عنه {وَزُلَفاً مّنَ الْلّيْلِ} يعني المغرب والعشاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما زلفتا الليل المغرب والعشاء" وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والضحاك إنها صلاة المغرب والعشاء, وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها, وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة ثم نسخ في حق الأمة وثبت وجوبه عليه ثم نسخ عنه أيضاً في قول والله أعلم.
وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} يقول إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني عنه أحد استحلفته فإذا حلف لي صدقته, وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له" وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه توضألهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وقال: "من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" وروى الإمام أحمد وأبو جعفر ابن جرير من حديث أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول: جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن فدعا عثمان بماء في إِناء أظنه سيكون فيه قدر مد فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما بينه وبين صلاة الصبح ثم صلى العصر غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر ثم صلى المغرب غفر له ما بينه وبين صلاة العصر ثم صلى العشاء غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ثم إِن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهن الحسنات يذهبن السيئات" وفي الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً غمراً يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيئاً ؟" قالوا: لا يا رسول الله قال: "كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا" وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو الطاهر وهارون ابن سعيد قالا: حدثنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إِلى الجمعة ورمضان إِلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" وقال الإمام أحمد حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إِسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد أن أبارهم السمعي كان يحدث أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إِن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة" وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعلت الصلوات كفارات لما بينهن" فإِن الله قال {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال الرجل يا رسول الله ألي هذا ؟ قال: "لجميع أمتي كلهم" هكذا رواه في كتاب الصلاة وأخرجه في التفسير عن مسدد عن يزيد بن زريع بنحوه ورواه مسلم وأحمد وأهل السنن إِلا أبا داود من طرق عن أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل به. ورواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه من طرق عن سماك بن حرب أنه سمع إبراهيم بن يزيدش(2/562)
يحدث عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إِني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل. فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه, فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ثم قال: "ردوه علي" فردوه عليه فقرأ عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فقال معاذ وفي رواية عمريا رسول الله أله وحده أم للناس كافة ؟ قال: "بل للناس كافة" وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإِن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إِلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه" قال: قلنا: وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال: "غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالاً حراماً فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إِلا كان زاده إِلى النار إِن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن إِن الخبيث لا يمحو الخبيث" وقال ابن جرير: حدثنا أبو السائب حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إِبراهيم قال: كان فلان ابن معتب رجلاً من الأنصار فقال يا رسول الله دخلت عليّ امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إِلا أني لم أواقعها فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجيبه حتى نزلت هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فدعاه رسول الله فقرأها عليه وعن ابن عباس أنه عمرو بن غزية الأنصاري التمار وقال مقاتل هو أبو نفيل عامر بن قيس الأنصاري وذكر الخطيب البغدادي أنه أبو اليسر كعب بن عمرو. وقال الإمام أحمد حدثنا يونس وعفان قالا: حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن علي بن زيد قال عفان أنبأنا علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رجلاً أتى عمر فقال إن امرأة جاءت تبايعه فأدخلتها الدولج فأصبت منها ما دون الجماع, فقال ويحك لعلها مغيبة في سبيل الله ؟ قال أجل, قال فائت أبا بكر فسله. قال فأتاه فسأله فقال لعلها مغيبة في سبيل الله ؟ فقال مثل قول عمر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل ذلك قال: "فلعلها مغيبة في سبيل الله" ونزل القرآن {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} إِلى آخر الآية, فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة ؟ فضرب يعني عمر صدره بيده وقال لا ولا نعمة عين بل للناس عامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق عمر" وروى الإمام أبو جعفر بن جرير من حديث قيس بن الربيع عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمراً فقلت إِن في البيت تمراً أجود من هذا فدخلت فأهويت إِليها فقبلتها فأتيت عمر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحداً فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحداً قال فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "أخلفت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا" حتى ظننت أني من أهل النار حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة فنزل جبريل فقال أبو اليسر فجئت فقرأ عليّ رسول الله {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فقال إِنسان: يا رسول الله له خاصة أم للناس عامة ؟ قال: "للناس عامة" وقال الحافظ أبو(2/563)
الحسن الدارقطني حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أنه كان قاعداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئاً الرجل يصيبه من امرأته إِلا قد أصاب منها غير أنه لم يجامعها ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ وضوءاً حسناً ثم قم فصلّ" فأنزل الله عز وجل هذه الآية يعني قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} فقال معاذ أهي له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال: "بل للمسلمين عامة" ورواه ابن جرير من طرق عن عبد الملك بن عمير به. وقال عبد الرزاق حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه لحاجة فأذن له فذهب يطلبها فلم يجدها فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر فوجد المرأة جالسة على غدير فدفع في صدرها وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة فقام نادماً حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع فقال له: "استغفر ربك وصل أربع ركعات" قال: وتلا عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} الآية.
وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن أحمد بن سيبويه حدثنا إسحاق بن إِبراهيم حدثني عمرو بن الحارث حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيدي عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول إِن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقم فيّ حد الله ـ مرة أو اثنتين ـ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: "أين هذا الرجل القائل أقم فيّ حد الله ؟" قال: أنا ذا. قال : "أتممت الوضوء وصليت معنا آنفاً ؟" قال: نعم. قال: "فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد" وأنزل الله على رسول الله {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي بن زيد عن أبي عثمان قال كنت: مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ منها غصناً يابساً فهزه حتى تحات ورقه ثم قال: أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا قلت ولم تفعله ؟ قال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق". وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ: أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" وقال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شمر بن عطية عن أشياخه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أوصني, قال: "إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها" قال: قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال: "هي أفضل الحسنات" وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا هذيل بن إبراهيم الجماني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الزهري عن ولد سعد بن أبي وقاص عن الزهري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قال عبد لا إله إلا الله في ساعة من ليل أو نهار إلا طلست ما في الصحيفة من السيئات حتى تسكن إلى مثلها من الحسنات" عثمان بن عبد الرحمن يقال له الوقاصي فيه ضعف. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا بشر بن آدم وزيد بن أخرم قالا حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا مستور بن عباد عن ثابت عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله ما تركت من حاجة ولا داجة فقال رسول الله(2/564)
صلى الله عليه وسلم: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟" قال: بلى. قال: "فإن هذا يأتي على ذلك" تفرد به من هذا الوجه مستور.
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مّمّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}
يقول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض, وقوله: {إِلَّا قَلِيلاً} أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي الحديث "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" ولهذا قال تعالى: { فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
{وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ}
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم, وقال عكرمة: مختلفين في الهدى وقال الحسن البصري: مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضاً, والمشهور الصحيح الأول. وقوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين, أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضاً " إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة", قالوا: ومن هم يا رسول الله ؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة, وقال عطاء: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يعني اليهود والنصارى والمجوس {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يعني الحنيفية وقال قتادة أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم, وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال الحسن البصري في رواية عنه وللاختلاف خلقهم, وقال مكي بن أبي(2/565)
طلحة عن ابن عباس: خلقهم فريقين كقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وقيل للرحمة خلقهم قال ابن وهب أخبرني مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس: أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا فقال طاوس: كذبت فقال أليس الله يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة كما قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب, وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقيل بل المراد وللرحمة والاختلاف خلقهم كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال الناس مختلفون على أديان شتى {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فمن رحم ربك غير مختلف فقيل له لذلك خلقهم قال خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره وخلق لعذابه وكذا قال عطاء بن أبي رباح والأعمش, وقال ابن وهب سألت مالكاً عن قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال فريق في الجنة وفريق في السعير, وقد اختار هذا القول ابن جرير وأبو عبيد الفراء وعن مالك فيما روينا عنه من التفسير {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال للرحمة وقال قوم للاختلاف. وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ومنهم من يستحق النار وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس وله الحجة البالغة والحكمة التامة, وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً يسكن فضل الجنة وأما النار فلا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول قط قط وعزتك".
{وَكُلاّ نّقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هََذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ}
يقول تعالى وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين. كل هذا مما نثبت به فؤادك أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة, وقوله: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} أي هذه السورة قال ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف, وعن الحسن في رواية عنه وقتادة في هذه الدنيا والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف أنجاهم الله والمؤمنين بهم وأهلك الكافرين جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون وذكرى يتذكر بها المؤمنون.
{وَقُل لّلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوَاْ إِنّا مُنتَظِرُونَ }(2/566)
يقول تعالى آمراً رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد {اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ} أي على طريقتكم ومنهجكم {إِنّا عَامِلُونَ} أي على طريقتنا ومنهجنا {وَانْتَظِرُوَاْ إِنّا مُنتَظِرُونَ} أي {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم.
{وَللّهِ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ}
يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب, وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب, فله الخلق والأمر, فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه. فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه, وقوله: {وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين, وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن كعب قال: خاتمة التوراة خاتمة هود.آخر تفسير سورة هود عليه السلام ولله الحمد والمنة.(2/567)
سورة يوسف
روى الثعلبي وغيره من طريق سلام بن سلم, ويقال: سليم المدائني, وهو متروك عن هارون بن كثير, وقد نص على جهالته أبو حاتم, عن زيد بن أسلم, عن أبيه, عن أبي أمامة, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " علموا أرقاكم سورة يوسف, فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله أو ما ملكت يمينه, هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه من القوة أن لا يحسد مسلماً", وهذا من هذا الوجه لا يصح لضعف إسناده بالكلية, وقد ساقه الحافظ ابن عساكر متابعاً من طريق القاسم بن الحكم, عن هارون بن كثير به, ومن طريق شبابة عن محمد بن عبد الواحد النضري, عن علي بن زيد بن جدعان, وعن عطاء بن أبي ميمونة, عن زر بن حبيش, عن أبي بن كعب, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه, وهو منكر من سائر طرقه, وروى البيهقي في الدلائل أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم, وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
{الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أي هذه آيات الكتاب, وهو القرآن المبين, أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة, ويفسرها ويبينها {إِنّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ} وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس, فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات, على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة, وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض, وابتدىء إنزاله في أشرف شهور السنة, وهو رمضان, فكمل من كل الوجوه, ولهذا قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن.
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي, حدثنا حكام الرازي عن أيوب, عن عمرو هو ابن قيس الملائي, عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قصصت علينا ؟ فنزلت {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}, ورواه من وجه آخر عن عمرو بن قيس مرسلاً. وقال أيضاً. حدثنا محمد بن سعيد القطان, حدثنا عمرو بن محمد, أنبأنا خالد الصفار عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن. قال: فتلاه عليهم زماناً, فقالوا: يارسول الله لو قصصت علينا ؟ فأنزل الله عز وجل { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ثم تلاه عليهم زماناً, فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا, فأنزل الله عز وجل {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية, وذكر الحديث, ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن راهويه عن عمرو بن محمد القرشي المنقري به, وروى ابن جرير بسنده عن المسعودي, عن عون بن عبد الله قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: يا رسول الله حدثنا, فأنزل الله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ثم ملوا ملة أخرى, فقالوا: يا رسول الله حدثنا فوق الحديث, ودون القرآن يعنون القصص, فأنزل الله عز وجل { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية,(2/568)
فأرادوا الحديث, فدلهم على أحسن الحديث, وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص.
ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن, وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان, أنبأنا هشيم, أنبأنا مجالد عن الشعبي, عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب, فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فغضب وقال: "أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده, لقد جئتكم بها بيضاء نقية, لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه, أو بباطل فتصدقونه, والذي نفسي بيده, لو أن موسى كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتبعني". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا سفيان عن جابر, عن الشعبي, عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة, فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال عبد الله بن ثابت: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً, وبمحمد رسولاً. قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "والذي نفس محمد بيده, لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم, إنكم حظي من الأمم, وأنا حظكم من النبيين".
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير, حدثنا علي بن مسعر عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن خليفة بن قيس, عن خالد بن عرفطة قال: كنت جالساً عند عمر إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس, فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي ؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس ؟ قال: نعم, فضربه بقناة معه, قال: فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر: اجلس فجلس, فقرأ عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ـ إلى قوله ـ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} فقرأها عليه ثلاثاً, وضربه ثلاثاً, فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال. قال: مرني بأمرك أتبعه, قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحداً من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحداً من الناس لأنهكنك عقوبة, ثم قال, له اجلس فجلس بين يديه, فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب, ثم جئت به في أديم, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا في يدك يا عمر ؟" قال: قلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه, ثم نودي بالصلاة جامعة, فقالت الأنصار: أغضب نبيكم الله صلى الله عليه وسلم ؟ السلاح السلاح, فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه, واختصر لي اختصاراً, ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية, فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون" قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً, وبك رسولاً, ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصراً من حديث عبد الرحمن بن إسحاق به وهذا حديث غريب من هذا الوجه, وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي, وقد ضعفوه وشيخه. قال البخاري: لا يصح حديثه,
قلت: وقد روي له شاهد من وجه آخر, فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: أخبرني الحسن بن سفيان, حدثنا يعقوب بن سفيان, حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي, حدثني عمرو بن الحارث, حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي, حدثنا سليم بن عامر أن جبير بن نفير حدثهم أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر رضي الله عنه, فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص, وكانا قد اكتتبا(2/569)
من اليهود صلاصفة فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين يقولون: إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة, وإن نهانا عنها رفضناها, فلما قدما عليه قالا: إنا بأرض أهل الكتاب, وإنا نسمع منهم كلاماً تقشعر منه جلودنا, أفنأخذ منه أو نترك ؟ فقال: لعلكما كتبتما منه شيئاً ؟ فقالا: لا, قال سأحدثكما: انطلقت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر, فوجدت يهودياً يقول قولاً أعجبني, فقلت: هل أنت مكتبي مما تقول ؟ قال: نعم فأتيت بأديم, فأخذ يملي علي حتى كتبت في الأكرع, فلما رجعت قلت: يا نبي الله وأخبرته. قال "ائتني به" فانطلقت أرغب عن الشيء رجاء أن أكون جئت رسول الله ببعض ما يحب, فلما أتيت به قال: " اجلس اقرأ علي" فقرأت ساعة, ثم نظرت إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا هو يتلون, فتحيرت من الفرق, فما استطعت أن أجيز منه حرفا, فلما رأى الذي بي رفعه ثم جعل يتبعه رسماً رسماً فيمحوه بريقه, وهو يقول: "لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوكوا" حتى محا آخره حرفاً حرفاً. قال عمر رضي الله عنه: فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئاً جعلتكما نكالاً لهذه الأمة, قالا: والله ما نكتب منه شيئاً أبداً, فخرجا بصلاصفتهما, فحفرا لها, فلم يألوا أن يعمقا ودفناها, فكان آخر العهد منها, وهكذا روى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفى عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت الأنصاري عن عمر بن الخطاب بنحوه, وروى أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة عن عمر نحوه, والله أعلم.
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَأَبتِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}
يقول تعالى: اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه, وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام, كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار, عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" انفرد بإخراجه البخاري, فرواه عن عبد الله بن محمد عن عبد الصمد به, وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد, أنبأنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد, عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم, أي الناس أكرم ؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" قالوا: ليس عن هذا نسألك, قال: "فعن معادن العرب تسألوني ؟" قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" ثم قال: تابعه أبو أسامة عن عبيد الله.
وقال ابن عباس رؤيا الأنبياء وحي, وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكباً عبارة عن إخوته, وكانوا أحد عشر رجلاً سواه, والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه. روي هذا عن ابن عباس والضحاك وقتادة وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة, وقيل: ثمانين سنة, وذلك حين رفع أبويه على العرش وهو سريره وإخوته بين يديه {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكباً, فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن سعيد الكندي, حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط, عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من يهود يقال له بستانة اليهودي, فقال له: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له, ما أسماؤها ؟ قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فلم يجبه بشيء. ونزل عليه جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها, قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال: "هل أنت(2/570)
مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها ؟" فقال: نعم. قال: "جريان, والطارق, والذيال, وذو الكنفات, وقابس, ووثاب, وعمودان, والفيلق, والمصبح, والضروح, وذو الفرغ, والضياء, والنور" فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها.
ورواه البيهقي في الدلائل من حديث سعيد بن منصور عن الحكم بن ظهير. وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما, وابن أبي حاتم في تفسيره, أما أبو يعلى فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن ظهير به, وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما رآها يوسف قصها على أبيه يعقوب فقال له أبوه: هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد, ـ قال ـ والشمس أبوه والقمر أمّه" تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري وقد ضعفه الأئمة وتركه الأكثرون, وقال الجوزجاني: ساقط وهو صاحب حديث حسن, ثم ذكر الحديث المروي عن جابر أن يهودياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكواكب التي رآها يوسف, ما أسماؤها ؟ وأنه أجابه, ثم قال: تفرد به الحكم بن ظهير, وقد ضعفه الأربعة.
{قَالَ يَبُنَيّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىَ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنّ الشّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّ مّبِينٌ}
يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له, وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً واحتراماً وإكراماً, فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام, أحداً من إخوته فيحسدونه على ذلك, فيبغون له الغوائل حسداً منهم له, ولهذا قال له: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها, ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به, وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر, وليتفل عن يساره ثلاثاً, وليستعذ بالله من شرها, ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره" وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة, القشيري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر, فإذا عبرت وقعت" ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر, كما ورد في حديث "استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها, فإن كل ذي نعمة محسود".
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىَ آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمّهَآ عَلَىَ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لولده يوسف: إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبّكَ} أي يختارك ويصطفيك لنبوته {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} قال مجاهد وغير واحد: يعني تعبير الرؤيا {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي بإرسالك والإيحاء إليك, ولهذا قال: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ} وهو الخليل {وَإِسْحَاقَ} ولده وهو الذبيح في قول, وليس بالرجيح {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي هو أعلم حيث يجعل رسالته, كما قال في الآية الأخرى.
{لّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبّ إِلَىَ أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُش(2/571)
عُصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَآئِلٌ مّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}
يقول تعالى: لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات, أي عبرة ومواعظ للسائلين عن ذلك المستخبرين عنه, فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} أي حلفوا فيما يظنون والله ليوسف وأخوه, يعنون بنيامين وكان شقيقه لأمه {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي جماعة, فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يعنون في تقديمهما علينا, ومحبته إياهما أكثر منا.
واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف, وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك, ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك, وفي هذا نظر, ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل, ولم يذكروا سوى قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} وهذا فيه احتمال لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط, كما يقال للعرب قبائل وللعجم شعوب, يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل فذكرهم إجمالاً لأنهم كثيرون, ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف, ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم, والله أعلم, {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} يقولون: هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم أعدموه من وجه أبيكم, ليخلو لكم وحدكم, إما بأن تقتلوه أو تلقوه في أرض من الأراضي تستريحوا منه, وتخلوا أنتم بأبيكم {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} فأضمروا التوبة قبل الذنب {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} قال قتادة ومحمد بن إسحاق: وكان أكبرهم واسمه روبيل. وقال السدي: الذي قال ذلك, يهوذا. وقال مجاهد هو شمعون الصفا {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله, ولم يكن لهم سبيل إلى قتله لأن الله تعالى كان يريد منه أمراً لا بد من إمضائه وإتمامه من الإيحاء إليه بالنبوة, ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها, فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب وهو أسفله. قال قتادة: وهي بئر بيت المقدس {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي المارة من المسافرين فتستريحوا منه بهذا ولا حاجة إلى قتله {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي إن كنتم عازمين على ما تقولون. قال محمد بن إسحاق بن يسار: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم, وعقوق الوالد, وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له, وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل, وخطره عند الله مع حق الوالد على ولده, ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه, مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلاً صغيراً, وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه, يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين, فقد احتملوا أمراً عظيماً رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عنه.
{قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنّا عَلَىَ يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
لما تواطأوا على أخذه وطرحه في البئر كما أشار به عليهم أخوهم الكبير روبيل, جاءوا أباهم يعقوب(2/572)
عليه السلام فقالوا: ما بالك {قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنّا عَلَىَ يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} وهذه توطئة ودعوى, وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له {أَرْسِلْهُ مَعَنَا} أي ابعثه معنا {غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} وقرأ بعضهم بالياء {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} قال ابن عباس: يسعى وينشط, وكذا قال قتادة والضحاك والسدي وغيرهم {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يقولون: ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك.
{قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِيَ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّآ إِذَاً لّخَاسِرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع, وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة والكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} يقول: وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون, فأخذوا من فمه هذه الكلمة, وجعلوها عذرهم فيما فعلوه, وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} يقولون: لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ونحن جماعة إنا إذاً لهالكون عاجزون.
{فَلَمّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوَاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هََذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}
يقول تعالى: فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} هذا فيه تعظيم لما فعلوه, أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراماً له, وبسطاً وشرحاً لصدره, وإدخالاً للسرور عليه, فيقال إن يعقوب عليه السلام لما بعثه معهم ضمه إليه وقبله ودعا له, وذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه, ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه, والفعل من ضرب ونحوه, ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه, فربطوه بحبل ودلوه فيه, فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه, وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه, ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة, فسقط في الماء فغمره, فصعد إلى صخرة تكون في وسطه يقال لها الراغوفة, فقام فوقها.
وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}, يقول تعالى ذاكراً لطفه ورحمته وعائدته وإنزاله اليسر في حال العسر: إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطييباً لقلبه وتثبيتاً له, إنك لا تحزن مما أنت فيه, فإن لك من ذلك فرجاً ومخرجاً حسناً, وسينصرك الله عليهم ويعليك ويرفع درجتك وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع, وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}. قال مجاهد وقتادة: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإيحاء الله إليه. وقال ابن عباس: ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك, وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك, كما قال ابن جرير: حدثني الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي عن أبيه, سمعت ابن عباس يقول: لما دخل إخوة يوسف عليه فعرفهم وهم له منكرون, قال: جيء بالصواع فوضعه على يده, ثم نقره فطن, فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف, يدنيه دونكم, وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب,(2/573)
قال: ثم نقره فطن, قال: فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب, قال: فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم. قال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية نزلت إلا فيهم {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
{وَجَآءُوَا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ قَالُواْ يَأَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ وَجَآءُوا عَلَىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعد ما ألقوه في غيابة الجب, ثم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم, وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا {إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي نترامى, {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ} أي ثيابنا وأمتعتنا, {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}, وهو الذي كان قد جزع منه وحذر عليه. وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه, يقولون: ونحن نعلم أنك لا تصدقنا والحالة هذه لو كنا عندك صادقين, فكيف وأنت تتهمنا في ذلك, لأنك خشيت أن يأكله الذئب, فأكله الذئب, فأنت معذور في تكذيبك لنا لغرابة ما وقع, وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي مكذوب مفترى, وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيدة, وهو أنهم عمدوا إلى سخلة فيما ذكره مجاهد والسدي وغير واحد, فذبحوها ولطخوا ثوب يوسف بدمها, موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب, وقد أصابه من دمه, ولكنهم نسوا أن يخرقوه, فلهذا لم يرج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب, بل قال لهم معرضاً عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فسأصبر صبراً جميلاً على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي على ما تذكرون من الكذب والمحال.
وقال الثوري عن سماك, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} قال: لو أكله السبع لخرق القميص, وكذا قال الشعبي والحسن وقتادة وغير واحد. وقال مجاهد: الصبر الجميل الذي لا جزع فيه. وروى هشيم عن عبد الرحمن بن يحيى, عن حبان بن أبي جبلة, قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فقال: "صبر لا شكوى فيه", وهذا مرسل. وقال عبد الرزاق: قال الثوري, عن بعض أصحابه أنه قال: ثلاث من الصبر: أن لا تحدث بوجعك, ولا بمصيبتك, ولا تزكي نفسك وذكر البخاري ههنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها: "والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف": { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
{وَجَاءَتْ سَيّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىَ دَلْوَهُ قَالَ يَبُشْرَىَ هََذَا غُلاَمٌ وَأَسَرّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ}
يقول تعالى مخبراً عما جرى ليوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيداً فريداً, فمكث في البئر ثلاثة أيام فيما قاله أبو بكر بن عياش, وقال محمد بن إسحاق: لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك, ينظرون ماذا يصنع وما يصنع به, فساق الله له سيارة, فنزلوا(2/574)
قريباً من تلك البئر, وأرسلوا واردهم وهو الذي يتطلب لهم الماء, فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها, تشبث يوسف عليه السلام فيها فأخرجه واستبشر به, وقال: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ}. وقرأ بعض القراء يا بشراي, فزعم السدي أنه اسم رجل, ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه معلماً له أنه أصاب غلاماً, وهذا القول من السدي غريب لأنه لم يسبق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس, والله أعلم, وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى, ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه وحذف ياء الإضافة, وهو يريدها كما تقول العرب: يا نفس اصبري ويا غلام أقبل, بحذف حرف الإضافة, ويجوز الكسر حينئذ والرفع, وهذا منه, وتفسرها القراءة الأخرى يا بشراي, والله أعلم.
وقوله: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا: اشتريناه وتبضعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره, قاله مجاهد والسدي وابن جرير: هذا قول, وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} يعني إخوة يوسف أسروا شأنه, وكتموا أن يكون أخاهم, وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته, واختار البيع فذكره إخوته لوارد القوم, فنادى أصحابه {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} يباع فباعه إخوته.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي عليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه, وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه, ولكن له حكمة وقدر سابق, فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإعلام له بأني عالم بأذى قومك لك, وأنا قادر على الإنكار عليهم, ولكني سأملي لهم ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم, كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته.
وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} يقول تعالى: وباعه إخوته بثمن قليل. قاله مجاهد وعكرمة والبخس: هو النقص, كما قال تعالى: {فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} أي اعتاض عنه إخوته بثمن دون قليل, ومع ذلك كانوا فيه من الزاهدين أي ليس لهم رغبة فيه, بل لو سئلوه بلا شيء لأجابوا. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إن الضمير في قوله: {وَشَرَوْهُ} عائد على إخوة يوسف. وقال قتادة: بل هو عائد على السيارة. والأول أقوى, لأن قوله: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة, لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة, ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه, فترجح من هذا أن الضمير في {وَشَرَوْهُ} إنما هو لإخوته. وقيل: المراد بقوله {بَخْسٍ} الحرام. وقيل: الظلم, هذا وإن كان كذلك لكن ليس هو المراد هنا, لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال وعلى كل أحد لأنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الرحمن فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم, وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما, أي إنهم إخوته وقد باعوه, ومع هذا بأنقص الأثمان, ولهذا قال {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}, فعن ابن مسعود رضي الله عنه: باعوه بعشرين درهماً, وكذا قال ابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي, وزاد اقتسموها درهمين درهمين. وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهماً. وقال محمد بن إسحاق وعكرمة: أربعون درهماً. وقال الضحاك في قوله {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} وذلك أنهم لم يعلموا نبوته ومنزلته عند الله عز وجل, وقال مجاهد: لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق, حتى وقفوه بمصر فقال: من يبتاعني وليبشر ؟ فاشتراه الملك وكان مسلماً.
{وَقَالَ الّذِي اشْتَرَاهُ مِن مّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىَ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَىَ أَمْرِهِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ(2/575)
النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
يخبر تعالى بألطافه بيوسف عليه السلام أنه قيض له الذي اشتراه من مصر حتى اعتنى به وأكرمه, وأوصى أهله به, وتوسم فيه الخير والصلاح, فقال لامرأته {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىَ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ} وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها وهو الوزير. حدثنا العوفي عن ابن عباس وكان اسمه قطفير, وقال محمد بن إسحاق: اسمه أطفير بن روحيب وهو العزيز, وكان على خزائن مصر, وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق, قال: واسم امرأته راعيل بنت رعائيل, وقال غيره: اسمها زليخا, وقال محمد بن إسحاق أيضاً, عن محمد بن السائب, عن أبي صالح, عن ابن عباس: كان الذي باعه بمصر مالك بن دعر بن بويب بن عنقا بن مديان بن إبراهيم, فالله أعلم. وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}, والمرأة التي قالت لأبيها {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} الآية, وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. يقول تعالى: كما أنقذنا يوسف من إخوته {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} يعني بلاد مصر {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}.
قال مجاهد والسدي: هو تعبير الرؤيا {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي إذا أراد شيئاً فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف, بل هو الغالب لما سواه. قال سعيد بن جبير في قوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}: أي فعال لما يشاء. وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} يقول: لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد, وقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ} أي يوسف عليه السلام {أَشُدَّهُ} أي استكمل عقله وتم خلقه {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} يعني النبوة أنه حباه بها بين أولئك الأقوام {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي إنه كان محسناً في عمله عاملاً بطاعة الله تعالى, وقد اختلف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده, فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة. وعن ابن عباس: بضع وثلاثون. وقال الضحاك: عشرون, وقال الحسن: أربعون سنة. وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال سعيد بن جبير: ثماني عشرة سنة. وقال الإمام مالك وربيعة بن زيد بن أسلم والشعبي: الأشد الحلم, وقيل غير ذلك, والله أعلم.
{وَرَاوَدَتْهُ الّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نّفْسِهِ وَغَلّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبّيَ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ}
يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر, وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه, فراودته عن نفسه, أي حاولته على نفسه ودعته إليها, وذلك أنها أحبته حباً شديداً لجماله وحسنه وبهائه, فحملها ذلك على أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها, {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} فامتنع من ذلك أشد الامتناع, و { قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبّيَ أَحْسَنَ مَثْوَايَ} وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير, أي إن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلى, وأحسن إلي فلا أقابله بالفاحشة في أهله {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}, قال ذلك مجاهد والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقد اختلف القراء في قوله: {هَيْتَ لَكَ} فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء, وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: معناه أنها تدعوه إلى نفسها. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: هيت لك, تقول هلم لك, وكذا قال زر بن حبيش وعكرمة والحسن وقتادة. قال عمرو بن عبيد عن الحسن: وهي كلمة بالسريانية, أي عليك. وقال السدي: هيت لك, أي هلم لك, وهي بالقبطية. وقال مجاهد: هي لغة عربية تدعوه بها. وقال البخاري: وقال عكرمة: هيت لك,(2/576)
أي هلم لك بالحورانية. وهكذا ذكره معلقاً.
وقد أسنده الإمام جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن سهل الواسطي, حدثنا قرة بن عيسى, حدثنا النضر بن عربي الجزري عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله: {هَيْتَ لَكَ} قال: هلم لك, قال: هي بالحورانية, وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وكان الكسائي يحكي هذه القراءة, يعني هيت لك, ويقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز, ومعناها تعال. وقال أبو عبيدة: سألت شيخاً عالماً من أهل حوران, فذكر أنها لغتهم يعرفها, واستشهد الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول الشاعر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أبلغ أمير المؤمنين ... أذى العراق إذا أتينا
إن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا
يقول: فتعال واقترب, وقرأ ذلك آخرون هئت لك بكسر الهاء وبالهمز وضم التاء, بمعنى تهيأت لك من قول القائل هئت بالأمر أهيء هئة, وممن روى عنه هذه القراءة: ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو وائل وعكرمة وقتادة, وكلهم يفسرها بمعنى تهيأت لك. قال ابن جرير: وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة, وقرأ عبد الله بن إسحاق: هيت بفتح الهاء وكسر التاء, وهي غريبة, وقرأ آخرون منهم عامة أهل المدينة هيت بفتح الهاء وضم التاء, وأنشد قول الشاعر:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما ... قال داع من العشيرة هيت
قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري, عن الأعمش, عن أبي وائل, قال: قال ابن مسعود وقد سمع القراء: سمعتهم متقاربين, فاقرءوا كما علمتم, وإياكم والتنطع والاختلاف, وإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال. ثم قرأ عبد الله: هيت لك, فقال: يا أبا عبد الرحمن إن ناساً يقرءونها هيت. قال عبد الله: أن أقرأها كما علمت أحب إليّ. وقال ابن جرير: حدثني ابن وكيع, حدثنا ابن عيينة عن منصور, عن أبي وائل, قال: قال عبد الله: هيت لك, فقال له مسروق: إن ناساً يقرءونها: {هيتُ لك}, فقال: دعوني فإني أقرأ كما أقرئت, أحب إليّ, وقال أيضاً: حدثني المثنى, حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا شعبة عن شقيق, عن ابن مسعود, قال : {هيت لك} بنصب الهاء والتاء, ولا نهمز. وقال آخرون: {هِيْتُ لك} بكسر الهاء, وإسكان الياء, وضم التاء. قال أبو عبيد معمر بن المثنى: هيت لا تثنى, ولا تجمع, ولا تؤنث, بل يخاطب الجميع بلفظ واحد, فيقال: هيت لك, وهيت لكم, وهيت لكما, وهيت لكن, وهيت لهن.
{وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِهَا لَوْلآ أَن رّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوَءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام, وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وطائفة من السلف في ذلك ما رواه ابن جرير وغيره, والله أعلم. وقيل: المراد بهمه بها خطرات حديث النفس, حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق, ثم أورد البغوي ههنا حديث عبد الرزاق عن معمر, عن همام, عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة, فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها, وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة, فإنما تركها من جرائي, فإن عملها فاكتبوها بمثلها ", وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة هذا منها. وقيل:(2/577)
هم بضربها. وقيل: تمناها زوجة. وقيل: هم بها لولا أن رأى برهان ربه أي فلم يهم بها, وفي هذا القول نظر من حيث العربية, حكاه ابن جرير وغيره. وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضاً, فعن ابن عباس وسعيد ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة وأبي صالح والضحاك ومحمد بن إسحاق وغيرهم: رأى صورة أبيه يعقوب عليه السلام عاضاً على أصبعه بفمه. وقيل عنه في رواية: فضرب في صدر يوسف. وقال العوفي عن ابن عباس: رأى خيال الملك يعني سيده, وكذا قال محمد بن إسحاق فيما حكاه عن بعضهم: إنما هو خيال قطفير سيده حين دنا من الباب.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع عن أبي مودود, سمعت من محمد بن كعب القرظي. قال رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت, فإذا كتاب في حائط البيت {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}, وكذا رواه أبو معشر المدني عن محمد بن كعب. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني نافع بن يزيد, عن أبي صخر, قال: سمعت القرظي يقول: في البرهان الذي رآه يوسف ثلاث آيات من كتاب الله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} الآية, وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الآية, وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} قال نافع: سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي, وزاد آية رابعة {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}. وقال الأوزاعي رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه عن ذلك. قال ابن جرير: والصواب أن يقال: إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به, وجائز أن يكون صورة يعقوب, وجائز أن يكون صورة الملك, وجائز أن يكون ما رآه مكتوباً من الزجر عن ذلك, ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك, فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى. وقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} أي كما أريناه برهاناً صرفه عما كان فيه, كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار, صلوات الله وسلامه عليه.
