سعيد بن جبير: بل كانت السماء والأرض ملتزقتين, فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض, كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه. وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً ففصل بينهما بهذا الهواء.
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ} أي أصل كل الأحياء. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الجماهر, حدثنا سعيد بن بشير, حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه قال: يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي, فأخبرنا عن كل شيء قال: "كل شيء خلق من ماء". وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني, فأنبئني عن كل شيء, قال: "كل شيء خلق من ماء" قال: قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال: "أفش السلام, وأطعم الطعام, وصل الأرحام, وقم بالليل والناس نيام, ثم ادخل الجنة بسلام" ورواه أيضاً عن عبد الصمد وعفان وبهز عن همام, تفرد به أحمد, وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم, والترمذي يصحح له, وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً, والله أعلم.
وقوله: {وجعلنا في الأرض رواسي} أي جبالاً أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد بالناس, أي تضطرب وتتحرك, فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع. فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات والحكم والدلالات, ولهذا قال: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أي لئلا تميد بهم. وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} أي ثغراً في الجبال يسلكون فيها طريقاً من قطر إلى قطر ومن إقليم إلى إقليم, كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه البلاد, فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من ههنا إلى ههنا, ولهذا قال: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} أي على الأرض وهي كالقبة عليها, كما قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} والبناء هو نصب القبة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" أي خمسة دعائم, وهذا لا يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب {مَحْفُوظاً} أي عالياً محروساً أن ينال. وقال مجاهد: مرفوعاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي, حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال رجل: يا رسول الله ما هذه السماء ؟ قال: "موج مكفوف عنكم" إسناده غريب.
وقوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} كقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر, وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس(3/217)
التي تقطع الفلك بكامله في يوم وليلة, فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها. وقد ذكر ابن أبي الدنيا رحمه الله في كتابه التفكر والاعتبار: أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة, وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة, فلم ير ذلك الرجل شيئاً مما كان يحصل لغيره, فشكى ذلك إلى أمه فقالت له: يا بني فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه ؟ فقال: لا والله ما أعلمه, قالت: فلعلك هممت ؟ قال: لا ولا هممت, قالت: فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر ؟ فقال: نعم كثيراً, قالت: فمن ههنا أتيت, ثم قال منبهاً على بعض آياته: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه, يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الآخر {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} هذه لها نور يخصها وفلك بذاته وزمان على حدة وحركة وسير خاص, وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي يدورون. قال ابن عباس: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلا بالفلكة, ولا الفلكة إلا بالمغزل, كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به ولا يدور إلا بهن, كما قال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ} أي يا محمد {الْخُلْدَ} أي في الدنيا بل {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات وليس بحي إلى الآن, لأنه بشر سواء كان ولياً أو نبياً أو رسولاً. وقد قال تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} . وقوله: {أَفَإِنْ مّتّ} أي يا محمد {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} أي يؤملون أن يعيشوا بعدك لا يكون هذا بل كل إلى الفناء, ولهذا قال تعالى: {كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} وقد روي عن الشافعي رحمه الله أن أنشد واستشهد بهذين البيتين:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
وقوله: {وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى, فننظر من يشكر ومن يكفر, ومن يصبر ومن يقنط, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {{وَنَبْلُوكُم} يقول نبتليكم {بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} بالشدة والرخاء, والصحة والسقم, والغنى والفقر, والحلال والحرام, والطاعة والمعصية, والهدى والضلال. وقوله: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي فنجازيكم بأعمالكم.
{وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلمه عليه {وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ} يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه {إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً} أي يستهزئون بك وينتقصونك, يقولون: {أَهَذَا الّذِي يَذْكُرُ(3/218)
آلِهَتَكُمْ} يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم, قال تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزئون برسول الله, كما قال في الآية الأخرى {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً}
وقوله: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} كما قال في الآية الأخرى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} أي في الأمور. قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار من يوم خلق الخلائق, فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه, ولم يبلغ أسفله, قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وقال ابن أبي حاتم, حدثنا أحمد بن سنان. حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة, فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها, وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي - وقبض أصابعه يقللها - فسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه" قال أبو سلمة: فقال عبد الله بن سلام: قد عرفت تلك الساعة, هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة, وهي التي خلق الله فيها آدم, قال الله تعالى: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ههنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامة عليه, وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك,فقال الله تعالى: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته, يؤجل ثم يعجل, وينظر ثم لا يؤخر, ولهذا قال: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي} أي نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}.
{وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً واستعباداً, فقال {وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به. ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} وقال في هذه الآية: {حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} وقال: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي لا ناصر لهم, كما قال: {وما لهم من الله من واق}. وقوله: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً} أي تأتيهم النار بغتة أي فجأة, {فَتَبْهَتُهُمْ} أي تذعرهم, فيستسلمون لها حائرين ولا يدرون ما يصنعون, {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا} أي ليس لهم حيلة في ذلك, {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مّعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ(3/219)
تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنّا يُصْحَبُونَ}
يقول تعالى مسلياً لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه, كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه بالليل والنهار, وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام, فقال: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمَنِ} أي بدل الرحمن يعني غيره, كما قال الشاعر:
جارية لم تلبس المرققا ... ولم تذق من البقول الفستقا
أي لم تذق بدل البقول الفستق. وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مّعْرِضُونَ} أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم, بل يعرضون عن آياته وآلائه, ثم قال {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا} استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ, أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا ؟ ليس الأمر كما توهموا, ولا كما زعموا, ولهذا قال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} أن هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم. وقوله: {وَلاَ هُمْ مّنّا يُصْحَبُونَ} قال العوفي عن ابن عباس: ولا هم منا يصحبون أي يجارون. وقال قتادة: لا يصبحون من الله بخير. وقال غيره: ولا هم منا يصحبون يمنعون.
{بَلْ مَتّعْنَا هَؤُلآءِ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ قُلْ إِنّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ وَلَئِن مّسّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنّ يَويْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم متعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه, فاعتقدوا أنهم على شيء, ثم قال واعظاً لهم {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} اختلف المفسرون في معناه, وقد أسلفنا في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال الحسن البصري: يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر, والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين, ولهذا قال: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون والأرذلون.
وقوله: {قُلْ إِنّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال, ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي, ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه, ولهذا قال: {وَلاَ يَسْمَعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} وقوله: {وَلَئِن مّسّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنّ يَويْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ} أي ولئن مس هؤلاء(3/220)
المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا. وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة, الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد, وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.
وقوله: {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ} كما قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} وقال لقمان {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان, ثقيلتان في الميزان, حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده, سبحان الله العظيم".
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني, حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة, فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً, كل سجل مد البصر, ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال: لا يارب. قال: أفلك عذر أو حسنة ؟ قال: فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب, فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم, فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أحضروه, فيقول يا رب في هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول: إنك لا تظلم, قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة, قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة, قال: ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث الليث بن سعد, وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضع الموازين يوم القيامة, فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة, ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان, قال: فيبعث به إلى النار, قال: فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: لا تعجلوا, فإنه قد بقي له, فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان" وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو نوح مراراً, أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه, فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني, وأضربهم وأشتمهم, فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم, فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم, كان كفافاً لا لك ولا عليك, وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم, كان فضلاً لك, وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم, اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك" , فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماله لا يقرأ كتاب الله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئاً خيرٌ من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لّلْمُتّقِينَ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ(3/221)
وَهُمْ مّنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَذَا ذِكْرٌ مّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما, وبين كتابيهما, ولهذا قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} قال مجاهد: يعني الكتاب. وقال أبو صالح: التوراة. وقال قتادة: التوراة حلالها وحرامها, وما فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن زيد يعني النصر: وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل, والهدى والضلال, والغي والرشاد, والحلال والحرام, وعلى ما يحصل نوراً في القلوب وهداية وخوفاً وإنابة وخشية, ولهذا قال: {الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لّلْمُتّقِينَ} أي تذكيراً لهم وعظة, ثم وصفهم فقال: {الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ} كقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} {وَهُمْ مّنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أي خائفون وجلون, ثم قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} يعني القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور ؟.
{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التّمَاثِيلُ الّتِيَ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاّعِبِينَ قَالَ بَل رّبّكُمْ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الّذِي فطَرَهُنّ وَأَنَاْ عَلَىَ ذَلِكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ}
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل, أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه, كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع, وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها, وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل, فما وافق منها الحق, مما بأيدينا عن المعصوم, قبلناه لموافقته الصحيح, وما خالف شيئاً من ذلك رددناه, وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفاً, وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته, وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين, ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة, والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان, ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم, فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها, كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة. والمقصود ههنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل, أي من قبل ذلك.
وقوله: {وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ} أي وكان أهلا لذلك, ثم قال: { إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التّمَاثِيلُ الّتِيَ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل, فقال: {مَا هَذِهِ التّمَاثِيلُ الّتِيَ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي معتكفون على عبادتها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح, حدثنا أبو معاوية الضرير, حدثنا سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: مر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج, فقال: ما هذه(3/222)
التماثيل التي أنتم لها عاكفون, لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال, ولهذا قال: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} أي الكلام مع آبائكم الذي احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم, فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم, فلما سفه أحلامهم وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم {قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاّعِبِينَ} يقولون: هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً أم محقاً فيه, فإنا لم نسمع به قبلك {قَالَ بَل رّبّكُمْ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الّذِي فطَرَهُنّ} أي ربكم الذي لا إله غيره, وهو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن, وهو الخالق لجميع الأشياء {وَأَنَاْ عَلَىَ ذَلِكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ} أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه.
{وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لّهُمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوَاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ}
ثم أقسم الخليل قسماً أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم, أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين, أي إلى عيدهم, وكان لهم عيد يخرجون إليه, قال السدي: لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه: يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا, فخرج معهم, فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض, وقال: إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون: مه, فيقول: إني سقيم, فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال: {وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ} فسمعه أولئك. وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه, فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال: إني سقيم, وقد كان بالأمس, قال: {وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ} فسمعه ناس منهم.
وقوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي حطاماً كسرها كلها, إلا كبيراً لهم يعني إلا الصنم الكبير عندهم, كما قال: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} . وقوله {لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه, وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ} أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ} أي في صنيعه هذا, {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم: سمعنا فتىً أي شاباً, يذكرهم يقال له إبراهيم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلا شاباً ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب, وتلا هذه الآية {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}.
وقوله {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ} أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم, وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام. التي لا تدفع عن نفسها ضراً, ولا تملك لها نصراً, فكيف يطلب منها شيء من ذلك ؟(3/223)
{قَالُوَاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} يعني الذي تركه لم يكسره {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون, وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}, وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} - قال - وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة, إذ نزل منزلاً فأتى الجبار رجل فقال: إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس, فأرسل إليه فجاء, فقال: ما هذه المرأة منك ؟ قال: أختي. قال: فاذهب فأرسل بها إلي, فانطلق إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك, فأخبرته أنك أختي, فلا تكذبيني عنده, فإنك أختي في كتاب الله, وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك, فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي, فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذاً شديداً, فقال: ادعي الله لي ولا أضرك, فدعت له, فأرسل فأهوى إليها, فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد, ففعل ذلك الثالثة, فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين, فقال: ادعي الله فلا أضرك, فدعت له فأرسل, ثم دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان, ولكنك أتيتني بشيطان, أخرجها وأعطها هاجر. فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت, فلما أحس إبراهيم بمجيئها, انفتل من صلاته, وقال: مهيم؟ قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخذ مني هاجر" . قال محمد بن سيرين: فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال: تلك أمكم يا بني ماء السماء.
{فَرَجَعُوَاْ إِلَىَ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوَاْ إِنّكُمْ أَنتُمُ الظّالِمُونَ ثُمّ نُكِسُواْ عَلَىَ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلآءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرّكُمْ أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال {فَرَجَعُوَاْ إِلَىَ أَنفُسِهِمْ} أي بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم, فقالوا: {إِنّكُمْ أَنتُمُ الظّالِمُونَ} أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها, {ثُمّ نُكِسُواْ عَلَىَ رُءُوسِهِمْ} أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلآءِ يَنطِقُونَ}. قال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء, فقالوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلآءِ يَنطِقُونَ}. وقال السدي {ثُمّ نُكِسُواْ عَلَىَ رُءُوسِهِمْ} أي في الفتنة. وقال ابن زيد: أي في الرأي, وقول قتادة أظهر في المعنى, لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزاً, ولهذا قالوا له {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلآءِ يَنطِقُونَ} فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون, وأنت تعلم أنها لا تنطق, فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرّكُمْ} أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر, فلم تعبدونها من دون الله ؟ {أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر. فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها, ولهذا قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الآية.
{قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ}(3/224)
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم, فقالوا: {حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}, فجمعوا حطباً كثيراً جداً, قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم, ثم جعلوه في حوبة من الأرض وأضرموها ناراً, فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها, وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد. قال شعيب الجبائي, اسمه هيزن: فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة, فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل, كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل, قالها إبراهيم حين ألقي في النار, وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم, فزادهم إيماناً, وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وروى الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو هشام, حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر, عن عاصم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار, قال: اللهم إنك في السماء واحد, وأنا في الأرض واحد أعبدك" ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت, سبحانك لك الحمد, ولك الملك لا شريك لك, وقال شعيب الجبائي: كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة, فالله أعلم, وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة ؟ فقال: أما إليك فلا, وأما من الله فبلى. وقال سعيد بن جبير - ويروى عن ابن عباس أيضاً - قال: لما ألقي إبراهيم, جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله ؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره, قال الله {يَنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ} قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت. وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذ بنار, ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.
وقال الثوري عن الأعمش, عن شيخ, عن علي بن أبي طالب {قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ} قال: لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: وسلاماً لاَذى إبراهيم بردها, وقال جويبر عن الضحاك: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم, قالوا: صنعوا له حظيرة من حطب جزل, وأشعلوا فيه النار من كل جانب, فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله, قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق, فلم يصبه منها شيء غير ذلك. وقال السدي: كان معه فيها ملك الظل.
وقال علي بن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا مهران, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار, فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين, قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها. وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار: وجده يرشح جبينه, قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم. وقال قتادة: لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار, إلا الوزغ, وقال الزهري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله, وسماه فويسقا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبيد الله بن أخي بن وهب, حدثني عمي, حدثنا جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة, فرأيت في بيتها رمحاً, فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفيء النار غير الوزغ, فإنه كان ينفخ على إبراهيم" فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله. وقوله: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ} أي المغلوبين الأسفلين, لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً, فكادهم الله ونجاه من النار, فغلبوا هنالك, وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار, جاء ملكهم لينظر إليه, فطارت شرارة فوقعت على إبهامه, فأحرقته مثل الصوفة.(3/225)
{وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَة وَإِيتَآءَ الزّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَت تّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنّهُ مِنَ الصّالِحِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام, إلى الأرض المقدسة منها. كما قال الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب في قوله: {إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قال: الشام وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة, وكذا قال أبو العالية أيضاً وقال قتادة: كان بأرض العراق, فأنجاه الله إلى الشام, وكان يقال للشام عماد دار الهجرة, وما نقص من الأراضي زيد في الشام, وما نقص من الشام زيد في فلسطين, وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر, وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام, وبها يهلك المسيح الدجال.
وقال كعب الأحبار في قوله: {إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} إلى حران. وقال السدي: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام, فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم, فتزوجها على أن لا يغيرها, رواه ابن جرير, وهو غريب, والمشهور أنها ابنة عمه, وأنه خرج بها مهاجراً من بلاده. وقال العوفي عن ابن عباس: إلى مكة, ألا تسمع إلى قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}.
وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قال عطاء ومجاهد وعطية وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عيينة: النافلة ولد الولد, يعني أن يعقوب ولد إسحاق, كما قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: سأل واحداً, فقال {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة, {وَكُلاّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي الجميع أهل خير وصلاح, {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً} أي يقتدى بهم, {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي يدعون إلى الله بإذنه, ولهذا قال: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَة وَإِيتَآءَ الزّكَاةِ} من باب عطف الخاص على العام, {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} أي فاعلين لما يأمرون الناس به, ثم عطف بذكر لوط, وهو لوط بن هاران بن آزر. كان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه, كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} فآتاه الله حكماً وعلماً, وأوحى إليه وجعله نبياً وبعثه إلى سدوم وأعمالها, فخالفوه وكذبوه, فأهلكهم الله ودمر عليهم, كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز, ولهذا قال: {وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَت تّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنّهُ مِنَ الصّالِحِينَ}.
{وَنُوحاً إِذْ نَادَىَ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام حين دعا على قومه لما كذبوه {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك(3/226)
ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} ولهذا قال ههنا: {إِذْ نَادَىَ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أي الذين آمنوا به, كما قال: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}. وقوله: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي من الشدة والتكذيب والأذى, فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل فلم يؤمن به منهم إلا القليل, وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل على خلافه, وقوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أي ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم {الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي أهلكهم الله بعامة, ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد, كما دعا عليهم نبيهم.
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطّيْرَ وَكُنّا فَاعِلِينَ وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنّا لَهُمْ حَافِظِينَ}
قال ابن إسحاق عن مرة عن ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرماً قد تدلت عناقيده, وكذا قال شريح. وقال ابن عباس: النفش الرعي. وقال شريح والزهري وقتادة: النفش لا يكون إلا بالليل, زاد قتادة: والهمل بالنهار. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم, قالا حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته, قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم, فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله: قال: وما ذاك ؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان, وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه, ودفعت الغنم إلى صاحبها, فذلك قوله: {فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وكذا روى العوفي عن ابن عباس.
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد: حدثني خليفة عن ابن عباس قال: قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث فخرج الرعاء معهم الكلاب, فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه, فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا, فأخبر بذلك داود, فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم ؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث, فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها, ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم, فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه, أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم, إنما كان كرماً نفشت فيه الغنم فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته, فأتوا داود فأعطاهم رقابها, فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها ونفعها ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم, ثم يعطى أهل الغنم غنمهم, وأهل الكرم كرمهم, وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي زياد, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا إسماعيل عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلاً لي, فقال شريح: نهاراً أم ليلاً ؟ فإن كان نهاراً(3/227)
فقد برىء صاحب الشياه, وإن كان ليلاً فقد ضمن, ثم قرأ {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الآية, وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث الليث بن سعد عن الزهري, عن حرام بن محيصة, أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحائط حفظها بالنهار, وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها, وقد علل هذا الحديث وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام, وبالله التوفيق.
وقوله: {فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى, فقال: ما يبكيك ؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار, ورجل مال به الهوى فهو في النار, ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم, قال الله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود, ثم قال: - يعني الحسن -: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً, ولا يتبعوا فيه الهوى, ولا يخشوا فيه أحداً, ثم تلا {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وقال {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}
قلت: أما الأنبياء عليهم السلام, فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل, وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف, وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب, فله أجران, وإذا اجتهد فأخطأ, فله أجر" فهذا الحديث يرد نصاً ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار, والله أعلم.
وفي السنن: "القضاة ثلاثة: قاض في الجنة, وقاضيان في النار, رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة, ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار, ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار", وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا علي بن حفص, أخبرنا ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابنان لهما, إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحا كمتا إلى داود, فقضى به للكبرى, فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما: فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها لا تشقه, فقضى به للصغرى" وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما, وبوب عليه النسائي في كتاب القضاء: (باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق).
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح, عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد, عن ابن عباس, فذكر قصة مطولة, ملخصها: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل, راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم, فامتنعت على كل منهم, فاتفقوا فيما بينهم عليها, فشهدوا عليها عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلباً لها قد عودته ذلك منها, فأمر برجمها, فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله, فانتصب حاكماً وتزيا أربعة منهم بزي أولئك, وآخر بزي المرأة, وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلباً, فقال سليمان فرقوا بينهم, فسأل أولهم ما كان لون الكلب ؟ فقال أسود, فعزله واستدعى الآخر فسأله عن لونه, فقال: أحمر, وقال الآخر: أغبش, وقال الآخر: أبيض, فأمر عند ذلك بقتلهم, فحكي(3/228)
ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب, فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم.
وقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} الآية, وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور, وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه, وترد عليه الجبال تأويباً, ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت طيب جداً, فوقف واستمع لقراءته, وقال: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود" قال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً. وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه, ومع هذا قال عليه الصلاة والسلام: "لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود".
وقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} يعني صنعة الدروع. قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح: وهو أول من سردها حلقاً, كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة ولهذا قال: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} يعني في القتال {هَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود, فعلمه ذلك من أجلكم. وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني أرض الشام {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند ثم يأمر الريح أن تحمله, فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به, وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض, فينزل وتوضع آلاته وحشمه, قال الله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} وقال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}.
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي, فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس, ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن, ثم يأمر الطير فتظلهم, ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل, ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها, ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة فيرتفع حتى يصعد على فراشه, ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء, وهو مطأطىء رأسه ما يلتفت يميناً ولا شمالاً, تعظيماً لله عز وجل, وشكراً لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عز وجل, حتى تضعه الريح حيث شاء أن تضعه.
وقوله: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أي في الماء يستخرجون اللاَلىء والجواهر وغير ذلك, {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أي غير ذلك, كما قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}. وقوله: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء, بل كل في قبضته وتحت قهره, لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه, بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء, ولهذا قال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}.
{وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ}
يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام, ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده, وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد ومنازل مرضية, فابتلى في ذلك كله وذهب عن(3/229)
آخره, ثم ابتلي في جسده, يقال: بالجذام في سائر بدنه, ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه, يذكر بهما الله عز وجل, حتى عافه الجليس, وافرد في ناحية من البلد, ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره, ويقال: إنها احتاجت, فصارت تخدم الناس من أجله, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل" وفي الحديث الآخر "يبتلى الرجل على قدر دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه" وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر. وبه يضرب المثل في ذلك. وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد, ولم يبق شيء له أحسن الذكر, ثم قال: أحمدك رب الأرباب, الذي أحسنت إليّ, أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك, فأخذت ذلك كله مني, وفرغت قلبي, فليس يحول بيني وبينك شيء, ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكراً. قال: وقال أيوب عليه السلام: يا رب إنك أعطيتني المال والولد, فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته, وأنت تعلم ذلك, وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها, وأقول لنفسي يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم.
وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة, ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه, وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين, وفيها غرابة تركناها لحال الطول, وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء, فقال الحسن وقتادة: ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهراً, ملقى على كناسة بني إسرائيل, تختلف الدواب في جسده, ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء. وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين, لا يزيد ولا ينقص وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام, فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه, فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك, فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً, فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة, فجزعت من ذلك, فخرجت فكانت تعمل للناس بالأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه, وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين, كانا صديقين له وأخوين, فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا, فأتياه وزوراه, واحملا معكما من خمر أرضكما, فإنه إن شرب منه برىء, فأتياه فلما نظرا إليه بكيا, فقال: من أنتما ؟ فقالا: نحن فلان وفلان, فرحب بهما وقال: مرحباً بمن لا يجفوني عند البلاء, فقالا: يا أيوب لعلك كنت تسر شيئاً وتظهر غيره, فلذلك ابتلاك الله ؟ فرفع رأسه إلى السماء فقال: هو يعلم, ما أسررت شيئاً أظهرت غيره, ولكن ربي ابتلاني لينظر أصبر أم أجزع. فقالا له: يا أيوب اشرب من خمرنا, فإنك إن شربت منه برأت. قال: فغضب, وقال: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا ؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام, فقاما من عنده, وخرجت امرأته تعمل للناس, فخبزت لأهل بيت لهم صبي, فجعلت لهم قرصاً, وكان ابنهم نائماً, فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها, فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا, فما بالك اليوم ؟ فأخبرته الخبر, قال: فلعل الصبي قد استيقظ فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله, فانطلقي به إليه, فأقبلت حتى بلغت درجة القوم, فنطحتها شاة لهم, فقالت: تعس أيوب الخطاء, فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئاً غيره, فقالت: رحمه الله, يعني أيوب, فدفعت إليه القرص ورجعت, ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب, فقال لها: إن زوجك قد طال سقمه, فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه باسم صنم بني فلان, فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك, فقالت ذلك لأيوب, فقال: قد أتاك الخبيث, لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة, فخرجت(3/230)
تسعى عليه, فحظر عنها الرزق, فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها, فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرناً فباعته من صبية من بنات الأشراف, فأعطوها طعاماً طيباً كثيراً, فأتت به إلى أيوب, فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا ؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني, فأكل منه, فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد, فحلقت أيضاً قرنا فباعته من تلك الجارية, فأعطوها أيضاً من ذلك الطعام, فأتت به أيوب فقال: والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو, فوضعت خمارها, فلما رأى رأسها محلوقاً جزع جزعاً شديداً, فعند ذلك دعا الله عز وجل, فقال: " رَبَّ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ".
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مبسوط, قال: وكانت امرأة أيوب تقول: ادع الله فيشفيك, فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل, فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه, فعند ذلك قال: " رَبَّ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" وحدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان, فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه, فقاما من بعيد, فقال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا, فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط, فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع, فصدقني, فصدق من السماء وهما يسمعان, ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط, وأنا أعلم مكان عار, فصدقني, فصدق من السماء وهما يسمعان, ثم قال: اللهم بعزتك, ثم خر ساجداً, فقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني, فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعاً بنحو هذا, فقال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة, فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له, كانا يغدوان إليه ويروحان, فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين, فقال له صاحبه: وما ذاك ؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به, فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر له, فقال أيوب عليه السلام: ما أدري ما تقول, غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله, فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق, قال: وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ, فلما كان ذات يوم أبطأت عليه, فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" رفع هذا الحديث غريب جداً. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: وألبسه الله حلة من الجنة, فتنحى أيوب فجلس في ناحية, وجاءت امرأته فلم تعرفه, فقالت: يا عبد الله أين ذهب هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب, فجعلت تكلمه ساعة. فقال: ويحك أنا أيوب. قالت: أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي, وبه قال ابن عبّاس, ورد عليه ماله وولده عياناً ومثلهم معهم. وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى أيوب قد رددت عليك أهلك ومالك, ومثلهم معهم. فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قرباناً, واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عمرو بن مرزوق, حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(3/231)
"لما عافى الله أيوب أمطر عليه جراداً من ذهب, فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه, قال: فقيل له: يا أيوب أما تشبع ؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك" أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قد تقدم عن ابن عباس أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضاً, وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد, وبه قال الحسن وقتادة, وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة, فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة, وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم, فهو مما لا يصدق ولا يكذب, وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمه الله تعالى: قال: ويقال اسمها ليا بنت مِنَشّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, قال: ويقال ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب كانت معه بأرض الثنية, وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب إن أهلك لك في الجنة, فإن شئت أتيناك بهم, وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم ؟ قال: لا بل اتركهم لي في الجنة, فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا. وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال: أوتى أجرهم في الآخرة وأعطي مثلهم في الدنيا. قال: فحدثت به مطرفاً, فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم, وكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف, والله أعلم. قوله: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا, وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء, وله الحكمة البالغة في ذلك.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلّ مّنَ الصّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ}
وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام, وقد تقدم ذكره في سورة مريم, وكذا إدريس عليه السلام, وأما ذو الكفل, فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون: إنما كان رجلاً صالحاً, وكان ملكاً عادلاً, وحكماً مقسطاً, وتوقف ابن جرير في ذلك, فالله أعلم. قال ابن جريج عن مجاهد في قوله: {وَذَا الْكِفْلِ} قال: رجل صالح غير نبي, تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل, ففعل ذلك, فسمي ذا الكفل, وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضاً.
وروى ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا داود عن مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يفعل, فجمع الناس فقال: من يتقبل مني بثلاث أستخلفه: يصوم النهار, ويقوم الليل, ولا يغضب ؟ قال: فقام رجل تزدريه الأعين فقال: أنا, فقال: أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال: نعم, قال: فرده ذلك اليوم وقال مثلها في اليوم الآخر, فسكت الناس, وقام ذلك الرجل فقال: أنا, فاستخلفه. قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم ذلك, فقال: دعوني وإياه, فأتاه في صورة شيخ كبير فقير, فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة - وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة, فدق الباب, فقال: من هذا ؟ قال: شيخ كبير مظلوم, قال: فقام ففتح الباب, فجعل يقص عليه, فقال: إن بيني وبين قومي خصومة, وإنهم ظلموني, وفعلوا بي وفعلوا بي, وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة, فقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك, فانطلق وراح, فكان في مجلسه, فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره, فقام يتبعه, فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه, فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه, أتاه فدق الباب فقال: من هذا ؟ قال: الشيخ(3/232)
الكبير المظلوم, ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني, قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك, وإذا قمت جحدوني, قال: فانطلق, فإذا رحت فأتني, قال: ففاتته القائلة, فراح فجعل ينتظره ولا يراه, وشق عليه النعاس, فقال لبعض أهله: لا تدع أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام, فإني قد شق عليّ النوم, فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل: وراءك, وراءك, قال: إني قد أتيته أمس وذكرت له أمري, فقال: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه, فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها, فإذا هو في البيت, وإذا هو يدق الباب من داخل, قال: واستيقظ الرجل, فقال: يا فلان ألم آمرك ؟ قال: أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت, قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت فعرفه, فقال: أعدوَ الله ؟ قال: نعم, أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك, فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد بمثله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن يونس, حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال: قال ابن عباس: كان قاض في بني إسرائيل فحضره الموت فقال: من يقوم مقامي على أن لا يغضب ؟ قال: فقال رجل: أنا, فسمي ذا الكفل, قال: فكان ليله جميعاً يصلي, ثم يصبح صائماً فيقضي بين الناس, قال: وله ساعة يقيلها, قال: فكان كذلك, فأتاه الشيطان عند نومته, فقال له أصحابه: ما لك ؟ قال: إنسان مسكين له على رجل حق, وقد غلبني عليه, قالوا: كما أنت حتى يستيقظ, قال: وهو فوق نائم, قال: فجعل يصيح عمداً حتى يوقظه, قال: فسمع, فقال: مالك ؟ قال إنسان مسكين له على رجل حق, قال: فاذهب فقل له يعطيك, قال: قد أبى, قال: اذهب أنت إليه, قال: فذهب ثم جاء من الغد فقال: مالك ؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأساً. قال: اذهب إليه فقل له يعطيك حقك, فذهب ثم جاء من الغد حين قال, قال: فقال له أصحابه: اخرج فعل الله بك تجيء كل يوم حين ينام لا تدعه ينام, قال: فجعل يصيح من أجل أني إنسان مسكين لو كنت غنياً, قال: فسمع أيضاً فقال: مالك ؟ قال: ذهبت إليه فضربني, قال: امش حتى أجيء معك, قال: فهو ممسك بيده فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر. وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وأبي حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحو هذه القصة, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الجماهر, أخبرنا سعيد بن بشير, حدثنا قتادة عن كنانة بن الأخنس قال: سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان - يعني في بني إسرائيل - رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة, فتكفل له ذو الكفل من بعده, فكان يصلي كل يوم مائة صلاة, فسمي ذا الكفل, وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعاً, والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد حديثاً غريباً فقال: حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عدّ سبع مرات, ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال: "كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله, فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها, فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت, فقال: ما يبكيك أكرهتك ؟ قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط, وإنما حملني عليه الحاجة, قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل فقال: اذهبي بالدنانير لك, ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً, فمات من ليلته, فأصبح مكتوباً على بابه: غفر الله للكفل " هكذا وقع في هذه الرواية(3/233)
الكفل من غير إضافة, والله أعلم, وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, وإسناده غريب, وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كل الكفل, ولم يقل ذو الكفل فلعله رجل آخر والله أعلم.
{ وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}
هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة الصافات وفي سورة {ن},و ذلك أن يونس بن متى عليه السلام, بعثه الله إلى أهل قرية نينوى, وهي قرية من أرض الموصل, فدعاهم إلى الله تعالى, فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم, فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم, ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث, فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب, خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم, وفرقوا بين الأمهات وأولادها, ثم تضرعوا إلى الله عز وجل وجأروا إليه, ورغت الإبل وفصلانها, وخارت البقر وأولادها, وثغت الغنم وسخالها, فرفع الله عنهم العذاب, قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم, وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه, فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً, قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه, ثم ألقى نفسه في البحر, وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة, فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً, فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً.
وقوله: {وَذَا النُّونِ} يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله :{ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} قال الضحاك لقومه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي نضيق عليه في بطن الحوت, يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم, واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} وقال عطية العوفي: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}, أي نقضي عليه, كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير, فإن العرب تقول: قدر وقدّر بمعنى واحد, وقال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يكن فلك الأمر
ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي قدر. {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل, وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر, قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر, فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره, فعند ذلك وهنالك قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال عوف الأعرابي: لما صار يونس في(3/234)
بطن الحوت ظن أنه قد مات, ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه, ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس. وقال سعيد بن أبي الحسن البصري: مكث في بطن الحوت أربعين يوماً. رواهما ابن جرير.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت, أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً, فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا ؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر, قال: وسبح وهو في بطن الحوت, فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة, قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر, قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال: نعم, قال: فشفعوا له عند ذلك, فأمر الحوت فقذفه في الساحل, كما قال الله تعالى: {وَهُوَ سَقِيمٌ}" رواه ابن جرير, ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة فذكره بنحوه, ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب, حدثنا عمي, حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي قال: سمعت أنس بن مالك, ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم لا إله إلا أنت, سبحانك إني كنت من الظالمين, فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش, فقالت الملائكة: يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة, فقال: أما تعرفون ذاك ؟ قالوا: لا يا رب ومن هو ؟ قال: عبدي يونس, قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة, قالوا: يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال: بلى, فأمر الحوت فطرحه في العراء.
وقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء, فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عمر, حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد, حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد, فسلمت عليه, فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام, فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء, مرتين قال: لا وما ذاك ؟ قلت لا, إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام, قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه, فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام ؟ قال: ما فعلت, قال سعد: قلت بلى حتى حلف وحلفت, قال: ثم إن عثمان ذكر فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إليه, إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة, قال سعد: فأنا أنبئك بها, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة, ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته, فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض, فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا, أبو إسحاق ؟" قال: قلت نعم يا رسول الله, قال: "فمه" قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة, ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك, قال: "نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له" ورواه الترمذي والنسائي في(3/235)
اليوم والليلة من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سيعد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب, قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا بدعاء يونس استجيب له" قال أبو سعيد: يريد به {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}. وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي, حدثنا يحيى بن صالح, حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن, حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اسم الله الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى" قال قلت يا رسول الله. هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال: "هي ليونس بن متى خاصة, ولجماعة المؤمنين عامة, إذا دعوا بها, ألم تسمع قول الله عز وجل {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} فهو شرط من الله لمن دعاه به".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي سريج, حدثنا داود بن المحبر بن قحذم المقدسي عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ؟ قال: ابن أخي أما تقرأ القرآن قول الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً - إلى قوله - وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} ابن أخي, هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى.
{وَزَكَرِيّآ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىَ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ}
يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً, وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضاً, وههنا أخصر منها {إِذْ نَادَىَ رَبّهُ} أي خفية عن قومه {رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أي لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس {وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دعاء وثناء مناسب للمسألة, قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىَ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي امرأته, قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: كانت عاقراً لا تلد فولدت. وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء: كان في لسانها طول, فأصلحها الله وفي رواية: كان في خلقها شيء فأصلحها الله, وهكذا قال محمد بن كعب والسدي, والأظهر من السياق الأول.
وقوله: {إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي في عمل القربات وفعل الطاعات {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} قال الثوري: رغباً فيما عندنا ورهبا مما عندنا {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي مصدقين بما أنزل الله, وقال مجاهد: مؤمنين حقاً. وقال أبو العالية: خائفين. وقال أبو سنان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبداً. وعن مجاهد أيضاً: خاشعين أي متواضعين. وقال الحسن وقتادة والضحاك: خاشعين أي متذللين لله عز وجل, وكل هذه الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه. ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله, وتثنوا عليه بما هو له أهل, وتخلطوا الرغبة بالرهبة, وتجمعوا الإلحاف(3/236)
بالمسألة, فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ}.
{وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ}
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام, فيذكر أولاً قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم, لأن تلك مربوطة بهذه, فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن, ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها, ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر, هكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم, وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله: {وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} يعني مريم عليها السلام, كما قال في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}.
وقوله {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ} أي دلالة على أن الله على كل شيء قدير, وأنه يخلق ما يشاء, وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون, وهذا كقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن علي, حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شعيب يعني ابن بشر, عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {لّلْعَالَمِينَ} قال: العالمين الجن والإنس.
{إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ}
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً} يقول: دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الآية يبين لهم ما يتقون وما يأتون, ثم قال: {إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً} أي سنتكم سنة واحدة, فقوله إن هذه إن واسمها, وأمتكم خبر إن, أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم. وقوله أمة واحدة نصب على الحال, ولهذا قال : {وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ} كما قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً - إلى قوله - وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله, كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}.
وقوله: {وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب, ولهذا قال: {كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي يوم القيامة, فيجازي كل بحسب عمله, إن خيراً فخير وإن شراً فشر, ولهذا قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي قلبه مصدق وعمل صالحاً {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} كقوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} أي لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة, ولهذا قال: {وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء.
{وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُواْ(3/237)
يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ}
يقول تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ} قال ابن عباس: وجب, يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة, هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد. وفي رواية عن ابن عباس: أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون, والقول الأول أظهر, والله أعلم. وقوله: {حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام, بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث, أي أبي الترك, والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين, وقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} الآية, وقال في هذه الآية الكريمة {حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أي يسرعون في المشي إلى الفساد, والحدب هو المرتفع من الأرض, قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم, وهذه صفتهم في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} هذا إخبار عالم ما كان وما يكون, الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن مثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون, فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج, وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية.
(فالحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة, عن محمود بن لبيد, عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "تفتح يأجرج ومأجوج, فيخرجون على الناس, كما قال الله عز وجل: { وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم, ويضمون إليهم مواشيهم, ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً, حتى أن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان ههنا ماء مرة, حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة, قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء, قال: ثم يهز أحدهم حربته, ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة, فبينما هم على ذلك بعث الله عز وجل دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه, فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس, فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو ؟ قال: فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض, فينادي: يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم, فيخرجون من مدائنهم وحصونهم, ويسرحون مواشيهم, فما يكون لهم رعي إلا لحومهم, فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط", ورواه ابن ماجه من حديث يونس بن بكير, عن ابن إسحاق به.
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه, أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة, فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل, فقال: " غير الدجال أخوفني عليكم. فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم, وإن يخرج ولست فيكم فكل امرىء حجيج نفسه, والله خليفتي على كل مسلم, وإنه شاب جعد(3/238)
قطط عينه طافية, وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وشمالاً يا عباد الله اثبتوا - قلنا: يا رسول الله ما لبثه في الأرض ؟ - قال: أربعون يوماً, يوم كسنة, ويوم كشهر, يوم كجمعة, وسائر أيامه كأيامكم" قلنا: يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة, أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟ قال: "لا اقدروا له قدره" قلنا: يا رسول الله فما إسراعه في الأرض ؟ قال: "كالغيث اشتد به الريح", قال: فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له, فيأمر السماء فتمطر, والأرض فتنبت, وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى, أمده خواصر, وأسبغه ضروعاً, ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله, فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء, ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل - قال - ويأمر برجل فيقتل, فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض, ثم يدعوه فيقبل إليه, فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح عيسى ابن مريم, فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً يديه على أجنحة ملكين, فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي - قال - فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم, فحوّز عبادي إلى الطور, فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج, كما قال تعالى: {وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل, فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة, فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم, فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل, فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البخت, فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله", قال ابن جابر: فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال: فتطرحهم بالمهبل, قال ابن جابر: فقلت يا أبا يزيد, وأين المهبل ؟ قال: مطلع الشمس. قال: "ويرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً, فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة, ويقال للأرض: أنبتي ثمرك ودري بركتك, قال: فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها, ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس, واللقحة من البقر تكفي الفخذ, والشاة من الغنم تكفي أهل البيت, قال: فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل ريحاً طيبة, فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم - أو قال: كل مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة", انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري, ورواه مع بقية أهل السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
(الحديث الثالث) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر, حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة, عن خالته قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب, فقال: "إنكم تقولون لا عدو لكم, وإنكم لا تزالون تقاتلون عدواً حتى يأتي يأجوج ومأجوج: عراض الوجوه, صغار العيون, صهب الشعاف, من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة", وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي, عن خالة له, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره مثله سواء.
(الحديث الرابع) قد تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم, عن العوام, عن جبلة بن سحيم, عن موثد بن عمارة, عن ابن مسعود رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام - قال فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى موسى, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله, وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج ومعي قضيبان, فإذا رآني ذاب كما(3/239)
يذوب الرصاص, قال: فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافراً, فتعال فاقتله, قال: فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم - قال - فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج, وهم من كل حدب ينسلون, فيطئون بلادهم, ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه, ولا يمرون على ماء إلا شربوه - قال - ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم, وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر, ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراً".
ورواه ابن ماجه عن محمد بن بشار, عن يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب به نحوه, وزاد: قال العوام: ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل { حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} ورواه ابن جرير ههنا من حديث جبلة به. والأحاديث في هذا كثيرة جداً والآثار عن السلف كذلك. وقد وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد, عن حميد بن هلال, عن أبي الصيف قال: قال كعب: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج, حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجيء غداً فنخرج فيعيده الله كما كان, فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان, فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج إن شاء الله, فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه, فيحفرون حتى يخرجوا, فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها, ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها, ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون: قد كان ههنا مرة ماء, فيفر الناس منهم فلا يقوم لهم شيء, ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء, فيقولون: غلبنا أهل الأرض وأهل السماء, فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام, فيقول: اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم, فاكفناهم بما شئت, فيسلط الله عليهم دوداً يقال له النغف, فيفرس رقابهم, ويبعث الله عليهم طيراً تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر, ويبعث الله عيناً يقال لها الحياة يطهر الله الأرض وينبتها, حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن, وقيل: وما السكن يا كعب ؟ قال: أهل البيت, قال: فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده, قال فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق, بعث الله ريحاً يمانية طيبة فيقبض فيها روح كل مؤمن, ثم يبقى عجاج الناس, فيتسافدون كما تتسافد البهائم, فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع, قال كعب: فمن قال بعد قولي هذا شيئاً أو بعد علمي هذا شيئاً فهو المتكلف, وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار.
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق, وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج" انفرد بإخراجه البخاري وقوله: {واقترب الوعد الحق} يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل, أزفت الساعة واقتربت فإذا كانت ووقعت, قال الكافرون: هذا يوم عسر, ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام {يَا وَيْلَنَا} أي يقولون يا ويلنا {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي في الدنيا { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك.
{إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ(3/240)
هَؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}
يقول تعالى مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان: {إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ} قال ابن عباس: أي وقودها يعني كقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقال ابن عباس أيضاً: حصب جهنم يعني شجر جهنم, وفي رواية قال: {حَصَبُ جَهَنّمَ} يعني حطب جهنم بالزنجية. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها, وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما, وقال الضحاك: حصب جهنم أي ما يرمى به فيها, وكذا قال غيره, والجميع قريب. وقوله: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي داخلون {لَوْ كَانَ هَؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها {وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} والزفير خروج أنفاسهم, والشهيق ولوج أنفاسهم {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}.
قال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا ابن فضيل, حدثنا عبد الرحمن يعني المسعودي عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار, فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره, ثم تلا عبد الله {{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خبّاب عن ابن مسعود, فذكره.
وقوله: {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ} قال عكرمة: الرحمة. وقال غيره السعادة {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله, عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله, وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا, كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقال: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم, ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب, فقال: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي حريقها في الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الحريري عن أبي عثمان {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قال: حيات على الصراط تلسعهم, فإذا لسعتهم قال حس حس. وقوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} فسلمهم من المحذور والمرهوب, وحصل لهم المطلوب والمحبوب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي شريح, حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: وسمر مع علي ذات ليلة, فقرأ {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قال: أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم, أو قال: سعد منهم, قال:و أقيمت الصلاة, فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}.
وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال:(3/241)
سمعت علياً يقول في قوله: {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ} قال: عثمان وأصحابه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً, ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد, وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه عثمان منهم, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق, ويبقى الكفار فيها جثياً, فهذا مطابق لما ذكرناه, وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين, وخرج منهم عزير والمسيح, كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ثم استثنى فقال: {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ} فيقال: هم الملائكة وعيسى, ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل, وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ} قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة, حدثنا أبو زهير, حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله: {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ} قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم إسناده ضعيف. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قال: عيسى وعزير والملائكة. وقال الضحاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر, وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد, وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً غريباً جداً, فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخاني, حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك, حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قال: عيسى وعزير والملائكة, وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن سهل, حدثنا محمد بن حسن الأنماطي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فقال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ؟ فنزلت {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ثم نزلت {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال المشركون: فالملائكة وعزير وعيسى يعبدون من دون الله فنزلت { لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} الآلهة التي يعبدون {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك وقال: فنزلت {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله في كتاب السيرة: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد, فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم, وفي المسجد غير واحد من رجال قريش, فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه, وتلا عليه وعليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ(3/242)
دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ - إلى قوله - وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس معهم, فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد, وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم, فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته, فسلوا محمداً كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده, فنحن نعبد الملائكة, واليهود تعبد عزيراً, والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم, فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده, إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته" وأنزل الله {إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} أي عيسى وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله, فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله, ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ - إلى قوله - وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله, وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام, فكفى به دليلاً على علم الساعة, يقول: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير, لأن الآية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل, ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها, ولهذا قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فكيف يورد على هذا المسيح وعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده, وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن {مَا} لما لا يعقل عند العرب, وقد أسلم عبد الله بن الزبعري بعد ذلك, وكان من الشعراء المشهورين, وقد كان يهاجي المسلمين أولاً ثم قال معتذراً:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن ... الغي ومن مال ميله مثبور
وقوله: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قيل: المراد بذلك الموت, رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء وقيل: المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور, قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني, واختاره ابن جرير في تفسيره, وقيل: حين يؤمر بالعبد إلى النار, قاله الحسن البصري, وقيل: حين تطبق النار على أهلها, قاله سعيد بن جبير وابن جريج, وقيل: حين يذبح الموت بين الجنة والنار, قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه, وقوله {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي فأملوا ما يسركم.
{يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنّا كُنّا(3/243)
فَاعِلِينَ}
يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة {يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ} كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد قال البخاري: حدثنا مقدم بن محمد, حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه" انفرد به من هذا الوجه البخاري رحمه الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي, حدثنا محمد بن سلمة عن أبي واصل عن أبي المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال: يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يديه بمنزلة خردلة, وقوله: {كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ} قيل: المراد بالسجل الكتاب, وقيل المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة, قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا يحيى بن يمان, حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ} قال: السجل ملك, فإذا صعد بالاستغفار قال: أكتبها نوراً, وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به, قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك, وقال السدي في هذه الآية السجل ملك موكل بالصحف فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل, فطواه ورفعه إلى يوم القيامة, وقيل: المراد به اسم رجل صحابي كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا نصر بن علي الجهضمي, حدثنا نوح بن قيس عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس {يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ} قال: السجل هو الرجل, قال نوح: وأخبرني يزيد بن كعب هو العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وهكذا رواه أبو داود والنسائي, كلاهما عن قتيبة بن سعد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم, ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي, كما تقدم, ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل, وهو قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ} قال: كما يطوى السجل الكتاب كذلك تطوى السماء, ثم قال: وهو غير محفوظ. وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أنبأنا أبو بكر البرقاني, أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي, أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي أن حمدان بن سعيد, حدثهم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وهذا منكر جداً من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلاً, وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضاً, وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله, وختم له بصالح عمله, وقد أفردت لهذا الحديث جزءاً على حدته ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث, ورده أتم رد, وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل, وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون وليس فيهم أحد اسمه السجل, وصدق رحمه الله في ذلك, وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث, وأما من ذكره في أسماء الصحابة, فإنما اعتمد على(3/244)
هذا الحديث لا على غيره, والله أعلم, والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة, قاله علي بن أبي طلحة, والعوفي عنه, ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد, واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة, فعلى هذا يكون معنى الكلام يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب, أي على الكتاب بمعنى المكتوب, كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي على الجبين, وله نظائر في اللغة, والله أعلم. وقوله: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ} يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً كما بدأهم هو القادر على إعادتهم. وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل, وهو القادر على ذلك, ولهذا قال: {إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ}. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وابن جعفر المعني قالا حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظةٍ: فقال: "إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراةً غرلاً, كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا, إنا كنا فاعلين" وذكر تمام الحديث, أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة, ذكره البخاري عند هذه الآية في كتابه, وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك, وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ} قال: يهلك كل شيء كما كان أول مرة.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ إِنّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ}
يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة, كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وقال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة, ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ}. قال الأعمش: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ} فقال الزبور: التوراة والإنجيل, والقرآن وقال مجاهد: الزبور الكتاب, وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور الذي أنزل على داود, والذكر التوراة. وعن ابن عباس: الذكر القرآن, وقال سعيد بن جبير: الذكر الذي في السماء. وقال مجاهد: الزبور الكتب بعد الذكر والذكر أم الكتاب عند الله, واختار ذلك ابن جرير رحمه الله, وكذا قال زيد بن أسلم: هو الكتاب الأول, وقال الثوري: هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء, والذكر أمّ الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس,: أخبر الله سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض, ويدخلهم الجنة وهم الصالحون. وقال مجاهد عن ابن عباس {أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ} قال: أرض الجنة, وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري, وقال أبو الدرداء نحن الصالحون. وقال السدي: هم المؤمنون, وقوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إن في(3/245)
هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغاً: لمنفعة وكفايةً لقوم عابدين, وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه, وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان, وشهوات أنفسهم.
وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} وقال تعالى في صفة القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} وقال مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يارسول الله ادع على المشركين. قال: "إني لم أبعث لعاناً, وإنما بعثت رحمة" انفرد بإخراجه مسلم. وفي الحديث الآخر "إنما أنا رحمة مهداة" رواه عبد الله بن أبي عوانة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً. قال إبراهيم الحربي. وقد رواه غيره عن وكيع فلم يذكر أبا هريرة. وكذا قال البخاري وقد سئل عن هذا الحديث, فقال: كان عند حفص بن غياث مرسلاً.
قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه مالك بن سعيد الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً, ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرىء وأبي أحمد الحاكم, كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي, حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة" ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد, عن رجل عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين".
قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان, حدثنا أحمد بن صالح قال: وجدت كتاباً بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف, عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب, عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة: يا معشر قريش إن محمداً نزل يثرب وأرسل طلائعه, وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً, فاحذورا أن تمروا طريقه أو تقاربوه, فإنه كالأسد الضاري, إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم, والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحداً من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين, وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة يعني الأوس والخزرج, فهو عدو استعان بعدو, فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم والله ما رأيت أحداً أصدق لساناً, ولا أصدق موعداً من أخيكم الذي طردتم, وإذ فعلتم الذي فعلتم, فكونوا أكف الناس عنه, قال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة, وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمداً من بين ظهرانيهم, فيكون وحيداً مطروداً, وأما ابنا قيلة فو الله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم, وقال:
سأمنح جانباً مني غليظا ... على ما كان من قرب وبعد
رجال الخزرجية أهل ذل ... إذا ما كان هزل بعد جد
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذي نفسي بيده, لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون, إني رحمة بعثني الله ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه, لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي(3/246)
الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب" وقال أحمد بن صالح: أرجو أن يكون الحديث صحيحاً. وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا زائدة, حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء حذيفة إلى سلمان, فقال سلمان: يا حذيفة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: "أيما رجل من أمتي سببته في غضبي أو لعنته لعنة, فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون, إنما بعثني الله رحمة للعالمين فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة".
ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة, فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به ؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير: حدثنا إسحاق بن شاهين, حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة, ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد وهو سعيد بن المرزبان البقال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بنحوه, والله أعلم, وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال: من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة, ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف.
{قُلْ إِنّمَآ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىَ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مّا تُوعَدُونَ إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ وَرَبّنَا الرّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ}
يقول تعالى آمراً رسوله صلواته وسلامه عليه أن يقول للمشركين {إِنّمَآ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ} أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له {فَإِن تَوَلّوْاْ} أي تركوا ما دعوتهم إليه {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىَ سَوَآءٍ} أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي بريء منكم كما أنتم برآء مني, كقوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} وقال: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء, وهكذا ههنا {فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىَ سَوَآءٍ} أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك.
وقوله: {وَإِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مّا تُوعَدُونَ} أي هو واقع لا محالة, ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده {إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أي إن الله يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون, يعلم الظواهر والضمائر, ويعلم السر وأخفى, ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم, وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل. وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي وما أدري لعل هذا(3/247)
فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى, وحكاه عون عن ابن عباس فالله أعلم {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق. قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك, وعن مالك عن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالاً قال: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}. وقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي على ما يقولون ويفترون من الكذب ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك, والله المستعان عليكم في ذلك.
آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام ولله الحمد والمنة.(3/248)
سورة الحج
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ}
يقول تعالى آمراً عباده بتقواه ومخبراً لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها, وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة: هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة, أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم ؟ كما قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} وقال تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} الآية, وقال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً, وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} الآية, فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى, حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال: قبل الساعة, ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره, قال: وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك. وقال أبو كدينة عن عطاء بن عامر الشعبي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة. وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد, عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي, عن رجل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل, فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر" قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور ؟ قال: قرن. قال: فكيف هو ؟ قال: "قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع, والثانية نفخة الصعق, والثالثة نفخة القيام لرب العالمين, يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى. فيقول: انفخ نفخة الفزع, فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله, ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر, وهي التي يقول الله تعالى: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق} فيستر الجبال فتكون سراباً, وترج الأرض بأهلها رجاً, وهي التي يقول الله تعالى: { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُتَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها, وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فيمتد الناس على ظهرها, فتذهل المراضع وتضع الحوامل, ويشيب الولدان, وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب في وجوهها فترجع, ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً, وهي التي يقول الله تعالى : { يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ(3/249)
عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر, ورأوا أمراً عظيماً, فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل, ثم خسف شمسها وقمرها, وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك" قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول { فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قال: "أولئك الشهداء, وإنما يصل الفزع إلى الأحياء, أولئك أحياء عند ربهم يرزقون, وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم, وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه, وهو الذي يقول الله : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ييَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} " وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً, والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها, كما يقال أشراط الساعة ونحو ذلك, والله أعلم, وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور, واختار ذلك ابن جرير, واحتجوا بأحاديث:
(الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن هشام, حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره, وقد تفاوت بين أصحابه السير رفع بهاتين الآيتين صوته. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ييَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي, وعرفوا أنه عند قول يقوله, فلما دنوا حوله قال: "أتدرون أي يوم ذاك, ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام فيناديه ربه عز وجل, فيقول: يا آدم ابعث بعثك إلى النار, فيقول: يا رب وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة" قال: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة, فلما رأى ذلك قال: "أبشروا واعملوا, فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج, ومن هلك من بني آدم وبني إبليس" قال: فسري عنهم, ثم قال: "اعملوا وأبشروا, فو الذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة" وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى وهو القطان, عن هشام وهو الدستوائي عن قتادة به بنحوه, وقال الترمذي: حسن صحيح.
(طريق آخر) لهذا الحديث. قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا ابن جدعان عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ - إلى قوله - وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال: نزلت عليه هذه الآية وهو في سفر, فقال: "أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال - "ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار, قال: يا رب وما بعث النار ؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة" فأنشأ المسلمون يبكون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا, فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية, قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية, فإن تمت, وإلا كملت من المنافقين, وما مثلكم ومثل الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" - فكبروا ثم قال -: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " - فكبروا ثم قال -: "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا ثم قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا,(3/250)
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة به. ثم قال الترمذي أيضاً: هذا حديث حسن صحيح. وقد سعيد بن أبي عروبة عن الحسن عن عمران بن الحصين وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي عن عمران بن الحصين فذكره, وهكذا روى ابن جرير عن بندار عن غندر عن عوف عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} وذكر الحديث فذكر نحو سياق ابن جدعان, والله أعلم.
(الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن الطباع, حدثنا أبو سفيان المعمري, عن معمر عن قتادة عن أنس قال: نزلت {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} وذكر, يعني نحو سياق الحسن عن عمران غير أنه قال: ومن هلك من كثرة الجن والإنس. ورواه ابن جرير بطوله من حديث معمر.
(الحديث الثالث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن سلمان حدثنا عباد يعني ابن العوام, حدثنا هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه, وقال فيه "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة " ففرحوا, وزاد أيضاً "وإنما أنتم جزء من ألف جزء".
(الحديث الرابع) قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا عمر بن حفص, حدثنا أبي, حدثنا الأعمش, حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم, فيقول: لبيك ربنا وسعديك, فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار, قال: يا رب وما بعث النار ؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعون, فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد { تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد, أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض, أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود, وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبرنا ثم قال - ثلث أهل الجنة - فكبرنا ثم قال - "شطر أهل الجنة" فبكرنا, وقد رواه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع, ومسلم والنسائي في تفسيره من طرق عن الأعمش به.
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا عمارة بن محمد ابن أخت سفيان الثوري وعبيدة المعني, كلاهما عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي: يا آدم إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً من ذريتك إلى النار, فيقول آدم: يا رب من هم ؟ فيقال له: من كل مائة تسعة وتسعون" فقال رجل من القوم: من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله ؟ قال: "هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير" انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.
(الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حاتم بن أبي صفيرة, حدثنا ابن أبي مليكة أن القاسم بن محمد أخبره عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلاً" قالت عائشة: يا رسول لله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض, قال: "يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك" أخرجاه في الصحيحين.
(الحديث السابع) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله, هل يذكر الحبيب حبيبه, يوم القيامة ؟ قال: "يا(3/251)
عائشة أما عند ثلاث فلا, أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا, وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يعطى بشماله فلا, وحين يخرج عنق من النار فينطوي عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة, وكلت بثلاثة, وكلت بثلاثة, وكلت بمن ادعى مع الله إلهاً آخر, ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب, ووكلت بكل جبار عنيد - قال - فينطوي عليهم. ويرميهم في غمرات جهنم, ولجهنم جسر أرق من الشعر وأحد من السيف, عليه كلاليب وحسك يأخذن من شاء الله, والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب, والملائكة يقولون: رب سلم, سلم. فناج مسلم, ومخدوش مسلم, مكور في النار على وجهه".
والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جداً لها موضع آخر, ولهذا قال تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أي أمر عظيم, وخطب جليل, وطارق مفظع, وحادث هائل, وكائن عجيب, والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع, كما قال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} ثم قال تعال: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} هذا من باب ضمير الشأن, ولهذا قال مفسراً له: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها, والتي هي أشفق الناس عليه تدهش عنه في حال إرضاعها له, ولهذا قال: {كل مرضعة} ولم يقل مرضع, وقال: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي عن رضيعها قبل فطامه. وقوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي قبل تمامه لشدة الهول {تَرَى النَّاسَ سُكَارَى} وقرىء {سكرى} أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم, وغابت أذهانهم, فمن رآهم حسب أنهم سكارى {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
{وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّهُ مَن تَوَلاّهُ فَأَنّهُ يُضِلّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ}
يقول تعالى ذاماً لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى, معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن, وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين, ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء, ولهذا قال في شأنهم وأشباههم {وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي علم صحيح {وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ} قال مجاهد: يعني الشيطان, يعني كتب عليه كتابة قدرية {أَنّهُ مَن تَوَلاّهُ} أي اتبعه وقلده {فَأَنّهُ يُضِلّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ} أ ي يضله في الدنيا, ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير, وهو الحار المؤلم المقلق المزعج, وقد قال السدي عن أبي مالك: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث, وكذلك قال ابن جريج.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري, حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة, حدثنا العمر, حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خبثاء قريش أخبرنا عن ربكم من ذهب هو, أو من فضة هو, أو من نحاس هو ؟ فقعقعت السماء قعقعة - والقعقعة في كلام العرب الرعد - فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من يا قوت ؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته.
{يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ نُخْرِجُكُمْ(3/252)
طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوَاْ أَشُدّكُمْ وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّىَ وَمِنكُمْ مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىَ وَأَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لاّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنّ اللّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}
لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد, ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: {يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} أي في شك {مّنَ الْبَعْثِ} وهو المعاد, وقيام الأرواح والأجساد, يوم القيامة {فَإِنّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ} أي أصل برئه لكم من تراب, وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام {ثُمّ مِن نّطْفَةٍ} أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين {ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ} وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها, ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله, فتمكث كذلك أربعين يوماً, ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط, ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء, فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط, وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط, ولهذا قال تعالى: {ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ} أي كما تشاهدونها {لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى} أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها, كما قال مجاهد في قوله تعالى: {مّخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ} قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق, فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة, أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح, وذكر وأنثى, وكتب رزقها وأجلها, وشقي أو سعيد.
كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه وعمله وأجله, وشقي أو سعيد, ثم ينفخ فيه الروح".
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم, أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً, وإن قيل: مخلقة قال: أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سيعد, ما الأجل وما الأثر, وبأي أرض يموت ؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك ؟ فتقول: الله, فيقال من رازقك ؟ فتقول الله, فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب, فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة, قال: فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها, حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان, ثم تلا عامر الشعبي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة, وإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دماً, وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين يوماً أو خمس وأربعين, فيقول: أي رب أشقي أم سيعد ؟ فيقول الله ويكتبان, فيقول: أذكر أم أنثى ؟(3/253)
فيقول الله ويكتبان, ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله, ثم تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص" ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ومن طريق آخر عن أبي الطفيل بنحو معناه.
وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله, ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئاً, ويلطف به ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار, ولهذا قال: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي يتكامل القوي ويتزايد, ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المظهر, {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} أي في حال شبابه وقواه, {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر, ولهذا قال: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً} كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}.
وقد قال الحافظ أبو يعلى بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا خالد الزيات, حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رفع الحديث قال: "المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته, وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه, فإذا بلغ الحنث أجرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا, فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون والجذام والبرص, فإذا بلغ الخمسين, خفف الله حسابه, فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب. فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء. فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وشفعه في أهل بيته, وكتب أمين الله وكان أسير الله في أرضه, فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً كتب الله مثل ما كان يعمل في صحته من الخير, فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه".
هذا حديث غريب جداً, وفيه نكارة شديدة, ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده موقوفاً ومرفوعاً, فقال: حدثنا أبو النضر, حدثنا الفرج, حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العامري, عن عمرو بن جعفر عن أنس قال: "إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة, أمنه الله من أنواع البلايا: من الجنون, والبرص, والجذام, فإذا بلغ الخمسين لين الله حسابه, وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه الله عليها, وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء, وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهله" ثم قال: حدثنا هاشم, حدثنا الفرج, حدثني محمد بن عبد الله العامري عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب, عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
رواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا أنس بن عياض, حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري, عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون, والبرص, والجذام" وذكر تمام الحديث كما تقدم سواء, رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب عن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العدوي, عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء: الجنون, والجذام, والبرص, فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب, فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب, فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله وأحبه أهل(3/254)
السماء, فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهل بيته".
وقوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة, وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء. وقال قتادة: غبراء متهشمة. وقال السدي: ميتة, {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي فإذا أنزل الله عليها المطر, اهتزت أي تحركت بالنبات, وحييت بعد موتها, وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى, ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومه وروائحها وأشكالها ومنافعها, ولهذا قال تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي حسن المنظر طيب الريح.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي كائنة لا شك فيها ولا مرية, {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً ويوجدهم بعد العدم, كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ, الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} والآيات في هذه كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز, حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة, وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به ؟" قلنا: بلى, قال: "فا الله أعظم" قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى, وما آية ذلك في خلقه ؟ قال: "أما مررت بوادي أهلك محلاً ؟" قال: بلى. قال "ثم مررت به يهتز خضراً ؟" قال: بلى. قال "فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه". ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به.
ثم رواه الإمام أحمد أيضاً: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا ابن المبارك, أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ قال "أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة, ثم مررت بها مخصبة ؟" قال: نعم. قال: "كذلك النشور" والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبيس بن مرحوم, حدثنا بكير بن السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل قال: من علم أن الله هو الحق المبين, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور, دخل الجنة.
{ومِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ يَدَاكَ وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لّلعَبِيدِ}
لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبدع فقال: {ومِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ} أي بلا عقل صحيح, ولا نقل صحيح صريح, بل بمجرد(3/255)
الرأي والهوى. وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال ابن عباس وغيره: مستكبر عن الحق إذا دعي إليه, وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي لاوي عنقه وهي رقبته, يعني يعرض عما يدعى إليه من الحق, ويثني رقبته استكباراً, كقوله تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} الآية, وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} وقال لقمان لابنه {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي تمليه عنهم استكباراً عليهم, وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً} الآية.
وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال بعضهم: هذه لام العاقبة, لأنه قدلا يقصد ذلك, ويحتمل أن تكون لام التعليل. ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنىء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله. ثم قال تعالى {لَهُ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ} وهو الإهانة والذل, كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة في الدنيا وعاقبه فيها قبل الآخرة, لأنها أكبر همه ومبلغ علمه {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ يَدَاكَ} أي يقال له هذا تقريعاً وتوبيخاً {وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لّلعَبِيدِ} كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن الصباح, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا هشام عن الحسن قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة.
{وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىَ وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا والآخرة ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضّلاَلُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرّهُ أَقْرَبُ مِن نّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىَ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}
قال مجاهد وقتادة وغيرهما: {عَلَىَ حَرْفٍ} على شك, وقال غيرهم: على طرف, ومنه حرف الجبل أي طرفه, أي دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن الحارث, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَىَ حَرْفٍ} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح, وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون, فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن, قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط, قالوا: ما في ديننا هذا خير, فأنزل الله على نبيه {وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ} الآية.
وقال العوفي عن ابن عباس: كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة, فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً رضي به, واطمأن إليه, وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً, {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} والفتنة البلاء, أي وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة,(3/256)
أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شراً, وذلك الفتنة, وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة, وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه, فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر. وقال مجاهد في قوله: {انْقَلَبَ عَلَىَ وَجْهِهِ} أي ارتد كافراً.
وقوله: {خَسِرَ الدّنْيَا والآخرة} أي فلا هو حصل من الدنيا على شيء, وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم, فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة, ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة وقوله: {يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ} أي من الأصنام والأنداد, يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها وهي لا تنفعه ولا تضره {ذَلِكَ هُوَ الضّلاَلُ الْبَعِيدُ}. وقوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرّهُ أَقْرَبُ مِن نّفْعِهِ} أي ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها, وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن. وقوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَىَ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} قال مجاهد: يعني الوثن, يعني بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى, يعني ولياً وناصراً, {وَبِئْسَ الْعَشِيرُ} وهو المخالط والمعاشر, واختار ابن جرير أن المراد لبئس ابن العم والصاحب {مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىَ وَجْهِهِ} وقول مجاهد إن المراد به الوثن أولى وأقرب إلى سياق الكلام, والله أعلم.
{إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم, فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات, وتركوا المنكرات, فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات, ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال: {إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
{مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ}
قال ابن عباس: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ,{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} أي بحبل {إِلَى السّمَآءِ} أي سماء بيته {ثُمّ لْيَقْطَعْ} يقول ثم ليختنق به, وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ} أي ليتوصل إلى بلوغ السماء, فإن النصر إنما يأتي محمداً من السماء {ثُمّ لْيَقْطَعْ} ذلك عنه إن قدر على ذلك, وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم, فإن المعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه, فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه, فإن الله ناصره لا محالة, قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} الآية, ولهذا قال: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} قال السدي: يعني من شأن محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عطاء الخراساني: فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في(3/257)
صدره من الغيط. وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} أي القرآن {آيَاتٍ بَيّنَاتٍ} أي واضحات في لفظها ومعناها, حجة من الله على الناس, {وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء, وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته لا معقب لحكمه, وهو سريع الحساب.
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئِينَ وَالنّصَارَىَ وَالْمَجُوسَ وَالّذِينَ أَشْرَكُوَاْ إِنّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين, وقد قدمنا في سورة البقرة التعريف بهم واختلاف الناس فيهم, والنصارى والمجوس والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره, فإنه تعالى:){يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} ويحكم بينهم بالعدل, فيدخل من آمن به الجنة, ومن كفر به النار, فإنه تعالى شهيد على أفعالهم, حفيظ لأقوالهم, عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم.
{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له, فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً, وسجود كل شيء مما يختص به, كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} وقال ههنا: {أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ} أي من الملائكة في أقطار السموات, والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وقوله: {وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ} إنما ذكر هذه على التنصيص, لأنها قد عبدت من دون الله فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الآية, وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب فتسجد تحت العرش, ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت" وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه في حديث الكسوف "إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله, وإنما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته, ولكن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له".
وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجداً حين يغيب, ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه, وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل, وعن ابن عباس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت, فسجدت الشجرة لسجودي, فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً, وضع عني بها وزراً, واجعلها لي عندك ذخراً, وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود, قال ابن عباس: فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: سجدة ثم سجد, فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة, رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
وقوله: {وَالدّوَآبّ} أي الحيوانات كلها,(3/258)
وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر, فرب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها. وقوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ} أي يسجد لله طوعاً مختاراً متعبداً بذلك {وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي ممن امتنع وأبى واستكبر {وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي, حدثنا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: قيل لعلي: إن ههنا رجلاً يتكلم في المشيئة, فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله كما يشاء أو كما شئت ؟ قال: بل كما شاء. قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء ؟ قال: بل حيث يشاء. قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي, يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة, وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" رواه مسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرىء قالا: حدثنا ابن لهيعة, قال: حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال: سمعت عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال: "نعم فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما" ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به. وقال الترمذي: ليس بقوي, وفي هذا نظر, فإن ابن لهيعة قد صرح فيه بالسماع, وأكثر ما نقموا عليه تدليسه.
وقد قال أبو داود في المراسيل: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح, أنبأنا ابن وهب, أخبرني معاوية بن صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين" ثم قال أبو داود: وقد أسند هذا, يعني من غير هذا الوجه ولا يصح. وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثني ابن أبي داود, حدثنا يزيد بن عبد الله, حدثنا الوليد, حدثنا أبو عمرو, حدثنا حفص بن عنان, حدثني نافع قال: حدثني أبو الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية, وقال: إن هذه فضلت بسجدتين. وروى أبو داود وابن ماجه من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن, منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان, فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً.
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}
ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ} نزلت في حمزة وصاحبيه, وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر, لفظ البخاري عند تفسيرها, ثم قال البخاري: حدثنا حجاج بن المنهال, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي, حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة, قال قيس: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ} قال: هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري.
وقال سعيد(3/259)
بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ} قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب, فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم, فنحن أولى بالله منكم, وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء, فنحن أولى بالله منكم, فأفلج الله الإسلام على من ناوأه, وأنزل {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ} وكذا روى العوفي عن ابن عباس: وقال شعبة عن قتادة في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ} قال: مصدق ومكذب وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث, وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية: هم المؤمنون والكافرون.
وقال عكرمة: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ} قال: هي الجنة والنار, قالت النار: اجعلني للعقوبة, وقالت الجنة: اجعلني للرحمة. وقول مجاهد وعطاء: إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها, وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها, فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل, والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل, وهذا اختيار ابن جرير, وهو حسن, ولهذا قال {فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ} أي فصلت لهم مقطعات من النار, قال سعيد بن جبير: من نحاس, وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي {يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة. وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب, أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء, قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم, وكذلك تذوب جلودهم, وقال ابن عباس وسعيد: تساقط.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثني إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني, حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه, فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه, وهو الصهر, ثم يعاد كما كان" ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك وقال: حسن صحيح, وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن ابن المبارك به. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن أبي الحواري.
قال: سمعت عبد الله بن السري قال: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته, فإذا أدناه من وجهه تكرهه, قال: فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه, ثم يفرغ الإناء من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه, فذلك قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}.
وقوله: {وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض, فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض" وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت, ثم عاد كما كان, ولو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا" وقال ابن عباس في قوله: {وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قال: يضربون بها, فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور.
وقوله: {كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا} قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها, ثم قرأ {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} وقال زيد بن أسلم في هذه الآية {كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا} قال: بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون, وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج, إن الأرجل لمقيدة وإن الأيدي لموثقة, ولكن يرفعهم لهبها وتردهم(3/260)
مقامعها. وقوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} كقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولاً وفعلاً.
{إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوَاْ إِلَى الطّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوَاْ إِلَىَ صِرَاطِ الْحَمِيدِ}
لما أخبر تعالى عن حال أهل النار عياذاً بالله من حالهم وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال وما أعد لهم من الثياب من النار, ذكر حال أهل الجنة نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخله الجنة, فقال: {إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها, يصرفونها حيث شاؤوا وأين أرادوا {يُحَلّوْنَ فِيهَا} من الحلية {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} أي في أيديهم, كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". وقال كعب الأحبار: إن في الجنة ملكاً لو شئت أن أسميه لسميته يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة لو أبرز قلب منها - أي سوار منها - لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر.
وقوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم, لباس هؤلاء من الحرير إستبرقه وسندسه, كما قال: {عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً} وفي الصحيح "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا, فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" قال عبد الله بن الزبير: من لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة, قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}. وقوله: {وَهُدُوَاْ إِلَى الطّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ} كقوله تعالى: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام} وقوله: { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب, وقوله: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به يقال لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}. وقوله: {وَهُدُوَاْ إِلَىَ صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم كما جاء في الحديث الصحيح "إنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النّفس" وقد قال بعض المفسرين في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي القرآن وقيل: لا إله إلا الله وقيل: الأذكار المشروعة {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي الطريق المستقيم في الدنيا وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه والله أعلم.
{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(3/261)
يقول تعالى منكراً على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام وقضاء مناسكهم فيه ودعواهم أنهم أولياؤه {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} الآية, وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية, كما قال في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} وقال ههنا: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ} أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام, أي ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر, وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
وقوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} أي يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام, وقد جعله الله شرعاً سواء لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام. وقال مجاهد: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل, وكذا قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله, وهذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف, وأحمد بن حنبل حاضر أيضاً, فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر, واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله أتنزل غداً في دارك بمكة ؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟" ثم قال: "لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين, وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية داراً بمكة, فجعلها سجناً, بأربعة آلاف درهم, وبه قال طاوس وعمرو بن دينار, وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر, وهو مذهب طائفة من السلف, ونص عليه مجاهد وعطاء, واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين, عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعي رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن.
وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها, وقال أيضاً عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم, وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها, فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو, فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك, فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجراً, فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري, قال: فلك ذلك إذاً. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل البادي حيث يشاء, قال: وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} قال: ينزلون حيث شاؤوا, وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفاً "من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً" وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث ولا تؤجر جمعاً بين الأدلة, والله أعلم. وقوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء ههنا زائدة, كقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تنبت الدهن, وكذا قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} تقديره إلحاداً, وكما قال الأعشى.(3/262)
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ... بين المراجل والصريح الأجرد
وقال الآخر:
بواد يمان ينبت الشث صدره ... و أسفله بالمرخ والشبهان
والأجود أنه ضمن الفعل ههنا معنى يهم, ولهذا عداه بالباء فقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ب} أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار: وقوله: {بِظُلْمٍ} أي عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول, كما قال ابن جريج عن ابن عباس هو التعمد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: بظلم بشرك, وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله, وكذا قال قتادة وغير واحد. وقال العوفي عن ابن عباس: بظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل, فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك, فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم, وقال مجاهد: بظلم يعمل فيه عملاً سيئا, وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه, كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره, حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا شعبة عن السدي أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله يعني ابن مسعود في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين, لأذاقه الله من العذاب الأليم, قال شعبة: هو رفعه لنا وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد: هو قد رفعه, ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به, قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري, ووقفه أشبه من رفعه, ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود, وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي, عن مرة, عن ابن مسعود موقوفاً, والله أعلم. وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه, ولو أن رجلاً بعدن أبين همّ أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم, وكذا قال الضحاك بن مزاحم, وقال سفيان الثوري عن منصور, عن مجاهد: إلحاد فيه لا والله وبلى والله, وروي عن مجاهد, عن عبد الله بن عمرو مثله, وقال سعيد بن جبير: شتم الخادم ظلم فما فوقه, وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن عطاء, عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: تجارة الأمير فيه. وعن ابن عمر: بيع الطعام بمكة إلحاد.
وقال حبيب بن أبي ثابت: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: المحتكر بمكة, وكذا قال غير واحد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري, أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى, عن عمه عمارة بن ثوبان, حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام بمكة إلحاد" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا عطاء بن دينار, حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله الله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: نزلت في عبد الله بن أنيس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين: أحدهما مهاجر, والآخر من الأنصار, فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري, ثم ارتد عن الإسلام, وهرب إلى مكة, فنزلت فيه {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد, يعني بميل عن الإسلام, وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد, ولكن هو أعم من ذلك بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها, ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل, {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ, فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}, أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء, ولذلك ثبت في(3/263)
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم" الحديث .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كناسة, حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير إياك والإلحاد في حرم الله, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيلحد فيه رجل من قريش, لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت" فانظر لا تكن هو, وقال أيضاً في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص: حدثنا هاشم, حدثنا إسحاق بن سعيد, حدثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو جالس في الحجر فقال: يا ابن الزبير, إياك والإلحاد في الحرم, فاني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحلها ويحل به رجل من قريش, لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها" قال: فانظر لا تكن هو, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.
{وَإِذْ بَوّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِيَ لِلطّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىَ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ}
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له, فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت, أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه, واستدل به كثير ممن قال: إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق, وأنه لم يبن قبله, كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذر, قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال: "المسجد الحرام" . قلت: ثم أي ؟ قال: "بيت المقدس". قلت: كم بينهما ؟ قال: "أربعون سنة". وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} الآيتين, وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته ههنا, وقال تعالى ههنا {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} أي ابنه على اسمي وحدي {طَهِّرْ بَيْتِيَ} قال قتادة ومجاهد: من الشرك {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له, فالطائف به معروف, وهو أخص العبادات عند البيت, فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها {وَالْقَائِمِينَ} أي في الصلاة, ولهذا قال: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت, فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال, إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر, والله أعلم.
وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي ناد في الناس بالحج, داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه, فذكر أنه قال: يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ, فقام على مقامه, وقيل على الحجر, وقيل على الصفا, وقيل على أبي قبيس, وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه, فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض, وأسمع من في الأرحام والأصلاب, وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر, ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة, لبيك اللهم لبيك, وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف,(3/264)
والله أعلم, أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} الآية, قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً لمن قدر عليه أفضل من الحج راكباً, لأنه قدمهم في الذكر, فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم, وقال وكيع عن أبي العميس, عن أبي حلحلة, عن محمد بن كعب, عن ابن عباس قال: ما أساء علي شيء إلا أخي وددت أني كنت حججت ماشياً, لأن الله يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل, اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام. وقوله: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} يعني طريق, كما قال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} وقوله: {عَمِيقٍ} أي بعيد, قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد, وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم حيث قال في دعائه: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف, فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
{لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِيَ أَيّامٍ مّعْلُومَاتٍ عَلَىَ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ثُمّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطّوّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
قال ابن عباس: {لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} قال: منافع الدنيا والآخرة, أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى, وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن, والذبائح والتجارات, وكذا قال مجاهد وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة كقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}. وقوله: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِيَ أَيّامٍ مّعْلُومَاتٍ عَلَىَ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ}, قال شعبة وهشيم عن أبي بشر, عن سعيد, عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر, وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به. وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي, وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عرعرة, حدثنا شعبة عن سليمان, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء", رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بنحوه. وقال الترمذي: حديث حسن, غريب, صحيح, وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر,
قلت: وقد تقصيت هذه الطرق, وأفردت لها جزءاً على حدته, فمن ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه. وقال البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعاً أن هذا هو العشر الذي أقسم به في قوله: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ}. وقال بعض السلف : أنه المراد بقوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر, وهذا(3/265)
العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة, فقال: "أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والآتية", ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر, وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله وبالجملة, فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة, كما نطق به الحديث, وفضله كثير على عشر رمضان الأخير, لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره, ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. وقيل ذلك أفضل لا شتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر, وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل, وليالي ذاك أفضل, وبهذا يجتمع شمل الأدلة, والله أعلم.
(القول الثاني) في الأيام المعلومات. قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده, ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي, وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
(القول الثالث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن المديني, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا ابن عجلان, حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام, فالأيام المعلومات: يوم النحر, ويومان بعده, والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر, هذا إسناد صحيح إليه, وقاله السدي, وهو مذهب الإمام مالك بن أنس, ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} يعني ذكر الله عند ذبحها.
(القول الرابع) أنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده, وهو مذهب أبي حنيفة. وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: المعلومات يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق.
وقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} يعني الإبل والبقر والغنم كما فصلها تعالى في سورة الأنعام {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الآية, وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي, وهو قول غريب, والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب, كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ, فأكل من لحمها وحسا من مرقها. قال عبد الله بن وهب: قال لي مالك: أحب أن يأكل من أضحيته, لأن الله يقول: {فَكُلُوا مِنْهَا} قال ابن وهب: وسألت الليث, فقال لي مثل ذلك, وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم {فَكُلُوا مِنْهَا} قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين, فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل, وروي عن مجاهد وعطاء نحو ذلك.
قال هشيم عن حصين عن مجاهد في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} قال: هي كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره, واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق فيها بالنصف بقوله في هذه الآية: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} فجزأها نصفين: نصف للمضحي ونصف للفقراء, والقول الآخر أنها تجزأ ثلاثة أجزاء: ثلث له وثلث يهديه وثلث يتصدق به, لقوله تعالى في الآية الأخرى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} وسيأتي الكلام عليها عندها إن شاء الله وبه الثقة.
وقوله: {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} قال عكرمة: هو المضطر الذي يظهر عليه البؤس والفقير المتعفف, وقال مجاهد: هو الذي لا يبسط يده, وقال قتادة: هو الزمن, وقال مقاتل بن حيان: هو الضرير. وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وهو وضع الإحرام من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظافر ونحو ذلك, وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه, وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي. وقال(3/266)
عكرمة عن ابن عباس {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قال: التفث المناسك. وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني نحر ما نذر من أمر البدن. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج. وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: الذبائح. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد {وليوفوا نذورهم} كل نذر إلى أجل وقال عكرمة {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: حجهم. وكذا روى الإمام أحمد وابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان في قوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: نذور الحج, فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به, وروي عن مالك نحو هذا.
وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قال مجاهد: يعني الطواف الواجب يوم النحر, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج يقول الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فإن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق, قلت: وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة, فرماها بسبع حصيات, ثم نحر هديه وحلق رأسه, ثم أفاض فطاف بالبيت, وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
وقوله: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر, لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم, ون كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة, ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر وأخبر أن الحجر من البيت ولم يستلم الركنين الشاميين لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة, ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر العدني, حدثنا سفيان عن هشام بن حجر عن رجل عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه, وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قال: لأنه أول بيت وضع للناس, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح, وقال خصيف: إنما سمي بالبيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قط.
وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد: أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه, وكذا قال قتادة. وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد: لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك, وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة, وقال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد, حدثنا عبد الله بن صالح, أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار" وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به, وقال: إن كان صحيحاً, وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, ثم رواه من وجه آخر عن الزهري مرسلاً.
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ وَأُحِلّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ حُنَفَآءَ للّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}(3/267)
يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك وما لفاعلها من الثواب الجزيل {وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللّهِ} أي ومن يجتنب معاصيه, ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه {فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ} أي فله على ذلك خير كثير, وثواب جزيل, فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل, كذلك على تلك المحرمات واجتناب المحظورات, قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللّهِ} قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها, وكذا قال ابن زيد.
وقوله: {وَأُحِلّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ} أي أحللنا لكم جميع الأنعام وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وقوله: {إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ} أي من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة الآية, قال ذلك ابن جرير, وحكاه عن قتادة. وقوله: {فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ} من ههنا لبيان الجنس , أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان, وقرن الشرك بالله بقول الزور, كقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" قلنا: بلى يا رسول لله قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس فقال - ألا وقول الزور. ألا وشهادة الزور ". فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري, أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً, فقال: "يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله" ثلاثاً, ثم قرأ {فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ} وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به, ثم قال: غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد, وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح, فلما انصرف قام قائماً فقال: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل" ثم تلا هذه الآية {{فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ حُنَفَآءَ للّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله, ثم قرأ هذه الآية.
وقوله: {حُنَفَآءَ للّهِ} أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق, ولهذا قال: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى, فقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ} أي سقط منها {فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ} أي تقطعه الطيور في الهواء {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي بعيد مهلك لمن هوى فيه, ولهذا جاء في حديث البراء: إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت وصعدوا بروحه إلى السماء, فلا تفتح له أبواب السماء بل تطرح روحه طرحاً من هناك, ثم قرأ هذه الآية, وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه. وقد ضرب تعالى للمشركين مثلاً آخر في سورة الأنعام. وهو قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} الآية.
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ مَحِلّهَآ(3/268)
إِلَىَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
يقول تعالى هذا {وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ} أي أوامره {فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن, كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عن ابن عباس {ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ} قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام. وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة, وكان المسلمون يسمنون, رواه البخاري, وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين" رواه أحمد وابن ماجه, قالوا: والعفراء هي البيضاء بياضاً ليس بناصع, فالبيضاء أفضل من غيرها, وغيرها يجزىء أيضاً لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين, وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن كحيل, يأكل في سواد, وينظر في سواد, ويمشي في سواد, رواه أهل السنن وصححه الترمذي - أي فيه نكتة سوداء في هذه الأماكن.
وفي سنن ابن ماجه عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين, وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين. قيل: هما الخصيان, وقيل اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما, والله أعلم. وعن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن, وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء, رواه أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي ولهم عنه, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن, وقال سعيد بن المسيب: العضب النصف فأكثر, وقال بعض أهل اللغة: إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء, فأما العضب فهو كسر الأسفل, وعضب الأذن قطع بعضها. وعند الشافعي أن الأضحية بذلك مجزئة لكن تكره. وقال أحمد: لا تجزىء الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث. وقال مالك: إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزىء وإلا أجزأ, والله أعلم.
وأما المقابلة فهي التي قطع مقدم أذنها, والمدابرة من مؤخر أذنها, والشرقاء هي التي قطعت أذنها طولاً, قاله الشافعي, وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقاً مدوراً, والله أعلم. وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها, والمريضة البين مرضها, والعرجاء البين ظَلعَها, والكسيرة التي لا تنقى" رواه أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي, وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى, فلهذا لا تجزيء التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة, كما هو ظاهر الحديث, واختلف قول الشافعي في المريضة مرضاً يسيراً على قولين, وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء, فالمصفرة قيل الهزيلة, وقيل المستأصلة الأذن, والمستأصلة مكسورة القرن, والبخقاء هي العوراء, والمشيعة هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم ولا تتبع لضعفها, والكسراء العرجاء, فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء, فأما إن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة, وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: اشتريت كبشاً أضحي به, فعدا الذئب فأخذ الألية, فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ضح به" ولهذا جاء في الحديث أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن, أي أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة, كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: أهدى عمر نجيباً فأعطي بها ثلثمائة دينار, فأتى(3/269)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيباً فأعطيت بها ثلثمائة دينار, أفأبيعها وأشتري بثمنها بدناً ؟ قال: لا "انحرها إياها" وقال الضحاك عن ابن عباس البدن من شعائر الله. وقال محمد بن أبي موسى: الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والحلق والبدن من شعائر الله. وقال ابن عمر: أعظم الشعائر البيت.
وقوله :{لكم فيها منافع} أي لكم في البدن منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى. قال مقسم عن ابن عباس في قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قال: ما لم تسم بدناً. وقال مجاهد في قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قال: الركوب واللبن والولد, فإذا سميت بدنة أو هدياً ذهب ذلك كله, وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال آخرون: بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدياً إذا احتاج إلى ذلك, كما ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة قال: "اركبها" قال: إنها بدنة. قال: "اركبها ويحك" في الثانية أو الثالثة. وفي رواية لمسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها" وقال شعبة عن زهير عن أبي ثابت الأعمى عن المغيرة بن عن علي أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها, فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها.
وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق, وهو الكعبة, كما قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وقال: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وقد تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريباً, ولله الحمد. وقال ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن عباس يقول: كل من طاف بالبيت فقد حل, قال الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
{وَلِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَىَ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصّابِرِينَ عَلَىَ مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصّلاَةِ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}
يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل. وقال على ابن أبي طلحة عن ابن عباس {وَلِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} قال: عيداً. وقال عكرمة: ذبحاً. وقال زيد بن أسلم في قوله: {وَلِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} إنها مكة, لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها. وقوله: {لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَىَ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين, فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود - وهو نفيع بن الحارث - عن زيد بن أرقم قال: قلت أو قالوا: يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال: "سنة أبيكم إبراهيم" قالوا: ما لنا منها ؟ قال: "بكل شعرة حسنة" قال فالصوف ؟ قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة" وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه من حديث سلام بن مسكين به.
وقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أي معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضاً, فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} ولهذا قال: {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته(3/270)
{وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ} قال مجاهد: المطمئنين. وقال الضحاك وقتادة: المتواضعين. وقال السدي: الوجلين. وقال عمرو بن أوس: المخبتين الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال الثوري {وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ} قال: المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له, وأحسن بما يفسر بما بعده وهو قوله: {الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي خافت منه قلوبهم {وَالصّابِرِينَ عَلَىَ مَآ أَصَابَهُمْ} أي من المصائب. قال الحسن البصري: والله لنصبرن أو لنهلكن {وَالْمُقِيمِي الصّلاَةِ} قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة أيضاً وقرأ ابن السميفع {والمقيمن الصلاة} بالنصب وعن الحسن البصري {وَالْمُقِيمِي الصّلاَةِ} وإنما حذفت النون ههنا تخفيفاً, ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة ولكن على سبيل التخفيف, فنصبت, أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه {وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقائهم وفقرائهم ومحاويجهم, ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله, وهذه بخلاف صفات المنافقين, فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره في سورة براءة.
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَآفّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
يقول تعالى ممتناً على عباده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره, وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام, بل هي أفضل ما يهدى إليه, كما قال تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} الآية, قال ابن جريج, قال عطاء في قوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللّهِ} قال البقرة والبعير, وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري, وقال مجاهد: وإنما البدن من الإبل
{قلت} أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه, واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين, أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح الحديث, ثم جمهور العلماء على أنه تجزىء البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة, كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة عن سبعة, والبقرة عن سبعة. وقال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزىء البقرة والبعير عن عشرة, وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما, فالله أعلم.
وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أي ثواب في الدار الآخرة, وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق دم. وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض, فطيبوا بها نفساً " رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه, وقال سفيان الثوري: كان أبو حازم يستدين ويسوق البدن, فقيل له: تستدين وتسوق البدن ؟ فقال: إني سمعت الله يقول لكم: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}. وعن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد" رواه الدارقطني في سننه. وقال مجاهد: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قال: أجر ومنافع, وقال إبراهيم النخعي: يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها.
وقوله: {فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَآفّ} وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى, فلما انصرف أتى بكبش فذبحه, فقال: "باسم الله والله أكبر, اللهم هذا(3/271)
عني وعمن لم يضح من أمتي" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر قال: ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد, فقال حين وجههما: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين, إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له, وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين, اللهم منك ولك عن محمد وأمته" ثم سمى الله وكبّر وذبح. وعن علي بن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلى وخطب الناس, أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه, فذبحه بنفسه بالمدية, ثم يقول: "اللهم هذا عن أمتي جميعها: من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ" ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه, ثم يقول "هذا عن محمد وآل محمد" فيطعمهما جميعاً للمساكين ويأكل هو وأهله منهما, رواه أحمد وابن ماجه.
وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله: {فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَآفّ} قال: قياماً على ثلاث قوائم, معقولة يدها اليسرى, يقول: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله, اللهم منك ولك, وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو هذا. وقال ليث عن مجاهد: إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث, وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه. وقال الضحاك: يعقل رجل واحدة فتكون على ثلاث. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة, سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم, وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها, رواه أبو داود. وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك: قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر. وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع قال فيه: فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: في حرف ابن مسعود {صوافن} أي معقلة قياماً. وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد من قرأها صوافن قال: معقولة, ومن قرأها صواف قال تصف بين يديها, وقال طاوس والحسن وغيرهما { فاذكروا اسم الله عليها صوافي} يعني خالصة لله عز وجل, وكذا رواه مالك عن الزهري. وقال عبد الرحمن بن زيد: صوافي ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم.
وقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني سقطت إلى الأرض, وهو رواية عن ابن عباس, وكذا قال مقاتل بن حيان وقال العوفي عن ابن عباس: فإذا وجبت جنوبها يعني نحرت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فإذ وجبت جنوبها, يعني ماتت, وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد, فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها. وقد جاء في حديث مرفوع "لا تعجلوا النفوس أن تزهق" وقد رواه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن قرافصة الحنفي, عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك, ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة, وليحد أحدكم شفرته, وليرح ذبيحته" وعن أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
وقوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ} قال بعض السلف: قوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا} أمر إباحة. وقال مالك: يستحب ذلك, وقال غيره: يجب, وهو وجه لبعض الشافعية. واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر, فقال العوفي عن ابن عباس: القانع المستغني بما أعطيته وهو في بيته, والمعتر الذي يتعرض لك(3/272)
ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل, وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: القانع المتعفف, والمعتر السائل, وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه. وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم وابن الكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان ومالك بن أنس: القانع هو الذي يقنع إليك ويسألك, والمعتر الذي يعتريك يتضرع ولا يسألك, وهذا لفظ الحسن. وقال سعيد بن جبير: القانع هو السائل, قال: أما سمعت قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعف من القنوع
قال: يغنى من السؤال, وبه قال ابن زيد. وقال بن أسلم: القانع المسكين الذي يطوف, والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور, وهو رواية عن ابنه عبد الله بن زيد أيضاً. وعن مجاهد أيضاً: القانع جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك, والمعتر الذي يعتزل من الناس, وعنه: أن القانع هو الطامع, والمعتر هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير, وعن عكرمة نحوه, وعنه: القانع أهل مكة, واختار ابن جرير أن القانع هو السائل, لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال, والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم. وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله, وثلث يهديه لأصحابه, وثلث يتصدق به على الفقراء, لأنه تعالى قال: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ}.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: "إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث, فكلوا وادخروا ما بدا لكم". وفي رواية "فكلوا وادخروا وتصدقوا". وفي رواية "فكلوا وأطعموا وتصدقوا". والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف, لقوله في الآية المتقدمة: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ولقوله في الحديث: "فكلوا وادخروا وتصدقوا" فإن أكل الكل, فقيل: لا يضمن شيئاً, وبه قال ابن سريج من الشافعية. وقال بعضهم: يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها. وقيل يضمن نصفها وقيل ثلثها. وقيل أدنى جزء منها, وهو المشهور من مذهب الشافعي. وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي "فكلوا وتصدقوا, واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها" ومن العلماء من رخص في بيعها, ومنهم من قال: يقاسم الفقراء ثمنها, والله أعلم.
(مسألة) عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي, ثم نرجع فننحر, فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا, ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس هو من النسك في شيء" أخرجاه, فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء: إن أول وقت ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين, زاد أحمد: وأن يذبح الإمام بعد ذلك لما جاء في صحيح مسلم: وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام. وقال أبو حنيفة: أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم. وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام, والله أعلم. ثم قيل: لا يشرع بالذبح إلا يوم النحر وحده. وقيل: يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم, وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده, وبه قال سعيد بن جبير. وقيل: يوم النحر ويوم بعده للجميع, وقيل: ويومان بعده, وبه قال الإمام أحمد. وقيل: يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده, وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيام التشريق كلها ذبح" رواه أحمد وابن حبان. وقيل: إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة, وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن(3/273)
عبد الرحمن, وهو قول غريب. وقوله: {كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} يقول تعالى من أجل هذا {سَخّرْنَاهَا لَكُمْ} أي ذللناها لكم, وجعلناها منقادة لكم خاضعة, إن شئتم ركبتم, وإن شئتم حلبتم, وإن شئتم ذبحتم, كما قال تعالى: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما علمت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون - إلى قوله - أفلا يشكرون} وقال في هذه الآية الكريمة: {كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
{لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التّقْوَىَ مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ}
يقول تعالى: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها, فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها, فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم, ونضحوا عليها من دمائها, فقال تعالى: {لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن أبي حماد, حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن ننضح فأنزل الله {لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التّقْوَىَ مِنكُمْ} أي يتقبل ذلك ويجزي عليه, كما جاء في الصحيح "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وجاء في الحديث "إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض" كما تقدم في الحديث, رواه ابن ماجه والترمذي, وحسنه عن عائشة مرفوعاً, فمعناه أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا, والله أعلم.
وقال وكيع عن يحيى بن مسلم أبي الضحاك: سألت عامراً الشعبي عن جلود الأضاحي, فقال: {لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} إن شئت فبع, وإن شئت فأمسك, وإن شئت فتصدق. وقوله: {كَذَلِكَ سَخّرَهَا لَكُمْ} أي من أجل ذلك سخر لكم البدن {لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ} أي لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه. وقوله: {وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ} أي وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل.
(مسألة) وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصاباً, وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضاً, واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات, عن أبي هريرة مرفوعاً: "من وجد سعة فلم يضح, فلا يقربن مصلانا" على أن فيه غرابة, واستنكره أحمد بن حنبل, وقال ابن عمر: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي, رواه الترمذي. وقال الشافعي وأحمد: لا تجب الأضحية بل هي مستحبة لما جاء في الحديث: "ليس في المال حق سوى الزكاة" وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته, فأسقط ذلك وجوبها عنهم. وقال أبو سريحة: كنت جاراً لأبي بكر وعمر, فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما, وقال بعض الناس: الأضحية سنة كفاية, إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت, سقطت عن الباقين لأن المقصود إظهار الشعار. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن محنف بن سليم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات: "على كل أهل(3/274)
بيت في كل عام أضحاة وعتيرة, هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي تدعونها الرجبية" وقد تكلم في إسناده. وقال أبو أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته, فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس, فصار كما ترى, رواه الترمذي وصححه وابن ماجه, وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله, رواه البخاري. وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة, إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" ومن ههنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزىء, وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزىء من كل جنس, وهما غريبان. والذي عليه الجمهور إنما يجزىء الثني من الإبل والبقر والمعز, أو الجذع من الضأن, فأما الثني من الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة, ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة, وقيل ما له ثلاث ودخل في الرابعة, ومن المعز ما له سنتان, وأما الجذع من الضأن فقيل ما له سنة, وقيل عشرة أشهر, وقيل ثمانية, وقيل ستة أشهر, وهو أقل ما قيل في سنه, وما دونه فهو حمل, والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم. والجذع شعر ظهره نائم. قد انفرق صدغين والله أعلم.
{إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ}
يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم, كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} وقوله: {إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ} أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا, وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال, والكفر الجحد للنعم, فلا يعترف بها.
{أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ}
قال العوفي عن ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة. وقال مجاهد والضحاك, وغير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد, واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية. وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن داود الواسطي, حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل {أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فعرفت أنه سيكون قتال. وقال الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به, وزاد: قال ابن عباس وهي أول آية نزلت في القتال. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف, زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال الترمذي:(3/275)
حديث حسن, وقد رواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس.
وقوله: {وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِير} أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال, ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته, كما قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} وقال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} والآيات في هذا كثيرة.
ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقد فعل, وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به, لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عدداً فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم, ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانوا نيفاً وثمانين, قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي, يعنون أهل منى, ليالي منى فنقتلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أومر بهذا" فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله, وشردوا أصحابه شذر مذر, فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة, فلما استقروا بالمدينة ووافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه, وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومعقلاً يلجئون إليه, شرع الله جهاد الأعداء, فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك, فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} قال العوفي عن ابن عباس: أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق, يعني محمداً وأصحابه {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة, ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له, وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر, وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب, كما قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول معهم آخر كل قافية, فإذا قالوا: إذا أرادوا فتنة أبينا يقول: أبينا يمد بها صوته, ثم قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم, ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب, لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} وهي المعابد الصغار للرهبان, قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم. وقال قتادة: هي معابد الصابئين, وفي رواية عنه: صوامع المجوس, وقال مقاتل بن حيان: هي البيوت التي على الطرق {وَبِيَعٌ} وهي أوسع منها, وأكثر عابدين فيها, وهي للنصارى أيضاً, قاله أبو العالية وقتادة والضحاك(3/276)
وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم. وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود, وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس اليهود, ومجاهد إنما قال: هي الكنائس, والله أعلم.
وقوله: {وَصَلَوَاتٌ} قال العوفي عن ابن عباس: الصلوات الكنائس وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة: إنها كنائس اليهود, وهم يسمونها صلوات. وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس النصارى. وقال أبو العالية وغيره: الصلوات معابد الصابئين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: الصلوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق, وأما المساجد فهي للمسلمين. وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} فقد قيل: الضمير في قوله يذكر فيها عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات. وقال الضحاك: الجميع يذكر فيها اسم الله كثيراً. وقال ابن جرير: الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود, وهي كنائسهم, ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً, لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عماراً وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح.
وقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} وصف نفسه بالقوة والعزة, فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديراً, وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب, بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه, ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور وعدوه هو المقهور, قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
{الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الأمور}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد قال: قال عثمان بن عفان: فينا نزلت {الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ} فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا: ربنا الله ثم مكنا في الأرض, فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة, وأمرنا بالمعروف, ونهينا عن المنكر, ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي. وقال أبو العالية: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, وقال الصباح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: {الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ} الآية, ثم قال: ألا إنها ليست على الوالي وحده, ولكنها على الوالي والمولى عليه, ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم, وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم, وأن يأخذ لبعضكم من بعض, وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع, وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها, ولا المخالف سرها علانيتها. وقال عطية العوفي: هذه الآية كقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} كقوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. وقال زيد بن أسلم {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وعند الله ثواب ما صنعوا.
{وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ(3/277)
مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَىَ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مّعَطّلَةٍ وَقَصْرٍ مّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىَ الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ}
يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه: {وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ - إلى أن قال - وَكُذّبَ مُوسَىَ} أي مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أي أنظرتهم وأخرتهم, {ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فيكف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ؟! وذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أنا ربكم الأعلى, وبين إهلاك الله له أربعون سنة. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} ثم قال تعالى: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي كم من قرية أهلكتها {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي مكذبة لرسلها {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا} قال الضحاك: سقوفها, أي قد خربت وتعطلت حواضرها {وَبِئْرٍ مّعَطّلَةٍ} أي لا يستقى منها, ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والإزدحام عليها {وَقَصْرٍ مّشِيدٍ} قال عكرمة يعني المبيض بالجص, وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك. وقال آخرون: هو المنيف المرتفع. وقال آخرون: المشيد المنيع الحصين, وكل هذه الأقوال متقاربة ولا منافاة بينها, فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.
وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ} أي بأبدانهم وبفكرهم أيضاً, وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا هارون بن عبد الله, حدثنا سيار, حدثنا جعفر, حدثنا مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا, ثم سح في الأرض, ثم اطلب الآثار والعبر, حتى يتخرق النعلان وتنكسر العصا. وقال ابن أبي الدنيا: قال بعض الحكماء: أحي قلبك بالمواعظ, ونوره بالتفكر, وموته بالزهد, وقوّه باليقين, وذلله بالموت, وقرره بالفناء, وبصره فجائع الدنيا, وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام, واعرض عليه أخبار الماضين, وذكره ما أصاب من كان قبله, وسيره في ديارهم وآثارهم, وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا, أي فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي فيعتبرون بها {فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىَ الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ} أي ليس العمى عمى البصر, وإنما العمى عمى البصرة, وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر, وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى, وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشنتريني, وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة:
يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقد ... نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر(3/278)
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الـ ... ـأعلى ولا النيّران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيّ الْمَصِيرُ}
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أي هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر, كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} . وقوله: {وَلَن يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ} أي الذي قد وعد من إقامة الساعة والإنتقام من أعدائه, والإكرام لأوليائه. قال الأصمعي: كنت عند أبي عمرو بن العلاء, فجاءه عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو, هل يخلف الله الميعاد ؟ فقال: لا, فذكر آية وعيد, فقال له: أمن العجم أنت ؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً, وعن الإيعاد كرماً, أما سمعت قول الشاعر:
ليرهب ابن العم والجار سطوتي ... ولا أنثني عن سطوة المتهدد
فإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقوله: {وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} أي هو تعالى لا يعجل, فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه, لعلمه بأنه على الانتقام قادر, وأنه لا يفوته شيء وإن أجل وأنظر وأملى, ولهذا قال بعد هذا: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيّ الْمَصِيرُ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام" ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به, وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفاً فقال: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية, حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال: قال أبو هريرة: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم, قلت: وما مقدار نصف يوم ؟ قال أو ما تقرأ القرآن ؟ قلت, بلى, قال: {وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ}.
وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه: حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا أبو المغيرة, حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم" قيل لسعد: وما نصف يوم ؟ قال: خمسمائة سنة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك, عن عكرمة عن ابن عباس {وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} قال: من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. ورواه ابن جرير عن ابن بشار عن ابن المهدي, وبه قال مجاهد وعكرمة, ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية, وقال مجاهد: هذه الآية كقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عارم محمد بن الفضل, حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين, عن رجل من أهل الكتاب أسلم قال: إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام(3/279)
{وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} وجعل أجل الدنيا ستة أيام, وجعل الساعة في اليوم السابع {وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ}. فقد مضت الستة الأيام وأنتم في اليوم السابع فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها ففي أية لحظة ولدت كان تماماً.
{قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ فَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالّذِينَ سَعَوْاْ فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به {قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ} أي إنما أرسلني الله إليكم نذيراً لكم, بين يدي عذاب شديد, وليس إلي من حسابكم من شيء, أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب, وإن شاء أخره عنكم, وإن شاء تاب على من يتوب إليه, وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة, وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار {لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} {إِنّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ فَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ} أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم {لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي مغفرة لما سلف من سيئاتهم, ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم. قال محمد بن كعب القرظي: إذا سمعت الله تعالى يقول: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فهو الجنة.
وقوله: {وَالّذِينَ سَعَوْاْ فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} قال مجاهد: يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم, وكذا قال عبد الله بن الزبير: مثبطين. وقال ابن عباس: معاجزين مراغمين {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وهي النار الحارة الموجعة, الشديد عذابها ونكالها, أجارنا الله منها. قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ فِتْنَةً لّلّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}
قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق, وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا, ولكنها من طرق كلها مرسلة, ولم أرها مسندة من وجه صحيح, والله أعلم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم, فلما بلغ هذا الموضع {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} قال: فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى, قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم, فسجد وسجدوا, فأنزل الله عز وجل هذه الآية {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
رواه ابن(3/280)
جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه, وهو مرسل, وقد رواه البزار في مسنده عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث, أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم حتى انتهى إلى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} وذكر بقيته, ثم قال البزار: لا نعلمه يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد, تفرد بوصله أمية بن خالد, وهو ثقة مشهور, وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس, ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية وعن السدي مرسلاً, وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلاً أيضاً.
وقال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس, فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى, وإنها لمع الغرانيق العلى, فحفظها المشركون وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها: فذلت بها ألسنتكم, فأنزل الله {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ} الآية, فدحر الله الشيطان, ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي, حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي, حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه, ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالهم, فكان يتمنى هداهم, فلما أنزل الله سورة النجم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت, فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى, وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى, وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته, فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم, وتباشروا بها, وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه, فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد, وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك, غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً فرفع على كفه تراباً فسجد عليه, فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين, ولم يكن المسلمون سمعوا الآية الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين, فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة, فسجدوا لتعظيم آلهتهم, ففشت تلك الكلمة في الناس, وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه, وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه, وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة, فأقبلوا سراعاً, وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من الفرية, وقال الله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ فِتْنَةً لّلّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ} فلما بين الله قضاءه, وبرأه من سجع الشيطان, انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين, واشتدوا عليهم, وهذا أيضاً مرسل.
وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه, وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة, فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه, قال: وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة
{قلت} وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا, وكلها مرسلات ومنقطعات, والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك,(3/281)
ثم سأل ههنا سؤالاً: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ؟ ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس كذلك في نفس الأمر, بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم, والله أعلم.
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفاء لهذا, وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها. وقوله: {إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ} هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه, أي لا يهيدنك ذلك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء. قال البخاري: قال ابن عباس {فِيَ أُمْنِيّتِهِ} إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه, فيبطل الله ما يلقي الشيطان {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ} يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد {إِذَا تَمَنّىَ} يعني إذا قال, ويقال أمنيته قراءته {إلا أماني} يقولون ولا يكتبون. قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: {تمنى} أي تلا وقرأ كتاب الله {أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ } أي في تلاوته, قال الشاعر في عثمان حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال الضحاك: {إذا أتمنى} إذا تلا. قال ابن جرير هذا القول أشبه بتأويل الكلام. وقوله {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان. وقال الضحاك: نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان, وأحكم الله آياته. وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية {حَكِيمٌ} أي في تقديره وخلقه وأمره, له الحكمة التامة والحجة البالغة, ولهذا قال: {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ فِتْنَةً لّلّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ} أي شك وشرك وكفر ونفاق, كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله, وإنما كان من الشيطان. قال ابن جريج: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم المنافقون, {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} هم المشركون.
وقال مقاتل بن حيان: هم اليهود {وَإِنّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد, أي من الحق والصواب, {وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه, وحرسه أن يختلط به وغيره بل هو كتاب حكيم {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. وقوله: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} أي يصدقوه وينقادوا له, {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخضع وتذل له قلوبهم, {وَإِنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} أي في الدنيا والآخرة, أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه, وفي الآخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات, ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.
{وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ}(3/282)
يقول تعالى مخبراً عن الكفار أنهم لا يزالون في مرية, أي في شك من هذا القرآن, قال ابن جريج واختاره ابن جرير. وقال سعيد بن جبير وابن زيد منه, أي مما ألقى الشيطان {حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً} قال مجاهد: فجأة, وقال قتادة {بَغْتَةً} بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم, فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. وقوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال مجاهد: قال أبي بن كعب: هو يوم بدر, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد, واختاره ابن جرير. قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما: هو يوم القيامة, لا ليل له, وكذا قال الضحاك والحسن البصري, وهذا القول هو الصحيح, وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به لكن هذا هو المراد, ولهذا قال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}.
وقوله: {الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيرا} {فَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ} كقوله: {مالك يوم الدين} أي آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى ما علموا, وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم {فِي جَنّاتِ النّعِيمِ} أي لهم النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد {وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآياتِنَا} أي كفرت قلوبهم بالحق وجحدوا به, وكذبوا به وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ} أي مقابلة استكبارهم وإعراضهم عن الحق, كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين.
{وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ إِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ}
يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده, وترك الأوطان والأهلين والخلان, وفارق بلاده في الله ورسوله, ونصرة لدين الله ثم قتلوا, أي في الجهاد, أو ماتوا أي حتف أنفهم أي من غير قتال على فرشهم, فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل, كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. وقوله: {لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً} أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم {وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أي الجنة كما قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم, كما قال ههنا: {ليرزقنّهم الله رزقاً حسناً} ثم قال {لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ} أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك {حَلِيمٌ} أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب, ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه.
فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر, فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم, وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر, فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا المسيب بن واضح, حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن ابن الحارث - يعني عبد الكريم - عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن عقبة قال: قال حدثنا شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم, فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه, فقال:(3/283)
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر, وأجرى عليه الرزق, وأمن من الفتانين, واقرؤوا إن شئتم { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}".
وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا زيد بن بشر, أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمر بجنازتين إحداهما قتيل, والأخرى متوفى, فمال الناس على القتيل, فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا ؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله, فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ؟ اسمعوا كتاب الله {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} حتى بلغ آخر الآية, وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان, أنبأنا ابن المبارك, أنبأنا ابن لهيعة, حدثنا سلامان بن عامر الشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق, والآخر توفي, فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده ؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت إن الله يقول: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} الآيتين.فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه, ورزقت رزقاً حسناً, والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب, أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميراً على الأرباع, فخرج بجنازتي رجلين, أحدهما قتيل والآخر متوفى, فذكر نحو ما تقدم. وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} الآية, ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعاً من المشركين في شهر محرم, فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام, فأبى المشركون إلا قتالهم, وبغوا عليهم, فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله عليهم {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
{ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ}
يقول تعالى منبهاً على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء, كما قال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا ومن هذا في هذا, فتارة يطول الليل ويقصر النهار كما في الشتاء, وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع بأقوال عباده. بصير بهم, لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم, ولما بين أنه المتصرف في الوجود, الحاكم الذي لا معقب لحكمه قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له, لأنه ذو السلطان العظيم الذي ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وكل شيء فقير إليه, ذليل لديه {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أي من الأصنام والأنداد والأوثان, وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل, لأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً. وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} كما قال {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} وقال: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} فكل شيء تحت قهره وسلطانه(3/284)
وعظمته, لا إله إلا هو, ولا رب سواه, لأنه العظيم الذي لا أعظم منه, العلي الذي لا أعلى منه, الكبير الذي لا أكبر منه, تعالى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً.
{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مّا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ وَهُوَ الّذِيَ أَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ إِنّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}
وهذا أيضاً من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه, فإنه يرسل الرياح فتثير سحاباً يمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها, وهي هامدة يابسة سوداء محلة, {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}. وقوله: {فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً} الفاء ههنا للتعقيب, وتعقيب كل شيء بحسبه, كما قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} الآية, وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوماً, ومع هذا هو معقب بالفاء, وهكذا ههنا قال {فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً} أي خضراء بعد يباسها ومحولها. وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء, فالله أعلم.
وقوله: {إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر, ولا يخفى عليه خافية, فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به, كما قال لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} وقال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته:
وقولا له من ينبت الحب في الثرى ؟ ... فيصبح منه البقل يهتز رابياً
ويخرج منه حبه في رؤوسه ... ففي ذاك آيات لمن كان واعياً
وقوله: {لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي ملكه جميع الأشياء, وهو غني عما سواه وكل شيء فقير إليه عبد لديه, وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} أي من حيوان وجماد وزروع وثمار, كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} أي من إحسانه وفضله وامتنانه {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي بتسخيره وتسييره, أي في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر, ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء, كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها, ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه, ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي مع ظلمهم, كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ}(3/285)
كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}. وقوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف {وهو الذي أحياكم} أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً يذكر, فأوجدكم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي يوم القيامة {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ} أي جحود.
{لّكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَىَ رَبّكَ إِنّكَ لَعَلَىَ هُدًى مّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكاً, قال ابن جرير: يعني لكل أمة نبي منسكاً, قال: وأصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر, قال: ولهذا سميت مناسك الحج بذلك لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها, فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً, فيكون المراد بقوله فلا ينازعنك في الأمر أي هؤلاء المشركين, وإن كان المراد لكل أمة جعلنا منسكاً جعلاً قدرياً كما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} ولهذا قال ههنا: {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي فاعلوه, فالضمير ههنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق, أي هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته, فلا تتأثر بمنازعتهم لك ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق, ولهذا قال: {وَادْعُ إِلَىَ رَبّكَ إِنّكَ لَعَلَىَ هُدًى مّسْتَقِيمٍ} أي طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود, وهذا كقوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ}.
وقوله: {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}. كقوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وقوله: {الله أعلم بما تعملون} تهديد شديد ووعيد أكيد, كقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ولهذا قال: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وهذه كقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} .الآية.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ}
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه, وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض, فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء, و لا أصغر من ذلك ولا أكبر, وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها, وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ, كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء" وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما خلق الله القلم, قال له: اكتب, قال و ما أكتب ؟ قال: اكتب ما هو كائن, فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا ابن بكير, حدثني عطاء بن دينار, حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام, وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك(3/286)
وتعالى: اكتب, فقال القلم: وما أكتب ؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم الساعة, فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة, فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ} وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها, وقدرها وكتبها أيضاً, فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه, فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره, وهذا يعصي باختياره, وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علماً, وهو سهل عليه يسير لديه, ولهذا قال تعالى: {إِنّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ}.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذَلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً, يعني حجة وبرهاناً, كقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ولهذا قال ههنا: {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه, وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة, وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم, ولهذا توعدهم تعالى بقوله: {وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ} أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال, ثم قال: {وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ} أي وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله, وأنه لا إله إلا هو, وأن رسله الكرام حق وصدق {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن, ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء {قُلْ} أي يا محمد لهؤلاء {أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذَلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ} أي النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا, وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإرادتكم وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئس النار مقيلاً ومنزلاً ومرجعاً وموئلاً ومقاماً {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}.
{يَأَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ}
يقول تعالى منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها {يَأَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} أي أنصتوا وتفهموا {إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ} أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا شريك عن عمارة بن(3/287)
القعقاع, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة مرفوعاً قال: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة". وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, قل يخلقوا ذرة, فليخلقوا شعيرة", ثم قال تعالى أيضاً: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد, بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والإنتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب, ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك, هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها, ولهذا قال: {ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قال ابن عباس: الطالب الصنم, والمطلوب الذباب, واختاره ابن جرير, وهو ظاهر السياق. وقال السدي وغيره: الطالب العابد, والمطلوب الصنم, ثم قال: {مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها {إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ} أي هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}. وقوله: {عَزِيزٌ} أي قد عز كل شيء فقهره وغلبه, فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه, وهو الواحد القهار.
{ اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور}
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع لأقوال عباده, بصير بهم, عليم بمن يستحق ذلك منهم, كما قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}, وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي يعلم ما يفعل رسله فيما أرسلهم به, فلا يخفى عليه شيء من أمورهم, كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً - إلى قوله - وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} فهو سبحانه رقيب عليهم, شهيد على ما يقال لهم, حافظ لهم, ناصر لجنابهم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ}
اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج: هل هي مشروع السجود فيها, أم لا ؟ على قولين, وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت سورة الحج بسجدتين, فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما". وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ} أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم, كما قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}. وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم, وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ}(3/288)
أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً, فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً, وفي السفر تقصر إلى اثنتين, وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة, كما ورد به الحديث, وتصلى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها, وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها, والقيام فيها يسقط لعذر المرض, فيصليها المريض جالساً, فإن لم يستطع فعلى جنبه, إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات, ولهذا قال عليه السلام: "بعثت بالحنيفية السمحة" وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن "بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا", والأحاديث في هذا كثيرة, ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} يعني من ضيق.
وقوله: {مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قال ابن جرير: نصب على تقدير {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم, قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم. {قلت} وهذا المعنى في هذه الآية كقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} الآية, وقوله: {هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} قال: الله عز وجل, وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} يعني إبراهيم, وذلك قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} قال ابن جرير: وهذا لا وجه له, لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين, وقد قال الله تعالى: {هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر, {وَفِي هَذَا} يعني القرآن, وكذا قال غيره.
(قلت) وهذا هو الصواب, لأنه تعالى قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه, بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل, ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان, فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل هذا القرآن {وَفِي هَذَا} روى النسائي عند تفسير هذه الآية: أنبأنا هشام بن عمار, حدثنا محمد بن شعيب, أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره, قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم" قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صام وصلى ؟ قال: "نعم وإن صام وصلى" فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله, وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} من سورة البقرة, ولهذا قال {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولا خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم, لتكونوا يوم القيامة {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها, فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم, والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك, وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.
وقوله {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي قابلوا هذه النعمة العظيمة(3/289)
بالقيام بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم, ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج, كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة. وقوله {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به {هُوَ مَوْلاكُمْ} أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء. قال وهيب بن الورد يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت, أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق, وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي, فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم, والله اعلم.
آخر تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة.(3/290)
سورة المؤمنون
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مّعْرِضُونَ وَالّذِينَ هُمْ لِلزّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاّ عَلَىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىَ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرني يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري ؟ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل, فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: "اللهم زدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا, وأعطنا ولا تحرمنا, وآثرنا ولا تؤثر علينا, وارض عنا وأرضنا - ثم قال - لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى ختم العشر, ورواه الترمذي في تفسيره, والنسائي في الصلاة من حديث عبد الرزاق به, وقال الترمذي: منكر لا نعرف أحداً رواه غير يونس بن سليم, ويونس لا نعرفه.
وقال النسائي في تفسيره: أنبأنا قتيبة بن سعيد, حدثنا جعفر عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فقرأت {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حتى انتهت إلى - وَالّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم: لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها وقال لها: تكلمي, فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} قال كعب الأحبار: لما أعد لهم من الكرامة فيها. وقال أبو العالية: فأنزل الله ذلك في كتابه.
وقد روي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً, فقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا المغيرة بن سلمة, حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة, عن أبي سعيد قال: خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وغرسها وقال لها: تكلمي, فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فدخلتها الملائكة, فقالت: طوبى لك منزل الملوك, ثم قال: وحدثنا بشر بن آدم, وحدثنا يونس بن عبيد الله العمري, حدثنا عدي بن الفضل, حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وملاطها المسك - قال البزار: ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث - حائط الجنة لبنة ذهب ولبنة فضة, وملاطها المسك. فقال لها: تكلمي, فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ(3/291)
الْمُؤْمِنُونَ} فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك" ثم قال البزار: لا نعلم أحداً رفعه إلا عدي بن الفضل وليس هو بالحافظ. وهو شيخ متقدم الموت.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن علي, حدثنا هشام بن خالد, حدثنا بقية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم قال لها: تكلمي, فقالت {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}" بقية عن الحجازيين ضعيف. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث, حدثنا حماد بن عيسى العبسي, عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس يرفعه "لما خلق الله جنة عدن بيده, ودلى فيها ثمارها, وشق فيها أنهارها, ثم نظر إليها فقال: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} قال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل".
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن المثنى البزار, حدثنا محمد بن زياد الكلبي, حدثنا يعيش بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله جنة عدن بيده: لبنة من درة بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء, ملاطها المسك, وحصباؤها اللؤلؤ, وحشيشها الزعفران, ثم قال لها انطقي, قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فقال الله: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح, وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {خَاشِعُونَ} خائفون ساكنون, وكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة والزهري. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب, وكذا قال إبراهيم النخعي. وقال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم, فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح, وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم, إلى السماء في الصلاة, فلما نزلت هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه, فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ثم روى ابن جرير عنه وعن عطاء بن أبي رباح أيضاً مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الآية, والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لما واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها, وحينئذ تكون راحة له وقرة عين, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حبب إليّ الطيب والنساء, وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال أرحنا بالصلاة" وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار, فحضرت الصلاة, فقال: يا جارية ائتني بوضوء لعلي أصلي فأستريح, فرآنا أنكرنا عليه ذلك, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة".
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} أي عن الباطل, وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم, والمعاصي كما قاله آخرون, وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال, كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} قال قتادة: أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك. وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال, مع أن هذه الآية مكية, وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة, والظاهر أن التي(3/292)
فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة, وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة, كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس, كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} وكقوله {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} على أحد القولين في تفسيرهما, وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال, فإنه من جملة زكاة النفوس, والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا, والله أعلم.
وقوله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط, لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت أيمانهم من السراري ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج, ولهذا قال: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} أي غير الأزواج والإماء {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أي المعتدون. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا سعيد عن قتادة أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت: تأولت آية من كتاب الله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها, قال: فضرب العبد وجز رأسه, وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم, هذا أثر غريب منقطع, ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة وهو ههنا أليق, وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها, والله أعلم.
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال: فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين, وقد قال الله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري عن مسلمة بن جعفر عن حسان بن حميد, عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العالمين, ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده, والفاعل والمفعول به, ومدمن الخمر, والضارب والديه حتى يستغيثا, والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه, والناكح حليلة جاره" هذا حديث غريب, وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته, والله أعلم.
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها, وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان". وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يواظبون عليها في مواقيتها, كما قال ابن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أي ؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أي ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". أخرجاه في الصحيحين. وفي مستدرك الحاكم قال: "الصلاة في أول وقتها".
وقال ابن مسعود ومسروق في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يعني في مواقيت الصلاة, وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس وسعيد بن جبير وعكرمة. وقال قتادة: على مواقيتها وركوعها وسجودها, وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا, واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة, ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" ولما وصفهم(3/293)
تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس, فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة, ومنه تفجر أنهار الجنة, وفوقه عرش الرحمن".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة, ومنزل في النار, فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله, فذلك قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}" وقال ابن جريج عن ليث عن مجاهد {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} قال: ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار, فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ويهدم بيته الذي في النار, وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة ويبني بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك, فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له, فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة, وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له, أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل بل أبلغ من هذا أيضاً, وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال, فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى", وفي لفظ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً, فيقال: هذا فكاكك من النار" فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات, أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: فحلف له, قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} وكقوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد قال مجاهد وسعيد بن جبير, الجنة بالرومية هي الفردوس, وقال بعض السلف: لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب, فا لله أعلم.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين, وهو آدم عليه السلام خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون. وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي يحيى عن ابن عباس {مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ} قال: من صفوة الماء. وقال مجاهد: من سلالة أي من مني آدم. وقال ابن جرير: إنما سمي آدم طيناً لأنه مخلوق منه وقال قتادة: استل آدم من الطين وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق, فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب, وهو الصلصال من الحمإ المسنون, وذلك مخلوق من التراب كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا أسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب وبين ذلك" وقد رواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به نحوه. وقال الترمذي: حسن(3/294)
صحيح {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} هذا الضمير عائد على جنس الإنسان كما قال في الآية الأخرى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} أي ضعيف, كما قال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} يعني الرحم معد لذلك مهيأ له {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال وصفة إلى صفة, ولهذا قال ههنا: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أي ثم صيرنا النطفة, وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره, وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة, فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة, قال عكرمة: وهي دم {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط {فخلقنا المضغة عظاماً} يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
وقرأ آخرون {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} قال ابن عباس: وهو عظم الصلب, وفي الصحيح من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب" {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} أي وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقاً آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا جعفر بن مسافر, حدثنا يحيى بن حسان, حدثنا النضر يعني ابن كثير مولى بني هاشم, حدثنا زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا نمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكاً فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث, فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يعني نفخنا فيه الروح, وروي عن أبي سعيد الخدري أنه نفخ الروح, قال ابن عباس {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يعني فنفخنا فيه الروح, وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد, واختاره ابن جرير.
وقال العوفي عن ابن عباس {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يعني ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلاً ثم نشأ صغيراً, ثم احتلم ثم صار شاباً, ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً. وعن قتادة والضحاك نحو ذلك, ولا منافاة فإنه من ابتداء نفخ الروح فيه شرع في هذه التنقلات والأحوال, والله أعلم. قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: رزقه, وأجله, وعمله, وهل هو شقي أو سعيد, فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها" أخرجاه من حديث سليمان بن مهران الأعمش.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود - إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر, فتمكث أربعين يوماً, ثم تعود في الرحم فتكون علقة. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسين بن الحسن, حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه, فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي, فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي, قال: فجاءه حتى جلس,(3/295)
فقال: يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ فقال: "يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة, فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب, وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم" فقال: هكذا كان يقول من قبلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة, فيقول: يا رب ماذا ؟ أشقي أم سعيد, أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله, فيكتبان, ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه, ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص" وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار به نحوه, ومن طريق أخرى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري بنحوه, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن عبدة, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وكل بالرحم ملكاً, فيقول: أي رب نطفة, أي رب علقة, أي رب مضغة, فإذا أراد الله خلقها قال: أي رب, ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ قال: فذلك يكتب في بطن أمه" أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.
وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق, قال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا علي بن زيد عن أنس قال: قال عمر, يعني ابن الخطاب رضي الله عنه: وافقت ربي ووافقني في أربع: نزلت هذه الآية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية, قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين, فنزلت {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا شيبان عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي, عن زيد بن ثابت الأنصاري قال: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ - إلى قوله - خَلْقاً آخَرَ} فقال معاذ {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له معاذ: مم تضحك يا رسول الله ؟ فقال: "بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين" وفي إسناد جابر بن يزيد الجعفي ضعيف جداً, وفي خبره هذا نكارة شديدة, وذلك أن هذه السورة مكية, وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة, وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضاً, فالله أعلم. وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} يعني النشأة الآخرة {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} يعني يوم المعاد. وقيام الأرواح إلى الأجساد, فيحاسب الخلائق, ويوفى كل عامل عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}
لما ذكر تعالى خلق الإنسان, عطف بذكر خلق السموات السبع, وكثيراً ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض مع خلق الإنسان كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وهكذا في أول {ألم} السجدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها صبيحة يوم الجمعة في أولها خلق السموات والأرض, ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين, وفيها أمر المعاد والجزاء وغير ذلك من المقاصد.
وقوله: {سَبْعَ طَرَآئِقَ} قال مجاهد: يعني السموات السبع, وهذه كقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ(3/296)
طِبَاقاً} {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وهكذا قال ههنا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أي ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها, وما ينزل من السماء وما يعرج فيها, وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير, وهو سبحانه لا يحجب عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً, ولا جبل إلا يعلم ما في وعره, ولا بحر إلا يعلم ما في قعره, يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنّا عَلَىَ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنّاتٍ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدّهْنِ وَصِبْغٍ للآكلين وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}
يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر, أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران, ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار, بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به, حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها, يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر ويقال لها الأرض الجرز, يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها, فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر فيسقي أرض مصر ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه, لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور.
وقوله: {فَأَسْكَنّاهُ فِي الأرْضِ} أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض, وجعلنا في الأرض قابلية له تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى. وقوله: {وَإِنّا عَلَىَ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا, ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والقفار لفعلنا, ولو شئنا لجعلناه أجاجاً لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا, ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل ينجر على وجهها لفعلنا, ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا, ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذباً فراتاً زلالاً, فيسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض, فيفتح العيون والأنهار ويسقي به الزروع والثمار, وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم, وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون, فله الحمد والمنة.
وقوله: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنّاتٍ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي ذات منظر حسن. وقوله: {مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي فيها نخيل وأعناب, وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا فرق بين الشيء وبين نظيره, وكذلك في حق كل أهل إقليم عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره. وقوله: {لّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أي من جميع الثمار, كما قال: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. وقوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} كأنه معطوف على شيء مقدر تقديره تنظرون إلى حسنه ونضجه ومنه تأكلون.
وقوله:(3/297)
{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ} يعني الزيتونة, والطور هو الجبل. وقال بعضهم: إنما يسمى طوراً إذا كان فيه شجر, فإن عري عنها سمي جبلاً لا طوراً, والله أعلم, وطور سيناء هو طور سينين, وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام, وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون. وقوله: {تَنبُتُ بِالدّهْنِ} قال بعضهم: الباء زائدة, وتقديره تنبت الدهن كما في قول العرب: ألقى فلان بيده, أي يده, وأما على قول من يضمن الفعل, فتقديره تخرج بالدهن أو تأتي بالدهن, ولهذا قال: {وَصِبْغٍ} أي أدم, قاله قتادة, {للآكلين} أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ, كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن عبد الله بن عيسى عن عطاء الشامي, عن أبي أسيد واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وادهنوا به, فإنه من شجرة مباركة".
وقال عبد بن حميد في مسنده وتفسيره: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة", ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه عن عبد الرزاق. قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه, وكان يضطرب فيه, فربما ذكر فيه عمر, وربما لم يذكره. قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي حدثنا سفيان بن عيينة حدثني الصعب بن حكيم بن شريك بن نميلة عن أبيه عن جده قال: ضفت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة عاشوراء فأطعمني من رأس بعير بارد, وأطعمنا زيتاً, وقال: هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع, وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم, ويأكلون من حملانها ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها, ويركبون ظهورها, ويحملونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم, كما قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لأنزَلَ مَلاَئِكَةً مّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِيَ آبَآئِنَا الأوّلِينَ إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنّةٌ فَتَرَبّصُواْ بِهِ حَتّىَ حِينٍ}
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام حين بعثه إلى قومه لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد, وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله {فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ} أي ألا تخافون من الله في إشراككم به ؟ فقال الملأ وهم السادة والأكابر منهم {مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضّلَ عَلَيْكُمْ} يعنون يترفع عليكم, ويتعاظم بدعوى النبوة, وهو بشر مثلكم, فكيف أوحي إليه دونكم {وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لأنزَلَ مَلاَئِكَةً} أي لو أراد أن يبعث نبياً لبعث ملكاً من عنده ولم يكن بشراً ما سمعنا بهذا, أي ببعثة البشر في آبائنا الأولين, يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم في الدهور الماضية. وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي مجنون فيما يزعمه من أن الله أرسله إليكم واختصه من بينكم بالوحي {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي انتظروا به ريب المنون, واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه.(3/298)
{قَالَ رَبّ انصُرْنِي بِمَا كَذّبُونِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التّنّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي نَجّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَقُل رّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات وَإِن كُنّا لَمُبْتَلِينَ}
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا ربه ليستنصره على قومه, كما قال تعالى مخبراً عنه في الآية الأخرى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} وقال ههنا: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها, وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين, أي ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك, وأن يحمل فيها أهله {إِلاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} أي من سبق عليه القول من الله بالهلاك, وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته, والله أعلم.
وقوله: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ} أي عند معاينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك وشفقة عليهم, وطمع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون, فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان, وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن إعادة ذلك ههنا. وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي نَجّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} كما قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} وقد امتثل نوح عليه السلام هذا, كما قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} فذكر الله تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه, وقال تعالى: { وَقُل رّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}. وقوله: {إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات} أي إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لآيات أي لحججاً ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاؤوا به عن الله تعالى, وأنه تعالى فاعل لما يشاء قادر على كل شيء عليم بكل شيء. وقوله: {وَإِن كُنّا لَمُبْتَلِينَ} أي لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين.
{ثُمّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ وَقَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِهِ الّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنّكُمْ إِذاً لّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنّكُمْ إِذَا مِتّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنّكُمْ مّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ افتَرَىَ عَلَىَ اللّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبّ انْصُرْنِي بِمَا كَذّبُونِ قَالَ عَمّا قَلِيلٍ لّيُصْبِحُنّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصّيْحَةُ بِالْحَقّ فَجَعَلْنَاهُمْ(3/299)
غُثَآءً فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظّالِمِينَ}
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرناً آخرين, قيل: المراد بهم عاد, فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم, وقيل: المراد بهؤلاء ثمود لقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} وأنه تعالى أرسل فيهم رسولاً منهم, فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له, فكذبوه وخالفوه وأبوا عن اتباعه لكونه بشراً مثلهم, واستنكفوا عن اتباع رسول بشري, وكذبوا بلقاء الله في القيامة وأنكروا المعاد الجثماني وقالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعيد بعيد ذلك {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي فيما جاءكم به من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أي استفتح عليهم الرسول واستنصر ربه عليهم, فأجاب دعاءه {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أي بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} أي وكانوا يستحقون ذلك من الله بكفرهم وطغيانهم, والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصرصر العاصف القوي الباردة {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} . وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} أي صرعى هلكى كغثاء السيل, وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا ينتفع بشيء منه , {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} كقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} أي بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله, فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم.
{ثُمّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلّ مَا جَآءَ أُمّةً رّسُولُهَا كَذّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ}
يقول تعالى: {ثُمّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} أي أمماً وخلائق {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} يعني بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ, وعلمه قبل كونهم أمة بعد أمة, وقرناً بعد قرن, وجيلاً بعد جيل, وخلفاً بعد سلف, {ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} قال ابن عباس يعني يتبع بعضهم بعضاً, وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}. وقوله: {كُلّمَا جَآءَ أُمّةً رّسُولُهَا كَذّبُوهُ} يعني جمهورهم وأكثرهم, كقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. وقوله: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أي أهلكناهم كقوله: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح}. وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي أخباراً وأحاديث للناس كقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}.
{ثُمّ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ}
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى فرعون وملئه بالآيات والحجج الدامغات والبراهين القاطعات, وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما لكونهما بشرين,(3/300)
كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر, تشابهت قلوبهم فأهلك الله فرعون وملأه, وأغرقهم في يوم واحد أجمعين, وأنزل على موسى الكتاب وهو التوراة, فيها أحكامه وأوامره ونواهيه, وذلك بعد أن قصم الله فرعون والقبط وأخذهم أخذ عزيز مقتدر, وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين, كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليهما السلام أنه جعلهما آية للناس, أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء, فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم, وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر, وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى. وقوله: {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال الضحاك عن ابن عباس: الربوة المكان المرتفع من الأرض, وهو أحسن ما يكون فيه النبات, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة.
قال ابن عباس: وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ} يقول ذات خصب {وَمَعِينٍ} يعني ماء ظاهراً, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة. وقال مجاهد: ربوة مستوية, وقال سعيد بن جبير {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} استوى الماء فيها. وقال مجاهد وقتادة {وَمَعِينٍ} الماء الجاري. ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة: من أي أرض هي ؟ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ليس الربى إلا بمصر, والماء حين يسيل يكون الربى عليها القرى, ولولا الربى غرقت القرى, وروي عن وهب بن منبه نحو هذا, وهو بعيد جداً.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال: هي دمشق, قال: وروي عن عبد الله بن سلام والحسن وزيد بن أسلم وخالد بن معدان نحو ذلك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال: أنهار دمشق. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ} قال: عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها. وقال عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقول في قول الله تعالى: {إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال: هي الرملة من فلسطين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي, حدثنا رواد بن الجراح, حدثنا عبد الله بن عباد الخواص أبو عتبة, حدثنا الشيباني عن ابن وعلة عن كريب السحولي عن مرة البهذي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: "إنك تموت بالربوة, فمات بالرملة", وهذا حديث غريب جداً وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال: المعين الماء الجاري, وهو النهر الذي قال الله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} وكذا قال الضحاك وقتادة {إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} وهو بيت المقدس, فهذا - والله أعلم - هو الأظهر, لأنه المذكور في الآية الأخرى والقرآن يفسر بعضه بعضاً, وهذا أولى ما يفسر به, ثم الأحاديث الصحيحة ثم الآثار.
{يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّىَ حِينٍ(3/301)
أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ}
يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال والقيام بالصالح من الأعمال, فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح, فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام, وجمعوا بين كل خير قولاً وعملاً ودلالةً ونصحاً, فجزاهم الله عن العباد خيراً. قال الحسن البصري في قوله: {يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ} قال: أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم, ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه. وقال سعيد بن جبير والضحاك {كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ} يعني الحلال. وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه, وفي الصحيح "وما من نبي إلا رعى الغنم" قالوا: وأنت يا رسول الله ؟ قال: "نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ". وفي الصحيح "إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده". وفي الصحيحين "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب القيام إلى الله قيام داود, كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً, ولا يفر إذا لاقى".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع, حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس قال: بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم, وذلك في أول النهار وشدة الحر, فرد إليها رسولها أنى كانت لك الشاة ؟ فقالت: اشتريتها من مالي, فشرب منه, فلما كان من الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن, مرثية لك من طول النهار, وشدة الحر, فرددت إلي الرسول فيه, فقال لها: "بذلك أمرت الرسل: أن لا تأكل إلا طيباً, ولا تعمل إلا صالحاً". وقد ثبت في صحيح مسلم وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد واللفظ له, من حديث فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال: { يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك" وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن مرزوق.
وقوله: {وَإِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً} أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة, وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ولهذا قال {وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ} وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء, وأن قوله {أُمّةً وَاحِدَةً} منصوب على الحال. وقوله: {فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء {كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون, ولهذا قال متهدداً لهم ومتوعداً: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أي في غيهم وضلالهم {حَتّىَ حِينٍ} أي إلى حين حينهم وهلاكهم, كما قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} وقال تعالى: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ} يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم, بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاء, ولهذا قال: {بَلْ لا يَشْعُرُونَ} كما قال تعالى: {فَلا(3/302)
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية. وقال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ} الآية, وقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً - إلى قوله - عَنِيداً} وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} الآية, والآيات في هذا كثيرة.
قال قتادة في قوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} قال: مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم, يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم, ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني, حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم, وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب, ولا يعطي الدين إلا لمن أحب, فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه, والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه, ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه" قالوا: وما بوائقه يا رسول الله ؟ قال: "غشمه وظلمه, ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه, ولا يتصدق به فيقبل منه, ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار, إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن, إن الخبيث لا يمحو الخبيث".
{إِنّ الّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مّشْفِقُونَ وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}
يقول تعالى: {إِنّ الّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مّشْفِقُونَ} أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون منه وجلون من مكره بهم, كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة, وإن الكافر جمع إساءة وأمناً {وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية, كقوله تعالى إخباراً عن مريم عليها السلام: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أي أيقنت أن ما كان, إنما هو عن قدر الله وقضائه, وما شرعه الله فهو إن كان أمراً فمما يحبه ويرضاه, وإن كان نهياً فهو مما يكرهه ويأباه, وإن كان خيراً فهو حق, كما قال الله: {وَالّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} أي لا يعبدون معه غيره, بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً, وأنه لا نظير له ولا كفء له.
وقوله: {وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ} أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء, وهذا من باب الإشفاق والاحتياط, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا مالك بن مغول, حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال: "لا يا بنت الصديق, ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل" وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم من حديث مالك بن مغول بنحوه, وقال: "لا يا ابنة الصديق, ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وقال الترمذي: وروي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن(3/303)
سعيد عن أبي حازم, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا, وهكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والحسن البصري في تفسير هذه الآية.
وقد قرأ آخرون هذه الآية {وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون, وروي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها كذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا صخر بن جويرية, حدثنا إسماعيل المكي, حدثنا أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها, فقالت: مرحباً بأبي عاصم, ما يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا ؟ فقال: أخشى أن أملك, فقالت: ما كنت لتفعل ؟ قال: جئت لأسألك عن آية من كتاب الله عز وجل: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قال: أية آية ؟ قال: {وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} {وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} فقالت: أيتهما أحب إليك ؟ فقلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعاً, أو الدنيا وما فيها. قالت وما هي ؟ فقلت: {وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها, وكذلك أنزلت, ولكن الهجاء حرف, فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف, والمعنى على القراءة الأولى, وهي قراءة الجمهور السبعة وغيرهم أظهر, لأنه قال: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} فجعلهم من السابقين, ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك أن لا يكونوا من السابقين بل من المقتصدين أو المقصرين, والله أعلم.
{وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتّىَ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنّكُمْ مّنّا لاَ تُنصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها, أي إلا ما تطيق حمله والقيام به, وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء, ولهذا قال: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ} يعني كتاب الأعمال, { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي لا يبخسون من الخير شيئاً, وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين, ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي في غفلة وضلالة {مّنْ هَذَا}, أي القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك {هم لها عاملون} قال: لا بد أن يعملوها, كذا روي عن مجاهد والحسن وغير واحد. وقال آخرون {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} أي قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة, لتحق عليهم كلمة العذاب, وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهو ظاهر قوي حسن, وقد قدمنا في حديث ابن مسعود: "فو الذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها".
وقوله: {حَتّىَ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ} يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا عذاب الله وبأسه ونقمته بهم {إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ} أي يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً} الآية, وقال تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}. وقوله {لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ(3/304)
إِنّكُمْ مّنّا لاَ تُنصَرُونَ} أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر لزم الأمر ووجب العذاب, ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}.
وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} في تفسيره قولان: (أحدهما) أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه استكباراً عليه, واحتقاراً له ولأهله, فعلى هذا الضمير في به فيه ثلاثة أقوال: (أحدها) أنه الحرم أي مكة, ذموا لأنهم كانوا يسمرون فيه بالهجر من الكلام.
(والثاني) أنه ضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام: إنه سحر, إنه شعر, إنه كهانة, إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
(والثالث) أنه محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة, ويضربون له الأمثال الباطلة, من أنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو كذاب أو مجنون, فكل ذلك باطل, بل هو عبد الله ورسوله الذي أظهره الله عليهم وأخرجهم من الحرم صاغرين أذلاء. وقيل المراد بقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به, كما قال النسائي من التفسير في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان, أخبرنا عبد الله عن إسرائيل عن عبد الأعلى أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} فقال: مستكبرين بالبيت, يقولون: نحن أهله سامراً قال: كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه, وقد أطنب ابن أبي حاتم ههنا بما هذا حاصله.
{أَفَلَمْ يَدّبّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأوّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتّبَعَ الْحَقّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مّعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ وَإِنّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ وَإِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصّرَاطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ لّلَجّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
يقول تعالى منكراً على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير, فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. وقال قتادة {أَفَلَمْ يَدّبّرُواْ الْقَوْلَ} إذ والله يجدون في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك. ثم قال منكراً على الكافرين من قريش: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي أفهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه, ولهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته, وهكذا قال(3/305)
المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته, وكانوا بعد كفاراً لم يسلموا, ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك. وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ} يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول, وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ولهذا قال: {بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ} يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة والله أعلم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له: "أسلم" فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "وإن كنت كارها". وذكر لنا أنه لقي رجلاً فقال له: "أسلم" فتصعده ذلك, وكبر عليه, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث, فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه, فدعاك إلى طريق واسع سهل, أكنت تتبعه ؟" قال: نعم. قال: "فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه, وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه" وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له: "أسلم" فتصعده ذلك, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو كان فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك, وإذا ائتمنته أدى إليك, أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك ؟" قال: بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "كذاكم أنتم عند ربكم".
وقوله: {وَلَوِ اتّبَعَ الْحَقّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ} قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل, والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى, وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافها, كما أخبر عنهم في قولهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ثم قال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} وقال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ} الآية. وقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} ففي هذا كله تبين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم, وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه, تعالى وتقدس, فلا إله غيره ولا رب سواه, ولهذا قال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي القرآن {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مّعْرِضُونَ}.
وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} قال الحسن: أجراً. وقال قتادة: جعلاً {فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ} أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى, بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه, كما قال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً}
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان, فقعد أحدهما عند رجليه, والأخر عند رأسه, فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته, فقال: إن مثل هذا(3/306)
ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة, فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به, فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة, فقال: أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضاً رواء تتبعوني ؟ فقالوا: نعم, قال: فانطلق بهم وأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء, فأكلوا وشربوا وسمنوا, فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني ؟ قالوا: بلى, قال: فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني, قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه, وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري, حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار, وتغلبونني تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب, فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض, فتردون علي معاً وأشتاتاً أعرفكم بسيماكم وأسمائكم, كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله, فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال, فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي أي رب أمتي, فيقال: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم, فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيراً له رغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً لها حمحمة فينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت" وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن الإسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول, لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي (قلت) بل قد روى عنه أيضاً أشعث بن إسحاق, وقال فيه يحيى بن معين: صالح, ووثقه النسائي وابن حبان.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} أي لعادلون جائرون منحرفون, تقول العرب: نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها. وقوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولا ستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم, كما قال تعالى {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ - إلى قوله - بِمَبْعُوثِينَ} فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون, قال الضحاك عن ابن عباس: كل ما فيه {لو} فهو مما لا يكون أبداً.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرّعُونَ حَتّىَ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَهُوَ الّذِيَ أَنْشَأَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأوّلُونَ قَالُوَاْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ(3/307)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ}
يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد {فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرّعُونَ} أي فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة, بل استمروا على غيهم وضلالهم {فَمَا اسْتَكَانُواْ}, أي ما خشعوا {وَمَا يَتَضَرّعُونَ} أي ما دعوا, كما قال تعالى: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم} الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن حمزة المروزي, حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبي عن يزيد - يعني النحوي - عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم, فقد أكلنا العلهز - يعني الوبر والدم - فأنزل الله {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ} الآية, وكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل عن علي بن الحسين عن أبيه به, وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا, فقال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان, حدثني وهب بن عمر بن كيسان قال حبس وهب بن منبه فقال له رجل من الأبناء: ألا أنشدك بيتاً من شعر يا أبا عبد الله ؟ فقال وهب: نحن في طرف من عذاب الله, والله يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرّعُونَ} قال: وصام وهب ثلاثاً متواصلة, فقيل له: ما هذا الصوم يا أبا عبد الله ؟ قال: أحدث لنا فأحدثنا, يعني أحدث لنا الحبس فأحدثنا زيادة عبادة.
وقوله: {حَتّىَ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة, فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون فعند ذلك أبلسوا من كل خير وأيسوا من كل راحة, وانقطعت آمالهم ورجاؤهم, ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة, وهي العقول والفهوم التي يذكرون بها الأشياء ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
وقوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم, كقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر في برئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم, ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم, فلا يترك منهم صغيراً ولا كبيراً, ولا ذكراً ولا أنثى, ولا جليلاً ولا حقيراً, إلا أعاده كما بدأه, ولهذا قال: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يحيي الرمم ويميت الأمم, {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي وعن أمره تسخير الليل والنهار, كل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً, يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما, كقوله: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} الآية.
وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي قد قهر كل شيء, وعز كل شيء وخضع له كل شيء, ثم قال مخبراً عن منكري البعث الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يعنون الإعادة محال, إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلافهم وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إخباراً عنهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} وقال تعالى: {أَوَلَمْ(3/308)
يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} الآيات.
{قُل لّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ فَأَنّىَ تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقّ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو, ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له, ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية, وأنه لا شريك له فيها, ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا غيره معه مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئاً ولا يملكون شيئاً ولا يستبدون بشيء, بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فقال: {قُل لّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَآ ؟} أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلّهِ} أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له, فإذا كان ذلك {قُلْ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ} أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرزاق لا لغيره {قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات, ومن هو رب العرش العظيم, يعني الذي هو سقف المخلوقات, كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سمواته هكذا" وأشار بيده مثل القبة, وفي الحديث الآخر "ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة, وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة" ولهذا قال بعض السلف: إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة, وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة, وقال الضحاك عن ابن عباس: إنما سمي عرشاً لارتفاعه.
وقال الأعمش عن كعب الأحبار: إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلق بين السماء والأرض. وقال مجاهد: ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فلاة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العلاء بن سالم, حدثنا وكيع, حدثنا سفيان الثوري عن عمار الدّهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: العرش لا يقدر قدره أحد, وفي رواية: إلا الله عز وجل, وقال بعض السلف: العرش من ياقوتة حمراء, ولهذا قال ههنا: {وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي الكبير. وقال في آخر السورة {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} أي الحسن البهي, فقد جمع العرش بين العظمة في الإتساع والعلو والحسن الباهر, ولهذا قال من قال إنه من ياقوتة حمراء. وقال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار, نور العرش من نور وجهه.
وقوله: {سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتّقُونَ} أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم, أفلا(3/309)
تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب التفكر والإعتبار: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا عبيد الله بن جعفر, أخبرني عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل معها ابن لها يرعى غنماً, فقال لها ابنها: يا أمه من خلقك ؟ قالت: الله. قال فمن خلق أبي. قالت: الله. قال: فمن خلقني ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق السموات ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الأرض ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الجبل ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت: الله. قال: فإني أسمع لله شأناً ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع. قال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحدثنا هذا الحديث, قال عبد الله بن دينار: كان ابن عمر كثيراً ما يحدثنا بهذا الحديث, قلت: في إسناده عبد الله بن جعفر المديني والد الإمام علي بن المديني, وقد تكلموا فيه, فالله أعلم.
{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ} أي بيده الملك {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي متصرف فيها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا والذي نفسي بيده" وكان إذا اجتهد في اليمين قال: "لا ومقلب القلوب" فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً لا يحفر في جواره, وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه, ولهذا قال الله: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أي وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه, الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه, الذي لا يمانع ولا يخالف, وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وقال الله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي لا يسأل عما يفعل لعظمته وكبريائه وغلبته وقهره وحكمته وعدله, فالخلق كلهم يسألون عن أعمالهم, كما قال تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}.
وقوله: {سَيَقُولُونَ لِلّهِ} أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له {قُلْ فَأَنّىَ تُسْحَرُونَ} أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك, ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقّ} وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله, وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك {وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك, كما قال في آخر السورة {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال, وإنما يفعلون ذلك اتباعاً لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال, كما قال الله عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.
{مَا اتّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لّذَهَبَ كُلّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ}
ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة, فقال تعال: {مَا اتّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لّذَهَبَ كُلّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ} أي لو قدر تعدد الآلهة لانفرد كل منهم بما خلق فما كان ينتظم الوجود, والمشاهد أن الوجود منتظم متسق كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه, فيعلو بعضهم على بعض والمتكلمون ذكروا هذا المعنى, وعبروا عنه بدليل التمانع, وهو أنه لو فرض صانعان فصاعداً فأراد واحد تحريك جسم والآخر أراد سكونه, فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين, والواجب لا يكون عاجزاً ويمتنع اجتماع مراديهما(3/310)
للتضاد, وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد, فيكون محالاً فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر, كان الغالب هو الواجب والآخر المغلوب ممكناً, لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهوراً, ولهذا قال تعالى: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ} أي عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علواً كبيراً {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ} أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه {فَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ} أي تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل عما يقول الظالمون والجاحدون.
{قُل رّبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَإِنّا عَلَىَ أَن نّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ}
يقول تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم {رّبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ} أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك, فلا تجعلني فيهم كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّني إليك غير مفتون" . وقوله تعالى: {وَإِنّا عَلَىَ أَن نّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} إي لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن. ثم قال تعالى مرشداً له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه, ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة, فقال تعالى: {ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ} وهذا كما قال في الآية الأخرى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} الآية, إي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة أو الصفة {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} إي على أذى الناس فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم القبيح {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: {وَقُلْ رّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّياطِينِ} أمره الله أن يستعيذ من الشياطين لأنهم لا تنفع معهم الحيل ولا ينقادون بالمعروف, وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه". وقوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ} أي في شيء من أمري, ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور, ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهرم, وأعوذ بك الهدم ومن الغرق, وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت " وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد, أخبرنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عد جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع: "باسم الله, أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده, ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" قال فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ومن كان منهم صغيراً لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث محمد بن إسحاق. وقال الترمذي: حسن غريب.
{حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(3/311)
يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى, وقيلهم عند ذلك وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته, ولهذا قال: {رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ} كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ - إلى قوله - وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وقال تعالى {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ - إلى قوله - مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا - إلى قوله - وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقال تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} وقال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} والآية بعدها. وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار ويوم النشور ووقت العرض على الجبار, وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب الجحيم.
وقوله ههنا: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} كلا حرف ردع وزجر, أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه. وقوله تعالى: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم, ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله كلا, أي لأنها كلمة, أي سؤاله الرجوع ليعمل صالحاً هو كلام منه وقول لا عمل معه, ولو رد لما عمل صالحاً ولكان يكذب في مقالته هذه, كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} قال قتادة: والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة, ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات, ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز وجل, فرحم الله امرءاً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار.
وقال محمد بن كعب القرظي {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} قال: فيقول الجبار: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة: إذا قال الكافر رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً, يقول الله تعالى: كلا كذبت. وقال قتادة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} قال: كان العلاء بن زياد يقول: لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله, فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله, فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها, ولا قوة إلا بالله, وعن محمد بن كعب القرظي نحوه. وقال محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن يوسف, حدثنا فضيل - يعني ابن عياض - عن ليث عن طلحة بن مصرف, عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: إذا وضع - يعني الكافر - في قبره فيرى مقعده من النار, قال: فيقول: رب ارجعون أتوب وأعمل صالحاً, قال: فيقال قد عمرت ما كنت معمراً, قال: فيضيق عليه قبره ويلتئم, فهو كالمنهوش ينام ويفزع, تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها.
وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن علي, حدثني سلمة بن تمام, حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم, حية عند رأسه وحية عند رجليه يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه, فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ} يعني أمامهم. وقال مجاهد: البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والآخرة. وقال محمد بن كعب: البرزخ ما بين(3/312)
الدنيا والآخرة, ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم. وقال أبو صخر: البرزخ المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الآخرة, فهم مقيمون إلى يوم يبعثون, وفي قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ, كما قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} وقال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}. وقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث, كما جاء في الحديث "فلا يزال معذباً فيها" أي في الأرض.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}
يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور, وقام الناس من القبور {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرني والد لولده ولا يلوي عليه, قال الله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} أي لا يسأل القريب عن قريبه وهو يبصره ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره, وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة, قال الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} الآية, وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين, ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجىء فليأخذ حقه - قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيراً, ومصداق ذلك في كتاب الله قال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور - هو ابن مخرمة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة بضعة مني, يغيظني ما يغيظها, وينشطني ما ينشطها, وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري" وهذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني, يريبني ما يريبها, ويؤذيني ما آذاها".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا زهير عن عبد الله بن محمد عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: "ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه ؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة, وإني أيها الناس فرط لكم إذا جئتم" قال رجل: يا رسول الله أنا فلان بن فلان, فأقول لهم: " أما النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى" وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" رواه الطبراني والبزار والهيثم بن كليب والبيهقي, والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفاً إعظاماً وإكراماً رضي الله عنه, فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي القاسم البغوي: حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع, حدثنا(3/313)
إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" وروي فيها من طريق عمار بن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً "سألت ربي عز وجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلي أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك" ومن حديث عمار بن سيف عن إسماعيل عن عبد الله بن عمرو.
وقوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة, قاله ابن عباس, {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة, وقال ابن عباس: أولئك الذين فازوا بما طلبوا, ونجوا من شر ما منه هربوا {وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ} أي ثقلت سيئاته على حسناته {فأُوْلَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ} أي خابوا وهلكوا وفازوا بالصفقة الخاسرة. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث, حدثنا داود بن المحبر, حدثنا صالح المري عن ثابت البناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان عن أنس بن مالك يرفعه قال: إن لله ملكاً موكلاً بالميزان, فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان, فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً, وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً, إسناده ضعيف فإن داود بن المحبر ضعيف متروك, ولهذا قال تعالى: {فِي جَهَنّمَ خَالِدُونَ} أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ} كما قال تعالى: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} وقال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء, حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها, ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب" وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القزاز, حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان, حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القطان, حدثنا سعيد بن سعيد المقبري عن أخيه عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ} قال: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.
وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني عابسون. وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال: ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت شفتاه. وقال الإمام أحمد أخبرنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك رحمه الله, أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "{وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} - قال - تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه, وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته " ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به, وقال: حسن غريب.
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ قَالُواْ رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنّا قَوْماً ضَآلّينَ رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَالِمُونَ}(3/314)
هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك, فقال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ} أي قد أرسلت إليكم الرسل, وأنزلت عليكم الكتب, وأزلت شبهكم, ولم يبق لكم حجة, كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - إلى قوله - فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} ولهذا قالوا: {رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنّا قَوْماً ضَآلّينَ} أي قد قامت علينا الحجة, ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها, فضللنا عنها ولم نرزقها. ثم قالوا: {رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَالِمُونَ} أي ارددنا إلى الدنيا, فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة, كما قال: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ - إلى قوله - فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أي لا سبيل إلى الخروج لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.
{قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ إِنّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ فَاتّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتّىَ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ أَنّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ}
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار. يقول {اخْسَئُواْ فِيهَا} أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء, {وَلاَ تُكَلّمُونِ} أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي. قال العوفي عن ابن عباس {اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} قال: هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان المروزي, حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً, ثم يرد عليهم إنكم ماكثون, قال هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك, ثم يدعون ربهم فيقولون {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم {اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} قال: فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة, وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم, قال: فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير وآخرها شهيق.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل, حدثنا أبو الزعراء قال: قال عبد الله بن مسعود: إذا أراد الله تعالى أن لا يخرج منهم أحداً يعني من جهنم, غير وجوههم وألوانهم, فيجيء الرجل من المؤمنين فيشفع فيقول: يا رب, فيقول الله: من عرف أحداً فليخرجه, فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر فلا يعرف أحداً, فيناديه الرجل: يا فلان أنا فلان, فيقول ما أعرفك, قال: فعند ذلك يقولون {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فعند ذلك يقول الله تعالى: {اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد.
ثم قال تعالى مذكراً لهم بذنوبهم في الدنيا وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه, فقال تعالى: {إِنّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ فَاتّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي {حَتّىَ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي حملكم بغضهم على أن نسيتم معاملتي { وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ(3/315)
تَضْحَكُونَ} أي من صنيعهم وعبادتهم, كما قال تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون} أي يلمزونهم استهزاء: ثم أخبر تعالى عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين, فقال تعالى: {إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ} أي على أذاكم لهم واستهزائكم بهم {أَنّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ} بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار.
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدّينَ قَالَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً لّوْ أَنّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}
يقول تعالى منبهاً لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده, ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} أي كم كانت إقامتكم في الدنيا {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدّينَ} أي الحاسبين {قَالَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً} أي مدة يسيرة على كل تقدير {لّوْ أَنّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} إي لما آثرتم الفاني على الباقي ولما تصرفتم لأنفسكم هذا التصرف السيء ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة, فلو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن يونس, حدثنا الوليد, حدثنا صفوان عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه سمعه يخطب الناس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, قال: يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم - قال - لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين, ثم قال: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم, فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم, ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين".
وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا, وقيل: للعبث, أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب, وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل {وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} أي لا تعودون في الدار الآخرة, كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} يعني هملاً. وقوله: {فَتَعَالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ} أي تقدس أن يخلق شيئاً عبثاً, فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك {لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات, ووصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل, كما قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا إسحاق بن سليمان شيخ من أهل العراق, أنبأنا شعيب بن صفوان عن رجل من آل سعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه, ثم قال: أما بعد, أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثاً, ولن تتركوا سدى, وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم, فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته, وحرم جنة عرضها السموات والأرض, ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غداً إلا من حذر هذا اليوم وخافه, وباع نافداً بباق وقليلاً بكثير وخوفاً بأمان, ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين, وسيكون من بعدكم الباقين حتى تردون إلى خير(3/316)
الوارثين ؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل, قد قضى نحبه وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير ممهد ولا موسد, قد فارق الأحباب وباشر التراب, ووجه الحساب, مرتهن بعمله, غني عما ترك, فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم, ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن نصير الخولاني, حدثنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة عن أبي هبيرة عن حسن بن عبد الله أن رجلاً مصاباً مر به عبد الله بن مسعود فقرأ في أذنه هذه الآية {أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ} حتى ختم السورة فبرأ, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بماذا قرأت في أذنه ؟" فأخبره, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال" وروى أبو نعيم من طريق خالد بن نزار عن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} قال: فقرأناها فغنمنا وسلمنا.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي, حدثنا أبو المسيب سالم بن سلام, حدثنا بكر بن حُبيش عن نهشل بن سعيد عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة باسم الله الملك الحق, وما قدروا الله حق قدره, والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة, والسموات مطويات بيمينه, سبحانه وتعالى عما يشركون, باسم الله مجراها ومرساها, إن ربي لغفور رحيم".
{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل رّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ}
يقول تعالى متوعداً من أشرك به غيره وعبد معه سواه, ومخبراً أن من أشرك بالله لا برهان له, أي لا دليل له على قوله, فقال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وهذه جملة معترضة, وجواب الشرط في قوله: {فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ} أي الله يحاسبه على ذلك, ثم أخبر {إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي لديه يوم القيامة لا فلاح لهم ولا نجاة. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ما تعبد ؟" قال: أعبد الله وكذا وكذا حتى عد أصناماً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ؟" قال: الله عز وجل. قال: "فأيهم إذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها ؟". قال: الله عز وجل, قال: "فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه, أم حسبت أن تغلب عليه ؟" قال: أردت شكره بعبادة هؤلاء معه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلمون ولا يعلمون" فقال الرجل بعد ما أسلم: لقيت رجلاً خصمني, هذا مرسل من هذا الوجه, وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسنداً عن عمران بن الحصين عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. وقوله تعالى: {وَقُل رّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ} هذا إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء, فالغفر إذا أطلق ومعناه محو الذنب وستره عن الناس, والرحمة معناها أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.
آخر تفسير سورة المؤمنون.(3/317)
سورة النور
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ لّعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ}
يقول تعالى: هذه {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها {وَفَرَضْنَاهَا}. قال مجاهد وقتادة: أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود. وقال البخاري: ومن قرأ فرضناها, يقول فرضناها عليكم وعلى من بعدكم {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ} أي مفسرات واضحات {لّعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ}, ثم قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد, وللعلماء فيه تفصيل ونزاع, فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكراً وهو الذي لم يتزوج, أو محصناً وهو الذي قد وطى في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل, فأما إذا كان بكراً لم يتزوج, فإن حده مائة جلدة كما في الآية, ويزاد على ذلك أن يغرب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله, فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام: إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب, وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال أحدهما: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفاً - يعني أجيراً - على هذا, فزنى بامرأته, فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة, فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام, وأن على امرأة هذا الرجم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى, الوليدة والغنم رد عليك, وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام, واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا, فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت فرجمها", ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكراً لم يتزوج, فأما إذا كان محصناً وهو الذي قد وطى في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فإنه يرجم.
كما قال الإمام مالك حدثني محمد بن شهاب, أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عباس أخبره أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد, أيها الناس فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق, وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم, فقرأناها ووعيناها, ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده, فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله, فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء, إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف. أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولاً, وهذه قطعة منه فيها مقصودنا ههنا.
وروى الإمام أحمد عن هشيم عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس: حدثني عبد الرحمن بن عوف أن(3/318)
عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول: ألا وإن أناساً يقولون ما بال الرجم ؟ في كتاب الله الجلد, وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده, ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت به وأخرجه النسائي من حديث عبيد الله بن عبد الله به, وقد روى الإمام أحمد أيضاً عن هشيم عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر الرجم, فقال: لا تُخدعن عنه فإنه حد من حدود الله تعالى, ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده, ولولا أن يقول قائلون: زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف وشهد عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمناه بعده, ألا إنه سيكون من بعدكم قومٌ يكذبون بالرجم, وبالدجال وبالشفاعة, وبعذاب القبر, وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا.
وروى أحمد أيضاً عن يحيى القطان عن يحيى الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب "إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم" الحديث رواه الترمذي من حديث سعيد عن عمر, وقال صحيح. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا ابن عون عن محمد هو ابن سيرين, قال: نبئت عن كثير بن الصلت قال: كنا عند مروان وفينا زيد, فقال زيد بن ثابت: كنا نقرأ: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة", قال مروان: ألا كتبتها في المصحف ؟ قال: ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب, فقال: أنا أشفيكم من ذلك, قال: قلنا فكيف ؟ قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكر كذا وكذا وذكر الرجم, فقال: يا رسول الله اكتب لي آية الرجم, قال: "لا أستطيع الآن" هذا أو نحو ذلك. وقد رواه النسائي من حديث محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت عن زيد بن ثابت به, وهذه طرق كلها متعددة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به, والله أعلم.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زنت مع الأجير, ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية, وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم جلدهم قبل الرجم, وإنما وردت الأحاديث الصحاح المتعددة الطرق والألفاظ بالإقتصار على رجمهم وليس فيها ذكر الجلد, ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء, وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله, وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية, والرجم للسنة.
كما رُويَ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما أتى بسراحة, وكانت قد زنت وهي محصنة, فجلدها يوم الخميس, ورجمها يوم الجمعة, فقال: جلدتها بكتاب الله, ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة ومسلم من حديث قتادة عن الحسن عن حطّان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً, البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام, والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي في حكم الله, أي لا ترحموهما وترأفوا بهما في شرع الله, وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية على إقامة الحد, وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك. قال مجاهد {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قال: إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل, وكذا روي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح. وقد جاء في الحديث "تعافوا الحدود فيما بينكم, فما بلغني من حد فقد وجب", وفي الحديث الآخر "لحد يقام في(3/319)
الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً". وقيل المراد {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم, وليس المراد الضرب المبرح.
قال عامر الشعبي {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قال: رحمة في شدة الضرب. وقال عطاء: ضرب ليس بالمبرح. وقال سعيد بن أبي عروبة عن حماد بن أبي سليمان: يجلد القاذف وعليه ثيابه والزاني تخلع ثيابه, ثم تلا {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فقلت هذا في الحكم ؟ قال: هذا في الحكم, والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة الضرب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمرو عن ابن أبي مليكة, عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها, قال نافع: أراه قال وظهرها, قال قلت {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قال: يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها, ولا أن أجعل جلدها في رأسها, وقد أوجعت حين ضربتها. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي فافعلوا ذلك وأقيموا الحدود على من زنى, وشددوا عليه الضرب ولكن ليس مبرحاً ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك, وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها: فقال: "ولك في ذلك أجر".
وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس, فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما وأنجع في ردعهما, فإن في ذلك تقريعاً وتوبيخاً وفضيحة إذا كان الناس حضوراً. قال الحسن البصري في قوله {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني علانية: ثم قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الطائفة الرجل فما فوقه. وقال مجاهد: الطائفة رجل إلى ألف, وكذا قال عكرمة, ولهذا قال أحمد: إن الطائفة تصدق على واحد, وقال عطاء بن أبي رباح: اثنان, وبه قال إسحاق بن راهويه, وكذا قال سعيد بن جبير {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: يعني رجلين فصاعداً, وقال الزهري: ثلاثة نفر فصاعداً.
وقال عبد الرزاق: حدثني ابن وهب عن الإمام مالك في قوله {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: الطائفة أربعة نفر فصاعداً, لأنه لا يكفي شهادة في الزنا دون أربعة شهداء فصاعداً, وبه قال الشافعي. وقال ربيعة: خمسة. وقال الحسن البصري: عشرة وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين, أي نفر من المسلمين ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن عثمان, حدثنا بقية قال: سمعت نصر بن علقمة يقول في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: ليس ذلك للفضيحة, إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة.
{الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة, أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية, أو مشركة لا ترى حرمة ذلك, وكذلك {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} أي عاص بزناه {أَوْ مُشْرِكٌ} لا يعتقد تحريمه, قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: ليس هذا بالنكاح, إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك, وهذا إسناد صحيح عنه, وقد روي عنه من غير وجه أيضاً. وقد روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والضحاك ومكحول ومقاتل بن حيان وغير واحد نحو ذلك.(3/320)
وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي تعاطيه والتزوج بالبغايا, أو تزويج العفائف بالرجال الفجار, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا قيس عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال: حرم الله الزنا على المؤمنين. وقال قتادة ومقاتل بن حيان: حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا, وتقدم ذلك فقال {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهذه الآية كقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}. وقوله {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} الآية, ومن ههنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب, فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا, وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى: {وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم حدثنا معتمر بن سليمان قال أبي حدثنا الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من المؤمنين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه قال فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها قال: فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
وقال النسائي: أخبرنا عمرو بن عدي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فأنزل الله عز وجل: {الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد, حدثنا روح بن عبادة عن عبيد الله بن الأخنس, أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد, وكان رجلاً يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة, قال وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق, وكانت صديقة له, وإنه واعد رجلاً من أسارى مكة يحمله, قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة, قال: فجاءت عناق, فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط, فلما انتهت إلي عرفتني, فقالت: مرثد ؟ فقلت: مرثد, فقالت: مرحباً وأهلاً, هلم فبت عندنا الليلة, قال: فقلت: يا عناق حرم الله الزنا, فقالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم, قال: فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة فانتهيت إلى غار أو كهف, فدخلت فيه فجاؤوا حتى قاموا على رأسي, فبالوا: فظل بولهم على رأسي, فأعماهم الله عني, قال: ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته, وكان رجلاً ثقيلاً حتى انتهيت إلى الإذخر, ففككت عنه أحبله, فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً أنكح عناقاً - مرتين ؟ - فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئاً حتى نزلت {الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مرثد: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة, والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك فلا تنكحها". ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقد رواه أبو داود والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسدد أبو الحسن حدثنا عبد الوارث عن حبيب المعلم, حدثني عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله" وهكذا أخرجه أبو داود في سننه عن مسدد وأبي معمر عن عبد الله بن عمر كلاهما عن عبد الوارث به.وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا عاصم بن(3/321)
محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أخيه عمر بن محمد, عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال: أشهد لسمعت سالماً يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه, والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال, والديوث, وثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه, ومدمن الخمر, والمنان بما أعطى" ورواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس, عن يزيد بن زريع, عن عمر بن محمد العمري, عن عبد الله بن يسار به.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا يعقوب, حدثنا الوليد بن كثير عن قطن بن وهب عن عويمر بن الأجدع, عمن حدثه عن سالم بن عبد الله بن عمر, قال: حدثني عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر, والعاق لوالديه, والديوث الذي يقر في أهله الخبث". وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثني شعبة, حدثني رجل من آل سهل بن حنيف عن محمد بن عمار, عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة ديوث" يستشهد به لما قبله من الأحاديث.
وقال ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار, حدثنا سلام بن سوار, حدثنا كثير بن سليم عن الضحاك بن مزاحم, سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر, فليتزوج الحرائر" في إسناده ضعف. وقال الإمام أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح في اللغة: الديوث القنزع, وهو الذي لا غيرة له, فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب النكاح من سننه: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن علية عن يزيد بن هارون, عن حماد بن سلمة وغيره, عن هارون بن رئاب, عن عبد الله بن عبيد بن عمير وعبد الكريم عن عبد الله بن عبيد عمير, عن ابن عباس. عبد الكريم رفعه إلى ابن عباس وهارون لم يرفعه, قالا: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي امرأة هي من أحب الناس إلي, وهي لا تمنع يد لامس ؟ قال: "طلقها" قال: لا صبر لي عنها. قال: "استمتع بها" ثم قال النسائي: هذا الحديث غير ثابت وعبد الكريم ليس بالقوي وهارون أثبت منه وقد أرسل الحديث وهو ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. قلت: وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث, وقد خالفه هارون بن رئاب وهو تابعي ثقة من رجال مسلم, فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي, لكن قد رواه النسائي في كتاب الطلاق, عن إسحاق بن راهويه, عن النضر بن شميل, عن حماد بن سلمة, عن هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن عباس مسنداً, فذكره بهذا الإسناد, فرجاله على شرط مسلم إلا أن النسائي بعد روايته له قال: هذا خطأ والصواب مرسل, ورواه غير النضر على الصواب.
وقد رواه النسائي أيضاً وأبو داود عن الحسين بن حريث, أخبرنا الفضل بن موسى, أخبرنا الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا الإسناد جيد. وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مضعف له كما تقدم عن النسائي, ومنكر كما قال الإمام أحمد: هو حديث منكر, وقال ابن قتيبة: إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلاً, وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم فقال وقيل: سخية تعطي, ورد هذا بأن لو كان المراد لقال: لا ترّد يد ملتمس, وقيل المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس لا أن المراد أن هذا واقع منها وأنها تفعل الفاحشة, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها, فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثاً, وقد تقدم الوعيد على ذلك, ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد, أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها, فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها لأن محبته لها محققة ووقوع(3/322)
الفاحشة منها متوهم فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الأجل, والله سبحانه وتعالى أعلم.
قالوا فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج, كما قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد عن ابن أبي ذئب قال: سمعت شعبة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت ابن عباس وسأله رجل فقال: إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز وجل علي, فرزقني الله عز وجل من ذلك توبة, فأردت أن أتزوجها, فقال أناس: إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة, فقال ابن عباس: ليس هذا في هذا, انكحها فما كان من إثم فعلي, وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد عن يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب قال: ذكر عنده {الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال: كان يقال نسختها التي بعدها {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} قال: كان يقال الأيامى من المسلمين, وهكذا رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ له عن سعيد بن المسيب, ونص على ذلك أيضاً الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي.
{وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة, هي الحرة البالغة العفيفة, فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفه أيضاً, وليس في هذا نزاع بين العلماء, فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله درأ عنه الحد, ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فأوجب على القاذف, إذا لم يقم البينة على صحة ما قال, ثلاثة أحكام:
(أحدها) أن يجلد ثمانين جلدة.
(الثاني) أنه ترد شهادته أبداً.
(الثالث) أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس.