{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصّادِقِينَ فَلَمّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنّهُ مِن كَيْدِكُنّ إِنّ كَيْدَكُنّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب: يوسف هارب, والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت, فلحقته في أثناء ذلك فأمسكت بقميصه من ورائه, فقدّتْه قداً فظيعاً, يقال: إنه سقط عنه واستمر يوسف هارباً ذاهباً, وهي في أثره, فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب, فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها, وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا} أي فاحشة {إِلاّ أَن يُسْجَنَ} أي يحبس, {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي يضرب ضرباً شديداً موجعاً. فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق, وتبرأ مما رمته به من الخيانة, و {قال} باراً صادقاً {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} أي من قدامه {فَصَدَقَتْ} أي في قولها إنه راودها عن نفسها, لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره, فقدّت(2/578)
قميصه فيصح ما قالت {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وذلك يكون كما وقع لما هرب منها وتطلبته, أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها فقدت قميصه من ورائه, وقد اختلفوا في هذا الشاهد: هل هو صغير أو كبير ؟ على قولين لعلماء السلف, فقال عبد الرزاق, أخبرنا إسرائيل عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} قال ذو لحية, وقال الثوري, عن جابر, عن ابن أبي مليكة, عن ابن عباس: كان من خاصة الملك, وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم: إنه كان رجلاً. وقال زيد بن أسلم والسدي: كان ابن عمها. وقال ابن عباس: كان من خاصة الملك. وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} قال: كان صبياً في المهد, وكذا روي عن أبي هريرة وهلال بن يساف والحسن وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم أنه كان صبياً في الدار, واختاره ابن جرير: وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن محمد, حدثنا عفان, حدثنا حماد هو ابن سلمة, أخبرني عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكلم أربعة وهم صغار" فذكر فيهم شاهد يوسف, ورواه غيره عن حماد بن سلمة, عن عطاء, عن سعيد, عن ابن عباس أنه قال: "تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون, وشاهد يوسف, وصاحب جريج, وعيسى ابن مريم". وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: كان من أمر الله تعالى, ولم يكن إنسياً وهذا قول غريب.
وقوله: {فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} أي لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن {إن كيدكن عظيم}, ثم قال آمراً ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي اضرب عن هذا صفحاً, أي فلا تذكره لأحد.
{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلاً أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه فقال لها: استغفري لذنبك أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ثم قذفه بما هو بريء منه {إنك كنت من الخاطئين}
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئاً وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنّ سِكّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ وَقُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا هََذَا بَشَراً إِنْ هََذَآ إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مّن الصّاغِرِينَ قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ}
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز, شاع في المدينة وهي مصر حتى تحدث به الناس {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي(2/579)
الْمَدِينَةِ } مثل نساء الكبراء والأمراء, ينكرن على امرأة العزيز وهو الوزير ويعبن ذلك عليها {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نّفْسِهِ} أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه. قال الضحاك عن ابن عباس: الشغف الحب القاتل, والشغف دون ذلك, والشغاف حجاب القلب {إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه, {فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ} قال بعضهم: بقولهن ذهب الحب بها, وقال محمد بن إسحاق: بل بلغهن حسن يوسف, فأحببن أن يرينه, فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته, فعند ذلك {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنّ} أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن {وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئاً}. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي وغيرهم: هو المجلس المعد فيه مفارش, ومخاد, وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه, ولهذا قال تعالى: {وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنّ سِكّيناً} وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ} وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر {فلما} خرج و {رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي أعظمنه أي أعظمن شأنه, وأجللن قدره, وجعلن يقطعن أيديهن دهشاً برؤيته, وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين, والمراد أنهن حززن أيديهن بها, قاله غير واحد, وعن مجاهد وقتادة: قطعن أيديهن حتى ألقينها, فالله أعلم.
وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعد ما أكلن وطابت أنفسهن, ثم وضعت بين أيديهن أترجاً وآتت كل واحدة منهن سكيناً: هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن: نعم, فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن, فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن, ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلاً ومدبراً, فرجع وهن يحززن في أيديهن, فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن, فقالت: أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا, فكيف ألام أنا ؟ {وَقُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا هََذَا بَشَراً إِنْ هََذَآ إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ثم قلن لها: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا, لأنهن لم يرين في البشر شبيهه ولا قريباً منه, فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة, قال: "فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" وقال حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطي يوسف وأمه شطر الحسن". وقال سفيان الثوري, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله بن مسعود قال: أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن. وقال أبو إسحاق أيضاً, عن أبي الأحوص, عن عبد الله, قال: كان وجه يوسف مثل البرق, وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به. ورواه الحسن البصري مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا, وأعطي الناس الثلثين", أو قال: "أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث". وقال سفيان, عن منصور, عن مجاهد عن ربيعة الجرشي قال: قسم الحسن نصفين فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن, والنصف الآخر بين سائر الخلق.
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي: معناه أن يوسف عليه السلام كان على النصف من حسن آدم عليه السلام, فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها, ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله, وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه, فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته {حَاشَ للّهِ}. قال مجاهد وغير واحد: معاذ الله {مَا هََذَا بَشَراً}, وقرأ بعضهم ما هذا بشري أي بمشترى بشراء {إِنْ هََذَآ إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله, {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي فامتنع. قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن, وهي العفة مع هذا الجمال, ثم قالت تتوعده {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغٍِرِينَ} فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن(2/580)
وكيدهن, و {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أي من الفاحشة {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضراً ولا نفعاً إلا بحولك وقوتك, أنت المستعان وعليك التكلان, فلا تكلني إلى نفسي {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} الآية, وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة, وحماه فامتنع منها أشد الامتناع, واختار السجن على ذلك, وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته, وهي امرأة عزيز مصر, وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة, ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل, وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله, ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
{ثُمّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنّهُ حَتّىَ حِينٍ}
يقول تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين, أي إلى مدة, وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات, وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته, وكأنهم ـ والله أعلم ـ إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة. فلما تقرر ذلك, خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه. وذكر السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه, ويبرأ عرضه فيفضحها.
{وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
قال قتادة: كان أحدهما ساقي الملك, والآخر خبازه. قال محمد بن إسحاق: كان اسم الذي على الشراب نبوا والآخر مجلث. قال السدي: كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالاَ على سمه في طعامه وشرابه, وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة, وصدق الحديث, وحسن السمت, وكثرة العبادة, صلوات الله عليه وسلامه. ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن, وعيادة مرضاهم, والقيام بحقوقهم. ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تآلفا به وأحباه حباً شديداً وقالا له: والله لقد أحببناك حباً زائداً. قال: بارك الله فيكما, إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر, أحبتني عمتي فدخل عليّ الضرر بسببها, وأحبني أبي فأوذيت بسببه, وأحبتني امرأة العزيز فكذلك, فقالا: والله ما نستطيع إلا ذلك, ثم إنهما رأيا مناماً فرأى الساقي أنه يعصر خمراً يعني عنباً, وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: إني أراني أعصر عنباً.
ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان, عن يزيد بن هارون, عن شريك, عن الأعمش, عن زيد بن وهب, عن ابن مسعود أنه قرأها: أعصر عنباً: وقال الضحاك في قوله {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً } يعني عنباً, قال: وأهل عمان يسمون العنب خمراً, وقال عكرمة: قال له: إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبة من عنب, فنبتت فخرج فيها عناقيد, فعصرتهن ثم سقيتهن الملك, فقال: تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم(2/581)
تخرج فتسقيه خمراً, وقال الآخر وهو الخباز {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} الآية, والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رأيا مناماً وطلبا تعبيره. وقال ابن جرير: حدثنا وكيع وابن حميد قالا: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئاً, إنما كان تحالماً ليجربا عليه.
{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمّا عَلّمَنِي رَبّيَ إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ وَاتّبَعْتُ مِلّةَ آبَآئِيَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النّاسِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}
يخبرهما يوسف عليه السلام أنهما مهما رأيا في المنام من حلم فإنه عارف بتفسيره يخبرهما بتأويله قبل وقوعه, ولهذا قال: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}. ومجاهد: يقول {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في يومكما {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} وكذا قال السدي. وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا محمد بن يزيد شيخ له, عن الحسن بن ثوبان, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: ما أدري لعل يوسف عليه السلام كان يعتاف وهو كذلك, لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} قال: إذا جاء الطعام حلواً أو مراً اعتاف عند ذلك. ثم قال ابن عباس: إنما علم فعلم, وهذا أثر غريب, ثم قال: وهذا إنما هو من تعليم الله إياي, لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر, فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً في المعاد {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} الآية, يقول: هجرت طريق الكفر والشرك, وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى, واتبع طريق المرسلين, وأعرض عن طريق الضالين, فإن الله يهدي قلبه, ويعلمه ما لم يكن يعلم, ويجعله إماماً يقتدى به في الخير, وداعياً إلى سبيل الرشاد {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} هذا التوحيد وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} أي أوحاه إلينا وأمرنا به. {وَعَلَى النَّاسِ} إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم, بل {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} . وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا حجاج عن عطاء, عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أباً ويقول: والله فمن شاء لاعنته عند الحجر, ما ذكر الله جداً ولا جدة, قال الله تعالى يعني إخباراً عن يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}.
{يَاصَاحِبَيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مّتّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ أَسْمَآءً سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مّآ أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(2/582)
ثم إنّ يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له, وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما, فقال: {أَأَرْبَابٌ مّتّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ} أي الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه, ثم بين لهما أن التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو جهل منهم, وتسمية من تلقاء أنفسهم, تلقاها خلفهم عن سلفهم, وليس لذلك مستند من عند الله, ولهذا قال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي حجة ولا برهان, ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله, وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه, ثم قال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له, هو الدين المستقيم الذي أمر الله به, وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي فلهذا كان أكثرهم مشركين, {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}. وقد قال ابن جرير: إنما عدل بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا, لأنه عرف أنها ضارة لأحدهما, فأحب أن يشغلهما بغير ذلك لئلا يعاودوه فيها. فعاودوه فأعاد عليهم الموعظة, وفي هذا الذي قاله نظر, لأنه قد وعدهما أولاً بتعبيرها, ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وصلة وسبباً إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام, لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه والإنصات إليه, ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال:
{يَاصَاحِبَيِ السّجْنِ أَمّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْراً وَأَمّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطّيْرُ مِن رّأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}
يقول لهما {يَاصَاحِبَيِ السّجْنِ أَمّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْراً} وهو الذي رأى أنه يعصر خمراً, ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك, ولهذا أبهمه في قوله {وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِه} وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً, ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه, وهو واقع لا محالة, لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت, وقال الثوري: عن عمارة بن القعقاع, عن إبراهيم عن عبد الله قال: لما قالا ما قالا وأخبرهما, قالا: ما رأينا شيئاً, فقال: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ورواه محمد بن فضيل عن عمارة, عن إبراهيم, عن علقمة, عن ابن مسعود به, وكذا فسره مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, وحاصله أن من تحلم بباطل, وفسره فإنه يلزم بتأويله, والله تعالى أعلم, وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر, فإذا عبرت وقعت" وفي مسند أبي يعلى من طريق يزيد الرقاشي, عن أنس مرفوعاً "الرؤيا لأول عابر".
{وَقَالَ لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبّكَ فَأَنْسَاهُ الشّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}
ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج, قال له يوسف خفية عن الآخر, والله أعلم ـ لئلا يشعره أنه المصلوب ـ قال له {اذْكُرْنِي عِندَ رَبّكَ} يقول: اذكر قصتي عند ربك, وهو الملك, فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك, وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن, هذا هو الصواب أن الضمير في قوله {فَأَنْسَاهُ الشّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ} عائد على الناجي, كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير(2/583)
واحد. ويقال: إن الضمير عائد على يوسف عليه السلام رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضاً وعكرمة وغيرهم, وأسند ابن جرير ههنا حديثاً فقال: حدثنا ابن وكيع, حدثنا عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس مرفوعاً, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لم يقل ـ يعني يوسف ـ الكلمة التي قال, ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله", وهذا الحديث ضعيف جداً, لأن سفيان بن وكيع ضعيف, وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي أضعف منه أيضاً. وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلاً عن كل منهما, وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن, والله أعلم.
وأما البضع فقال مجاهد وقتادة: هو ما بين الثلاث إلى التسع. وقال وهب بن منبه: مكث أيوب في البلاء سبعاً, ويوسف في السجن سبعاً, وعذب بختنصر سبعاً, وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} قال: ثنتا عشرة سنة. وقال الضحاك: أربع عشرة سنة.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّيَ أَرَىَ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَأَيّهَا الْمَلاُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلاَمِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادّكَرَ بَعْدَ أُمّةٍ أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيّهَا الصّدّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لّعَلّيَ أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ لَعَلّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مّمّا تَأْكُلُونَ ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدّمْتُمْ لَهُنّ إِلاّ قَلِيلاً مّمّا تُحْصِنُونَ ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}
هذه الرؤيا من ملك مصر مما قدر الله تعالى أنها كانت سبباً لخروج يوسف عليه السلام من السجن, معززاً مكرماً, وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا, فهالته وتعجب من أمرها وما يكون تفسيرها, فجمع الكهنة والحذاة وكبار دولته وأمراءه فقص عليهم ما رأى وسألهم عن تأويلها, فلم يعرفوا ذلك, واعتذروا إليه بأنها {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} أي لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها, وهو تعبيرها, فعند ذلك تذكر الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين كانا في السجن مع يوسف, وكان الشيطان قد أنساه ما وصاه به يوسف من ذكر أمره للملك, فعند ذلك تذكر بعد أمة, أي مدة, وقرأ بعضهم بعد أمه أي بعد نسيان, فقال لهم, أي للملك والذين جمعهم لذلك {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي بتأويل هذا المنام, {فَأَرْسِلُونِ} أي فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن, ومعنى الكلام فبعثوه فجاءه, فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} وذكر المنام الذي رآه الملك, فعند ذلك ذكر له يوسف عليه السلام تعبيرها من غير تعنيف للفتى في نسيانه ما وصاه به, ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك, بل قال: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ففسر البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تستغل منها الثمرات والزروع, وهن السنبلات الخضر, ثم أرشدهم إلى ما يعتدونه في تلك السنين, فقال {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ} أي مهما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب, فادخروه في سنبله ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه(2/584)
إلا المقدار الذي تأكلونه, وليكن قليلاً قليلاً, لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد, وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات, وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان, لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب, وهن السنبلات اليابسات, وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئاً, وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء, ولهذا قال: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} ثم بشرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك عام فيه يغاث الناس, أي يأتيهم الغيث وهو المطر وتغل البلاد, ويعصر الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت ونحوه, وسكر ونحوه, حتى قال بعضهم: يدخل فيه حلب اللبن أيضاً. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يحلبون.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جَآءَهُ الرّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىَ رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ إِنّ رَبّي بِكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنّ إِذْ رَاوَدتُنّ يُوسُفَ عَن نّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوَءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآن حَصْحَصَ الْحَقّ أَنَاْ رَاوَدْتّهُ عَن نّفْسِهِ وَإِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَآ أُبَرّىءُ نَفْسِيَ إِنّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بِالسّوَءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبّيَ إِنّ رَبّي غَفُورٌ رّحِيمٌ}
يقول تعالى إخباراً عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه, فعرف فضل يوسف عليه السلام, وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه, وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه, فقال: {ائْتُونِي بِهِ} أي أخرجوه من السجن وأحضروه, فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز, وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه, بل كان ظلماً وعدواناً, فقال: {ارْجِعْ إِلَىَ رَبّكَ} الآية. وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره, صلوات الله وسلامه عليه, ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية, ويرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد, ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي" , وفي لفظ لأحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت أنا, لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان, ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني, ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه, والله يغفر له حين أتاه الرسول, ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب, ولكنه أراد أن يكون له العذر", هذا حديث مرسل. وقوله تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} إخبار عن الملك حين جمع النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز, فقال مخاطباً لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره, وهو العزيز, قال الملك للنسوة اللاتي قطعن أيديهن {مَا خَطْبُكُنَّ} أي شأنكن وخبركن {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} يعني يوم الضيافة, {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} أي قالت النسوة جواباً للملك: حاش لله أن يكون(2/585)
يوسف متهماً, والله ما علمنا عليه من سوء, فعند ذلك {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: تقول الآن تبين الحق وظهر وبرز, {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أي في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر, ولا وقع المحذور الأكبر, وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع, فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} تقول المرأة: ولست أبرىء نفسي, فإن النفس تتحدث وتتمنى, ولهذا راودته لأن {النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} أي إلا من عصمه الله تعالى: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام.
وقد حكاه الماوردي في تفسيره, وانتدب لنصره الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله, فأفرده بتصنيف على حدة, وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام يقول: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} في زوجته {بِالْغَيْبِ} الآيتين, أي إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي, وليعلم العزيز {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} في زوجته {بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} الآية, وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما جمع الملك النسوة فسألهن: هل راودتن يوسف عن نفسه ؟ {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} الآية, قال يوسف {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فقال جبريل عليه السلام: ولا يوم هممت بما هممت به ؟ فقال {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} الآية, وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وابن أبي الهذيل والضحاك والحسن وقتادة والسدي, والقول الأول أقوى وأظهر, لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك, ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم, بل بعد ذلك أحضره الملك.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلّمَهُ قَالَ إِنّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىَ خَزَآئِنِ الأرْضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}
يقول تعالى إخباراً عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه, قال {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي {فَلَمّا كَلّمَهُ} أي خاطبه الملك, وعرفه, ورأى فضله وبراعته, وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال, قال له الملك {إِنّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} أي إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة, فقال يوسف عليه السلام {اجْعَلْنِي عَلَىَ خَزَآئِنِ الأرْضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} مدح نفسه, ويجوز للرجل ذلك إذا جهل أمره للحاجة, وذكر أنه {حَفِيظٌ} أي خازن أمين , {عَلِيمٌ} ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وقال شيبة بن نعامة: حفيظ لما استودعتني, عليم بسني الجدب, رواه ابن أبي حاتم, وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه ولما فيه من المصالح للناس, وإنما سأله أن يجعله على خزائن الأرض, وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلات, لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها, فيتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد, فأجيب إلى ذلك رغبة فيه وتكرمة له ولهذا قال تعالى:)
{وَكَذَلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخرة خَيْرٌ لّلّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ}
يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ} أي أرض مصر, {يَتَبَوّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ} قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يتصرف فيها كيف يشاء. وقال ابن جرير: يتخذ منها منزلاً حيث يشاء بعد الضيق والحبس والإسار, {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز, فلهذا أعقبه الله عز وجل السلام والنصر والتأييد, {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ(2/586)
الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخرة خَيْرٌ لّلّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ} يخبر تعالى أن ما ادخره الله تعالى لنبيه يوسف عليه السلام في الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا, كقوله في حق سليمان عليه السلام {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} والغرض أن يوسف عليه السلام ولاه ملك مصر الريان بن الوليد الوزارة في بلاد مصر مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته, وأسلم الملك على يدي يوسف عليه السلام, قاله مجاهد.
وقال محمد بن إسحاق: لما قال يوسف للملك: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} قال الملك: قد فعلت, فولاه فيما ذكروا عمل اطفير, وعزل اطفير عما كان عليه, يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} قال: فذكر لي ـ والله أعلم ـ أن اطفير هلك في تلك الليالي, وأن الملك الريان بن الوليد زوّج يوسف امرأة اطفير راعيل, وأنها حين دخلت عليه قال لها: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين ؟ قال: فيزعمون أنها قالت: أيها الصديق لا تلمني, فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جميلة ناعمة في ملك ودنيا, وكان صاحبي لا يأتي النساء, وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك على ما رأيت, فيزعمون أنه وجدها عذراء, فأصابها, فولدت له رجلين: أفرائيم بن يوسف, وميشا بن يوسف, وولد لأفرائيم نون والد يوشع بن نون, ورحمة امرأة أيوب عليه السلام, وقال الفضيل بن عياض: وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق حتى مر يوسف, فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته, والملوك عبيداً بمعصيته.
{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّيَ أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُوَاْ إِلَىَ أَهْلِهِمْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ}
ذكر السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر, أن يوسف عليه السلام لما باشر الوزارة بمصر ومضت السبع السنين المخصبة, ثم تلتها السبع السنين المجدبة, وعم القحط بلاد مصر بكمالها, ووصل إلى بلاد كنعان وهي التي فيها يعقوب عليه السلام وأولاده, وحينئذ احتاط يوسف عليه السلام للناس في غلاتهم, وجمعها أحسن جمع, فحصل من ذلك مبلغ عظيم وهدايا متعددة هائلة, وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات, يمتارون لأنفسهم وعيالهم, فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة, وكان عليه السلام, لا يشبع نفسه, ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة(2/587)
واحدة في وسط النهار, حتى يتكفا الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين, وكان رحمة من الله على أهل مصر.
وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال, وفي الثانية بالمتاع, وفي الثالثة بكذا, وفي الرابعة بكذا, حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعد ما تملك عليهم جميع ما يملكون, ثم أعتقهم ورد عليهم أموالهم كلها, الله أعلم بصحة ذلك, وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوة يوسف عن أمر أبيهم لهم في ذلك, فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه, فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاماً, وركبوا عشرة نفر, واحتبس يعقوب عليه السلام عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف عليه السلام, وكان أحب ولده إليه بعد يوسف, فلما دخلوا على يوسف وهو جالس في أبهته ورياسته وسيادته, عرفهم حين نظر إليهم, وهم له منكرون أي لا يعرفونه, لأنهم فارقوه وهو صغير حدث, وباعوه للسيارة ولم يدروا أين يذهبون به, ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه, فلهذا لم يعرفوه, وأما هو فعرفهم. فذكر السدي وغيره أنه شرع يخاطبهم, فقال لهم كالمنكر عليهم: ما أقدمكم بلادي ؟ فقالوا: أيها العزيز إنا قدمنا للميرة, قال: فلعلكم عيون ؟ قالوا: معاذ الله. قال: فمن أين أنتم ؟ قالوا من بلاد كنعان, وأبونا يعقوب نبي الله. قال: وله أولاد غيركم ؟ قالوا: نعم كنا اثني عشر, فذهب أصغرنا, هلك في البرية وكان أحبنا إلى أبيه, وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه, فأمر بإنزالهم وإكرامهم {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي أوفى لهم كيلهم, وحمل لهم أحمالهم, قال: ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} يرغبهم في الرجوع إليه, ثم رهبهم فقال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} الآية, أي إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية فليس لكم عندي ميرة, {وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن, ولا نبقي مجهوداً لتعلم صدقنا فيما قلناه, وذكر السدي أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم, وفي هذا نظر لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيراً, وهذا لحرصه على رجوعهم, {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} أي غلمانه {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضاً عنها {فِي رِحَالِهِمْ} أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون, {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} بها, قيل: خشي يوسف عليه السلام أن لا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها. وقيل: تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضاً عن الطعام, وقيل أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجاً وتورعاً, لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم.
{فَلَمّا رَجِعُوا إِلَىَ أَبِيهِمْ قَالُواْ يَأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىَ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ}
يقول الله تعالى عنهم: إنهم رجعوا إلى أبيهم { قَالُواْ يَأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ} يعنون بعد هذه المرة, إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين لا نكتل, فأرسله معنا نكتل, وإنا له لحافظون, قرأ بعضهم بالياء أي يكتل هو, {وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك, وهذا كما قالوا له في يوسف {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولهذا قال لهم: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل, تغيبونه عني, وتحولون بيني وبينه ؟ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً} وقرأ(2/588)
بعضهم حفظاً {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي هو أرحم الراحمين بي, وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي, وأرجو من الله أن يرده علي ويجمع شملي به, إنه أرحم الراحمين.
{وَلَمّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِي هََذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّىَ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مّنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي بِهِ إِلاّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}
يقول تعالى: ولما فتح إخوة يوسف متاعهم, وجدوا بضاعتهم ردت إليهم, وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم, فلما وجدوها في متاعهم {قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِي} أي ماذا نريد {هََذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا}, كما قال قتادة: ما نبغي وراء هذا, إن بضاعتنا ردت إلينا, وقد أوفى لنا الكيل, {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا, {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} وذلك أن يوسف عليه السلام كان يعطي كل رجل حمل بعير, وقال مجاهد: حمل حمار, وقد يسمى في بعض اللغات بعيراً, كذا قال {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} هذا من تمام الكلام وتحسينه, أي إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ} أي تحلفون بالعهود والمواثيق {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه {فلما آتوه موثقهم} أكده عليهم, فقال: {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}, قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها, فبعثه معهم.
{وَقَالَ يَبَنِيّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مّتَفَرّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ وَلَمّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلّمْنَاهُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}
يقول تعالى إخباراً عن يعقوب عليه السلام, إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر أن لا يدخلوا كلهم من باب واحد, وليدخلوا من أبواب متفرقة, فإنه كما قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد إنه: خشي عليهم العين, وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة, ومنظر وبهاء, فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم, فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه, وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} قال: علم أنه سيلقى إخوته في بعض تلك الأبواب. وقوله {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه, فإن الله إذا أراد شيئاً لا يخالف ولا يمانع, {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} قالوا: هي دفع إصابة العين لهم {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} قال قتادة والثوري: لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير: لذو علم لتعليمنا إياه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.(2/589)
{وَلَمّا دَخَلُواْ عَلَىَ يُوسُفَ آوَىَ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّيَ أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين, وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته, وأفاض عليهم الصلة والألطاف والإحسان, واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له, وعرفه أنه أخوه, وقال له: لا تبتئس, أي لا تأسف على ما صنعوا بي, وأمره بكتمان ذلك عنهم, وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه, وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززاً مكرّماً معظماً.
{فَلَمّا جَهّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمّ أَذّنَ مُؤَذّنٌ أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}
لما جهزهم وحمل لهم أبعرتهم طعاماً, أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية, وهي إناء من فضة في قول الأكثرين, وقيل: من ذهب, قال ابن زيد, كان يشرب فيه, ويكيل للناس به من عزة الطعام إذ ذاك, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد, وقال شعبة عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: صواع الملك, قال: كان من فضة يشربون فيه, وكان مثل المكوك, وكان للعباس مثله في الجاهلية, فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد, ثم نادى مناد بينهم {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} فالتفتوا إلى المنادي وقالوا {مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} أي صاعه الذي يكيل به {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} وهذا من باب الجعالة, {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وهذا من باب الضمان والكفالة.
{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة, قال لهم إخوة يوسف {تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ} أي لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا, لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة أنا {مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ} أي ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة, فقال لهم الفتيان {فَمَا جَزَآؤُهُ} أي السارق إن كان فيكم {إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} أي: أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه ؟ {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام, أن السارق يدفع إلى المسروق منه, وهذا هو الذي أراد يوسف عليه السلام, ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه, أي فتشها قبله تورية, {ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم, وإلزاماً لهم بما يعتقدونه, ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله(2/590)
ويرضاه, لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.
وقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر قاله الضحاك وغيره, وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه, وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم, ولهذا مدحه الله تعالى فقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ} كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} الآية, {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل, وكذا روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري, عن عبد الأعلى الثعلبي, عن سعيد بن جبير, قال: كما عند ابن عباس فحدث بحديث عجيب, فتعجب رجل فقال: الحمد لله فوق كل ذي علم عليم, فقال ابن عباس: بئس ما قلت: الله العليم فوق كل عالم, وكذا روى سماك عن عكرمة, عن ابن عباس {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال: يكون هذا أعلم من هذا, وهذا أعلم من هذا, والله فوق كل عالم, وهكذا قال عكرمة, وقال قتادة: وفوق كل ذي علم عليم, حتى ينتهي العلم إلى الله, منه بدىء, وتعلمت العلماء, وإليه يعود, وفي قراءة عبد الله, وفوق كل عالم عليم.
{قَالُوَاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرّ مّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}
وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ} يتنصلون إلى العزيز من التشبه به, ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل, يعنون به يوسف عليه السلام. قال سعيد بن جبير, عن قتادة: كان يوسف عليه السلام قد سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره, وقال محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق, وكانت أكبر ولد إسحاق, وكانت عندها منطقة إسحاق, وكانوا يتوارثونها بالكبر, فكان من اختبأها ممن وليها كان له سلماً لا ينازع فيه, يصنع فيه ما يشاء, وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته, وكان لها به وله, فلم تحب أحداً حبها إياه حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات, تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام, فأتاها فقال: ياأخية سلمي إليّ يوسف, فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت: فو الله ما أنا بتاركته, ثم قالت: فدعه عندي أياماً أنظر إليه, وأسكن عنه لعل ذلك يسليني عنه, أو كما قالت فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه, ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق عليه السلام, فانظروا من أخذها ومن أصابها ؟ فالتمست, ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوهم, فوجدوها مع يوسف, فقالت: والله إنه لي لسلم, أصنع فيه ما شئت, فأتاه يعقوب, فأخبرته الخبر, فقال لها: أنت وذلك, إن كان فعل ذلك فهو سلم لك, ما أستطيع غير ذلك, فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت, قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ}. وقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} يعني الكلمة التي بعدها, وهي قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} أي تذكرون, قال هذا في نفسه ولم يبده لهم, وهذا من باب الإضمار قبل الذكر, وهو كثير, كقول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزي سنمار(2/591)
وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة في منثورها وأخبارها وأشعارها. قال العوفي عن ابن عباس {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ}, قال: أسر في نفسه {أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون}
{قَالُواْ يَأَيّهَا الْعَزِيزُ إِنّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلاّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنّآ إِذاً لّظَالِمُونَ}
لما تعين أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم, شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم {قَالُواْ يَأَيّهَا الْعَزِيزُ إِنّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} يعنون وهو يحبه حباً شديداً ويتسلى به عن ولده الذي فقده {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أي بدله يكون عندك عوضاً عنه, {إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي العادلين المنصفين القابلين للخير, {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلاّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} أي كما قلتم واعترفتم {إِنّآ إِذاً لّظَالِمُونَ} أي إن أخذنا بريئاً بسقيم.
{فَلَمّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوَاْ أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مّوْثِقاً مّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتّىَ يَأْذَنَ لِيَ أَبِيَ أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُوَاْ إِلَىَ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَأَبَانَا إِنّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الّتِيَ أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصَادِقُونَ}
يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه, وعاهدوه على ذلك, فامتنع عليهم ذلك {خَلَصُواْ} أي انفردوا عن الناس {نَجِيّاً} يتناجون فيما بينهم {قَالَ كَبِيرُهُمْ} وهو روبيل, وقيل: يهوذا, وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما هموا بقتله, قال لهم: { أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ} لتردنه إليه فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} أي لن أفارق هذه البلدة {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الرجوع إليه راضياً عني {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} قيل: بالسيف, وقيل: بأن يمكنني من أخذ أخي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}, ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع, حتى يكون عذراً لهم عنده, ويتنصلوا إليه ويبرؤا مما وقع بقولهم وقوله: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قال قتادة وعكرمة: ما علمنا أن ابنك سرق. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما علمنا في الغيب أنه سرق له شيئاً, إنما سألنا ما جزاء السارق ؟ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}: قيل المراد مصر, قاله قتادة, وقيل غيرها, {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي التي رافقناها, عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا, {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته.
{قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ(2/592)
قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّىَ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} قال محمد بن إسحاق: لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى, اتهمهم فظن أنها كفعلتهم بيوسف, قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} وقال بعض الناس: لما كان صنيعهم هذا مرتباً على فعلهم الأول, سحب حكم الأول عليه, وصح قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه, إما أن يرضى عنه أبوه, فيأمره بالرجوع إليه, وإما أن يأخذ أخاه خفية, ولهذا قال: {عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي العليم بحالي, {الْحَكِيمُ} في أفعاله وقضائه وقدره, {وَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} أي أعرض عن بنيه, وقال متذكراً حزن يوسف القديم الأول {يَأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} جدد له حزن الابنين الحزن الدفين, قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري, عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع, ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام {يَأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق, قاله قتادة وغيره. وقال الضحاك: فهو كظيم كئيب حزين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن, عن الأحنف بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن داود عليه السلام قال: يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب, فاجعلني لهم رابعاً, فأوحى الله تعالى إليه: أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر, وتلك بلية لم تنلك, وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر, وتلك بلية لم تنلك, وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر, وتلك بلية لم تنلك". وهذا مرسل وفيه نكارة, فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح, ولكن علي بن زيد بن جدعان له, مناكير وغرائب كثيرة, والله أعلم, وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس رحمه الله حكاه عن بعض بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما, والله أعلم, فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه, ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء, فإبراهيم ابتلي بالنار, وإسحاق بالذبح, ويعقوب بفراق يوسف, في حديث طويل لا يصح, والله أعلم, فعند ذلك رق له بنوه, وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تفارق تذكر يوسف {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} أي ضعيف القوة {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} أي أجابهم عما قالوا بقوله: {إنما إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} أي همي وما أنا فيه {إِلَى اللَّهِ} وحده, {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أرجو منه كل خير, وعن ابن عباس {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} يعني رؤيا يوسف أنها صدق, وأن الله لا بد أن يظهرها, وقال العوفي عنه في الآية: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر بن أبي الزبير, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان ليعقوب النبي عليه السلام أخ مؤاخ له, فقال له ذات(2/593)
يوم: ما الذي أذهب بصرك, وقوس ظهرك ؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف, وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين, فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحي أن تشكوني إلى غيري ؟ فقال يعقوب: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله, فقال جبريل عليه السلام: الله أعلم بما تشكو " وهذا حديث غريب فيه نكارة.
{يَبَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ فَلَمّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَأَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَآ إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن يعقوب عليه السلام: إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين, والتحسس يكون في الخير, والتجسس يكون في الشر, ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه, فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقوله {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} تقدير الكلام: فذهبوا فدخلوا مصر, ودخلوا على يوسف {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام, {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره, وهو ثمن قليل, قاله مجاهد والحسن وغير واحد. وقال ابن عباس: الرديء لا ينفق مثل خلق الغرارة والحبل والشيء, وفي رواية عنه: الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان, وكذا قال قتادة والسدي. وقال سعيد بن جبير: هي الدراهم الفسول. وقال أبو صالح: هو الصنوبر وحبة الخضراء, وقال الضحاك: كاسدة لا تنفق. وقال أبو صالح: جاءوا بحب البطم الأخضر والصنوبر, وأصل الإخاء الإزجاء لضعف الشيء, كما قال حاتم طيء:
لبيك على ملحان ضيف مدافع ... و أرملة تزجي مع الليل أرملا
وقال أعشى بني ثعلبة:
الواهب المائة الهجان وعبدها ... عوذاً تزجي خلفها أطفالها
وقوله إخباراً عنهم {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك, وقرأ ابن مسعود: فأوقر ركابنا وتصدق علينا. وقال ابن جريج: وتصدق علينا برد أخينا إلينا. وقال سعيد بن جبير والسدي {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} يقولون: تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة, وتجوز فيها. وسئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال ألم تسمع قوله: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} رواه ابن جرير عن الحارث, عن القاسم عنه. وقال ابن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا القاسم, حدثنا مروان بن معاوية عن عثمان بن الأسود, سمعت مجاهداً وسئل: هل يكره أن يقول الرجل في دعائه: اللهم تصدق علي ؟ قال: نعم, إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوَاْ أَإِنّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهََذَا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَآ إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ(2/594)
تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام, أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب, وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة, فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته, وبدره البكاء فتعرف إليهم, فيقال: إنه رفع التاج عن جبهته, وكان فيها شامة, وقال {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} يعني كيف فرقوا بينه وبين أخيه {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} أي إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه, كما قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل, وقرأ {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الآية, والظاهر ـ والله أعلم ـ أن يوسف عليه السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك, كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك, والله أعلم ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر, فرج الله تعالى من ذلك الضيق, كما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فعند ذلك قالوا {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} وقرأ أبي بن كعب {إنك لأنت يوسف}, وقرأ ابن محيصن {أنت يوسف}, والقراءة المشهورة هي الأولى, لأن الاستفهام يدل على الاستعظام أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه, فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي}.
وقوله: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} أي بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} الآية, يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك والتصرف والنبوة أيضاً, على قول من لم يجعلهم أنبياء, وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} يقول: أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم, ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم, ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} قال السدي: اعتذروا إلى يوسف فقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} يقول: لا أذكر لكم ذنبكم: وقال ابن إسحاق والثوري {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم, {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} أي يستر الله عليكم فيما فعلتم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هََذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىَ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ قَالُواْ تَاللّهِ إِنّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ}
يقول: اذهبوا بهذا القميص {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} وكان قد عمي من كثرة البكاء, {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي بجميع بني يعقوب, {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أي خرجت من مصر {قَالَ أَبُوهُمْ} يعني يعقوب عليه السلام لمن بقي عنده من بنيه {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}(2/595)
تنسبوني إلى الفند والكبر قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان, عن عبد الله بن أبي الهذيل, قال: سمعت ابن عباس يقول: ولما فصلت العير, قال: لما خرجت العير هاجت ريح, فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف, فقال {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال: فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام, وكذا رواه سفيان الثوري وشعبة وغيرهما عن أبي سنان به وقال الحسن وابن جريج: كان بينهما ثمانون فرسخاً, وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة.
وقوله {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة وسعيد بن جبير تسفهون وقال مجاهد أيضاً والحسن: تهرمون. وقولهم {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} قال ابن عباس: لفي خطئك القديم. وقال قتادة: أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه, قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم, وكذا قال السدي وغيره.
{فَلَمّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىَ وَجْهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنّيَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ يَأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّيَ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ}
قال ابن عباس والضحاك: {الْبَشِيرُ} البريد. وقال مجاهد والسدي: كان يهوذا بن يعقوب, قال السدي: إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كذب, فأحب أن يغسل ذلك بهذا, فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه فرجع بصيراً, وقال لبنيه عند ذلك {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} أي أعلم أن الله سيرده إلي, وقلت لكم: {أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنّيَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ} فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له: { يَأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّيَ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ} أي من تاب إليه تاب عليه, قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم: أرجأهم إلى وقت السحر. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب, حدثنا ابن إدريس, سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال: كان عمر رضي الله عنه يأتي المسجد فيسمع إنساناً يقول: اللهم دعوتني فأجبت, وأمرتني فأطعت, وهذا السحر فاغفر لي. قال فاستمع الصوت, فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود, فسأل عبد الله عن ذلك, فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّيَ} وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة الجمعة, كما قال ابن جرير أيضاً: حدثني المثنى, حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أيوب الدمشقي, حدثنا الوليد, أنبأنا ابن جريج عن عطاء, وعكرمة عن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّيَ} يقول: "حتى تأتي ليلة الجمعة , وهو قول أخي يعقوب لبنيه" "وهذا غريب من هذا الوجه, وفي رفعه نظر, والله أعلم".
{فَلَمّا دَخَلُواْ عَلَىَ يُوسُفَ آوَىَ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرّواْ لَهُ سُجّدَاً وَقَالَ يَا أَبَتِ هََذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيَ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نّزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيَ إِنّ رَبّي لَطِيفٌ لّمَا يَشَآءُ إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(2/596)
يخبر تعالى عن ورود يعقوب عليه السلام على يوسف عليه السلام, وقدومه بلاد مصر, لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين, فتحملوا عن آخرهم, وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر, فلما أخبر يوسف عليه السلام باقترابهم, خرج لتلقيهم وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب عليه السلام, ويقال: إن الملك خرج أيضاً لتلقيه, وهو الأشبه, وقد أشكل قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ} على كثير من المفسرين, فقال بعضهم: هذا من المقدم والمؤخر, ومعنى الكلام {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وآوى إليه أبويه ورفعهما على العرش, ورد ابن جرير هذا, وأجاد في ذلك, ثم اختار ما حكاه عن السدي أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما, ثم لما وصلوا باب البلد قال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وفي هذا نظر أيضا, لأن الإيواء إنما يكون في المنزل, كقوله {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} وفي الحديث "من آوى محدثاً" وما المانع أن يكون قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه: ادخلوا مصر, وضمنه اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين, أي مما كنتم فيه من الجهد والقحط, ويقال ـ والله أعلم ـ إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم, كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين قال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه, وأرسلوا أبا سفيان في ذلك, فدعا لهم فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه عليه السلام.
وقوله: {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما كان أباه وخالته, وكانت أمه قد ماتت قديماً. وقال محمد بن إسحاق وابن جرير: كان أبوه وأمه يعيشان, قال ابن جرير: ولم يقم دليل على موت أمه, وظاهر القرآن يدل على حياتها, وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق. وقوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني السرير, أي أجلسهما معه على سريره, {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} أي سجد له أبواه وإخوته الباقون. وكانوا أحد عشر رجلاً, {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} أي التي كان قصها على أبيه من قبل, {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} الآية, وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له, ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام, فحرم هذا في هذه الملة, وجعل السجود مختصاً بجناب الرب سبحانه وتعالى, هذا مضمون قول قتادة وغيره.
وفي الحديث أن معاذاً قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم, فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا يا معاذ ؟" فقال إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم, وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله, فقال: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد, لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها ". وفي حديث آخر: أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة, وكان سلمان حديث عهد بالإسلام, فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تسجد لي يا سلمان, واسجد للحي الذي لا يموت", والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم, ولهذا خروا له سجداً, فعندها قال يوسف: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} أي هذا ما آل إليه الأمر, فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر, كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي يوم القيامة يأتيتهم ما وعدوا به من خير وشر.
وقوله: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} أي صحيحة صدقاً يذكر نعم الله عليه, {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} أي البادية. قال ابن جريج وغيره: كانوا أهل بادية وماشية, وقال: كانوا يسكنون بالعربات من أرض فلسطين من غور الشام, قال: وبعض يقول: كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمى, وكانوا أصحاب بادية وشاء وإبل, { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّيش(2/597)
لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } أي إذا أراد أمراً قيض له أسباباً وقدره ويسره {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بمصالح عباده, {الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده. قال أبو عثمان النهدي, عن سليمان: كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة, قال عبد الله بن شداد: وإليها ينتهي أقصى الرؤيا, رواه ابن جرير, وقال أيضاً: حدثنا عمر بن علي, حدثنا عبد الوهاب الثقفي, حدثنا هشام عن الحسن قال: كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة, لم يفارق الحزن قلبه, ودموعه تجري على خديه, وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب.
وقال هشيم, عن يونس, عن الحسن: ثلاث وثمانون سنة, وقال مبارك بن فضالة, عن الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة, فغاب عن أبيه ثمانين سنة, وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة, فمات وله عشرون ومائة سنة, وقال قتادة: كان بينهما خمس وثلاثون سنة. وقال محمد بن إسحاق: ذكر ـ والله أعلم ـ أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة, قال: وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها, وأن يعقوب عليه السلام بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة, ثم قبضه الله إليه. وقال أبو إسحاق السبيعي, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود, قال: دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاثة وستون إنساناً, وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً, وقال أبو إسحاق, عن مسروق: دخلوا وهم ثلاثمائة وتسعون بين رجل وامرأة, فا لله أعلم. وقال موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد: اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنساناً: صغيرهم وكبيرهم, وذكرهم وأنثاهم, وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف.
{رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنتَ وَلِيّي فِي الدّنُيَا والآخرة تَوَفّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ}
هذا دعاء من يوسف الصديق, دعا به ربه عز وجل لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته, وما منّ الله به عليه من النبوة والملك سأل ربه عز وجل كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة, وأن يتوفاه مسلماً حين يتوفاه, قاله الضحاك: وأن يلحقه بالصالحين وهم إخوانه من النبيين والمرسلين, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف عليه السلام, قاله عند اختصاره, كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرفع أصبعه عند الموت ويقول: "اللهم في الرفيق الأعلى" ثلاثاً, ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله, وانقضى عمره, لا أنه سأله ذلك منجزاً كما يقول الداعي لغيره: أماتك الله على الإسلام, ويقول الداعي: اللهم أحينا مسلمين, وتوفنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين, ويحتمل أنه سأل ذلك منجزاً, وكان ذلك سائغاً في ملتهم, كما قال قتادة قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} لما جمع الله شمله وأقر عينه, وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها, اشتاق إلى الصالحين قبله.
وكان ابن عباس يقول: ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام, وكذا ذكر ابن جرير والسدي عن ابن عباس أنه أول نبي دعا بذلك , وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام, كما أن نوحاً أول من قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ(2/598)
مُؤْمِناً} ويحتمل أنه أول من سأل إنجاز ذلك, وهو ظاهر سياق قول قتادة, ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان ولا بد متمنياً الموت, فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي" وأخرجاه في الصحيحين, وعندهما "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسناً فيزداد, وإِما مسيئاً فلعله يستعتب, ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وتوفني إِذا كانت الوفاة خيراً لي".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا معان بن رفاعة, حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ورققنا, فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء, وقال: ياليتني مت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا سعد أعندي تتمنى الموت ؟" فردد ذلك ثلاث مرات, ثم قال: "يا سعد إن كنت خلقت للجنة, فما طال من عمرك وحسن من عملك فهو خير لك" وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا أبو يونس, وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله, فإِنه إِذا مات أحدكم انقطع عنه عمره, وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً" تفرد به أحمد, وهذا فيما إذا كان الضر خاصاً به, وأما إِذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت, كما قال الله تعالى إِخباراً عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهددهم بالقتل قالوا {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقالت مريم لما أجاءها المخاض, وهو الطلق, إلى جذع النخلة: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّا} لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة, لأنها لم تكن ذات زوج, وقد حملت ووضعت, وقد قالوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} فجعل الله لها من ذلك الحال فرجاً ومخرجاً, وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله, فكان آية عظيمة, ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه. وفي حديث معاذ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي في قصة المنام والدعاء الذي فيه "وإِذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة, أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة, عن محمود بن لبيد مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتن, ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب" فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت, ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر خلافته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له ولا يزداد الأمر إِلا شدة, فقال: اللهم خذني إليك, فقد سئمتهم وسئموني. وقال البخاري رحمه الله: لما وقعت له تلك الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى, قال: اللهم توفني إِليك. وفي الحديث "إن الرجل ليمر بالقبر ـ أي في زمان الدجال ـ فيقول: يا ليتني مكانك" لما يرى من الفتن. والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون. قال أبو جعفر بن جرير: وذكر أن بَني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا, استغفر لهم أبوهم, فتاب الله عليهم, وعفا عنهم, وغفر لهم ذنوبهم.
ذكر من قال ذلك
حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني حجاج عن صالح المري, عن يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك قال: إِن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله بعينيه خلا ولده نجيا, فقال بعضهم لبعض: ألستم قد علمتم ما صنعتم ؟ وما(2/599)
لقي منكم الشيخ, وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا: بلى. قال فيغركم عفوهما عنكم, فكيف لكم بربكم ؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ, فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جانب أبيه قاعد, قالوا: يا أبانا إِنا أتيناك لأمر لم نأتك لأمر مثله قط, ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله قط حتى حركوه, والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية, فقال: ما لكم يا بني ؟ قالوا: ألست قد علمت ما كان منا إِليك وما كان منا إِلى أخينا يوسف ؟ قال: بلى قالوا: أولستما قد غفرتما لنا ؟ قالا: بلى. قالوا: فإن عفوكما لا يغني عنا شيئاً, إِن كان الله لم يعف عنا. قال: فما تريدون يا بني ؟ قالوا: نريد أن تدعو الله لنا, فإذا جاءك الوحي من الله بأنه قد عفا عنا, قرت أعيننا, واطمأنت قلوبنا, وإِلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبداً. قال: فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه, وقاموا خلفهما أذلة خاشعين, قال: فدعا وأمن يوسف, فلم يجب فيهم عشرين سنة, قال صالح المري يخيفهم, قال: حتى إِذا كان على رأس العشرين نزل جبريل عليه السلام, على يعقوب عليه السلام, فقال: إِن الله تعالى قد بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأن الله تعالى قد عفا عما صنعوا, وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة. هذا الأثر موقوف عن أنس. ويزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان جداً. وذكر السدي أن يعقوب عليه السلام لما حضره الموت أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إِبراهيم وإِسحاق, فلما مات صبره وأرسله إلى الشام, فدفن عندهما عليهم السلام.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوَاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَآ أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ}
يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قص عليه نبأ إِخوة يوسف, وكيف رفعه الله عليهم, وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم, مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام, هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك, والاتعاظ لمن خالفك {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} حاضراً عندهم ولا مشاهداً لهم {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} أي على إِلقائه في الجب {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} به, ولكنا أعلمناك به وحياً إِليك وإِنزالاً عليك, كقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} الآية, وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى} الآية, إِلى قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} الآية, وقال: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} الآية, وقال {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} يقول تعالى: إِنه رسوله وإِنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق, مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم, ومع هذا ما آمن أكثر الناس, ولهذا قال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} كقوله : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} إِلى غير ذلك من الآيات. وقوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إِلى الخير والرشد من أجر, أي من جعالة ولا أجرة على ذلك, بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحاً لخلقه {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يتذكرون به ويهتدون وينجون به في الدنيا والآخرة.
{وَكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوَاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً(2/600)
وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}
يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت, وسيارات وأفلاك دائرات, والجميع مسخرات, وكم في الأرض من قطع متجاورات, وحدائق وجنات, وجبال راسيات, وبحار زاخرات, وأمواج متلاطمات, وقفار شاسعات, وكم من أحياء وأموات, وحيوان ونبات, وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات, فسبحان الواحد الأحد, خالق أنواع المخلوقات, المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات, وغير ذلك.
وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ} قال ابن عباس: من إِيمانهم أنهم إِذا قيل لهم: من خلق السموات, ومن خلق الأرض, ومن خلق الجبال ؟ قالوا: الله, وهم مشركون به. وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وفي الصحيحين: أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك, تملكه وما ملك. وفي صحيح مسلم أنهم كانوا إِذا قالوا: لبيك لا شريك لك, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد قد" أي حسب حسب, لا تزيدوا على هذا. وقال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وهذا هو الشرك الأعظم يعبد مع الله غيره, كما في الصحيحين عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله, أي الذنب أعظم ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك".
وقال الحسن البصري في قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ} قال: ذلك المنافق يعمل إِذا عمل رياء الناس, وهو مشرك بعمله ذلك يعني قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} وثمّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالباً فاعله, كما روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيراً فقطعه ـ أو انتزعه ـ ثم قال {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وفي الحديث "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر, وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره عن ابن سعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك ", وفي لفظ لهما "الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل" ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة, عن يحيى الجزار عن ابن أخي زينب, عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه, قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة فأدخلتها تحت السرير, قالت: فدخل فجلس إلى جانبي, فرأى في عنقي خيطاً فقال: ما هذا الخيط ؟ قالت: قلت: خيط رقي لي فيه, فأخذه فقطعه ثم قال: إِن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِن الرقى والتمائم والتولة شرك" قالت: قلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف, فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها, فكان إذا رقاها سكنت, فقال إنما ذاك من الشيطان كان ينخسها بيده, فإذا رقاها كف عنها, إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أذهب الباس, رب الناس, اشف وأنت الشافي, لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً".
وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد عن وكيع, عن ابن أبي ليلى, عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلت على عبد الله بن عكيم وهو مريض نعوده, فقيل له, لو تعلقت شيئاً, فقال: أتعلق شيئاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(2/601)
"من تعلق شيئاً وكل إِليه" ورواه النسائي عن أبي هريرة, وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علق تميمة فقد أشرك", وفي رواية "من تعلق تميمة فلا أتم الله له, ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له", وعن العلاء عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله, فليطلب ثوابه من عند غير الله, فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" رواه الإمام أحمد وقال أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد يعني ابن الهادي, عن عمرو, عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: "الرياء, يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً ؟" وقد رواه إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب, عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد به. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, أنبأنا ابن لهيعة, أنبأنا ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك" قالوا: يا رسول الله, ما كفارة ذلك ؟ قال: "أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إِلا خيرك, ولا طير إِلا طيرك, ولا إِله غيرك".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن أبي علي ـ رجل من بني كاهل ـ قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك, فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا: والله لتخرجن مما قلت, أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأوذن. قال: بل أخرج مما قلت, خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك, فإنه أخفى من دبيب النمل" فقال له من شاء الله أن يقول: فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه, ونستغفرك لما لا نعلمه". وقد روي من وجه آخر, وفيه أن السائل في ذلك هو الصديق, كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي من حديث عبد العزيز بن مسلم, عن ليث بن أبي سليم, عن أبي محمد, عن معقل بن يسار, قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال: حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل", فقال أبو بكر: وهل الشرك إِلا من دعا مع الله إِلهاً آخر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " ثم قال: "ألا أدلك على ما يذهب عنك صغير ذلك وكبيره ؟ قل: اللهم إِني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم, وأستغفرك مما لا أعلم".
وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي عن شيبان بن فروخ, عن يحيى بن كثير, عن الثوري, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم, عن أبي بكر الصديق, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا " قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله, فكيف النجاة والمخرج من ذلك ؟ فقال: "ألا أخبرك بشيء إِذا قلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره ؟" قال: بلى يا رسول الله. قال: "قل: اللهم إِني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم, وأستغفرك لما لا أعلم". قال الدارقطني: يحيى بن كثير هذا, يقال له أبو النضر, متروك الحديث, وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي من حديث يعلى بن عطاء, سمعت عمرو بن عاصم, سمعت أبا هريرة قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله, علمني شيئاً أقوله إِذا أصبحت وإِذا(2/602)
أمسيت, وإِذا أخذت مضجعي, قال: "قل: اللهم فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, رب كل شيء ومليكه, أشهد أن لا إله إِلا أنت, أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه", رواه أبو داود والنسائي وصححه, وزاد الإمام أحمد في رواية له: من حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد, عن أبي بكر الصديق, قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول ـ فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره ـ "وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره" إِلى مسلم".
وقوله: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} الآية, أي أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون, كما قال تعالى: { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. وقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
{قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين: الإنس والجن, آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته ومسلكه وسنته, وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له, يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي. وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} أي وأنزه الله وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبة أو وزير أو مشير, تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً, {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لّلّذِينَ اتّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء, وهذا قول جمهور العلماء, كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة أن الله تعالى لم يوح إِلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع. وزعم بعضهم أن سارة امرأة الخليل وأم موسى ومريم بنت عمران أم عيسى نبيات, واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب, وبقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية, وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى عليه السلام, وبقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}, وهذا القدر حاصل لهن, ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك, فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف, فهذا لا شك فيه, ويبقى الكلام معه في أن هذا هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا ؟ الذي عليه أهل السنة والجماعة, وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم أنه ليس في النساء نبية, وإنما فيهن صديقات, كما قال تعالى مخبراً عن أشرفهن مريم بنت عمران حيث قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية,(2/603)
فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام, فهي صدّيقة بنص القرآن.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} الآية, أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم, وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} الآية, وقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}. وقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} الآية. وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً, وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرق طباعاً وألطف من أهل سوادهم, وأهل الريف والسواد أقرب حالاً من الذين يسكنون في البوادي, ولهذا قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} الآية. وقال قتادة في قوله {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمور. وفي الحديث الآخر أن رجلاً من الأعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن لا أتهب هبة إِلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب, عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأعمش: هو ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" . وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يعني هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض {يَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي من الأمم المكذبة للرسل, كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها, كقوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} الآية, فإذا استمعوا خبر ذلك رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين, وهذه كانت سنته تعالى في خلقه, ولهذا قال تعالى: { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} وكما نجينا المؤمنين في الدنيا كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة وهي خير لهم من الدنيا بكثير, كقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وأضاف الدار إلى الآخرة, فقال: { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} كما يقال: صلاة الأولى ومسجد الجامع, وعام أول, وبارحة الأولى, ويوم الخميس. وقال الشاعر:
أتمدح فقعساً وتذم عبساً ... ألا لله أمك من هجين
لو أقوت عليك ديار عبس ... عرفت الذل عرفان اليقين
{حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَآءُ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}
يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه, كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} الآية, وفي قوله: {كَذَّبُوا} قراءتان إحداهما بالتشديد قد كذبوا, وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقرؤها, قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا(2/604)
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قال: قلت: أكذبوا أم كذبوا ؟ قالت عائشة كذبوا. قلت فقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم فما هو بالظن ؟: قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك, فقلت لها: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قالت معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها قلت: فما هذه الآية ؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم, فطال عليهم البلاء, واستأخر عنهم النصر {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} ممن كذبهم من قومهم, وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم, جاء نصر الله عند ذلك, حدثنا أبو اليمان, أنبأنا شعبة عن الزهري قال: أخبرنا عروة فقلت لها: لعلها قد كذبوا مخففة ؟ قالت: معاذ الله. انتهى ما ذكره.
وقال ابن جريج: أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عباس قرأها {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خفيفة. قال عبد الله هو ابن أبي مليكة ثم قال لي ابن عباس: كانوا بشراً, ثم تلا {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} قال ابن جريج: وقال لي ابن أبي مليكة, وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته, وقالت: ما وعد الله محمداً صلى الله عليه وسلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات, ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث عروة, كانت عائشة تقرؤها {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مثقلة من التكذيب. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أنبأنا ابن وهب, أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال: إن محمد بن كعب القرظي قرأ هذه الآية {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} فقال القاسم: أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} تقول: كذبهم أتباعهم إسناد صحيح أيضاً.
والقراءة الثانية بالتخفيف, واختلفوا في تفسيرها, فقال ابن عباس ما تقدم. وعن ابن مسعود فيما رواه سفيان الثوري عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله أنه قرأ {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مخففة, قال عبد الله: هو الذي تكره, وهذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما, مخالف لما رواه آخرون عنهما. أما ابن عباس, فروى الأعمش عن مسلم عن ابن عباس في قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قال: لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم, جاءهم النصر على ذلك { فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} وكذا روي عن سعيد بن جبير وعمران بن الحارث السلمي وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس بمثله.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد, حدثنا شعيب, حدثنا إبراهيم بن أبي حرّة الجزري قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له: يا أبا عبد الله كيف هذا الحرف, فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} ؟ قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم, وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا, فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجلاً يدعى إلى علم فيتلكأ, ولو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلاً, ثم روى ابن جرير أيضاً من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك, فأجابه بهذا الجواب, فقام إلى سعيد فاعتنقه وقال: فرج الله عنك كما فرجت عني, وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك, وكذا فسرها مجاهد بن جبر وغير واحد من السلف حتى إن مجاهداً قرأها {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} بفتح الذال. رواه ابن جرير إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} إلى أتباع الرسل من المؤمنين, ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم, أي وظن الكفار أن(2/605)
الرسل قد كذبوا مخففة فيما وعدوا به من النصر. وأما ابن مسعود, فقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن فضيل عن جحش بن زياد الضبي عن تميم بن حَذْلم قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا بالتخفيف ـ فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس, وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك, وانتصر لها ابن جرير, ووجه المشهور عن الجمهور وزيف القول الآخر بالكلية, ورده وأباه ولم يقبله ولا ارتضاه , والله أعلم.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىَ وَلََكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
يقول تعالى: لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم, وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين {عِبْرَةٌ لأولي الألْبَابِ} وهي العقول, {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىَ} أي وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله, أي يكذب ويختلق {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من الكتب المنزلة من السماء وهو يصدق ما فيها من الصحيح, وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير, ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} من تحليل وتحريم ومحبوب ومكروه, وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات, والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات, والإخبار عن الأمور الجلية, وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية, والإخبار عن الرب تبارك وتعالى وبالأسماء والصفات, وتنزهه عن مماثلة المخلوقات, فلهذا كان {هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد, ومن الضلال إلى السداد, ويبتغون به الرحمة من رب العباد, في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد, فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة, يوم يفوز بالربح المبيضة وجوههم الناضرة, ويرجع المسودّة وجوههم بالصفقة الخاسرة. آخر تفسير سورة يوسف عليه السلام ولله الحمد والمنة وبه المستعان.(2/606)
سورة الرعد
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
{الَمَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور, فقد تقدم في أول سورة البقرة, وقدمنا أن كل سورة ابتدئت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب, ولهذا قال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أي هذه آيات الكتاب, وهو القرآن, وقيل: التوراة والإنجيل, قاله مجاهد وقتادة, وفيه نظر بل هو بعيد, ثم عطف على ذلك عطف صفات فقال : {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي يا محمد {مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} خبر تقدم مبتدؤه, وهو قوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة, واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا, واستشهد بقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} كقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق
{اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى يُدَبّرُ الأمْرَ يُفَصّلُ الآيات لَعَلّكُمْ بِلِقَآءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ}
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمدٍ, بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا تدرك مداها, فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها, مرتفعة عليها من كل جانب على السواء, وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام, وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام, ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت, وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام, وسمكها خمسمائة عام, وهكذا السماء الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة, كما قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية.
وفي الحديث "ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة, والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة". وفي رواية "والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل" وجاء عن بعض السف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة, وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة, وهو من ياقوتة حمراء. وقوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى. وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة, يعني بلا عمد, وكذا روي عن قتادة, وهذا هو اللائق بالسياق, والظاهر من قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فعلى هذا يكون قوله: {تَرَوْنَهَا} تأكيداً لنفي ذلك, أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها, وهذا هو الأكمل في القدرة, وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره, وكفر قلبه كما ورد في الحديث, ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه:(2/607)
وأنت الذي من فضل منّ ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
فقلت له: فاذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان طاغياً
وقولا له: هل أنت سويت هذه ... بلا وتد حتى استقلت كما هيا ؟
وقولا له: أأنت رفعت هذه ... بلا عمد أو فوق ذلك بانيا ؟
وقولا له: هل أنت سويت وسطها ... منيراً إذا ما جنك الليل هاديا ؟
وقولا له: من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا ؟
وقولا له: من أنبت الحب في الثرى ... فيصبح منه العشب يهتز رابيا
يخرج منه حبه في رؤوسه ؟ ... ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم تفسيره في سورة الأعراف وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل, ولا تمثيل, تعالى الله علواً كبيراً. وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} قيل: المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة, كقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وقيل: المراد إلى مستقرهما وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر, فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك يكونون أبعد ما يكون عن العرش, لأنه على الصحيح الذي تقوم عليه الأدلة قبة مما يلي العالم من هذا الوجه, وليس بمحيط كسائر الأفلاك, لأن له قوائم وحملة يحملونه, ولا يتصور هذا في الفلك المستدير, وهذا واضح لمن تدبر ما وردت به الآيات والأحاديث الصحيحة, ولله الحمد والمنة.
وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة التي هي أشرف وأعظم من الثوابت, فإذا كان قد سخر هذه , فلأن يدخل في التسخير سائر الكواكب بطريق الأولى والأحرى, كما نبه بقوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} مع أنه صرح بذلك بقوله: {وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. وقوله: {يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو, وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه.
{وَهُوَ الّذِي مَدّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىَ بَعْضٍ فِي الأكل إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
لما ذكر تعالى العالم العلوي, شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي, فقال: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض, وأرساها بجبال راسيات شامخات, وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون, ليسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي من كل شكل صنفان {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}} أي جعل كلاً منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً, فإذا ذهب هذا غشيه هذا, وإذا انقضى هذا جاء الآخر, فيتصرف أيضاً في الزمان كما يتصرف في(2/608)
المكان والسكان, {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي في آلاء الله وحكمه ودلائله.
وقوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي أراض يجاور بعضها بعضاً, مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئاً, هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد. ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض, فهذه تربة حمراء, وهذه بيضاء, وهذه صفراء, وهذه سوداء, وهذه محجرة, وهذه سهلة, وهذه مرملة, وهذه سميكة, وهذه رقيقة, والكل متجاورات, فهذه بصفتها, وهذه بصفتها الأخرى, فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو ولا رب سواه. وقوله: {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} يحتمل أن تكون عاطفة على جنات, فيكون {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} مرفوعين. ويحتمل أن يكون معطوفاً على أعناب, فيكون مجروراً, ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.
وقوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} الصنوان: هو الأصول المجتمعة في منبت واحد, كالرمان والتين, وبعض النخيل ونحو ذلك, وغير الصنوان: ما كان على أصل واحد, كسائر الأشجار, ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه, كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه". وقال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه: الصنوان هي النخلات في أصل واحد, وغير الصنوان المتفرقات, وقاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد.
وقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قال الأعمش عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قال: "الدقل, والفارسي, والحلو, والحامض", رواه الترمذي وقال: حسن غريب, أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها, وطعومها وروائحها, وأوراقها وأزهارها, فهذا في غاية الحلاوة, وهذا في غاية الحموضة, وذا في غاية المرارة, وذا عفص, وهذا عذب, وهذا جمع هذا وهذا, ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى, وهذا أصفر, وهذا أحمر, وهذا أبيض, وهذا أسود, وهذا أزرق, وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء, مع الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ففي ذلك آيات لمن كان واعياً, وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء, وخلقها على ما يريد, ولهذا قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنّا تُرَاباً أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلََئِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ}
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تَعْجَبْ} من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد, مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلائله في خلقه على أنه القادر على ما يشاء, ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء فكونها بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً, ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالم خلقاً جديداً, وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به, فالعجب من قولهم {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}, وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس, وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل, كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم نعت المكذبين بهذا فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} أي يسحبون بها في النار {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(2/609)
أي ماكثون فيها أبداً لا يحولون عنها ولا يزولون.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنّاسِ عَلَىَ ظُلْمِهِمْ وَإِنّ رَبّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}
يقول تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} أي هؤلاء المكذبون {بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي بالعقوبة كما أخبر عنهم في قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ}, وقال تعال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} الآيتين, وقال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}, وقال: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} الآية, أي عقابنا وحسابنا, كما قال مخبراً عنهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية, فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم.
ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}, وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار, ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف, كما قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} , وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} الآية, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش, ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد" وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي أنه رأى رب العزة في النوم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته, فقال له: ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} قال: ثم انتبهت.
{وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ}
يقول تعالى إخباراً عن المشركين أنهم يقولون كفراً وعناداً: لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون, كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهباً, وأن يزيح عنهم الجبال, ويجعل مكانها مروجاً وأنهاراً, قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية, قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} أي إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها, {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي لكل قوم داع. وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: يقول الله تعالى: أنت يا محمد منذر, وأنا هادي كل قوم, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبيرش(2/610)
والضحاك وغير واحد. وعن مجاهد {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي نبي, كقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ}, وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد. وقال أبو صالح ويحيى بن رافع {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي قائد. وقال أبو العالية: الهادي القائد, والقائد الإمام, والإمام العمل. وعن عكرمة وأبي الضحى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قالا: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مالك: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} يدعوهم إلى الله عز وجل.
وقال أبو جعفر بن جرير حدثني أحمد بن يحيى الصوفي, حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري, حدثنا معاذ بن مسلم, حدثنا الهروي عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: لما نزلت {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه على صدره وقال: "أنا المنذر, ولكل قوم هاد" وأومأ بيده إلى منكب علي, فقال: "أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي" , وهذا الحديث فيه نكارة شديدة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا المطلب بن زياد عن السدي عن عبد خير عن علي {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال: الهادي رجل من بني هاشم. قال الجنيد: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات وعن أبي جعفر محمد بن علي نحو ذلك.
{اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنثَىَ وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء, وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات, كما قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي ما حملت من ذكر أو أنثى, أو حسن أو قبيح, أو شقي أو سعيد, أو طويل العمر أو قصيره, كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} الآية, وقال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} أي خلقكم طوراً من بعد طور, كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خلق إحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه, وعمره, وعمله, وشقي أو سعيد". وفي الحديث الآخر: "فيقول الملك أي رب أذكر أم أنثى ؟ أي رب أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيقول الله, ويكتب الملك".
وقوله {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس, لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله, ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله, ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله, ولا تدري نفس بأي أرض تموت, ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" وقال العوفي عن ابن عباس {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} يعني السقط ,{وَمَا تَزْدَادُ} يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً, وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر, ومن تحمل تسعة أشهر, ومنهن من تزيد في الحمل, ومنهن من تنقص, فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال: ما نقصت من تسعة وما زاد عليها, وقال الضحاك: وضعتني(2/611)
أمي وقد حملتني في بطنها سنتين, وولدتني وقد نبتت ثنيتي. وقال ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل, وقال مجاهد {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال: ما ترى من الدم في حملها, وما تزداد على تسعة أشهر, وبه قال عطية العوفي والحسن البصري وقتادة والضحاك, وقال مجاهد أيضاً: إذا رأت المرأة الدم دون التسعة, زاد على التسعة مثل أيام الحيض, وقاله عكرمة وسعيد بن جبير وابن زيد. وقال مجاهد أيضاً: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} إراقة الدم حتى يخس الولد, {وَمَا تَزْدَادُ} إن لم تهرق المرأة, تم الولد وعظم. وقال مكحول: الجنين في بطن أمه لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم, وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها, فمن ثم لا تحيض الحامل, فإذا وقع إلى الأرض, استهل, واستهلاله استنكاره لمكانه, فإذا قطعت سرته, حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم, ثم يصير طفلاً يتناول الشيء بكفه فيأكله, فإذا هو بلغ قال: هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق ؟ فيقول مكحول ياويلك: غذاك وأنت في بطن أمك وأنت طفل صغير, حتى إذا اشتددت وعقلت قلت: هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق, ثم قرأ مكحول {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} الآية.
وقال قتادة: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} أي بأجل, حفظ أرزاق خلقه وآجالهم, وجعل لذلك أجلاً معلوماً. وفي الحديث الصحيح أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه أن ابناً لها في الموت, وأنها تحب أن يحضره. فبعث إليها يقول: "إن لله ما أخذ, وله ما أعطى, وكل شيء عنده بأجل مسمى, فمروها فلتصبر ولتحتسب" الحديث بتمامه. وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم, ولا يخفى عليه منه شيء {الْكَبِيرُ} الذي هو أكبر من كل شيء, {الْمُتَعَالِ} أي على كل شيء {قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقهر كل شيء, فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعاً وكرهاً.
{سَوَآءٌ مّنْكُمْ مّنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنّهَارِ لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوَءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ}
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه, وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به, فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء, كقوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}, وقال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}, قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات, والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنا في جنب البيت, وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها, فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} وقوله {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أي مختف في قعر بيته في ظلام الليل, {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه, فإن كليهما في علم الله على السواء, كقوله تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} الآية.
وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
وقوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه,(2/612)
حرس بالليل وحرس بالنهار, يحفظونه من الأسواء والحادثات, كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر, ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال, صاحب اليمين يكتب الحسنات, وصاحب الشمال يكتب السيئات, وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه, واحد من ورائه وآخر من قدامه, فهو بين أربعة أملاك بالنهار, وأربعة أملاك بالليل, بدلاً حافظان وكاتبان, كما جاء في الصحيح "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر, فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون, وتركناهم وهم يصلون". وفي الحديث الآخر "إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع, فاستحيوهم وأكرموهم".