ثم قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية. واختلف العلماء في هذا الاستثناء. هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ويبقى مردود الشهادة دائماً وإن تاب, أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ أما الجلد فقد ذهب وانقضى سواء تاب أو أصر ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف, فذهب الإمام مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته, وارتفع عنه حكم الفسق, ونص عليه سعيد بن المسيب سيد التابعين, وجماعة من السلف أيضاً. وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط, فيرتفع الفسق بالتوبة, ويبقى مردود الشهادة أبداً, وممن ذهب إليه من السلف القاضي شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد بن جابر. وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان, فحينئذ تقبل شهادته, والله أعلم.
{وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنّ(3/323)
اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ}
هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته, وتعسر عليه إقامة البينة أن يلاعنها كما أمر الله عز وجل وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به, فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين أي فيما رماها به من الزنا {وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فإذا قال ذلك, بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء, وحرمت عليه أبداً, ويعطيها مهرها ويتوجب عليها حد الزنا,ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين, أي فيما رماها به {وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ} ولهذا قال {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ} يعني الحد {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ} فخصها بالغضب, كما أن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلا وهو صادق معذور, وهي تعلم صدقه فيما رماها به, ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها, والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه.
ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق, فقال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم {وَأَنّ اللّهَ تَوّابٌ} أي على عباده, وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة {حَكِيمٌ} فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه, وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية وذكر سبب نزولها وفيمن نزلت فيه من الصحابة.
فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟" فقالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور, والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً, وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من الله, ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء, فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته - قال: فما لبثوا إلا يسيراً - حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم, فجاء من أرضه عشاء, فوجد عند أهله رجلاً, فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح, فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً, فرأيت بعيني وسمعت بأذني, فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه, واجتمعت عليه الأنصار وقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن, يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس, فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجاً. وقال هلال يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به, والله يعلم إني لصادق. فو الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي, وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه, يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي, فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآية, فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً" فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلوا إليها" فأرسلوا إليها فجاءت, فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما, فذكرهما وأخبرهما أن عذاب(3/324)
الآخرة أشد من عذاب الدنيا, فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليها, فقالت: كذب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاعنوا بينهما" فقيل لهلال: اشهد, فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين, فلما كانت الخامسة قيل له: يا هلال اتق الله, فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة, وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب, فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها, فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين, ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين, وقيل لها عند الخامسة: اتقي الله, فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة, وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف, ثم قالت: والله لا أفضح قومي, فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين, ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما, وقضى أن لا يدعى ولدها لأب, ولا يرمى ولدها, ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد, وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت لها من أجل أن يفترقا من غير طلاق ولا متوفى عنها, وقال: "إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين, فهو لهلال, وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين, فهو الذي رميت به" فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميراً على مصر, وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب. ورواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يزيد بن هارون به نحوه مختصراً.
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة, فمنها ما قال البخاري: حدثني محمد بن بشار, حدثنا ابن أبي عدي عن هشام بن حسان, حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أوحد في ظهرك" فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد, فنزل جبريل وأنزل عليه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ - فقرأ حتى بلغ - إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم, فأرسل إليهما, فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يعلم أن أحدكما كاذب, فهل منكما تائب ؟" ثم قامت فشهدت, فلما كان في الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة, قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع, ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبصروها فان جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين, فهو لشريك بن سحماء" فجاءت به كذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي و لها شأن" انفرد به البخاري من هذا الوجه, وقد رواه من غير وجه عن ابن عباس و غيره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحد بن منصور الزيادي, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا صالح و هو ابن عمر, حدثنا عاصم يعني ابن كليب عن أبيه, حدثني ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى امرأته برجل, فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلم يزل يردده حتى أنزل الله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} فقرأ حتى فرغ من الآيتين, فأرسل إليهما فدعاهما فقال: "إن الله تعالى قد أنزل فيكما" فدعا الرجل فقرأ عليه, فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين, ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه, فقال له: "كل شيء أهون عليه من لعنة الله" ثم أرسله فقال: "لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين" ثم دعاها فقرأ عليها, فشهدت أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين, ثم أمر فأمسك على فيها فوعظها وقال: "ويحك كل شيء أهون من غضب الله" ثم أرسلها فقالت: غضب الله عليها إن كان من الصادقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأقضين بينكما قضاء فصلا" قال: فولدت(3/325)
فما رأيت مولوداً بالمدينة أكثر غاشيةً منه, فقال: "إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا, وإن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا" فجاءت به يشبه الذي قذفت به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير قال: سئلت عن المتلاعنين أيفرق بينهما في إمارة ابن الزبير, فما دريت ما أقول, فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلت: يا أبا عبد الرحمن, المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ فقال: سبحان الله إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان, فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك فسكت فلم يجبه, فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: الذي سألتك عنه قد ابتليت به, فأنزل الله تعالى هذه الآيات في سورة النور {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حتى بلغ {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فبدأ بالرجل فوعظه وذكره, وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال: والذي بعثك بالحق ما كذبتك, ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها, وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. فقالت المرأة: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب, قال: فبدأ بالرجل, فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين, والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين, ثم ثنى بالمرأة, فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين, والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين, ثم فرق بينهما, رواه النسائي في التفسير من حديث عبد الملك بن أبي سليمان به, وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حماد, حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنا جلوساً عشية الجمعة في المسجد, فقال رجل من الأنصار: أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه, وإن تكلم جلدتموه, وإن سكت سكت على غيظ, والله لئن أصبحت صالحاً لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فسأله, فقال: يا رسول الله إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً فقتل قتلتموه, وإن تكلم جلدتموه, وإن سكت سكت على غيظ, اللهم احكم, قال: فأنزلت آية اللعان, فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به. انفرد بإخراجه مسلم, فرواه من طرق عن سليمان بن مهران الأعمش به.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو كامل, حدثنا إبراهيم بن سعد, حدثنا ابن شهاب عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال له: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد رجلاً مع امرأته فقتله أيقتل به, أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل, قال: فلقيه عويمر فقال: ما صنعت ؟ قال: ما صنعت إنك لم تأتني بخير, سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل, فقال عويمر: والله لأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه. فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما قال: فدعا بهما فلاعن بينهما. قال عويمر: لئن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها. قال: ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين, عظيم الأليتين, فلا أراه إلا قد صدق, وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة, فلا أراه إلا كاذباً" فجاءت به على النعت المكروه. أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عن الزهري به.
ورواه البخاري أيضاً من طرق عن الزهري به,فقال: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع, حدثنا فليح عن الزهري عن سهل بن سعد أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلاً رأى مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه, أم كيف يفعل؟ فأنزل الله تعالى فيهما ما ذكر في القرآن من التلاعن, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد قضى فيك و في امرأتك" قال: فتلاعنا, وأنا شاهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ففارقها فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين, وكانت حاملاً(3/326)
فأنكر حملها, وكان ابنها يدعى إليها ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إسحاق بن الضيف, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن زيد بن بتيع عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "لو رأيت مع أم رومان رجلاً ما كنت فاعلاً به ؟" قال: كنت والله فاعلاً به شراً, قال: "فأنت يا عمر ؟" قال: كنت والله فاعلاً, كنت أقول: لعن الله الأعجز فإنه خبيث. قال: فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} ثم قال: لا نعلم أحداً أسنده إلا النضر بن شميل عن يونس بن إسحاق, ثم رواه من حديث الثوري عن ابن أبي إسحاق عن زيد بن بتيع مرسلاً, فالله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي, حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لأول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته, فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة شهود, وإلا فحد في ظهرك" فقال: يا رسول الله إن الله يعلم إني لصادق, ولينزلن الله عليك ما يبرىء به ظهري من الجلد, فأنزل الله آية اللعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلى آخر الآية, قال: فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا" فشهد بذلك أربع شهادات, ثم قال له في الخامسة: "ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا" ففعل, ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا" فشهدت بذلك أربع شهادات, ثم قال لها في الخامسة وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنا" قال: فلما كانت الرابعة أو الخامسة, سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف, ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم, فمضت على القول, ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما, وقال: "انظروا فإن جاءت به جعداً حمش الساقين, فهو لشريك بن سحماء, وإن جاءت به أبيض سبطا قصير العينين, فهو لهلال بن أمية" فجاءت به جعداً حمش الساقين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا ما نزل فيهما من كتاب الله لكان لي ولها شأن".
{إِنّ الّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ مّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالّذِي تَوَلّىَ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
هذه العشر آيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله عز وجل لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه, فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة, فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين, فإنه كان يجمعه ويستوشيه, حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به, وجوزه آخرون منهم, وبقي الأمر كذلك قريباً من شهر حتى نزل القرآن, وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا, فبرأها الله تعالى, وكلهم قد حدثني بطائفة من حديثها, وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت لها اقتصاصا, وقد وعيت عن كل واحدٍ منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضاً, ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج(3/327)
النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه, فأيتهن خرج سهمها, خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه, قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها, فخرج فيها سهمي, وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أنزل الحجاب, فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه, مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة وقفل ودنونا من المدينة, آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش, فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري, فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع, فرجعت فالتمست عقدي, فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب, وهم يحسبون أني فيه, قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلنّ ولم يغشهن اللحم, إنما يأكلن العلقة من الطعام, فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه, وكنت جارية حديثة السن, فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش, فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب, فتيممت منزلي الذي كنت فيه, وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي, فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت, وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش, فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم, فأتاني فعرفني حين رآني, وقد كان يراني قبل الحجاب, فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني, فخمرت وجهي بجلبابي, والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته, فوطىء على يدها فركبتها, فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة, فهلك من هلك في شأني, وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول, فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول أهل الإفك, ولا أشعر بشيء من ذلك, وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي, إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: "كيف تيكم ؟" فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت, وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل, وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا, فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف, وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق, وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب, فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا, فعثرت أم مسطح في مرطها, فقالت: تعس مسطح, فقلت لها: بئسما قلت تسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت: أي هنتاه ألم تسمعي ما قال ؟ قلت: وماذا قال ؟ قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك, فازددت مرضاً إلى مرضي, فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم, ثم قال: "كيف تيكم ؟" فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما, فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس به ؟ فقالت: أي بنية هوني عليك, فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت: فقلت سبحان الله أوقد تحدث الناس بها, فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم, ثم أصبحت أبكي, قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين(3/328)
استلبث الوحي ويستشيرهما في فراق أهله, قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود, فقال أسامة: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير, وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: "أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟" فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً قط أغمصه عليها أكثر من جارية حديثة السن, تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه, فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول, قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يامعشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي, فو الله ما علمت على أهلي إلا خيراً, ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً, وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه, وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك, قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً, ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله, فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت(!) لعمر الله لنقتلنه, فإنك منافق تجادل عن المنافقين, فتثاور الحيان: الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر, فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم, وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي, قال: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليّ امرأة من الأنصار, فأذنت لها فجلست تبكي معي, فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس, قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل, وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء, قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس, ثم قال: "أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا, فإن كنت بريئة فسيبرئك الله, وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه, فإن العبد إذا اعترف بذنبٍ ثم تاب, تاب الله عليه" قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته, قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة, فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أحفظ كثيراً من القرآن, والله لقد عرفت, أنكم قد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به, ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك, ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني, وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي, قالت: وأنا والله حينئذٍ أعلم أني بريئة وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي, ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى, ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى, ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله تعالى على نبيه, فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه, قالت: فلما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك, فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري يا عائشة أما الله عز وجل(3/329)
فقد برأك" قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه, فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل هو الذي أنزل براءتي, وأنزل الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر آيات كلها, فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت: فقال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة, فأنزل الله تعالى {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى - إلى قوله - أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي, فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه, وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري, فقال: "يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟" فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري, والله ما علمت إلا خيراً, قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع. وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها, فهلكت فيمن هلك. قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط, أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الزهري, وهكذا رواه ابن إسحاق عن الزهري, كذلك قال: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها, وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري عن عمرة, عن عائشة بنحو ما تقدم, والله أعلم.
ثم قال البخاري وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به, قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيّ خطيباً, فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: "أما بعد أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي, وأيم الله ما علمت على أهلي إلا خيراً, وما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر, ولا غبت في سفر إلا غاب معي", فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أئذن لنا أن نضرب أعناقهم, فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل, فقال: كذبت أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم, حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد وما علمت, فلما كان مساء ذلك اليوم خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح, فعثرت فقالت: تعس مسطح, فقلت لها: أي أم تسبين ابنك ؟. فسكتت, ثم عثرت الثانية فقالت: تعس مسطح فقلت لها أي أم تسبين ابنك ؟ ثم عثرت الثالثة فقالت: تعس مسطح فانتهرتها, فقالت: والله ما أسبه إلا فيك, فقلت: في أي شأني ؟ قالت: فبقرت لي الحديث, فقلت: وقد كان هذا ؟ قالت: نعم والله, فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلاً ولا كثيراً, ووعكت وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إلى بيت أبي, فأرسل معي الغلام, فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل, وأبا بكر فوق البيت يقرأ, فقالت أم رومان: ما جاء بك بنية, فأخبرتها وذكرت لها الحديث, وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني, فقالت: يابنية خففي عليك الشأن فإنه والله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا حسدنها, وقيل فيها, فقلت: وقد علم به أبي ؟ قالت: نعم. قلت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم ؟. قالت: نعم ورسول الله صلى الله عليه وسلم, فاستعبرت وبكيت, فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ, فنزل فقال لأمي: ما شأنها ؟ قالت: بلغها الذي ذكر من شأنها, ففاضت عيناه رضي الله عنه وقال: أقسمت عليك - أي بنية - إلا رجعت إلى بيتك, فرجعت, ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عني خادمتي فقالت: لا والله ما علمت عليها عيباً إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها, وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به.(3/330)
فقالت: سبحان الله, والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ عن تبر الذهب الأحمر, وبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له, فقال: سبحان الله, والله ما كشفت كنف أنثى قط.
قالت عائشة رضي الله عنها: فقتل شهيداً في سبيل الله قالت: وأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر, ثم دخل وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي فحمد الله تعالى وأثنى عليه, ثم قال: "أما بعد يا عائشة إن كنت قارفت سوءاً أو ظلمت فتوبي إلى الله, فإن الله يقبل التوبة عن عباده" قالت: وقد جاءت امرأة من الأنصار فهي جالسة بالباب فقلت: ألا تستحيي من هذه المرأة أن تذكر شيئاً ؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت إلى أبي فقلت له: أجبه قال: فماذا أقول ؟ فالتفت إلى أمي فقلت: أجيبيه قالت: ماذا أقول ؟ فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله, ثم قلت: أما بعد فو الله إن قلت لكم إني لم أفعل والله عز وجل يشهد أني لصادقة ما ذاك بنافعي عندكم, لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم, وإن قلت لكم إني قد فعلت, والله يعلم أني لم أفعل, لتقولن قد باءت به على نفسها, وإنني والله ما أجد لي ولكم مثلاً, والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه إلا أبا يوسف حين قال {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته, فسكتنا فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول: "أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك" قالت: وكنت أشد ما كنت غضباً فقال لي أبواي: قومي إليه, فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما, ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه.
وكانت عائشة تقول: أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيراً, وأما أختها حمنة بنت جحش فهلكت فيمن هلك, وكان الذي يتكلم به مسطح وحسان بن ثابت وأما المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول, وهو الذي كان يستوشيه ويجمعه, وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة, قالت: وحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً, فأنزل الله تعالى {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} يعني أبا بكر {وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} يعني مسطحاً إلى قوله {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بكر: بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا, وعاد له بما كان يصنع. هكذا رواه البخاري من هذا الوجه معلقاً بصيغة الجزم عن أبي أسامة حماد بن أسامة أحد الأئمة الثقات. وقد رواه ابن جرير في تفسيره عن سفيان بن وكيع عن أبي أسامة به مطولاً مثله أو نحوه. ورواه ابن حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة ببعضه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, أخبرنا عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري من السماء جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك, فقلت: نحمد الله لا نحمدك. وقال الإمام أحمد: حدثني ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أيضاً عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن, فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم, وأخرجه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن, ووقع عند أبي داود تسميتهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش, فهذه طرق متعددة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها.
وقد روي من حديث أمها أم رومان رضي الله عنها, فقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم, أخبرنا حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان, قالت بينا أنا عند عائشة إذ دخلت علينا امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بابنها وفعل, فقالت عائشة: ولم ؟ قالت: إنه كان فيمن حدث الحديث, قالت: وأي الحديث ؟ قالت: كذا وكذا, قالت: وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟(3/331)
قالت: نعم, قالت: وبلغ أبا بكر ؟ قالت: نعم, فخرت عائشة رضي الله عنها مغشياً عليها, فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض, فقمت فدثرتها, قالت: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فما شأن هذه ؟" فقلت: يا رسول الله أخذتها حمى بنافض, قال: "فلعله في حديث تحدث به" قالت: فاستوت له عائشة قاعدة, فقالت: والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني, ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني, فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عذرها, فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر, فدخل فقال: يا عائشة: "إن الله تعالى قد أنزل عذرك" فقالت: بحمد الله لا بحمدك, فقال لها أبو بكر: تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: نعم. قالت: فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر فحلف أن لا يصله, فأنزل الله {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى آخر الآية, فقال أبو بكر: بلى فوصله. تفرد به البخاري دون مسلم من طريق حصين.
وقد رواه البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة وعن محمد بن سلام عن محمد بن فضيل كلاهما عن حصين به: وفي لفظ أبي عوانة حدثتني أم رومان, وهذا صريح في سماع مسروق منها, وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي, وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخطيب: وقد كان مسروق يرسله فيقول: سئلت أم رومان ويسوقه فلعل بعضهم كتب سئلت بألف اعتقد الراوي أنها سألت فظنه متصلاً, قال الخطيب: وقد رواه البخاري كذلك ولم تظهر له علته كذا قال, والله أعلم.
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} أي بالكذب والبهت والافتراء {عُصْبَةٌ} أي جماعة منكم {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ} أي يا آل أبي بكر {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي في الدنيا والآخرة لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية, ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت, قال لها: أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يحبك ولم يتزوج بكراً غيرك, وأنزل براءتك من السماء.
وقال ابن جرير في تفسيره: حدثني محمد بن عثمان الواسطي, حدثنا جعفر بن عون عن المعلي بن عرفان عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت عائشة وزينب رضي الله عنهما فقالت زينب: أنا التي نزل تزويجي من السماء, وقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتاب الله حين حملني صفوان بن المعطل على الراحلة, فقالت لها زينب: يا عائشة ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت: قلت حسبي الله ونعم الوكيل, قالت: قلت كلمة المؤمنين.
وقوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} أي لكل من تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} قيل ابتدأ به, وقيل الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي على ذلك, ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي ابن سلول قبحه الله تعالى ولعنه, وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث, وقال ذلك مجاهد وغير واحد, وقيل المراد به حسان بن ثابت, وهو قول غريب, ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك, لما كان لإيراده كبير فائدة, فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر, وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره, وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاجهم وجبريل معك". وقال الأعمش عن أبي الضحى عن(3/332)
مسروق قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها, فدخل حسان بن ثابت, فأمرت فألقي له وسادة, فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا ؟ يعني يدخل عليك, وفي رواية قيل لها: أتأذنين لهذا يدخل عليك, وقد قال الله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قالت: وأي عذاب أشد من العمى, وكان قد ذهب بصره, لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم ثم قالت إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها شعراً يمتدحها به, فقال:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت: أما أنت فلست كذلك, وفي رواية, لكنك لست كذلك, وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن قزعة, حدثنا سلمة بن علقمة, حدثنا داود عن عامر عن عائشة أنها قالت: ما سمعت بشعر أحسن من شعر حسان, ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء ؟ ... فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
فقيل: يا أم المؤمنين أليس هذا لغواً ؟ قالت: لا إنما اللغو ما قيل عند النساء, قيل: أليس الله يقول {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم ؟ أليس قد ذهب بصره, وكنع بالسيف ؟ تعني الضربة التي ضربه إياها صفوان بن المعطل السلمي حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك, فعلاه بالسيف وكاد أن يقتله.
{لّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَذَآ إِفْكٌ مّبِينٌ لّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشّهَدَآءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
هذا تأديب من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السيء, وما ذكر من شأن الإفك فقال تعالى: {لّوْلآ} يعني هلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها {ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم, فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى. وقد قيل: إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما, كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن بعض رجال بني النجار: إن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها ؟ قال: نعم وذلك الكذب, أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله, قال: فعائشة والله خير منك, قال: فلما نزل القرآن ذكر عز وجل من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا, ثم قال تعالى: {لّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ} الآية, أي كما قال أبو أيوب وصاحبته.
وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي حبيب عن داود بن الحصين عن أبي سفيان عن الأفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب قالت لأبي أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال: بلى وذلك الكذب أفكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك ؟ قالت: لا والله. قال: فعائشة والله خير منك, فلما نزل القرآن وذكر أهل الإفك قال الله عز وجل {لّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَذَآ إِفْكٌ(3/333)
مّبِينٌ} يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال, ويقال إنما قالها أبيّ بن كعب. وقوله تعالى: {ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ} إلخ أي هلا ظنوا الخير فإن أم المؤمنين أهله وأولى به. هذا ما يتعلق بالباطن, وقوله {وَقَالُواْ} أي بألسنتهم {هَذَآ إِفْكٌ مّبِينٌ} أي كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها, فإن الذي وقع لم يكن ريبة, وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة, والجيش بكماله يشاهدون ذلك, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم, ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد, بل كان يكون هذا لو قدر خفية مستوراً, فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت, والقول الزور, والرعونة الفاحشة الفاجرة, والصفقة الخاسرة, قال الله تعالى: {لَوْلا} أي هلا {جَاءُوا عَلَيْهِ} أي على ما قالوه {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يشهدون على صحة ما جاءوا به {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي في حكم الله كاذبون فاجرون.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدّنْيَا وَالآخرة لَمَسّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مّا لّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللّهِ عَظِيمٌ}
يقول تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أيها الخائضون في شأن عائشة بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} من قضية الإفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه, كمسطح وحسان وحمنة بنت جحش أخت زينت بنت جحش, فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي ابن سلول وأضرابه, فليس أولئك مرادين في هذه الآية, لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه, وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين يكون مطلقاً مشروطاً بعدم التوبة أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه أو يرجح عليه.
ثم قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي يرويه بعضكم عن بعض, يقول هذا سمعته من فلان, وقال فلان كذا, وذكر بعضهم كذا, وقرأ آخرون {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} وفي صحيح البخاري عن عائشة أنها كانت تقرؤها كذلك, وتقول: هو من ولق اللسان يعني الكذب الذي يستمر صاحبه عليه, تقول العرب: ولق فلان في السير إذا استمر فيه, والقراءة الأولى أشهر وعليها الجمهور, ولكن الثانية مروية عن أم المؤمنين عائشة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة أنها كانت تقرأ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} وتقول: إنما هو ولق القول - والولق الكذب -. قال ابن أبي مليكة: هي أعلم به من غيرها.
وقوله تعالى : {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي تقولون ما لا تعلمون, ثم قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أي تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين وتحسبون ذلك يسيراً سهلاً ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هيناً, فكيف وهي زوجة النبي الأمي خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ؟ فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل ! فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا, وهو سبحانه وتعالى لا يقدّر على زوجة نبي من الأنبياء ذلك حاشا وكلا, ولما لم يكن ذلك, فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة ؟ ولهذا قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وفي الصحيحين "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ, يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض". وفي رواية "لا يلقي لها بالاً".(3/334)
{وَلَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مّا يَكُونُ لَنَآ أَن نّتَكَلّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ وَيُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
هذا تأديب آخر بعد الأول الآمر بظن الخير, أي إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيراً, وأن لا يشعر نفسه سوى ذلك, ثم إن علق بنفسه شيء من ذلك وسوسة أو خيالاً, فلا ينبغي أن يتكلم به, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل" أخرجاه في الصحيحين. وقال الله تعالى: {وَلَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مّا يَكُونُ لَنَآ أَن نّتَكَلّمَ بِهَذَا} أي ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله وحليلة خليله.
ثم قال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} أي ينهاكم الله متوعداً أن يقع منكم ما يشبه هذا أبداً أي فيما يستقبل, فلهذا قال {إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ} أي إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه, وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم, فأما من كان متصفاً بالكفر فذاك حكم آخر, ثم قال تعالى: {وَيُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات} أي يوضح لكم الأحكام الشرعية والحكم القدرية {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بما يصلح عباده, حكيم في شرعه وقدره.
{إِنّ الّذِينَ يُحِبّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدّنْيَا وَالآخرة وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئاً من الكلام السيء, فقام بذهنه شيء منه وتكلم به فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه, فقد قال تعالى: {إِنّ الّذِينَ يُحِبّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدّنْيَا} أي بالحد, وفي الآخرة بالعذاب الأليم {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي فردوا الأمور إليه ترشدوا. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكير, حدثنا ميمون بن موسى المرئي, حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم, ولا تطلبوا عوراتهم, فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته, حتى يفضحه في بيته".
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنّ اللّهَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
يقول الله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنّ اللّهَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ} أي لولا هذا لكان أمر آخر, ولكنه تعالى رؤوف بعباده رحيم بهم, فتاب على من تاب إليه من هذه القضية, وطهر من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم, ثم قال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ} يعني طرائقه ومسالكه وما يأمر به {وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ} هذا تنفير وتحذير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ} عمله. وقال(3/335)
عكرمة: نزغاته. وقال قتادة: كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو مجلز: النذور في المعاصي من خطوات الشيطان. وقال مسروق: سأل رجل ابن مسعود فقال: إني حرمت أن آكل طعاماً وسماه, فقال: هذا من نزغات الشيطان, كفّر عن يمينك وكل وقال الشعبي في رجل نذر ذبح ولده: هذا من نزغات الشيطان, وأفتاه أن يذبح كبشاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا حسان بن عبد الله المصري, حدثنا السري بن يحيى عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال: غضبت علي امرأتي فقالت هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية, وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك, فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من نزغات الشيطان, وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة, وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك. ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه ويزكي النفوس من شركها, وفجورها ودنسها, وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه, لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيراً {وَلَكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ} أي من خلقه, ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي. وقوله {وَاللّهُ سَمِيعٌ} أي سميع لأقوال عباده {عَلِيمٌ} بمن يستحق منهم الهدى والضلال.
{وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
يقول تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ} من الألية وهي الحلف, أي لا يحلف {أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ} أي الطّوْل والصدقة والإحسان {وَالسّعَةِ} أي الجدة {أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام, ولهذا قال تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ} أي عما تقدم منهم من الإساءة والأذى ؟ وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم, وهذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال, كما تقدم في الحديث, فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة, وطابت النفوس المؤمنة واستقرت, وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك, وأقيم الحد على من أقيم عليه - شرع تبارك وتعالى وله الفضل والمنة, يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة, فإنه كان ابن خالة الصديق, وكان مسكيناً لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه, وكان من المهاجرين في سبيل الله, وقد ولق ولقةً تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها, وكان الصديق رضي الله عنه معروفاً بالمعروف, له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب, فلما نزلت هذه الآية إلى قوله {أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ} الآية, فإن الجزاء من جنس العمل, فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك, وكما تصفح نصفح عنك, فعند ذلك قال الصديق: بلى والله إنا نحب - يا ربنا - أن تغفر لنا ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة, وقال: والله لا أنزعها منه أبداً, في مقابلة ما كان, قال والله لا أنفعه بنافعة أبداً. فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته.
{إِنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدّنْيَا وَالآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الْحَقّ(3/336)
وَيَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ الْمُبِينُ}
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات - خرج مخرج الغالب - المؤمنات فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة, ولا سيما التي كانت سبب النزول, وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما, وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية, فإنه كافر لأنه معاند للقرآن, وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي, والله أعلم.
وقوله تعالى: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية, كقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} قال: نزلت في عائشة خاصة, وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان, وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي, حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: قالت عائشة: رميت بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك, قالت: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي إذ أوحي إليه, قالت: وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات, وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي, ثم استوى جالساً يمسح وجهه, وقال: "يا عائشة أبشري" قالت: فقلت بحمد الله لا بحمدك, فقرأ {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ - حتى قرأ - أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هكذا أورده وليس فيه أن الحكم خاص بها, وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها, وإن كان الحكم يعمها كغيرها, ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله, والله أعلم. وقال الضحاك وأبو الجوزاء وسلمة بن نبيط: المراد بها أزواج النبي خاصة دون غيرهن من النساء.
وقال العوفي عن ابن عباس في الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية, يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رماهن أهل النفاق, فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, ثم نزل بعد ذلك {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ - إلى قوله - فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأنزل الله الجلد والتوبة, فالتوبة تقبل والشهادة ترد. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا هشيم, أخبرنا العوام بن حوشب عن شيخ من بني أسد عن ابن عباس قال: فسر سورة النور, فلما أتى على هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية, قال: في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم, وهي مبهمة وليست لهم توبة, ثم قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ - إلى قوله - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية, قال: فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة, قال: فهمّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر به سورة النور. فقوله وهي مبهمة أي عامة في تحريم قذف كل محصنة ولعنته في الدنيا والآخرة, وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا في عائشة ومن صنع مثل هذا أيضاً اليوم في المسلمات فله ما قال الله تعالى ولكن عائشة كانت أماً في ذلك.
وقد اختار ابن جرير عمومها وهو الصحيح, ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي وهب, حدثني عمي, حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع ا لموبقات" قيل: وما هن يا رسول الله ؟ قال: "الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال به.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عمر(3/337)
بن أبي خالد الحذاء الطاني المحرمي, حدثني أبي وحدثنا أبو شعيب الحراني, حدثنا جدي أحمد بن أبي شعيب, حدثني موسى بن أعين عن ليث عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة ". وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو يحيى الرازي عن عمرو بن أبي قيس, عن مطرف عن المنهال عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: إنهم يعني المشركين إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة قالوا: تعالوا حتى نجحد فيجحدون, فيختم على أفواههم وتشهد أيديهم و أرجلهم ولا يكتمون الله حديثاً.
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فيجحد ويخاصم, فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك, فيقول كذبوا, فيقال أهلك وعشيرتك, فيقول كذبوا, فيقال احلفوا فيحلفون, ثم يصمتهم الله فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم, ثم يدخلهم النار".
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي, حدثنا منجاب بن الحارث التميمي, حدثنا أبو عامر الأسدي, حدثنا سفيان بن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو الفقيمي عن الشعبي عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه, ثم قال: "أتدرون مم أضحك ؟" قلنا: الله ورسوله أعلم, قال: "من مجادلة العبد لربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول: بلى, فيقول: لا أجيز عليّ إلا شاهداً من نفسي, فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام عليك شهوداً, فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله, ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل" وقد رواه مسلم والنسائي جميعاً عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبيه, عن عبد الله الأشجعي عن سفيان الثوري به, ثم قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي, وهو حديث غريب, والله أعلم, هكذا قال, وقال قتادة: ابن آدم, والله إن عليك لشهوداً غير متهمة في بدنك, فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك, فإنه لا يخفى عليه خافية, الظلمة عنده ضوء, والسر عنده علانية, فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} قال ابن عباس {دِينَهُمُ} أي حسابهم وكل ما في القرآن دينهم أي حسابهم, وكذا قال غير واحد, ثم إن قراءة الجمهور بنصب الحق على أنه صفة لدينهم, وقرأ مجاهد بالرفع على أنه نعت الجلالة, وقرأها بعض السلف في مصحف أبيّ بن كعب: يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق, وقوله {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي وعده ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلْطّيّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال, والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول للطيبين من الرجال, والطيبون من الرجال للطيبات من القول - قال - ونزلت في عائشة وأهل الإفك, وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت, والضحاك, واختاره ابن جرير ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس, والكلام الطيب(3/338)
أولى بالطيبين من الناس, فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به, وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم, ولهذا قال تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء, والطيبات من النساء للطيبين من الرجال, والطيبون من الرجال للطيبات من النساء, وهذا أيضاً يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم, أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر, ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً, ولهذا قال تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ} أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان {لَهُم مّغْفِرَةٌ} أي بسبب ما قيل فيهم من الكذب, {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي عند الله في جنات النعيم, وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن مسلم, حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن الحكم بإسناده إلى يحيى بن الجزار قال: جاء أسير بن جابر إلى عبد الله, فقال: لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم اليوم بكلام أعجبني, فقال عبد الله: إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما يستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل عنده يتلها فيضمها إليه وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الخبيثة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل الذي عنده يتلها فيضمها إليه ثم قرأ عبد الله {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلْطّيّبَاتِ} الآية, ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعاً "مثل هذا الذي يسمع الحكمة ثم لا يحدث إلا بشرّ ما سمع كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم فقال اجزرني شاة, فقال: اذهب فخذ بأذن أيها شئت , فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم" وفي الحديث الآخر "الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها".
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ فَإِن لّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتّىَ يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىَ لَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}
هذه آداب شرعية, أدب الله بها عباده المؤمنين وذلك في الاستئذان أمرهم أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأنسوا, أي يستأذنوا قبل الدخول, ويسلموا بعده, وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات, فإن أذن له وإلا انصرف, كما ثبت في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثاً فلم يؤذن له انصرف, ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن ؟ ائذنوا له, فطلبوه فوجدوه قد ذهب, فلما جاء بعد ذلك قال: ما رجعك ؟ قال: إني استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي, وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف" فقال عمر لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضرباً, فذهب إلى ملإٍ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر فقالوا لا يشهد لك إلا أصغرنا فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك فقال: ألهاني عنه الصفق بالأسواق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا عمر عن ثابت عن أنس أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: "السلام عليك ورحمة الله" فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله, ولم(3/339)
يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثاً, ورد عليه سعد ثلاثاً ولم يسمعه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه سعد فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي, ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني, ولقد رددت عليك ولم أسمعك, وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة, ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً فأكل نبي الله, فلما فرغ قال: "أكل طعامكم الأبرار, وصلت عليكم الملائكة, وأفطر عندكم الصائمون".
وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: "السلام عليكم ورحمة الله" فرد سعد رداً خفياً, قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: دعه يكثر علينا من السلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم ورحمة الله" فرد سعد رداً خفياً ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم ورحمة الله" ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم, واتبعه سعد فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام. قال فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل, ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس, فاشتمل بها ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: "اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة". قال: ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام, فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حماراً قد وطىء عليه بقطيفة, فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا قيس اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال قيس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب" فأبيت, فقال: "إما أن تركب وإما أن تنصرف" قال: فانصرفت, وقد روي هذا من وجوه أخر, فهو حديث جيد قوي, والله أعلم.
ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه, ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره لما رواه أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا: حدثنا بقية, حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بُشر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه, ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر, ويقول: "السلام عليكم, السلام عليكم" وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور, تفرد به أبو داود.
وقال أبو داود أيضاً: حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا جرير - (ح) - حينئذ, قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال: جاء رجل, قال عثمان: سعد فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام على الباب قال عثمان: مستقبل الباب, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا عنك - أو هكذا - فإنما الاستئذان من النظر" وقد رواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم, رواه أبو داود من حديثه, وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه, ما كان عليك من جناح" وأخرج الجماعة من حديث شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب, فقال: "من ذا ؟" فقلت: أنا, قال: "أنا أنا" كأنه كرهه, وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها, وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا, فلا يحصل بها المقصود من الإستئذان الذي هو الإستئناس المأمور به في الآية, وقال العوفي عن ابن عباس: الإستئناس الإستئذان, وكذا قال غير واحد,
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ} قال: إنما هي خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا, وهكذا رواه هشيم عن أبي بشر - وهو جعفر بن إياس - عن سعيد عن ابن عباس بمثله, وزاد: كان ابن عباس(3/340)
يقرأ {حتى تستأذنوا وتسلموا} وكان يقرأ على قراءة أبيّ بن كعب رضي الله عنه, وهذا غريب جداً عن ابن عباس, وقال هشيم: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم قال: في مصحف ابن مسعود حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا, وهذا أيضاً رواية عن ابن عباس وهو اختيار ابن جرير.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا ابن جريج, أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن أبي صفوان أخبره أن كلدة بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وجدابة وصغابيس, والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي, قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم أستأذن, فقال صلى الله عليه وسلم: "ارجع فقل السلام عليكم أأدخل ؟" وذلك بعدما أسلم صفوان, ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج به. وقال الترمذي: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديثه. وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال: أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته, فقال: أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: "اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام عليكم أأدخل ؟" فسمعه الرجل, فقال: السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم, فدخل.
وقال هشيم: أخبرنا منصور عن ابن سيرين, وأخبرنا يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أألج أو أنلج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة: "قومي إلى هذا فعلميه, فإنه لا يحسن يستأذن, فقولي له: يقول السلام عليكم أأدخل ؟" فسمعها الرجل فقالها فقال: "ادخل". وقال الترمذي: حدثنا الفضل بن الصباح, حدثنا سعيد بن زكريا عن عنبسة بن عبد الرحمن عن محمد بن زاذان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام قبل الكلام" ثم قال الترمذي: عنبسة ضعيف الحديث ذاهب, ومحمد بن زاذان منكر الحديث. وقال هشيم: قال مغيرة: قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء, فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل ؟ قالت: ادخل بسلام, فأعاد فأعادت وهو يراوح بين قدميه, قال: قولي ادخل. قالت: ادخل فدخل.
ولابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو نعيم الأحول, حدثني خالد بن إياس, حدثتني جدتي أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة, فقلت: ندخل ؟ فقالت: لا قلن لصاحبتكن تستأذن, فقالت: السلام عليكم أندخل قالت: ادخلوا, ثم قالت: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا} الآية. وقال هشيم: أخبرنا أشعث بن سوار عن كردوس عن ابن مسعود قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم, قال أشعث عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد, وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال, قال فنزلت {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً} الآية.
وقال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ثلاث آيات جحدهن الناس. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} قال: ويقولون إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتاً, قال والأذن كله قد جحده الناس قال: قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ؟ قال: نعم فرددت عليه ليرخص لي فأبى, فقال: تحب أن تراها عريانة ؟ قلت: لا, قال: فاستأذن قال: فراجعته أيضاً. فقال: أتحب أن تطيع الله ؟ قلت نعم, قال: فاستأذن. قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم, قال: وكان يشدد في ذلك, وقال ابن(3/341)
جريج عن الزهري. سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته قال: لا وهذا محمول على عدم الوجوب, وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به, لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن حازم عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب - امرأة عبد الله بن مسعود - عن زينب رضي الله عنها, قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه, إسناده صحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي هبيرة. قال: كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس وتكلم ورفع صوته, وقال مجاهد: حتى تستأنسوا, قال: تنحنحوا أو تنخموا. وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه, ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً - وفي رواية - ليلاً يتخونهم, وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهاراً, فأناخ بظاهرها, وقال: "انتظروا حتى ندخل عشاء - يعني آخر النهار - حتى تمشط الشعثة وتستحد المغيبة".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن واصل بن السائب, حدثني أبو ثورة بن أخي أبي أيوب عن أبي أيوب قال: قلت: يا رسول الله هذا السلام, فما الإستئناس ؟ قال: "يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة أو تحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت" هذا حديث غريب. وقال قتادة في قوله {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} هو الاستئذان ثلاثاً, فمن لم يؤذن له منهم فليرجع, أما الأولى فليسمع الحي, وأما الثانية فليأخذوا حذرهم, وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا, ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم, فإن للناس حاجات ولهم أشغال, والله أولى بالعذر.
وقال مقاتل بن حيان في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه ويقول: حييت صباحاً وحييت مساء, وكان ذلك تحية القوم بينهم, وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول: قد دخلت, ونحو ذلك, فيشق ذلك على الرجل ولعله يكون مع أهله فغير الله ذلك كله في ستر وعفة, وجعله نقياً نزهاً من الدنس والقذر والدرن, فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} الآية, وهذا الذي قاله مقاتل: حسن, ولهذا قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} يعني الاستئذان خير لكم بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه, فإن شاء أذن, وإن شاء لم يأذن, {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي إذا ردوكم من الباب قبل الإذن أو بعده {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال قتادة: قال بعض المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الآية, فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع, فأرجع وأنا مغتبط {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال سعيد بن جبير {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} الآية أي لا تقفوا على أبواب الناس.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} الآية, هذه الآية الكريمة أخص من التي قبلها وذلك أنها تقتضي جواز(3/342)
الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن, كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى. قال ابن جريج: قال ابن عباس {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} ثم نسخ واستثنى, فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} وكذا روي عن عكرمة والحسن البصري, وقال آخرون: هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك, واختار ذلك ابن جرير وحكاه عن جماعة, والأول أظهر, والله أعلم. وقال مالك عن زيد بن أسلم: هي بيوت الشعر.
{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم, فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه, وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم, فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد, فليصرف بصره عنه سريعاً, كما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير, عن جده جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة, فأمرني أن أصرف بصري. وكذا رواه الإمام أحمد عن هشيم عن يونس بن عبيد به. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثه أيضاً. وقال الترمذي حسن صحيح, وفي رواية لبعضهم فقال "أطرق بصرك" يعني أنظر إلى الأرض, والصرف أعم, فإنه قد يكون إلى الأرض وإلى جهة أخرى, والله أعلم.
وقال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري, حدثنا شريك عن أبي ربيعة الإيادي, عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة, فإن لك الأولى وليس لك الآخرة" ورواه الترمذي من حديث شريك وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وفي الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس على الطرقات" قالوا: يارسول الله لابد لنا من مجالسنا نتحدث فيها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله ؟ فقال"غض البصر, وكف الأذى, ورد السلام, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر".
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا طالوت بن عباد, حدثنا فضل بن جبير, سمعت أبا أمامة, يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اكفلوا لي ستاً أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب, وإذا اؤتمن فلا يخن, وإذا وعد فلا يخلف, وغضوا أبصاركم, وكفوا أيدكم, واحفظوا فروجكم" وفي صحيح البخاري " من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه, أكفل له الجنة" وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: كل ما عصي الله به فهو كبيرة, وقد ذكر الطرفين فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب, كما قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب, ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك, فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا, كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآية, وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي أطهر لقلوبهم وأنقىَ لدينهم, كما قيل من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته, ويروى في قلبه.
وروى الإمام أحمد: حدثنا عتاب, حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة (أول مرة) ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها" وروي هذا مرفوعاً عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله(3/343)
عنهم, ولكن في إسنادها ضعف إلا أنها في الترغيب, ومثله يتسامح فيه. وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعاً "لتغضن أبصاركم, ولتحفظن فروجكم, ولتقيمن وجوهكم, أو لتكسفن وجوهكم".
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير التستري قال: قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرى, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا هريم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه". وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة, فزنا العينين النظر, وزنا اللسان النطق, وزنا الأذنين الاستماع, وزنا اليدين البطش, وزنا الرجلين الخطى, والنفس تمنىَ وتشتهي, والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" رواه البخاري تعليقاً, ومسلم مسنداً من وجه آخر بنحو ما تقدم, وقد قال كثير من السلف: إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل بصره إلى الأمرد, وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك, وحرمه طائفة من أهل العلم لما فيه من الافتتان, وشدد آخرون في ذلك كثيراً جداً. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو سعيد المدني, حدثنا عمر بن سهل المازني, حدثني عمر بن محمد بن صهبان عن صفوان بن سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله, وعيناً سهرت في سبيل الله, وعيناً يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عز وجل".
{ وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَآئِهِنّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَآئِهِنّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِيَ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسَآئِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}
هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركين وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيان قال: بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة, فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء: ما أقبح هذا فأنزل الله تعالى: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ} الآية, فقوله تعالى: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ} أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن, ولهذا ذهب كثير(3/344)
من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً.
واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان مولى أم سلمة أنه حدث أن أم سلمة حدثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه" فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو عمياوان أنتما ؟ أوألستما تبصرانه" ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت.
وقوله {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ} قال سعيد بن جبير: عن الفواحش. وقال قتادة وسفيان: عما لا يحل لهن. وقال مقاتل: عن الزنا, وقال أبو العالية: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا إلا هذه الآية {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ} أن لا يراها أحد, وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه. قال ابن مسعود: كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب. فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم.
وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك, وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها, كما قال أبو إسحاق السبقي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال في قوله {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ} الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال: الزينة زينتان: فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار, وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب. وقال الزهري لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر وأما عامة الناس فلا يبدين منها إلا الخواتم.
وقال مالك عن الزهري {إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الخاتم والخلخال. ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين وهذا هو المشهور عند الجمهور, ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني قالا: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أي يرى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه, لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هذا مرسل¹ خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها, والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية فإنهن لم يكن يفعلن ذلك بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها, فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} وقال في(3/345)
هذه الآية الكريمة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} والخمر جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس المقانع.
قال سعيد بن جبير {وَلْيَضْرِبْنَ} وليشددن {بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء وقال البخاري حدثنا أحمد بن شبيب حدثنا أبي عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها. وقال أيضاً حدثنا أبو نعيم, حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: لما نزلت هذه الآية {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن, فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلاً وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً بكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه, فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان. ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبه به.
وقال ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن قرة بن عبد الرحمن أخبره عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها, ورواه أبو داود من حديث ابن وهب به, وقوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} أي أزواجهن {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير اقتصاء وتبهرج. وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى يعني ابن هارون حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الآية {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} حتى فرغ منها وقال لم يذكر العم ولا الخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ولا تضع خمارها عند العم والخال, فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره.
وقوله {أَوْ نِسَائِهِنَّ} يعني تظهر بزينتها أيضاً للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة لئلا تصفهن لرجالهن. وذلك وإن كان محذوراً في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها" أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود وقال سعيد بن منصور في سننه حدثنا إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغازي عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال: كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن باالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وقال مجاهد في قوله {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال نساؤهن المسلمات ليس المشركات من نسائهن, وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة, وروى عبد الله في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال هن المسلمات لا تبديه ليهودية و لا نصرانية وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلا محرم.(3/346)
وروى سعيد حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فليست من نسائهن, وعن مكحول وعبادة بن نسي أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة, فأما ما رواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عمير حدثنا ضمرة قال: قال ابن عطاء عن أبيه قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات, فهذا إن صح فمحمول على حال الضرورة أو أن ذلك من باب الامتهان, ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد, والله أعلم.
وقوله تعالى: {وْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين, فيجوز لها أن تظهر زينتها لها, وإن كانت مشركة لأنها أمتها, وإليه ذهب سعيد بن المسيب, وقال الأكثرون: بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء, واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى, حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت, عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها, قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها, وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها, فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى, قال: "إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك".
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية: أن عبد الله بن مسعدة الفزاري كان أسود شديد الأدمة, وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة, فربته ثم أعتقته, ثم قد كان بعد ذلك كله برز مع معاوية أيام صفين, وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري, عن نبهان, عن أم سلمة, ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان إحداكن مكاتب, وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه" ورواه أبو داود عن مسدد, عن سفيان به. وقوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء, وهم مع ذلك في عقولهم وله وحَوْب, ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن, قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا شهوة له.
وقال مجاهد: هو الأبله, وقال عكرمة: هو المخنث الذي لا يقوم ذكره, وكذلك قال غير واحد من السلف, وفي الصحيح من حديث الزهري عن عروة, عن عائشة, أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة يقول: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع, وإذا أدبرت أدبرت بثمان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم" فأخرجه, فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة ليستطعم.
وروى الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه, عن زينب بنت أبي سلمة, عن أم سلمة أنها قالت: دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها (أخوها) مخنث, وعندها عبد الله بن أبي أمية, والمخنث يقول: يا عبد الله, إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان, قال: فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة: "لا يدخلن هذا عليك" أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن الزهري, عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث, وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة, فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع, وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم هذا" فحجبوه, ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبد الرزاق به عن أم سلمة.
وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال(3/347)
النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن, فإذا كان الطفل صغيراً لا يفهم ذلك: فلا بأس بدخوله على النساء, فأما إن كان مراهقاً, أو قريباً منه, بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء, فلا يمكن من الدخول على النساء, وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والدخول على النساء" قيل: يا رسول الله, أفرأيت الحمو ؟ قال: "الحمو الموت".
وقوله تعالى {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية, كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوته, ضربت برجلها الأرض, فيعلم الرجال طنينه, فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك, وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} إلى آخره ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشتم الرجال طيبها, فقد قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن ثابت بن عمارة الحنفي, عن غنيم بن قيس, عن أبي موسى رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا" يعني زانية, قال وفي الباب عن أبي هريرة: وهذا حسن صحيح, رواه أبو داود والنسائي من حديث ثابت بن عمارة به.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير, أخبرنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله, عن عبيد مولى أبي رهم, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار, فقال: يا أمة الجبار جئت من المسجد ؟ قالت: نعم. قال لها: وله تطيبت ؟ قالت: نعم, قال: إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة". ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن سفيان هو ابن عيينة به. وروى الترمذي أيضاً من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد, عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها", ومن ذلك أيضاً أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج.
قال أبو داود: حدثنا التغلبي, حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن ابن أبي اليمان عن شداد بن أبي عمرو بن حماس, عن أبيه, عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد, وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضنّ الطريق, عليكن بحافات الطريق" فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة, فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه, والله تعالى هو المستعان.
{وَأَنْكِحُواْ الأيَامَىَ مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مّن مّالِ اللّهِ الّذِيَ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنّ فِإِنّ اللّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ}(3/348)
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة والأوامر المبرمة, فقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} إلى آخره, هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه. واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام "يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء", أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود, وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تزوجوا الولود تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ". وفي رواية: "حتى بالسقط", الأيامى جمع أيم, ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له, سواء كان قد تزوج ثم فارق أول لم يتزوج واحد منهما, حكاه الجوهري عن أهل اللغة, يقال رجل أيم وامرأة أيم.
وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى, فقال {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمود بن خالد الأزرق, حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد - يعني ابن عبد العزيز - قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح. يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} رواه ابن جرير, وذكر البغوي عن عمر بنحوه, وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف, والمكاتب يريد الأداء, والغازي في سبيل الله" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره, ولم يقدر على خاتم من حديد, ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله, وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث "تزوجوا فقراء يغنكم الله" فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن, وفي القرآن غنية عنه, وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها, ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" الحديث, وهذه الآية مطلقة, والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات - إلى قوله - وأن تصبروا خير لكم} أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم, لأن الولد يجيء رقيقاً {والله غفور رحيم} قال عكرمة في قوله {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي, فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها, وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه, وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب, لا أمر تحتم وإيجاب, بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة, إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه قال الثوري عن جابر عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه. وكذا قال ابن وهب عن(3/349)
إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح: إن يشأ يكاتبه وإن يشأ لم يكاتبه. وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري, وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب أخذاً بظاهر هذا الأمر.
وقال البخاري: وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه, قال: ما أراه إلا واجباً. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد ؟ قال: لا, ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنساً المكاتبة, وكان كثير المال فأبى, فانطلق إلى عمر رضي الله عنه, فقال: كاتبه, فأبى فضربه بالدرة, ويتلو عمر رضي الله عنه {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فكاتبه هكذا ذكره البخاري تعليقاً, ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه ؟ قال: ما أراه إلا واجباً. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن بكر, حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك: أن سيرين أراد أن يكاتبه, فتلكأ عليه فقال له عمر: لتكاتبنه, إسناد صحيح. وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال: هي عزمة, وهذا القول القديم من قولي الشافعي, وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام: "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه". وقال ابن وهب: قال مالك: الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك, ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده. قال مالك: وإنما ذلك أمر من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب. وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية.
وقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال بعضهم: أمانة, وقال بعضهم: صدقاً, وقال بعضهم: مالاً, وقال بعضهم: حيلة وكسباً. وروى أبو داود في المراسيل, عن يحي بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال: "إن علمتم فيهم حرفة, ولا ترسلوهم كلا على الناس", وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} اختلف المفسرون فيه, فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها, ثم قال بعضهم: مقدار الربع, وقيل الثلث, وقيل النصف, وقيل جزء من الكتابة من غير حد.
وقال آخرون: بل المراد من قوله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة, وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان, واختاره ابن جرير, وقال إبراهيم النخعي في قوله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قال: حث الناس عليه مولاه وغيره, وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة, وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة حق على الله عونهم" فذكر منهم "المكاتب يريد الأداء ", والقول الأول أشهر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر: أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية, فجاء بنجمه حين حل فقال: يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك, فقال: يا أمير المؤمنين, لو تركته حتى يكون من آخر نجم ؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك, ثم قرأ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قال عكرمة: فكان أول نجم أدي في الإسلام.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته, ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال: يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم, وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي, وقال محمد بن سيرين في قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}(3/350)
كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان المقرى, أخبرنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج, أخبرني عطاء بن السائب: أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربع الكتابة" وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله.
وقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الآية, كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني, وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت, فلماء جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك, وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة, فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول, فإنه كان له إماء, فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن, ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم.
ذكر الآثار الواردة في ذلك
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار رحمه الله في مسنده: حدثنا أحمد بن داود الواسطي, حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج, حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبيّ ابن سلول, يقال لها معاذة يكرهها على الزنا, فلما جاء الإسلام نزلت {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الآية, وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الآية, قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبيّ ابن سلول يقال لها مسيكة, كان يكرهها على الفجور, وكانت لا بأس بها فتأبى, فأنزل الله هذه الآية {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ - إلى قوله - وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا علي بن سعيد, حدثنا الأعمش, حدثني أبو سفيان عن جابر قال: كان لعبد الله بن أبيّ ابن سلول, جارية يقال لها مسيكة, وكان يكرهها على البغاء, فأنزل الله {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ - إلى قوله - وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان بن طلحة بن نافع, فدل على بطلان قول من قال: لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار. وقال أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولاداً من الزنا, فقال لها مالك: لتزنين, قالت: والله لا أزني, فضربها فأنزل الله عز وجل {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}.
وروى البزار أيضا: حدثنا أحمد بن داود الوسطي, حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج, حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال:كانت جارية لعبد الله بن أُبي, يقال لها معاذ , يكرهها على الزنا, فلما جاء الإسلام نزلت {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً - إلى قوله - وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبيّ أسيراً, وكانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة وكانت تمتنع منه لإسلامها, وكان عبد الله بن أبيّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده, فقال تبارك وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}.
وقال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبيّ من يعذرنا من(3/351)
محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا, وقال مقاتل بن حيان: بلغني - والله أعلم - أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار, وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبيّ وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة, فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له, فأنزل الله في ذلك {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} يعني الزنا.
وقوله تعالى: {إن أردن تحصناً} هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, وقوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن, وفي رواية "مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث, وثمن الكلب خبيث" وقوله تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم, وإثمهن على من أكرههن وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة.
وقال أبو عبيد: حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذه الآية {فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} قال لهن والله لهن والله. وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه. وعن زيد بن أسلم قال غفور رحيم للمكرهات, حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله, حدثني ابن لهيعة, حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لهن وإثمهن على من أكرههن, وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات {وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أي خبراً عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ وَمَوْعِظَةً} أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم {لْمُتَّقِينَ} أي لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
{اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزّجَاجَةُ كَأَنّهَا كَوْكَبٌ دُرّيّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىَ نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يقول هادي أهل السموات والأرض. قال ابن جريج: قال مجاهد وابن عباس في قوله {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما. وقال ابن جرير: حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي, حدثنا وهب بن راشد عن فرقد عن أنس بن مالك قال: إن الله يقول نوري هداي واختار هذا القول ابن جرير. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} قال هو المؤمن الذي جعل الله الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال {اللَّهُ نُورُ(3/352)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به, قال: فكان أبيّ بن كعب يقرؤها {مثل نور من آمن به} فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره, وهكذا قال سعيد بن جبير وقيس بن سعد عن ابن عباس أنه قرأها كذلك {مثل نور من آمن بالله} وقرأ بعضهم {الله نور السموات والأرض} وعن الضحاك {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وقال السدي في قوله {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فبنوره أضاءت السموات والأرض. وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك, لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله" وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: "اللهم لك الحمد, أنت قيّم السموات والأرض أنت نور السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد ومن فيهن" الحديث, وعن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور العرش من نور وجهه. وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} في هذا الضمير قولان:
(أحدهما) أنه عائد إلى الله عز وجل أي مثل هداه في قلب المؤمن قاله ابن عباس {كَمِشْكَاةٍ}
(والثاني) أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة, فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف, فقوله {كَمِشْكَاةٍ} قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد: هو موضع الفتيلة من القنديل هذا هو المشهور ولهذا قال بعده {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو الزبالة التي تضيء. وقال العوفي عن ابن عباس قوله {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل (ذلك) لنوره فقال {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} والمشكاة كوة في البيت, قال وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى الله طاعته نوراً ثم سماها أنواعاً شتى, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هن الكوة بلغة الحبشة وزاد بعضهم فقال: المشكاة الكوة التي لا منفذ لها, وعن مجاهد المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل, والقول الأول أولى وهو أن المشكاة هو موضع الفتيلة من القنديل ولهذا قال {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو النور الذي في الذُبالة, قال أبيّ بن كعب: المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره, وقال السدي: هو السراج {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أي هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية, وقال أبيّ بن كعب وغير واحد: وهي نظير قلب المؤمن {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة من الدر أي كأنها كوكب من درّ, وقرأ آخرون دريء ودريء بكسر الدال وضمها مع الهمزة من الدرء وهو الدفع, وذلك أن النجم إذا رمي به يكون أشد استنارة من سائر الأحوال, والعرب تسمي مالا يعرف من الكواكب دراري, قال أبيّ بن كعب: كوكب مضيء, وقال قتادة: مضيء مبين ضخم {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة {زَيْتُونَةٍ} بدل أو عطف بيان {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ولا في غربيها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب بل هي في مكان وسط تقرعه الشمس من أول النهار إلى آخره فيجيء زيتها صافياً(3/353)
معتدلاً مشرقاً.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد, أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها. وقال يحيى بن سعيد القطان عن عمران بن حدير عن عكرمة في قوله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال: هي بصحراء وذلك أصفى لزيتها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا عمرو بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة وسأله رجل عن قوله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال: تلك بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها فإذا غربت غربت عليها, فذلك أصفى ما يكون من الزيت. وقال مجاهد في قوله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال: ليست بشرقية لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولكنها شرقية وغربية تصيبها إذا طلعت وإذا غربت.