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} والمعقبات من الله هي الملائكة, وقال عكرمة عن ابن عباس {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه, فإذا جاء قدر الله خلوا عنه, وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل, يحفظه فينومه ويقظته من الجن والإنس والهوام, فما منها شيء يأتيه يريده, إلا قال له الملك وراءك, إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه.
وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} قال: ذلك ملك من ملوك الدنيا, له حرس من دونه حرس, وقال العوفي عن ابن عباس: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يعني ولي الشيطان يكون عليه الحرس. وقال عكرمة في تفسيرها: هؤلاء الأمراء المواكب بين يديه ومن خلفه, وقال الضحاك في الآية: هو السلطان المحروس من أمر الله, وهم أهل الشرك, والظاهر ـ والله أعلم ـ أن مراد ابن عباس وعكرمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم.
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير ههنا حديثاً غريباً جداً, فقال حدثني المثنى, حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري, حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ فقال: "ملك على يمينك على حسناتك, وهو أمير على الذي على الشمال, فإذا عملت حسنة كتبت عشراً, وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أكتبها ؟ قال: لا, لعله يستغفر الله ويتوب فيستأذنه ثلاث مرات, فإذا قال ثلاثاً, قال: اكتبها أراحنا الله منه فبئس القرين, ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا, يقول الله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وملكان من بين يديك ومن خلفك, يقول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} الآية وملك قابض على ناصيتك, فإِذا تواضعت لله رفعك, وإذا تجبرت على الله قصمك, وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك, وملكان على عينيك, فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي, ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار, لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار, فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي, وإبليس بالنهار وولده بالليل".
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا سفيان, حدثني منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه, عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة" قالوا: وإياك يارسول الله ؟ قال: "وإياي, ولكن الله أعانني عليه, فلا يأمرني إلا بخير", انفرد بإخراجه مسلم.(2/613)
وقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قيل: المراد حفظهم له من أمر الله, رواه علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس, وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم. وقال قتادة: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قال: وفي بعض القراءات يحفظونه بأمر الله, وقال كعب الأحبار: لو تجلى لابن لآدم كل سهل وكل حزن, لرأى كل شيء من ذلك شياطين, لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذاً لتخطفتم. وقال أبو أمامة: ما من آدمي ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له, وقال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي فقال: احترس: فإن ناساً من مراد يريدون قتلك, فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر, فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه, إن الأجل جنة حصينة.
وقال بعضهم {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بأمر الله, كما جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله, أرأيت رقىَ نسترقي بها, هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال: "هي من قدر الله". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن جهم, عن إبراهيم قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله, إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون, ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. وقد ورد هذا في حديث مرفوع, فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه صفة العرش: حدثنا الحسن بن علي, حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي, حدثنا أبو حنيفة اليماني الأنصاري عن عمير بن عبد الملك قال: خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة قال: كنت إذا أمسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني, وإذا سألته عن الخبر أنبأني, وإنه حدثني عن ربه عز وجل قال: "قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي, ما من قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي, إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي", وهذا غريب, وفي إسناده من لا أعرفه.
{هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السّحَابَ الثّقَالَ وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق, وهو ما يرى من النور اللامع ساطعاً من خلل السحاب. وروى ابن جرير أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق, فقال: البرق الماء. وقوله: {خَوْفاً وَطَمَعاً} قال قتادة: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته, وطمعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله, {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} أي ويخلقها منشأة جديدة, وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض قال مجاهد: السحاب الثقال الذي فيه الماء, قال: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} كقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا إبراهيم بن سعد, أخبرني أبي قال: كنت جالساً إلى جنب حميد بن عبد الرحمن في المسجد, فمر شيخ من بني غفار, فأرسل إليه حميد, فلما أقبل قال: ياابن أخي, وسع فيما بيني وبينك, فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه, فقال له حميد: ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال له الشيخ: سمعت عن شيخ من بني غفار أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق, ويضحك أحسن الضحك" والمراد ـ والله أعلم ـ أن نطقها الرعد(2/614)
وضحكها البرق. وقال موسى بن عبيدة عن سعد بن إبراهيم قال: يبعث الله الغيث فلا أحسن منه مضحكاً, ولا آنس منه منطقاً, فضحكه البرق, ومنطقه الرعد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي عن محمد بن مسلم قال: بلغنا أن البرق ملك له أربعة وجوه: وجه إنسان, ووجه ثور, ووجه نسر, ووجه أسد, فإذا مصع بذنبه فذاك البرق. وقال الإمام أحمد, حدثنا عفان, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا الحجاج, حدثنا أبو مطر عن سالم, عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: " اللهم لا تقتلنا بغضبك, ولا تهلكنا بعذابك, وعافنا قبل ذلك ", ورواه الترمذي والبخاري في كتاب الأدب, والنسائي في اليوم والليلة, والحاكم في مستدركه من حديث الحجاج بن أرطاة, عن أبي مطر ولم يسم به. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد, حدثنا إسرائيل عن أبيه, عن رجل, عن أبي هريرة رفعه, أنه كان إذا سمع الرعد قال: "سبحان من يسبح الرعد بحمده", وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من سبحت له, وكذا روي عن ابن عباس وطاوس والأسود بن يزيد, أنهم كانوا يقولون ذلك. وقال الأوزاعي: كان ابن أبي زكريا يقول: من قال حين يسمع الرعد: سبحان الله وبحمده, لم تصبه صاعقة, وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته, ويقول: إِن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض, رواه مالك في موطئه, والبخاري في كتاب الأدب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الطيالسي, حدثنا صدقة بن موسى حدثنا محمد بن واسع عن شتير بن نهار, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال ربكم عز وجل: لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل, وأطلعت عليهم الشمس بالنهار, ولما أسمعتهم صوت الرعد". وقال الطبراني: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي, حدثنا أبو كامل الجحدري, حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر, حدثنا عبد الكريم, حدثنا عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا سمعتم الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكراً" وقوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء, ولهذا تكثر في آخر الزمان, كما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب, حدثنا عمارة عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول: من صعق تلكم الغداة ؟ فيقولون: صعق فلان وفلان وفلان".
وقد روي في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق, حدثنا علي بن أبي سارة الشيباني, حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب, فقال: "اِذهب فادعه لي". قال: فذهب إليه فقال: يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: من رسول الله, وما الله, أمن ذهب هو, أم من فضة هو, أم من نحاس هو ؟ قال: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: يا رسول الله, قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك, قال لي كذا وكذا, فقال لي: "ارجع إليه الثانية" فذهب فقال له مثلها, فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك, فقال: "ارجع إليه فادعه" فرجع إليه الثالثة, قال: فأعاد عليه ذلك الكلام, فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عز وجل سحابة حيال رأسه, فرعدت فوقعت منها صاعقة, فذهب بقحف رأسه, فأنزل الله عز وجل {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الآية, ورواه ابن جرير من حديث علي بن أبي سارة به.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبدة بن عبد الله عن يزيد بن هارون, عن ديلم بن غزوان, عن ثابت, عن أنس فذكر نحوه, وقال: حدثنا الحسن بن محمد, حدثنا عفان, حدثنا أبان بن يزيد, حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى جبار يدعوه فقال: أرأيتم ربكم أذهب هو ؟ أم فضة هو ؟ أم لؤلؤ(2/615)
هو ؟ قال: فبينما هو يجادلهم إذ بعث الله سحابة فرعدت, فأرسل عليه صاعقة, فذهبت بقحف رأسه, ونزلت هذه الآية. وقال أبو بكر بن عياش عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد قال: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك, من أي شيء هو ؟ من نحاس هو, أم من لؤلؤ أو ياقوت ؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته, وأنزل الله {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الآية.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن, وكذب النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل الله صاعقة فأهلكته, وأنزل الله {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الآية, وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة, لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر, فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له عامر بن الطفيل ـ لعنه الله ـ: أما والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة" يعني الأنصار, ثم إنهما هما بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يخاطبه, والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه, فحماه الله تعالى منهما وعصمه, فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام, فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته, وأما عامر بن الطفيل, فأرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة, فجعل يقول: يا آل عامر غدة كغدة البكر, وموت في بيت سلولية, حتى ماتا لعنهما الله, وأنزل الله في مثل ذلك {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ}, وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخو أربد يرثيه:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالـ ... ـفارس يوم الكريهة النجد
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا مسعدة بن سعيد العطار, حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي, حدثني عبد العزيز بن عمران, حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما, عن عطاء بن يسار, عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن جليد بن جعفر بن كلاب, وعامر بن الطفيل بن مالك, قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه, فقال عامر بن الطفيل: يا محمد, ما تجعل لي إن أسلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم". قال عامر بن الطفيل: أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس ذلك لك ولا لقومك, ولكن لك أعنة الخيل" قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد, اجعل لي الوبر ولك المدر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا", فلما قفلا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمنعك الله", فلما خرج أربد وعامر, قال عامر: يا أربد, أنا أشغل عنك محمداً بالحديث فاضربه بالسيف, فإن الناس إذا قتلت محمداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب, فنعطيهم الدية. قال أربد: أفعل, فأقبلا راجعين إليه, فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك, فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلسا إلى الجدار, ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه, وسل أربد السيف, فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف, فلم يستطع سل السيف, فأبطأ أربد على عامر بالضرب, فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع, فانصرف عنهما, فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحرة ـ حرة راقم ـ نزلا, فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير, فقالا: اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله, فقال عامر: من هذا يا سعد ؟ قال: هذا أسيد بن حضير الكتائب, فخرجا حتى إِذا كانا بالرقم, أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته, وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم أرسل الله قرحة فأخذته, فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول, فجعل يمس قرحته في حلقة ويقول: غدة(2/616)
كغدة الجمل في بيت سلولية, ترغب أن يموت في بيتها, ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعاً, فأنزل الله فيهما {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ـ إلى قوله ـ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر أربد وما قتله به, فقال {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الآية.
وقوله {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} أي يشكون في عظمته, وأنه لا إله إلا هو, {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} قال ابن جرير: شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه, وعتا وتمادى في كفره, وهذه الآية شبيهة بقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}, وعن علي رضي الله عنه {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي شديد الأخذ, وقال مجاهد: شديد القوة.
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ}
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ} قال: التوحيد, رواه ابن جرير. وقال ابن عباس وقتادة ومالك عن محمد بن المنكدر {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ} لا إله إلا الله {وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} الآية, أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} قال علي بن أبي طالب: كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبداً بيده, فكيف يبلغ فاه ؟ وقال مجاهد {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبداً, وقيل: المراد كقابض يده على الماء, فإنه لا يحكم منه على شي, كما قال الشاعر:
فإني وإِياكم وشوقاً إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله
وقال الآخر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الودّ مثل القابض الماء باليد
ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضاً وإما متناولاً له من بعد كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلاً للشرب, فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلهاً غيره, لا ينتفعون بهم أبداً في الدنيا ولا في الآخرة, ولهذا قال {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.
{وَللّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ والآصال}
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه, الذي قهر كل شيء, ودان له كل شيء, ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً على الكافرين {وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ} أي البكر {والآصال} وهو جمع أصيل, وهو آخر النهار, كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} الآية.
{قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُمَاتُ وَالنّورُ أَمْ جَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ}
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو, لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السموات والأرض, وهو ربها(2/617)
ومدبرها, وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم, وأولئك الآلهة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعاً ولا ضراً, أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة, فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله, ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه ؟ ولهذا قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يشابهه شيء, ولا يماثله ولا ند له ولا عدل له ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له, عبيد له, كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك, إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك, وكما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فأنكر تعالى عليهم ذلك حيث اعتقدوا ذلك, وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية, وقال {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} فإذا كان الجميع عبيداً, فلم يعبد بعضهم بعضاً بلا دليل ولا برهان, بل مجرد الرأي والاختراع والابتداع, ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم, تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله, فكذبوهم وخالفوهم, فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
{أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ}
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه, والباطل في اضمحلاله وفنائه, فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي مطراً {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي أخذ كل واد بحسبه, فهذا كبير وسع كثيراً من الماء, وهذا صغير وسع بقدره, وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها, فمنها ما يسع علماً كثيراً, ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه, هذا مثل.
وقوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} الآية, هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ابتغاء حلية, أي ليجعل حلية نحاس أو حديد, فيجعل متاعاً, فإنه يعلوه زبد منه كما يعلو ذلك زبد منه {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي إذا اجتمعا, لا ثبات للباطل ولا دوام له, كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة, ونحوهما مما يسبك في النار, بل يذهب ويضمحل, ولهذا قال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق, ويذهب في جانبي الوادي, ويعلق بالشجر, وتنسفه الرياح, وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس, يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء, وذلك الذهب ونحوه ينتفع به, ولهذا قال: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}(2/618)
وقال بعض السلف: كنت إِذا قرأت مثلاً من القرآن فلم أفهمه, بكيت على نفسي, لأن الله تعالى يقول {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الآية, هذا مثل ضربه الله, احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها, فأما الشك فلا ينفع معه العمل, وأما اليقين فينفع الله به أهله وهو قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ} وهو الشك, {فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وهو اليقين, وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار, فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك, وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} يقول: احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد, فللنحاس والحديد خبث, فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء, فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة, وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت, فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله, والعمل السيء يضمحل عن أهله, كما يذهب هذا الزبد, وكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله, فمن عمل بالحق كان له وبقي, كما بقي ما ينفع الناس في الأرض, وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار, فتأكل خبثه, ويخرج جيده فينتفع به, فكذلك يضمحل الباطل, فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال, فيزيغ الباطل ويهلك, وينتفع أهل الحق بالحق, وهكذا روي في تفسيرها عن مجاهد والحسن البصري وعطاء وقتادة, وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين: نارياً ومائياً وهما قوله {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} الآية, ثم قال {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} الآية, وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين (أحدهما) قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الآية, والسراب إنما يكون في شدة الحر, ولهذا جاء في الصحيحين: فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون ؟ فيقولون: أي ربنا عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون ؟ فيردون النار فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضاً. ثم قال تعالى في المثل الآخر : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} الآية, وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم, كمثل غيث أصاب أرضاً, فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها أجادب أمسكت الماء, فنفع الله بها الناس, فشربوا, ورعوا, وسقوا, وزرعوا, وأصابت طائفة منها أخرى, إِنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به, فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" فهذا مثل مائي. وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله, جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها, وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ـ قال ـ: فذلكم مثلي ومثلكم, أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار, فتغلبوني فتقتحمون فيها" وأخرجاه في الصحيحين أيضاً, فهذا مثل ناري.
{لِلّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَىَ وَالّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنّ لَهُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ سُوَءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(2/619)
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال: {لِلّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ} أي أطاعوا الله ورسوله, وانقادوا لأوامره, وصدقوا أخباره الماضية والآتية, فلهم {الْحُسْنَىَ} وهو الجزاء الحسن, كقوله تعالى مخبراً عن ذي القرنين أنه قال: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}, وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. وقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أي لم يطيعوا الله, {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أي في الدار الآخرة لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهباً ومثله معه لافتدوا به, ولكن لا يقبل منهم, لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} أي في الدار الآخرة. أي يناقشون على النقير والقطمير, والجليل والحقير, ومن نوقش الحساب عذب, ولهذا قال {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُواْ الألْبَابِ}
يقول تعالى لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي {أُنزِلَ إِلَيْكَ} يا محمد {مِن رَبّكَ} هو الحق الذي لا شك فيه, ولا مرية, ولا لبس فيه, ولا اختلاف فيه, بل هو كله حق يصدق بعضه بعضاً, لا يضاد شيء منه شيئاً آخر, فأخباره كلها حق, وأوامره ونواهيه عدل, كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقاً في الإخبار, وعدلاً في الطلب, فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد, ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه, ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه ولا اتبعه كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقال في هذه الآية الكريمة: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} أي أفهذا كهذا ؟ لا استواء. وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة, جعلنا الله منهم.
{الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ أُوْلََئِكَ لَهُمْ عُقْبَىَ الدّارِ جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ}
يقول تعالى مخبراً عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار, وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وليسوا كالمنافقين الذين إِذا عاهد أحدهم غدر, وإذا خاصم فجر, وإذا حدث كذب, وإذا ائتمن خان {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} من صلة الأرحام والإحسان إليهم, وإلى الفقراء والمحاويج, وبذل المعروف, {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال, ويراقبون الله في ذلك, ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة, فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم, وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي عن المحارم والمآثم, ففطموا أنفسهم عنها لله عز وجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها, على الوجه الشرعي المرضي {وَأَنْفَقُوا مِمَّا(2/620)
رَزَقْنَاهُمْ} أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب من فقراء ومحاويج ومساكين {سِرّاً وَعَلانِيَةً} أي في السر والجهر, لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال, آناء الليل وأطراف النهار {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون القبيح بالحسن, فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبراً واحتمالاً وصفحاً وعفواً, كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}, ولهذا قال مخبراً عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار, ثم فسر ذلك بقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} والعدن الإقامة, أي جنات إقامة يخلدون فيها, وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: إن في الجنة قصراً يقال له عدن, حوله البروج والمروج, فيه خمسة آلاف باب, على كل باب خمسة آلاف حبرة, لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال الضحاك في قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: مدينة الجنة, فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى, والناس حولهم بعد والجنات حولها, رواهما ابن جرير. وقوله: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء, ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين, لتقر أعينهم بهم حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتناناً من الله وإحساناً من غير تنقيص للأعلى عن درجته, كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية.
وقوله {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة, فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين, مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام. وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثني سعيد بن أبي أيوب, حدثنا معروف بن سويد الحراني عن أبي عشانة المعافري, عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور, وتتقى بهم المكاره, ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء, فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم, فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك, أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم ؟ فيقول: إنهم كانوا عباداً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً, وتسد بهم الثغور, وتتقى بهم المكاره, ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ـ قال ـ: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}".
رواه أبو القاسم الطبراني عن أحمد بن رشدين, عن أحمد بن صالح, عن عبد الله بن وهب, عن عمرو بن الحارث, عن أبي عشانة سمع عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره, وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا, وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره, وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها, فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي, وأوذوا في سبيلي,وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب. وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار, ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل: هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي, وأوذوا في سبيلي, فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}".
وقال عبد الله بن المبارك عن بقية بن(2/621)
الوليد: حدثنا أرطاة بن المنذر, سمعت رجلاً من مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكته إذا دخل الجنة, وعنده سماطان من خدم, وعند طرف السماطين باب مبوب, فيقبل الملك فيستأذن فيقول للذي يليه ملك يستأذن, ويقول الذي يليه للذي يليه ملك يستأذن, حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا, فيقول أقربهم للمؤمن: ائذنوا له, ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا له, حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب, فيفتح له, فيدخل فيسلم ثم ينصرف, رواه ابن جرير. ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش, عن أرطاة بن المنذر عن أبي الحجاج يوسف الإلهاني قال: سمعت أبا أمامة فذكر نحوه. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول فيقول لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان.
{وَالّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُوْلََئِكَ لَهُمُ اللّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوَءُ الدّارِ}
هذا حال الأشقياء وصفاتهم, وذكر ما لهم في الآخرة, ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون, كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا, فأولئك كانوا يوفون بعهد الله, ويصلون ما أمر الله به أن يوصل, وهؤلاء {وَالّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} كما ثبت في الحديث "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان" . وفي رواية "وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر", ولهذا قال {أُوْلََئِكَ لَهُمُ اللّعْنَةُ} وهي الإبعاد عن الرحمة , {وَلَهُمْ سُوَءُ الدّارِ} وهي سوء العاقبة والمآل, {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}. وقال أبو العالية في قوله تعالى: {وَالّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ} الآية, قال: هي ست خصال في المنافقين, إذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا ائتمنوا خانوا, ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل, وأفسدوا في الأرض, وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال: إذا حدثوا كذبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا.
{اللّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الآخرة إِلاّ مَتَاعٌ وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء, ويقتر على من يشاء, لما له في ذلك من الحكمة والعدل, وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجاً لهم وإمهالاً, كما قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة, فقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}, كما قال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} وقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد, قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس, عن المستودر أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم, فلينظر بم ترجع" وأشار بالسبابة, رواه مسلم في صحيحه. وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك ميت, والأسك الصغير الأذنين, فقال: "والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه".(2/622)
{الّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ طُوبَىَ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}
يخبر تعالى عن قيل المشركين {لَوْلا} أي هلا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}, كقولهم {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}. وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة, وأن الله قادر على إجابة ما سألوا, وفي الحديث إن الله أوحى إلى رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهباً, وأن يجري لهم ينبوعاً, وأن يزيح الجبال من حول مكة, فيصير مكانها مروج وبساتين: إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك, فإن كفروا أعذبهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة, فقال: "بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة", ولهذا قال لرسوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي هو المضل والهادي سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا أو لم يجبهم إلى سؤالهم, فإن الهداية والإضلال ليس منوطاً بذلك ولا عدمه, كما قال: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} , ولهذا قال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي ويهدي إليه من أناب إلى الله ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه {الذين آمنوا الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي تطيب وتركن إلى جانب الله, وتسكن عند ذكره, وترضى به مولى ونصيراً, ولهذا قال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي هو حقيق بذلك.
وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: فرح وقرة عين. وقال عكرمة: نعم ما لهم. وقال الضحاك: غبطة لهم. وقال إبراهيم النخعي: خير لهم. وقال قتادة: هي كلمة عربية, يقول الرجل: طوبى لك, أي أصبت خيراً. وقال في رواية: طوبى لهم حسنى لهم, {وَحُسْنُ مَآبٍ} أي مرجع, وهذه الأقوال شيء واحد, لا منافاة بينها. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس {طُوبَى لَهُمْ} قال: هي أرض الجنة بالحبشية, وقال سعيد بن مسجوح: طوبى اسم الجنة بالهندية, وكذا روى السدي عن عكرمة: طوبى لهم هي الجنة, وبه قال مجاهد. وقال العوفي عن ابن عباس: لما خلق الله الجنة وفرغ منها, قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} وذلك حين أعجبته.
وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد, حدثنا يعقوب عن جعفر, عن شهر بن حوشب قال: طوبى شجرة في الجنة, كل شجر الجنة منها, أغصانها من وراء سور الجنة, وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس ومغيث بن سليمان وأبي إسحاق السبيعي, وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار منها غصن منها. وذكر بعضهم أن الرحمن تبارك وتعالى غرسها بيده من حبة لؤلؤة, وأمرها أن تمتد, فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى, وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة من عسل وخمر وماء ولبن. وقد قال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري, مرفوعاً "طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة, ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, سمعت عبد الله بن لهيعة, حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله: طوبى لمن رآك وآمن بك, قال: "طوبى لمن رآني وآمن بي, وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني" قال له رجل: وما طوبى ؟ قال: "شجرة في الجنة مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". وروى البخاري ومسلم جميعاً عن إسحاق بن راهويه,(2/623)
عن مغيرة المخزومي عن وهيب عن أبي حازم, عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" قال: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي, فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها".
وفي صحيح البخاري من حديث يزيد بن زريع عن سعيد, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} قال: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها". وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا فليح عن هلال بن علي, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة, اقرأوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}. أخرجاه في الصحيحين. وفي لفظ لأحمد أيضاً: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج, قالا: حدثنا شعبة: سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ـ أو مائة سنة ـ هي شجرة الخلد". وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سدرة المنتهى, فقال: "يسير في ظل الغصن منها الراكب مائة سنة ـ أو قال ـ يستظل في الفنن منها مائة راكب, فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال" رواه الترمذي.
وقال إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف, عن يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلام الأسود قال: سمعت أبا أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى, فتفتح له أكمامها فيأخذ من أي ذلك شاء, إن شاء أبيض وإن شاء أحمر, وإن شاء أصفر, وإن شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن", وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر, عن أشعث بن عبد الله, عن شهر بن حوشب, عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: طوبى شجرة في الجنة, يقول الله لها: تفتقي لعبدي عما شاء, فتفتق له عن الخيل بسروجها ولجمها, وعن الإبل بأزمتها, وعما شاء من الكسوة.
وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه ههنا أثراً غريباً عجيباً, قال وهب رحمه الله: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى, يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها, زهرها رياط, وورقها برود, وقضبانها عنبر, وبطحاؤها يا قوت, وترابها كافور, ووحلها مسك, يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل, وهي مجلس لأهل الجنة, فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجباً مزمومة, بسلاسل من ذهب, وجوهها كالمصابيح حسناً, ووبرها كخز المرعزي من لينه, عليها رحال ألواحها من ياقوت, ودفوفها من ذهب, وثيابها من سندس وإستبرق, فينيخونها يقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه. قال: فيركبونها فهي أسرع من الطائر, وأوطأ من الفراش, نجباً من غير مهنة, يسير الرجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه, لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى, ولا برك رحلة برك الأخرى, حتى إن الشجرة لتتنحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه, قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه, فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام وحق لك الجلال والإكرام, قال: فيقول تعالى عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي, مرحباً بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا أمري, قال: فيقولون: ربنا لم نعبدك حق عبادتك, ولم نقدرك حق قدرك, فأذن لنا في السجود قدامك. قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة, ولكنها دار ملك ونعيم, وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة, فسلوني ما شئتم, فإن لكل رجل منكم أمنيته, فيسألونه حتى أن أقصرهم أمنية ليقول: ربي تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها رب فآتني مثل كل شيء كانوا فيها من يوم خلقتها إلى أن انتهت(2/624)
الدنيا, فيقول الله تعالى: لقد قصرت بك أمنيتك, ولقد سألت دون منزلتك, هذا لك مني, وسأتحفك بمنزلتي لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد, قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم, ولم يخطر لهم على بال, قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم, فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة, على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة, على كل سرير منها قبة من ذهب, مفرغة في كل قبة منها فرش من فرش الجنة, متظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين, على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة, وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما, ولا ريح ولا طيب إلا قد عبق بهما, ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة, يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل, ويرى هو لهما مثل ذلك ويدخل إليهما فيحييانه, ويقبلانه, ويتعلقان به, ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفاً في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له,
وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه, وزاد: فانظروا إلى موهوب ربكم الذي وهب لكم, فإذا هو بقباب في الرفيق الأعلى, وغرف مبنية من الدر والمرجان, أبوابها من ذهب, وسررها من ياقوت, وفرشها من سندس وإستبرق, ومنابرها من نور يفور من أبوابها, وعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء, وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها, فلولا أنه مسخر إذاً لالتمع الأبصار, فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض, وما كان فيها من الياقوت الأحمر فهو مفروش بالعبقري الأحمر, وما كان فيها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر, وما كان فيها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر, مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء, قوائمها وأركانها من الجوهر, وشرفها قباب من لؤلؤ, وبروجها غرف من المرجان, فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم, قربت لهم براذين من ياقوت أبيض, منفوخ فيها الروح, تجنبها الولدان المخلدون بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين, ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت, سروجها سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق, فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم ببطن رياض الجنة, فلما انتهوا إلى منازلهم, وجدوا الملائكة قعوداً على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم, فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم, وما سألوا وتمنوا, وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان, وجنتان مدهامتان, وفيهما عينان نضاختان, وفيهما من كل فاكهة زوجان, وحور مقصورات في الخيام, فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم, قال لهم ربهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ قالوا: نعم وربنا. قال: هل رضيتم ثواب ربكم ؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا. قال: برضاي عنكم حللتم داري, ونظرتم إلى وجهي, وصافحتكم ملائكتي, فهنيئاً لكم, {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ليس فيه تنغيص ولا تصريد, فعند ذلك قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, وأدخلنا دار المقامة من فضله, لا يمسنا فيها نصب, ولا يمسنا فيها لغوب, إن ربنا لغفور شكور, وهذا سياق غريب, وأثر عجيب, ولبعضه شواهد, ففي الصحيحين أن الله تعالى يقول لذلك الرجل يكون آخر أهل الجنة دخولاً الجنة: "تمنّ, فيتمنى, حتى إذا انتهت به الأماني يقول الله تعالى: تمن من كذا, وتمن من كذا, يذكره, ثم يقول: ذلك لك وعشرة أمثاله" .
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم(2/625)
وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر". الحديث بطوله, وقال خالد بن معدان: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى, لها ضروع كلها ترضع صبيان أهل الجنة, وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة, فيبعث ابن أربعين سنة, رواه ابن أبي حاتم.
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيَ أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمََنِ قُلْ هُوَ رَبّي لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}
يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة {لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي تبلغهم رسالة الله إليهم, كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله, وقد كذب الرسل من قبلك بهم أسوة, وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك, فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم, فإن تكذيبهم لك أشد من تكذيب غيرك من المرسلين, قال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية, وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} أي كيف نصرناهم, وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة.
وقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به, لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم, ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم, وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم, قاله قتادة, والحديث في صحيح البخاري. وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن" {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي هذا الذي تكفرون به, أنا مؤمن به معترف, مقر له بالربوبية والألوهية, هو ربي لا إله إلا هو {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي في جميع أموري, {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي إليه أرجع وأنيب, فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه.
{وَلَوْ أَنّ قُرْآناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَىَ بَل للّهِ الأمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوَاْ أَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلّ قَرِيباً مّن دَارِهِمْ حَتّىَ يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
يقول تعالى مادحاً للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ومفضلاً له على سائر الكتب المنزلة قبله {وَلَوْ أَنّ قُرْآناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها, أو تقطع به الأرض وتنشق, أو تكلم به الموتى في قبورهم, لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره, أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله, ولا بسورة من مثله, ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به, جاحدون له {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} أي مرجع الأمور كلها إلى الله عز وجل, ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن, ومن يضلل الله فلا هادي له, ومن يهد الله فما له من مضل, وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة, لأنه مشتق من الجميع.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه. قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال(2/626)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خففت على داود القراءة فكان يأمر بدابته أن تسرج, فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته, وكان لا يأكل إلا من عمل يديه" انفرد بإخراجه البخاري. والمراد بالقرآن هو الزبور. وقوله {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي من إيمان جميع الخلق ويعلموا, أو يتبينوا {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة", معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته, وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا منجاب بن الحارث, أنبأنا بشر بن عمارة, حدثنا عمر بن حسان عن عطية العوفي قال: قلت له: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية, قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع, فنحرث فيها, أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح, أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه, فأنزل الله هذه الآية, قال: قلت: هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم, وكذا روى ابن عباس والشعبي وقتادة والثوري وغير واحد في سبب نزول هذه الآية, والله أعلم. وقال قتادة: لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم.
وقوله {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} قال ابن عباس: أي لا يصنع من ذلك إلا ما شاء ولم يكن ليفعل, رواه ابن إسحاق بسنده عنه, وقاله ابن جرير أيضاً. وقال غير واحد من السلف في قوله {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا}: أفلم يعلم الذين آمنوا, وقرأ آخرون: أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. وقال أبو العالية: قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا, ولو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. وقوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} أي بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا أو تصيب من حولهم, ليتعظوا ويعتبروا, كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُون}. قال قتادة عن الحسن {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} أي القارعة وهذا هو الظاهر من السياق.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن قتادة عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال: سرية, {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} قال محمد صلى الله عليه وسلم: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} قال: "فتح مكة", وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في رواية, وقال العوفي عن ابن عباس {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال: عذاب من السماء ينزل عليهم {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} يعني نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم, وكذا قال مجاهد وقتادة. وقال عكرمة في رواية عن ابن عباس {قَارِعَةٌ} أي نكبة. وكلهم قال {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} يعني فتح مكة. وقال الحسن البصري: يوم القيامة, وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}(2/627)
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} أي فلك فيهم أسوة {فَأَمْلَيْتُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ} أي أنظرتهم وأجلتهم, {ثُمّ أَخَذْتُهُمْ} أخذة رابية, فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم وأمليت لهم, كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} وفي الصحيحين "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدّواْ عَنِ السّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
يقول تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر, ولا يخفى عليه خافية {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} , وقال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}, وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}, وقال: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}, وقال: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}, وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها, لا تسمع ولا تبصر, ولا تعقل, ولا تملك نفعاً لأنفسها ولا لعابديها, ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها ؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} أي عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي أعلمونا بهم, واكشفوا عنهم حتى يعرفوا, فإنهم لا حقيقة لهم, ولهذا قال: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} أي لا وجود له, لأنه لو كان له وجود في الأرض لعلمها, لأنه لا تخفى عليه خافية {مْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} قال مجاهد: بظن من القول. وقال الضحاك وقتادة: بباطل من القول, أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} {ببَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} قال مجاهد: قولهم أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار كقوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ} الآية, {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} من قرأها بفتح الصاد معناه أنه لما زين لهم ما هم فيه, وأنه حق دعوا إليه, وصدوا الناس عن اتباع طريق الرسل, ومن قرأها بالضم أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه, صدوا به عن سبيل الله, ولهذا قال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} كما قال {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} وقال {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
{لّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقّ وَمَا لَهُم مّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلّهَا تِلْكَ عُقْبَىَ الّذِينَ اتّقَواْ وّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النّارُ}
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار, فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر(2/628)
والشرك {لّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا} أي بأيدي المؤمنين قتلاً وأسراً, {وَلَعَذَابُ الآخرة} أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا {أَشَقّ} أي من هذا بكثير, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: "إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة" وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه, فإن عذاب الدنيا له انقضاء, وذاك دائم أبداً في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفاً, ووثاق لا يتصور كثافته وشدته, كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}, وقال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً ً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً}, ولهذا قرن هذا بقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفتها ونعتها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي سارحة في أرجائها وجوانبها, وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيراً, أي يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا, كقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ} الآية.
وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء, وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف, وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا, ثم رأيناك تكعكعت, فقال: "إني رأيت الجنة ـ أو أريت الجنة ـ فتناولت منها عنقوداً, ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا". وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا عبيد الله, حدثنا أبو عقيل عن جابر قال: بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا, ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر, فلما قضى الصلاة, قال له أبي بن كعب: يا رسول الله, صنعت اليوم في الصلاة شيئاً ما رأيناك كنت تصنعه, فقال: "إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة, فتناولت منها قطفاً من عنب لآتيكم به, فحيل بيني وبينه, ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه". وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر شاهداً لبعضه, وعن عتبة بن عبد السلمي أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة, فقال: فيها عنب ؟ قال: "نعم". قال: فما عظم العنقود ؟ قال: "مسيرة شهر للغراب الأبقع ولا يفتر", رواه الإمام أحمد.
وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى, حدثنا علي بن المديني, حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور, عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء, عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى". وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأكل أهل الجنة ويشربون, ولا يتمخطون ولا يتغوطون, ولا يبولون, طعامهم جشاء كريح المسك, ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس" رواه مسلم, وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن تمام بن عقبة, سمعت زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم: تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ؟ قال: "نعم, والذي نفس محمد بيده, إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة" . قال: إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة, وليس في الجنة أذى ؟ قال: "تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه" رواه الإمام أحمد والنسائي.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج, عن عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة, فيخر بين يديك مشوياً" وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه عاد طائراً كما كان بإذن الله تعالى, وقد قال الله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ}, وقال {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص, كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا(2/629)
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً}.
وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها" ثم قرأ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار, ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}. كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}. وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه: عباد الله, هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئاً من عبادتكم تقبلت منكم, أو أن شيئاً من خطاياكم غفرت لكم ؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} , والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لا ستقللتم كلكم ما افترض عليكم, أو ترغبون في طاعة الله لتعجيل دنياكم ولا تنافسون في جنة {أُكُلُهَا دَائِمٌ} رواه ابن أبي حاتم.
{وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلآ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ وَاقٍ}
يقول تعالى: {وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وهم قائمون بمقتضاه {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به, كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} الآية, وقال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ـ إلى قوله ـ إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لحقاً وصدقاً مفعولاً لا محالة وكائناً, فسبحانه ما أصدق وعده, فله الحمد وحده {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} وقوله {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} أي ومن الطوائف من يكذب ببعض ما أنزل إليك. وقال مجاهد { وَمِنَ الْأَحْزَابِ} أي اليهود والنصارى {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} أي بعض ما جاءك من الحق, وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهذا كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية, {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أي إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له, كما أرسل الأنبياء من قبلي {إِلَيْهِ أَدْعُو} إلى سبيله أدعو الناس {وَإِلَيْهِ مَآبِ} أي مرجعي ومصيري.
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين, وأنزلنا عليهم الكتب من السماء, كذلك أنزلنا عليك القرآن محكماً معرباً, شرفناك به, وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} أي آراءهم {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي من الله سبحانه {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية, على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرّيّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمّ الْكِتَابِ}(2/630)
يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد رسولاً بشرياً, كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشراً, يأكلون الطعام, ويمشون في الأسواق, ويأتون الزوجات, ويولد لهم, وجعلنا لهم أزواجاً وذرية, وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ} وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما أنا فأصوم وأفطر, وأقوم وأنام, وآكل اللحم, وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أنبأنا الحجاج بن أرطاة عن مكحول قال: قال أبو أيوب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من سنن المرسلين: التعطر والنكاح. والسواك, والحناء". وقد رواه أبو عيسى الترمذي عن سفيان بن وكيع عن حفص بن غياث, عن الحجاج, عن مكحول, عن أبي الشمال, عن أبي أيوب فذكره, ثم قال: وهذا أصح من الحديث الذي لم يذكر فيه أبو الشمال.
وقوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لم يكن يأتي قومه بخارق إلا إذا أذن له فيه, ليس ذلك إليه بل إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل مدة مضروبة, كتاب مكتوب بها, وكل شيء عنده بمقدار { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل كتاب أجل, يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله, ومقدار معين, فلهذا {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} منها, {وَيُثْبِتُ} يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه. وقوله {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} اختلف المفسرون في ذلك فقال الثوري ووكيع وهشيم عن ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير! عن ابن عباس: يدبر أمر السنة, فيمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت, وفي رواية {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قال: كل شيء إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة, فإنهما قد فرغ منهما.
وقال مجاهد {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} إلا الحياة والموت والشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران. وقال منصور: سألت مجاهداً, فقلت: أرأيت دعاء أحدنا يقول: اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم, وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم, واجعله في السعداء ؟ فقال: حسن: ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر, فسألته عن ذلك فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} الآيتين, قال: يقضي في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة, ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء, فأما كتاب السعادة والشقاوة فهو ثابت لا يغير, وقال الأعمش, عن أبي وائل شقيق بن سلمة: إنه كان كثيراً ما يدعو بهذا الدعاء: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء, فامحه واكتبنا سعداء, وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت, وعندك أم الكتاب, رواه ابن جرير, وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام, حدثنا أبي عن أبي حكيمة عصمة, عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي: اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنباً فامحه, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت, وعندك أم الكتاب, فاجعله سعادة ومغفرة.
وقال حماد عن خالد الحذاء, عن أبي قلابة, عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضاً. ورواه شريك عن هلال بن حميد, عن عبد الله بن عكيم, عن ابن مسعود بمثله. وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا حجاج, حدثنا خصاف عن أبي حمزة, عن إبراهيم, أن كعباً قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين, لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وما هي ؟ قال: قول الله تعالى:(2/631)
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} الآية, ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها, ويثبت منها ما يشاء, وقد يستأنس لهذا القول بما ورواه الإمام احمد: حدثنا وكيع, وحدثنا سفيان هو الثوري, عن عبد الله بن عيسى, عن عبد الله بن أبي الجعد, عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه, ولا يرد القدر إلا الدعاء, ولا يزيد في العمر إلا البر", ورواه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان الثوري به.
وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر. وفي حديث آخر "إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض". وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سهل بن عسكر, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا ابن جرير عن عطاء, عن ابن عباس قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت ـ والدفتان: لوحان ـ لله عز وجل, كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة, يمحو ما يشاء ويثبت, وعنده أم الكتاب. وقال الليث بن سعد عن زيادة بن محمد, عن محمد بن كعب القرظي, عن فضالة بن عبيد, عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل, في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت" وذكر تمام الحديث, رواه ابن جرير.
وقال الكلبي: يمحو الله ما يشاء ويثبت, قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه, ويمحو من الأجل ويزيد فيه, فقيل له: من حدثك بهذا ؟ فقال: أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب, عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية, فقال: يكتب القول كله حتى إذ كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب, مثل قولك: أكلت وشربت, ودخلت وخرجت, ونحو ذلك من الكلام, وهو صادق, ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب, وقال عكرمة عن ابن عباس: الكتاب كتابان, فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت, وعنده أم الكتاب,
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يقول: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله, فيموت على ضلالة, فهو الذي يمحو, والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله, وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله وهو الذي يثبت, وروي عن سعيد بن جبير أنها بمعنى {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} يقول: يبدل ما يشاء فينسخه, ويثبت ما يشاء فلا يبدله, {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ, وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب, وقال قتادة في قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} كقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الآية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قال: قالت كفار قريش لما نزلت {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}: ما نرى محمداً يملك شيئاً وقد فرغ من الأمر, فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم, إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا, ونحدث في كل رمضان, فيمحو ما يشاء, ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم.
وقال الحسن البصري {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قال: من جاء أجله يذهب, ويثبت الذي هو حي يجري إلى أجله, وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه الله, وقوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال: الحلال والحرام, وقال قتادة: أي جملة الكتاب وأصله, وقال الضحاك {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال: كتاب عند رب العالمين, وقال سنيد بن داود: حدثني معتمر عن أبيه, عن يسار, عن ابن عباس أنه سأل كعباً عن أم الكتاب, فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون, ثم قال لعلمه: كن كتاباً فكان كتاباً, وقال ابن جريج عن ابن عباس {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال: الذكر.
{وَإِن مّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا نَأْتِي(2/632)
الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
يقول تعالى لرسوله {وَإِن مّا نُرِيَنّكَ} يا محمد, بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا {أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ} أي قبل ذلك, {فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله, وقد فعلت ما أمرت به {فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} أي حسابهم وجزاؤهم, كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال ابن عباس: أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض, وقال في رواية: أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية. وقال مجاهد وعكرمة: ننقصها من أطرافها, قال: خرابها. وقال الحسن والضحاك: هو ظهور المسلمين على المشركين. وقال العوفي عن ابن عباس: نقصان أهلها وبركتها. وقال مجاهد: نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض. وقال الشعبي: لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك, ولكن تنقص الأنفس والثمرات, وكذا قال عكرمة: لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكاناً تقعد فيه, ولكن هو الموت. وقال ابن عباس في رواية: خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها, وكذا قال مجاهد أيضاً: هو موت العلماء, وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم المصري الواعظ سكن أصبهان, حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق, أنشدنا أبو بكر الآجري بمكة قال: أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها ... متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها ... وإن أبى عاد في أكنافها التلف
والقول الأول أولى, وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية, كقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} الآية, وهذا اختيار ابن جرير.
{وَقَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدّارِ}
يقول تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} برسلهم, وأرادوا إخراجهم من بلادهم, فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين, كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}, وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} الآيتين. وقوله: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ}, والقراءة الأخرى الكفار, {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل, كلا, بل هي لأتباع الرسل في الدنيا والآخرة, ولله الحمد والمنة.
{وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(2/633)
يقول تعالى: يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون: {لَسْتَ مُرْسَلاً} أي ما أرسلك الله {كَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم. شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة, وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان, وقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قيل: نزلت في عبد الله بن سلام, قاله مجاهد, وهذا القول غريب, لأن هذه الآية مكية, وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال: هم من اليهود والنصارى, وقال قتادة: منهم ابن سلام وسلمان وتميم الداري, وقال مجاهد في رواية عنه: هو الله تعالى, وكان سعيد بن جبير ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ويقول: هي مكية, وكان يقرؤها {ومن عنده عُلِمَ الكتاب} ويقول: من عند الله, وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري.
وقد روى ابن جرير من حديث هارون الأعور عن الزهري عن سالم, عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها {ومن عنده عُلِمَ الكتاب}, ثم قال: لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات, قلت, وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من طريق هارون بن موسى هذا, عن سليمان بن أرقم, وهو ضعيف, عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعاً كذلك ولا يثبت, والله أعلم, والصحيح في هذا أن {وَمَنْ عِنْدَهُ} اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به, كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الآية: وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} الآية, وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة. وقد ورد في حديث الأحبار عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة.
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة وهو كتاب جليل: حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني, حدثنا عبدان بن أحمد, حدثنا محمد بن مصفى, حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة يوسف بن عبد الله بن سلام, عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام أنه قال لأحبار اليهود: إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عيداً, فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة, فوافاهم وقد انصرفوا من الحج, فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس حوله, فقام مع الناس, فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنت عبد الله بن سلام ؟" قال قلت: نعم, قال : "ادن". قال: فدنوت منه. قال: " أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام, أما تجدني في التوراة رسول الله ؟" فقلت له: انعت ربنا, قال: فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} إلى آخرها, فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة, فكتم إسلامه, فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجذها, فألقيت نفسي, فقالت أمي: لله أنت, لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة, فقلت: والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسى بن عمران إذ بعث, وهذا حديث غريب جداً. آخر تفسير سورة الرعد, و لله الحمد والمنة.(2/634)
سورة إبراهيم
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الآخرة وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلََئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أي هذا كتاب أنزلنا إليك يا محمد, وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء, على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم {لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ} أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد, كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} الآية. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الآية.
وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ}, أي العزيز الذين لا يمانع ولا يغالب, بل هو القاهر لكل ما سواه, {الْحَمِيدِ} أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وأمره ونهيه الصادق في خبره. وقوله: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قرأ بعضهم مستأنفاً مرفوعاً وقرأ آخرون على الإتباع صفة للجلالة, كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية. وقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك, ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة, أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا, ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهي اتباع الرسل {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة عائلة, وهي مستقيمة في نفسها لا يضرها من خالفها, ولا من خذلها فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق, لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم, ليفهموا عنهم ما يريدون, وما أرسلوا به إليهم, كما روى الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد عن أبي ذر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يبعث الله عز وجل نبياً إلا بلغة قومه". وقوله: {فَيُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم, يضل الله من يشاء عن وجه الهدى, ويهدي من يشاء إلى الحق {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, {الْحَكِيمُ} في أفعاله, فيضل من يستحق الإضلال ويهدي من هو(2/635)
أهل لذلك, وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبياً في أمة إلا أن يكون بلغتهم, فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم, واختص محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة إلى سائر الناس, كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وله شواهد من وجوه كثيرة. وقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَذَكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ}
يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم, تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور, كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا, قال مجاهد: هي التسع الآيات {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} أي أمرناه قائلين له {أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ} أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان, {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه, وإنجائه إياهم من عدوهم, وفلقه لهم البحر, وتظليله إياهم بالغمام, وإنزاله عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من النعم, قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد, وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم, حدثنا محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} قال: بنعم الله, ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث محمد بن أبان به, ورواه عبد الله ابنه أيضاً موقوفاً وهو أشبه.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة لكل صبار, أي في الضراء شكور أي في السراء, كما قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر, وإذا أعطي شكر. وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أمر المؤمن كله عجب, لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته ضراء صبر, فكان خيراً له, وإن أصابته سراء شكر, فكان خيراً له".
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذّنَ رَبّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَىَ إِن تَكْفُرُوَاْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعاً فَإِنّ اللّهَ لَغَنِيّ حَمِيدٌ}
يقول تعالى مخبراً عن موسى حين ذكر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم, إذ أنجاهم من آل فرعون, وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال, حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم, ويتركون إناثهم,(2/636)
فأنقذهم الله من ذلك, وهذه نعمة عظيمة, ولهذا قال: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك, أنتم عاجزون عن القيام بشكرها وقيل: وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل {بَلاءٌ} أي اختبار عظيم, ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا, والله أعلم, كقوله تعالى : {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. وقوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم, ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه, كقوله تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها, {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}, وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها, وقد جاء في الحديث "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه". وفي المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, مر به سائل فأعطاه تمرة, فسخطها ولم يقبلها, ثم مر به آخر فأعطاه إياها, فقبلها وقال: تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمر له بأربعين درهماً, أو كما قال: قال الإمام أحمد: حدثنا أسود, حدثنا عمارة الصيدلاني عن ثابت عن أنس, قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها أو وحش بها ـ قال ـ: وأتاه آخر فأمر له بتمرة, فقال: سبحان الله تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال للجارية: "اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهماً التي عندها" تفرد به الإمام أحمد, وعمارة بن زادان وثقه ابن حبان وأحمد ويعقوب بن سفيان. وقال ابن معين: صالح. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به, ليس بالمتين. وقال البخاري: ربما يضطرب في حديثه, وعن أحمد أيضاً أنه قال: روى أحاديث منكرة. وقال أبو داود: ليس بذاك وضعفه الدارقطني. وقال ابن عدي: لا بأس به ممن يكتب حديثه.
وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي هو غني عن شكر عباده, وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره, كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} الآية. وقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيد}. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم, ما زاد ذلك في ملكي شيئاً, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم, ما نقص ذلك في ملكي شيئاً, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد, فسألوني, فأعطيت كل إنسان مسألته, ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" فسبحانه وتعالى الغني الحميد.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاّ اللّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فِيَ أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوَاْ إِنّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنّا لَفِي شَكّ مّمّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ}
قال ابن جرير: هذا من تمام قول موسى لقومه يعني وتذكيره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل, وفيما قال ابن جرير نظر, والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة, فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة, فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم, لا شك أن تكون هاتان(2/637)
القصتان في التوراة, والله أعلم, وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات, وقال ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله أنه قال في قوله: {لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} كذب النسابون. وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحداً يعرف ما بعد معد بن عدنان.
وقوله: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} اختلف المفسرون في معناه, قيل: معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل بأمرهم بالسكوت عنهم لما دعوهم إلى الله عز وجل. وقيل: بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم. وقيل: بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل. وقال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة: ومعناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم. قال ابن جرير: وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء, قال: وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة, وقال الشاعر:
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ... ولكنني عن سنبس لست أرغب
يريد أرغب بها. قلت: ويؤيد مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فكأن هذا ـ والله أعلم ـ تفسير لمعنى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}. وقال سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} قال: عضوا عليها غيظاً. وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي هبيرة بن يريم, عن عبد الله أنه قال ذلك أيضاً. وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, ووجهه ابن جرير مختاراً له بقوله تعالى عن المنافقين {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}. وقال العوفي عن ابن عباس: لما سمعوا كلام الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم, وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به الآية, يقولون: لا نصدقكم فيما جئتم به, فإن عندنا فيه شكاً قوياً.
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكّ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى قَالُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدّونَا عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلََكِنّ اللّهَ يَمُنّ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ أَلاّ نَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ}
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة, وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له, قالت الرسل: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} وهذا يحتمل شيئين
(أحدهما): أفي وجوده شك, فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به, فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة, ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب, فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده, ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق, فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما, فلا بد لهما من(2/638)
صانع وهو الله لا إله إلا الله هو خالق كل شيء وإلاهه ومليكه¹
(والمعنى الثاني) في قولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أي أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك, وهو الخالق لجميع الموجودات, ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له, فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع, ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى, وقالت لهم رسلهم: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي في الدار الآخرة {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أي في الدنيا كما قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} الآية, فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة بعد تقدير تسليمهم المقام الأول, وحاصل ما قالوه {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر منكم معجزة, {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي خارق نقترحه عليكم {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي بالرسالة والنبوة {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان} على وفق ما سألتم {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أ ي بعد سؤالنا إِياه وإِذنه لنا في ذلك {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي في جميع أمورهم, ثم قالت الرسل: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} أي وما يمنعنا من التوكل عليه, وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} أي من الكلام السيء والأفعال السخيفة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
{وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ مّن وَرَآئِهِ جَهَنّمُ وَيُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}
يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم, كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} الآية. وكما قال قوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} الآية, وقال تعالى إِخباراً عن مشركي قريش: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً}. وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره, وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصاراً وأعواناً وجنداً يقاتلون في سبيل الله تعالى, ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته, ومكن له فيها, وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً, وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان, ولهذا قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وكما قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}, وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}, وقال(2/639)
تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} الآية, {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} , وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} أي وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} وقال {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}.
وقوله: {وَاسْتَفْتَحُوا} أي استنصرت الرسل ربها على قومها, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ويحتمل أن يكون هذا مراداً وهذا مراداً, كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنصر, وقال الله تعالى للمشركين: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية, والله أعلم, {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق, كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} وفي الحديث "إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة, فتنادي الخلائق, فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد" الحديث أي خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.
وقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} وراء هنا بمعنى أمام, كقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وكان ابن عباس يقرؤها: وكان أمامهم ملك, أي من وراء الجبار العنيد جهنم, أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلداً يوم المعاد, ويعرض عليها غدواً وعشياً إلى يوم التناد {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق, فهذا حار في غاية الحرارة, وهذا بارد في غاية البرد والنتن, كما قال: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} وقال مجاهد وعكرمة: الصديد من القيح والدم. وقال قتادة: هو ما يسيل من لحمه وجلده, وفي رواية عنه: الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم. وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قلت يا رسول الله ما طينة الخبال ؟ قال: "صديد أهل النار". وفي رواية "عصارة أهل النار".
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا عبد الله, أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر, عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: "يقرب إليه فيكرهه, فإذا أدني منه شوىَ وجهه, ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره " يقول الله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} ويقول: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} الآية, وهكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن المبارك به. ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به.
وقوله: {يَتَجَرَّعُهُ} أي يتغصصه ويتكرهه, أي يشربه قهراً وقسراً لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد, كما قال تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} {وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه. قال عمرو بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق. وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره, وقال إبراهيم التيمي: من موضع كل شعرة, أي من جسده حتى من أطراف شعره. وقال ابن جرير: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي من أمامه وخلفه, وفي رواية: وعن يمينه وشماله, ومن فوقه ومن تحت(2/640)
أرجله, ومن سائر أعضاء جسده.
وقال الضحاك عن ابن عباس {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} قال: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم, ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت, ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت, ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال, ولهذا قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}.
وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ, أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله, وأدهى وأمر, وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم, وتارة في شرب حميم, وتارة يردون إلى جحيم, عياذاً بالله من ذلك, وهكذا قال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}, وقال تعالى: {إن شجرة الزقوم طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}, وقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ وقال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم, وتكراره وأنواعه, وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عز وجل جزاءً وفاقاً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
{مّثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدّتْ بِهِ الرّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاّ يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُواْ عَلَىَ شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضّلاَلُ الْبَعِيدُ}
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه غيره, وكذبوا رسله, وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح, فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها, فقال تعالى: {مّثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى, لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء فلم يجدو شيئاً, ولا ألفوا حاصلاً إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية, فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم, كقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}, وقوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}, وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}, وقوله في هذه الآية {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة, حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}.(2/641)
{أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحقّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيز}
يقول تعالى مخبراً عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس, أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها, وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات, والحركات المختلفات, والآيات الباهرات, وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد, وبراري وصحارى, وقفار وبحار, وأشجار ونبات, وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وضرب لنا مثلاً وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي بعظيم ولا ممتنع بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} وقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} وقال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً}.
{وَبَرَزُواْ للّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضّعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُوَاْ إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مّغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مّحِيصٍ}
يقول تعالى: {وَبَرَزُوا} أي برزت الخلائق كلها برها وفاجرها لله الواحد القهار, أي اجتمعوا له في براز من الأرض وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحداً {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ } وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} عن عبادة الله وحده لا شريك له وعن موافقة الرسل قالوا لهم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} أي مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي فهل تدفعون عنا شيئاً من عذاب الله كما كنتم تعدوننا وتمنوننا, فقالت القادة لهم: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} ولكن حق علينا قول ربنا, وسبق فينا وفيكم قدر الله, وحقت كلمة العذاب على الكافرين, {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أي ليس لنا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله عز وجل, تعالوا نبك ونتضرع إلى الله فبكوا وتضرعوا فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا: إنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر, تعالوا حتى نصبر فصبروا صبراً لم ير مثله, فلم ينفعهم ذلك, فعند ذلك قالوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} الآية,(2/642)
قلت: والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها, كما قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} وقال تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}, وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} وأما تخاصمهم في المحشر, فقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
{وَقَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إِنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ مّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ تَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}
يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعدما قضى الله بين عباده, فأدخل المؤمنين الجنات, وأسكن الكافرين الدركات, فقام فيهم إبليس لعنه الله يومئذ خطيباً ليزيدهم حزناً إلى حزنهم, وغبناً إلى غبنهم, وحسرة إلى حسرتهم, فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} أي على ألسنة رسله, ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة, وكان وعداً حقاً وخبراً صدقاً, وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم, كما قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} , ثم قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما كان لي دليل فيما دعوتكم إليه ولا حجة فيما وعدتكم به {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} بمجرد ذلك, هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به, فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه {فَلا تَلُومُونِي} اليوم {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه , {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} قال قتادة: أي بسبب ما أشركتمون من قبل, وقال ابن جرير: يقول: إني جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل, وهذا الذي قاله هو الراجح, كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}, قال: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ(2/643)
بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}.
وقوله: {إِنَّ الظَّالِمِينَ} أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل, لهم عذاب أليم, والظاهر من سياق الآية أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار كما قدمنا, ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم, وهذا لفظه, وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد: حدثني دخين الحجري عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء, قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربنا, فمن يشفع لنا ؟ فيقولون, انطلقوا بنا إلى آدم, وذكر نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول عيسى: أدلكم على النبي الأمي, فيأتوني, فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط, حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي, ثم يقول الكافرون: هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم, فمن يشفع لنا ؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا, فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم, فقم أنت فاشفع لنا, فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط, ثم يعظم نحيبهم {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} وهذا سياق ابن أبي حاتم, ورواه المبارك عن رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن نعيم, عن دخين عن عقبة به مرفوعاً.
وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: لما قال أهل النار {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} قال لهم إبليس {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} الآية, فلما سمعوا مقالته, مقتوا أنفسهم فنودوا { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} وقال عامر الشعبي: يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس, يقول الله تعالى لعيسى ابن مريم: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} قال: ويقوم إبليس لعنه الله فيقول {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} الآية. ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال, وأن خطيبهم إبليس عطف بمآل السعداء, فقال {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا {خَالِدِينَ فِيهَا} ماكثين أبداً لا يحولون ولا يزولون {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}, كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ}, وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ}, وقال تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً}, وقال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} شهادة أن لا إله إلا الله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وهو المؤمن, {أصْلُهَا ثَابِتٌ} يقول: لا إله إلا الله في قلب المؤمن, {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء, وهكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد: إن ذلك(2/644)
عبارة عن عمل المؤمن, وقوله الطيب, وعمله الصالح, وإن المؤمن كشجرة من النخل لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت وصباح ومساء, وهكذا رواه السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: هي النخلة, وشعبة عن معاوية بن قرة عن أنس: هي النخلة. وحماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع بسر فقرأ {مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} قال : هي النخلة, وروي من هذا الوجه ومن غيره عن أنس موقوفاً, وكذا نص عليه مسروق ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وغيرهم.
وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة, عن عبيد الله عن نافع, عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبروني عن شجرة تشبه ـ أو ـ كالرجل المسلم لا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاء, وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة, ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان, فكرهت أن أتكلم, فلما لم يقولوا شيئاً, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة", فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه, والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. قال: ما منعك أن تتكلم ؟ قلت: لم أركم تتكلمون, فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً, قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إليّ من كذا وكذا.
وقال أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار, فقال: "من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم" فأردت أن أقول هي النخلة, فنظرت فإذا أنا أصغر القوم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة", أخرجاه. وقال مالك وعبد العزيز عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: "إن من الشجر شجرة لا يطرح ورقها مثل المؤمن". قال: فوقع في شجر الوادي, ووقع في قلبي أنها النخلة, فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة", أخرجاه أيضاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا أبان يعني ابن زيد العطار, حدثنا قتادة أن رجلاً قال: يا رسول الله, ذهب أهل الدثور بالأجور, فقال: "أرأيت لو عمد إلى متاع الدنيا فركب بعضه على بعض أكان يبلغ السماء, أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء ؟" قال: ما هو يا رسول الله ؟ قال: "تقول لا إله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله, عشر مرات في دبر كل صلاة, فذاك أصله في الأرض وفرعه في السماء". وعن ابن عباس {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ}} قال: هي شجرة في الجنة. وقوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قيل: غدوة وعشياً, وقيل: كل شهر. وقيل: كل شهرين. وقيل: كل ستة أشهر. وقيل: كل سبعة أشهر. وقيل: كل سنة, والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار, كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين {بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي كاملاً حسناً كثيراً طيباً مباركاً {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وقوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} هذا مثل كفر الكافر لا أصل له ولا ثبات, مشبه بشجرة الحنظل, ويقال لها الشريان, رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك: أنها شجرة الحنظل وقال أبو بكر البزار الحافظ: حدثنا يحيى بن محمد السكن, حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع, حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس أحسبه رفعه, قال {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} قال: هي النخلة, {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} قال: هي الشريان, ثم رواه عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة, عن معاوية عن أنس موقوفاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد هو ابن سلمة(2/645)
عن شعيب بن الحبحاب, عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "{ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} هي الحنظلة" فأخبرت بذلك أبا العالية فقال: هكذا كنا نسمع. ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به.
ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط من هذا فقال: حدثنا غسان عن حماد عن شعيب, عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع عليه بسر, فقال: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} فقال: "هي النخلة" {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} قال: "هي الحنظل" قال شعيب: فأخبرت بذلك أبا العالية فقال: كذلك كنا نسمع. وقوله: {اجْتُثَّتْ} أي استؤصلت {مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} أي لا أصل لها ولا ثبات, كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع, ولا يصعد للكافر عمل, ولا يتقبل منه شيء.
{يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الآخرة وَيُضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَآءُ}
قال البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة, أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, فذلك قوله: {يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الآخرة} ورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة كلهم من حديث شعبة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار, فانتهينا إلى القبر ولما يلحد, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير, وفي يده عود ينكت به الأرض, فرفع رأسه فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثاً, ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة, نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه, كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال ـ: فتخرج تسيل, كما تسيل القطرة من في السقاء, فيأخذها, فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط, ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها, يعني على ملأ من الملائكة, إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له, فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها, حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة, فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض, فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم, ومنها أخرجهم تارة أخرى قال: فتعاد روحه في جسده, فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام, فيقولان له: ما هذا الرجل الذين بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله, فيقولان له: وما علمك ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت, فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة, وألبسوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة ـ قال ـ: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه, حسن الثياب, طيب الريح, فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت(2/646)
توعد, فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير ؟ فيقول: أنا عملك الصالح, فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة, حتى أرجع إلى أهلي ومالي ـ قال ـ: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة, نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح, فجلسوا منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الخبيثة, اخرجي إلى سخط من الله وغضب ـ قال ـ: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول, فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح, فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا, فيستفتح له فلا يفتح له ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً ـ ثم قرأ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار, فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه, ويأتيه رجل قبيح الوجه, قبيح الثياب, منتن الريح, فيقول: أبشر بالذي يسوؤك, هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول: ومن أنت, فوجهك الوجه يجيء بالشر ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث, فيقول: رب لا تقم الساعة" ورواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرو به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن يونس بن حبيب عن المنهال بن عمرو, عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة, فذكر نحوه, وفيه "فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء, وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز وجل أن يعرج بروحه من قبلهم" , وفي آخره "ثم يقيض له أعمى أصم أبكم, وفي يده مرزبة لو ضرب بها جبل لكان تراباً, فيضربه ضربة فيصير تراباً, ثم يعيده الله عز وجل كما كان, فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين" قال البراء: ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار, وقال سفيان الثوري عن أبيه, عن خيثمة عن البراء في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال عذاب القبر.
وقال المسعودي عن عبد الله بن مخارق عن أبيه عن عبد الله قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له: ما ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ فيثبته الله فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم, وقرأ عبد الله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وقال الإمام عبد بن حميد رحمه الله في مسنده حدثنا يونس بن محمد, حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة, حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وضع في قبره, وتولى عنه أصحابه, وإنه ليسمع قرع نعالهم, فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله, قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة", قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فيراهما جميعاً", قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً, ويملأ(2/647)
عليه خضراً إلى يوم القيامة, رواه مسلم عن عبد بن حميد, وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج, أخبرني أبو الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني القبر, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه, جاءه ملك شديد الانتهار, فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فأما المؤمن فيقول: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبده, فيقول له الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة, فيراهما كليهما, فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي فيقال له: اسكن, وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول: لا أدري, أقول كما يقول الناس, فيقال له: لا دريت هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة قد أبدلت مكانه مقعدك من النار" قال جابر: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يبعث كل عبد في القبر على ما مات, المؤمن على إيمانه, والمنافق على نفاقه" إسناده صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبي هند, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري, قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه, جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده, فقال: ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, فيقول له: صدقت ثم يفتح له باباً إلى النار, فيقول: كان هذا منزلك لو كفرت بربك, فأما إذ آمنت فهذا منزلك, فيفتح له باباً إلى الجنة, فيريد أن ينهض إليه فيقول له: اسكن ويفسح له في قبره, وإن كان كافراً أو منافقاً فيقول له: ما تقول في هذا الرجل ؟ فيول: لا أدري, سمعت الناس يقولون شيئاً, فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت, ثم يفتح له باباً إلى الجنة, فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك, فأما إذ كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا, فيفتح له باباً إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق, فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين, فقال بعض القوم: يا رسول الله, ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}" وهذا أيضاً إسناد لا بأس به, فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقروناً, ولكن ضعفه بعضهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد عن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت تحضره الملائكة, فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب, اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال فلا يزال يقال لها ذلك, حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا ؟ فيقال: فلان, فيقولون: مرحباً بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب, ادخلي حميدة, وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق, وآخر من شكله أزواج, فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج, ثم يعرج بها إلى السماء, فيستفتح لها فيقال: من هذا ؟ فيقال: فلان, فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء, فيرسل من السماء ثم يصير إلى القبر, فيجلس الرجل الصالح, فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول, ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول". ورواه النسائي وابن ماجه(2/648)
من طريق ابن أبي ذئب بنحوه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إِذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها. قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك ـ قال ـ: ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه, فينطلق به إلى ربه عز وجل, فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل. وإن الكافر إذا خرجت روحه ـ قال حماد ـ وذكر من نتنها, وذكر مقتاً, ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض, فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل ـ قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا.
وقال ابن حبان في صحيحه: حدثنا عمر بن محمد الهمداني, حدثنا زيد بن أخرم, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن قتادة, عن قسام بن زهير, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن إذا قبض, أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء, فيقولون: اخرجي إلى روح الله, فتخرج كأطيب ريح مسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً يشمونه حتى يأتوا به باب السماء, فيقولون: ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض, ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين, فلهم أشد فرحاً به من أهل الغائب بغائبهم, فيقولون: ما فعل فلان ؟ فيقولون: دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم, فيقول: قد مات أما أتاكم ؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية, وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي إلى غضب الله, فتخرج كأنتن ريح جيفة, فيذهب به إلى باب الأرض".
وقد روي أيضاً من طريق همام بن يحيي عن أبي الجوزاء, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, قال: "فيسأل: ما فعل فلان, ما فعل فلان, ما فعلت فلانة ؟ قال: وأما الكافر فإذا قبضت نفسه, وذهب بها إلى باب الأرض, تقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحاً أنتن من هذه, فيبلغ بها الأرض السفلى". قال قتادة وحدثني رجل عن سعيد بن المسيب, عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية, وأرواح الكفار تجتمع ببرهوت سبخة بحضرموت, ثم يضيق عليه قبره. وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله: حدثنا يحيى بن خلف, حدثنا بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا قبر الميت ـ أو قال: أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان, يقال لأحدهما منكر والآخر نكير, فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول: ما كان يقول هو عبد الله ورسوله, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا, ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين, وينور له فيه, ثم يقال له: نم, فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم, فيقولان: نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك, وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون: فقلت مثلهم لا أدري, فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا, فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه, فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك" ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ـ قال ـ: "ذلك إِذا قيل له في القبر من ربك, وما دينك, ومن نبيك ؟ فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيي محمد جاءنا بالبينات من عند الله, فآمنت به وصدقت, فيقال له: صدقت, على هذا عشت, وعليه مت, وعليه تبعث" .وقال ابن جرير: حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن محمد, قالا: حدثنا يزيد, أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي(2/649)
سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده, إن الميت ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه مدبرين, فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصوم عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه, فيؤتى من قبل رأسه, فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل, فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل, فيؤتى عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخل, فيؤتى عند رجليه فيقول: فعل الخيرات ما قبلي مدخل, فيقال له: اجلس, فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب, فيقال له: أخبرنا عما نسألك, فيقول: دعني حتى أصلي, فيقال له: إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك, فيقول: وعم تسألوني ؟ فيقال: أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول به, وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول: أمحمد ؟ فيقال له: نعم, فيقول: أشهد أنه رسول الله, وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه, فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت, وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه, ويفتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى ما أعد الله لك فيها, فيزداد غبطة وسروراً, ثم تجعل نسمته في النسم الطيب, وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة, ويعاد الجسد إلى ما بدىء من التراب", وذلك قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}, رواه ابن حبان من طريق المعتمر بن سليمان عن محمد بن عمر, وذكر جواب الكافر وعذابه.