وعن سعيد بن جبير في قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} قال هو أجود الزيت, قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس, فالشمس تصيبها بالغداة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية. وقال السدي قوله {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} يقول ليست بشرقية يحوزها المشرق ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ولكنها على رأس جبل أو في صحراء تصيبها الشمس النهار كله. وقيل المراد بقوله تعالى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أنها في وسط الشجر ليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قول الله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال هي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها فهو بين أربع خلال, إن قال صدق, وإن حكم عدل, وإن ابتلي صبر, وإن أعطي شكر, فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات, قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال هي وسط الشجر لا تصيبها شرقاً ولا غرباً, وقال عطية العوفي {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال هي شجرة في موضع من الشجر يرى ظل ثمرها في ورقها, وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عبد الرحمن الدشتكي, حدثنا عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} ليست شرقية ليس فيها غرب, ولا غربية ليس فيها شرق, ولكنها شرقية غربية, وقال محمد بن كعب القرظي {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال هي القبلية, وقال زيد بن أسلم {لا شرقية ولا غربية} قال الشام, وقال الحسن البصري لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية, ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره, وقال الضحاك {توقد من شجرة مباركة} قال رجل صالح {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قال: لا يهودي ولا نصراني, وأولى هذه الأقوال القول الأول, وهو أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس تفرعه من أول النهار إلى آخره ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف كما قال غير واحد ممن تقدم, ولهذا قال تعالى: {يكاد زيتها يضيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني لضوء إشراق الزيت.
وقوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قال العوفي عن ابن عباس يعني بذلك إيمان العبد وعمله, وقال مجاهد(3/354)
والسدي: يعني نور النار ونور الزيت, وقال أبيّ بن كعب {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فهو يتقلب في خمسة من النور: فكلامه نور, وعمله نور, ومدخله نور, ومخرجه نور, ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة. وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي, كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء. وقال السدي في قوله تعالى {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قال: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا, فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه.
وقوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره, كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري, حدثنا الأوزاعي, حدثني ربيعة بن زيد عن عبد الله الديلمي عن عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ, فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضل فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل".
(طريق أخرى عنه) قال البزار: حدثنا أيوب عن سويد عن يحيى بن أبي عمرو السيباني, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم نوراً من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل" ورواه البزار عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر بلفظه وحروفه. وقوله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لما ذكر تعالى هذا مثلاً لنور هداه في قلب المؤمن ختم الآية بقوله {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا أبو معاوية حدثنا شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة, عن أبي البحتري, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر, وقلب أغلف مربوط على غلافه, وقلب منكوس, وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن سراجه فيه نوره, وأما القلب الأغلف فقلب الكافر, وأما القلب المنكوس فقلب المنافق, عرف ثم أنكر, وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق, ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب,ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح, فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" إسناده جيد ولم يخرجوه.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ والآصال رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل, ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد فقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها. كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} قال نهى الله سبحانه عن اللغو فيها, وكذا قال(3/355)
عكرمة وأبو صالح والضحاك ونافع بن جبير وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وسفيان بن حسين وغيرهم من العلماء المفسرين.
وقال قتادة: هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها و عمارتها ورفعها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعباً كان يقول: مكتوب في التوراة ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ثم زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزائر رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره. وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها وذلك له محل مفرد يذكر فيه وقد كتبت في ذلك جزءاً على حدة, و لله الحمد والمنة, ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفاً من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان, فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" أخرجاه في الصحيحين.
وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجداً يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتاً في الجنة" وللنسائي عن عمرو بن عنبسة مثله, والأحاديث في هذا كثيرة جداً, وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب. رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي, ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه, وقال البخاري: قال عمر: ابن للناس ما يكنهم, وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس, وروى ابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم" وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد" قال ابن عباس أزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي. وعن بريدة أن رجلاً أنشد في المسجد فقال من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له" رواه مسلم, وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد, فقولوا لا أربح الله تجارتك, وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردّ الله عليك" رواه الترمذي وقال حسن غريب, وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعاً قال: خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقاً ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه أحد ولا يتخذ سوقاً, وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع" ورواه ابن ماجه أيضاً وفي إسنادهما ضعف, أما أنه لا يتخذ طريقاً فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وجد مندوحة عنه, وفي الأثر إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه, وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل, فلما يخشى من إصابة بعض الناس به لكثرة المصلين فيه, ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها لئلا يؤذي أحداً, كما ثبت ذلك في الصحيح, وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث, وأما أنه لا يضرب فيه حد ولا(3/356)
يقتص فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع, وأما أنه لا يتخذ سوقاً فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد "إن المساجد لم تبن لهذا, إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها" ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله. وفي الحديث الثاني "جنبوا مساجدكم صبيانكم" وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم, وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبياناً يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة, وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحداً "ومجانينكم" يعني لأجل ضعف عقولهم وسخر الناس بهم فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك "وبيعكم وشراءكم" كما تقدم "وخصوماتكم" يعني التحاكم والحكم فيه, ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد بل يكون في موضع غيره لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والألفاظ التي لا تناسبه, ولهذا قال بعده "ورفع أصواتكم".
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن قال: حدثني يزيد بن حفصة عن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال من أنتما ؟ أو من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف. قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال النسائي: حدثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضاً صحيح. وقوله: "وإقامة حدودكم وسل سيوفكم" تقدما. وقوله: "واتخذوا على أبوابها المطاهر" يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريباً من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله: "وجمروها في الجمع" يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ, وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبيد الله, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به والله أعلم, وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه,اللهم ارحمه. ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة". وعند الدار قطني مرفوعاً "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وفي السنن "بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم, وسلطانه القديم, من الشيطان الرجيم" (قال: أقطُ قال نعم) قال فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم.
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك فضلك" ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد(3/357)
فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم. وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم" ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسين عن أمه فاطمة بنت حسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" ورواه الترمذي وابن ماجه, وقال الترمذي هذا حديث حسن, وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة بنت حسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك كله محاذرة الطول داخل في قوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}.
وقوله {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي اسم الله كقوله {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقوله {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} الآية. وقوله تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} قال ابن عباس يعني فيها يتلى كتابه, وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} أي في البكرات والعشيات. والآصال جمع أصيل وهو آخر النهار. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن هو الصلاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بالغدوّ صلاة الغداة ويعني بالآصال صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده. وكذا قال الحسن والضحاك {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} يعني الصلاة, ومن قرأ من القراء {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} بفتح الباء من {يسبح} على أنه مبني لما لم يسم فاعله وقف على قوله {والآصال} وقفا تاما وابتدأ بقوله {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} وكأنه مفسر للفاعل المحذوف كما قال الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه قال: من يبكيه ؟ قال هذا يبكيه, وكأنه قيل من يسبح له فيها ؟ قال رجال. وأما على قراءة من قرأ {يسبح} بكسر الباء فجعله فعلاً وفاعله {رجال} فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل لأنه تمام الكلام فقوله تعالى: {رجال} فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عماراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه كما قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية, وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها, وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها".
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين, حدثني عمرو عن أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن" وقال أحمد أيضاً: حدثنا هارون, أخبرني عبد الله بن وهب, حدثنا داود بن قيس عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي, وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك, وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك, وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك, وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي" قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه فكانت(3/358)
والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى, لم يخرجوه. هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب, كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" رواه البخاري ومسلم, ولأحمد وأبي داود "وبيوتهن خير لهن". وفي رواية "وليخرجن وهن تفلات" أي لا ريح لهن. وقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً". وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس, وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بين إسرائيل.
وقوله تعالى : {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} الآية, يقول تعالى لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم, والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم, لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق, ولهذا قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم, قال هشيم عن شيبان قال: حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة, فقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية, وهكذا روى عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة, فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عبد الله بن بكير الصنعاني, حدثنا أبو سعيد مولى بن هاشم, حدثنا عبد الله بن بجير, حدثنا أبو عبد ربّه قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه, أربح كل يوم ثلاثمائة دينار, أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد, أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال, ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وقال عمرو بن دينار الأعور: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم, فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد, فتلا سالم هذه الآية {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ثم قال, هم هؤلاء, وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك: لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها. وقال مطر الورّاق: كانوا يبيعون ويشترون, ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} يقول عن الصلاة المكتوبة, وكذا قال مقاتل بن حيان والربيع بن أنس. وقال السدي: عن الصلاة في جماعة. وقال مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله, وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها. وقوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, أي من شدّة الفزع وعظمة الأهوال, كقوله {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} الآية.
وقوله {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(3/359)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}. وقوله تعالى ههنا: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. وقوله {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم, كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية, وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الآية, وقال {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} الآية, وقال {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال ههنا {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحداً واحداً, فكلهم لم يشربه لأنه كان صائماً, فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً, ثم تلا قوله {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} رواه النسائي وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه.
وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم, ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله, فيقومون وهم قليل, ثم يحاسب سائر الخلائق" وروى الطبراني من حديث بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن أبي وائل, عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا.
{وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّىَ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: نارياً ومائياً, وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين: مائياً ونارياً, وقد تكلمنا على كل منهما في موضعه بما أغنى عن إعادته, ولله الحمد والمنة. فأما الأول من هذين المثلين, فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات, وليسوا في نفس الأمر على شيء, فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بعد كأنه بحر طام, والقيعة: جمع قاع كجار وجيرة, والقاع أيضاً واحد القيعان, كما يقال جار وجيران, وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب, وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار, وأما الاَل فإنما يكون أول النهار يرى كأنه ماء بين السماء والأرض, فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه, فلما انتهى إليه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملاً وأنه قد حصل شيئاً, فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله, لم يجد له شيئاً بالكلية قد قبل إما لعدم الإخلاص أو لعدم سلوك الشرع, كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وقال ههنا {ووجد الله عنده فوفاه حسابه, والله سريع الحساب} وهكذا روي عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وغير(3/360)
واحد.
وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون ؟ فيقولون: يا رب عطشنا فاسقنا, فيقال: ألا ترون ؟ فتمثل لهم النار كأنها سرابٌ يحطم بعضها بعضاً, فينطلقون فيتهافتون فيها, وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب, فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} قال قتادة {لجي} هو العميق {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام, فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط, المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده, ولا يدري أين يذهب, بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب ؟ قال معهم, قيل: فإلى أين يذهبون ؟ قال لا أدري.
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} الآية, يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر, وهي كقوله {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} الآية, وكقوله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} الآية, وقال أبيّ بن كعب في قوله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة, وعمله ظلمة, ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة, ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار, وقال السدي والربيع بن أنس نحو ذلك أيضاً. وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل, حائل, بائر, كافر, كقوله {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نوراً, وعن أيمانناً نوراً, وعن شمائلنا نوراً, وأن يعظم لنا نوراً.
{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطّيْرُ صَآفّاتٍ كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ}
يخبر تعالى أنه يسبح له من في السموات والأرض أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان حتى الجماد, كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} الآية, وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} أي في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه, وهو يعلم ما هي فاعلة, ولهذا قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل. ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء, ولهذا قال تعالى: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض, فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا معقب لحكمه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي يوم القيامة, فيحكم فيه بما يشاء {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} الآية, فهو الخالق المالك, ألا له الحكم في الدنيا والأخرى, وله الحمد في الأولى والأخرة.
{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ يُقَلّبُ اللّهُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولي الأبْصَارِ}(3/361)
يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة, وهو الإزجاء {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه بعد تفرقه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أي متراكماً, أي يركب بعضه بعضاً {فَتَرَى الْوَدْقَ} أي المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي من خلله, وكذا قرأها ابن عباس والضحاك. قال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً, ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب, ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه, ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله.
وقوله {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} قال بعض النحاة {مِنْ} الأولى لابتداء الغاية, والثانية للتبعيض, والثالثة لبيان الجنس, وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب, فإن من الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضاً, لكنها بدل من الأولى, والله أعلم. وقوله تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} يحتمل أن يكون المراد بقوله {فَيُصِيبُ بِهِ} أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد, فيكون قوله {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} رحمة لهم {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} أي يؤخر عنهم الغيث, ويحتمل أن يكون المراد بقوله {فَيُصِيبُ بِهِ} أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم, ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم.
وقوله {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته. وقوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا, ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيراً ويقصر الذي كان طويلاً, والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أي لدليلاً على عظمته تعالى, كما قال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وما بعدها من الآيات الكريمات.
{وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ فَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد, {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحية وما شاكلها, {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام وسائر الحيوانات, ولهذا قال {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي بقدرته لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, ولهذا قال {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{لّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحُكْم والحِكَم والأمثال البينة المحكمة كثيراً جداً, وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى, ولهذا قال {وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}
{وَيِقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالرّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمّ يَتَوَلّىَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لّهُمُ الْحَقّ يَأْتُوَاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(3/362)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوَاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون}
يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون, يقولون قولاً بألسنتهم {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون, ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. وقوله تعال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية, أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدىَ فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه, وهذه كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ - إلى قوله - رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}. وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء عن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً "من دعي إلى سلطان فلم يجب, فهو ظالم لا حق له".
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاؤوا سامعين مطيعين, وهو معنى قوله {مُذْعِنِينَ} وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق, وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثم فإذعانه أولاً لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق, بل لأنه موافق لهواه, ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره, ولهذا قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية, يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها أو قد عرض لها شك في الدين, أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم, وأيا ما كان فهو كفر محض, والله عليم بكل منهم وما هو منطو عليه من هذه الصفات.
وقوله تعالى: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي بل هم الظالمون الفاجرون, والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور تعالى الله ورسوله عن ذلك. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا مبارك, حدثنا الحسن قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق, أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق, وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض وقال: انطلق إلى فلان, فأنزل الله هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان بينه وبين أخيه شيء فدعي إلى حكم من أحكام المسلمين فأبى أن يجيب, فهو ظالم لا حق له" وهذا حديث غريب, وهو مرسل.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون ديناً سوى كتاب الله وسنة رسوله, فقال {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعاً وطاعة.ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح, وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب, فقال تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال قتادة في هذه الآية {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ذكر لنا أن عبادة بن الصامت, وكان عقبياً بدرياً أحد نقباء الأنصار, أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك ؟ قال: بلى. قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك, وعليك أن تقيم لسانك بالعدل, وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحاً, فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله, فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله, ولا خير إلا في جماعة, والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة, قال: وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة, وإيتاء(3/363)
الزكاة, والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين, رواه ابن أبي حاتم, والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله كثير جداً أكثر من أن تحصر في هذا المكان.
وقوله {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي فيما أمراه به, وترك ما نهياه عنه, ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل. وقوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة.
{وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُل لاّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مّعْرُوفَةٌ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}
يقول تعالى مخبراً عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم: لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن, قال الله تعالى: {قُلْ لا تُقْسِمُوا} أي لا تحلفوا. وقوله {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} قيل معناه طاعتكم طاعة معروفة, أي قد علم طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه, وكلما حلفتم كذبتم, كما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} الآية. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} الآية, فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه, كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
وقيل المعنى في قوله {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أي ليكن أمركم طاعة معروفة, أي بالمعروف من غير حلف ولا أقسام, كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف, فكونوا أنتم مثلهم {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي, فالحلف وإظهار الطاعة والباطن بخلافه وإن راج على المخلوق, فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى, لا يروج عليه شي من التدليس, بل هو خبير بضمائر عباده وإن أظهروا خلافها. ثم قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله.
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} أي بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية. وقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} كقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}. وقوله {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}. قال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في بني إسرائيل, فإني سأطلق لسانك بوحي, فقام فقال: يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي, فإن الله يريد أن يقضي شأناً ويدبر أمراً هو منفذه, إنه يريد أن يحول الريف إلى الفلاة, والآجام في الغيطان, والأنهار في الصحارى, والنعمة في الفقراء, والملك في الرعاة, ويريد أن يبعث أمياً من الأميين ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر على السراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه بشيراً ونذيراً, لا يقول الخنى, أفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, وأسدده لكل أمر جميل, وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة(3/364)
منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته, والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه, أهدي به بعد الضلالة, وأعلم به من الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة, وقلوب مختلفة, وأهواء مشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيماً من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس, يأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين بما جاءت به رسلي, رواه ابن أبي حاتم.
{وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَىَ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض, أي أئمة الناس والولاة عليهم, وبهم تصلح البلاد, وتخضع لهم العباد. وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم, وقد فعله تبارك وتعالى, وله الحمد والمنة, فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها, وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام, وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس, وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة, قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق, فلمّ شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم, وأَطّدَ جزيرة العرب ومهدها, وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه, ففتحوا طرفاً منها, وقتلوا خلقاً من أهلها. وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام, وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر, ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة.
ومنّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق, فقام بالأمر بعده قياماً تاماً, لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله. وتمّ في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس. وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته, وقصر قيصر, وانتزع يده عن بلاد الشام, وانحدر إلى القسطنطينية, وأنفق أموالهما في سبيل الله, كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله, عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها, ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص, وبلاد القيروان, وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط, ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين, وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية, وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز, وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً, وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان, وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه, وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن, ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها, ويبلغ ملك أمتي ما زوى لي(3/365)
منها" فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله, وصدق الله ورسوله فنسأل الله الإيمان به وبرسوله, والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني, فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قال: "كلهم من قريش". ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به, وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك, وذكر معه أحاديث أخر, وفي هذا الحديث دلالة على أنه لابد من وجود اثني عشر خليفة عادلاً وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر, فإن كثيراً من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء, فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون, وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة, ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين, بل يكون وجودهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً, وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر, ثم عمر, ثم عثمان, ثم علي رضي الله عنه, ثم كانت بعدهم فترة, ثم وجد منهم من شاء الله, ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى. ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنيته كنيته, يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة, ثم تكون ملكاً عضوضاً" وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} الآية, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً, وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة, فقدموها فأمرهم الله بالقتال, فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح, فغبروا بذلك ما شاء الله, ثم إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة" وأنزل الله هذه الآية, فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب, فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلم, فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه, فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فغير بهم, وقال بعض السلف: خلافة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله, ثم تلا هذه الآية.
وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد, وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ - إلى قوله - لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وقوله تعالى: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية, وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} الآيتين.
وقوله {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} الآية, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه "أتعرف الحيرة ؟" قال: لم أعرفها, ولكن قد سمعت بها. قال: "فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد, ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز" قلت: كسرى بن هرمز, قال: "نعم كسرى بن هرمز, وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد".(3/366)
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد, ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز, والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض, فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب". وقوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل, قال: "يا معاذ". قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك, قال: ثم سار ساعة, ثم قال: "يا معاذ بن جبل". قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك, ثم سار ساعة, ثم قال: "يا معاذ بن جبل". قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "هل تدري ما حق الله على العباد ؟" قلت: الله ورسوله أعلم.. قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً". قال: ثم سار ساعة, ثم قال: "يا معاذ بن جبل". قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟" قال: قلت الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم", أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه, وكفى بذلك ذنباً عظيماً, فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل وأطوعهم لله, كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب, وأيدهم تأييداً عظيماً, وحكموا في سائر العباد والبلاد, ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم, ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة - وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم كذلك - وفي رواية - حتى يقاتلوا الدجال - وفي رواية - حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون" وكل هذه الروايات صحيحة, ولا تعارض بينها.
{وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بإقامة الصلاة, وهي عبادة الله وحده لا شريك له, وإيتاء الزكاة, وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم, وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي سالكين وراءه فيما به أمرهم, وتاركين ما عنه زجرهم, لعل الله يرحمهم بذلك, ولا شك أن من فعل هذا, أن الله سيرحمه, كما قال تعالى في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} . وقوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ} أي لا تظن يا محمد أن {الَّذِينَ كَفَرُوا} أي خالفوك وكذبوك {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أي لا يعجزون الله, بل الله قادر عليهم وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب, ولهذا قال تعالى: {وَمَأْوَاهُمُ} أي في الدار الآخرة {النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس المآل مآل الكافرين, وبئس القرار وبئس المهاد.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرّاتٍ مّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ(3/367)
عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَآءِ الّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لّهُنّ وَاللّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ}
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض, وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض, فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال:
(الأول) من قبل صلاة الغداة, لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرشهم {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} أي في وقت القيلولة, لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} لأنه وقت النوم, فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال, ولهذا قال {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال, فلا جناح عليكم في تمكينكم من ذلك إياهم ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال.لأنه قد أذن لهم في الهجوم, ولأنهم طوافون عليكم أي في الخدمة وغير ذلك. ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم, ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو والطوافات". ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء وكان عمل الناس بها قليلاً جداً, أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس.
كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثني عبد الله بن لهيعة, حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى آخر الآية, والآية التي في سورة النساء {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الآية, والآية في الحجرات { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وروى أيضاً من حديث إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف, عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات فلم يعملوا بهن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى آخر الآية.
وروى أبو داود: حدثنا ابن الصباح وابن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه: أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن, وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به, وقال الثوري عن موسى بن أبي عائشة: سألت الشعبي {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ؟ قال: لم تنسخ. قلت: فإن الناس لا يعملون بها. فقال: الله المستعان.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان, حدثنا ابن وهب, أخبرنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو, عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن, فقال ابن عباس: إن الله ستير يحب الستر. كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم, ولا حجال في بيوتهم, فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله, فأمرهم الله أن يستأذنوا في(3/368)
تلك العورات التي سمى الله. ثم جاء الله بعد بالستور, فبسط الله عليهم الرزق, فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال, فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس, ورواه أبو داود عن القعنبي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به.
وقال السدي: كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة, فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن, وقال مقاتل بن حيان: بلغنا - والله أعلم - أن رجلاً من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فجعل الناس يدخلون بغير إذن, فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا, إنه ليدخل على المرأة وزوجها - وهما في ثوب واحد - غلامهما بغير إذن, فأنزل الله في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى آخرها, ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ثم قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث, إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال, يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته, وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: إذا كان الغلام رباعياً, فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه, فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير. وقال في قوله {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه. وقوله {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والضحاك وقتادة: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي, حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي, عن عكرمة عن ابن عباس {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية, فنسخ واستثنى من ذلك القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا الآية, قال ابن مسعود في قوله {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قال: الجلباب أو الرداء وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم. وقال أبو صالح: تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود {أن يضعن من ثيابهن} وهو الجلباب من فوق الخمار, فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد إن يكون عليها خمار صفيق, وقال سعيد بن جبير في الآية {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبد الله, حدثنا ابن المبارك حدثني سوار بن ميمون, حدثنا طلحة بن عاصم عن أم الضياء أنها قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها,فقلت: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق ؟ فقالت: يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة, أحل الله لكن الزينة غير متبرجات, أي لا يحل لكن إن يروا منكن محرماً.
وقال السدي: كان شريك لي يقال له مسلم, وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان, فجاء يوماً إلى السوق وأثر الحناء في يده, فسألته عن ذلك فأخبرني أنه خضب رأس مولاته وهي امرأة حذيفة, فأنكرت ذلك, فقال: إن شئت ادخلتك عليها ؟ فقلت: نعم, فأدخلني عليها فإذا هي امرأة(3/369)
جليلة, فقلت لها: إن مسلماً حدثني أنه خضب لك رأسك ؟ فقالت: نعم يا بني إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً, وقد قال الله تعالى في ذلك ما سمعت. وقوله {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزاً خير وأفضل لهن {والله سميع عليم}.
{لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ تَحِيّةً مّنْ عِندِ اللّهِ مُبَارَكَةً طَيّبَةً كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ}
اختلف المفسرون رحمهم الله في المعنى الذي لأجله رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ههنا, فقال عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنها: نزلت في الجهاد, وجعلوا هذه الآية ههنا كالتي في سورة الفتح, وتلك في الجهاد لا محالة, أي إنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم, وكما قال تعالى في سورة براءة {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ - إلى قوله - أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} وقيل: المراد ههنا أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات, فربما سبقه غيره إلى ذلك, ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فيفتات عليه جليسه, والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره, فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم, فأنزل الله هذه الآية, رخصة في ذلك, وهذا قول سعيد بن جبير ومقسم.
وقال الضحاك: كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذراً وتعززاً, ولئلا يتفضلوا عليهم, فأنزل الله هذه الآية. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية, قال: كان الرجل يذهب بالأعمى أو بالأعرج أو بالمريض إلى بيت أبيه أو أخيه أو بيت أخته أو بيت عمته أو بيت خالته, فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم, فنزلت هذه الآية رخصة لهم. وقال السدي: كان الرجل يدخل بيت أبيه أو أخيه أو ابنه, فتتحفه المرأة بشيء من الطعام, فلا يأكل من أجل أن رب البيت ليس ثم, فقال الله تعالى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية.
وقوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إنما ذكر هذا وهو معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ, وليستأديه به ما بعده في الحكم, وتضمن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينص عليهم, ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه, وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنت ومالك لأبيك". وقوله {وْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ - إلى قوله - أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} هذا ظاهر, وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض, كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في(3/370)
المشهور عنهما, وأما قوله {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} فقال سعيد بن جبير والسدي: هو خادم الرجل من عبد وقهرمان, فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف. وقال الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يذهبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم, ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه, فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل, إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم, وإنما نحن أمناء, فأنزل الله {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}.
وقوله {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم, فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك. وقال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه. وقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: وذلك لما أنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل, والطعام هو أفضل من الأموال, فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد, فكف الناس عن ذلك, فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ - إلى قوله - أَوْ صَدِيقِكُمْ} وكانوا أيضاً يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره, فرخص الله لهم في ذلك, فقال {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} وقال قتادة: كان هذا الحي من بني كنانة يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية, حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل.
كما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا الوليد بن مسلم عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع. قال: "لعلكم تأكلون متفرقين, اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه" ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث الوليد بن مسلم به, وقد روى ابن ماجه أيضاً من حديث عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن أبيه عن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة".
وقوله {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري: يعني فليسلم بعضكم على بعض. وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير, سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة, قال: ما رأيته إلا يوجبه. قال ابن جريج: وأخبرني زياد عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخل أحدكم بيته فليسلم, قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم ؟ قال: لا, ولا آثر وجوبه عن أحد, ولكن هو أحب إلي وما أدعه إلا ناسياً.
وقال مجاهد: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله, وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم, وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وروى الثوري عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد, إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: بسم الله والحمد لله, السلام علينا من ربنا, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, وقال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم, وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, فإنه كان يؤمر بذلك, وحدثنا أن الملائكة ترد عليه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عويد بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن أنس قال: أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال قال: " يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك, وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك, وإذا دخلت - يعني بيتك(3/371)
- فسلم على أهلك يكثر خير بيتك, وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك. يا أنس ارحم الصغير ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة". وقوله {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} قال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول: ما أخذت التشهد, إلا من كتاب الله سمعت الله يقول {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} فالتشهد في الصلاة, التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, ثم يدعو لنفسه ويسلم. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث ابن إسحاق. والذي في صحيح مسلم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا, والله أعلم. وقوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لما ذكر تعالى ما في هذه السور الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة, نبه تعالى عباده على أنه يبين لعباده الآيات بياناً شافياً ليتدبروها ويتعقلوها, لعلهم يعقلون.
{إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىَ أَمْرٍ جَامِعٍ لّمْ يَذْهَبُواْ حَتّىَ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنّ الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَاْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
وهذا أيضاً أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه, فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول, كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك, أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته وإن من يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين, ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء, ولهذا قال {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} الآية. وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حدثنا بشر هو ابن المفضل عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم, فإذا أراد أن يقوم فليسلم, فليست الأولى بأحق من الآخرة" وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به. وقال الترمذي: حديث حسن.
{لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم, فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم, قال: فقولوا يا نبي الله, يا رسول الله, وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم, وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود. وقال مقاتل في قوله {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} يقول: لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عبد الله, ولكن شرفوه فقولوا: يا نبي الله يا رسول الله.
وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ(3/372)
كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} قال: أمرهم الله أن يشرفوه, هذا قول, وهو الظاهر من السياق, كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} إلى آخر الآية. وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ - إلى قوله - إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} الآية, فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته. والقول الثاني في ذلك أن المعنى في {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره, فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا, حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري وعطية العوفي, والله أعلم.
وقوله {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} قال مقاتل بن حيان: هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة, ويعني بالحديث الخطبة, فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخرجوا من المسجد, وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة بعد ما يأخذ في الخطبة, وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل, لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بطلت جمعته. وقال السدي: كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم, وقال قتادة في قوله {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} يعني لواذاً عن نبي الله وعن كتابه. وقال سفيان {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} قال: من الصف, وقال مجاهد في الآية {لواذاً} خلافاً.
وقوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته, فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله, فما وافق ذلك قبل, وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان, كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أي فليحذر وليخشَ من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً. {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك. كما روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه, قال: هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها, وجعل يحجزهن ويغلبنه ويقتحمن فيها - قال - فذلك مثلي ومثلكم, أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار, فتغلبوني وتقتحمون فيها" أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
{أَلآ إِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمُ}
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض, وأنه عالم الغيب والشهادة, وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم, فقال {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} وقد للتحقيق, كما قال قبلها { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} وقال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} الآية, وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} الآية, وقال {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وقال {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية, فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد,(3/373)
كقول المؤذن تحقيقاً وثبوتاً: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. فقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة, كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ - إلى قوله - إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقوله {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر, وقال تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وقال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} الآية, وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقال {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً.
وقوله {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} أي ويوم ترجع الخلائق إلى الله وهو يوم القيامة {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير, كما قال تعالى: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} وقال {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ولهذا قال ههنا {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} والحمد لله رب العالمين ونسأله التمام.
آخر تفسير سورة النور و لله الحمد والمنة.(3/374)
سورة الفرقان
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ فَقَدّرَهُ تَقْدِيراً}
يقول تعالى حامداً لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم, كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} الآية, وقال ههنا {تَبَارَكَ} وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة { الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ} نزل فعل من التكرر والتكثر كقوله {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة, والقرآن نزل منجماً مفرقاً مفصلاً آيات بعد آيات, وأحكاماً بعد أحكام, وسوراً بعد سور, وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه, كما قال في أثناء هذه السورة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاًً, وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ولهذا سماه ههنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال, والغي والرشاد والحلال والحرام.
وقوله {عَلَى عَبْدِهِ} هذه صفة مدح وثناء لأنه أضافه إلى عبوديته, كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء, فقال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه, فقال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . وقوله {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} الذي جعله فرقاناً عظيماً إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء, كما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأحمر والأسود" وقال: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" فذكر منهن أنه "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} الآية, أي الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي يحيي ويميت, وهكذا قال ههنا {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك. ثم أخبر أنه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب, وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه, وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.
{وَاتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً}(3/375)
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله الخالق لكل شيء, المالك لأزمة الأمور, الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, ومع هذا عبدوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة, بل هم مخلوقون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً, فكيف يملكون لعابديهم ؟ {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} أي ليس لهم من ذلك شيء بل ذلك كله مرجعه إلى الله عز وجل الذي هو يحيي ويميت, وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} كقوله {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وقوله {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه, ولا تنبغي العبادة إلا له لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وهو الذي لا ولد ولا والد له ولا عديل ولا نديد, ولا وزير ولا نظير, بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ هَذَا إِلاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوَاْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً}
يقول تعالى مخبراً عن سخافة عقول الجهلة من الكفار في قولهم عن القرآن {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} أي كذب {افْتَرَاهُ} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أي واستعان على جمعه بقوم آخرين, فقال الله تعالى: { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} أي فقد افتروا هم قولاً باطلاً, وهم يعلمون أنه باطل, ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} يعنون كتب الأوائل أي استنسخها {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أي تقرأ عليه {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي في أول النهار وآخره, وهذا الكلام لسخافته وكذبه وبهته منهم يعلم كل أحد بطلانه, فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاني شيئاً من الكتابة لا في أول عمره ولا في آخره, وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحواً من أربعين سنة, وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته وبره وأمانته وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة, حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره وإلى أن بعث الأمين, لما يعلمون من صدقه وبره, فلما أكرمه الله بما أكرمه به نصبوا له العداوة ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها, وحاروا فيما يقذفونه به, فتارة من إفكهم يقولون ساحر, وتارة يقولون شاعر, وتارة يقولون مجنون, وتارة يقولون كذاب, وقال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} وقال تعالى في جواب ما عاندوا ههنا وافتروا {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية, أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين إخباراً حقاً صدقاً مطابقاً للواقع في الخارج ماضياً ومستقبلاً {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} أي الله الذي يعلم غيب السموات والأرض, ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} دعاء لهم إلى التوبة والإنابة وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حلمه عظيم وأن من تاب إليه تاب عليه, فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى, كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.(3/376)
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.
{وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَىَ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبَارَكَ الّذِيَ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لّكَ قُصُوراً بَلْ كَذّبُواْ بِالسّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً}
يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم, وإنما تعللوا بقولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} يعنون كما نأكله ويحتاج إليه كما نحتاج إليه {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} أي يتردد فيها وإليها طلباً للتكسب والتجارة {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} يقولون: هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون له شاهداً على صدق ما يدعيه, وهذا كما قال فرعون {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} وكذلك قال هؤلاء على السواء تشابهت قلوبهم, ولهذا قالوا {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي علم كنز ينفق منه {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي تسير معه حيث سار, وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك وله الحجة البالغة {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} أي جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك من قولهم ساحر مسحور مجنون كذاب شاعر, وكلها أقوال باطلة, كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك, ولهذا قال {فَضَلُّوا} عن طريق الهدى {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى, فإنه ضال حيثما توجه, لأن الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضاً.
ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه إن شاء لاَتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن, فقال {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} الآية, قال مجاهد: يعني في الدنيا, قال: وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصراً كبيراً كان أو صغيراً, قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك, ولا نعطي أحداً من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله, فقال: "اجمعوها لي في الآخرة" فأنزل الله عز وجل في ذلك {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} الآية.
وقوله {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً لا أنهم يطلبون ذلك تبصراً واسترشاداً بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه(3/377)
من هذه الأقوال {وَأَعْتَدْنَا} أي أرصدنا {لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} أي عذاباً أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم. قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير {السعير} واد من قيح جهنم. وقوله {إِذَا رَأَتْهُمْ} أي جهنم {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} يعني في مقام المحشر. قال السدي: من مسيرة مائة عام {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي حنقاً عليهم, كما قال تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} أي يكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غيظها على من كفر بالله.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا إدريس بن حاتم بن الأحنف الواسطي أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي عن أصبغ بن زيد عن خالد بن كثير, عن خالد بن دريك بإسناده عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله: "من يقل علي ما لم أقل, أو ادعى إلى غير والديه, أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار - وفي رواية - فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً" قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال: "أما سمعتم الله يقول {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} الآية, ورواه ابن جرير عن محمد بن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي به. وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو بكر بن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال: خرجنا مع عبد الله يعني ابن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم, فمروا على حداد, فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار, ونظر الربيع بن خيثم إليها, فتمايل الربيع ليسقط, فمر عبد الله على أتون على شاطىء الفرات, فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه, قرأ هذه الآية {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} فصعق, يعني الربيع, وحملوه إلى أهل بيته, فرابطه عبد الله إلى الظهر, فلم يفق رضي الله عنه.
وحدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير, ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف, هكذا رواه ابن أبي حاتم بأسناده مختصراً, وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي, حدثنا عبيد الله بن موسى, أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض, فيقول لها الرحمن: ما لك ؟ قالت: إنه يستجير مني, فيقول: أرسلوا عبدي, وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك, فيقول: فما كان ظنك ؟ فيقول: أن تسعني رحمتك, فيقول: أرسلوا عبدي, وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير, وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف, وهذا إسناد صحيح.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله {سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} قال: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ لوجهه ترتعد فرائصه, حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: رب لا أسألك اليوم إلا نفسي. وقوله {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح, أي من ضيقه, وقال عبد الله بن وهب: أخبرني نافع بن يزيد عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه سئل عن قول الله {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قال "والذي نفسي بيده, إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط"
وقوله {مقرنين} قال أبو صالح: يعني مكتفين {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} أي بالويل والحسرة والخيبة {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً} الآية. روى الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول من يكسى حلة من النار إبليس, فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده, وهو ينادي يا ثبوراه, وينادون ياثبورهم حتى يقفوا على النار, فيقول يا ثبوراه ويقولون ياثبورهم, فيقال لهم لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً, وادعوا ثبوراً كثيراً" لم(3/378)
يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة. ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن عفان به, ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً} الآية, أي لا تدعوا اليوم ويلاً واحداً, وادعوا ويلاً كثيراً, وقال الضحاك: الثبور الهلاك, والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار, كما قال موسى لفرعون {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} أي هالكاً. وقال عبد الله بن الزبعري:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ... ـي ومن مال ميله مثبور
{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنّةُ الْخُلْدِ الّتِي وَعِدَ الْمُتّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىَ رَبّكَ وَعْداً مّسْئُولاً}
يقول تعالى: يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم, فتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ وزفير, ويلقون في أماكنها الضيق مقرنين لا يستطيعون حراكاً ولا استنصاراً ولا فكاكاً مما هم فيه, أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده, التي أعدها لهم وجعلها لهم جزاء ومصيراً على ما أطاعوه في الدنيا, وجعل مآلهم إليها {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} من الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ومناظر, وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب أحد, وهم في ذلك خالدون أبداً دائماً سرمداً بلا انقطاع ولا زوال ولا انقضاء ولا يبغون عنها حولاً, وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم, ولهذا قال {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} أي لابد أن يقع وأن يكون كما حكاه أبو جعفر بن جرير عن بعض علماء العربية أن معنى قوله { وَعْداً مَسْؤُولاً} أي وعداً واجباً.
وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} يقول: سلوا الذي وعدتكم - أو قال وعدناكم - ننجز وعدهم وتنجزوه, وقال محمد بن كعب القرظي في قوله {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} إن الملائكة تسأل لهم ذلك {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} وقال أبو حازم: إذا كان يوم القيامة, قال المؤمنون: ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا, فذلك قوله {وَعْداً مَسْؤُولاً} وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار, ثم التنبيه على حال أهل الجنة, كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل الجنة وما فيها من النضرة والحبور, ثم قال {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ. إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ. ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ. ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ. إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ. فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُون}
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلّوا السّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نّتّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِن مّتّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً}(3/379)
يقول تعالى مخبراً عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم, فقال {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ} قال مجاهد: هو عيسى والعزير والملائكة {فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} الآية, أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين: أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني, أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم ؟ كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} الآية, ولهذا قال تعالى مخبراً عما يجيب به المعبودون يوم القيامة {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} قرأ الأكثرون بفتح النون من قوله {نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحداً سواك لا نحن ولا هم, فنحن ما دعوناهم إلى ذلك, بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا, , ونحن برآء منهم ومن عبادتهم, كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ} الآية, وقرأ آخرون {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي ما ينبغي لأحد أن يعبدنا فإنا عبيد لك فقراء إليك, وهي قريبة المعنى من الأولى {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر, أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك {وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} قال ابن عباس: أي هلكى, وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري: أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعري حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ... ـي ومن مال ميله مثبور
وقال الله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى, كقوله تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقوله {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً} أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} أي يشرك بالله {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً}.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيراً}
يقول تعالى مخبراً عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين: أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به, ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة, وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم, فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة, ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاؤوا به من الله, ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقوله {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا(3/380)
يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي اختبرنا بعضكم ببعض, وبلونا بعضكم ببعض, لنعلم من يطيع ممن يعصي, ولهذا قال {أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي بمن يستحق أن يوحي إليه, كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} قال: يقول الله: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت, ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم. وفي صحيح مسلم عن عياض بن عماد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتلٍ بك" وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة" وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً, فاختار أن يكون عبداً رسولاً.
{وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىَ رَبّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىَ يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مّحْجُوراً وَقَدِمْنَآ إِلَىَ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُوراً أَصْحَابُ الْجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}
يقول تعالى مخبراً عن تعنت الكفار في كفرهم, وعنادهم في قولهم {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء, كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} فنراهم عياناً فيخبرونا أن محمداً رسول الله, كقولهم {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان, ولهذا قالوا: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} ولهذا قال الله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} الآية.) وقوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} أي هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم, بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم, وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار, والغضب من الجبار, فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه, اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث, اخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم, فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه, كما قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الآية, وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي بالضرب {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} ولهذا قال في هذه الآية الكريمة {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم, فإنهم يبشرون بالخيرات, وحصول المسرات, قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}. وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب: أن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها النفس الطيبة(3/381)
في الجسد الطيب إن كنت تعمرينه, اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
وقال آخرون: بل المراد بقوله {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى} يعني يوم القيامة, قاله مجاهد والضحاك وغيرهما, ولا منافاة بين هذا وما تقدم, فإن الملائكة في هذين اليومين: يوم الممات ويوم المعاد, تتجلى للمؤمنين وللكافرين, فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان, وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران, فلا بشرى يومئذ للمجرمين {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} أي وتقول الملائكة للكافرين: حرام محرم عليكم الفلاح اليوم. وأصل الحجر المنع ومنه يقال حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف, إما لفلس أو سفه أو صغر أو نحو ذلك, ومنه سمي الحجر عند البيت الحرام, لأنه يمنع الطواف أن يطوفوا فيه, وإنما يطاف من ورائه, ومنه يقال للعقل حجر, لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق, والغرض أن الضمير في قوله {وَيَقُولُونَ} عائد على الملائكة, هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني وخصيف وغير واحد واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا موسى يعني ابن قيس, عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في الآية {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} قال: حراماً محرماً أن يبشر بما يبشر به المتقون. وقد حكى ابن جرير عن ابن جريج أنه قال ذلك من كلام المشركين {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} أي يتعوذون من الملائكة, وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقول {حِجْراً مَحْجُوراً} وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه, ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه, ولكن قد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله {حِجْراً مَحْجُوراً} أي عوذاً معاذاً فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج, ولكن في رواية ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال {حِجْراً مَحْجُوراً} عوذاً معاذاً الملائكة تقول ذلك, فا لله أعلم.
وقوله تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} الآية, هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر, فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء, وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشريعة المرضية فهو باطل, فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين, وقد تجمعهما معاً فتكون أبعد من القبول حينئذ, ولهذا قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} قال مجاهد والثوري {وقدمنا} أي عمدنا, وكذا قال السدي, وبعضهم يقول: أتينا عليه.
وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله {هَبَاءً مَنْثُوراً} قال: شعاع الشمس إذا دخل الكوة, وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك وغيرهم, وكذا قال الحسن البصري: هو الشعاع في كوة أحدهم, ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {هَبَاءً مَنْثُوراً} قال: هو الماء المهراق. وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي {هَبَاءً مَنْثُوراً} قال: الهباء رهج الدواب, وروي مثله عن ابن عباس أيضاً والضحاك, وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة في قوله {هَبَاءً مَنْثُوراً} قال: أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح ؟ فهو ذلك الورق. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن عبيد بن يعلى قال: وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح, وحاصل هذه الأقوال التنبيه على(3/382)
مضمون الآية, وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء, فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا إنها لا شيء بالكلية, وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية, كما قال تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى - إلى قوله - لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} وتقدم الكلام على تفسير ذلك, ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي يوم القيامة {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات الآمنات, فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات, والحسرات المتتابعات, وأنواع العذاب والعقوبات {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي بئس المنزل منظراً, وبئس المقيل مقاماً, ولهذا قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا, وصاروا إلى ما صاروا إليه, بخلاف أهل النار فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار, فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء, وأنه لا خير عندهم بالكلية, فقال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} قال الضحاك عن ابن عباس: إنما هي ضحوة فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين, ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين.
وقال سعيد بن جبير: يفرغ الله من الحساب نصف النهار, فيقيل أهل الجنة في الجنة, وأهل النار في النار, قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}. وقال عكرمة: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة, فينصرف أهل النار إلى النار, وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة فكانت قيلولتهم في الجنة, وأطعموا كبد حوت فأشبعهم كلهم, وذلك قوله {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وقال سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء, ثم قرأ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وقرأ {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ}.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} قال: قالوا في الغرف من الجنة, وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة, وذلك الحساب اليسير, وهو مثل قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}. وقال قتادة {خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} مأوى ومنزلاً. وقال قتادة: وحدث صفوان بن محرز أنه قال: يجاء برجلين يوم القيامة أحدهما كان ملكاً في الدنيا إلى الحمرة والبياض, فيحاسب فإذا عبد لم يعمل خيراً قط فيؤمر به إلى النار, والآخر كان صاحب كساء في الدنيا فيحاسب فيقول: يا رب ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به, فيقول الله: صدق عبدي فأرسلوه فيؤمر به إلى الجنة, ثم يتركان ما شاء الله, ثم يدعى صاحب النار فإذا هو مثل الحممة السوداء, فيقال له: كيف وجدت ؟ فيقول: شر مقيل, فيقال له: عد, ثم يدعى بصاحب الجنة فإذا هو مثل القمر ليلة البدر, فيقال له: كيف وجدت ؟ فيقول: رب خير مقيل, فيقال له: عد. رواها ابن أبي حاتم كلها. وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب, أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيداً الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس, وإنهم ليقيلون في(3/383)
رياض الجنة حتى يفرغ من الناس, وذلك قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}.
{وَيَوْمَ تَشَقّقُ السّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ لِلرّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ عَلَىَ يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلاً يَوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لّقَدْ أَضَلّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً}
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة, فمنها انشقاق السماء وتفطرها, وانفراجها بالغمام وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار, ونزول ملائكة السموات يومئذ فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر, ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء. قال مجاهد: وهذا كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} الآية.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث, حدثنا مؤمل, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} قال ابن عباس رضي الله: عنهما يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد: الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق, فتنشق السماء الدنيا, فينزل أهلها وهم أكثر من الجن والإنس ومن جميع الخلق, فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق, ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع الخلق, فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والإنس وجميع الخلق, ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء الدنيا ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق, ثم كذلك كل سماء على ذلك التضعيف, حتى تنشق السماء السابعة فينزل أهلها وهم أكثر ممن نزل قبلهم من أهل السموات ومن الجن والإنس ومن جميع الخلق, فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم من أهل السموات وبالجن والإنس وجميع الخلق كلهم, وينزل ربنا عز وجل في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السموات السبع ومن الجن والإنس, وجميع الخلق لهم قرون كأكعب القنا, وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله عز وجل, ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام, وما بين كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام, وما بن ركبته إلى حجزته مسيرة خمسمائة عام, وما بين حجزته إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام, وما بين ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام. وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام وجهنم مجنبته, وهكذا رواه ابن حاتم بهذا السياق.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني الحجاج عن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس يقول: إن هذه السماء إذا انشقت ينزل منها من الملائكة أكثر من الإنس والجن, وهو يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض, فيقول أهل الأرض: جاء ربنا ؟ فيقولون: لم يجىء وهو آت, ثم تنشق السماء الثانية, ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة, فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السموات ومن الجن والإنس. قال: فتنزل الملائكة الكروبيون, ثم يأتي ربنا في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة, وبين(3/384)
فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة. قال: وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه, وكل ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه, يقول: سبحان الملك القدوس, وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القباء, والعرش فوق ذلك, ثم وقف, فمداره على علي بن زيد بن جدعان, وفيه ضعف وفي سياقاته غالباً, وفيها نكارة شديدة, وقد ورد في حديث الصور المشهور قريب من هذا, والله أعلم, وقد قال الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} قال شهر بن حوشب: حملة العرش ثمانية, أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ورواه ابن جرير عنه. وقال أبو بكر بن عبد الله: إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم, شخصت إليه أبصارهم, ورجفت كلاهم في أجوافهم, وطارت قلوبهم من مقرها من صدورهم إلى حناجرهم. قال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا المعتمر بن سليمان عن عبد الجليل عن أبي حازم عن عبد الله بن عمرو قال: يهبط الله عز وجل حين يهبط, وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب, منها النور والظلمة فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب, وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو من كلامه, ولعله من الزاملتين, والله أعلم.
وقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} الآية, كما قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. وفي الصحيح أن الله تعالى يطوي السموات بيمينه, ويأخذ الأرضين بيده الأخرى, ثم يقول: أنا الملك أنا الديان, أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون, أين المتكبرون ؟ وقوله {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} أي شديداً صعباً, لأنه يوم عدل وقضاء فصل, كما قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} فهذا حال الكافرين في هذا اليوم, وأما المؤمنون فكما قال تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} الآية.
وروى الإمام أحمد: حدثنا حسين بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ما أطول هذا اليوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}, يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه, وسلك طريقاً أخرى غير سبيل الرسول, فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم, وعض على يديه حسرة وأسفاً, وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء, فإنها عامة في كل ظالم, كما قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} الآيتين, فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم, ويعض على يديه قائلاً {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة, وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف أو غيرهما, {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} وهو القرآن {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} أي بعد بلوغه إليّ, قال الله تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} أي يخذله عن الحق ويصرفه عنه, ويستعمله في الباطل ويدعوه إليه.
{وَقَالَ الرّسُولُ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ(3/385)
الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىَ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}
يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه, كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} الآية, فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه, وترك تدبره وتفهمه من هجرانه, وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه, والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره, من هجرانه, فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء, أن يخلصنا مما يسخطه, ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه, والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه, إنه كريم وهاب.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن, كذلك كان في الأمم الماضين, لأن الله جعل لكل نبي عدواً من المجرمين, يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم, كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} الآيتين, ولهذا قال تعالى ههنا: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} أي لمن اتبع رسوله وآمن بكتابه وصدقه واتبعه, فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة, وإنما قال {هَادِياً وَنَصِيراً} لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد به, ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن, فلهذا قال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} الآية.
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ إِلَىَ جَهَنّمَ أُوْلَئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ سَبِيلاً}
يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم, حيث قالوا {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة, كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة, كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية, فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث, وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به, كقوله {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} الآية, ولهذا قال {لنثبت ِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}, قال قتادة: بيناه تبيينا. وقال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم: وفسرناه تفسيراً {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أي بحجة وشبهة {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق, إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم.
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} الآية, أي إلا نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم وما هذا إلا اعتناء وكبير شرف للرسول صلى الله عليه وسلم, حيث كان يأتيه الوحي من الله عز وجل بالقرآن صباحاً ومساء, وليلاً ونهاراً, سفراً وحضراً, وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال كتابٍ مما قبله من الكتب المتقدمة, فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله, ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى, وقد جمع الله للقرآن الصفتين معاً, ففي الملأ الأعلى(3/386)
أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا, ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجماً بحسب الوقائع والحوادث. وقال أبو عبد الرحمن النسائي أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر, ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة, قال الله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} وقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}.
ثم قال تعالى مخبراً عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة, وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً}. وفي الصحيح عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله, كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال: "إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة" وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من المفسرين.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً وَقَوْمَ نُوحٍ لّمّا كَذّبُواْ الرّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرّسّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلاّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلاّ تَبّرْنَا تَتْبِيراً وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الّتِيَ أُمْطِرَتْ مَطَرَ السّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً}
يقول تعالى متوعداً من كذب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه ومن خالفه, ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله, فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيراً, أي نبياً مؤازراً ومؤيداً وناصراً, فكذبهما فرعون وجنوده {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا رسوله نوحاً عليه السلام, ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل, إذ لا فرق بين رسول ورسول, ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبون, ولهذا قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط, وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل, ويحذرهم نقمه {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} ولهذا أغرقهم الله جميعاً ولم يبق منهم أحداً, ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي عبرة يعتبرون بها, كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج البحار لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق, وجعلكم من ذرية من آمن به وصدق أمره.
وقوله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة, كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة. وأما أصحاب الرس, فقال ابن جريج عن ابن عباس: هم أهل قرية من قرى ثمود. وقال ابن جريج: قال عكرمة: أصحاب الرس بفلج, وهم أصحاب يس. وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قال: بئر بأذربيجان. وقال الثوري عن أبي بكير, عن عكرمة: الرس بئر رسوا فيها نبيهم, أي دفنوه بها.
وقال محمد بن إسحاق عن(3/387)
محمد بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود, وذلك أن الله تعالى بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود, ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه فيها, ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم, قال: فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره, ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاماً وشراباً, ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة, ويعينه الله تعالى عليها, فيدلي إليه طعامه وشرابه, ثم يردها كما كانت, قال: فكان ذلك ما شاء الله أن يكون, ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع, فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها, فلما أراد أن يحتملها وجد سنة, فاضطجع فنام, فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً, ثم إنه هب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى, ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار, فجاء إلى القرية فباع حزمته, ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع, ثم إنه ذهب إلى الحفيرة موضعها الذي كانت فيه, فالتمسه فلم يجده, وكان قد بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه, قال: فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل, فيقولون له: لا ندري, حتى قبض الله النبي, هب الأسود من نومته بعد ذلك" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة" وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب مرسلاً, وفيه غرابة ونكارة, ولعل فيه إدراجاً, والله أعلم. وقال ابن جرير: لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن, لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم, وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم, والله أعلم. واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج, فا لله أعلم.
وقوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} أي وأمما أضعاف من ذكر أهلكناهم كثيرة, ولهذا قال {وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أي بينا لهم الحجج ووضحنا لهم الأدلة, كما قال قتادة: وأزحنا الأعذار عنهم {وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أي أهلكنا إهلاكاً, كقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} والقرن هو الأمة من الناس, كقوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين} وحده بعضهم بمائة وعشرين سنة. وقيل بمائة. وقيل بثمانين, وقيل أربعين, وقيل غير ذلك, والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن آخر, كما ثبت في الصحيحين "خير القرون قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم" الحديث {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} يعني قرية قوم لوط, وهي سدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل, كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} وقال {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} وقال {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} ولهذا قال {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} أي فيعتبروا بما حل بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشوراً, أي معاداً يوم القيامة.
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهَذَا الّذِي بَعَثَ اللّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلّ سَبِيلاً أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ(3/388)
أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ سَبِيلاً}
يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأوه كما قال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} الآية, يعنونه بالعيب والنقص. وقال ههنا {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي على سبيل التنقيص والازدراء فقبحهم الله, كما قال {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية. وقوله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها. قال الله تعالى متوعداً لهم ومتهدداً {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} الآية.
ثم قال تعالى لنبيه منبهاً أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال, فإنه لا يهديه أحد إلا الله عز وجل {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه, كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} الآية, ولهذا قال ههنا {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً, فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول. ثم قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} الآية, أي هم أسوأ حالاً من الأنعام السارحة, فإن تلك تعقل ما خلقت له, وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له, وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِبَاساً وَالنّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النّهَارَ نُشُوراً}
من ههنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة, فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ} قال ابن عباس وابن عمر وأبو العالية وأبو مالك ومسروق ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغيرهم: هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي دائماً لا يزول, كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} الآيات. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي لولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف, فإن الضد لا يعرف إلا بضده, وقال قتادة والسدي: دليلاً تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله.
وقوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أي الظل. وقيل الشمس {يسيراً} أي سهلاً, قال ابن عباس: سريعاً. وقال مجاهد: خفياً. وقال السدي: قبضاً خفياً حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة, وقد أظلت الشمس ما فوقه. وقال أيوب بن موسى في الآية {قبضاً يسيراً} قليلاً قليلا. وقوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} أي يلبس الوجود ويغشاه, كما قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} أي قاطعاً للحركة لراحة الأبدان, فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش, فإذا جاء الليل وسكن, سكنت الحركات فاستراحت, فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معاً {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم, كما قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الآية.
{وَهُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً(3/389)
مّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذّكّرُواْ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً}
وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم, وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات, أي بمجيء السحاب بعدها, والرياح أنواع في صفات كثيرة من التسخير, فمنها ما يثير السحاب, ومنها ما يحمله, ومنها ما يسوقه, ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشراً, ومنها ما يكون قبل ذلك يقم الأرض, ومنها ما يلقح السحاب ليمطر, ولهذا قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً طَهُوراً} أي آلة يتطهر بها كالسحور والوقود وما جرى مجراهما, فهذا أصح ما يقال في ذلك. وأما من قال إنه فعول بمعنى فاعل, أو إنه مبني للمبالغة والتعدي, فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة والحكم, ليس هذا موضع بسطها, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن أبي جعفر الرازي إلى حميد الطويل عن ثابت البناني قال: دخلت مع أبي العالية في يوم مطير, وطرق البصرة قذرة, فصلى فقلت له, فقال {وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً طَهُوراً} قال: طهره ماء السماء, وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا وهيب عن داود عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال: أنزله الله طهوراً لا ينجسه شيء. وعن أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة, وهي بئر يلقى فيها النتن ولحوم الكلاب ؟ فقال: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" رواه الشافعي وأحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده: حدثنا أبي, حدثنا أبو الأشعث حدثنا معتمر, سمعت أبي يحدث عن سيار عن خالد بن يزيد قال: كان عند عبد الملك بن مروان فذكروا الماء, فقال خالد بن يزيد: منه من السماء, ومنه يسقيه الغيم من البحر فيغذ به الرعد والبرق, فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات, فأما النبات فمما كان من السماء. وروي عن عكرمة قال: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. وقال غيره: في البر بر وفي البحر در.
وقوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} أي أرضاً قد طال انتظارها للغيث, فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء فلما جاءها الحياء عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان, كما قال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} الآية, {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أي وليشرب منه الحيوان من أنعام, وأناسيّ محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم, كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} الآية, وقال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الآية.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه, وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى, فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقاً, والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء, وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة. قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: ليس عام بأكثر مطراً من عام, ولكن الله يصرفه كيف يشاء, ثم قرأ هذه الآية {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات, أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه, فيقلع عما هو فيه.
وقال عمر مولى غقبة: كان جبريل عليه السلام في موضع الجنائز, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا جبريل إني أحب أن أعلم أمر السحاب" قال: فقال له جبريل: يا نبي الله هذا ملك السحاب فسله, فقال: تأتينا صكاك مختمة, اسق بلاد كذا وكذا, كذا وكذا قطرة. رواه ابن أبي حاتم وهو حديث مرسل. وقوله تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ(3/390)
إِلَّا كُفُوراً} قال عكرمة: يعني الذين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا, وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوماً على أثر سماء أصابتهم من الليل "أتدرون ماذا قال ربكم ؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر, فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي, كافر بالكواكب, وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا, فذاك كافر بي, مؤمن بالكواكب".
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً وَهُوَ الّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مّحْجُوراً وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبّكَ قَدِيراً}
يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نّذِيراً} يدعوهم إلى الله عز وجل, ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض, وأمرناك أن تبلغهم القرآن {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ف} {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . وفي الصحيحين "بعثت إلى الأحمر والأسود", وفيهما "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وبعثت إلى الناس عامة" ولهذا قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} يعني القرآن, قاله ابن عباس, {جِهَاداً كَبِيراً} كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي خلق الماءين: الحلو والملح, فالحلو كالأنهار والعيون والآبار, وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات الزلال, قاله ابن جريج, واختاره ابن جرير, وهذا المعنى لا شك فيه, فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات, والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه, فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس, فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهاراً وعيوناً في كل أرض, بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأرضيهم.