وقال البزار: حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي, حدثنا الوليد بن القاسم, حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم, عن أبي هريرة أحسبه رفعه, قال: "إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين, فيود لو خرجت, يعني نفسه, والله يحب لقاءه وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء, فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض, فإِذا قال: تركت فلاناً في الأرض, أعجبهم ذلك, وإِذا قال: إِن فلاناً قد مات, قالوا: ما جيء به إلينا, وإن المؤمن يجلس في قبره فيسأل, من ربك ؟ فيقول: ربي الله, ويسأل: من نبيك ؟ فيقول: محمد نبيي, فيقال: ماذا دينك ؟ قال: ديني الإسلام, فيفتح له باب في قبره فيقول ـ أو يقال ـ انظر إلى مجلسك, ثم يرى القبر فكأنما كانت رقدة, وإذا كان عدو الله نزل به الموت وعاين ما عاين, فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبداً, والله يبغض لقاءه, فإذا جلس في قبره أو أجلس, فيقال له: من ربك ؟ فيقول: لا أدري, فيقال: لا دريت, فيفتح له باب إلى جهنم ثم يضرب ضربة تسمعها كل دابة إلا الثقلين, ثم يقال له: نم كما ينام المنهوش". قلت لأبي هريرة: ما المنهوش ؟ قال: الذي تنهشه الدواب والحيات, ثم يضيق عليه قبره, ثم قال: لا نعلم من رواه إلا الوليد بن القاسم.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا حجين بن المثنى, حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن محمد بن المنكدر قال: كانت أسماء, يعني بنت الصديق رضي الله عنها, تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال: "إذا دخل الإنسان قبره, فإن كان مؤمناً أحف به عمله الصلاة والصيام, قال: فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ومن نحو الصيام فيرده, قال: فيناديه اجلس فيجلس, فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل, يعني النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: من ؟ قال: محمد, قال: أشهد أنه رسول الله, قال: وما يدريك, أدركته ؟ قال: اشهد أنه رسول الله, قال: يقول على ذلك عشت, وعليه مت, وعليه تبعث وإن كان فاجراً أو كافراً جاءه الملك ليس بينه وبينه شيء يرده فأجلسه, فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل ؟ قال: أي رجل ؟ قال: محمد ؟ قال: يقول: والله ما أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته, قال له الملك: على ذلك عشت, وعليه مت, وعليه تبعث, قال(2/650)
ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط, ثمرته جمرة مثل غرب البعير, تضربه ما شاء الله, صماء لا تسمع صوته فترحمه".
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة, فسلموا عليه وبشروه بالجنة, فإذا مات مشوا مع جنازته ثم صلوا عليه مع الناس, فإِذا دفن أجلس في قبره, فيقال له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله, فيقال له: من رسولك ؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم, فيقال له: ما شهادتك ؟ فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً رسول الله, فيوسع له في قبره مد بصره, وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم, والبسط هو الضرب, {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} عند الموت, فإذا أدخل قبره أقعد, فقيل له: من ربك ؟ فلم يرجع إليهم شيئاً, وأنساه الله ذكر ذلك, وإذا قيل: من الرسول الذي بعث إليك ؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئاً {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي حدثنا شريح بن مسلمة, حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق, عن عامر بن سعد البجلي عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} الآية, قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره, فيقال له: من ربك ؟ فيقول: الله, فيقال له: من نبيك ؟ فيقول: محمد بن عبد الله, فيقال له ذلك مرات, ثم يفتح له باب إلى النار, فيقال له: انظر إلى منزلك من النار لو زغت, ثم يفتح له باب إلى الجنة, فيقال له: انظر إلى منزلك من الجنة إذا ثبت, وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له: من ربك ؟ من نبيك ؟ فيقول: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون, فيقال له: لا دريت, ثم يفتح له باب إلى الجنة, فيقال له: انظر إلى منزلك إذا ثبت, ثم يفتح له باب إلى النار, فيقال له: انظر إلى منزلك إِذ زغت, فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس, عن أبيه {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: لا إله إلا الله, {وَفِي الْآخِرَةِ} المسألة في القبر, وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح, {وَفِي الْآخِرَةِ} في القبر وكذا روي عن غير واحد من السلف. وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن عبد الله عن سعيد بن المسيب, عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة, فقال: "إني رأيت البارحة عجباً, رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه, فجاءه بره بوالديه, فرد عنه, ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر, فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك, ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين, فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم, ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب, فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم, ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع منه, فجاءه صيامه فسقاه وأرواه, ورأيت رجلاً من أمتي والنبيون قعود حلقاً حلقاً, كلما دنا لحلقة طردوه, فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي, ورأيت رجلاً من أمتي بين يديه ظلمة, ومن خلفه ظلمة, وعن يمينه ظلمة, وعن شماله ظلمة, ومن فوقه ظلمة, ومن تحته ظلمة, وهو متحير فيها, فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور, ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه, فجاءته صلة الرحم فقالت: يا معشر المؤمنين, كلموه فكلموه, ورأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه, فجاءته صدقته فصارت له ستراً على وجهه وظلاً على رأسه,(2/651)
ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان, فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة, ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب, فجاءه حسن خلقه, فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل, ورأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله, فجاءه خوفه من الله, فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه, ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه, فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه, ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم, فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى, ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا, فاستخرجته من النار, ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يزحف أحياناً ويحبو أحياناً, فجاءته صلاته عليّ, فأخذت بيده, فأقامته ومضى على الصراط, ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى باب الجنة, فغلقت الأبواب دونه, فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة", قال القرطبي بعد إيراده هذا الحديث من هذا الوجه: هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالاً خاصة تنجي من أهوال خاصة, أورده هكذا في كتابة التذكرة.
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في هذا حديثاً غريباً مطولاً فقال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم النكري, حدثنا محمد بن بكر البرساني أبو عثمان, حدثنا أبو عاصم الحبطي, وكان من أخيار أهل البصرة, وكان من أصحاب حزم, وسلام بن أبي مطيع, حدثنا بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو, عن يزيد الرقاشي, عن أنس بن مالك عن تميم الداري, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يقول الله عز وجل لملك الموت: انطلق إلى وليي فأتني به, فإِني قد ضربته بالسراء والضراء, فوجدته حيث أحب, ائتني به فلأريحنه, فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة, ومعهم ضبائر الريحان أصل الريحانة واحد, وفي رأسها عشرون لوناً لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه, ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر, فيجلس ملك الموت عند رأسه وتحف به الملائكة, ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه, ويبسط ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر تحت ذقنه, ويفتح له باب إلى الجنة, فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة تارة بأزواجها, وتارة بكسوتها, ومرة بثمارها كما يعلل الصبي أهله إذا بكى, قال: إِن أزواجه ليبتهشن عند ذلك ابتهاشاً, قال: وتبرز الروح, قال البرساني: يريد أن تخرج من العجل إلى ما تحب, قال: ويقول ملك الموت, اخرجي يا أيتها الروح الطيبة إلى سدر مخضود, وطلح منضود, وظل ممدود, وماء مسكوب, قال: ولملك الموت أشد به لطفاً من الوالدة بولدها, يعرف أن تلك الروح حبيب لربه, فهو يتلمس بلطفه تحبباً لديه, رضاء للرب عنه, فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين, قال: وقال الله عز وجل : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ}, وقال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} قال: روح من جهة الموت, وريحان يتلقى به, وجنة نعيم تقابله, قال: فإذا قبض ملك الموت روحه, قالت الروح للجسد: جزاك الله عني خيراً, فقد كنت سريعاً بي إلى طاعة الله, بطيئاً بي عن معصية الله, فقد نجيت وأنجيت, قال: ويقول الجسد للروح مثل ذلك, قال: وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها, وكل باب من السماء يصعد منه عمله وينزل منه رزقه أربعين ليلة, قال: فإذا قبض ملك الموت روحه, أقامت الخمسمائة من الملائكة عند جسده, فلا يقلبه بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم, وغسلته وكفنته بأكفان قبل أكفان بني آدم, وحنوط قبل حنوط بني آدم, ويقوم من باب بيته إلى قبره صفان من الملائكة يستقبلونه بالاستغفار, فيصيح عند ذلك إبليس صيحة تتصدع منها عظام جسده, قال: ويقول لجنوده: الويل لكم كيف خلص هذا العبد منكم ؟ فيقولون: إن هذا كان عبداً معصوماً, قال: فإذا صعد ملك الموت بروحه يستقبله جبريل في سبعين(2/652)
ألفاً من الملائكة, كل يأتيه ببشارة من ربه سوى بشارة صاحبه, قال: فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش, خر الروح ساجداً, قال: يقول الله عز وجل لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود, وطلح منضود وظل ممدود, وماء مسكوب, قال: فإذا وضع في قبره جاءته الصلاة فكانت عن يمينه, وجاءه الصيام فكان عن يساره, وجاءه القرآن فكان عند رأسه, وجاءه مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه, وجاءه الصبر فكان ناحية القبر, قال: فيبعث الله عز وجل عنقاً من العذاب, قالوا: فيأتيه عن يمينه, قال: فتقول الصلاة وراءك: والله ما زال دائباً عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره قال: فيأتيه عن يساره فيقول الصيام مثل ذلك, قال: ثم يأتيه من عند رأسه فيقول القرآن والذكر مثل ذلك قال: ثم يأتيه من عند رجليه فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك, فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد إليه مساغاً إلا وجد ولي الله قد أخذ جنته, قال: فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج, قال: ويقول الصبر لسائر الأعمال أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي, إلا أني نظرت ما عندكم فإن عجزتم كنت أنا صاحبه, فأما إذا أجزأتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان, قال: ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف, وأصواتهما كالرعد القاصف, وأنيابهما كالصياصي, وأنفاسهما كاللهب, يطآن في أشعارهما بين منكب كل واحد مسيرة كذا وكذا, وقد نزعت منهما الرأفة والرحمة, يقال لهما منكر ونكير, في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها, قال: فيقولان له: اجلس, قال: فيجلس فيستوي جالساً, قال: وتقع أكفانه في حقويه, قال: فيقولان له: من ربك, ومادينك, ومن نبيك ؟" قال قالوا: يا رسول الله ومن يطيق الكلام عند ذلك وأنت تصف من الملكين ما تصف ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} قال فيقول: ربي الله وحده لا شريك له, وديني الإسلام الذي دانت به الملائكة, ونبيي محمد خاتم النبيين, قال: فيقولان له: صدقت, قال: فيدفعان القبر فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعاً, وعن يمينه أربعين ذراعاً, وعن شماله أربعين ذراعاً, ومن عند رأسه أربعين ذراعاً, ومن عند رجليه أربعين ذراعاً, قال: فيوسعان له مائتي ذراع, قال البرساني: فأحسبه وأربعين ذراعاً تحاط به, قال: ثم يقولان له: انظر فوقك, فإذا باب مفتوح إلى الجنة, قال فيقولان له: ولي الله هذا منزلك إذ أطعت الله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده, إنه يصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبداً" ثم يقال له: انظر تحتك, قال: فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار ـ قال ـ فيقولان: ولي الله نجوت آخر ما عليك ـ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبداً" قال: قالت عائشة: يفتح له سبعة وسبعون باباً إلى الجنة, يأتيه ريحها وبردها حتى يبعثه الله عز وجل.
وبالإسناد المتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويقول الله تعالى لملك الموت: انطلق إلى عدوي فأتني به, فإني قد بسطت له رزقي, ويسرت له نعمتي, فأبى إلا معصيتي فأتني به, لأنتقم منه, قال: فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة رآها أحد من الناس قط, له ثنتا عشر عيناً, ومعه سفود من النار, كثير الشوك ومعه خمسمائة من الملائكة معهم نحاس وجمر من جمر جهنم, ومعهم سياط من نار لينهالين السياط, وهي نار تأجج, قال: فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيب كل أصل شوكة من ذلك السفود في أصل كل شعرة وعرق وظفر, قال: ثم يلويه لياً شديداً, قال: فينزع روحه من أظفار قدميه, قال: فيلقيها في عقبيه. قال: فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه, قال: وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط, قال: فيشده ملك الموت شدة فينزع روحه من عقبيه فيلقيها في ركبتيه, ثم يسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه, قال: فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط,(2/653)
قال: فيشده ملك الموت شدّة فينزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه, فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه, قال: فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط, قال كذلك: إلى صدره ثم كذلك إلى حلقه, قال: ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه, قال: ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح اللعينة إلى سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ـ قال: فإذا قبض ملك الموت روحه, قال الروح للجسد: جزاك الله عني شراً فقد كنت سريعاً بي إلى معصية الله, بطيئاً بي عن طاعة الله, فقد هلكت وأهلكت ـ قال ـ ويقول الجسد للروح مثل ذلك, وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها, وتنطلق جنود إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبداً من ولد آدم النار, قال: فإذا وضع في قبره ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه حتى تدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى, قال: ويبعث الله إليه أفاعي دهماً كأعناق الإبل, يأخذن بأرنبته وإبهامي قدميه فيقرضنه حتى يلتقين في وسطه, قال: ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف, وأصواتهما كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب يطآن في أشعارهما بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا, قد نزعت منهما الرأفة والرحمة, يقال لهما منكر ونكير, في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها, قال فيقولان له اجلس فيستوي جالساً وتقع أكفانه في حقويه, قال فيقولان له: من ربك, وما دينك, ومن نبيك ؟ فيقول: لا أدري, فيقولان له: لا دريت ولا تليت, فيضربانه ضربة يتطاير شررها في قبره ثم يعودان, قال: فيقولان: انظر فوقك فينظر, فإذا باب مفتوح من الجنة, فيقولان: عدو الله هذا منزلك لو أطعت الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبداً". ـ قال ـ ويقولان له: انظر تحتك فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار ـ فيقولان له: عدو الله هذا منزلك إذ عصيت الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبداً" قال: وقالت عائشة: ويفتح له سبعة وسبعون باباً إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه الله إليها. هذا حديث غريب جداً, وسياق عجيب, ويزيد الرقاشي راويه عن أنس له غرائب ومنكرات, وهو ضعيف الرواية عند الأئمة, والله أعلم, ولهذا قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي, حدثنا هشام هو ابن يوسف عن عبد الله بن بحير عن هانى مولى عثمان, عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" تفرد به أبو داود, وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه عند قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الآية, حديثاً مطولاً جداً من طرق غريبة عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً, وفيه غرائب أيضاً.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للّهِ أَندَاداً لّيُضِلّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتّعُواْ فَإِنّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ}
قال البخاري: قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً} ألم تعلم, كقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} البوار الهلاك, بار يبور بوراً, {قَوْماً بُوراً} هالكين. حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء. سمع ابن عباس {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} قال: هم كفار أهل مكة,(2/654)
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية, هو جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم, والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول: وإن كان المعنى يعم جميع الكفار, فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ونعمة للناس, فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة, ومن ردها وكفرها دخل النار, وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا شعبة عن القاسم بن أبي بزة, عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياً عن {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال: هم كفار قريش يوم بدر, حدثنا المنذر بن شاذان, حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا بسام هو الصيرفي عن أبي الطفيل قال: جاء رجل إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين من الذين بدلوا نعمة الله كفراً, وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال: منافقو قريش وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل قال: قرأت على معقل عن ابن أبي حسين قال: قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحد يسألني عن القرآن, فوالله لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته, فقام عبد الله بن الكواء فقال: من الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ؟ قال: مشركو قريش أتتهم نعمة الله الإيمان فبدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.
وقال السدي في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} الآية, ذكر مسلم المستوفى, عن علي أنه قال: هم الأفجران من قريش: بنو أمية وبنو المغيرة, فأما بنو المغيرة, فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر, وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد, وكان أبو جهل يوم بدر, وأبو سفيان يوم أحد, وأما دار البوار فهي جهنم.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا الحارث أبو منصور, عن إسرائيل عن أبي إسحاق, عن عمرو بن مرة قالا: سمعت علياً قرأ هذه الآية {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال: هم الأفجران من قريش: بنو أمية, وبنو المغيرة, فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر, وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين, ورواه أبو إسحاق عن عمرو بن مرة عن علي, نحوه, وروي من غير وجه عنه. وقال سفيان الثوري عن علي بن زيد عن يوسف بن سعد, عن عمر بن الخطاب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة, وبنو أمية, فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر, وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين, وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال: قال ابن عباس لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين هذه الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} ؟ قال: هم الأفجران من قريش: أخوالي وأعمامك, فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر, وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين, وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر, وكذا رواه مالك في تفسيره عن نافع عن ابن عمر.
وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي جعلوا له شركاء عبدوهم معه, ودعوا الناس إلى ذلك, ثم قال تعالى مهدداً لهم ومتوعداً لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا, فمهما يكن من شيء {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أي مرجعكم وموئلكم إلينا كما قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}, وقال تعالى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}(2/655)
{قُل لّعِبَادِيَ الّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}
يقول تعالى آمراً عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه بأن يقيموا الصلاة, وهي عبادة الله وحده لا شريك له, وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب, والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها, وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر أي في الخفية والعلانية وهي الجهر, وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} وهو يوم القيامة {لاّ بَيْعٌ فِيهِ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} أي ولا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه, كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله: {وَلاَ خِلاَلٌ} قال ابن جرير: يقول ليس هناك مخالة خليل فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالفته, بل هناك العدل والقسط, والخلال مصدر من قول القائل: خاللت فلاناً فأنا أخاله مخالة وخلالاً, ومنه قول امرىء القيس:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ... ولست بمقل للخلال ولا قالي
وقال قتادة: إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعاً وخلالاً يتخالون بها في الدنيا, فينظر رجل من يخالل وعلام يصاحب, فإن كان لله فليداوم, وإن كان لغير الله فسيقطع عنه, قلت: والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحداً بيع ولا فدية, ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده, ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافراً, قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
{اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ}
يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السموات سقفاً محفوظاً والأرض فرشاً {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع. وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى, وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك, وما هناك إلى هنا, وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر رزقاً للعباد من شرب وسقي, وغير ذلك من أنواع المنافع {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أي يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهاراً {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر, تبارك الله رب العالمين} فالشمس والقمر يتعاقبان, والليل والنهار يتعارضان, فتارة يأخذ(2/656)
هذا من هذا فيطول, ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر {وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
وقوله {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} يقول هيأ لكم ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم. وقال بعض السلف: من كل ما سألتموه وما لم تسألوه, وقرأ بعضهم {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} وقوله {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها, كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد, وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد, ولكن أصبحوا تائبين. وأمسوا تائبين, وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا".
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث, حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي, عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح, وديوان فيه ذنوبه, وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه, فيقول الله تعالى لأصغر نعمه ـ أحسبه قال في ديوان النعم ـ خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح كله, ثم تنحى وتقول: وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم, فإذا أراد الله أن يرحمه قال: يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت لك عن سيئاتك ـ أحسبه قال: ووهبت لك نعمي ـ" غريب وسنده ضعيف. وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ ؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتني يا داود, أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم, وقال الإمام الشافعي رحمه الله: الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها, وقال القائل في ذلك:
لو كل جارحة مني لها لغة ... تثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به ... إليك أبلغ في الإحسان والمنن
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن نّعْبُدَ الأصْنَامَ رَبّ إِنّهُنّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مّنَ النّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
يذكر تعالى في هذا المقام محتجاً على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له, وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممن عبد غير الله, وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: {رَبّ اجْعَلْ هََذَا الْبَلَدَ آمِناً} وقد استجاب الله له فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} الآية, وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} وقال في هذه القصة {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها, ولهذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة, فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضاً فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطوّلاً.
وقوله:(2/657)
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته, ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس, وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم, كقول عيسى عليه السلام {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك. وقال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جرير, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} الآية, وقول عيسى عليه السلام { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} الآية, ثم رفع يديه ثم قال: "اللهم, أمتي, اللهم أمتي, اللهم أمتي" وبكى فقال الله: اذهب يا جبريل إلى محمد, وربك أعلم, وسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله, فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, فقال الله: اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
{رّبّنَآ إِنّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ}
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها, وذلك قبل بناء البيت, وهذا كان بعد بنائه تأكيداً ورغبة إلى الله عز وجل, ولهذا قال: {عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ}. وقوله: {رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ} قال ابن جرير: هو متعلق بقوله {الْمُحَرّمِ} أي إنما جعلته محرماً ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم, ولكن قال: {مِنَ النَّاسِ} فاختص به المسلمون وقوله: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أي ليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك, وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل له ثماراً يأكلونها, وقد استجاب الله ذلك كما قال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.
{رَبّنَآ إِنّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّي لَسَمِيعُ الدّعَآءِ رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاَةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبّنَا وَتَقَبّلْ دُعَآءِ رَبّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}
قال ابن جرير: يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم خليله أنه قال: {رَبّنَآ إِنّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أي أنت تعلم قصدي في دعائي, وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد, وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك, فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها, لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء, ثم حمد ربه عز وجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر, فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي إنه يستجيب لمن دعاه, وقد استجاب لي فيما سألته من الولد, ثم قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} أي محافظاً عليها مقيماً لحدودها {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي واجعلهم كذلك مقيمين لها {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} أي فيما سألتك فيه كله {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} وقرأ بعضهم: {ولوالدي} بالإفراد وكان هذا(2/658)
قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عز وجل {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي كلهم {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
{وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ}
يقول تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ}, أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم, بل هو يحصي ذلك ويعده عليهم عداً {إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} أي من شدة الأهوال يوم القيامة, ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر, فقال: {مُهْطِعِينَ} أي مسرعين, كما قال تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} الآية, وقال تعالى: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له ـ إلى قوله ـ وعنت الوجوه للحي القيوم}, وقال تعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} الآية. وقوله {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: رافعي رؤوسهم {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر, لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم, عياذاً بالله العظيم من ذلك, ولهذا قال: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف, ولهذا قال قتادة وجماعة: إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف. وقال بعضهم: هي خراب لا تعي شيئاً لشدة ما أخبر به تعالى عنهم, ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{وَأَنذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ رَبّنَآ أَخّرْنَآ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ نّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتّبِعِ الرّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوَاْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسََكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}
يقول تعالى مخبراً عن الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} كقوله {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} الآية, وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ} الآيتين, وقال تعالى مخبراً عنهم في حال محشرهم {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} الآية, وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الآية, وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} الآية, قال تعالى رداً عليهم في قولهم هذا {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك, قال مجاهد وغيره {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة, كقوله {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} الآية, {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر, ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}(2/659)
وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن أن علياً رضي الله عنه قال في هذه الآية {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} قال: أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين, فرباهما حتى استغلظا واستفحلا وشبا, قال: فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت وجوعهما, وقعد هو ورجل آخر في التابوت, قال: ورفع في التابوت عصاً على رأسه اللحم فطارا, وجعل يقول لصاحبه: انظر ما ترى ؟ قال: أرى كذا وكذا حتى قال أرى الدنيا كلها كأنها ذباب. قال: فصوب العصا, فصوبها فهبطا جميعاً, قال: فهو قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.
قال أبو إسحاق: وكذلك هي في قراءة عبد الله {وإن كاد مكرهم} قلت: وكذا روي عن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قرآ {وإن كاد} كما قرأ علي, وكذا رواه سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي فذكر نحوه, وكذا روي عن عكرمة أن سياق هذه القصة للنمروذ ملك كنعان أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر, كما رام فرعون ملك القبط في بناء الصرح فعجزا وضعفا, وهما أقل وأحقر وأصغر وأدحر, وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها, نودي أيها الطاغية أين تريد ؟ ففرق ثم سمع الصوت فوقه, فصوب الرماح فصوبت النسور, ففزعت الجبال من هدتها, وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك, فذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.
ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} بفتح اللام الأولى وضم الثانية, وروى العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} يقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال, وكذا قال الحسن البصري, ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به, ما ضر شيئاً من الجبال ولا غيرها, وإِنما عاد وبال ذلك عليهم, قلت: ويشبه هذا قول الله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} يقول: شركهم كقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} الآية, وهكذا قال الضحاك وقتادة.
{فَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ}
يقول تعالى مقرراً لوعده ومؤكداً: {فَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يغالب, وذو انتقام ممن كفر به وجحده {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}, ولهذا قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض, وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة, كما جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ ليس فيها معلم لأحد".
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق, عن عائشة أنها قالت: أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} قالت: قلت أين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال: "على الصراط", رواه(2/660)
مسلم منفرداً به دون البخاري, والترمذي وابن ماجه من حديث داود بن أبي هند به, وقال الترمذي: حسن صحيح, ورواه أحمد أيضاً عن عفان عن وهيب عن داود, عن الشعبي عنها, ولم يذكر مسروقاً. وقال قتادة عن حسان بن بلال المزني عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} قالت: قلت يا رسول الله, فأين الناس يومئذ ؟ قال: "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي, ذاك أن الناس على جسر جهنم".
وروى الإمام أحمد من حديث حبيب بن أبي عمرة عن مجاهد, عن ابن عباس حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فأين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال: "هم على متن جهنم". وقال ابن جرير: حدثنا الحسن, حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا القاسم, سمعت الحسن قال: قالت عائشة: يا رسول الله {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} فأين الناس يومئذ ؟ قال: "إن هذا شيء ما سألني عنه أحد ـ قال ـ على الصراط يا عائشة", ورواه أحمد عن عفان عن القاسم بن الفضل, عن الحسن به.
وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثني الحسن بن علي الحلواني, حدثني أبو توبة الربيع بن نافع, حدثنا معاوية بن سلام عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام, حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال: كنت نائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاءه حبر من أحبار اليهود, فقال: السلام عليك يا محمد, فدفعته دفعة كاد يصرع منها, فقال: لم تدفعني ؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله ؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي" فقال اليهودي: جئت أسألك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينفعك شيئاً إن حدثتك ؟" قال: أسمع بأذني, فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال: "سل" فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم في الظلمة دون الجسر" قال: فمن أول الناس إجازة ؟ فقال: "فقراء المهاجرين", فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ قال: "زيادة كبد النون" قال: فما غذائهم في أثرها ؟ قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" قال: فما شرابهم عليه ؟ قال: "من عين فيها تسمى سلسبيلاً". قال: صدقت, قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: "أينفعك إن حدثتك ؟ قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد, قال: "ماء الرجل أبيض, وماء المرأة أصفر, فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل منيّ المرأة, أذكرا بإِذن الله تعالى, وإذا علا منيّ المرأة مني الرجل, أنثا بإذن الله" قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه, وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به".
قال أبو جعفر بن جرير الطبري: حدثنا ابن عوف, حدثنا أبو المغيرة, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي, عن أبي أيوب الأنصاري أن حبراً من اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذ يقول الله تعالى في كتابه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأين الخلق عند ذلك ؟ فقال: "أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه" ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به. وقال شعبة: أخبرنا أبو إسحاق, سمعت عمرو بن ميمون, وربما قال: قال عبد الله, وربما لم يقل, فقلت له عن عبد الله فقال: سمعت عمرو بن ميمون يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال: أرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة, ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا, قال: أراه قال قياماً حتى يلجمهم العرق. وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل عن أبي إسحاق, عن عمرو بن ميمون(2/661)
عن ابن مسعود بنحوه, وكذا رواه عاصم عن زر عن ابن مسعود به. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون: لم يخبر به, أورد ذلك كله ابن جرير.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل, حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب, حدثنا جرير بن أيوب عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال: أرض بيضاء لم يسفك عليها دم, ولم يعمل عليها خطيئة" ثم قال: لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب, وليس بالقوي, ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا معاوية بن هشام عن سنان عن جابر الجعفي, عن أبي جبيرة عن زيد قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال: "هل تدرون لم أرسلت إليهم ؟" قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: "فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة" فلما جاءوا سألهم, فقالوا: تكون بيضاء مثل النقي, وهكذا روي عن علي وابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد بن جبر أنها تبدل يوم القيامة بأرض بيضاء من فضة. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: تصير الأرض فضة والسموات ذهباً. وقال الربيع عن أبي العالية بن كعب, قال: تصير السموات جناناً. وقال أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي أو عن محمد بن قيس في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال: خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم, وكذا روى وكيع عن عمر بن بشير الهمداني عن سعيد بن جبير في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
وقال الأعمش عن خيثمة قال: قال عبد الله بن مسعود: الأرض يوم القيامة كلها نار, والجنة من ورائها ترى كواعبها, وأكوابها, ويلجم الناس العرق أو يبلغ منهم العرق, ولم يبلغوا الحساب. وقال الأعمش أيضاً عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن قال: قال عبد الله: الأرض كلها نار يوم القيامة, والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها, والذي نفس عبد الله بيده, إن الرجل ليفيض عرقاً حتى ترسخ في الأرض قدمه, ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب, قالوا: مم ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: مما يرى الناس ويلقون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن كعب في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} قال: تصير السموات جناناً, ويصير مكان البحر ناراً, وتبدل الأرض غيرها. وفي الحديث الذي رواه أبو داود "لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر, فإن تحت البحر ناراً ـ أو تحت النار بحراً ـ" وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي, لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً, ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة" . وقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ} أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي الذي قهر كل شيء وغلبه ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب.
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مّقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىَ وُجُوهَهُمْ النّارُ لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
يقول تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} وتبرز الخلائق لديانها, ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم {مّقَرّنِينَ} أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف, كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} وقال: {وَإِذَا(2/662)
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} وقال: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} وقال: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} والأصفاد هي القيود, قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد, وهو مشهور في اللغة, قال عمرو بن كلثوم:
آبوا بالثياب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران, وهو الذي تهنأ به الإبل أي تطلى, قال قتادة: وهو ألصق شيء بالنار. ويقال فيه: قطران بفتح القاف وكسر الطاء وتسكينها, وبكسر القاف وتسكين الطاء, ومنه قول أبي النجم:
كأن قطراناً إذا تلاها ... ترمي به الريح إلى مجراها
وكان ابن عباس يقول: القطران هنا النحاس المذاب, وربما قرأها {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} أي من نحاس حار قد انتهى حره, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة. وقوله: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} كقوله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن إسحاق, أنبأنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام, عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من أمر الجاهلية لا يتركن: الفخر بالأحساب, والطعن في الأنساب, والاستسقاء بالنجوم, والنياحة على الميت, والنائحة إذا لم تتب قبل موتها, تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" انفرد بإخراجه مسلم. وفي حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين الجنة والنار سرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار".
وقوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} أي يوم القيامة كما قال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} الآية {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يحتمل أن يكون كقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز لأنه يعلم كل شيء, ولا يخفى عليه خافية, وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم, كقوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وهذا معنى قول مجاهد {سَرِيعُ الْحِسَابِ} إحصاء ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين, والله أعلم.
{هََذَا بَلاَغٌ لّلنّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوَاْ أَنّمَا هُوَ إِلََهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذّكّرَ أُوْلُواْ الألْبَابِ}
يقول تعالى هذا القرآن بلاغ للناس كقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما قال في أول السورة: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الآية, {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} أي ليتعظوا به {وَلِيَعْلَمُوَاْ أَنّمَا هُوَ إِلََهٌ وَاحِدٌ} أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو {وَلِيَذّكّرَ أُوْلُواْ الألْبَابِ} أي ذوي العقول.
آخر تفسير سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام, والحمد لله رب العالمين.(2/663)
سورة الحجر
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
{الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مّبِينٍ رّبَمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. وقوله تعالى { رّبَمَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ} الآية, إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر, ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين, ونقل السدي في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة, أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين. وقيل: إن المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمناً. وقيل: هذا إخبار عن يوم القيامة, كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل, عن أبي الزعراء, عن عبد الله في قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} قال: هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار, وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا مسلم, حدثنا القاسم, حدثنا ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} يتأولانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار, قال: فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا, قال: فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم, فذلك حين يقول: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن حماد عن إبراهيم, وعن خصيف عن مجاهد قالا: يقول أهل النار للموحدين: ما أغنى عنكم إيمانكم ؟ فإذا قالوا ذلك, قال الله: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان, قال: فعند ذلك قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}, وهكذا روي عن الضحاك وقتادة وأبي العالية وغيرهم, وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة, فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن العباس هو الأخرم, حدثنا محمد بن منصور الطوسي, حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذ وابن علية يحيى بن موسى, حدثنا معروف بن واصل عن يعقوب بن نباتة عن عبد الرحمن الأغر, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ناساً من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم, فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قولكم لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار ؟ فيغضب الله لهم فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة, فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه, ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين" , فقال رجل: يا أنس أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" نعم أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا, ثم قال الطبراني: تفرد به الجهبذ.
(الحديث الثاني) ـ قال الطبراني أيضاً: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أبو الشعثاء علي بن حسن الواسطي, حدثنا خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه, عن أبي موسى رضي الله عنه قال:(2/664)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة, قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين ؟ قالوا: بلى, قالوا: فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار ؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها, فسمع الله ما قالوا فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا: ياليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا ـ قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}" ورواه ابن أبي حاتم من حديث خالد بن نافع به, وزاد فيه: بسم الله الرحمن الرحيم عوض الاستعاذة.
(الحديث الثالث) قال الطبراني أيضاً: حدثنا موسى بن هارون, حدثنا إسحاق بن راهويه, قال: قلت لأبي أسامة أحدثكم أبو روق واسمه عطية بن الحارث حدثني صالح بن أبي طريف قال: سألت أبا سعيد الخدري فقلت له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} ؟ قال: نعم سمعته يقول: "يخرج الله ناساً من المؤمنين من النار بعدما يأخذ نقمته منهم" وقال: "لما أدخلهم الله النار مع المشركين, قال لهم المشركون: تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا فيما بلاكم معنا في النار, فإذا سمع الله ذلك منهم أذن في الشفاعة لهم, فتشفع لهم الملائكة والنبيون, ويشفع المؤمنون حتى يخرجوا بإذن الله, فإذا رأى المشركون ذلك قالوا: ياليتنا كنا مثلهم فتدركنا الشفاعة فنخرج معهم ـ قال ـ فذلك قول الله {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} فيسمون في الجنة الجهنميين من أجل سواد في وجوههم, فيقولون: يا رب أذهب عنا هذا الاسم, فيأمرهم فيغتسلون في نهر في الجنة فيذهب ذلك الاسم عنهم" فأقرّ به أبو أسامة وقال نعم.
(الحديث الرابع) قال ابن أبي حاتم, حدثنا علي بن الحسين, حدثنا العباس بن الوليد النرسي, حدثنا مسكين أبو فاطمة, حدثني اليمان بن يزيد عن محمد بن جبر عن محمد بن علي, عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه, ومنهم من تأخذه إلى حجزته, ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه, على قدر ذنوبهم وأعمالهم, ومنهم من يمكث فيها شهراً ثم يخرج منها, ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها, وأطولهم فيها مكثاً بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى, فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في النار سواء, فيغضب الله لهم غضباً لم يغضبه لشيء فيما مضى, فيخرجهم إلى عين في الجنة وهو قوله : {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}".
وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} تهديد شديد لهم ووعيد أكيد, كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} . وقوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ}, ولهذا قال: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أي عن التوبة والإنابة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة أمرهم.