وقوله تعالى: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي مالح مر زعاق لا يستساغ, وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب: البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق, وبحر القلزم, وبحر اليمن, وبحر البصرة, وبحر فارس, وبحر الصين والهند, وبحر الروم, وبحر الخزر, وما شاكلها وما شابهها من البحار الساكنة التي لا تجري, ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح, ومنها ما فيه مد وجزر, ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض, فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى, فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة, ثم تشرع في النقص, فأجرى الله سبحانه وتعالى - وهو ذو القدرة التامة - العادة بذلك, فكل هذه البحار الساكنة, خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء, فيفسد الوجود بذلك, ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان, ولما كان ماؤها مالحاً, كان هواؤها صحيحاً وميتتها طيبة, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر: أنتوضأ به ؟ فقال: "هو الطهور ماؤه, الحل ميتته" رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن بإسناد جيد.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً} أي بين العذب والمالح {بَرْزَخاً} أي حاجزاً وهو اليبس من الأرض, {وَحِجْراً مَحْجُوراً} أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر, كقوله تعالى: {مَرَجَ(3/391)
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} الآية, أي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله وجعله كامل الخلقة ذكراً وأنثى, كما يشاء, {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} فهو في ابتداء أمره ولد نسيب, ثم يتزوج فيصير صهراً, ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات, وكل ذلك من ماء مهين, ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىَ رَبّهِ ظَهِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَن شَآءَ أَن يَتّخِذَ إِلَىَ رَبّهِ سَبِيلاً وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَيّ الّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىَ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ الرّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً}
يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام التي لا تملك له ضراً ولا نفعاً, بلا دليل قادهم إلى ذلك, ولا حجة أدتهم إليه بل بمجرد الآراء والتشهي والأهواء, فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم, ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم, ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىَ رَبّهِ ظَهِيراً} أي عوناً في سبيل الشيطان على حزب الله وحزب الله هم الغالبون, كما قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} أي آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصراً, وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم, ويذبون عن حوزتهم, ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا والآخرة.
قال مجاهد {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىَ رَبّهِ ظَهِيراً} قال: يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه. وقال سعيد بن جبير: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىَ رَبّهِ ظَهِيراً} يقول: عوناً للشيطان على ربه بالعداوة والشرك وقال زيد بن أسلم {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىَ رَبّهِ ظَهِيراً} قال: موالياً, ثم قال تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين, مبشراً بالجنة لمن أطاع الله ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم, وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي طريقاً ومسلكاً ومنهجاً يقتدي فيها بما جئت به.
ثم قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} أي في أمورك كلها كن متوكلاً على الله الحي الذي لا يموت أبداً, الذي هو {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الدائم الباقي السرمدي الأبدي الحي القيوم ورب كل شيء ومليكه اجعله ذخرك وملجأك, وهو الذي يتوكل عليه ويفزع إليه, فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك, كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل قال: قرأت على معقل يعني ابن عبيد الله, عن عبد الله بن أبي حسين عن شهر بن حوشب قال: لقي سلمان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة فسجد له, فقال: "لا(3/392)
تسجد لي يا سلمان, واسجد للحي الذي لا يموت} وهذا مرسل حسن. وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي اقرن بين حمده وتسبيحه, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك" أي أخلص له العبادة والتوكل, كما قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا}.
وقوله تعالى: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي بعلمه التام الذي لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة. وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية, أي هو الحي الذي لا يموت, وهو خالق كل شيء وربه ومليكه, الذي خلق بقدرته السموات السبع في ارتفاعها واتساعها, والأرضين السبع في سفولها وكثافتها {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي يدبر الأمر, ويقضي الحق, وهو خير الفاصلين.
وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} أي استعلم عنه من هو خبير به عالم به, فاتبعه واقتد به, وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه, سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة, الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى, فما قاله فهو الحق, وما أخبر به فهو الصدق, وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب رد نزاعهم إليه, فما وافق أقواله وأفعاله فهو الحق, وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان, قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} الآية, وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً} أي صدقاً في الإخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي, ولهذا قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}.
قال مجاهد: في قوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} قال: ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك وكذا قال ابن جريج. وقال شمر بن عطية في قوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} هذا القرآن خبير به. ثم قال تعالى منكراً على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} أي لا نعرف الرحمن, وكانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن, كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم, ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم, ولهذا أنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي هو الله وهو الرحمن وقال في هذه الآية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أ} أي لا نعرفه ولا نقر به {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي لمجرد قولك {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم, ويفردونه بالإلهية, ويسجدون له, وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجود عندها لقارئها ومستمعها, كما هو مقرر في موضعه, والله سبحانه وتعالى أعلم.
{تَبَارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مّنِيراً وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ وَالنّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذّكّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}
يقول تعالى ممجداً نفسه ومعظماً على جميل ما خلق في السماوات من البروج, وهي الكواكب العظام في قول مجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح والحسن وقتادة. وقيل: هي قصور في السماء للحرس, يروى هذا(3/393)
عن علي وابن عباس ومحمد بن كعب وإبراهيم النخعي وسليمان بن مهران الأعمش, وهو رواية عن أبي صالح أيضاً, والقول الأول أظهر. اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس, فيجتمع القولان, كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} الآية, ولهذا قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود, كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} {وَقَمَراً مُنِيراً} أي مشرقاً مضيئاً بنور آخر من غير نور الشمس, كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} وقال مخبراً عن نوح عليه السلام, أنه قال لقومه {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} ثم قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يخلف كل واحد منهما صاحبه, يتعاقبان لا يفتران, إذا ذهب هذا جاء هذا, وإذا جاء هذا ذهب ذاك, كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} الآية, وقال {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} الآية, وقال {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} الآية.
وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي جعلهما يتعاقبان توقيتاً لعبادة عباده له عز وجل, فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار, ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل, وقد جاء في الحديث الصحيح "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل". وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو حمزه عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى, فقيل له: صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه, فقال: إنه بقي علي من وردي شيء, فأحببت أن أتمه, أو قال أقضيه, وتلا هذه الآية {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: يقول من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار, أو من النهار أدركه بالليل, وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحسن, وقال مجاهد وقتادة: خلفة, أي مختلفين, أي هذا بسواده وهذا بضيائه.
{وَعِبَادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجّداً وَقِيَاماً وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا اصْرِفْ عَنّا عَذَابَ جَهَنّمَ إِنّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}
هذه صفات عباد الله المؤمنين {الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً} أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار, كقوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} الآية, فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح, ولا أشر ولا بطر, وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء, فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب, وكأنما الأرض تطوى له, وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع, حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً, فقال: ما بالك أأنت مريض ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين, فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة, وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون, وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا, وما فاتكم فأتموا".
وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن البصري في قوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} الآية, قال: إن(3/394)
المؤمنين قوم ذلل, ذلت منهم - والله - الأسماع والأبصار والجوارح, حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض, وإنهم والله أصحاء, ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم, ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة, فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس, ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة, ولكن أبكاهم الخوف من النار, إنه من لم يتعز بعزاء الله, تقطع نفسه على الدنيا حسرات, ومن لم ير لله نعمةً إلا في مطعم أو مشرب, فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله, بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً, كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلماً, وكما قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} الآية. وروى الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي, عن النعمان بن مقرن المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسب رجل رجلاً عنده, فجعل قال: المسبوب يقول: عليك السلام, الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن ملكاً بينكما يذب عنك, كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به, وإذا قلت له وعليك السلام, قال: لا بل عليك وأنت أحق به". إسناده حسن, ولم يخرجوه.
وقال مجاهد {قَالُوا سَلاماً} يعني قالوا سداداً. وقال سعيد بن جبير: ردوا معروفاً من القول. وقال الحسن البصري: {قَالُوا سَلاماً} حلماء لا يجهلون إن جهل عليهم حلموا, يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون, ثم ذكر أن ليلهم خير ليل, فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} أي في طاعته وعبادته, كما قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وقوله {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} الآية, وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} الآية, ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي ملازماً دائماً, كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراماً وإن يعـ ... ـط جزيلاً فإنه لا يبالي
ولهذا قال الحسن في قوله {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه, فليس بغرام, وإنما الغرام الملازم ما دامت السموات والأرض, وكذا قال سليمان التيمي. وقال محمد بن كعب {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} يعني ما نعموا في الدنيا, إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه, فأغرمهم فأدخلهم النار {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي بئس المنزل منظراً, وبئس المقيل مقاماً, وقال ابن أبي حاتم عند قوله {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن الربيع, حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: إذا طرح الرجل في النار هوى فيها, فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له: مكانك حتى تتحف, قال: فيسقى كأساً من سم الأساود والعقارب, قال: فيميز الجلد على حدة, والشعر على حدة, والعصب على حدة, والعروق على حدة. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن الربيع, حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد, عن عبيد بن عمير قال: إن في النار لباباً فيها حيات أمثال البخت, وعقارب أمثال البغال الدلم, فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها, فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم, فكشطت لحومهم إلى أقدامهم, فإذا وجدت حر النار رجعت.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا سلام يعني ابن مسكين, عن أبي ظلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان يا منان, فيقول الله عز وجل لجبريل: اذهب فأتني بعبدي هذا, فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون, فيرجع إلى ربه(3/395)
عز وجل فيخبره, فيقول الله عز وجل, ائتني به, فإنه في مكان كذا وكذا, فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل, فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل, فيقول الله عز وجل, ردوا عبدي, فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها, فيقول الله عز وجل, دعوا عبدي".
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} الآية, أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم, فيصرفون فوق الحاجة, ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم, بل عدلاً خياراً, وخير الأمور أوسطها, لا هذا ولا هذا, {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} كما قال تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} الآية, وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد, حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني, عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فقه الرجل رفقه في معيشته". ولم يخرجوه. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عبيدة الحداد, حدثنا مسكين بن عبد العزيز العبدي, حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" لم يخرجوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن يحيى, حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون, حدثنا سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال - يعني العبسي - عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن القصد في الغنى, وأحسن القصد في الفقر, وأحسن القصد في العبادة" ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله تعالى, فهو سرف. وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله عز وجل.
{وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً}
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قال: ثم أي ؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قال: ثم أي ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ} الآية, وهكذا رواه النسائي عن هناد بن السري عن أبي معاوية به, وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ومنصور زاد البخاري وواصل ثلاثتهم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود به, فالله أعلم, ولفظهما عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ الحديث, طريق غريب.
قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, حدثنا عامر بن مدرك, حدثنا السري يعني ابن إسماعيل, حدثنا الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله, خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته, فجلس على نشز من الأرض, وقعدت أسفل منه ووجهي حيال ركبتيه, واغتنمت خلوته وقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أي الذنب أكبر ؟ قال: "أن تدعو لله نداً وهو خلقك" قلت: ثم مه ؟ قال: "أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك" قلت: ثم مه ؟(3/396)
قال: "أن تزاني حليلة جارك" ثم قرأ {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ} الآية, وقال النسائي: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سلمة بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا إنما هي أربع" فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم, "لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تزنوا, ولا تسرقوا".
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن المديني رحمه الله, حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان, حدثنا محمد بن سعد الأنصاري, سمعت أبا طيبة الكلاعي, سمعت المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنا ؟" قالوا: حرمه الله ورسوله, فهو حرام إلى يوم القيامة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره". قال: "فما تقولون في السرقة ؟" قالوا: حرمها الله ورسوله, فهي حرام, قال: "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره". وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عمار بن نصر, حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له".
وقال ابن جريج: أخبرني يعلى عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا, وزنوا فأكثروا, ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن, لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة, فنزلت {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ} الآية, ونزلت {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي فاختة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق, وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك, وينهاك أن تزني بحليلة جارك". قال سفيان: وهو قوله {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ} الآية.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: أثاماً: واد في جهنم. وقال عكرمة {يَلْقَ أَثَاماً} أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد. وقال قتادة {يَلْقَ أَثَاماً} نكالاً, كنا نحدث أنه واد في جهنم.
وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني, إياك والزنا, فإن أوله مخافة وآخره ندامة, وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره عن أبي أمامة الباهلي موقوفاً ومرفوعاً: أن غيا وآثاماً بئران في قعر جهنم, أجارنا الله منهما بمنه وكرمه. وقال السدي {يَلْقَ أَثَاماً} جزاء, وهذا أشبه بظاهر الآية, وبهذا فسره بما بعده مبدلاً منه, وهو قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يكرر عليه ويغلظ {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} أي حقيراً ذليلاً. وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر {إِلَّا مَنْ تَابَ} أي في الدنيا إلى الله عز وجل من جميع ذلك, فإن الله يتوب عليه, وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل, ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} الآية, فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة, فتحمل على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة, ثم قد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية. قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل, كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب, فقبل الله توبته, وغير ذلك من الأحاديث. وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} في معنى قوله {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قولان
(أحدهما) أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية, قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات, فرغب الله بهم عن(3/397)
ذلك, فحولهم إلى الحسنات, فأبدلهم مكان السيئات الحسنات, وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية:
بدلن بعد حرهِ خريفا ... وبعد طول النفس الوجيفا
يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها, وقال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا, يكون الرجل على هيئة قبيحة ثم يبدله الله بها خيراً. وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن, وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين, وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح, وأبدلهم بالشرك إخلاصاً, وأبدلهم بالفجور إحصاناً, وبالكفر إسلاماً, وهذا قول أبي العالية وقتادة وجماعة آخرين.
(والقول الثاني) أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات, وما ذلك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر, فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار, فيوم القيامة وإن وجده مكتوباً عليه, فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته, كما ثبتت السنة بذلك, وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي الله عنهم, وهذا سياق الحديث. قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار, وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة, يؤتى برجل فيقول نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها, قال: فيقال له: عملت يوم كذا, كذا وكذا, وعملت يوم كذا, كذا وكذا, فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً, فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة, فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا" قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه, انفرد بإخراجه مسلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثني هاشم بن يزيد, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك, فيعطيه إياها, فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات, فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثاً وثلاثين تكبيرة, ويحمد أربعاً وثلاثين تحميدة, ويسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة فتلك مائة".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة وعارم, قالا: حدثنا ثابت يعني ابن يزيد أبو زيد, حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها, فإذا سيئاته, فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته, ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود, حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال: ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات, قيل: من هم يا أبا هريرة ؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثنا سيار, حدثنا جعفر, حدثنا أبو حمزة عن أبي الضيف - قلت: وكان من أصحاب معاذ بن جبل - قال يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم أصحاب اليمين قالت: لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال: لأنهم قد عملوا الحسنات والسيئات, فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرؤوا سيئاتهم حرفاً حرفاً, وقالوا: يا ربنا هذه سيئاتنا, فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات, فعند ذلك قالوا: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} فهم أكثر أهل الجنة.
وقال علي بن الحسين زين العابدين {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال: في الآخرة, وقال مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات, رواهما ابن أبي حاتم, وروى ابن جرير عن سعيد بن(3/398)
المسيب مثله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا أبو جابر, أنه سمع مكحولاً يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه, فقال: يا رسول الله, رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه, لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم, فهل له من توبة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أأسلمت ؟" فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, فقال النبي: "فإن الله غافر لك ما كنت كذلك, ومبدل سيئاتك حسنات" فقال: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي ؟ فقال: "وغدراتك وفجراتك" فولى الرجل يهلل ويكبر.
وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة شطب أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة, فهل له من توبة ؟ فقال: "أسلمت ؟" فقال: نعم, قال: "فافعل الخيرات واترك السيئات, فيجعلها الله لك خيرات كلها" قال: وغدراتي وفجراتي ؟ قال: "نعم" فما زال يكبر حتى توارى. ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي عن ياسين الزيات, عن أبي سلمة الحمصي عن يحيى بن جابر عن سلمة بن نفيل مرفوعاً. وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان عن فليح الشماس عن عبيد بن أبي عبيد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءتني امرأة فقالت: هل لي من توبة ؟ إني زنيت, وولدت وقتلته, فقلت: لا, ولا نعمت العين ولا كرامة, فقامت وهي تدعو بالحسرة, ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح, فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئسما قلت, أما تقرأ هذه الآية ؟" {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ - إلى قوله - إِلَّا مَنْ تَابَ} الآية, فقرأتها عليها, فخرت ساجدة وقالت: الحمد الله الذي جعل لي مخرجاً, هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي رجاله من لا يعرف, والله أعلم. وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه, وعنده: فخرجت تدعو بالحسرة وتقول: يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار ؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, تطلّبها في جميع دور المدينة فلم يجدها, فلما كان من الليلة المقبلة جاءته, فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجاً وتوبة مما عملت, وأعتقت جارية كانت معها وابنتها, وتابت إلى الله عز وجل.
ثم قال تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده, وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيراً, كبيراً أو صغيراً, فقال تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} أي فإن الله يقبل توبته, كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} الآية, وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الآية, وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية, أي لمن تاب إليه.
{وَالّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزّورَ وَإِذَا مَرّواْ بِاللّغْوِ مَرّوا كِراماً وَالّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً}
وهذه أيضاً من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور, قيل: هو الشرك وعبادة الأصنام, وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل, وقال محمد بن الحنفية: هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس(3/399)
وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: هي أعياد المشركين. وقال عمرو بن قيس, هي مجالس السوء والخنا. وقال مالك عن الزهري: شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه, كما جاء في الحديث "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر, فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" وقيل المراد بقوله تعالى: {لاَ يَشْهَدُونَ الزّورَ} أي شهادة الزور, وهي الكذب متعمداً على غيره, كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" ثلاثاً, قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الشرك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئاً, فجلس فقال: "ألا وقول الزور, ألا وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه, ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} أي لا يحضرون الزور, وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء, ولهذا قال {مَرُّوا كِرَاماً}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سيعد الأشج, حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم, أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو معروضاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً" وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي, حدثنا حبان, أخبرنا عبد الله, أخبرنا محمد بن مسلم, أخبرني ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضاً فلم يقف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً". ثم تلا إبراهيم بن ميسرة {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} وهذه أيضاً من صفات المؤمنين { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بخلاف الكافر, فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه وجهله وضلاله, كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} فقوله {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه, فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى.
قال مجاهد قوله {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} قال: لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئاً. وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة: قوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه, فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم, حدثنا عبد الله بن حمران, حدثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجوداً ولم يسمع ما سجدوا, أيسجد معهم ؟ قال: فتلا هذه الآية: يعني أنه لا يسجد معهم, لأنه لم يتدبر أمر السجود, ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة بل يكون على بصيرة من أمره ويقين واضح بين.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له. قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة. قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً, ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الآية فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله, لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو ولد ولد أو أخاً أو حميماً مطيعا لله عز وجل. قال ابن جريج في قوله {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا يجرون علينا الجرائر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم(3/400)
للإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر, حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا صفوان بن عمرو, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً, فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت, فاستغضب المقداد, فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيراً, ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه, والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه, أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم ؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبياً من الأنبياء في فترة جاهلية, ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان, فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل, وفرق بين الوالد وولده, إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار, فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار, وأنها التي قال الله تعالى: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} وهذا إسناد صحيح, ولم يخرجوه.
وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إلى الخير, فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم, وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع, وذلك أكثر ثواباً, وأحسن مآباً, ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له, أو علم ينتفع به من بعده, أو صدقة جارية".
{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقّوْنَ فِيهَا تَحِيّةً وَسَلاَماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَاُ بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة, والأقوال والأفعال الجليلة, قال بعد ذلك كله {أُوْلَئِكَ} أي المتصفون بهذه {يُجْزَوْنَ} يوم القيامة {الْغُرْفَةَ} وهي الجنة, قال أبو جعفر الباقر وسعيد بن جبير والضحاك والسدي: سميت بذلك لا رتفاعها {بِمَا صَبَرُوا} أي على القيام بذلك {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} أي في الجنة {تَحِيَّةً وَسَلاماً} أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام, ويلقون التوقير والاحترام, فلهم السلام وعليهم السلام, فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولاً, كما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} الآية.
وقوله تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي حسنت منظراً وطابت مقيلاً ومنزلاً, ثم قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه, فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلاً. قال مجاهد وعمرو بن شعيب {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} يقول: ما يفعل بكم ربي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} الآية, يقول: لولا إيمانكم. وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين, ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم(3/401)
الإيمان كما حببه إلى المؤمنين.
وقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أيها الكافرون {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي فسوف يكون تكذيبكم لزاماً لكم, يعني مقتضياً لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة, ويدخل في ذلك يوم بدر, كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الحسن البصري {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي يوم القيامة, ولا منافاة بينهما.(3/402)
سورة الشعراء
ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها سورة الجامعة
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{طسَمَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ أَلاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة. وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذه آيات القرآن المبين, أي البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل, والغي والرشاد. وقوله تعالى: {لَعَلّكَ بَاخِعٌ} أي مهلك {نّفْسَكَ} أي مما تحرص وتحزن عليهم {أَلاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار, كما قال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} كقوله {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} الآية. قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحاك والحسن وغيرهم {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي قاتل نفسك. قال الشاعر:
ألا أيهذا الباخع الحزن نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر
ثم قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً, ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية, فنفذ قدره, ومضت حكمته, وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم, وإنزال الكتب عليهم, ثم قال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس, كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} الآية, ولهذا قال تعالى ههنا: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق, فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره وشأنه, الذين اجترءوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه, وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم من زروع وثمار وحيوان.
قال سفيان الثوري عن رجل عن الشعبي:(3/403)
الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم, ومن دخل النار فهو لئيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء, ومع هذا ما آمن أكثر الناس بل كذبوا به وبرسله وكتبه, وخالفوا أمره, وارتكبوا نهيه. وقوله {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه {الرَّحِيمُ} أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه بل يؤجله وينظره, ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن إسحاق: العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره. وقال سعيد بن جبير: الرحيم بمن تاب إليه وأناب.
{وَإِذْ نَادَىَ رَبّكَ مُوسَىَ أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتّقُونَ قَالَ رَبّ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىَ هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنّا مَعَكُمْ مّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولآ إِنّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّهَا عَلَيّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ}
يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن, وكلمه وناجاه, وأرسله واصطفاه, وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه, ولهذا قال تعالى: {أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتّقُونَ قَالَ رَبّ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىَ هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه, كما قال في سورة طه {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي - إلى قوله - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}.
وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي بسبب قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر {قَالَ كَلَّا} أي قال الله له: لا تخف من شيء من ذلك كقوله {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً - أي برهاناً - فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} {فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} كقوله {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كقوله في الآية الأخرى {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} أي كل منا أرسل إليك {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك, فإنهم عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون, وهم معك في العذاب المهين, فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية, ونظر إليه بعين الازدراء والغمض, فقال {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} الآية, أي أما أنت الذي ربيناه وفي بيتنا وعلى فراشنا, وأنعمنا عليه مدة من السنين, ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلاً, وجحدت نعمتنا عليك, ولهذا قال {وأنت من الكافرين} أي الجاحدين. قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير, {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً} أي في تلك الحال {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي قبل أن يوحى إلي وينعم الله علي بالرسالة والنبوة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي الجاهلين. قال ابن جريج: وهو كذلك في قراءة عبد الله(3/404)
ابن مسعود رضي الله عنه {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} الآية, أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر, فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت, وإن خالفته عطبت, ثم قال موسى {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك, أفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم, أي ليس ما ذكرته شيئاً بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ قَالَ إِنّ رَسُولَكُمُ الّذِيَ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وذلك لأنه كان يقول لقومه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا, ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون فلما قال له موسى: إني رسول رب العالمين. قال له فرعون: ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري ؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف, حتى قال السدي: هذه الآية كقوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط, فإنه لم يكن مقراً بالصانع حتى يسأل عن الماهية, بل كان جاحداً له بالكلية فيما يظهر, وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه, فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه, وإلهه لا شريك له, هو الذي خلق الأشياء كلها, العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات والنيرات, والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار, وما بين ذلك من الهواء والطير, وما يحتوي عليه الجو, الجميع عبيد له خاضعون ذليلون {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة, فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلاً لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله {ألا تستمعون ؟} أي ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلهاً غيري ؟ فقال لهم موسى {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين, الذين كانوا قبل فرعون وزمانه. {قَالَ} أي فرعون لقومه {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أي ليس له عقل في دعواه أن ثم رباً غيري . {قال} أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة, فأجاب موسى بقوله {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي هو الذي جعل المشرق مشرقاً تطلع منه الكواكب, والمغرب مغرباً تغرب فيه الكواكب: ثوابتها وسياراتها, مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها, فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقاً, فليعكس الأمر وليجعل المشرق مغرباً والمغرب مشرقاً, كما قال تعالى عن {الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} الآية. ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته, عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه, واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه السلام, فقال ما أخبر الله تعالى عنه:(3/405)
{قَالَ لَئِنِ اتّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأجْعَلَنّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ فَأَلْقَىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوَاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحّارٍ عَلِيمٍ}
لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل, عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه, وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال, فقال {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} فعند ذلك قال موسى {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي ببرهان قاطع واضح {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ فَأَلْقَىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مّبِينٌ} أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة, ذات قوائم, وفم كبير, وشكل هائل مزعج {وَنَزَعَ يَدَهُ} أي من جبيه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي تتلألأ كقطعة من القمر, فبادر فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد, فقال للملإ حوله {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي فاضل بارع في السحر, فروج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة, ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به, فقال {يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} الآية, أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا, فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه, ويغلبكم على دولتكم, فيأخذ البلاد منكم, فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به ؟ {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} أي أخره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم يقابلونه, ويأتون بنظير ما جاء به, فتغلبه أنت, وتكون لك النصرة والتأييد, فأجابهم إلى ذلك. وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك ليجتمع الناس في صعيد واحد, وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.
{فَجُمِعَ السّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنتُمْ مّجْتَمِعُونَ لَعَلّنَا نَتّبِعُ السّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمّا جَآءَ السّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنّ لَنَا لأجْراً إِن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنّكُمْ إِذاً لّمِنَ الْمُقَرّبِينَ قَالَ لَهُمْ مّوسَىَ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزّةِ فِرْعَونَ إِنّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَىَ مُوسَىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ مُوسَىَ وَهَارُونَ}
ذكر الله تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى عليه السلام والقبط في سورة الأعراف, وفي سورة طه, وفي هذه السورة, وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم, فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون, وهذا شأن الكفر والإيمان ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الآية, ولهذا لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر, وكانوا إذ ذاك من أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلاً في ذلك, وكان السحرة جمعاً كثيراً وجماً غفيراً, قيل: كانوا اثني عشر ألفاً, وقيل خمسة عشر ألفاً, وقيل سبعة عشر(3/406)
ألفاً, وقيل تسعة عشر ألفاً, وقيل بضعة وثلاثين ألفاً, وقيل ثمانين ألفاً, وقيل غير ذلك, والله أعلم بعدتهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعاً إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم, وهم: سابور, وعاذور, وحط حط, ويصفى, واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم, وقال قائلهم {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى, بل الرعية على دين ملكهم {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} أي إلى مجلس فرعون, وقد ضربوا له وطاقاً, وجمع خدمه وحشمه ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته, فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا, أي هذا الذي جمعتنا من أجله, فقالوا {لِفِرْعَوْنَ أَإِنّ لَنَا لأجْراً إِن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنّكُمْ إِذاً لّمِنَ الْمُقَرّبِينَ} أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي, فعادوا إلى مقام المناظرة { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا} وقد اختصر هذا ههنا, فقال لهم موسى {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئاً هذا بثواب فلان, وقد ذكر الله تعالى في سورة الأعراف أنهم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}. وقال في سورة طه {فإذا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى - إلى قوله - وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وقال ههنا {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئاً. قال الله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إلى قوله - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} فكان هذا أمراً عظيماً جداً, وبرهاناً قاطعاً للعذر, وحجة دامغة, وذلك أن الذي استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا, غلبوا وخضعوا, وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة, سجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة, فغلب فرعون غلباً لم يشاهد العالم مثله, وكان وقحاً جريئاً, عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل, فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وقال {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} الآية.
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنّآ إِلَىَ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ إِنّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنّآ أَوّلَ الْمُؤْمِنِينَ} تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم, وتوعدهم فما زادهم إلا إيماناً وتسليماً, وذلك إنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر, وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا أن يكون الله قد أيده به, وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه, ولهذا لما قال لهم فرعون {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم, ولا تفتاتوا علي في ذلك, فإن أذنت لكم فعلتم, وإن منعتكم امتنعتم فإذني أنا الحاكم المطاع {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها, فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم, فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل.
ثم توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب فقالوا {لا ضَيْرَ} أي لا حرج, ولا يضرنا ذلك, ولا نبالي به {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} أي المرجع إلى الله عز وجل, وهو لا(3/407)
يضيع أجر من أحسن عملاً, ولا يخفى عليه ما فعلت بنا, وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء, ولهذا قالوا {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أي ما قارفنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فقتلهم كلهم.
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيَ إِنّكُم مّتّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنّ هَؤُلآءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ}
لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر, وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه, وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون, لم يبق لهم إلا العذاب والنكال, فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر, وأن يمضي بهم حيث يؤمر, ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عز وجل, خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حلياً كثيراً, وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر, وذكر مجاهد رحمه الله أنه كسف القمر تلك الليلة, فالله أعلم, وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام, فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه, فاحتمل تابوته معهم, ويقال: إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما السلام, وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك, إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم.
وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه الله فقال: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح, حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق, عن ابن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعاهدنا ؟" فأتاه الأعرابي, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك ؟" قال: ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي, فقال: "أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل ؟" فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله ؟ قال: "إن موسى عليه السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق, فقال لبني إسرائيل: ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقاً من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا, فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف ؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل, فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف, فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي, فقال لها: وما حكمك ؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة, فكأنه ثقل عليه ذلك, فقيل له: أعطها حكمها - قال - فانطلقت معهم إلى بحيرة - مستنقع ماء - فقالت لهم: انضبوا هذا الماء, فلما أنضبوه قالت: احفروا, فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف, فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار" وهذا حديث غريب جداً, والأقرب أنه موقوف, والله أعلم, فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب, غاظ ذلك فرعون, واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار, فأرسل سريعاً في بلاده حاشرين, أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب, ونادى فيهم {إِنَّ هَؤُلاءِ} يعني بني إسرائيل {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أي لطائفة قليلة {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أ ي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم, وإني أريد أن أستأصل شأفتهم, وأبيد(3/408)
خضراءهم, فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم, قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم, وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق, والملك والجاه الوافر في الدنيا {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} الآية, وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} الآيتين.
{فَأَتْبَعُوهُم مّشْرِقِينَ فَلَمّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىَ إِنّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلّ فِرْقٍ كَالطّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمّ الآخرينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَىَ وَمَن مّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمّ أَغْرَقْنَا الآخرينَ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
ذكر غير واحد من المفسرين أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير, هو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه, أولي الحل والعقد والدول من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود, فأما ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس, منها مائة ألف على خيل دهم, وقال كعب الأحبار: فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم, وفي ذلك نظر, والظاهر أن ذلك من مجازفات بني إسرائيل, والله سبحانه وتعالى أعلم, والذي أخبر به القرآن هو النافع, ولم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته, إلا أنهم خرجوا بأجمعهم {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس, وهو طلوعها, {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي رأى كل من الفريقين صاحبه, فعند ذلك {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر, وهو بحر القلزم, فصار أمامهم البحر وقد أدركهم فرعون بجنوده, فلهذا قالوا {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون, فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم, وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد, وكان هارون عليه السلام في المقدمة, ومعه يوشع بن نون, ومؤمن آل فرعون, وموسى عليه السلام في الساقة, وقد ذكر غير واحد من المفسرين أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون, وجعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون, يقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله ههنا أمرك ربك أن تسير ؟ فيقول, نعم, فاقترب فرعون وجنوده ولم يبق إلا القليل, فعند ذلك أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر, فضربه وقال: انفلق بإذن الله.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان بن صالح, حدثنا الوليد, حدثنا محمد بن حمزة بن محمد بن يوسف عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شيء, والمكون لكل شيء, والكائن بعد كل شيء, اجعل لنا مخرجاً, فأوحى الله إليه {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}. وقال قتادة: أوحى الله تلك الليلة إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع, فبات البحر تلك الليلة وله اضطراب, ولا يدري من أي جانب يضربه موسى, فلما انتهى إليه موسى, قال له فتاه يوشع بن نون: يا نبي الله أين أمرك ربك عز وجل ؟ قال: أمرني أن أضرب البحر, قال: فاضربه. وقال محمد بن إسحاق, أوحى الله - فيما ذكر لي - إلى البحر أن إذا(3/409)
ضربك موسى بعصاه فانفلق له, قال: فبات البحر يضطرب ويضرب بعضه بعضاً فرقاً من الله تعالى, وانتظاراً لما أمره الله, وأوحى الله إلى موسى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه بها, ففيها سلطان الله الذي أعطاه, فانفلق, ذكر غير واحد أنه جاء فكناه, فقال: انفلق عليّ أبا خالد بحول الله.
قال الله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي كالجبل الكبير, قاله ابن مسعود وابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال عطاء الخراساني: هو الفج بين الجبلين. وقال ابن عباس صار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق, وزاد السدي: وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض, وقام الماء على حيلة كالحيطان. وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته, فصار يبساً كوجه الأرض, قال الله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى}. وقال في هذه القصة {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} أي هنالك. قال ابن عباس وعطاء الخراساني وقتادة والسدي {وَأَزْلَفْنَا} أي قربنا من البحر فرعون وجنوده, وأدنيناهم إليه {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم, فلم يهلك منهم احد, وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم رجل إلا هلك.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا شبابة, حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله هو ابن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك, فأمر بشاة فذبحت, وقال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط, فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر, فقال له: انفرق, فقال له البحر: قد استكبرت يا موسى, وهل انفرقت لأحد من ولد آدم, فأنفرق لك ؟ قال, ومع موسى رجل على حصان له, فقال له ذلك الرجل, أين أمرت يا نبي الله ؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه, قال: والله ما كذب ولا كذبت, ثم اقتحم الثانية فسبح ثم خرج, فقال: أين أمرت يا نبي الله ؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه. قال: والله ما كذب ولا كذبت, قال: فأوحى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر, فضربه موسى بعصاه, فانفلق, فكان فيه اثنا عشر سبطاً لكل سبط طريق يتراءون, فلما خرج أصحاب موسى, وتتام أصحاب فرعون, التقى البحر عليهم فأغرقهم.
وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال: فلما خرج آخر أصحاب موسى, وتكامل أصحاب فرعون, انطم عليهم البحر, فمارئي سواد أكثر من يومئذ, وغرق فرعون لعنه الله, ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين, لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيره.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنّهُمْ عَدُوّ لِيَ إِلاّ رَبّ الْعَالَمِينَ}
هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء, أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل, وعبادة الله وحده لا شريك له, والتبري من الشرك وأهله, فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل, أي من صغره إلى كبره, فإنه من وقت نشأ(3/410)
وشب أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله عز وجل {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي مقيمين على عبادتها ودعائها {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئاً من ذلك, وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون, فهم على آثارهم يهرعون, فعند ذلك قال لهم إبراهيم {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنّهُمْ عَدُوّ لِيَ إِلاّ رَبّ الْعَالَمِينَ} أي إن كانت هذه الأصنام شيئاً ولها تأثير, فلتخلص إلي بالمساءة, فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها, وهذا كما قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} الآية, وقال هود عليه السلام {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم فقال {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} الآية. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ - إلى قوله - حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يعني لا إله إلا الله.
{الّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ وَالّذِيَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ}
يعني لا أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء {الّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي هو الخالق الذي قدر قدراً, وهدى الخلائق إليه, فكل يجري على ما قدر له, وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء {وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي هو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية, فساق المزن, وأنزل الماء وأحيا به الأرض, وأخرج به من كل الثمرات رزقاً للعباد, وأنزل الماء عذباً زلالا يسقيه مما خلق أنعاماً وأناسي كثيراً.
وقوله {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أسند المرض إلى نفسه, وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه, ولكن أضافه إلى نفسه أدباً, كما قال تعالى آمراً للمصلي أن يقول {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة, فأسند الإنعام والهداية إلى الله تعالى, والغضب حذف فاعله أدباً, وأسند الضلال إلى العبيد, كما قالت الجن {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} وكذا قال إبراهيم {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أي إذا وقعت في مرض, فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه {وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ} أي هو الذي يحيي ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه, فإنه هو الذي يبدىء ويعيد {وَالّذِيَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ} أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو, ومن يغفر الذنوب إلا الله, وهو الفعال لما يشاء.
{رَبّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ وَاجْعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرينَ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنّةِ النّعِيمِ وَاغْفِرْ لأبِيَ إِنّهُ كَانَ مِنَ الضّآلّينَ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(3/411)
وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكماً. قال ابن عباس: وهو العلم. وقال عكرمة: هو اللب, وقال مجاهد: هو القرآن. وقال السدي: هو النبوة. وقوله {وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار: "اللهم في الرفيق الأعلى" قالها ثلاثاً. وفي الحديث في الدعاء "اللهم أحينا مسلمين, وأمتنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين" وقوله {وَاجْعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرينَ} أي واجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير, كما قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
قال مجاهد وقتادة {وَاجْعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرينَ} يعني الثناء الحسن. قال مجاهد: كقوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية, وكقوله {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} الآية, قال ليث بن أبي سليم: كل ملة تحبه وتتولاه, وكذا قال عكرمة. وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أي أنعم عليّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي, وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم. وقوله {واغفر لأبي} الآية, كقوله {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام, كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ - إلى قوله - إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ - إلى قوله - وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
وقوله: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي أجرني من الخزي يوم القيامة يوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وقال البخاري عند هذه الآية: قال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة" . وفي رواية أخرى: حدثنا إسماعيل, حدثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون, فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين" هكذا رواه عند هذه الآية. وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفرداً به, ولفظه "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة, وعلى وجه آزر قترة وغبرة, فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصيني, فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك, فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون, فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين, ثم يقال: يا إبراهيم انظر تحت رجلك, فينظر, فإذا هو بذيخ متلطخ, فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار" وقال عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير.
وقوله {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله, حدثني أبي, حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد بن عبد الرحمن, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة, وقال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني, قال: لكني اليوم لا أعصيك واحدة, قال: يا رب وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون, فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه. قال: يا إبراهيم أين أبوك ؟ قال: أنت أخذته مني, قال: انظر أسفل منك, فنظر, فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه, فأخذ بقوائمه فألقي في النار" وهذا إسناد غريب, وفيه نكارة, والذيخ هو الذكر من الضباع, كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته فيلقى في النار كذلك, وقد رواه البزار بإسناده من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي(3/412)
صلى الله عليه وسلم وفيه غرابة, ورواه أيضاً من حديث قتادة عن جعفر بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقوله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهباً {ولا بنون} أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعاً, ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله وإخلاص الدين له, والتبري من الشرك وأهله, ولهذا قال {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي سالم من الدنس والشرك. قال ابن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور. وقال ابن عباس {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} حَيِيَ أن يشهد أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد والحسن وغيرهما {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} يعني من الشرك. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح, وهو قلب المؤمن, لأن قلب المنافق مريض, قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم من البدعة, المطمئن إلى السنة.
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللّهِ إِن كُنّا لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَمَآ أَضَلّنَآ إِلاّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ} أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها, وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا, وعملوا لها في الدنيا {وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} أي أظهرت وكشف عنها, وبدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر, وقيل لأهلها تقريعاً وتوبيخاً {لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ} أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئاً, ولا تدفع عن أنفسها, فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون.
وقوله {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} قال مجاهد: يعني فَدُهْوِرُوا فيها. وقال غيره: كبوا فيها, والكاف مكررة, كما يقال صرصر, والمراد أنه ألقى بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أي ألقوا فيها عن آخرهم {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي يقول الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعاً, فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار ؟ ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي نجعل أمركم مطاعاً كما يطاع أمر رب العالمين, وعبدناكم مع رب العالمين { وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} قال بعضهم: يعني من الملائكة كما يقولون {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وكذا قالوا {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي قريب.
قال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحاً نفع, وأن الحميم إذا كان صالحاً شفع { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك أنهم يتمنون أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون, والله تعالى يعلم أنهم لو ردّهم إلى دار الدنيا لعادوا لما(3/413)
نهوا عنه وإنهم لكاذبون, وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة (ص) ثم قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد لآية, أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلا الله {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
{كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتّقُونَ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ}
هذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله نوح عليه السلام, وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد ما عبدت الأصنام والأنداد, فبعثه الله ناهياً عن ذلك ومحذراً من وبيل عقابه, فكذبه قومه, فاستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى: ونزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل, فلهذا قال تعالى: {كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتّقُونَ} أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره { إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني رسول من الله إليكم, أمين فيما بعثني الله به, أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد فيها ولا أنقص منها {فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الآية, أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم, بل أدّخر ثواب ذلك عند الله {فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ} فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه.
{قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتّبَعَكَ الأرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاّ عَلَىَ رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ}
يقولون: لا نؤمن لك, ولا نتبعك ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل, الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا, ولهذا { قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتّبَعَكَ الأرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ؟ ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه, لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص, إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي, وأكل سرائرهم إلى الله عز وجل { يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاّ عَلَىَ رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه, فأبى عليهم ذلك وقال {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ} أي إنما بعثت نذيراً, فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه, سواء كان شريفاً أو وضيعاً, أو جليلاً أو حقيراً.
{قَالُواْ لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَنُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ قَالَ رَبّ إِنّ قَوْمِي كَذّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجّنِي وَمَن مّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم, يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً, وسراً وجهاراً, وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ والامتناع الشديد, وقالوا في الآخر {لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَنُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ(3/414)
الْمُجْرِمِينَ} أي لئن لم تنته من دعوتك إيانا إلى دينك, {لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي لنرجمنك, فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه, فقال {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} الآية, كما قال في الآية الأخرى {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} إلى آخر الآية. وقال ههنا {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين, أي أنجينا نوحاً ومن اتبعه كلهم, وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
{كَذّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتّقُونَ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتّقُواْ الّذِيَ أَمَدّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام, أنه دعا قومه عاداً, وكان قومه يسكنون الأحقاف, وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت, من جهة بلاد اليمن, وكان زمانهم بعد قوم نوح, كما قال في سورة الأعراف {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد, والطول المديد, والأرزاق الدارة, والأموال والجنات والأنهار, والأبناء والزروع والثمار, وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه, فبعث الله هوداً إليهم رجلاً منهم رسولاً وبشيراً ونذيراً, فدعاهم إلى الله وحده, وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه, فقال لهم كما قال نوح لقومه إلى أن قال {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة, يبنون هناك بنياناً محكماً هائلاً باهراً, ولهذا قال {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} أي معلماً بناء مشهوراً {تَعْبَثُونَ} أي وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة, ولهذا أنكر عليه نبيهم عليهم السلام ذلك, لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة, واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة, ولهذا قال {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} قال مجاهد: والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد, وفي رواية عنه: بروج الحمام. وقال قتادة: هي مأخذ الماء.
قال قتادة: وقرأ بعض الكوفيين {وتتخذون مصانع كأنكم خالدون}. وفي القراءة المشهورة { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي لكي تقيموا فيها أبداً وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم, كما زال عمن كان قبلكم. وروى ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, حدثنا الحكم بن موسى, حدثنا الوليد, حدثنا ابن عجلان, حدثني عون بن عبد الله بن عتبة أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر, قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق, فاجتمعوا إليه, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: ألا تستحيون, ألا تستحيون, تجمعون ما لا تأكلون, وتبنون ما لا تسكنون, وتأملون ما لا تدركون, إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون, ويبنون فيوثقون, ويأملون فيطيلون, فأصبح أملهم غروراً, وأصبح جمعهم بوراً, وأصبحت مساكنهم قبوراً, ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً وركاباً, فمن يشتري(3/415)
مني ميراث عاد بدرهمين ؟.
وقوله {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم, ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم, فقال {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ, أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إن كذبتم وخالفتم, فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب, فما نفع فيهم.
{قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ فَكَذّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
يقول تعالى مخبراً عن جواب قوم هود له بعد ما حذرهم وأنذرهم, ورغبهم ورهبهم, وبين لهم الحق ووضحه {قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ} أي لا نرجع عما نحن عليه {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك, وما نحن لك بمؤمنين} وهكذا الأمر, فإن الله تعالى قال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية, وقولهم {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} قرأ بعضهم {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} بفتح الخاء وتسكين اللام. قال ابن مسعود والعوفي عن عبد الله بن عباس وعلقمة ومجاهد: يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين, كما قال المشركون من قريش {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وقال {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وقال {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وقرأ آخرون {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} بضم الخاء واللام, يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأولين من الآباء والأجداد, ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم, نعيش كما عاشوا, ونموت كما ماتوا, ولا بعث ولا معاد, ولهذا قالوا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} يقول: دين الأولين. وقاله عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي استمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده, فأهلكهم الله وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحاً صرصراً عاتية, أي ريحاً شديدة الهبوب, ذات برد شديد جداً, فكان سبب إهلاكهم من جنسهم, فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره, فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة, كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} وهم عاد الأولى, كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} وهم من نسل إرم بن سام بن نوح {ذَاتِ الْعِمَادِ} الذين كانوا يسكنون العمد, ومن زعم أن إرم مدينة, فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب, وليس لذلك أصل أصيل, ولهذا قال {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم, ولو كان المراد بذلك مدينة لقال: التي لم يبن مثلها في البلاد, وقال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} وقد قدمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا مقدار أنف الثور, عتت على الخزنة, فأذن الله لها في ذلك, فسلكت فحصبت بلادهم, فحصبت كل شيء(3/416)
لهم, كما قال تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} الآية, وقال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ - إلى قوله - حُسُوماً - أي كاملة - فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي بقوا أبداناً بلا رؤوس, وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء, ثم تنكسه على أم رأسه, فتشدخ دماغه وتكسر رأسه وتلقيه, كأنهم أعجاز نخل منقعر, وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات, وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم, فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئاً {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} ولهذا قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} الآية.
{كَذّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتّقُونَ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ}
وهذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله صالح عليه السلام, أنه بعثه إلى قومه ثمود, وكانوا عرباً يسكنون مدينة الحِجْر التي بين وداي القرى وبلاد الشام, ومساكنهم معروفة مشهورة, وقد قدمنا في سورة الأعراف الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غزو الشام, فوصل إلى تبوك ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك, وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام. فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له, وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة, فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه, وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجراً منهم, وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عز وجل, ثم ذكرهم آلاء الله علهيم, فقال:
{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُوَاْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ}
يقول لهم واعظاً لهم, ومحذرهم نقم الله أن تحل بهم, ومذكراً بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة وجعلهم في أمن من المحذورات, وأنبت لهم من الجنات, وفجر لهم من العيون الجاريات, وأخرج لهم من الزروع والثمرات, ولهذا قال {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}. قال العوفي عن ابن عباس: أينع وبلغ, فهو هضيم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} يقول: معشبة. وقال إسماعيل بن أبي خالد عن عمرو بن أبي عمرو - وقد أدرك الصحابة - عن ابن عباس في قوله {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: إذا رطب واسترخى, رواه ابن أبي حاتم, ثم قال: وروي عن أبي صالح نحو هذا.
وقال أبو إسحاق عن أبي العلاء {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: هو المذنب من الرطب, وقال مجاهد: هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر, وقال ابن جريج: سمعت عبد الكريم, وأبا أمية, سمعت مجاهداً يقول {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: حين يطلع تقبض عليه فتهضمه, فهو من الرطب الهضيم, ومن اليابس الهشيم, تقبض عليه فتهشمه. وقال عكرمة وقتادة: الهضيم الرطب اللين. وقال الضحاك: إذا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضاً, فهو هضيم. وقال مرة: هو الطلع حين يتفرق ويخضر. وقال الحسن البصري: هو الذي لا نوى له, وقال أبو صخر: ما رأيت الطلع حين ينشق عنه الكم ؟ فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض, فهو الهضيم.(3/417)
وقوله {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} قال ابن عباس وغير واحد: يعني حاذقين. وفي رواية عنه: شرهين أشرين, وهو اختيار مجاهد وجماعة, ولا منافاة بينهما, فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشراً وبطراً وعبثاً من غير حاجة إلى سكناها, وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها, كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم, ولهذا قال {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} يعني رؤساءهم وكبراءهم, الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق.
{قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
يقول تعالى مخبراً عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز وجل أنهم {قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحّرِينَ} قال مجاهد وقتادة: يعنون من المسحورين. وروى أبو صالح عن ابن عباس {مِنَ الْمُسَحّرِينَ} يعني من المخلوقين, واستشهد بعضهم على هذا بقول الشاعر:
فإن تسألينا فيم نحن فإنّنا ... عصافير من هذا الأنام المسحّر
يعني الذين لهم سحور, والسحر هو الرئة. والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة أنهم يقولون: إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك, ثم قالوا {ما أنت إلا بشر مثلنا} يعني فكيف أوحي إليك دوننا ؟ كما قالوا في الآية الأخرى {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم, وقد اجتمع ملؤهم, وطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء إلى صخرة عندهم - من صفتها كذا وكذا, فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح. العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه, فأعطوه ذلك, فقام نبي الله صالح عليه السلام فصلى, ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم, فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها, فآمن بعضهم وكفر أكثرهم {قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} يعني ترد ماءكم يوماً, ويوماً تردونه أنتم {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء, فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر, ترد الماء وتأكل الورق والمرعى - وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً ورياً, فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم, تمالؤوا على قتلها وعقرها {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} وهو أن أرضهم زلزلت زلزالاً شديداً, وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها, وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون, وأصبحوا في ديارهم جاثمين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.(3/418)
{كَذّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتّقُونَ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله لوط عليه السلام, وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام, وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام, وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكها الله بها, وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة, وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس, بينها وبين بلاد الكرك والشوبك, فدعاهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له, وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم, ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله, من إتيان الذكور دون الإناث, ولهذا قال تعالى:
{أَتَأْتُونَ الذّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبّكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لّمْ تَنتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ رَبّ نّجِنِي وَأَهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ فَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ثُمّ دَمّرْنَا الآخرينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش, وغشيانهم الذكور, وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم, ما كان جوابهم له إلا أن قالوا {لَئِن لّمْ تَنتَهِ يَالُوطُ} أي عما جئتنا به {لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} أي ننفيك من بين أظهرنا, كما قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} فلما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم, تبرأ منهم وقال {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} أي المبغضين, لا أحبه ولا أرضى به, وإني بريء منكم, ثم دعا الله عليهم فقال {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} قال الله تعالى: { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي كلهم {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} وهي امرأته, وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع من بقي من قومها, وذلك كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأعراف وهود, وكذا في الحجر حين أمره الله أن يسري بأهله إلا امرأته, وأنهم لا يلتفتوا إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه, فصبروا لأمر الله واستمروا, وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم, وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود, ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مّطَراً - إلى قوله - وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}.
{كَذّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتّقُونَ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ}
هؤلاء - يعني أصحاب الأيكة - هم أهل مدين على الصحيح وكان نبي الله شعيب من أنفسهم وإنما لم يقل ههنا أخوهم شعيب لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة, وهي شجرة, وقيل شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها, فلهذا لما قال: { كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب, وإنما قال {إِذْ(3/419)
قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه, وإن كان أخاهم نسباً. ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة, فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين, فزعم أن شعيباً عليه السلام بعثه الله إلى أمتين, ومنهم من قال: ثلاث أمم. وقد روى إسحاق بن بشر الكاهلي - وهو ضعيف - حدثني ابن السدي عن أبيه, وزكريا بن عمر عن خصيف عن عكرمة, قالا: ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً, مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة, ومرة إلى أصحاب الأيكة, فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة, وروى أبو القاسم البغوي عن هدبة عن همام عن قتادة في قوله تعالى: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قوم شعيب.
وقوله {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} قوم شعيب, وقاله إسحاق بن بشر. وقال غير جويبر: أصحاب الأيكة ومدين هما واحد, والله أعلم. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة, عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعد, عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان, بعث الله إليهما شعيباً النبي عليه السلام" وهذا غريب, وفي رفعه نظر, والأشبه أن يكون موقوفاً, والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء, ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان, كما في قصة مدين سواء بسواء, فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.
{أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتّقُواْ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلّةَ الأوّلِينَ}
يأمرهم الله تعالى بإيفاء المكيال والميزان, وينهاهم عن التطفيف فيهما, فقال {أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم, ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصاً, وتأخذوه إذا كان لكم تاماً وافياً, ولكن خذوا كما تعطون, وأعطوا كما تأخذون {وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} والقسطاس هو الميزان, وقيل هو القبان. قال بعضهم: هو معرب من الرومية. قال مجاهد: القسطاس المستقيم هو العدل بالرومية. وقال قتادة القسطاس العدل. وقوله {وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} أي لا تنقصوهم أموالهم {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} يعني قطع الطريق, كما قال في الآية الأخرى {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}.
وقوله {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل, كما قال موسى عليه السلام { ربكم ورب آبائكم الأولين} قال ابن عباس ومجاهد والسدي وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} يقول: خلق الأولين وقرأ ابن زيد {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً}.
{قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نّظُنّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ قَالَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ إِنّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لأية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ}
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها, تشابهت قلوبهم حيث قالوا {إِنّمَآ أَنتَ(3/420)
مِنَ الْمُسَحّرِينَ} يعنون من المسحورين كما تقدم {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} قال الضحاك: جانباً من السماء. وقال قتادة: قطعاً من السماء. وقال السدي: عذاباً من السماء. وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى أن قالوا {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} وقوله {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية, وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} الآية, {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} يقول: الله أعلم بكم, فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به, وهو غير ظالم لكم, وهكذا وقع بهم جزاء كما سألوا جزاء وفاقاً, ولهذا قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم, فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام, لا يكنهم منه شيء, ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم, فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر, فلما اجتمعوا كلهم تحتها, أرسل الله تعالى عليهم منها شرراً من نار ولهباً ووهجاً عظيماً, ورجفت بهم الأرض, وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم, ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن, كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين, وذلك لأنهم قالوا {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة, وفي سورة هود قال {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء, فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم, فقال {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} الآية, وههنا قالوا {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} الآية, على وجه التعنت والعناد, فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
قال قتادة: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء, ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة, فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب تحتها برداً وراحة, فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعاً فاستظلوا تحتها فأججت عليهم ناراً, وهكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: بعث الله إليهم الظلة حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس, فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى, وقال محمد بن كعب القرظي: إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها, فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد, ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم, فأرسل الله عليهم الظلة, فدخل تحتها رجل فقال: ما رأيت كاليوم ظلاً أطيب ولا أبرد من هذا, هلموا أيها الناس, فدخلوا جميعاً تحت الظلة, فصاح بهم صيحة واحدة, فماتوا جميعاً, ثم تلا محمد بن كعب {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وقال محمد بن جرير: حدثني الحارث, حدثني الحسن, حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد, حدثنا حاتم بن أبي صغيرة, حدثني يزيد الباهلي, سألت ابن عباس عن هذه الآية {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} الآية, قال: بعث الله عليهم رعداً وحراً شديداً, فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هراباً إلى البرية, فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس, فوجدوا لها برداً ولذة,(3/421)
فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً. قال ابن عباس: فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ, وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي العزيز في انتقامه من الكافرين, الرحيم بعباده المؤمنين.
{وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ عَلَىَ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مّبِينٍ}
يقول تعالى مخبراً عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وَإِنّهُ} أي القرآن ذكره في أول السورة في قوله {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} الآية {لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ} أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} وهو جبريل عليه السلام, قاله غير واحد من السلف: ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريج, وهذا مما لا نزاع فيه. قال الزهري: وهذه كقوله {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وقال مجاهد: من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى {عَلَى قَلْبِكَ} يا محمد سالماً من الدنس والزيادة والنقص {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه, وتبشر به المؤمنين المتبعين له.
وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك, أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل, ليكون بيناً واضحاً ظاهراً, قاطعاً للعذر, مقيماً للحجة دليلاً إلى المحجة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي, حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن موسى بن محمد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم: "كيف ترون بواسقها ؟" قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها. قال: "فكيف ترون قواعدها ؟" قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: "فكيف ترون جريها ؟" قالوا: ما أحسنه وأشد سواده. قال: "فيكف ترون رحاها استدارت" قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: "فكيف ترون برقها: أوميض أم خَفق أم يشق شقاً ؟" قالوا: بل يشق شقاً. قال: "الحياء الحياء إن شاء الله". قال: فقال رجل: يا رسول الله, بأبي وأمي, ما أفصحك, ما رأيت الذي هو أعرب منك. قال: فقال: "حق لي وإنما أنزل القرآن بلساني والله يقول {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} " وقال سفيان الثوري: لم ينزل وحي إلا بالعربية, ثم ترجم كل نبي لقومه, واللسان يوم القيامة بالسريانية, فمن دخل الجنة تكلم بالعربية, رواه ابن أبي حاتم.
{وَإِنّهُ لَفِي زُبُرِ الأوّلِينَ أَوَ لَمْ يَكُن لّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَزّلْنَاهُ عَلَىَ بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}
يقول تعالى: وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه, كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيباً في ملئه بالبشارة بأحمد {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} والزبر ههنا هي الكتب, وهي جمع زبور, وكذلك الزبور وهو كتاب داود, وقال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة, ثم قال تعالى:(3/422)
{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} أي أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها, والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته, كما أخبر بذلك من آمن منهم, كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي عمن أدركه منهم ومن شاكلهم, قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية.
ثم قال تعالى مخبراً عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن: أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به, ولهذا قال {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} كما أخبر عنهم في الآية الأخرى {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} الآية, وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} الآية, وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية.
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مّتّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمّ جَآءَهُم مّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَىَ وَمَا كُنّا ظَالِمِينَ}
يقول تعالى: كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد, أي أدخلناه في قلوب المجرمين {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالحق {حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ} أي حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم, ولهم اللعنة ولهم سوء الدار {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً} أي عذاب الله بغتة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله, كما قال الله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ - إلى قوله - مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} فكل ظالم وفاجر إذا شاهد عقوبته ندم ندماً شديداً, هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - إلى قوله - قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} فأثرت هذه الدعوة في فرعون, فما آمن حتى رأى العذاب الأليم {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ - إلى قوله - َكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآيات.
وقوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إنكار عليهم وتهديد لهم, فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيباً واستبعاداً: ائتنا بعذاب الله, كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} الآيات, ثم قال {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال, ثم جاءهم أمر الله أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} وقال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} ولهذا قال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}.
وفي الحديث الصحيح "يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيراً قط ؟ هل رأيت نعيماً قط ؟ فيقول: لا والله يا رب, ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا, فيصبغ في الجنة صبغة, ثم يقال له:(3/423)
هل رأيت بؤساً قط ؟ فيقول: لا والله يا رب" أي ما كأن شيئاً كان. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت:
كأنك لم تؤثر من الدهر ليلة ... إذا أنت أدركت الذي أنت تطلب
ثم قال تعالى مخبراً عن عدله في خلقه أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم, والإنذار لهم, وبعثة الرسل إليهم, وقيام الحجة عليهم, ولهذا قال تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا - إلى قوله - وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}.
{وَمَا تَنَزّلَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله {وَمَا تَنَزّلَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ} ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم, أي ليس هو من بغيتهم ولا من طلبتهم, لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد, وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ونور وهدى وبرهان عظيم, فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة, ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ}.
وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي ولو انبغى لهم ما استطاعوا ذلك, قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته, لما وصلوا إلى ذلك, لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله, لأن السماء ملئت حرساً شديداً وشهباً في مدة إنزال القرآن على رسول الله, فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه لئلا يشتبه الأمر, وهذا من رحمة الله بعباده, وحفظه لشرعه, وتأييده لكتابه ولرسوله, ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} كما قال تعالى مخبراً عن الجن {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً - إلى قوله - أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}.
{فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ وَتَوكّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرّحِيمِ الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ}
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له, ومخبراً أن من أشرك به عذبه. ثم قال تعالى آمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين, أي الأدنين إليه, وأنه لا يخلص أحداً منهم إلا إيمانه بربه عز وجل, وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين, ومن عصاه من خلق الله كائناً من كان فليتبرأ منه, ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ} وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها, كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}, وقال تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وقال تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} , وقال تعالى: { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}, وقال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}, كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ(3/424)
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}. وفي صحيح مسلم "والذي نفسي بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني, ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة فلنذكرها:
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الله بن نمير, عن الأعمش عن عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أنزل الله عز وجل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا, فصعد عليه ثم نادى "يا صباحاه" فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب, يا بني فهر, يا بني لؤي, أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟" قالوا: نعم. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم, أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الأعمش به.
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة ابنة محمد, يا صفية ابنة عبد المطلب, يا بني عبد المطلب, لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من مالي ما شئتم" انفرد بإخراجه مسلم.
(الحديث الثالث) قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا زائدة, حدثنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً, فعم وخص فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار, يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار, فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها". ورواه مسلم والترمذي من حديث عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه, ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلاً, ولم يذكر فيه أبا هريرة, والموصول هو الصحيح, وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا محمد يعني ابن إسحاق, عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله , يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله, فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً, سلاني من مالي ما شئتما" تفرد به من هذا الوجه, وتفرد به أيضاً عن معاوية عن زائدة, عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ورواه أيضاً عن حسن حدثنا ابن لهيعة: عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً, وقال أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا همام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يا بني قصي, يا بني هاشم, يا بني عبد مناف, أنا النذير, والموت المغير, والساعة الموعد".
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد التيمي عن أبي عثمان عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو, قالا: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضمة من جبل على أعلاها حجر, فجعل ينادي: "يا بني عبد مناف, إنما أنا نذير, وإنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فذهب يربأ أهله يخشى أن يسبقوه, فجعل ينادي ويهتف: يا صباحاه" ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن طرخان التيمي عن أبي عثمان عبد الرحمن بن سهل النهدي, عن قبيصة وزهير بن عمرو الهلالي به.(3/425)
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته, فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا, قال: وقال لهم: "من يضمن عني ديني ومواعيدي, ويكون معي في الجنة, ويكون خليفتي في أهلي ؟" فقال رجل لم يسمه شريك: يا رسول الله أنت كنت بحراً من يقوم بهذا, قال: ثم قال الآخر - ثلاثاً - قال: فعرض ذلك على أهل بيته, فقال علي: أنا.
(طريق أخرى بأبسط من هذا السياق) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة, حدثنا عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ماجد عن علي رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو دعا رسول الله - بني عبد المطلب وهم رهط, وكلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق, فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا, وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس, ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب, وقال: "يابني عبد المطلب, إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة, فقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم, فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي" قال: فلم يقم إليه أحد, قال: فقمت إليه وكنت أصغر القوم, قال: فقال: "اجلس" ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: "اجلس" حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي.
(طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر) قال الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا أحمد بن عبد الجبار, حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل, واستكتمني اسمه, عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرفت أني إن بادأتُ بها قومي رأيت منهم ما أكره فصمت, فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك" قال علي رضي الله عنه فدعاني, فقال: "يا علي إن الله تعالى قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين, فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره, فصمت عن ذلك, ثم جاءني جبريل فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك, فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام, وأعد لنا عس لبن, ثم اجمع لي بني عبد المطلب" ففعلت فاجتمعوا إليه, وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً, فيهم أعمامه: أبو طالب, وحمزة, والعباس, وأبو لهب الكافر الخبيث, فقدمت إليهم تلك الجفنة, فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة فشقها بأسنانه, ثم رمى بها في نواحيها, وقال: "كلوا بسم الله" فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم, والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقهم يا علي" فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً, وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله, فلما أراد رسول الله(3/426)
صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهدما سحركم صاحبكم, فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب, فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم" ففعلت, ثم جمعتهم له, فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس, فأكلوا حتى نهلوا عنه, وأيم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقهم يا علي" فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً, وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله, فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب بالكلام, فقال: لهد ما سحركم صاحبكم, فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان من الغد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب, فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم" ففعلت ثم جمعتهم له, فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس, فأكلوا حتى نهلوا ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه, وأيم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به, إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة" قال أحمد بن عبد الجبار: بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن
المنهال عن عمرو عن عبد الله بن الحارث. وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق, عن عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث, عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب فذكر مثله, وزاد بعد قوله "إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة, وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا ؟" قال: فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت - وإني لأحدثهم سناً, وأمرصهم عيناً, وأعظمهم بطناً, وأحمشهم ساقاً -: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه, فأخذ برقبتي ثم قال: "إن هذا أخي, وكذا وكذا, فاسمعوا له وأطيعوا" قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم, وهو متروك كذاب شيعي, اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث, وضعفه الأئمة رحمهم الله.
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا الحسين عن عيسى بن ميسرة الحارثي, حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال: قال علي رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا" قال: ففعلت, ثم قال: "ادع بني هاشم" قال: فدعوتهم وإنهم يومئذٍ أربعون غير رجل, أو أربعون ورجل, قال: وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذعة بإدامها, قال: فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذروتها ثم قال: "فأكلوا حتى شبعوا, وهي على هيئتها لم يزرؤوا منها إلا اليسير, قال: ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رووا, قال: وفضل فضل, فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم فبدروه الكلام, فقالوا ما رأينا كاليوم في السحر. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام" فصنعت, قال: فدعاهم فلما أكلوا وشربوا, قال: فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى, فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال لي: "اصنع لي رجل شاة بصاع طعام" فصنعت, قال: فجمعتهم فلما أكلوا وشربوا بدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام, فقال: "أيكم يقضي عني دَيْني, ويكون خليفتي في أهلي ؟" قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله, قال: وسكت أنا لسن العباس. ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس, فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله. قال: وإني يومئذٍ لأسوأهم هيئة, وإني لأعمش العينين, ضخم البطن, خمش الساقين, فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي رضي الله عنه, ومعنى سؤاله صلى الله عليه وسلم لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ويخلفوه في أهله, يعني إن قتل في سبيل الله, كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل, فلما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فعند ذلك أمن, وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ولم(3/427)
يكن أحد في بني هاشم إذ ذاك أشد إيماناً وإيقاناً وتصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه, ولهذا بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان بعد هذا - والله أعلم - دعاؤه الناس جهرة على الصفا, وإنذاره لبطون قريش عموماً وخصوصاً, حتى سمى من سمى من أعمامه وعماته وبناته لينبه بالأدنى على الأعلى, أي إنما أنا نذير والله يهدي من يشاء إلى صرط مستقيم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي - غير منسوب - من طريق عمرو بن سمرة, عن محمد بن سوقة عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدث الناس ويفتيهم, وولده إلى جنبه, وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون, فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم, وأهل بيتك جلوس لاهين ؟ فقال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أزهد الناس في الدنيا الأنبياء, وأشدهم عليهم الأقربون" وذلك فيما أنزل الله عز وجل, قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ - إلى قوله - فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}.
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي في جميع أمورك, فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك. وقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي هو معتن بك كما قال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} قال ابن عباس {الذي يراك حين تقوم} يعني إلى الصلاة. وقال عكرمة يرى قيامه وركوعه وسجوده. وقال الحسن {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} إذا صليت وحدك, وقال الضحاك {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي من فراشك أو مجلسك. وقال قتادة {الَّذِي يَرَاكَ} قائماً وجالساً وعلى حالاتك.
وقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال قتادة {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال: في الصلاة يراك وحدك, ويراك في الجمع, وهذا قول عكرمة وعطاء الخراساني والحسن البصري. وقال مجاهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما يرى من أمامه, ويشهد لهذا ما صح في الحديث "سووا صفوفكم فإنّي أراكم من وراء ظهري" وروى البزار وابن أبي حاتم من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبياً. وقوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوال عباده, العليم بحركاتهم وسكناتهم, كما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية.
{هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَىَ مَن تَنَزّلُ الشّيَاطِينُ تَنَزّلُ عَلَىَ كُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشّعَرَآءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}
يقول تعالى مخاطباً لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحق, وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه, أو أنه أتاه به رئي من الجان, فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم, ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله, وأنه تنزيله ووحيه, نزل به ملك كريم أمين عظيم, وأنه ليس من قبل الشياطين, فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة, ولهذا قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبّئُكُمْ} أي أخبركم {عَلَىَ مَن تَنَزّلُ الشّيَاطِينُ تَنَزّلُ عَلَىَ كُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ} أي كذوب في قوله وهو الأفاك {أَثِيمٍ} وهو الفاجر في أفعاله. فهذا هو الذي تنزل عليه الشياطين من(3/428)
الكهان, وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة, فإن الشياطين أيضاً كذبة فسقة {يُلْقُونَ السّمْعَ} أي يسترقون السمع من السماء, فيسمعون الكلمة من علم الغيب, فيزيدون معها مائة كذبة, ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس, فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء, كما صح بذلك الحديث.
كما رواه البخاري من حديث الزهري: أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان, فقال: "إنهم ليسوا بشيء" قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج, فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة". وروى البخاري أيضاً: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله, كأنها سلسلة على صفوان, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ (قالوا للذي قال): الحق, وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترقو السمع, ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض - وصف سفيان بيده, فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته, ثم يلقيها الآخر إلى من تحته, حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائة كذبة, فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" تفرد به البخاري. وروى مسلم من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس, عن رجال من الأنصار قريباً من هذا, وسيأتي عند قوله تعالى في سبأ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية.
وقال البخاري: وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن أبا الأسود أخبره عن عروة عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الملائكة تحدث في العنان - والعنان: الغمام - بالأمر في الأرض, فتسمع الشياطين الكلمة, فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة, فيزيدون معها مائة كذبة ". ورواه البخاري في موضع آخر في كتاب بدء الخلق عن سعيد بن أبي مريم, عن الليث عن عبد الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن, عن عروة عن عائشة بنحوه.
وقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن, وكذا قال مجاهد رحمه الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما. وقال عكرمة: كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس, ولهذا فئام من الناس, فأنزل الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}. وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ليث عن ابن الهاد عن يُحَنّس مولى مصعب بن الزبير, عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان - لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً".
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: في كل لغو يخوضون. وقال الضحاك عن ابن عباس: في كل فن من الكلام, وكذا قال مجاهد وغيره. وقال الحسن البصري: قد والله رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها مرة في شتمه فلان, ومرة في مدحة فلان. وقال قتادة: الشاعر يمدح قوماً بباطل ويذم قوماً بباطل. وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} قال العوفي عن ابن عباس: كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار, والآخر من قوم آخرين, وإنهما تهاجيا, فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه, وهم السفهاء, فقال الله تعالى: {وَالشّعَرَآءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن(3/429)
عباس: أكثر قولهم يكذبون فيه. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر. فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم, فيتكثرون بما ليس لهم, ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله: فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حداً: هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا, لأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟ على قولين. وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات, والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة, أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة, وكان يقول الشعر, فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن خليلها ... بميسان يسقي في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تجذوا على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إي والله إنه ليسوؤني ذلك, ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته, وكتب إليه عمر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} - أما بعد - قد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
وأيم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر, فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط, وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك, ولكن والله لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلت ما قلت, فلم يذكر أنه حده على الشراب, وقد ضمنه شعره, لأنهم يقولون ما لا يفعلون, ولكنه ذمه عمر رضي الله عنه ولامه على ذلك وعزله به, ولهذا جاء في الحديث "لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً يريه خير له من أن يمتلىء شعراً" والمراد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر, لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة, كما قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهكذا قال ههنا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} إلى أن قال {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} إلى أن قال {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ؟ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ؟ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}.
وقوله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون, فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء, فتلا النبي {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: "أنتم" {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} قال: "أنتم" {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قال: "أنتم" رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من رواية ابن إسحاق, وقد روى ابن أبي حاتم أيضاً عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة, عن الوليد بن أبي كثير عن يزيد عن عبد الله, عن أبي الحسن مولى بني(3/430)
نوفل أن حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة, أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} يبكيان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤها عليهما {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} حتى بلغ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: "أنتم".
وقال أيضاً حدثنا أبي, حدثنا أبو مسلم, حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى قوله {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله قد علم الله أني منهم, فأنزل الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية, وهكذا قال ابن عباس وعكرمة مجاهد وقتادة وزيد بن أسلم وغير واحد: أن هذا استثناء مما تقدم. ولا شك أنه استثناء, ولكن هذه السورة مكية, فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات شعراء الأنصار ؟ وفي ذلك نظر, ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها, والله أعلم, ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم حتى يدخل فيه من كان متلبساً من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله, ثم تاب وأناب ورجع وأقلع وعمل صالحاً, وذكر الله كثيراً في مقابلة ما تقدم من الكلام السيء. فإن الحسنات يذهبن السيئات, وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه, كما قال عبد الله بن الزبعري حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ... ـي ومن مال ميله مثبور
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب, كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عمه وأكثرهم له هجواً, فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان يهجوه, ويتولاه بعد ما كان قد عاداه, وهكذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن, قال: "نعم" قال: معاوية تجعله كاتباً بين يديك ؟ قال: "نعم" قال وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ؟ قال : "نعم" وذكر الثالثة, ولهذا قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} قيل: معناه ذكروا الله كثيراً في كلامهم, وقيل في شعرهم. كلاهما صحيح مكفر لما سبق.
وقوله تعالى: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قال ابن عباس: يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين, وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد, وهذا كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان اهجهم - أو قال - هاجهم وجبريل معك". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل, فقال: " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه, والذي نفسي بيده, لكأن ما ترمونهم به نضح النبل".
وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}, كقوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} الآية, وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة", قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} يعني من الشعراء وغيرهم, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا إياس بن أبي تميمة قال: حضرت الحسن ومر عليه بجنازة نصراني, فقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. وقال عبد الله بن أبي رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى, حتى أقول قد اندق قضيب زوره, {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
وقال ابن وهب: أخبرنا شريح الإسكندراني عن بعض المشيخة أنهم كانوا بأرض الروم, فبينما هم ليلة على نار(3/431)
يشتوون عليها أو يصطلون, إذا بركاب قد أقبلوا فقاموا إليهم, فإذا فضالة بن عبيد فيهم, فأنزلوه فجلس معهم - قال - وصاحب لنا قائم قال يصلي حتى مر بهذه الآية {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} قال فضالة بن عبيد: هؤلاء الذين يخربون البيت. وقيل: المراد بهم أهل مكة, وقيل الذين ظلموا من المشركين. والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم. كما قال ابن أبي حاتم: ذكر عن زكريا بن يحيى الواسطي, حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد النهدي, حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المحبر, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا, حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب, إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب, فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه, وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
آخر تفسير سورة الشعراء, والحمد لله رب العالمين.(3/432)
سورة النمل
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{طسَ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُم بِالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرة زَيّنّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَئِكَ الّذِينَ لَهُمْ سُوَءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخْسَرُونَ وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}
قد تقدم الكلام في سورة البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور. وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} أي هذه آيات {الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مّبِينٍ} أي بين واضح {هُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه, وعمل بما فيه, وأقام الصلاة المكتوبة, وآتى الزكاة المفروضة, وأيقن بالدار الآخرة, والبعث بعد الموت, والجزاء على الأعمال: خيرها وشرها, والجنة والنار, كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} الآية. وقال تعالى: {لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً}. ولهذا قال تعالى ههنا: {إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرة} أي يكذبون بها ويستبعدون وقوعها {زَيّنّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي حسنا لهم ما هم فيه, ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم, وكان هذا جزاء على ما كذبوا من الدار الآخرة, كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية. {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أي في الدنيا والآخرة {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أي ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر. وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي {َإِنَّكَ} يا محمد قال قتادة: {لَتُلَقَّى} أي لتأخذ {الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي من عند حكيم عليم, أي حكيم في أمره ونهيه, عليم بالأمور: جليلها وحقيرها, فخبره هو الصدق المحض, وحكمه هو العدل التام, كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}.
{إِذْ قَالَ مُوسَىَ لأهْلِهِ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لّعَلّكُمْ تَصْطَلِونَ فَلَمّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ يَمُوسَىَ إِنّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رَآهَا تَهْتَزّ كَأَنّهَا جَآنّ وَلّىَ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يَمُوسَىَ لاَ تَخَفْ إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيّ الْمُرْسَلُونَ إَلاّ مَن ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوَءٍ فَإِنّي غَفُورٌ رّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ(3/433)
وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مذكراً له ما كان من أمر موسى عليه السلام, كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه أعطاه من الآيات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة, وابتعثه إلى فرعون وملئه, فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له, فقال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِه} أي اذكر حين سار موسى بأهله فأضل الطريق, وذلك في ليل وظلام, فآنس من جانب الطور ناراً, أي رأى ناراً تتأجج وتضطرم, فقال {لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن الطريق {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون به وكان كما قال. فإنه رجع منها بخبر عظيم, واقتبس منها نوراً عظيماً, ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي فلما أتاها ورأى منظراً هائلاً عظيماً حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقداً, ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة, ثم رفع رأسه, فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن ناراً, وإنما كانت نوراً يتوهج, وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين, فوقف موسى متعجباً مما رأى فـ {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}. قال ابن عباس: تقدس {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من الملائكة, قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود هو الطيالسي, حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة, سمع أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل", زاد المسعودي "وحجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره". ثم قرأ أبو عبيدة {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة به. وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الذي يفعل ما يشاء, ولا يشبهه شيء من مخلوقاته, ولا يحيط به شيء من مصنوعاته, وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات, ولا تكتنفه الأرض والسموات, بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.
وقوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل شيء وقهره وغلبه, الحكيم في أقواله وأفعاله, ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلاً واضحاً على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء, فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك, ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} والجان ضرب من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطراباً. وفي الحديث نهي عن قتل جنان البيوت, فلما عاين موسى ذلك {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يلتفت من شدة فرقه {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي لا تخف مما ترى, فإني أريد أن أصطفيك رسولاً وأجعلك نبياً وجيهاً.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} هذا استنثاء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر, وذلك أن من كان على عمل سيء ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب, فإن الله يتوب عليه, كما قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} وقال تعالى: { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الآية, والآيات في هذا كثيرة جداً. وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار, وصدق من جعل له معجزة, وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه, فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر لها لمعان(3/434)
تتلألأ كالبرق الخاطف.وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أي هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن وأجعلهن برهاناً لك إلى فرعون وقومه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} كما تقدم تقرير ذلك هنالك. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي بينة واضحة ظاهرة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} وأرادوا معارضته بسحرهم, فغلبوا وانقلبوا صاغرين {وَجَحَدُوا بِهَا} في ظاهر أمرهم {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} أي علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله, ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها {ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي ظلماً من أنفسهم سجية ملعونة, وعلواً أي استكباراً من اتباع الحق, ولهذا قال تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم, وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة, وفحوى الخطاب يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد, الجاحدون لما جاء به من ربه, أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى, فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف وأعظم من موسى, وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله, وما سبقه من البشارات من الأنبياء به, وأخذ المواثيق له, عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي فَضّلَنَا عَلَىَ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَأَيّهَا النّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْءٍ إِنّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتّىَ إِذَآ أَتَوْا عَلَىَ وَادِي النّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيّهَا النّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصّالِحِينَ}
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه: داود وابنه سليمان عليهما السلام, من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة, والصفات الجميلة, وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة, والملك والتمكين التام في الدنيا, والنبوة والرسالة في الدين, ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن أبي حاتم: ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام, أخبرني أبي عن جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته, لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام.
وقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} أي في الملك والنبوة, وليس المراد وراثة المال, إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود, فإنه قد كان لداود مائة امرأة, ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة, فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركناه فهو صدقة" وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم, حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير,(3/435)
سورة القصص
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا وكيع عن أبيه عن أبي إسحاق عن معد يكرب قال: أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين, فقال: ما هي معي, ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم خباب بن الأرت, قال: فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا رضي الله عنه.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{طسَمَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نّبَإِ مُوسَىَ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مّا كَانُواْ يَحْذَرونَ}
فقد تقدم الكلام على الحروف المقطعة, وقوله: {تِلْكَ} أي هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور, وعلم ما قد كان وما هو كائن. وقوله: { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نّبَإِ مُوسَىَ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ} الآية, كما قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه كأنك تشاهد وكأنك حاضر, ثم قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض} أي تكبر وتجبر وطغى {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي أصنافاً قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.
وقوله تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ} يعني بني إسرائيل, وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم, هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العتيد يستعملهم في أخس الأعمال, ويكدهم ليلاً ونهاراً في أشغاله وأشغال رعيته, ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيي نساءهم, إهانة لهم واحتقاراً وخوفاً من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه أن يوجد منهم غلام, يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام, حين ورد الديار المصرية, وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخذها جارية, فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه, فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك ملك مصر على يديه, فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون, فاحترز فرعون من ذلك, وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ولن ينفع حذر من قدر, لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر, ولكل أجل كتاب, ولهذا قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ - إلى قوله - يَحْذَرُونَ} وقد فعل تعالى ذلك بهم, كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ - إلى قوله - يَعْرِشُونَ}. وقال تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى, فما نفعه ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب, بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه, بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفاً من الولدان, إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفي دارك, وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدلله وتتفداه, وحتفك وهلاكك وهلاك(3/461)
جنودك على يديه, لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال, الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّ مُوسَىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيَ إِنّا رَآدّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىَ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل, خافت القبط أن يفني بني إسرائيل, فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة, فقالوا لفرعون: إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم يقتلون. ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال, فيخلص إلينا ذلك, فأمر بقتل الولدان عاماً وتركهم عاماً, فولد هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان, وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان, وكان لفرعون ناس موكلون بذلك, وقوابل يَدُرْنَ على النساء, فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها, فإذا كان وقت ولادتها لا يقبلها إلا نساء القبط, فإن ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن, وإن ولدت غلاماً دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا, قبحهم الله تعالى.
فلما حملت أم موسى به عليه السلام لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها, ولم تفطن لها الدايات ولكن لما وضعته ذكراً ضاقت به ذرعاً, وخافت عليه خوفاً شديداً, وأحبته حباً زائداً, وكان موسى عليه السلام لا يراه أحد إلا أحبه, فالسعيد من أحبه طبعاً وشرعاً, قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} فلما ضاقت به ذرعاً, ألهمت في سرها, وألقي في خلدها, ونفث في روعها, كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّ مُوسَىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيَ إِنّا رَآدّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل, فاتخذت تابوتاً ومهدت فيه مهداً, وجعلت ترضع ولدها, فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت, وسيرته في البحر وربطته بحبل عندها, فلما كانت ذات يوم دخل عليها من تخافه, فذهبت فوضعته في ذلك التابوت وأرسلته في البحر, وذهلت عن أن تربطه, فذهب مع الماء واحتمله حتى مر به على دار فرعون, فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون, ولا يدرين ما فيه, وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها, فلما كشف عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه, فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه, وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها, ولهذا قال: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} الآية, قال محمد بن إسحاق وغيره: اللام هنا لام العاقبة, لا لام التعليل, لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك, ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه, ولكن إذا نظر إلى معنى السياق, فإنه تبقى اللام للتعليل, لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدواً لهم وحزناً فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه, ولهذا قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب كتاباً إلى قوم من القدرية في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن, قال الله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وقلتم أنتم لو شاء فرعون أن يكون لموسى(3/462)
ولياً وناصراً, والله تعالى يقول: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} الآية.
وقوله تعالى: {قَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} الآية, يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفاً من أن يكون من بني إسرائيل, فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه وتذب دونه وتحببه إلى فرعون, فقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فقال فرعون: أما لك فنعم, وأما لي فلا, فكان كذلك, وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه, وقد تقدم في حديث الفتون في سورة طه هذه القصة بطولها من رواية ابن عباس مرفوعاً عند النسائي وغيره. وقوله: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} وقد حصل لها ذلك, وهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه. وقوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} أي أرادت أن تتخذه ولداً وتتبناه, وذلك أنه لم يكن لها ولد منه. وقوله تعالى: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَىَ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلآ أَن رّبَطْنَا عَلَىَ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لاُخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَىَ أُمّهِ كَيْ تَقَرّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغاً, أي من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى, قاله ابن عباس ومجاهد, وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة, والضحاك والحسن البصري وقتادة وغيرهم. {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد, وتخبر بحالها لولا أن الله ثبتها وصبرها, قال الله تعالى: {لَوْلآ أَن رّبَطْنَا عَلَىَ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لاُخْتِهِ قُصّيهِ} أي أمرت ابنتها وكانت كبيرة تعي ما يقال لها, فقالت لها: {قُصّيهِ} أي اتبعي أثره, وخذي خبره, وتطلبي شأنه من نواحي البلد, فخرجت لذلك {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} قال ابن عباس: عن جانب. وقال مجاهد: بصرت به عن جنب عن بعد.
وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده, وذلك أنه لما استقر موسى عليه السلام بدار فرعون وأحبته امرأة الملك واستطلقته منه, عرضوا عليه المراضع التي في دارهم فلم يقبل منها ثدياً, وأبى أن يقبل شيئاً من ذلك, فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته, فلما رأته بأيديهم عرفته ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها. قال الله تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} أي تحريماً قدرياً, وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه, ولأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سبباً إلى رجوعه إلى أمه لترضعه, وهي آمنة بعد ما كانت خائفة, فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} قال ابن عباس: فلما قالت ذلك, أخذوها وشكوا في أمرها, وقالوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته, فأرسلوها, فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم, ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه, ففرحوا بذلك فرحاً شديداً, وذهب البشير إلى امرأة الملك, فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً, وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة, ولكن لكونه وافق ثديها, ثم سألتها آسية أن تقيم(3/463)
عندها فترضعه, فأبت عليها وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً, ولا أقدر على المقام عندك, ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت, فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك, وأجرت عليها النفقة والصلات والكساوى والإحسان الجزيل, فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمناً, في عز وجاه ورزق دارّ. ولهذا جاء في الحديث "مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير, كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها" ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليلة أو نحوه, والله أعلم, فسبحان من بيده الأمر, ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجاً وبعد كل ضيق مخرجاً, ولهذا قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي به {وَلا تَحْزَنَ} أي عليه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فيما وعدها من رده إليها وجعله من المرسلين, فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين, فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعاً وشرعاً. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة, فربما يقع الأمر كريهاً إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر, كما قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} وقال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.
{وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ وَاسْتَوَىَ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىَ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىَ فَقَضَىَ عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ إِنّهُ عَدُوّ مّضِلّ مّبِينٌ قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ قَالَ رَبّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ}
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى عليه السلام, ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى, آتاه الله حكماً وعلماً. قال مجاهد: يعني النبوة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قدره له من النبوة والتكليم في قضية قتله ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين, فقال تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} قال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: وذلك بين المغرب والعشاء. وقال ابن المنكدر عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: كان ذلك نصف النهار, وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} أي يتضاربان ويتنازعان {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} أي إسرائيلي {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أي قبطي, قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق, فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام, فوجد موسى فرصة وهي غفلة الناس, فعمد إلى القبطي {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} قال مجاهد: فوكزه أي طعنه بجمع كفه. وقال قتادة: وكزه بعصا كانت معه, فقضي عليه, أي كان فيها حتفه فمات {قَالَ} موسى {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} أي معيناً {لِلْمُجْرِمِينَ} أي الكافرين بك, المخالفين لأمرك.(3/464)
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقّبُ فَإِذَا الّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىَ إِنّكَ لَغَوِيّ مّبِينٌ فَلَمّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالّذِي هُوَ عَدُوّ لّهُمَا قَالَ يَمُوسَىَ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاّ أَن تَكُونَ جَبّاراً فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام لما قتل ذلك القبطي أنه أصبح {فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً} أي من معرة ما فعل {يَتَرَقّبُ} أي يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر فمر في بعض الطرق, فإذا ذلك الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر, فلما مر عليه موسى استصرخه على الآخر, فقال له موسى {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي ظاهر الغواية كثير الشر, ثم عزم موسى على البطش بذلك القبطي, فاعتقد الإسرائيلي لخوره وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعه يقول ذلك, فقال يدفع عن نفسه {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى عليه السلام, فلما سمعها ذلك القبطي لقفها من فمه, ثم ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده, فعلم فرعون بذلك, فاشتد حنقه, وعزم على قتل موسى, فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.
{وَجَآءَ رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىَ قَالَ يَمُوسَىَ إِنّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ}
قال تعالى: {وَجَآءَ رَجُلٌ} وصفه بالرجولية, لأنه خالف الطريق, فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه, فسبق إلى موسى, فقال له: يا موسى {إِنّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي يتشاورون فيك {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أي من البلد {إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ}
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقّبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىَ رَبّيَ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السّبِيلِ وَلَمّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مّنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتّىَ يُصْدِرَ الرّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَىَ لَهُمَا ثُمّ تَوَلّىَ إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره, خرج من مصر وحده, ولم يألف ذلك قبله بل كان في رفاهية ونعمة ورياسة {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقّبُ} أي يتلفت {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي من فرعون وملئه, فذكروا أن الله سبحانه وتعالى بعث إليه ملكاً على فرس, فأرشده إلى الطريق, فالله أعلم {ولما توجه تلقاء مدين} أي أخذ طريقاً سالكاً مهيعاً, فرح بذلك {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي الطريق الأقوم, ففعل الله به ذلك وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة, فجعله هادياً مهدياً {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} أي لما وصل إلى مدين وورد ماءها, وكان لها بئر يرده رعاء الشاء {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} أي جماعة يسقون, {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} أي تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا, فلما رآهما موسى عليه السلام رق لهما ورحمهما(3/465)
{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي ما خبركما لا تردان مع هؤلاء ؟ {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أي لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي فهذا الحال الملجىء لنا إلى ما ترى, قال الله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} قال أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا عبد الله, أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين, وجد عليه أمة من الناس يسقون قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر, ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال, فإذا هو بامرأتين تذودان قال: ما خطبكما ؟ فحدثتاه, فأتى الحجر فرفعه, ثم لم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم, إسناد صحيح.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر, وكان حافياً, فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه, وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه, وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع, وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه, وإنه لمحتاج إلى شق تمرة, وقوله {إلى الظل} قال ابن عباس وابن مسعود والسدي: جلس تحت شجرة. وقال ابن جرير: حدثني الحسين بن عمرو العنقري, حدثنا أبي, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: حثثت على جمل ليلتين حتى صبحت مدين, فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى, فإذا هي شجرة خضراء ترف, فأهوى إليها جملي وكان جائعاً فأخذها جملي فعالجها ساعة ثم لفظها, فدعوت الله لموسى عليه السلام ثم انصرفت. وفي رواية عن ابن مسعود أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها موسى, كما سيأتي إن شاء الله, فالله أعلم. وقال السدي, كانت الشجرة من شجر السمر. وقال عطاء بن السائب لما قال موسى {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أسمع المرأة.
{فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمّا جَآءَهُ وَقَصّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأمِينُ قَالَ إِنّيَ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ عَلَىَ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيّ وَاللّهُ عَلَىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}
لما رجعت المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما, أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً, فسألهما عن خبرهما, فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام, فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها, قال الله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} أي مشي الحرائر, كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: كانت مستترة بكم درعها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها, ليست بسلفع من النساء دلاجة ولاجة خراجة. هذا إسناد صحيح. قال الجوهري: السلفع من الرجال الجسور, ومن النساء الجارية السليطة, ومن النوق الشديدة. {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه(3/466)
طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة, بل قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا, يعني ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يقول: طب نفساً وقر عيناً, فقد خرجت من مملكتهم, فلا حكم لهم في بلادنا, ولهذا قال: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو ؟ على أقوال أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين, وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء, وقد قاله الحسن البصري وغير واحد, ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد العزيز الأوسي, حدثنا مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قص عليه موسى القصص, قال {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد الغزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "مرحباً بقوم شعيب وأختان موسى هديت" وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب. وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون. كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة لأنه قال لقومه {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن, وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة, كما ذكره غير واحد. وما قيل إن شعيباً عاش مدة طويلة, إنما هو - والله أعلم - احتراز من هذا الإشكال, ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ههنا, وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده, كما سنذكره قريباً إن شاء الله, ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه ثيرون, والله أعلم. قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ثيرون هو ابن أخي شعيب عليه السلام, وعن أبي حمزة عن ابن عباس قال: الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين, رواه ابن جرير به, ثم قال: الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر, ولا خبر تجب به الحجة في ذلك.
وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي قالت إحدى ابنتي هذا الرجل, قيل هي التي ذهبت وراء موسى عليه السلام, قالت لأبيها {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أي لرعية هذه الغنم. قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد: لما قالت {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} قال لها أبوها: وما علمك بذلك ؟ قالت له: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال, وإني لما جئت معه تقدمت أمامه فقال لي: كوني من ورائي, فإذا اختلفت علي الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر, وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه, وصاحبة موسى حين قالت {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} قال {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} أي طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين, قال شعيب الجبائي: وهما صفوريا وليا. وقال محمد بن إسحاق: صفوريا وشرفا, ويقال ليا, وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك أحد هذين العبدين بمائة, فقال: اشتريت, أنه يصح, والله أعلم.
وقوله: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين, فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك, وإلا ففي الثمان كفاية {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي لا أشاقك ولا أؤذيك ولا أماريك, وقد استدلوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعي فيما إذا قال: بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة أنه يصح, ويختار المشتري بأيهما أخذه صح,(3/467)
وحمل الحديث المروي في سنن أبي داود "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" على هذا المذهب, وفي الاستدلال بهذه الآية وهذا الحديث على هذا المذهب نظر ليس هذا موضع بسطه لطوله, والله أعلم.
ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم في صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة, بهذه الآية, واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في كتابه السنن حيث قال: باب استئجار الأجير على طعام بطنه, حدثنا محمد بن الحمصي, حدثنا بقية بن الوليد عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال: سمعت عتبة بن المنذر السلمي يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: "إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه" وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف, لأن مسلمة بن علي وهو الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف الرواية عند الأئمة, ولكن قد روي من وجه آخر, وفيه نظر أيضاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندّر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه" وقوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين, فإن أتممت عشراً فمن عندي فأنا متى فعلت أقلهما فقد برئت من العهد وخرجت من الشرط, ولهذا قال {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي فلا حرج علي, مع أن الكامل وإن كان مباحاً لكنه فاضل من جهة أخرى بدليل من خارج, كما قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه, وكان كثير الصيام, وسأله عن الصوم في السفر, فقال: "إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر" مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر, هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم, حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله, فقدمت على ابن عباس رضي الله عنه فسألته, فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل, هكذا رواه البخاري وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره عن سعيد بن جبير, ووقع في حديث الفتون من رواية القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير: أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية والأول أشبه, والله أعلم, وقد روي من حديث ابن عباس مرفوعاً, قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن محمد الطوسي, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت جبريل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: أتمهما وأكملهما" ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة: حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب وكان من أسناني أو أصغر مني فذكره. وفي إسناده قلب, وإبراهيم هذا ليس بمعروف. ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة, عن ابن عباس عن النبي فذكره, ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً عن ابن عباس إلا من هذا الوجه.
ثم قال ابن أبي حاتم: قرىء على يونس بن عبد الأعلى, أنبأنا ابن وهب, أنبأنا عمرو بن الحارث عن يحيى بن ميمون الحضرمي عن يوسف بن تيرح أن(3/468)
رسول الله سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: "لا علم لي" فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل, فقال جبريل: لا علم لي, فسأل جبريل ملكاً فوقه, فقال: لا علم لي, فسأل ذلك الملك ربه عز وجل عما سأله عنه جبريل, عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الرب عز وجل: قضى أبرهما وأبقاهما, أو قال أزكاهما, وهذا مرسل, وقد جاء مرسلاً من وجه آخر, وقال سنيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: قال مجاهد: إن النبي صلى الله عليه وسلم, سأل جبريل, أي الأجلين قضى موسى ؟ فقال: سوف أسأل إسرافيل فسأله, فقال: سوف أسأل الرب عز وجل, فسأله فقال: أبرهما وأوفاهما.
(طريق أخرى مرسلة أيضاً) قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: "أوفاهما وأتمهما" فهذه طرق متعاضدة, ثم قد روي هذا مرفوعاً من رواية أبي ذر رضي الله عنه. قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن, حدثنا إسحاق بن إدريس, حدثنا عويذ بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ - قال - "أوفاهما وأبرهما - قال - وإن سئلت: أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما" ثم قال البزار: لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عَوبَذ بن أبي عمران, وهو ضعيف.
ثم قد روي أيضاً نحوه من حديث عتبة بن النّدر بزيادة غريبة جداً, فقال أبو بكر البزار: حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني, حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن النّدر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: "أبرهما وأوفاهما" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه السلام لما أراد فراق شعيب عليه السلام, أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به, فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون, قال: فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه, فولدت قوالب ألوان كلها, وولدت ثنتين وثلاثا كل شاة ليس فيها فشوش ولا ضبوب ولا كميشة تفوت الكف ولا ثغول" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها وهي السامرية" هكذا أورده البزار.
وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثني عبد الله بن لهيعة (ح) وحدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, أنبأنا الوليد, أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن النّدر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه, فلما وفى الأجل قيل: يا رسول الله أي الأجلين ؟ - قال: أبرهما وأوفاهما, فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به, فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام, وكانت غنمه سوداء حسناء, فانطلق موسى عليه السلام, إلى عصاه, فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض, ثم أوردها فسقاها, ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا وضرب جنبها شاة شاة, قال: فأتأمت وألبنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش, قال يحيى: ولا ضبون, وقال صفوان: ولا ضبوب, قال أبو زرعة: الصواب طنوب ولا عزوز ولا ثعول ولا كميشة تفوت الكف, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية".
وحدثنا أبو زرعة, أنبأنا صفوان قال: سمعت الوليد قال: سألت ابن لهيعة ما الفشوش ؟ قال: التي تفش بلبنها واسعة الشخب, قلت: فما الضبوب ؟ قال: الطويلة الضرع تجره,(3/469)
قلت: فما العزوز ؟ قال: ضيقة الشخب. قلت: فما الثعول ؟ قال: التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين, قلت: فما الكميشة ؟ قال: التي تفوت الكف كميشة الضرع صغير لا يدركه الكف. مدار هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري, وفي حفظه سوء, وأخشى أن يكون رفعه خطأ, والله أعلم. وينبغي أن يروى ليس فيها فشوش ولا عزوز ولا ضبوب ولا ثعول ولا كميشة, لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة, وقد روى ابن جرير من كلام أنس بن مالك موقوفاً عليه ما يقارب بعضه بإِسناد جيد, فقال: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا معاذ بن هشام, حدثنا أبي, حدثنا قتادة, حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: لما دعا نبي الله موسى عليه السلام صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما, قال له صاحبه: كل شاة ولدت على غير لونها, فلك ولدها, فعمد موسى فرفع حبالاً على الماء, فلما رأت الخيال فزعت, فجالت جولة, فولدن كلهن بلقاً إلا شاة واحدة, فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام.
{فَلَمّا قَضَىَ مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطّورِ نَاراً قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ آتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النّارِ لَعَلّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشّجَرَةِ أَن يَمُوسَىَ إِنّيَ أَنَا اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رَآهَا تَهْتَزّ كَأَنّهَا جَآنّ وَلّىَ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يَمُوسَىَ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنّكَ مِنَ الآمنين اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رّبّكَ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}
قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى عليه السلام قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأتقاهما, وقد يستفاد هذا أيضاً من الآية الكريمة حيث قال تعالى: {فلما قضى موسى الأجل} أي الأكمل منهما, والله أعلم. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قضى عشر سنين وبعدها عشراً أخر, وهذا القول لم أره لغيره, وقد حكاه عنه ابن أبي حاتم وابن جرير, فالله أعلم. وقوله: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قالوا: كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله, فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه, فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره, فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة, فنزل منزلاً, فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئاً, فتعجب من ذلك, فبينما هو كذلك {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} أي رأى ناراً تضيء على بعد {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي حتى أذهب إليها {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} وذلك لأنه قد أضل الطريق {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} أي قطعة منها {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون بها من البرد, قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب, كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة, والجبل الغربي عن يمينه, والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي, فوقف باهتاً في أمرها, فناداه ربه {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ}.
قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: رأيت الشجرة التي نودي منها موسى عليه السلام سمرة خضراء ترف, إسناده مقارب.(3/470)
وقال محمد بن إسحاق عن بعض من لا يتهم عن وهب بن منبه قال: شجرة من العليق, وبعض أهل الكتاب يقول إنها من العوسج. وقال قتادة: هي من العوسج, وعصاه من العوسج.
وقوله تعالى: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء لا إله غيره ولا رب سواه, تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه.
وقوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي التي في يدك كما قرره على ذلك في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} والمعنى أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} فعرف وتحقق أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء: كن فيكون, كما تقدم بيان ذلك في سوره طه, وقال ههنا: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} أي تضطرب {كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً} أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها وقوائمها, واتساع فمها واصطكاك أنيابها وأضراسها, بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها, تنحدر في فيها تتقعقع كأنها حادرة في واد فعند ذلك {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي ولم يكن يلتفت لأن طبع البشرية ينفر من ذلك, فلما قال الله له: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} رجع فوقف في مقامه الأول, ثم قال الله تعالى: { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها, فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق, ولهذا قال: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي من غير برص.
وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} قال مجاهد: من الفزع, وقال قتادة: من الرعب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن جرير: مما حصل لك من خوفك من الحية, والظاهر أن المراد أعم من هذا, وهو أنه أمر عليه السلام إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب وهو يده, فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف, وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده, فإنه يزول عنه ما يجده أو يخف إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ صالح, أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب عن عبد الله بن مسلم عن مجاهد قال: كان موسى عليه السلام قد ملىء قلبه رعباً من فرعون, فكان إذا رآه قال: اللهم إني أدرأ بك في نحره, وأعوذ بك من شره, فنزع الله ما كان في قلب موسى عليه السلام, وجعله في قلب فرعون, فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار.
وقوله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} يعني إلقاء العصا وجعلها حية تسعى وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء, دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار, وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه, ولهذا قال تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} أي وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعة الله, مخالفين لأمره ودينه.
{قَالَ رَبّ إِنّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ قَالَ سَنَشُدّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}
لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون الذي إنما خرج من ديار مصر فراراً منه وخوفاً من سطوته {قَالَ رَبّ إِنّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} يعني ذلك القبطي {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} أي إذا رأوني {يَقْتُلُونِ وَأَخِي(3/471)
هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً} وذلك أن موسى عليه السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة, فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه, فحصل فيه شدة في التعبير, ولهذا قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم, وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد, ولهذا قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} أي وزيراً ومعيناً ومقوياً لأمري, يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل, لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد, ولهذا قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}.
وقال محمد بن إسحاق {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} أي يبين لهم عني ما أكلمهم به, فإنه يفهم عني ما لا يفهمون, فلما سأل ذلك موسى قال الله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي سنقوي أمرك, ونعز جانبك بأخيك الذي سألت له أن يكون نبياً معك, كما قال في الآية الأخرى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} ولهذا قال بعض السلف: ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون عليهما السلام, فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبياً ورسولاً معه إلى فرعون وملئه, ولهذا قال تعالى في حق موسى {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً}.
وقوله تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أي حجة قاهرة {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا} أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - إلى قوله - وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ - إلى قوله - وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً ومؤيداً, ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولمن اتبعهما في الدنيا والآخرة, فقال تعالى: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى آخر الآية, ووجه ابن جرير على أن المعنى: ونجعل لكما سطاناً فلا يصلون إليكما, ثم يبتدىء فيقول: {بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} تقديره أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا, ولا شك أن هذا المعنى صحيح, وهو حاصل من التوجيه الأول, فلا حاجة إلى هذا, والله أعلم.
{فَلَمّا جَآءَهُم مّوسَىَ بِآيَاتِنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِيَ آبَآئِنَا الأوّلِينَ وَقَالَ مُوسَىَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَىَ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ}
يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة, والدلالة القاهرة على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره, فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه, وأيقنوا أنه من عند الله, عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة, وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق فقالوا {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً} أي مفتعل مصنوع, وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه فما صعد معهم ذلك.
وقوله: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} يعنون عبادة الله وحده لا شريك له, يقولون: ما رأينا أحداً من آبائنا على هذا الدين, ولم نرَ الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى, فقال موسى عليه السلام مجيباً لهم {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} يعني مني ومنكم, وسيفصل بيني وبينكم, ولهذا قال: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي من النصرة والظفر والتأييد {إِنَّهُ لا(3/472)
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي المشركون بالله عز وجل.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيّهَا الْملاُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحاً لّعَلّيَ أَطّلِعُ إِلَىَ إِلَهِ مُوسَىَ وَإِنّي لأظُنّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ}
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الإلهية لنفسه القبيحة لعنه الله, كما قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} الآية, وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية, فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم, ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وقال تعالى إخباراً عنه: {فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} يعني أنه جمع قومه, ونادى فيهم بصوته العالي مصرحاً لهم بذلك, فأجابوه سامعين مطيعين, ولهذا انتقم الله تعالى منه, فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة, وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك, فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.
وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} يعني أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين, يعني يتخذ له آجراً لبناء الصرح وهو القصر المنيف الرفيع العالي, كما قال في الآية الأخرى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ َسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يرَ في الدنيا بناء أعلى منه, إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون, ولهذا قال: {وإني لأظنه من الكاذبين} أي في قوله: إن ثم رباً غيري, لا أنه كذبه في أن الله تعالى أرسله لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع جل وعلا, فإنه قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} وقال {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وهذا قول ابن جرير.
وقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} أي طغوا وتجبروا, وأكثروا في الأرض الفساد, واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ولهذا قال تعالى ههنا: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة, فلم يبقَ منهم أحد { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} أي فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولاً بذل الآخرة, كما قال تعالى: {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}. وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسله, كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ(3/473)
مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} قال قتادة: وهذه الآية كقوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُولَىَ بَصَآئِرَ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ}
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم, عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم, من إنزال التوارة عليه بعد ما أهلك فرعون وملأه. وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُولَىَ} يعني أنه بعد إنزال التوارة لم يعذب أمة بعامة بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين, كما قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا: حدثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوارة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى, ثم قرأ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُولَىَ} الآية, ورواه ابن أبي حاتم من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي بنحوه, وهكذا رواه أبو بكر البزار في مسنده عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان عن عوف عن أبي نضرة, عن أبي سعيد موقوفاً, ثم رواه عن نصر بن علي عن عبد الأعلى عن عوف, عن أبي نضرة عن أبي سعيد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى" ثم قرأ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُولَىَ} الآية. وقوله: { بَصَآئِرَ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} أي من العمى والغي, وهدى إلى الحق ورحمة, أي إرشاداً إلى العمل الصالح {لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ} أي لعل الناس يتذكرون به ويهتدون بسببه.
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىَ مُوسَى الأمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ وَلَكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رّحْمَةً مّن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ وَلَوْلآ أَن تُصِيبَهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم, وهو رجل أمي لا يقرأ شيئاً من الكتب, نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك, كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} الآية, أي وما كنت حاضراً لذلك, ولكن الله أوحاه إليك, وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه, وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه, ثم قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} الآية, وقال في آخر السورة {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} وقال بعد ذكر قصة يوسف {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا(3/474)
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} الآية, وقال في سورة طه: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} الآية, وقال ههنا بعد ما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها, وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطىء الوادي {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك, ليكون حجة وبرهاناً على قرون قد تطاول عهدها, ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي وما كنت مقيماً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قال لقومه وما ردوا عليه {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رسولاً {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه: أخبرنا علي بن حجر, أخبرنا عيسى بن يونس عن حمزة الزيات عن الأعمش, عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قال: نودوا أن: يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني, وأجبتكم قبل أن تدعوني, وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث جماعة عن حمزة وهو ابن حبيب الزيات, عن الأعمش. ورواه ابن جرير من حديث وكيع ويحيى بن عيسى عن الأعمش, عن علي بن مدرك عن أبي زرعة وهو ابن عمرو بن جرير أنه قال ذلك من كلامه, والله أعلم.
وقال مقاتل بن حيان {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} أمتك في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت. وقال قتادة {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} موسى وهذا - والله أعلم - أشبه بقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} ثم أخبر ههنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء, كما قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} وقال تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}.
وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي ما كنت مشاهداً لشيء من ذلك, ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد وبإرسالك إليهم {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عز وجل {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} الآية, أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة, ولينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم, فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير, كما قال تعالى بعد ذكره إنزال كتابه المبارك وهو القرآن {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} الآية, والآيات في هذا كثيرة.
{فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلآ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىَ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنّا بِكُلّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللّهِ هُوَ أَهْدَىَ مِنْهُمَآ أَتّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ(3/475)
أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم, لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول أنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} الآية, يعنون - والله أعلم - من الآيات كثيرة مثل العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وتنقيص الزروع والثمار, مما يضيق على أعداء الله, وكفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الآيات الباهرة, والحجج القاهرة, التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه وبني إسرائيل, ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه, بل كفروا بموسى وأخيه هارون, كما قالوا لهما {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} ولهذا قال ههنا: {وَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي تعاونا {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي بكل منهما كافرون, ولشدة التلازم والتصاحب والمقاربة بين موسى وهارون, دل ذكر أحدهما على الآخر, كما قال الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضا ً ... أريد الخير أيهما يليني
أي فما أدري يليني الخير أو الشر. قال مجاهد بن جبر: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك, فقال الله: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} قال يعني موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم {تَظَاهَرَا} أي تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما الآخر ؟ وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رزين في قوله {ساحران} يعنون موسى وهارون, وهذا قول جيد قوي, والله أعلم. وقال مسلم بن يسار عن ابن عباس {قَالُوا سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا} قال: يعنون موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم, وهذه رواية الحسن البصري. وقال الحسن وقتادة: يعني عيسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم, وهذا فيه بعد, لأن عيسى لم يجر له ذكر ههنا, والله أعلم.
وأما من قرأ {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} فقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: يعنون التوارة والقرآن, وكذا قال عاصم الجندي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال السدي: يعني صدق كل واحد منهما الآخر. وقال عكرمة: يعنون التوارة والإنجيل, وهو رواية عن أبي زرعة, واختاره ابن جرير. وقال الضحاك وقتادة: الإنجيل والقرآن, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب, والظاهر على قراءة {سِحْرَانِ} أنهم يعنون التوارة والقرآن, لأنه قال بعده: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} وكثيراً ما يقرن الله بين التوارة والقرآن, كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ - إلى أن قال - وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وقال في آخر السورة: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} الآية, وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال الجن { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. وقد علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم, وهو القرآن, وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران عليه السلام, وهو(3/476)
الكتاب الذي قال الله فيه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} والإنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة, ومحلاً لبعض ما حرم على بني إسرائيل, ولهذا قال تعالى: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} أي فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل, قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم, ولم يتبعوا الحق {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أي بلا دليل ولا حجة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} أي بغير حجة مأخوذة من كتاب الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قال مجاهد: فصلنا لهم القول. وقال السدي: بينا لهم القول. وقال قتادة: يقول تعالى: أخبرهم كيف صنع بمن مضى, وكيف هو صانع {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قال مجاهد وغيره {وَصَّلْنَا لَهُمُ} يعني قريشاً, وهذا هو الظاهر, لكن قال حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن رفاعة, رفاعة هذا هو ابن قرظة القرظي, وجعله ابن مندة: رفاعة بن شموال خال صفية بنت حيي وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا, كذا ذكره ابن الأثير - قال: نزلت {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} في عشرة أنا أحدهم, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه.
{الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ قَالُوَاْ آمَنّا بِهِ إِنّهُ الْحَقّ مِن رّبّنَآ إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}
يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن, كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} وقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى - إلى قوله - فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . قال سعيد بن جبير: نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي, فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حتى ختمها, فجعلوا يبكون وأسلموا, ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين, أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم الثاني, ولهذا قال: {بِمَا صَبَرُوا} أي على اتباع الحق, فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس, وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي, وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه,ورجل كانت له أمة, فأدبها فأحسن تأديبها, ثم أعتقها فتزوجها ". وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني,(3/477)
حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح, فقال قولاً حسناً جميلاً, وقال فيما قال: "من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه وما علينا ومن أسلم من المشركين فله أجره وله ما لنا وعليه ما علينا".
وقوله تعالى: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي لا يقابلون السيء بمثله, ولكن يعفون ويصفحون {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم, والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات. وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم, بل كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه, أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح, ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب, ولهذا قال عنهم إنهم قالوا {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها.
قال محمد بن إسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة, فوجدوه في المسجد, فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه, ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة, فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا, دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن, فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع, ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه, وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره, فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش, فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب, بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل, فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال: قال: ما نعلم ركباً أحمق منكم, أو كما قالوا لهم فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه, ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيراً. قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران, فالله أعلم أي ذلك كان. قال: ويقال - والله أعلم - أن فيهم نزلت هذه الآيات {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - إلى قوله - لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت ؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم والآيات اللاتي في سورة المائدة {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً - إلى قوله - فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.
{إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوَاْ إِن نّتّبِعِ الْهُدَىَ مَعَكَ نُتَخَطّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكّن لّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْءٍ رّزْقاً مّن لّدُنّا وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد {لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي ليس إليك ذلك, إنما عليك البلاغ, والله يهدي من يشاء, وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة, كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وهذه الآية أخص من هذا كله, فإنه قال: {إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية, وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله(3/478)
صلى الله عليه وسلم, وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حباً شديداً طبعياً لا شرعياً, فلما حضرته الوفاة وحان أجله, دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام. فسبق القدر فيه واختطف من يده, فاستمر على ما كان عليه من الكفر, ولله الحكمة التامة. قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه, وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم قل لا إله إلا الله, كلمة أحاج لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب, وأبى أن يقول لا إله إلا الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} وأنزل في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أخرجاه من حديث الزهري, وهكذا رواه مسلم في صحيحه, والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عماه قل لا إله إلا الله, أشهد لك بها يوم القيامة" فقال: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت, لأقررت بها عينك, لا أقولها إلا لأقر بها عينك, فأنزل الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} وقال الترمذي: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان, ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان: حدثني أبو حازم عن أبي هريرة فذكره بنحوه, وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله, فأبى عليه ذلك, وقال: أي ابن أخي ملة الأشياخ, وكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول قيصر جاء إلي, قال: كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً, فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره, ثم قال: "ممن الرجل ؟" قلت: من تنوخ. قال: "هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية ؟" قلت: إني رسول قوم وعلى دينهم حتى أرجع إليهم, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه, وقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.
وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} يقول تعالى مخبراً عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين, أن يقصدونا بالأذى والمحاربة, ويتخطفونا أينما كنا, قال الله تعالى مجيباً لهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل, لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين وحرم معظم آمن منذ وضع, فكيف يكون هذا الحرم آمناً لهم في حال كفرهم وشركهم, ولا يكون آمناً لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق ؟ وقوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره, وكذلك المتاجر والأمتعة {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ولهذا قالوا ما قالوا, وقد قال النسائي: أنبأنا الحسن بن محمد, حدثنا الحجاج عن ابن جريج, أخبرني ابن أبي مليكة قال: قال عمرو بن شعيب عن ابن عباس, ولم يسمعه منه, إن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}.(3/479)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَكُنّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىَ حَتّىَ يَبْعَثَ فِيَ أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنّا مُهْلِكِي الْقُرَىَ إِلاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
يقول تعالى معرضاً بأهل مكة في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق, كما قال في الآية الأخرى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ - إلى قوله - فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} ولهذا قال تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً} أي دثرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم. وقوله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أي رجعت خراباً ليس فيها أحد.
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا عن ابن مسعود أنه سمع كعباً يقول لعمر: إن سليمان عليه السلام قال للهامة - يعني البومة -: ما لك لا تأكلين الزرع ؟ قالت: لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه, قال: فما لك لا تشربين الماء ؟ قالت: لأن الله تعالى أغرق قوم نوح به. قال: فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب ؟ قالت لأنه ميراث الله تعالى, ثم تلا {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ثم قال تعالى مخبراً عن عدله وأنه لا يهلك أحداً ظالماً له, وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم, ولهذا قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} وهي مكة {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} فيه دلالة على أن النبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام, كما قال تعالى: { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقال: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقال: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وتمام الدليل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} الآية, فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة, وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى, لأنه رسول إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود" ولهذا ختم به النبوة والرسالة, فلا نبي من بعده ولا رسول, بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة, وقيل المراد بقوله: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم, حكاه الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما, وليس ببعيد.
{وَمَآ أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مّتّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا, وما فيها من الزينة الدنيئة, والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم العظيم المقيم, كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} وقال: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} وقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم, فلينظر ماذا يرجع إليه".
وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا يعقل من(3/480)
يقدم الدنيا على الآخرة. وقوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} يقول تعالى: أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح الأعمال من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة, كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده, فهو ممتع في الحياة الدنيا أياماً قلائل {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قال مجاهد وقتادة: من المعذبين. ثم قد قيل: إنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. وقيل في حمزة وعلي وأبي جهل, وكلاهما عن مجاهد, الظاهر أنها عامة, وهذا كقوله تعالى إخباراً عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه وهو في الدرجات, وذاك في الدركات, فقال: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبّنَا هَؤُلآءِ الّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوَاْ إِيّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ فَأَمّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىَ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}
يقول تعالى مخبراً عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم فيقول: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} يعني أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد, هل ينصرونكم أو ينتصرون ؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد, كما قال تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون}.
وقوله: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} فشهدوا عليهم أنه أغووهم فاتبعوهم ثم تبرءوا من عبادتهم, كما قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً} وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال الخليل عليه السلام لقومه {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية, وقال الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ - إلى قوله - وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ولهذا قال: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة.
وقوله: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي فودوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا, وهذا كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً}. وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}(3/481)
النداء الأول عن سؤال التوحيد, وهذا فيه إثبات النبوات, ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم, وكيف كان حالكم معهم ؟ وهذا كما يسأل العبد في قبره: من ربك, ومن نبيك, وما دينك ؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, وأما الكافر فيقول: هاه هاه لا أدري, ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت, لأن من كان في هذه أعمى, فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً, ولهذا قال تعالى: { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} قال مجاهد: فعميت عليهم الحجج, فهم لا يتساءلون بالأنساب. وقوله {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي في الدنيا {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي يوم القيامة وعسى من الله موجبة, فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة.
{وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ وَرَبّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللّهُ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الاُولَىَ وَالآخرة وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار, وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب, قال تعالى: {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} أي ما يشاء, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, فالأمور كلها خيرها وشرها بيده, ومرجعها إليه, وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نفي على أصح القولين, كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وقد اختار ابن جرير أن {ما} ههنا بمعنى الذي تقديره: ويختار الذي لهم فيه خيرة, وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح, والصحيح أنها نافية, كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس وغيره أيضاً. فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار, وأنه لا نظير له في ذلك, ولهذا قال {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئاً.
ثم قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يعلم ما تكن الضمائر, وما تنطوي عليه السرائر, كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}. وقوله {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي هو المنفرد بالإلهية, فلا معبود سواه, كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار سواه {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} أي في جميع ما يفعله هو المحمود عليه بعدله وحكمته {وَلَهُ الْحُكْمُ} أي الذي لا معقب له لقهره وغلبته وحكمته ورحمته {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي جميعكم يوم القيامة, فيجزي كل عامل بعمله من خير وشر, ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ الْلّيْلَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}(3/482)
يقول تعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما وبيّن أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة, لأضر ذلك بهم, ولسئمته النفوس وانحصرت منه, ولهذا قال تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} أي تبصرون به وتستأنسون بسببه {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمداً, أي دائماً مستمراً إلى يوم القيامة, لأضر ذلك بهم, ولتعبت الأبدان وكلت من كثرة الحركات والأشغال, ولهذا قال تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم {أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رّحْمَتِهِ} أي بكم {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي خلق هذا وهذا {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي في الليل {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي في النهار بالأسفار والترحال, والحركات والأشغال, وهذا من باب اللف والنشر. وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار, ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار, أو بالنهار استدركه بالليل, كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} والآيات في هذا كثيرة.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوَاْ أَنّ الْحَقّ لِلّهِ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
وهذا أيضاً نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر, يناديهم الرب تعالى على رؤوس الأشهاد فيقول: {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي في دار الدنيا {وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً} قال مجاهد: يعني رسولاً {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أي على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء {فَعَلِمُوَاْ أَنّ الْحَقّ لِلّهِ} أي لا إله غيره, فلم ينطقوا ولم يحيروا جواباً {وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ذهبوا فلم ينفعوهم.
{إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ}
قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال {إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ} قال: كان ابن عمه, وهكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وغيرهم أنه كان ابن عم موسى عليه السلام. قال ابن جريج: هو قارون بن يصهر بن قاهث وموسى بن عمران بن قاهث. وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام, قال ابن جريج: وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه, والله أعلم. وقال قتادة بن دعامة: كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى, وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة, ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري, فأهلكه البغي لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} أي الأموال {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أي ليثقل(3/483)
حملها الفئام من الناس لكثرتها. قال الأعمش عن خيثمة: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود, كل مفتاح مثل الإصبع, كل مفتاح على خزانة على حدته, فإذا ركب حملت على ستين بغلاً أغر محجلاً, وقيل غير ذلك, والله أعلم. وقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي وعظه فيما هو فيه صالحو قومه, فقالوا على سبيل النصح والإرشاد: لا تفرح بما أنت فيه, يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال, {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} قال ابن عباس: يعني المرحين. وقال مجاهد: يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات, التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح, فإن لربك عليك حقاً, ولنفسك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, ولزورك عليك حقاً, فآت كل ذي حق حقه {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي أحسن إلى خلقه, كما أحسن هو إليك {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض, وتسيء إلى خلق الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
{قَالَ إِنّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىَ عِلْمٍ عِندِيَ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ اللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُ قُوّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه, وأرشدوه إلى الخير {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي لا أفتقر إلى ما تقولون, فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي, فتقديره إنما أعطيته لعلم الله فيّ أني أهل له, وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي على علم من الله بي, وكقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أي هذا أستحقه.
وقد روي عن بعضهم أنه أراد {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي أنه كان يعاني علم الكيمياء, وهذا القول ضعيف, لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل, لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عز وجل, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, فليخلقوا ذرة, فليخلقوا شعيرة" وهذا ورد في المصورين الذين يشبهون بخلق الله في مجرد الصورة الظاهرة أو الشكل, فكيف بمن يدعي أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى ؟ هذا زور ومحال, وجهل وضلال, وإنما يقدرون على الصبغ في الصور الظاهرة, وهي كذب وزغل وتمويه وترويج أنه صحيح في نفس الأمر وليس كذلك قطعاً لا محالة, ولم يثبت بطريق شرعي أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التي يتعاطاها هؤلاء الجهلة الفسقة الأفاكون, فأما ما يجريه الله سبحانه من خرق العوائد على يدي بعض الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهباً أو فضة أو نحو ذلك, فهذا أمر لا ينكره مسلم, ولا يرده مؤمن, ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات, وإنما هذا عن مشيئة رب الأرض والسموات واختياره وفعله, كما روي عن حيوة بن شريح المصري رحمه الله تعالى أنه سأله سائل, فلم يكن عنده ما يعطيه, ورأى ضرورته, فأخذ حصاة من الأرض فأجالها في كفه, ثم ألقاها إلى ذلك السائل, فإذا هي ذهب أحمر, والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً يطول ذكرها.
وقال بعضهم: إن قارون(3/484)
كان يعرف الاسم الأعظم, فدعا الله به فتمول بسببه. والصحيح المعنى الأول, ولهذا قال الله تعالى راداً عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من المال {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} أي قد كان من هو أكثر منه مالاً, وما كان ذلك عن محبة منّاله, وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم, ولهذا قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي لكثرة ذنوبهم قال قتادة {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} على خير عندي. وقال السدي: على علم أني أهل لذلك.
وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, فإنه قال في قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال, وقرأ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} الآية, وهكذا يقول من قل علمه إذا رأى من وسع الله عليه لولا أن يستحق ذلك لما أعطي.
{ فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا يَلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّهِ خَيْرٌ لّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقّاهَآ إِلاّ الصّابِرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن قارون أنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة, وتجمل باهر, من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه, فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخارفها وزينتها, تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي قالوا {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي ذو حظ وافر من الدنيا, فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون. كما في الحديث الصحيح "يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وقوله: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} قال السدي: ولا يلقى الجنة إلا الصابرون, كأنه جعل ذلك من تمام الكلام الذين أوتوا العلم. قال ابن جرير: ولا يلقى هذه الكلمة إلا الصابرون عن محبة الدنيا الراغبون في الدار الآخرة وكأنه جعل ذلك مقطوعاً من كلام أولئك, وجعله من كلام الله عز وجل وإخباره بذلك.
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الّذِينَ تَمَنّوْاْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلآ أَن مّنّ اللّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض, كما ثبت في الصحيح عند البخاري من حديث الزهري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به, فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة". ثم رواه من حديث جرير بن زيد عن سالم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص, حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل فيمن كان(3/485)
قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما, أمر الله الأرض فأخذته, فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة" تفرد به أحمد, وإسناده حسن.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي, حدثنا أبو خيثمة, حدثنا أبو يعلى بن منصور, أخبرني محمد بن مسلم, سمعت زياد النميري يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما, فأمر الله الأرض فأخذته, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" . وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال: رأيت شاباً في مسجد نجران, فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله, فقال: ما لك تنظر إلي ؟ فقلت: أعجب من جمالك وكمالك. فقال: إن الله ليعجب مني, قال فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر, فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب به.
وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عليه السلام, واختلف في سببه فعن ابن عباس والسدي أن قارون أعطى امرأة بغياً مالاً على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله تعالى, فتقول يا موسى إنك فعلت بي كذا وكذا, فلما قالت ذلك في الملأ لموسى عليه السلام أرعد من الفرق, وأقبل عليها بعد ما صلى ركعتين ثم قال: أنشدك بالله الذي فرق البحر وأنجاكم من فرعون, وفعل كذا وكذا لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت ؟ فقالت: أما إذ نشدتني فإن قارون أعطاني كذا وكذا على أن أقول ذلك لك, وأنا أستغفر الله وأتوب إليه, فعند ذلك خر موسى لله عز وجل ساجداً, وسأل الله في قارون, فأوحى الله إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه, فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره, فكان ذلك, وقيل إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك وهو راكب على البغال الشهب, وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة, فمر في محفله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام وهو يذكرهم بأيام الله, فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه ينظرون إلى ما هو فيه, فدعاه موسى عليه السلام وقال: ما حملك على ما صنعت ؟ فقال: يا موسى أما لئن كنت فضلت علي بالنبوة فلقد فضلت عليك بالدنيا, ولئن شئت لنخرجن فلتدعون علي وأدعو عليك, فخرج موسى وخرج قارون في قومه, فقال موسى عليه السلام: تدعو أو أدعو أنا, فقال: بل أدعو أنا, فدعا قارون فلم يجب له, ثم قال موسى: أدعو ؟ قال: نعم, فقال موسى: اللهم مر الأرض أن تطيعني اليوم, فأوحى الله إِليه أني قد فعلت, فقال موسى: يا أرض خذيهم, فأخذتهم إِلى أقدامهم ثم قال: خذيهم, فأخذتهم إِلى ركبهم, ثم إِلى مناكبهم, ثم قال: أقبلي بكنوزهم وأموالهم. قال: فأقبلت بها حتى نظروا إليها, ثم أشار موسى بيده, ثم قال: اذهبوا بني لاوي فاستوت بهم الأرض, وعن ابن عباس قال: خسف بهم إِلى الأرض السابعة. وقال قتادة: ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة, فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة, وقد ذكر ههنا إسرائيليات غريبة أضربنا عنها صفحاً. وقوله تعالى: {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} أي ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه, ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله, ولا كان هو في نفسه منتصراً لنفسه, فلا ناصر له من نفسه ولا من غيره.
وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ} أي الذين لما رأوه في زينته قالوا {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فلما خسف به أصبحو يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر, أي ليس المال بدال على رضا الله عن صاحبه, فإن الله يعطي ويمنع ويضيق ويوسع ويخفض ويرفع, وله الحكمة التامة والحجة البالغة, وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود "إِن الله قسم بينكم(3/486)
أخلاقكم كما قسم أرزاقكم, وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب, ولا يعطي الإيمان إلا من يحب" {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} أي لولا لطف الله بنا وإِحسانه إِلينا لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} يعنون أنه كان كافراً, ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة, وقد اختلف النحاة في معنى قوله ههنا ويكأن, فقال بعضهم: معناه ويلك اعلم أن, ولكن خفف فقيل ويك ودل فتح أن على حذف اعلم, وهذا القول ضعفه ابن جرير, والظاهر أنه قوي ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن, والكتابة أمر وضعي اصطلاحي, والمرجع إلى اللفظ العربي, والله أعلم, وقيل معناها ويكأن أي ألم تر أن, قاله قتادة. وقيل معناها وي كأن ففصلها وجعل حرف وي للتعجب أو للتنبيه, وكأن بمعنى أظن وأحتسب. قال ابن جرير: وأقوى الأقوال في هذا قول قتادة إنها بمعنى ألم تر أن, واستشهد بقول الشاعر:
سألتاني الطلاق إذ رأتاني ... قلّ مالي قد جئتماني بنكر
ويكأن من يكن له نشب يحـ ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
{تِلْكَ الدّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الّذِينَ عَمِلُواْ السّيّئَاتِ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول, جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون علواً في الأرض أي ترفعاً على خلق الله وتعاظماً عليهم وتجبراً بهم ولا فساداً فيهم, كما قال عكرمة العلو: التجبر. وقال سعيد بن جبير: العلو البغي. وقال سفيان بن سعيد الثوري عن منصور عن مسلم البطين: العلو في الأرض التكبر بغير حق, والفساد أخذ المال بغير حق. وقال ابن جريج {لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} تعظماً وتجبراً {وَلا فَسَاداً} عملاً بالمعاصي. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي عن أشعث السمان عن أبي سلام الأعرج عن علي قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه, فيدخل في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره, فإن ذلك مذموم, كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل, فهذا لا بأس به, فقد ثبت أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسناً ونعلي حسنة, أفمن الكبر ذلك ؟ فقال: "لا, إن الله جميل يحب الجمال". وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} أي يوم القيامة {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي ثواب الله خير من حسنة العبد, فكيف والله يضاعفه أضعافاً كثيرة, وهذا مقام الفضل ثم قال: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} كما قال في الآية الأخرى: { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا مقام الفضل والعدل.
{إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدّكَ إِلَىَ مَعَادٍ قُل رّبّيَ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَىَ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ وَمَا كُنتَ تَرْجُوَ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ ظَهيراً(3/487)
لّلْكَافِرِينَ وَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَىَ رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس, ومخبراً له بأنه سيرده إلى معاد وهو يوم القيامة, فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة, ولهذا قال تعالى: {إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدّكَ إِلَىَ مَعَادٍ} أي افترض عليك أداءه إلى الناس {لَرَآدّكَ إِلَىَ مَعَادٍ} أي إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك, كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} وقال: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ}.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} يقول لرادك إلى الجنة ثم سائلك عن القرآن. قاله السدي, وقال أبو سيعد مثلها, وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى يوم القيامة, ورواه مالك عن الزهري, وقال الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إلى الموت, ولهذا طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما, وفي بعضها لرادك إلى معدنك من الجنة. وقال مجاهد: يحييك يوم القيامة, وكذا روي عن عكرمة وعطاء وسعيد بن جبير وأبي قزعة وأبي مالك وأبي صالح. وقال الحسن البصري: إي والله إن له لمعاداً فيبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة. وقد روي عن ابن عباس غير ذلك.
كما قال البخاري في التفسير من صحيحه: حدثنا محمد بن مقاتل, أنبأنا يعلى, حدثنا سفيان العصفري عن عكرمة عن ابن عباس {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مكة, وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه, وابن جرير من حديث يعلى وهو ابن عبيد الطنافسي به, وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وقال محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إلى مولدك بمكة. وقال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عباس ويحيى بن الجراز وسعيد بن جبير وعطية والضحاك نحو ذلك.
وحدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة, فبلغ الجحفة, اشتاق إلى مكة, فأنزل الله عليه {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إلى مكة, وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان مجموع السورة مكياً, والله أعلم. وقد قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: هذه مما كان ابن عباس يكتمها.
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن نعيم القارىء أنه قال في قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال إلى بيت المقدس, وهذا - والله أعلم - يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة, لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر والله الموفق للصواب. ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة, وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم, كما فسر ابن عباس سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخر السورة, أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه, وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب, ووافقه عمر على ذلك وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم, ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بالموت, وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت, وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين: الإنس والجن, ولأنه أكمل خلق الله(3/488)
وأفصح خلق الله وأشرف خلق الله على الإطلاق.
وقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي قل لمن خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم قل: ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني, وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار, ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى مذكراً لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي إنما أنزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك, فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً} أي معيناً {لِلْكَافِرِينَ} ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} أي لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك لا تلوي على ذلك ولا تباله, فإن الله معلٍ كلمتك ومؤيد دينك ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان, ولهذا قال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي إلى عبادة ربك وحده لا شريك له {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي لا تليق العبادة إلا له, ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته, وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم, الذي تموت الخلائق ولا يموت, كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} فعبر بالوجه عن الذات, وهكذا قوله ههنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي إلا إياه. وقد ثبت في الصحيح من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
وقال مجاهد والثوري في قوله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي إلا ما أريد به وجهه, وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له, قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وهذا القول لا ينافي القول الأول, فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة, والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس, فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا عمر بن سليم الباهلي, حدثنا أبو الوليد قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة, فيقف على بابها فينادي بصوت حزين, فيقول أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وقوله: {لَهُ الْحُكْمُ} أي الملك والتصرف ولا معقب لحكمه {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم معادكم, فيجزيكم بأعمالكم إن خيراً فخير, وإن شراً فشر. آخر تفسير سورة القصص ولله الحمد والمنة.(3/489)
سورة العنكبوت
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الَمَ أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}
أما الكلام على الحروف المقطعة, فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} استفهام إنكار, ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان, كما جاء في الحديث الصحيح "أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء" وهذه الآية كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ومثلها في سورة براءة. وقال في البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ولهذا قال ههنا {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه, والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون, وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة, وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} إلا لنرى وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود, والعلم أعم من الرؤية, فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان, فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم, ولهذا قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} أي يفوتونا {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما يظنون.
{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لاَتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَن جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يقول تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللّهِ} أي في الدار الآخرة, وعمل الصالحات ورجا ما عند الله من الثواب الجزيل, فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كلاماً موفراً, فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء(3/490)
بصير بكل الكائنات, ولهذا قال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لاَتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} أي من عمل صالحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه, فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد, ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً, ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من الدهر بسيف. ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم, ومع بره وإحسانه بهم, يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء, وهو أن يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا, ويجزيهم أجرهم بأحسن الذين كانوا يعملون, فيقبل القليل من الحسنات, ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف, ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح, كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} وقال ههنا: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
{وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنّهُمْ فِي الصّالِحِينَ}
يقول تعالى آمراً عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده, فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان, ولهما عليه غاية الإحسان, فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق, ولهذا قال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما المتقدم, قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} أي وإن حرصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين, فإياك وإياهما, فلا تطعهما في ذلك, فإن مرجعكم إليّ يوم القيامة, فأجزيك بإحسانك إليهما وصبرك على دينك, وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك, وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا, فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب أي حباً دينياً, ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}.
وقال الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات, فذكر قصته وقال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر ؟ والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر, قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجر وافاها, فنزلت { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} الآية, وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضاً. وقال الترمذي حسن صحيح.
{وَمِنَ النّاسِ مَن يِقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مّن رّبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْمُنَافِقِينَ}(3/491)
يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم, بأنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم, فارتدوا عن الإسلام, ولهذا قال تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يِقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ} قال ابن عباس: يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله, وكذا قال غيره من علماء السلف, وهذه الآية كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ - إلى قوله - ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} ثم قال عز وجل: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي ولئن جاء نصر قريب من ربك يا محمد, وفتح ومغانم, ليقولن هؤلاء لكم: إنا كنا معكم, أي إخوانكم في الدين, كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}, وقال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} وقال تعالى مخبراً عنهم ههنا: {لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} ثم قال الله تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} أي أو ليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم, وإن أظهروا لكم الموافقة.
وقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} أي وليختبرن الله الناس بالضراء والسراء, ليتميز هؤلاء من هؤلاء, من يطيع الله في الضراء والسراء, ومن إنما يطيعه في حظ نفسه, كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقال تعالى بعد وقعة أحد التي كان فيها ما كان من الاختبار والامتحان {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الآية.
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ اتّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مّن شَيْءٍ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن كفار قريش أنهم قالوا لمن آمن منهم واتبع الهدى: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا, واتبعوا سبيلنا {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي وآثامكم إن كانت لكم آثام في ذلك علينا وفي رقابنا, كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي, قال الله تعالى تكذيباً لهم {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: فيما قالوه إنهم يحتملون عن أولئك خطاياهم, فإنه لا يحمل أحد وزر أحد, قال الله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وقال تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ}.
وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة, أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزاراً أخر بسبب ما أضلوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئاً, كما قال تعالى, {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية, وفي الصحيح "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً". وفي الصحيح "ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها, لأنه أول من سن القتل".
وقوله تعالى: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يكذبون ويختلقون من البهتان, وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً فقال: حدثنا أبي, حدثنا(3/492)
هشام بن عمار, حدثنا صدقة, حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية, حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ ما أرسل به, ثم قال: "إياكم والظلم, فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول: وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم ظلم ثم ينادي مناد فيقول: أين فلان بن فلان ؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال, فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الرحمن عز وجل, ثم يأمر المنادي فينادي: من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم, فيقبلون حتى يجتمعوا قياماً بين يدي الرحمن, فيقول الرحمن: اقضوا عن عبدي, فيقولون: كيف نقضي عنه ؟ فيقول: خذوا لهم من حسناته, فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة, وقد بقي من أصحاب الظلامات, فيقول: اقضوا عن عبدي, فيقولون: لم يبق له حسنة, فيقول خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه" ثم نزع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد ظلم هذا, وأخذ من مال هذا, وأخذ من عرض هذا, فيأخذ هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإذا لم تبق له حسنة, أخذ من سيئاتهم فطرح عليه". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا أبو بشر الحذاء عن أبي حمزة الثمالي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بإصبعين, فلا ألفينك تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما آتاك الله منك".
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ}
هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, يخبره عن نوح عليه السلام أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً, وسراً وجهاراً, ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فراراً عن الحق وإعراضاً عنه وتكذيباً له, وما آمن معه منهم إلا قليل, ولهذا قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار, فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك ولا تحزن عليهم, فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء, وبيده الأمر, وإليه ترجع الأمور {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} الآية, واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك, ويذل عدوك ويكبتهم, ويجعلهم أسفل السافلين.
قال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: بعث نوح وهو لأربعين سنة, ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً, وعاش بعد الطوفان ستين عاماً حتى كثر الناس وفشوا. وقال قتادة: يقال إن عمره كله ألف سنة إلا خمسين عاماً لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة, ودعاهم ثلثمائة سنة, ولبث بعد الطوفان ثلثمائة سنة وخمسين عاماً, وهذا قول غريب, وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً. وقال عون بن أبي شداد: إن الله تعالى أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة, فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً, ثم عاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة, وهذا أيضاً غريب, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقول ابن عباس أقرب, والله أعلم.
وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مجاهد قال: قال لي ابن عمر: كم لبث نوح في قومه ؟ قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاماً, قال: فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا. وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أي(3/493)
الذين آمنوا بنوح عليه السلام, وقد تقدم ذكر ذلك مفصلاً في سورة هود, وتقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وجعلنا تلك السفينة باقية إما عينها, كما قال قتادة: إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان, كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ - إلى قوله - وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} وقال تعالى: { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} وقال ههنا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس, كقوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} أي وجعلنا نوعها رجوماً فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء, وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} ولهذا نظائر كثيرة. وقال ابن جرير: لو قيل إن الضمير في قوله: {وجعلناها} عائد إلى العقوبة لكان وجهاً, والله أعلم.
{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاتّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنّ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}
يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء, أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له والإخلاص له في التقوى وطلب الرزق منه وحده لا شريك له, وتوحيده في الشكر, فإنه المشكور على النعم لا مسدي لها غيره, فقال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أي أخلصوا له العبادة والخوف {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة, واندفع عنكم الشر في الدنيا والآخرة, ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع, وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء فسميتموها آلهة وإنما هي مخلوقة مثلكم, هكذا رواه العوفي عن ابن عباس, وبه قال مجاهد والسدي, وروى الوالبي عن ابن عباس: وتصنعون إفكاً أي تنحتونها أصناما, وبه قال مجاهد في رواية, وعكرمة والحسن وقتادة وغيرهم, واختاره ابن جرير رحمه الله. وهي لا تملك لكم رزقاً {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وهذا أبلغ في الحصر كقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} ولهذا قال: أي فاطلبوا {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي لا عند غيره, فإن غيره لا يملك شيئاً {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي كلوا من رزقه واعبدوه وحده, واشكروا له على ما أنعم به عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} يعني إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة, والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء, فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء. وقال قتادة في قوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم, وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول واعترض بهذا إلى قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} وهكذا نص على ذلك ابن جرير أيضاً. والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام, يحتج عليهم لإثبات المعاد(3/494)
لقوله بعد هذا كله {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} والله أعلم.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشْأَةَ الآخرة إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رّحْمَتِي وَأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
يقول تعالى مخبراً عن الخليل عليه السلام أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً, ثم وجدوا وصاروا أناساً سامعين مبصرين, فالذي بدأ هذا قادر على إعادته, فإنه سهل عليه يسير لديه, ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء: السموات وما فيها من الكواكب النيرة الثوابت والسيارات, والأرضين وما فيها من مهاد وجبال, وأودية وبراري وقفار, وأشجار وأنهار, وثمار وبحار, كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها, وعلى وجود صانعها الفاعل المختار, الذي يقول للشيء كن فيكون, ولهذا قال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ} كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} ثم قال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة} أي يوم القيامة {إن الله على كل شيء قدير} وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وكقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ}.
وقوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد, لا معقب لحكمه, ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون, فله الخلق والأمر مهما فعل فعدل, لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة, كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن "إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" ولهذا قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي ترجعون يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي لا يعجزه أحد من أهل سمواته وأرضه, بل هو القاهر فوق عباده, فكل شيء خائف منه فقير إليه, وهو الغني عما سواه {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} أي جحدوها وكفروا بالمعاد {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أي لا نصيب لهم فيها {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجع شديد في الدنيا والآخرة.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نّاصِرِينَ}(3/495)
بيقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم ودفعهم الحق بالباطل, أنهم ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} وذلك لأنهم قام عليهم البرهان وتوجهت عليهم الحجة, فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} وذلك أنهم حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة, وحوطوا حولها, ثم أضرموا فيها النار, فارتفع لها لهب إلى عنان السماء, ولم توقد نار قط أعظم منها, ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق, ثم قذفوه فيها, فجعلها الله عليه برداً وسلاماً, وخرج منها سالماً بعد ما مكث فيها أياماً, ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماماً, فإنه بذل نفسه للرحمن, وجسده للنيران, وسخا بولده للقربان, وجعل ماله للضيفان, ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان.
وقوله تعالى: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} أي سلمه منها بأن جعلها عليه برداً وسلاماً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يقول لقومه مقرعاً لهم وموبخاً على سوء صنيعهم في عبادتهم للأوثان: إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا, وهذا على قراءة من نصب مودة بينكم على أنه مفعول له, وأما على قراءة الرفع, فمعناه إنما اتخاذكم هذا لتحصل لكم المودة في الدنيا فقط {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ينعكس هذا الحال, فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضاً وشنآناً ثم {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} أي تتجاحدون ما كان بينكم {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي يلعن الأتباع المتبوعين, والمتبوعون الأتباع {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} وقال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} وقال ههنا: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} الآية, أي ومصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار وما لكم من ناصر ينصركم, ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله, وهذا حال الكافرين, وأما المؤمنون فبخلاف ذلك.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا أبو عاصم الثقفي, حدثنا الربيع بن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن جعدة بن هبيرة المخزومي عن أبيه عن جده, عن أم هانىء أخت علي بن أبي طالب قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبرك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد, فمن يدري أين الطرفان ؟ - قالت: الله ورسوله أعلم - ثم ينادي مناد من تحت العرش: يا أهل التوحيد, فيشرئبون - قال أبو عاصم يرفعون رؤوسهم - ثم ينادي: يا أهل التوحيد, ثم ينادي الثالثة: يا أهل التوحيد, إن الله قد عفا عنكم - قال - فيقوم الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظلامات الدنيا - يعني المظالم - ثم ينادي: يا أهل التوحيد ليعف بعضكم عن بعض, وعلى الله الثواب".
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّي مُهَاجِرٌ إِلَىَ رَبّيَ إِنّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِ النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصّالِحِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه آمن له لوط, يقال إنه ابن أخي إبراهيم, يقولون هو لوط بن هاران بن آزر, يعني ولم يؤمن به, من قومه سواه وسارة امرأة إبراهيم الخليل, لكن يقال كيف الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الوارد في الصحيح أن إبراهيم حين مر على ذلك الجبار فسأل إبراهيم عن سارة ما هي منه, فقال: أختي, ثم جاء إليها فقال لها: إني قد قلت له إنك أختي فلا تكذبيني, فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك, فأنت أختي في الدين. وكأن المراد من هذا - والله أعلم - أنه ليس على وجه الأرض(3/496)
زوجان على الإسلام غيري وغيرك, فإن لوطاً عليه السلام آمن به من قومه, وهاجر معه إلى بلاد الشام, ثم أرسل في حياة الخليل إلى أهل سدوم وأقام بها, وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي.
وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ} يحتمل عود الضمير في قوله {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ} على لوط. لأنه هو أقرب المذكورين, ويحتمل عوده إلى إبراهيم, قال ابن عباس والضحاك, وهو المكنى عنه بقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي من قومه, ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك, ولهذا قال: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين به, الحكيم في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية. وقال قتادة: هاجروا جميعاً من كوثى, وهي من سواد الكوفة إلى الشام. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم, ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم أرضهم, وتقذرهم روح الله عز وجل, وتحشرهم النار مع القردة والخنازير, تبيت معهم إذا باتوا, وتقيل معهم إذا قالوا, وتأكل ما سقط منهم".
وقد أسند الإمام أحمد هذا الحديث فرواه مطولاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن قتادة عن شهر بن حوشب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية, قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البكالي, فجئته إذ جاء رجل فانتبذ الناس وعليه خميصة, فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص, فلما رآه نوف أمسك عن الحديث, فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون هجرة بعد هجرة, فينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم, لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها, فتلفظهم أرضهم تقذرهم نفس الرحمن, تحشرهم النار مع القردة والخنازير, فتبيت معهم إذا باتوا, وتقيل معهم إذا قالوا, وتأكل من تخلف منهم" قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم, كلما خرج منهم قرن قطع كلما خرج منهم قرن قطع - حتى عدها زيادة على عشرين مرة - كلما خرج منهم قرن قطع حتى يخرج الدجال في بقيتهم" ورواه الإمام أحمد عن أبي داود وعبد الصمد كلاهما عن هشام الدستوائي عن قتادة به, وقد رواه أبو داود في سننه فقال في كتاب الجهاد (باب ما جاء في سكنى الشام) حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمر, قال: سمعت رسول لله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هجرة بعد هجرة, وينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم, ويبقى في الأرض شرار أهلها, تلفظهم أرضهم, وتقذرهم نفس الرحمن, وتحشرهم النار مع القردة والخنازير".
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا أبو جناب يحيى بن أبي حية عن شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: لقد رأيتنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق من أخيه المسلم, ثم لقد رأيتنا بآخرة الآن والدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم, ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر, وتبايعتم بالعينة, وتركتم الجهاد في سبيل الله, ليلزمنكم الله مذلة في أعناقكم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه, وتتوبوا إلى الله تعالى" وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها, وتلفظهم أرضوهم, وتقذرهم روح الرحمن, وتحشرهم النار مع القردة والخنازير, تقيل معهم إذا قالوا, وتبيت معهم حيث يبيتون, وما سقط منهم فلها" ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم من أمتي يسيئون الأعمال, يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم - قال يزيد: لا أعلمه إلا قال - يحقر أحدكم علمه مع علمهم, يقتلون أهل الإسلام, فإذا خرجوا فاقتلوهم, ثم إذا خرجوا فاقتلوهم, ثم إذا خرجوا فاقتلوهم, فطوبى(3/497)
لمن قتلهم, وطوبى لمن قتلوه, كلما طلع منهم قرن قتله الله" فردد ذلك رسول لله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة وأكثر, وأنا أسمع.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: حدثنا أبو الحسن بن الفضل, أخبرنا عبد الله بن جعفر, حدثنا يعقوب بن سفيان, حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد وهشام بن عمار الدمشقيان قالا: حدثنا يحيى بن حمزة, حدثنا الأوزاعي عن نافع, وقال أبو النضر عمن حدثه عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة إلى مهاجر إبراهيم, حتى لا يبقى إلا شرار أهلها, تلفظهم الأرضون, وتقذرهم روح الرحمن, وتحشرهم النار مع القردة والخنازير, تبيت معهم حيث باتوا, وتقيل معهم حيث قالوا, لها ما سقط منهم" غريب من حديث نافع, والظاهر أن الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء, والله أعلم. وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى الحفظ.
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} كقوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} أي أنه لما فارق قومه, أقر الله عينه بوجود ولد صالح نبي, وولد له ولد صالح نبي في حياة جده, وكذلك قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي زيادة, كما قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أي يولد لهذا الولد ولد في حياتكما, تقر به أعينكما, وكون يعقوب ولد لإسحاق نص عليه القرآن وثبتت به السنة النبوية, قال الله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً} الآية, وفي الصحيحين "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام" فأما ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} قال: هما ولدا إبراهيم, فمعناه أن ولد الولد بمنزلة الولد, فإن هذا الأمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} هذه خلعة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إياه خليلاً, وجعله للناس إماماً أن جعل في ذريته النبوة والكتاب, فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا وهو من سلالته, فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, حتى كان آخرهم عيسى ابن مريم, فقام في ملئهم مبشراً بالنبي العربي القرشي الهاشمي خاتم الرسل على الإطلاق, وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة, الذي اصطفاه الله من صميم العرب العرباء من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام, ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه, عليه أفضل الصلاة والسلام.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة, فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهني, والمنزل الرحب, والمورد العذب, والزوجة الحسنة الصالحة, والثناء الجميل, والذكر الحسن, وكل أحد يحبه ويتولاه, كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوه, كما قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي قام بجميع ما أمر به وكمل طاعة ربه, ولهذا قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} وكما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - إلى قوله - وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ(3/498)
قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ قَالَ رَبّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن نبيه لوط عليه السلام, أنه أنكر على قومه سوء صنيعهم, وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال في إتيانهم الذكران من العالمين, ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم, وكانوا مع هذا يكفرون بالله ويكذبون رسله, ويخالفون ويقطعون السبيل, أي يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} أي يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها, لا ينكر بعضهم على بعض شيئاً من ذلك, فمن قائل كانوا يأتون بعضهم بعضاً في الملأ, قاله مجاهد, ومن قائل كانوا يتضارطون ويتضاحكون, قالته عائشة رضي الله عنها والقاسم, ومن قائل كانوا يناطحون بين الكباش ويناقرون بين الديوك, وكل ذلك يصدر عنهم وكانوا شراً من ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن أسامة, أخبرني حاتم بن أبي صغيرة, حدثنا سماك بن حرب عن أبي صالح مولى أم هانىء عن أم هانىء قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قال: "يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم, وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه" ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة, عن أبي يونس القشيري عن حاتم بن أبي صغيرة به, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا محمد بن كثير عن عمرو بن قيس عن الحكم عن مجاهد {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قال: الصفير ولعب الحمام والجلاهق والسؤال في المجلس, وحل أزرار القباء. وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم, ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}.
{وَلَمّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىَ قَالُوَاْ إِنّا مُهْلِكُوَ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنّهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَلَمّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنّا مُنَجّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ إِنّا مُنزِلُونَ عَلَىَ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وَلَقَد تّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيّنَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
لما استنصر لوط عليه السلام بالله عز وجل عليهم, بعث الله لنصرته ملائكة فمروا على إبراهيم عليه السلام في هيئة أضياف, فجاءهم بما ينبغي للضيف, فلما رآهم أنه لا همة لهم إلى الطعام, نكرهم وأوجس منهم خيفة, فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بوجود ولد صالح من امرأته سارة, وكانت حاضرة, فتعجبت من ذلك كما تقدم بيانه في سورة هود والحجر, فلما جاءت إبراهيم البشرى وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط, أخذ يدافع لعلهم ينظرون لعل الله أن يهديهم, ولما قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية {قَالَ(3/499)
إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي من الهالكين, لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم ودبرهم, ثم ساروا من عنده فدخلوا على لوط في صورة شبان حسان, فلما رآهم كذلك {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي اغتم بأمرهم إن هو أضافهم خاف عليهم من قومه وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم ولم يعلم بأمرهم في الساعة الراهنة {وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض, ثم رفعها إلى عنان السماء, ثم قلبها عليهم, وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك, وما هي من الظالمين ببعيد, وجعل الله مكانها بحيرة خبيثة منتنة, وجعلهم عبرة إلى يوم التناد, وهم من أشد الناس عذاباً يوم المعاد. ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} أي واضحة {لقوم يعقلون} كما قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
{وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الآخر وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
يخبر تعالى عن عبده ورسوله شعيب عليه السلام, أنه أنذر قومه أهل مدين, فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له, وأن يخافوا بأس الله ونقمته وسطوته يوم القيامة, فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} قال ابن جرير: قال بعضهم معناه واخشوا اليوم الآخر, وهذا كقوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} وقوله: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد وهو السعي فيها والبغي على أهلها, وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان ويقطعون الطريق على الناس, هذا مع كفرهم بالله ورسوله, فأهلكهم الله برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم, وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها, وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها, إنه كان عذاب يوم عظيم, وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف وهود والشعراء. وقوله: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} قال قتادة: ميتين, وقال غيره: قد ألقى بعضهم على بعض.
{وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تّبَيّنَ لَكُم مّن مّسَاكِنِهِمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ فَكُلاّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مّنْ أَخَذَتْهُ الصّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوَاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم, وأخذهم بالانتقام منهم, فعاد قوم هود عليه السلام كانوا يسكنون الأحقاف, وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن, وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر قريباً من وادي القرى, وكانت العرب تعرف مساكنهما جيداً, وتمر عليها كثيراً, وقارون(3/500)
صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة, وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} أي كانت عقوبته بما يناسبه {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} وهم عاد, وذلك أنهم قالوا: من أشد منا قوة ؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد, عاتية الهبوب جداً, تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم, وتقتلعهم من الأرض, فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء, ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه, فيبقى بدنا بلا رأس, كأنهم أعجاز نخل منقعر {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} وهم ثمود, قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوه سواء بسواء, ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم, وتهددوا نبي الله صالحاً ومن آمن معه وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم, فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا, وعصى الرب الأعلى, ومشى في الأرض مرحاً, وفرح ومرح وتاه بنفسه, واعتقد أنه أفضل من غيره, واختال في مشيته, فخسف الله به وبداره الأرض, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عن آخرهم أغرقوا في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي فيما فعل بهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقاً بما كسبت أيديهم, وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الآية, وهو من باب اللف والنشر, وهو أنه ذكر الأمم المكذبة, ثم قال {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} أي من هؤلاء المذكورين, وإنما نبهت على هذا لأنه قد روى ابن جريج قال: قال ابن عباس في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} قال قوم لوط {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} قال: قوم نوح, وهذا منقطع عن ابن عباس: فإن ابن جريج لم يدركه. ثم قد ذكر الله في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان, وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء, وأطال السياق والفصل بين ذلك وبين هذا السياق, وقال قتادة {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} قال: قوم لوط, {مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} قوم شعيب, وهذا بعيد أيضاً لما تقدم, والله أعلم.
{مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ}
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله يرجون نصرهم ورزقهم, ويتمسكون بهم في الشدائد, فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه, فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم, إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت, فإنه لا يجدي عنه شيئاً, فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء, وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع, فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها.
ثم قال تعالى متوعداً لمن عبد غيره وأشرك به, إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ويعلم ما يشركون به من الأنداد, وسيجزيهم وصفهم, إنه حكيم عليم, ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} أي وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه,(3/501)
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثني ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل, وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثنا أبي, حدثنا ابن سنان عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني, لأنني سمعت الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.
{خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لّلْمُؤْمِنِينَ اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه خلق السموات والأرض بالحق, يعني لا على وجه العبث واللعب {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية, ثم قال تعالى آمراً رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن, وهو قراءته وإبلاغه للناس { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين على ترك الفواحش والمنكرات, أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك. وقد جاء في الحديث من رواية عمران وابن عباس مرفوعاً "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر, لم تزده من الله إلا بعداً".
(ذكر الآثار الواردة في ذلك)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس, حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد, حدثنا عمر بن أبي عثمان, حدثنا الحسن عن عمران بن حصين قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له". وحدثنا علي بن الحسين, حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي, حدثنا أبو معاوية عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر, لم يزدد بها من الله إلا بعداً" ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا خالد بن عبد الله عن العلاء بن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال: فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر, لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً, فهذا موقوف. قال ابن جرير: وحدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا علي بن هاشم بن البريد عن جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لم يطع الصلاة" وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر.قال: قال سفيان {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} قال: فقال سفيان: إي والله تأمره وتنهاه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد عن جويبر عن الضحاك عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال أبو خالد مرة عن عبد الله -: "لا صلاة لمن لم يطع الصلاة, وطاعة الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر" والموقوف أصح, كما رواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد(3/502)
قال: قيل لعبد الله: إن فلاناً يطيل الصلاة, قال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها. وقال ابن جرير: حدثنا علي, حدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر, لم يزدد بها من الله إلا بعداً" والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, أنبأنا جرير - يعني ابن عبد الحميد - عن الأعمش عن أبي صالح قال: أراه عن جابر, شك الأعمش, قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً يصلي بالليل, فإذا أصبح سرق. قال: "سينهاه ما تقول". وحدثنا محمد بن موسى الجرشي, أخبرنا زياد بن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ولم يشك, ثم قال: وهذا الحديث قد رواه عن الأعمش غير واحد, واختلفوا في إسناده, فرواه غير واحد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو غيره. وقال قيس عن الأعمش عن أبي سفيان, عن جابر قال جرير وزياد عن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, أخبرنا الأعمش قال: أخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً يصلي بالليل, فإذا أصبح سرق, فقال: "إنه سينهاه ما تقول". وتشتمل الصلاة أيضاً على ذكر الله تعالى وهو المطلوب الأكبر, ولهذا قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أعظم من الأول {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم. وقال أبو العالية في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال: إن الصلاة فيها ثلاث خصال, فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخصال فليست بصلاة: الإخلاص, والخشية, وذكر الله, فالإخلاص يأمره بالمعروف, والخشية تنهاه عن المنكر, وذكر الله القرآن يأمره وينهاه وقال ابن عون الأنصاري: إذا كنت في صلاة, فأنت في معروف, وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر, والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.
وقال حماد بن أبي سليمان {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} يعني ما دمت فيها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يقول: ولذكر الله لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه, وكذا روى غير واحد عن ابن عباس, وبه قال مجاهد وغيره, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن داود بن أبي هند عن رجل عن ابن عباس {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: ذكر الله عند طعامك وعند منامك, قلت: فإن صاحباً لي في المنزل يقول غير الذي تقول, قال: وأي شيء يقول ؟ قلت: يقول الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه, قال: صدق, قال: وحدثنا أبي, حدثنا النفيلي, حدثنا إسماعيل عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: لها وجهان, قال: ذكر الله عندما حرمه, قال: وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه.
قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, أخبرنا هشيم, أخبرنا عطاء بن السائب عن عبد الله بن ربيعة قال: قال لي ابن عباس: هل تدري ما قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؟ قال: قلت نعم, قال: فما هو ؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك. قال: لقد قلت قولاً عجيباً وما هو كذلك ولكنه إنما يقول ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه, وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس, وروي أيضاً عن ابن مسعود وأبي الدرداء وسلمان الفارسي وغيرهم, واختاره ابن جرير.
{وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(3/503)
قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف, ولم يبق معهم مجادلة, وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين, فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه, كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الآية, وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وهذا القول اختاره ابن جرير, وحكاه عن ابن زيد.
وقوله تعالى: {إلا الذين ظلموا منهم} أي حادوا عن وجه الحق, وعموا عن واضح المحجة, وعاندوا وكابروا, فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم, قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ - إلى قوله - إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} قال جابر: أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف, قال مجاهد {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني أهل الحرب, ومن امتنع منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه, فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقاً, ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلاً, ولكن نؤمن به إيماناً مجملاً معلقاً على شرط وهو أن يكون منزلاً لا مبدلاً ولا مؤولاً.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عثمان بن عمر, أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم, وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم, وإلهنا وإلهكم واحد, ونحن له مسلمون" وهذا الحديث تفرد به البخاري. وقال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن عمرو, أخبرنا يونس عن الزهري, أخبرني ابن أبي نملة أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود, فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم" قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم, وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله, فإن كان حقاً لم تكذبوهم, وإن كان باطلاً لم تصدقوهم" (قلت) وأبو نملة هذا هو عمارة. وقيل عمار, وقيل عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه, ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان, لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل, وما أقل الصدق فيه, ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحاً.
قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا أبو عاصم, أخبرنا سفيان عن سليمان بن عامر عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير عن عبيد الله - هو ابن مسعود - قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا, إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل, فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال. وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا إبراهيم بن سعد, أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضاً لم يشب, وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً, ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
وقال البخاري: وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري, أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة, وذكر كعب الأحبار, فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب, وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. (قلت) معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد,(3/504)
لأنه يحدث عن صحف يحسن بها الظن, وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة, لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة, ومع ذلك وقرب العهد, وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة لا يعلمها إلا الله عز وجل, ومن منحه الله تعالى علماً بذلك كل بحسبه, و لله الحمد والمنة.
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلآءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الْكَافِرونَ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الظّالِمُونَ}
قال ابن جرير: يقول الله تعالى كما أنزلنا الكتب على من قبلك يا محمد من الرسل, كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب, وهذا الذي قاله حسن ومناسبته وارتباطه جيد. وقوله تعالى: {فَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء, كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما. وقوله تعالى: {وَمِنْ هَؤُلآءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ} يعني العرب من قريش وغيرهم {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الْكَافِرونَ} أي ما يكذب بها ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل, ويغطي ضوء الشمس بالوصائل وهيهات.
ثم قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمراً لا تقرأ كتاباً ولا تحسن الكتابة بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب, وهكذا صفته في الكتب المتقدمة, كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية, وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين, لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده, بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم.
ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضي عليه محمد بن عبد الله, فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي, وتبرؤوا منه, وأنشدوا في ذلك أقوالاً وخطبوا به في محافلهم, وإنما أراد الرجل - أعني الباجي - فيما يظهر عنه, أنه كتب ذلك على وجه المعجزة لا أنه كان يحسن الكتابة, كما قال صلى الله عليه وسلم إخباراً عن الدجال: "مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية "ك ف ر, يقرؤها كل مؤمن" وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة, فضعيف لا أصل له, قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} أي تقرأ {من قبله من كتاب} لتأكيد النفي ولا تخطه بيمينك, تأكيد أيضاً, وخرج مخرج الغالب كقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}.
وقوله تعالى : {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس, فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} قال الله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية, وقال ههنا: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة(3/505)
على الحق أمراً ونهياً وخبراً, يحفظه العلماء يسره الله عليهم حفظاً وتلاوة وتفسيراً, كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً" وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم يقول الله تعالى: "إني مبتليك ومبتل بك, ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء, تقرؤه نائماً ويقظاناً" أي لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل, لأنه قد جاء من الحديث الآخر "لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته النار" ولأنه محفوظ في الصدور ميسر على الألسنة, مهيمن على القلوب, معجز لفظاً ومعنى, ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة أناجيلهم في صدورهم.
واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى: {بلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتاباً, ولا تخطه بيمينك آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب, ونقله عن قتادة وابن جريج, وحكي الأول عن الحسن البصري فقط, قلت وهو الذي رواه العوفي عن ابن عباس, وقاله الضحاك وهو الأظهر والله أعلم. وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} أي ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون, أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه, كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.
{وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّمَا الآيات عِندَ اللّهِ وَإِنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات, يعنون ترشدهم إلى أن محمداً رسول الله كما أتى صالح بناقته, قال الله تعالى: {قُلْ} يا محمد {إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي إنما أمر ذلك إلى الله, فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم, لأن هذا سهل عليه يسير لديه, ولكنه يعلم منكم أنكم إنما قصدتم التعنت والامتحان, فلا يجيبكم إلى ذلك, كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}.
وقوله: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي إنما بعثت نذيراً لكم بين النذارة, فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ثم قال تعالى مبيناً كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم, وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, الذي هو أعظم من كل معجزة, إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته بل عن معارضة عشر سور من مثله, بل عن معارضة سورة منه, فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي أو لم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم, ونبأ ما بعدهم, وحكم ما بينهم, وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب, ولم تخالط أحداً من أهل الكتاب, فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح البين الجلي, كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ(3/506)
رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا ليث, حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" أخرجاه من حديث الليث. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في هذا القرآن لرحمة أي بياناً للحق وإزاحة للباطل, وذكرى بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون.
ثم قال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} أي هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب, ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه بأنه أرسلني, فلو كنت كاذباً عليه لانتقم مني, كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به, ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي لا تخفى عليه خافية {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل, كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم, وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل, فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مّسَمّى لّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم وبأس الله أن يحل عليهم, كما قال تعالى : {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقال ههنا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} أي لولا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريباً سريعاً كما استعجلوه, ثم قال: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أي فجأة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة.
قال شعبة عن سماك عن عكرمة: قال في قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} قال: البحر وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد, حدثنا أبي عن مجالد عن الشعبي أنه سمع ابن عباس يقول: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} وجهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه, وتكور فيه الشمس والقمر, ثم يوقد فيكون هو جهنم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عاصم, أخبرنا عبد الله بن أمية, حدثني محمد بن حيي, أخبرني صفوان بن يعلى عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البحر هو جهنم" قالوا ليعلى, فقال: ألا ترون أن الله تعالى يقول: {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قال: لا والذي نفس يعلى بيده, لا أدخلها أبداً حتى أعرض على الله ولا يصيبني منها قطرة حتى أعرض على الله تعالى, هذا تفسير غريب, وحديث غريب جداً, والله أعلم.
ثم قال عز وجل: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} وقال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا(3/507)
عَنْ ظُهُورِهِمْ} الآية, فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم, وهذا أبلغ في العذاب الحسي. وقوله تعالى: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تهديد وتقريع وتوبيخ, وهذا عذاب معنوي على النفوس, كقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{يَعِبَادِيَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنّهُمْ مّنَ الْجَنّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ وَكَأَيّن مّن دَآبّةٍ لاّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيّاكُمْ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ}
هذا أمر من الله تعالى المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين, بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم, ولهذا قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا بقية بن الوليد, حدثني جبير بن عمرو القرشي, حدثني أبو سعد الأنصاري عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البلاد بلاد الله, والعباد عباد الله, فحيثما أصبت خيراً فأقم" ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها, خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك, فوجدوا خير المنزلين هناك: أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى, فآواهم وأيدهم بنصره, وجعلهم سيوماً ببلاده, ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة.
ثم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي أينما كنتم يدرككم الموت, فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله, فهو خير لكم, فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه, ثم إلى الله المرجع والمآب, فمن كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء, ووافاه أتم الثواب ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن, يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولا {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} نعمت هذه الغرف أجراً على أعمال المؤمنين {الَّذِينَ صَبَرُوا} أي على دينهم. وهاجروا إلى الله ونابذوا الأعداء, وفارقوا الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده وتصديق موعده.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, أخبرنا صفوان المؤذن, أخبرنا الوليد بن مسلم, أخبرنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام الأسود, حدثني أبو معاوية الأشعري أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حدثه أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها, وباطنها من ظاهرها, أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام, وأطاب الكلام, وتابع الصلاة والصيام, وقام بالليل والناس نيام {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة, بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا, بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع(3/508)
وأطيب, فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار, ولهذا قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي الله يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها, فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض, والطير في الهواء والحيتان في الماء. قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي, حدثنا يزيد يعني ابن هارون, حدثنا الجراح بن منهال الجزري - هو أبو العطوف - عن الزهري عن رجل عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة, فجعل يلتقط من التمر ويأكل, فقال لي: "يا ابن عمر ما لك لا تأكل ؟" قال: قلت لا أشتهيه يا رسول الله, قال: " لكني أشتهيه, وهذا صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده, ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين ؟" قال: فو الله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل لم يأمرني بكنز الدنيا, ولا باتباع الشهوات, فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية, فإن الحياة بيد الله, ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد" هذا حديث غريب, وأبو العطوف الجزري ضعيف, وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض خرجوا وهم بيض, فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أياماً حتى يسود الريش, فيظل الفرخ فاتحاً فاه يتفقد أبويه فيقيض الله تعالى طيراً صغاراً كالبرغش, فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسود ريشه, والأبوان يتفقدانه كل وقت, فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه, فإذا رأوه قد اسود ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق, ولهذا قال الشاعر:
يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكسير المهيض
وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا وترزقوا" قال البيهقي: أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان, أخبرنا أحمد بن عبيد, أخبرنا محمد بن غالب, حدثني محمد بن سنان, أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن رداد شيخ من أهل المدينة, حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا وتغنموا" قال: ورويناه عن ابن عباس: وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, أخبرنا ابن لهيعة عن دراج عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سافروا تربحوا وصوموا تصحوا, واغزوا تغنموا" وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعاً, وعن معاذ بن جبل موقوفاً, وفي لفظ "سافروا مع ذوي الجد والميسرة" قال: ورويناه عن ابن عباس: وقوله: {وهو السميع العليم} أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ اللّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّن نّزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}
يقول تعالى مقرراً أنه لا إله إلا هو, لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار, وأنه الخالق الرازق لعباده ومقدر آجالهم,(3/509)
واختلافها واختلاف أرزاقهم, فتفاوت بينهم, فمنهم الغني والفقير وهو العليم بما يصلح كلاً منهم, ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر, فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها, فإذا كان الأمر كذلك, فلم يعبد غيره ؟ ولم يتوكل على غيره ؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته, وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك, كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك, إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك.
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنّ الدّارَ الآخرة لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها, وأنها لا دوام لها وغاية ما فيها لهو ولعب {وَإِنّ الدّارَ الآخرة لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء, بل هي مستمرة أبد الآباد. وقوله تعالى: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي لأثروا ما يبقى على ما يفنى, ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له, فهلا يكون هذا منهم دائماً {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ} كقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} الآية, وقال ههنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وقد ذكر محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل, أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فاراً منها, فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة, فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربهم الدعاء, لا ينجي فإنه ههنا إلا هو, فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره, فإنه. لا ينجي في البر أيضاً غيره, اللهم لك علي عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد, فلأجدنه رؤوفاً رحيماً, فكان كذلك, وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} هذه اللام يسميها كثير من أهل العربية والتفسير وعلماء الأصول لام العاقبة, لأنهم لا يقصدون ذلك, ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم, وأما بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل, وقد قدمنا تقرير ذلك في قوله {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}
يقول تعالى ممتناً على قريش فيما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد, ومن دخله كان آمناً فهم في أمن عظيم, والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضاً, ويقتل بعضهم بعضاً, كما قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وقوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد و {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} وكفروا بنبي الله وعبده ورسوله, فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله,(3/510)
وأن لا يشركوا به, وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره, فكذبوه وقاتلوه, وأخرجوه من بين ظهرهم, ولهذا سلبهم الله تعالى ما كان أنعم به عليهم, وقتل من قتل منهم ببدر, ثم صارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين, ففتح الله على رسوله مكة, وأرغم آنافهم وأذل رقابهم.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} أي لا احد أشد عقوبة ممن كذب على الله, فقال: إن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله, وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه, فالأول مفتر والثاني مكذب, ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي لنبصرنهم سبلنا, أي طرقنا في الدنيا والآخرة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي الحواري, أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني, فأعجبه وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر, فإذا سمعه في الأثر عمل به, وحمد الله حتى وافق ما في نفسه. وقوله {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي , حدثنا عيسى بن جعفر قاضي الري, حدثنا أبو جعفر الرازي عن المغيرة عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك, ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك, والله أعلم.
آخر تفسير سورة العنكبوت. و لله الحمد والمنة.(3/511)
سورة الروم
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ وَعْدَ اللّهِ لاَ يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ}
نزلت هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم. واضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة, ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا أبو إسحاق عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ فِيَ أَدْنَى الأرْضِ} قال غلبت وغلبت, قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم, لأنهم أصحاب أوثان, وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس, لأنهم أهل كتاب, فذكر ذلك لأبي بكر, فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم, "أما إنهم سيغلبون" فذكره أبو بكر لهم, فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً, فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا, وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا, فجعل أجلاً خمس سنين, فلم يظهروا, فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: "ألا جعلتها إلى دون - أراه قال العشر - " قال سعيد بن جبير: البضع ما دون العشر, ثم ظهرت الروم بعد قال: فذلك قوله {الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ} هكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن الحسين بن حريث عن معاوية بن عمرو, عن أبي إسحاق الفزاري عن سفيان بن سعيد الثوري به. وقال الترمذي: حسن غريب إنما نعرفه من حديث سفيان عن حبيب ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق الصاغاني عن معاوية بن عمرو به ورواه ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا محمد بن سعيد أو سعيد الثعلبي, الذي يقال له أبو سعد من أهل طرسوس, حدثنا أبو إسحاق الفزاري فذكره, وعندهم قال سفيان: فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر.
(حديث آخر) قال سليمان بن مهران الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله: خمس قد مضين, الدخان, واللزام, والبطشة, والقمر, والروم, أخرجاه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند, عن عامر - هو الشعبي - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان فارس ظاهراً على الروم, وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس, لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم, فلما نزلت {آلمَ غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} قالوا: يا أبا بكر إن صاحبك يقول إن الروم تظهر على فارس في(3/512)
بضع سنين ؟ قال: صدق. قالوا: هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين, فمضت السبع ولم يكن شيء, ففرح المشركون بذلك, وشق على المسلمين, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بضع سنين عندكم ؟" قالوا: دون العشر. قال: "اذهب فزايدهم, وازدد سنتين في الأجل" قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس, ففرح المؤمنون بذلك, وأنزل الله تعالى: {الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ - إلى قوله تعالى - لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عمر الوكيعي, حدثنا مؤمن عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما نزلت {الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} قال المشركون لأبي بكر: ألا ترى إلى ما يقول صاحبك يزعم أن الروم تغلب فارس ؟ قال: صدق صاحبي. قالوا: هل لك أن نخاطرك ؟ فجعل بينه وبينهم أجلاً, فحل الأجل قبل أن تغلب الروم فارس , فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك وكرهه, وقال لأبي بكر: "ما دعاك إلى هذا ؟" قال: تصديقاً لله ولرسوله. قال: "تعرض لهم وأعظم الخطر واجعله إلى بضع سنين" فأتاهم أبو بكر فقال لهم: هل لكم في العود, فإن العود أحمد ؟ قالوا: نعم, فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس, وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية, فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا السحت, قال: "تصدق به".
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, أخبرني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت { الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم, وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم, لأنهم وإياهم أهل كتاب, وفي ذلك قول الله: { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ} وكانت قريش تحب ظهور فارس, لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب, ولا إيمان ببعث, فلما أنزل الله هذه الآية, خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة {الَمَ غُلِبَتِ الرّومُ فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} قال ناس من قريش لأبي بكر: فذاك بيننا وبينكم, زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين,أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال: بلى, وذلك قبل تحريم الرهان, فارتهن أبو بكر والمشركون, وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين, فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه ؟ قال: فسموا بينهم ست سنين, قال: فمضت ست السنين قبل أن يظهروا, فأخذ المشركون رهن أبي بكر , فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس: فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين, قال: لأن الله قال في بضع سنين, قال: فأسلم عند ذلك ناس كثير. هكذا ساقه الترمذي, ثم قال: هذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد.
وقد روي نحو هذا مرسلاً عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم, ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سنيد بن داود في تفسيره حيث قال: حدثني حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن عكرمة قال: كان في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال, فدعاها كسرى فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيك, فأشيري علي أيهم أستعمل ؟! فقالت: هذا فلان وهو أروغ من ثعلب, وأحذر من صقر, وهذا فرخان وهو أنفذ من سنان, وهذا شهريراز وهو أحلم من كذا, تعني أولادها الثلاثة, فاستعمل أيهم شئت, قال: فإني استعملت الحليم, فاستعمل شهريراز فسار إلى الروم بأهل فارس, فظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم, وقطع زيتونهم,(3/513)