{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاّ وَلَهَا كِتَابٌ مّعْلُومٌ مّا تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}
يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها, وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم, وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك.(2/665)
{وَقَالُواْ يَأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنّكَ لَمَجْنُونٌ لّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ مَا نُنَزّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مّنظَرِينَ إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم {يَأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ} أي الذي تدعي ذلك {إِنّكَ لَمَجْنُونٌ} أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا {لّوْ مَا} أي هلا {تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} أي يشهدون لك بصحة ما جئت به إن كنت من الصادقين, كما قال فرعون { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}, {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً}, وكذا قال في هذه الآية: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} وقال مجاهد في قوله: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} بالرسالة والعذاب, ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن, وهو الحافظ له من التغيير والتبديل, ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى: {لَهُ لَحَافِظُونَ} على النبي صلى الله عليه وسلم, كقوله {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} والمعنى الأول أولى وهو ظاهر السياق.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ}
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من كفار قريش: إنه أرسل من قبله في الأمم الماضية وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به, ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى قال أنس والحسن البصري {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} يعني الشرك. وقوله {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} أي قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار, وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة.
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مّنَ السّمَاءِ فَظَلّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مّسْحُورُونَ}
يخبر تعالى عن قوّة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم باباً من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك, بل قالوا: {إِنّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا} قال مجاهد وابن كثير والضحاك: سدت أبصارنا. وقال قتادة عن ابن عباس: أخذت أبصارنا. وقال العوفي عن ابن عباس: شبه علينا وإنما سحرنا. وقال الكلبي: عميت أبصارنا. وقال ابن زيد: {سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا}, السكران الذي لا يعقل.
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مّبِينٌ وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}(2/666)
يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات, لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات, ما يحار نظره فيه, وبهذا قال مجاهد وقتادة: البروج ههنا هي الكواكب. (قلت): وهذا كقوله تبارك وتعالى {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} الآية. ومنهم من قال: البروج هي منازل الشمس والقمر. وقال عطية العوفي: البروج ههنا هي قصور الحرس. وجعل الشهب حرساً لها من مردة الشياطين لئلا يسمعوا إلى الملأ الأعلى, فمن تمرد وتقدم منهم لاستراق السمع جاءه شهاب مبين فأتلفه, فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه فيأخذها الآخر ويأتي بها إلى وليه, كما جاء مصرحاً به في الصحيح.
كما قال البخاري في تفسير هذه الآية: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة, عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان" قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا: للذي قال الحق وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترقو السمع, ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر, ووصف سفيان بيده, وفرج بين أصابع يده اليمنى, نصبها بعضها فوق بعض, فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه, وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الأرض, وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على فم الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدق, فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا, فوجدناه حقاً للكلمة التي سمعت من السماء, ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها, وما جعل فيها من الجبال الرواسي, والأودية والأراضي والرمال, وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة.
وقال ابن عباس {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} أي معلوم, وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك ومجاهد والحكم بن عتيبة والحسن بن محمد وأبو صالح وقتادة, ومنهم من يقول: مقدر بقدر. وقال ابن زيد: من كل شيء يوزن ويقدر بقدر, وقال ابن زيد: ما يزنه أهل الأسواق. وقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} يذكر تعالى أنه صرفهم في الأرض في صنوف الأسباب والمعايش وهي جمع معيشة. وقوله: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} قال مجاهد: هي الدواب والأنعام. وقال ابن جرير: هم العبيد والإماء والدواب والأنعام, والقصد أنه تعالى يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش, وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها, والأنعام التي يأكلونها, والعبيد والإماء التي يستخدمونها, ورزقهم على خالقهم لا عليهم, فلهم هم المنفعة, والرزق على الله تعالى.
{وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإنّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
يخبر تعالى أنه مالك كل شيء وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه, وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف {وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مّعْلُومٍ} كما يشاء وكما يريد, ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة قال يزيد بن أبي زياد عن أبي جحيفة عن(2/667)
عبد الله: ما من عام بأمطر من عام, ولكن الله يقسمه بينهم حيث شاء عاماً ههنا وعاماً ههنا, ثم قرأ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} الآية, رواه ابن جرير, وقال أيضاً: حدثنا القاسم, حدثنا هشيم, أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عتيبة في قوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} قال: ما عام بأكثر مطراً من عام ولا أقل, ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون بما كان في البحر, قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس, وولد آدم يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت.
وقال البزار: حدثنا داود هو ابن بكير, حدثنا حيان بن أغلب بن تميم, حدثني أبي عن هشام, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خزائن الله الكلام, فإذا أراد شيئاً قال له كن فكان" ثم قال: لا يرويه إلا أغلب وليس بالقوي, وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين, ولم يروه عنه إلا ابنه. وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أي تلقح السحاب فتدر ماء, وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها, وذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم, فإنه أفردها ووصفها بالعقيم وهو عدم الإنتاج, لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعداً.
وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو, عن قيس بن السكن, عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} قال: ترسل الريح فتحمل الماء من السماء, ثم تمري السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة, وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة. وقال الضحاك: يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء. وقال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً, ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب, ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب, ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر, ثم تلا {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}.
وقد روى ابن جرير من حديث عبيس بن ميمون عن أبي المهزم عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الريح الجنوب من الجنة, وهي التي ذكر الله في كتابه, وفيها منافع للناس" وهذا إسناد ضعيف, وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده. حدثنا سفيان, حدثنا عمرو بن دينار, أخبرني يزيد بن جعدية الليثي أنه سمع عبد الرحمن بن مخراق يحدث عن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق في الجنة ريحاً بعد الريح بسبع سنين, وإن من دونها باباً مغلقاً, وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب, ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء, وهي عند الله الأذيب, وهي فيكم الجنوب".
وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي أنزلناه لكم عذباً يمكنكم أن تشربوا منه لو نشاء جعلناه أجاجاً, كما نبه على ذلك في الآية الأخرى في سورة الواقعة, وهو قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}, وفي قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} وقوله: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} قال سفيان الثوري: بما نعين, ويحتمل أن المراد وما أنتم له بحافظين, بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معيناً وينابيع في الأرض, ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به, ولكن من رحمته أنزله وجعله عذباً, وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك, ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.
وقوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته, وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم, ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع, وأخبر أنه تعالى يرث الأرض ومن عليها, وإليه يرجعون, ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم, فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} الآية, قال ابن عباس رضي الله عنهما: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام, والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة, وروي نحوه عن عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي(2/668)
وغيرهم, وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه, عن رجل, عن مروان بن الحكم أنه قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء, فأنزل الله {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}, وقد ورد فيه حديث غريب جداً, فقال ابن جرير: حدثني محمد بن موسى الجرشي, حدثنا نوح بن قيس, حدثنا عمرو بن قيس, حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء, قال ابن عباس: لا والله ما رأيت مثلها قط, وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا, يعني لئلا يروها, وبعض يستأخرون, فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم, فأنزل الله {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}, وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره, ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما, وابن ماجه من طرق عن نوح بن قيس الحداني, وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما, وحكي عن ابن معين تضعيفه, وأخرجه مسلم وأهل السنن, وهذا الحديث فيه نكارة شديدة, وقد رواه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان, عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} في الصفوف في الصلاة {الْمُسْتَأْخِرِينَ} فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط, ليس فيه لابن عباس ذكر, وقد قال الترمذي: هذا أشبه من رواية نوح بن قيس, و الله أعلم, وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر, عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذكر محمد بن كعب في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} وأنها في صفوف الصلاة, فقال محمد بن كعب: ليس هكذا {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} الميت والمقتول {الْمُسْتَأْخِرِينَ} من يخلق بعد { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيراً.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ وَالْجَآنّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ}
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المراد بالصلصال ههنا التراب اليابس, والظاهر أنه كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ وَالْجَآنّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ} وعن مجاهد أيضاً: الصلصال المنتن, وتفسير الآية بالآية أولى. قوله: {مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} أي الصلصال من حمأ, وهو الطين. والمسنون: الأملس, كما قال الشاعر:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ ... ـراء تمشي في مرمر مسنون
أي أملس صقيل, ولهذا روي عن ابن عباس أنه قال: هو التراب الرطب, وعن ابن عباس ومجاهد أيضاً والضحاك: أن الحمأ المسنون هو المنتن. وقيل: المراد بالمسنون ههنا المصبوب. وقوله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل الإنسان {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} قال ابن عباس: هي السموم التي تقتل, وقال بعضهم: السموم بالليل والنهار, ومنهم من يقول: السموم بالليل والحرور بالنهار. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: دخلت على عمر الأصم أعوده, فقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من عبد الله بن مسعود, يقول هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان, ثم قرأ {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} وعن ابن عباس: أن الجان خلق من لهب النار, وفي رواية: من أحسن النار. وعن عمرو بن دينار: من نار الشمس. وقد ورد في الصحيح "خلقت الملائكة من نور, وخلقت الجان من مارج من نار, وخلق(2/669)
آدم مما وصف لكم". والمقصود من الآية التنبيه على شرف آدم عليه السلام وطيب عنصره وطهارة محتده.
{وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ أَن يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ}
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له, ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة حسداً وكفراً وعناداً واستكباراً وافتخاراً بالباطل, ولهذا قال: {لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ} كقوله {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وقوله: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} الآية, وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً من حديث شبيب بن بشر عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما خلق الله الملائكة قال: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} قالوا: لا نفعل, فأرسل عليهم ناراً فأحرقتهم, ثم خلق ملائكة أخرى فقال لهم مثل ذلك, فقالوا: لا نفعل, فأرسل عليهم ناراً فأحرقتهم, ثم خلق ملائكة أخرى فقال: إني خالق بشراً من طين, فإِذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا, فأرسل عليهم ناراً فأحرقتهم, ثم خلق ملائكة فقال: إني خالق بشراً من طين, فإِذا أنا خلقته فاسجدوا له, قالوا: سمعنا وأطعنا, إِلا إِبليس كان من الكافرين الأولين, وفي ثبوت هذا عنه بعد, والظاهر أنه إسرائيلي, و الله أعلم.
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيمٌ وَإِنّ عَلَيْكَ اللّعْنَةَ إِلَىَ يَوْمِ الدّينِ قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَىَ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}
يذكر تعالى أنه أمر إِبليس أمراً كونياً لا يخالف ولا يمانع بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى, وأنه رجيم أي مرجوم, وأنه قد أتبعه لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير أنه قال: لما لعن الله إِبليس, تغيرت صورته عن صورة الملائكة, ورن رنة, فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها, رواه ابن أبي حاتم, وأنه لما تحقق الغضب الذي لا مرد له, سأل من تمام حسده لاَدم وذريته النظرة إلى يوم القيامة, وهو يوم البعث, وأنه أجيب إلى ذلك استدراجاً له وإِمهالاً, فلما تحقق النظرة قبحه الله.
{قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لاُزَيّنَنّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلاُغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيّ مُسْتَقِيمٌ إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مّقْسُومٌ}(2/670)
يقول تعالى مخبراً عن إِبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} قال بعضهم: أقسم بإِغواء الله له. {قلت} ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} أي لذرية آدم عليه السلام {فِي الْأَرْضِ} أي أحبب إليهم المعاصي وأرغبهم فيها وأؤزهم إليها, وأزعجهم إليها إزعاجاً {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي كما أغويتني وقدرت عليّ ذلك {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} كقوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} قال الله تعالى له متهدداً ومتوعداً { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أي مرجعكم كلكم إليّ, فأجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر, كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}. وقيل: طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى, وإليه تنتهي, قاله مجاهد والحسن وقتادة كقوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} وقرأ قيس بن عبادة ومحمد بن سيرين وقتادة {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} كقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي رفيع والمشهور القراءة الأولى.
وقوله {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي الذي قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم ولا وصول لك إليهم {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} استثناء منقطع. وقد أورد ابن جرير ههنا من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن موهب, حدثنا يزيد بن قسيط قال: كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجة من قراهم, فإذا أراد النبي أن يستنبىء ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له, ثم سأله ما بدا له, فبينا نبي في مسجده إِذ جاء عدو الله ـ يعني إِبليس ـ حتى جلس بينه وبين القبلة, فقال النبي: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم", قال: فردد ذلك ثلاث مرات, فقال عدو الله: أخبرني بأي شيء تنجو مني ؟ فقال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم مرتين ؟ فأخذ كل واحد منهما على صاحبه, فقال النبي: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} قال عدو الله: قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي: ويقول الله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}, وإني و الله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله: صدقت بهذا تنجو مني, فقال النبي: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم ؟ قال آخذه عند الغضب والهوى.
قوله: {وإِن وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي جهنم موعد جميع من اتبع إِبليس, كما قال عن القرآن {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}, ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب {كُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه, أجارنا الله منها, وكل يدخل من باب بحسب عمله, ويستقر في درك بقدر عمله. قال إسماعيل بن علية وشعبة, كلاهما عن أبي هارون الغنوي عن حطان بن عبد الله أنه قال: سمعت علي بن أبي طالب وهو يخطب قال: إن أبواب جهنم هكذا ـ قال أبو هارون ـ أطباقاً بعضها فوق بعض. وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن هبيرة بن أبي يريم, عن علي رضي الله عنه قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض, فيمتلىء الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تمتلىء كلها.
وقال عكرمة: سبعة أبواب سبعة أطباق, وقال ابن جريج: سبعة أبواب: أولها جنهم, ثم لظى, ثم الحطمة, ثم السعير, ثم سقر, ثم الجحيم, ثم الهاوية. وروى الضحاك عن ابن عباس نحوه: وكذا روي عن الأعمش بنحوه أيضاً, وقال قتادة: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} هي و الله منازل بأعمالهم, رواهن ابن(2/671)
جرير, وقال جويبر عن الضحاك {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} قال: باب لليهود, وباب للنصارى, وباب للصابئين, وباب للمجوس, وباب للذين أشركوا وهم كفار العرب, وباب للمنافقين, وباب لأهل التوحيد, فأهل التوحيد يرجى لهم ولا يرجى لأولئك أبداً.
وقال الترمذي: حدثنا عبد بن جنيد, حدثنا عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن حميد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لجهنم سبعة أبواب, باب منها لمن سل السيف على أمتي ـ أو قال على أمة محمد" ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عباس بن الوليد الخلال, حدثنا زيد ـ يعني ابن يحيى ـ حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي نضرة عن سمرة بن جندب, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} قال: "إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه, وإن منهم من تأخذه النار إلى حجزته, ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه, منازلهم بأعمالهم, فذلك قوله: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}.
{إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبّىءْ عِبَادِي أَنّي أَنَا الْغَفُورُ الرّحِيمُ وَأَنّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ}
لما ذكر تعالى حال أهل النار, عطف على ذكر أهل الجنة وأنهم في جنات وعيون. وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} أي سالمين من الآفات, مسلم عليكم {آمِنِينَ} أي من كل خوف وفزع, ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء, وقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} روى القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن, حتى إِذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل, ثم قرأ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} هكذا في هذه الرواية, والقاسم بن عبد الرحمن في روايته عن أبي أمامة ضعيف, وقد روى سنيد في تفسيره: حدثنا ابن فضالة عن لقمان عن أبي أمامة قال: لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري. وهذا موافق لما في الصحيح من رواية قتادة: حدثنا أبو المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخلص المؤمن من النار, فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إِذا هذبوا ونقوا, أذن لهم في دخول الجنة".
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا هشام عن محمد هو ابن سيرين قال: استأذن الأشتر على علي رضي الله عنه, وعنده ابن لطلحة فحبسه ثم أذن له, فلما دخل قال: إني لأراك إنما حبستني لهذا, قال: أجل, قال: إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني, قال: أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا الحسن, حدثنا أبو معاوية الضرير, حدثنا أبو مالك الأشجعي, عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال: دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعدما فرغ من أصحاب الجمل, فرحب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}. وحدثنا الحسن أبو معاوية الضرير حدثنا أبو مالك الأشجعي عن أبي حبيبة أبو مالك الأشجعي عن أبي حبيبة مولى(2/672)
لطلحة قال: دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعد ما فرغ من اصحاب الجمل فرحب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قال: ورجلان جالسان إلى ناحية البساط, فقالا: الله أعدل من ذلك تقتلهم بالأمس وتكونون إخواناً, فقال علي رضي الله عنه: قوماً أبعد أرض وأسحقها, فمن هم إذاً إن لم أكن أنا وطلحة ؟ وذكر أبو معاوية الحديث بطوله, وروى وكيع عن أبان بن عبد الله البجلي عن نعيم بن أبي هند, عن ربعي بن جراش عن علي نحوه, وقال فيه فقام رجل من همدان فقال: الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين, قال: فصاح به علي صيحة فظننت أن القصر تدهده لها, ثم قال: إذا لم نكن نحن فمن هم ؟
وقال سعيد بن مسروق عن أبي طلحة, وذكره وفيه: فقال الحارث الأعور ذلك, فقام إليه علي رضي الله عنه فضربه بشيء كان في يده في رأسه, وقال:فمن هم يا أعور إذا لم نكن نحن ؟ وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلاً ثم أذن له فقال له: أما أهل البلاء فتجفوهم, فقال علي: بفيك التراب إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وكذا روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بنحوه. وقال سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن أبي موسى سمع الحسن البصري يقول: قال علي: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وقال كثير النواء: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت: وليي وليكم, وسلمي سلمكم, وعدوي عدوكم, وحربي حربكم, أنا أسألك بالله أتبرأ من أبي بكر وعمر فقال: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} تولهما يا كثير فما أدركك فهو في رقبتي هذه, ثم تلا هذه الآية {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قال: أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين, وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح في قوله: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} قال: هم عشرة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة, والزبير وعبد الرحمن بن عوف, وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. وقوله: {مُتَقَابِلِينَ} قال مجاهد: لا ينظر بعضهم في قفا بعض, وفيه حديث مرفوع.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن عبدك القزويني, حدثنا حسان بن حسان, حدثنا إبراهيم بن بشير, حدثنا يحيى بن معين عن إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل, عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} في الله ينظر بعضهم إلى بعض. وقوله: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} يعني المشقة والأذى, كما جاء في الصحيحين "أن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب". وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} كما جاء في الحديث "يقال يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبداً, وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً, وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبداً". وقال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}.
وقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} أي أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عذاب أليم, وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف, وذكر في سبب نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس من(2/673)
أصحابه يضحكون فقال: "اذكروا الجنة واذكروا النار" فنزلت { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} رواه ابن أبي حاتم وهو مرسل.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثنا إسحاق, أخبرنا ابن المكي, أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا مصعب بن ثابت, حدثنا عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رياح, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال: "ألا أراكم تضحكون" ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: "إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله يقول لك لم تقنط عبادي {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}" وقال شعبة عن قتادة في قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام, ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه".
{وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشّرْتُمُونِي عَلَىَ أَن مّسّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ قَالُواْ بَشّرْنَاكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رّحْمَةِ رَبّهِ إِلاّ الضّآلّونَ}
يقول تعالى: وأخبرهم يا محمد عن قصة {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر, وكيف {دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي خائفون, وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة, وهو العجل السمين الحنيذ {قَالُوا لا تَوْجَلْ} أي لا تخف {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي إسحاق عليه السلام كما تقدم في سورة هود ثم {قال} متعجباً من كبره وكبر زوجته ومتحققاً للوعد {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقاً وبشارة بعد بشارة {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} وقرأ بعضهم القنطين فأجابهم بأنه ليس يقنط, ولكن يرجو من الله الولد, وإن كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىَ قَوْمٍ مّجْرِمِينَ إِلاّ آلَ لُوطٍ إِنّا لَمُنَجّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَآ إِنّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}
يقول تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى, أنه شرع يسألهم عما جاءوا له, فقالوا: {إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىَ قَوْمٍ مّجْرِمِينَ} يعنون قوم لوط, وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين, ولهذا قالوا: {إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَآ إِنّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} أي الباقين المهلكين.
{فَلَمّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ مّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقّ وَإِنّا لَصَادِقُونَ}
يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه, فدخلوا عليه داره قال: {إِنّكُمْ قَوْمٌ(2/674)
مّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم وحلوله بساحتهم {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} كقوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ}. وقوله: { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه.
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ اللّيْلِ وَاتّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مّصْبِحِينَ}
يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل, وأن يكون لوط عليه السلام يمشي وراءهم ليكون أحفظ لهم, وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الغزو إنما يكون ساقة يزجي الضعيف ويحمل المنقطع. وقوله: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} كأنه كان معهم من يهديهم السبيل {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} أي تقدمنا إليه في هذا {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} أي وقت الصباح كقوله في الآية الأخرى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
{وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}
يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحة وجوههم, وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين {قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ} وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم أنهم رسل الله, كما قال في سورة هود, وأما ههنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم, ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيما إذا دل دليل على خلافه, فقالوا له مجيبين: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي أو ما نهيناك أن تضيف أحداً ؟ فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة. وقد تقدم إيضاح القول في ذلك بما أغنى عن إعادته. هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء وماذا يصبحهم من العذاب المنتظر. ولهذا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه, وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض. قال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره, قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} يقول: وحياتك وعمرك وبقاؤك في الدنيا {لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} رواه ابن جرير, وقال قتادة: {فِي سَكْرَتِهِمْ} أي في ضلالهم {يَعْمَهُونَ} أي يلعبون, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لَعَمْرُكَ} لعيشك {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال يترددون.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ وَإِنّهَا لَبِسَبِيلٍ مّقِيمٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لِلْمُؤْمِنِينَ}(2/675)
يقول تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها, وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء, ثم قلبها وجعل عاليها سافلها, وإرسال حجارة السجيل عليهم وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته, كما قال مجاهد في قوله: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: المتفرسين. وعن ابن عباس والضحاك: للناظرين. وقال قتادة: للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل المدينة {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} للمتأملين. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا محمد بن كثير العبدي عن عمرو بن قيس, عن عطية عن أبي سعيد مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن, فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} رواه الترمذي: وابن جرير من حديث عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد, وقال الترمذي. لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثني أحمد بن محمد الطوسي, حدثنا الحسن بن محمد, حدثنا الفرات بن السائب, حدثنا ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن, فإن المؤمن ينظر بنور الله" وقال ابن جرير: حدثني أبو شرحبيل الحمصي, حدثنا سليمان بن سلمة, حدثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبي, حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي, حدثنا وهب بن منبه عن طاوس بن كيسان عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احذروا فراسة المؤمن, فإنه ينظر بنور الله وبتوفيق الله". وقال أيضاً: حدثنا عبد الأعلى بن واصل, حدثنا سعيد بن محمد الجرمي, حدثنا عبد الواحد بن واصل, حدثنا أبو بشر المزلق عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم", ورواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا سهل بن بحر, حدثنا سعيد بن محمد الجرمي, حدثنا أبو بشر يقال له ابن المزلق قال: وكان ثقة, عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم" وقوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي والقذف بالحجارة, حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة بطريق مهيع مسالكه مستمرة إلى اليوم, كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقال مجاهد والضحاك {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} قال: معلم. وقال قتادة: بطريق واضح. وقال قتادة أيضاً: بصقع من الأرض واحد, وقال السدي: بكتاب مبين, يعني كقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ولكن ليس المعنى على ما قال ههنا,والله أعلم. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطاً وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.
{وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنّهُمَا لَبِإِمَامٍ مّبِينٍ}
أصحاب الأيكة هم قوم شعيب, قال الضحاك وقتادة وغيرهما: الأيكة الشجر الملتف, وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان, فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة, وقد كانوا قريباً من قوم لوط بعدهم في الزمان, ومسامتين لهم في المكان, ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} أي طريق مبين, قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيره: طريق ظاهر, ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}(2/676)
{وَلَقَدْ كَذّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحاً نبيهم عليهم السلام, ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين, ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين, وذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء, وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم, فلما عتوا وعقروها قال لهم {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وذكر تعالى أنهم {كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} أي من غير خوف ولا احتياج إليها بل أشراً وبطراً وعبثاً كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك, فقنع رأسه وأسرع دابته, وقال لأصحابه: "لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين, فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم". وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أي وقت الصباح من اليوم الرابع {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه, فما دفعت عنهم تلك الأموال ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.
{وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ}
يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ} أي بالعدل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} الآية, وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ثم أخبر نبيه بقيام الساعة وأنها كائنة لا محالة ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به, كقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: كان هذا قبل القتال, وهو كما قالا, فإن هذه مكية والقتال إنما شرع بعد الهجرة.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء, العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض, كقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرنّ إلى الدنيا, وزينتها, وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه فلا تغبطهم بما هم فيه, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزناً عليهم في(2/677)
تكذيبهم لك ومخالفتهم دينك, {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي ألن لهم جانبك, كقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقد اختلف في السبع المثاني ما هي ؟ فقال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم: هي السبع الطوال, يعنون البقرة, وآل عمران, والنساء, والمائدة, والأنعام, والأعراف, ويونس, نص عليه ابن عباس وسعيد بن جبير, وقال سعيد: بين فيهن الفرائض والحدود والقصص والأحكام. وقال ابن عباس: بين الأمثال والخبر والعبر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان: المثاني: البقرة. وآل عمران, والنساء, والمائدة, والأنعام, والأعراف, والأنفال وبراءة سورة واحدة, قال ابن عباس: ولم يعطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم, وأعطي موسى منهن ثنتين, رواه هشيم عن الحجاج عن الوليد بن العيذار عن سعيد بن جبير عنه. وقال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أوتي النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً من المثاني الطوال, وأوتي موسى عليه السلام ستاً, فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان وبقيت أربع, وقال مجاهد: هي السبع الطوال, ويقال: هي القرآن العظيم. وقال خصيف عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى: {سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال: أعطيتك سبعة أجزاء آمُرْ, وأَنه, وأبشر, وأنذر, وأضرب الأمثال, وأعدد النعم, وأنبئك بنبأ القرآن. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم
(والقول الثاني) أنها الفاتحة, وهي سبع آيات. وروي ذلك عن علي وعمر وابن مسعود وابن عباس, قال ابن عباس: والبسملة هي الآية السابعة, وقد خصكم الله بها, وبه قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن عبيد بن عمير وابن أبي مليكة وشهر بن حوشب والحسن البصري ومجاهد.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع, واختاره ابن جرير, واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك, وقد قدمناها في فضائل سورة الفاتحة في أول التفسير ولله الحمد, وقد أورد البخاري رحمه الله ههنا حديثين:
(أحدهما) قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر, حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم, عن أبي سعيد بن المعلى قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته, فقال: "ما منعك أن تأتيني ؟" فقلت: كنت أصلي, فقال: "ألم يقل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد" فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت فقال: "{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن الذي أوتيته "
(الثاني) قال: حدثنا آدم, حدثنا ابن أبي ذئب, حدثنا المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم", فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم, ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك, لما فيها من هذه الصفة كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضاً, كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه, وهو القرآن العظيم أيضاً, كما أنه عليه الصلاة والسلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى, فأشار إلى مسجده, والآية نزلت في مسجد قباء, فلا تنافي, فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة, والله أعلم. وقوله: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} أي استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية, ومن ههنا ذهب ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح "ليس منا من لم(2/678)
يتغن بالقرآن " إلى أنه يستغني به عما عداه, وهو تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن وكيع بن الجراح, حدثنا موسى بن عبيدة عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء يصلحه, فأرسل إلى رجل من اليهود "يقول لك محمد رسول لله: أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب" قال: لا , إلا برهن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فقال: "أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض, ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه" فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى آخر الآية, كأنه يعزيه عن الدنيا, قال العوفي عن ابن عباس {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} قال: نهى الرجل أن يتمنى ما لصاحبه. وقال مجاهد {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} هم الأغنياء.
{وَقُلْ إِنّيَ أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} البين النذارة, نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها, وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام. وقوله: {الْمُقْتَسِمِينَ} أي المتحالفين, أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم, كقوله تعالى إخباراً عن قوم صالح إنهم { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} الآية, أي نقتلهم ليلاً, قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ} الآية {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين, قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني, وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء, فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا, وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم, فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم, فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق".
وقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي جزءوا كتبهم المنزلة عليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا هشيم, أنبأنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قال: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان, عن ابن عباس {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قال: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان, عن ابن عباس قال: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قال هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه, حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض اليهود والنصارى. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم نحو ذلك, وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قال: السحر, وقال عكرمة: العضة السحر بلسان قريش تقول للساحرة إنها العاضهة, وقال مجاهد: عضوه أعضاء, قالوا سحر, وقالوا كهانة, وقالوا أساطير الأولين, وقال عطاء: قال بعضهم ساحر, وقالوا مجنون, وقال كاهن, فذلك العضين,(2/679)
وكذا روي عن الضحاك وغيره.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش, وكان ذا شرف فيهم, وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش, إنه قد حضر هذا الموسم, وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا, فأجمعوا فيه رأياً واحداً, ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً, ويرد قولكم بعضه بعضاً, فقالوا: وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به, قال: بل أنتم قولوا لأسمع, قالوا: نقول كاهن, قال: ما هو بكاهن, قالوا: فنقول مجنون, قال: ما هو بمجنون, قالوا: فنقول شاعر, قال: ما هو بشاعر, قالوا: فنقول ساحر, قال: ما هو بساحر, قالوا: فماذا نقول ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة, فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل, وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر, فتفرقوا عنه بذلك, وأنزل الله فيهم {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أصنافاً {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أولئك النفر الذين قالوا لرسول لله.
وقال عطية العوفي عن ابن عمر في قوله: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عما كانوا يعملون} قال: عن لا إله إلا الله. وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن ليث هو ابن أبي سليم عن مجاهد في قوله تعالى: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال: عن لا إله إلا الله, وقد روى الترمذي وأبو يعلى الموصلي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي, عن ليث بن أبي سليم عن بشير بن نهيك, عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال: عن لا إله إلا الله, ورواه ابن إدريس عن ليث عن بشير عن أنس موقوفاً, وقال ابن جرير: حدثنا أحمد, حدثنا أبو أحمد, حدثنا شريك عن هلال عن عبد الله بن عكيم, قال: ورواه الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعاً, وقال عبد الله هو ابن مسعود: والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر, فيقول: ابن آدم ماذا غرك مني بي ؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟
وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال: يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون, وماذا أجابوا المرسلين, وقال ابن عيينة عن عملك وعن مالك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة الشيباني عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه, وعن فتات الطينة بأصبعه, فلا ألفينك يوم القيامة واحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثم قال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} قال: لا يسألهم هل عملتم كذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم, ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا ؟.
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به, وهو مواجهة المشركين به, كما قال ابن عباس في قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي أمضه, وفي رواية {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت {فَاصْدَعْ بِمَا(2/680)
تُؤْمَرُ}, فخرج هو وأصحابه. وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أي بلغ ما أنزل إليك من ربك, ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} ولا تخفهم فإن لله كافيك إياهم وحافظك منهم, كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن, حدثنا إسحاق بن إدريس, حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم, عن أنس قال: سمعت أنساً يقول في هذه الآية, {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمزه بعضهم فجاء جبريل, أحسبه قال: فغمزهم, فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. قال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر, وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب أبي زمعة , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه, فقال: "اللهم أعم بصره, وأثكله ولده" ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة, ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, ومن بني سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد, ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن ـ عمرو بن ملكان ـ. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ إلى قوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
وقال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء,أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت , فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه, فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه, فاستسقى بطنه, ومر به الوليد بن المغيرة, فأشار إلى أثر جرحٍ بأسفل كعب رجله, وكان أصابه قبل ذلك بسنتين, وهو يجز إزاره, وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له, فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش, وليس بشيء, فانتفض به فقتله, ومر به العاص بن وائل, فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف, فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه فقتلته, ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل, عن ابن عباس قال: كان رأسهم الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم, وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به, عن يزيد عن عروة بطوله, إلا أن سعيداً يقول: الحارث بن غيطلة, وعكرمة يقول الحارث بن قيس. قال الزهري: وصدقا هو الحارث بن قيس, وأمه غيطلة, وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة. وقال الشعبي: كانوا سبعة, والمشهور الأول: وقوله: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع لله معبوداً آخر.
وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض فلا يهيدنك ذلك ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله, وتوكل عليه فإنه كافيك وناصرك عليهم, فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة, ولهذا قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همّار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار(2/681)
أكفك آخره" ورواه أبو داود والنسائي من حديث مكحول عن كثير بن مرة بنحوه, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
وقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} قال البخاري: قال سالم: الموت, وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر, كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان, حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} قال: الموت, وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره, والدليل على ذلك قوله تعالى إخباراً عن أهل النار أنهم قالوا {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وفي الصحيح من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات, قالت أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب, فشهادتي عليك لقد أكرمك الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه ؟" فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله, فمن ؟ فقال: "أما هو فقد جاءه اليقين, وإني لأرجو له الخير" ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً, فيصلي بحسب حاله.
كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صل قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً, فإن لم تستطع فعلى جنب" ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة, فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم, وهذا كفر وضلال وجهل, فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته, وما يستحق من التعظيم, وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة, وإنما المراد باليقين ههنا الموت, كما قدمناه, ولله الحمد والمنة, والحمد لله على الهداية وعليه الاستعانة والتوكل, وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها, فإنه جواد كريم.
آخر تفسير سورة الحجر, والحمد لله رب العالمين.(2/682)
سورة النحل
...
في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
يقول تعالى مهدداً للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا: هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم, قاله قتادة, {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال. وقوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى ذاقوا بأس الله وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به, فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ذلك {وَحَاقَ بِهِمْ} أي أحاط بهم من العذاب الأليم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي يسخرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله, فلهذا يقال لهم يوم القيامة: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}.
{وَقَالَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نّحْنُ وَلآ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ فَمِنْهُم مّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مّنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ إِن تَحْرِصْ عَلَىَ هُدَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ}
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطاناً, ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة, ولما مكننا منه, قال الله تعالى راداً عليهم شبهتهم: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم, بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار, ونهاكم عنه آكد النهي, وبعث في كل أمة أي في كل قرن وطائفة رسولاً, وكلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح, وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب, وكلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقوله(2/682)
سورة النحل
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
{أَتَىَ أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ}
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبراً بصيغة الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة, كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}, وقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. وقوله: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه, يحتمل أن يعود الضمير على الله, ويحتمل أن يعود على العذاب, وكلاهما متلازم, كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب, فقال في قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي فرائضه وحدوده, وقد رده ابن جرير فقال: لا نعلم أحداً استعجل بالفرائض وبالشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب, فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعاداً وتكذيباً, قلت: كما قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن يحيى بن آدم, عن أبي بكر بن عياش, عن محمد بن عبد الله مولى المغيرة بن شعبة, عن كعب بن علقمة, عن عبد الرحمن بن حجيرة, عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس, فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها: يا أيها الناس, فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم, فمنهم من يقول: نعم, ومنهم من يشك, ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس, فيقول الناس بعضهم لبعض: هل سمعتم, فيقولون: نعم, ثم ينادي الثالثة: يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فو الذي نفسي بيده, إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبداً, وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئاً أبدا, وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبداً ـ قال ـ ويشتغل الناس" ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد, تعالى وتقدس علواً كبيراً, وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
{يُنَزّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوَاْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ أَنَاْ فَاتّقُونِ}
يقول تعالى: {يُنَزّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ} أي الوحي, كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} وقوله: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهم الأنبياء, كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. وقوله: {أَنْ أَنْذِرُوا} أي لينذروا {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.
{خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا(2/683)
هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ}
يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السموات, والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت, وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث بل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره, وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له, فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له, ثم نبه على خلق جنس الإنسان من نطفة أي مهينة ضعيفة, فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله, وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً, كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} . وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بسر بن جحاش قال: بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه, ثم قال: "يقول الله تعالى: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق, وأنى أوان الصدقة".
{وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىَ بَلَدٍ لّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقّ الأنفُسِ إِنّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ}
يمتنّ تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم, كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج, وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون, ومن ألبانها يشربون ويأكلون من أولادها, وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة, ولهذا قال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} وهو وقت رجوعها عشياً من المرعى فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعاً وأعلاه أسنمة {حِينَ تُرِيحُونَ} أي غدوة حين تبعثونها إلى المرعى {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها {إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك, تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل, كقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}, وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُون وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}, ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم, كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}, وقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} قال ابن عباس: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أي ثياب, {وَمَنَافِعُ} ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا(2/684)
إسرائيل عن سماك عن عكرمة, عن ابن عباس: دفء ومنافع نسل كل دابة. وقال مجاهد: لكم فيها دفء أي لباس ينسج, ومنافع مركب ولحم ولبن. وقال قتادة: دفء ومنافع, يقول: لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة, وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة.
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده يمتن به عليهم, وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها, وذلك أكبر المقاصد منها, ولما فصلها من الأنعام, وأفردها بالذكر, استدل من استدل من العلماء ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذلك على ما ذهب إليه فيها, كالإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه من الفقهاء بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير وهي حرام, كما ثبتت به السنة النبوية, وذهب إليه أكثر العلماء.وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية, أنبأنا هشام الدستوائي, حدثنا يحيى بن أبي كثير عن مولى نافع بن علقمة, أنّ ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير, وكان يقول: قال الله تعالى :{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فهذه للأكل ,{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} فهذه للركوب, وكذا روي من طريق سعيد بن جبير وغيره عن ابن عباس بمثله, وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة أيضاً رضي الله عنه, واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب , عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث صالح بن يحيى بن المقدام وفيه كلام.
ورواه أحمد أيضاً من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا محمد بن حرب, حدثنا سليمان بن سليم, عن صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام بن معد يكرب قال: غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة, فقرم أصحابنا إلى اللحم فسألوني رمكة فدفعتها إليهم, فحبلوها وقلت: مكانكم حتى آتي خالداً فأسأله فأتيته فسألته, فقال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر فأسرع الناس في حظائر يهود فأمرني أن أنادي الصلاة جامعة, ولا يدخل الجنة إلا مسلم, ثم قال: "أيها الناس: إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود, ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها وحرام عليكم لحوم الأتن الأهلية وخيلها وبغالها, وكل ذي ناب من السباع, وكل ذي مخلب من الطير" والرمكة هي الحجرة, وقوله حبلوها أي أوثقوها في الحبل ليذبحوها, والحظائر والبساتين القريبة من العمران, وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر,والله أعلم, فلو صح هذا الحديث لكان نصاً في تحريم لحوم الخيل, ولكن لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية, وأذن في لحوم الخيل.
ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير, فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل. وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه ونحن بالمدينة, فهذه أدل وأقوى وأثبت, وإلى ذلك صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف, والله أعلم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانت الخيل وحشية, فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام, وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته أن الله خلق الخيل من ريح(2/685)
الجنوب, والله أعلم. فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ومنها البغال, وقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فكان يركبها مع أنه قد نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل. قال الإمام أحمد: حدثني محمد بن عبيد, حدثنا عمر من آل حذيفة عن الشعبي عن دحية الكلبي قال: قلت يا رسول الله, ألا أحمل لك حماراً على فرس فتنتج لك بغلاً فتركبها ؟ قال: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون".
{وَعَلَىَ اللّهِ قَصْدُ السّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}
لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية, نبه على الطرق المعنوية الدينية, وكثيراً ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية, كقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}, وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ} ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم, وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة, شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه, فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه فقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} كقوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وقال: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}
قال مجاهد في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قال: طريق الحق على الله, وقال السدي, {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} الإسلام. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يقول: وعلى الله البيان, أي يبين الهدى والضلالة. وكذا روى علي بن أبي طلحة عنه, وكذا قال قتادة والضحاك, وقول مجاهد ههنا أقوى من حيث السياق, لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقاً تسلك إليه, فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق وهي الطريق التي شرعها ورضيها, وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة, ولهذا قال تعالى: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي حائد مائل زائغ عن الحق. قال ابن عباس وغيره: هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية, وقرأ ابن مسعود {وَمِنْهَا جَائِرٌ} ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته, فقال: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
{هُوَ الّذِي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَآءً لّكُم مّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ}
لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء وهو العلو مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم, فقال: {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} أي جعله عذباً زلالاً يسوغ لكم شرابه, ولم يجعله ملحاً أجاجاً {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}: أي وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم. كما قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد في قوله فيه تسيمون, أي ترعون ومنه الإبل السائمة, والسوم: الرعي. وروى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس.
وقوله: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي يخرجها من الأرض بهذا الماء(2/686)
الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها, ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله, كما قال تعالى {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}, ثم قال تعالى:
{وَسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالْنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنّجُومُ مُسَخّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لّقَوْمٍ يَذّكّرُونَ}
ينبه تعالى عباده على آياته العظام ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان, والشمس والقمر يدوران, والنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السموات نوراً وضياء ليهتدى بها في الظلمات, وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه, يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها, والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله, كقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لدلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه.
وقوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} لما نبه تعالى على معالم السموات نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة, والأشياء المختلفة من الحيوانات والمعادن, والنباتات والجمادات على اختلاف ألوانها وأشكالها, وما فيها من المنافع والخواص {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها.
{وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكّرُونَ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنّ اللّهَ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ}
يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج, ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه, وجعله السمك والحيتان فيه, وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها في الحل والإحرام, وما يخلقه فيه من اللاَلىء والجواهر النفيسة, وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها, وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه, وقيل تمخر الرياح, وكلاهما صحيح, وقيل تمخره بجؤجئها وهو صدرها المسنم ـ الذي أرشد العباد إلى صنعتها وهداهم إلى ذلك إرثاً عن أبيهم نوح عليه السلام, فإنه أول من ركب السفن, وله كان تعليم صنعتها, ثم أخذها الناس عنه قرناً بعد قرن, وجيلاً بعد جيل, يسيرون من قطر إلى قطر, ومن بلد إلى بلد, ومن إقليم إلى إقليم, لجلب ما هناك إلى ما هنا, وما هنا إلى ما هناك, ولهذا قال تعالى:(2/687)
{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي نعمه وإحسانه.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو عن سهل بن أبي صالح عن أبيه, عن أبي هريرة قال: كلم الله البحر الغربي وكلم البحر الشرقي, فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عباداً من عبادي, فكيف أنت صانع فيهم ؟ قال: أغرقهم, فقال: بأسك في نواحيك, وأحملهم على يدي, وحرمت الحلية والصيد, وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عباداً من عبادي فما أنت صانع بهم ؟ فقال: أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها, فأثابه الحلية والصيد, ثم قال البزار: لا نعلم من رواه عن سهل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو, وهو منكر الحديث. وقد رواه سهل عن النعمان بن أبي عياش عن عبد الله بن عمر موقوفاً.
ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات, والجبال الراسيات, لتقر الأرض ولا تميد, أي تضطرب بما عليها من الحيوانات فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك, ولهذا قال: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة, سمعت الحسن يقول: لما خلقت الأرض كانت تميد, فقالوا: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً, فأصبحوا وقد خلقت الجبال, فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور, فقالت الملائكة: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً فأصبحت صبحاً وفيها رواسيها. وقال ابن جرير: حدثني المثنى, حدثني حجاج بن منهال, حدثنا حماد عن عطاء بن السائب, عن عبد الله بن حبيب, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما خلق الله الأرض قَمصت وقالت: أي رب تجعل علي بني آدم يعملون الخطايا ويجعلون علي الخبث ؟ قال: فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون, فكان إقرارها كاللحم يترجرج.
وقوله: {وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً} أي جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى مكان آخر رزقاً للعباد, ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر, فيقطع البقاع والبراري والقفار, ويخترق الجبال والاَكام, فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة, وجنوباً وشمالاً. وشرقاً وغرباً, ما بين صغار وكبار, وأودية تجري حيناً وتنقطع في وقت, وما بين نبع وجمع , وقوي السير وبطئه بحسب ما أراد وقدر وسخر ويسر, فلا إله إلا هو ولا رب سواه, وكذلك جعل فيها سبلاً أي طرقاً يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممراً ومسلكاً, كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} الآية.
وقوله: {وَعَلامَاتٍ} أي دلائل من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك , يستدل بها المسافرون براً وبحراً إذا ضلوا الطرق. وقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} أي في ظلام الليل, قاله ابن عباس, وعن مالك في قوله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} يقول: النجوم وهي الجبال, ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئاً بل هم يخلقون, ولهذا قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم, فقال: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يتجاوز عنكم, ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك, ولو أمركم به لضعفتم وتركتم, ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم, ولكنه غفور رحيم, يغفر الكثير ويجازي على اليسير, وقال ابن جرير: يقول إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته, رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.
{وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ(2/688)
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ}
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر, وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة, إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون, كما قال الخليل: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. وقوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أي هي جمادات لا أرواح فيها,فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي لا يدرون متى تكون الساعة, فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء ؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء.
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مّنكِرَةٌ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ لاَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}
يخبر تعالى أنه لا إله هو الواحد الأحد الفرد الصمد, وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك, كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وقوله: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} أي عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ولهذا قال ههنا {لا جَرَمَ} أي حقاً {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ}
يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء المكذبين {مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ} معرضين عن الجواب {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي لم ينزل شيئاً, إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين, أي مأخوذ من كتب المتقدمين, كما قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالاً متضادة مختلفة كلها باطلة, كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ, وكانوا يقولون: ساحر وشاعر وكاهن ومجنون, ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي لما {فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي ينقل ويحكى, فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم, وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم, كما جاء في الحديث "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه, لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} وهكذا(2/689)
روى العوفي عن ابن عباس في الآية {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أنها كقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وقال مجاهد: يحملون أثقالهم ذنوبهم وذنوب من أطاعهم, ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً.
{قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}
قال العوفي عن ابن عباس في قوله: {قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قال: هو النمرود الذي بنى الصرح, قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر, عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض النمرود, فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره, فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق, وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه وكان جباراً أربعمائة سنة, فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه, ثم أماته, وهو الذي بنى الصرح إلى السماء الذي قال الله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} وقال آخرون: بل هو بختنصر, وذكروا من المكر الذي حكاه الله ههنا كما قال في سورة إبراهيم {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} وقال آخرون: هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره, كما قال نوح عليه السلام: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة, كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً} الآية.
وقوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم, كقوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}, وقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}, وقال الله ههنا: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي يظهر فضائحهم, وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية, كقوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي تظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدرته, فيقال هذه غدرة فلان بن فلان" وهكذا يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعاً لهم وموبخاً {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا ؟ {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة, وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم السادة في الدنيا والآخرة, والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة, فيقولون حينئذ: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.
{الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ}(2/690)
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة {فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ} أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين {مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ} كما يقولون يوم المعاد {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} قال الله مكذباً لهم في قيلهم ذلك {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله, وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم, وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها, فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} كما قال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.
{وَقِيلَ لِلّذِينَ اتّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتّقِينَ جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتّقِينَ الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء, فإن أولئك قيل لهم: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} قالوا معرضين عن الجواب: لم ينزل شيئاً إنما هذا أساطير الأولين, وهؤلاء قالوا: خيراً, أي أنزل خيراً, أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به. ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} الآية, كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة, ثم أخبر بأن دار الآخرة خير أي من الحياة الدنيا, والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا, كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} الآية. وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} وقال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ثم وصف الدار الآخرة فقال: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}.
وقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} بدل من دار المتقين أي لهم في الآخرة جنات عدن, أي مقام يدخلونها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي بين أشجارها وقصورها {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} كقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وفي الحديث "إن السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم, فلا يشتهي أحد منهم شيئاً إلا أمطرته عليه حتى إن منهم لمن يقول أمطرينا كواعب أتراباً فيكون ذلك" {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} أي كذلك يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله, ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون أي مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء, وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة, كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} وقد قدمنا الأحاديث الواردة(2/691)
في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
يقول تعالى مهدداً للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا: هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم, قاله قتادة, {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال. وقوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى ذاقوا بأس الله وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به, فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ذلك {وَحَاقَ بِهِمْ} أي أحاط بهم من العذاب الأليم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي يسخرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله, فلهذا يقال لهم يوم القيامة: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}.
{وَقَالَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نّحْنُ وَلآ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ فَمِنْهُم مّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مّنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ إِن تَحْرِصْ عَلَىَ هُدَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ}
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطاناً, ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة, ولما مكننا منه, قال الله تعالى راداً عليهم شبهتهم: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم, بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار, ونهاكم عنه آكد النهي, وبعث في كل أمة أي في كل قرن وطائفة رسولاً, وكلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح, وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب, وكلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقوله(2/692)
تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فيكف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية, لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله, وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدراً, فلا حجة لهم فيها, لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة, وهو لا يرضى لعباده الكفر, وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل, فلهذا قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}, فقال: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} . ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم كقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} وقال نوح لقومه: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وقال في هذه الآية الكريمة: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} كما قال الله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ} أي شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, فلهذا قال: {لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ} أي من أضله, فمن ذا الذي يهديه من بعد الله ؟ أي لا أحد {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ينقذونهم من عذابه ووثاقه {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
{وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنّ أَكْثَرَ الْنّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيّنَ لَهُمُ لِيُبَيّنَ لَهُمُ وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا بالله جهد أيمانهم أي اجتهدوا في الحلف, وغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت أي استبعدوا ذلك, وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك وحلفوا على نقيضه, فقال تعالى مكذبا لهم وراداً عليهم {بَلَىَ} أي بلى سيكون ذلك {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أي لا بد منه {وَلَكِنّ أَكْثَرَ الْنّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر, ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد, فقال: {لِيُبَيّنَ لَهُمُ} أي للناس {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي من كل شيء {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} أي في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث الله من يموت, ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا, وتقول لهم الزبانية: {هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون} ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء, وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون, والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة, فيكون كما يشاء, كقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وقال {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وقال: في هذه الآية الكريمة {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي أن نأمر به مرة واحدة فإذا هو كائن, كما قال الشاعر:(2/693)
إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له كن كائناً فيكون
أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به, فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف, لأنه الواحد القهار العظيم الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء فلا إله إلا هو ولا رب سواه, وقال ابن أبي حاتم: ذكر الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا حجاج عن ابن جريج, أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول قال الله تعالى: شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك, وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك, فأما تكذيبه إياي فقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} قال وقلت: {بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وأما شتمه إياي فقال: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وقلت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ل لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}. هكذا ذكره موقوفاً وهو في الصحيحين مرفوعا بلفظ آخر.
{وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته, الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه, ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم, ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول, وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صديق وصديقة رضي الله عنهم وأرضاهم, وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال ابن عباس والشعبي وقتادة: المدينة, وقيل: الرزق الطيب, قاله مجاهد ولا منافاة بين القولين, فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيراً منها في الدنيا, فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله بما هو خير له منه, وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد, وحكمهم على رقاب العباد, وصاروا أمراء حكاماً, وكل منهم للمتقين إماماً, وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا, فقال: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي مما أعطيناهم في الدنيا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله, ولهذا قال هشيم عن العوام عمن حدثه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه, هذا ما وعدك الله في الدنيا, وما ادخر لك في الآخرة أفضل, ثم قرأ هذه الآية {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. ثم وصفهم تعالى فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ}
قال الضحاك: عن ابن عباس: لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً, أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً, فأنزل {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} الآية, وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا(2/694)
تَعْلَمُونَ} يعني أهل الكتب الماضية أبشراً كانت الرسل إليهم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ليسوا من أهل السماء كما قلتم, وكذا روي عن مجاهد عن ابن عباس أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب, وقاله مجاهد والأعمش, وقول عبد الرحمن بن زيد: الذكر القرآن, واستشهد بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} صحيح, لكن ليس هو المراد ههنا, لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه, وكذا قول أبي جعفر الباقر: نحن أهل الذكر, ومراده أن هذه الأمة أهل الذكر, صحيح فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة. وعلماء أهل بيت رسول الله عليهم السلام والرحمة من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة كعلي وابن عباس وابني علي الحسن والحسين, ومحمد بن الحنفية وعلي بن الحسين زين العابدين, وعلي بن عبد الله بن عباس, وأبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين وجعفر ابنه, وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم, وعرف لكل ذي حق حقه ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمعت عليه قلوب عباده المؤمنين, والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضين قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بشراً كما هو بشر, كما قال تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} وقال: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشراً إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا هل كان أنبياؤهم بشراً أو ملائكة , ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم {بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج والدلائل {وَالزُّبُر} وهي الكتب قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم, والزبر جمع زبور, تقول العرب: زبرت الكتاب إذا كتبته. وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} وقال {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يعني القرآن {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله وحرصك عليه واتباعك له, ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم, فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين.
{ أَفَأَمِنَ الّذِينَ مَكَرُواْ السّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ فَإِنّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ}
ليخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها, ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها, مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض أو يأتيهم العذاب {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}, أي من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم, كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وقوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية, قال قتادة والسدي: تقلبهم أي(2/695)
أسفارهم, وقال مجاهد والضحاك وقتادة {فِي تَقَلُّبِهِمْ} في الليل والنهار كقوله { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ}.
وقوله: {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه. وقوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم, فإنه يكون أبلغ وأشد, فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد, ولهذا قال العوفي عن ابن عباس: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك, وكذا روي عن مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم. ثم قال تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة, كما ثبت في الصحيحين "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله, إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم" وفيهما "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشّمَآئِلِ سُجّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِن دَآبّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء, ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها: جماداتها وحيواناتها, ومكلفوها من الإنس والجن, والملائكة, فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال, أي بكرة وعشياً فإنه ساجد بظله لله تعالى. قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عز وجل, وكذا قال قتادة والضحاك وغيرهم, وقوله {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي صاغرون. وقال مجاهد أيضاً: سجود كل شيء فيؤه , وذكر الجبال, قال: سجودها فيؤها. وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته, ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم فقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} كما قال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}. وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره, وترك زواجره.
{وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإيّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي الْسّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَهُ الدّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتّقُونَ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمّ إِذَا مَسّكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمّ إِذَا كَشَفَ الضّرّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو, وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له, فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير(2/696)
واحد: أي دائماً, وعن ابن عباس أيضا: أي واجباً. وقال مجاهد: أي خالصاً له, أي له العبادة وحده ممن في السموات والأرض, كقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} هذا على قول ابن عباس وعكرمة, فيكون من باب الخبر, وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب, أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئاً وأخلصوا لي الطاعة, كقوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ثم أخبر أنه مالك النفع والضر, وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم, وإحسانه إليهم {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به, كقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُورا} وقال ههنا: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} قيل: اللام ههنا لام العاقبة. وقيل: لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم وأنه المسدي إليهم النعم, الكاشف عنهم النقم, ثم توعدهم قائلاً {فَتَمَتَّعُوا} أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلاً {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي عاقبة ذلك.
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُنْثَىَ ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىَ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوَءِ مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىَ هُونٍ أَمْ يَدُسّهُ فِي التّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم, وجعلوا للأوثان نصيباً مما رزقهم الله فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} أي جعلوا لآلهتهم نصيباً مع الله وفضلوها على جانبه, فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم, فقال: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً, وجعلوها بنات الله فعبدوها معه, فأخطأوا خطأ كبيراً في كل مقام من هذه المقامات الثلاث, فنسبوا إليه تعالى أن له ولداً ولا ولد له, ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات, وهم لا يرضونها لأنفسهم, كما قال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى}.
وقوله ههنا: {يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} أي عن قولهم وإفكهم {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لكم مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}. وقوله: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, فإنه {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} أي كئيباً من الهم {وَهُوَ كَظِيمٌ} ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن, {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} أي يكره أن يراه الناس {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها, ويفضل أولاده الذكور عليها {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية, أفمن يكرهونه هذه(2/697)
الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله ؟ {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما قالوا, وبئس ما قسموا, وبئس ما نسبوه إليه, كقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}. وقوله ههنا: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} أي النقص إنما ينسب إليهم {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إلَىَ أَجَلٍ مّسَمّىَ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنّ لَهُمُ الْحُسْنَىَ لاَ جَرَمَ أَنّ لَهُمُ الْنّارَ وَأَنّهُمْ مّفْرَطُونَ}
يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعاً لإهلاك بني آدم, ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر, وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة, إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً. قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص أنه قال: كاد الجعل أن يعذب بذنب بني آدم, وقرأ الآية {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} وكذا روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي, حدثنا محمد بن جابر الحنفي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة رجلاً وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه, قال: فالتفت إليه, فقال: بلى والله حتى إن الحباري لتموت في وكرها بظلم الظالم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, أنبأنا الوليد بن عبد الملك, حدثنا عبيد الله بن شرحبيل, حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة بن ربيعة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله لا يؤخر شيئاً إذا جاء أجله, وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحه يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر".
وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.
وقوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضاً لهم الحسنى, وإخبار عن قيل من قال منهم, كقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} وقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}. وقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} وقال إخباراً عن أحد الرجلين أنه {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسناً وهذا مستحيل, كما ذكر ابن إسحاق إنه وجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حكم ومواعظ, فمن ذلك: تعلمون السيئات وتجوزن الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب.
وقال مجاهد وقتادة: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} أي الغلمان. وقال ابن جرير: {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} أي يوم القيامة كما قدمنا بيانه, وهو الصواب, ولله الحمد, ولهذا قال تعالى راداً عليهم في(2/698)
تمنيهم ذلك: {لا جَرَمَ} أي حقاً لا بد منه {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} أي يوم القيامة {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم: منسيون فيها مضيعون وهذا كقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}. وعن قتادة أيضا: مفرطون أي معجلون إلى النار من الفرط, وهو السابق إلى الورد, ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون.)
{تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَاللّهُ أَنْزَلَ مِنَ الْسّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلاً فكذبت الرسل, فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة فلا يهيدنك تكذيب قومك لك, وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه. {فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ} أي هم تحت العقوبة والنكال, والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصا ولا صريخ لهم, ولهم عذاب أليم. ثم قال تعالى لرسوله: إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه ؟ فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه {وَهُدًى} أي للقلوب {وَرَحْمَةً} أي لمن تمسك به {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها, كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي يفهمون الكلام ومعناه.
{وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشّارِبِينَ وَمِن ثَمَرَاتِ النّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
يقول تعالى: {وَإِنّ لَكُمْ} أيها الناس {فِي الأنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم {لَعِبْرَةً} أي لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه {نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ} أفردها ههنا عوداً على معنى النعم, أو الضمير عائد على الحيوان, فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان, وفي الآية الأخرى مما في بطونها, ويجوز هذا وهذا, كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} وفي قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} أي المال.
وقوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً} أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته, ما بين فرث ودم في باطن الحيوان, فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته, فيصرف منه دم إلى العروق, ولبن إلى الضرع, وبول إلى المثانة, وروث إلى المخرج, وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به. وقوله: {لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} أي لا يغص به أحد, ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب, وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه, ولهذا امتن به عليهم فقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} دل على إباحته شرعا قبل تحريمه, ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب, كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء, وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل, كما جاءت السنة بتفصيل ذلك, وليس هذا موضع بسط ذلك.
كما قال ابن عباس في قوله: {سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} السكر ما(2/699)
حرم من ثمرتيهما, والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما, وفي رواية: السكر حرامه, والرزق الحسن حلاله, يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب, وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ, حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان, ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها, قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ}.
{وَأَوْحَىَ رَبّكَ إِلَىَ النّحْلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ}
المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية, والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها, ومن الشجر ومما يعرشون, ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل, ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات, وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها, أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم, والبراري الشاسعة, والأودية والجبال الشاهقة, ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة, بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل, فتبني الشمع من أجنحتها وتقيء العسل من فيها, وتبيض الفراخ من دبرها, ثم تصبح إلى مراعيها.
وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ي} أي مطيعة, فجعلاه حالاً من السالكة, قال ابن زيد: وهو كقول الله تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم, والقول الأول هو الأظهر, وهو أنه حال من الطريق, أي فاسلكيها مذللة لك, نص عليه مجاهد, وقال ابن جرير: كلا القولين صحيح. وقد قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان بن فروخ, حدثنا مكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمر الذباب أربعون يوماً, والذباب كله في النار إلا النحل".
وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها. وقوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي في العسل شفاء للناس, أي من أدواء تعرض لهم, قال بعض من تكلم على الطب النبوي: لو قال فيه الشفاء للناس, لكان دواء لكل داء, ولكن قال فيه شفاء للناس, أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة, فإنه حار والشيء يداوى بضده.
وقال مجاهد وابن جرير في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} يعني القرآن, وهذا قول صحيح في نفسه, ولكن ليس هو الظاهر ههنا من سياق الآية, فإن الآية إنما ذكر فيها العسل ولم يتابع مجاهد على قوله ههنا, وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} هو العسل, الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن(2/700)
رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه, فقال: "اسقه عسلاً" فذهب فسقاه عسلاً, ثم جاء فقال: يارسول الله سقيته عسلاً, فما زاده إلا استطلاقا, قال: "اذهب فاسقه عسلاً" فذهب فسقاه عسلاً, ثم جاء فقال: يارسول الله, ما زاده إلا استطلاقا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك, اذهب فاسقه عسلاً" فذهب فسقاه عسلاً فبرىء. قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات, فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت, فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالاً, فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه, ثم سقاه فازداد التحليل والدفع, ثم سقاه فكذلك, فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن, استمسك بطنه, وصلح مزاجه, واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته, عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل, هذا لفظ البخاري: وفي صحيح البخاري من حديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم, أو شربة عسل, أو كية بنار, وأنهى أمتي عن الكي".
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة, سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كان في شيء من أدويتكم, أو يكون في شيء من أدويتكم خير: ففي شرطة محجم, أو شربة عسل, أو لذعة بنار توافق الداء, وما أحب أن أكتوي" ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا عبد الله أنبأنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم, أو شربة عسل, أو كية تصيب ألماً, وأنا أكره الكي ولا أحبه" ورواه الطبراني عن هارون بن سلول المصري عن أبي عبد الرحمن المقري, عن عبد الله بن الوليد به, ولفظه "إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم" وذكره, وهذا إسناد صحيح, ولم يخرجوه. وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه: حدثنا علي بن سلمة هو التغلبي, حدثنا زيد بن حباب, حدثنا سفيان عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن" وهذا إسناد جيد تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعا, وقد رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن سفيان هو الثوري به موقوفا وله شبه.
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة, وليغسلها بماء السماء, وليأخذ من امرأته درهماً عن طيب نفس منها, فليشتر به عسلاً فليشربه بذلك فإنه شفاء: أي من وجوه, وقال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وقال في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}.
وقال ابن ماجه أيضاً: حدثنا محمود بن خداش حدثنا سعيد بن زكريا القرشي, حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي عن عبد الحميد بن سالم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر, لم يصبه عظيم من البلاء" الزبير بن سعيد متروك. وقال ابن ماجه أيضاً: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سرح الفريابي, حدثنا عمرو بن بكير السكسكي, حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة سمعت أبا أبي بن أم حرام وكان قد صلى القبلتين, يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بالسنا والسنوت, فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام" قيل: يارسول الله وما السام ؟ قال "الموت" قال عمرو: قال ابن أبي عبلة:(2/701)
السنوت الشبت. وقال آخرون: بل هو العسل الذي في زقاق السمن, وهو قول الشاعر:
هم السمن بالسنوت لا لبس فيهم ... وهم يمنعون الجار أن يقردا
كذا رواه ابن ماجه, وقوله: لا لبس فيهم أي لا خلط. وقوله: يمنعون الجار أن يقردا, أي يضطهد ويظلم, وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه والاجتناء من سائر الثمار, ثم جمعها للشمع والعسل وهو من أطيب الأشياء, لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها, فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم.
{وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمّ يَتَوَفّاكُمْ وَمِنكُم مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده, وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم, ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم وهو الضعف في الخلقة, كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} الآية, وقد روي عن علي رضي الله عنه: أرذل العمر خمس وسبعون سنة, وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف, وسوء الحفظ وقلة العلم, ولهذا قال: {لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}, أي بعد ما كان عالماً أصبح لا يدري شيئاً من الفند والخرف, ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور عن شعيب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو "أعوذ بك من البخل والكسل والهرم, وأرذل العمر وعذاب القبر, وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات" وقال زهير بن أبي سلمة في معلقته المشهورة.
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين عاماً لا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم
{وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ فِي الْرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّي رِزْقِهِمْ عَلَىَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء, وهم يعترفون أنها عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك, فقال تعالى منكراً عليهم: أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم, فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم, كما قال في الآية الأخرى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية, قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: يقول لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم, فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني, فذلك قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وقال في الرواية الأخرى عنه: فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم. وقال مجاهد في هذه الآية: هذا مثل الآلهة الباطلة, وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله, فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه, فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا, فالله أحق أن ينزه(2/702)
منك.
وقوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً, فجحدوا نعمته, وأشركوا معه غيره. وعن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري: واقنع برزقك من الدنيا, فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق بلاء يبتلي به كلاً, فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله, رواه ابن أبي حاتم.
{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ الطّيّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}
يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم, ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة, ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكوراً وإناثاً, وجعل الإناث أزواجاً للذكور, ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين, قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك وابن زيد, قال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: بنين وحفدة, وهم الولد وولد الولد. وقال سنيد: حدثنا حجاج عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس قال: بنوك حيث يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك, قال جميل:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال
وقال مجاهد: بنين وحفدة ابنه وخادمه وقال في رواية: الحفدة الأنصار والأعوان والخدام, وقال طاوس وغير واحد: الحفدة الخدم. وكذا قال قتادة وأبو مالك والحسن البصري. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال: الحفدة من خدمك من ولدك وولد ولدك, قال الضحاك: إنما كانت العرب تخدمها بنوها. وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} يقول: بنو امرأة الرجل ليسوا منه, ويقال: الحفدة الرجل يعمل بين يدي الرجل. يقال: فلان يحفد لنا أي يعمل لنا, قال: وزعم رجال أن الحفدة أختان الرجل, وهذا الأخير الذي ذكره ابن عباس, قاله ابن مسعود ومسروق وأبو الضحى وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والقرظي, ورواه عكرمة عن ابن عباس, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هم الأصهار.
قال ابن جرير: وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة, وهو الخدمة الذي منه قوله في القنوت: وإليك نسعى ونحفد, ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار, فالنعمة حاصلة بهذا كله, ولهذا قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} قلت: فمن جعل {وَحَفَدَةً} متعلقاً بأزواجكم, فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد والأصهار, لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة, وكذا قال الشعبي والضحاك, فإنهم يكونون غالباً تحت كنف الرجل وفي حجره وفي خدمته, وقد يكون هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث نضرة بن أكثم "والولد عبد لك" رواه أبو داود. وأما من جعل الحفدة الخدم, فعنده أنه معطوف على قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدماً.
وقوله: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي من المطاعم والمشارب. ثم قال تعالى منكراً على من أشرك في عبادة المنعم غيره: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} وهم الأنداد والأصنام {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} أي يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره. وفي الحديث الصحيح "إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتناً عليه: ألم أزوجك ؟ ألم(2/703)
أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل, وأذرك ترأس وتربع ؟".
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأمْثَالَ إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
يقول تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق, وحده لا شريك ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً, أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر, ولا يملكون ذلك لأنفسهم, أي ليس لهم ذلك, ولا يقدرون عليه لو أرادوه, ولهذا قال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأمْثَالَ} أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو, وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.
{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مّمْلُوكاً لاّ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَمَن رّزَقْنَاهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
قال العوفي عن ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن, وكذا قال قتادة, واختاره ابن جرير, فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن, فهو ينفق منه سراً وجهراً هو المؤمن, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى, فهل يستوي هذا وهذا ؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهرا واضحاً بيناً لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلَىَ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجّههّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}
قال مجاهد: وهذا أيضاً المراد به الوثن والحق تعالى يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية, فلا مقال ولا فعال, وهو مع هذا كل أي عيال وكلفة على مولاه {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ} أي يبعثه {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} ولا ينجح مسعاه {هَلْ يَسْتَوِي} من هذه صفاته {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي بالقسط, فمقاله حق وفعاله مستقيمة {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقيل: الأبكم مولى لعثمان, وبهذا قال السدي وقتادة وعطاء الخراساني, واختار هذا القول ابن جرير.
وقال العوفي عن ابن عباس: هو مثل للكافر والمؤمن أيضاً كما تقدم, وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن الصباح البزار, حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني, حدثنا حماد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن إبراهيم عن عكرمة, عن يعلى بن أمية عن ابن عباس في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} قال: نزلت في رجل من قريش وعبده, يعني قوله {عَبْداً مَمْلُوكاً} الآية, وفي قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ـ إلى قوله ـ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: هو عثمان بن عفان: قال: والأبكم الذي أينما يوجهه لا(2/704)
يأت بخير, قال: هو مولى لعثمان بن عفان, كان عثمان ينفق عليه ويكلفه ويكفيه المؤونه, وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف, فنزلت فيهما.
{وَلِلّهِ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَآ أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ الطّيْرِ مُسَخّرَاتٍ فِي جَوّ السّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنّ إِلاّ اللّهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السموات والأرض واختصاصه بعلم الغيب, فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء, وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع, وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون, كما قال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي فيكون ما يريد كطرف العين, وهكذا قال ههنا: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كما قال: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً, ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات والأبصار التي بها يحسون المرئيات والأفئدة, وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح, وقيل: الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها, وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلاً قليلاً كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده. وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى, فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه.
كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب, وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن دعاني لأجيبنه, ولئن استعاذ بي لأعيذنه, وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه" فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عز وجل, فلا يسمع إلا لله, ولا يبصر إلا لله أي ما شرعه الله له, ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل, مستعيناً بالله في ذلك كله, ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله ورجله التي يمشي بها: "فبي يسمع, وبي يبصر, وبي يبطش, وبي يمشي" ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كقوله تعالى في الآية الأخرى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض, كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء, ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك, وسخر الهواء يحملها ويسير الطير كذلك, كما قال تعالى في سورة الملك: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا(2/705)
يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} وقال ههنا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم, يأوون إليها, ويستترون بها, وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع, وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً أي من الأدم, يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر, ولهذا قال: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا} أي الغنم, {وَأَوْبَارِهَا} أي الإبل, {وَأَشْعَارِهَا} أي المعز, والضمير عائد على الأنعام {أَثَاثاً} أي تتخذون منه أثاثاً وهو المال, وقيل: المتاع, وقيل: الثياب, والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك, ويتخذ مالاً وتجارة, وقال ابن عباس: الأثاث المتاع, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة. وقوله: {إِلَى حِينٍ} أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم.
وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً} قال قتادة: يعني الشجر {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} أي حصوناً ومعاقل, كما {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وهي الثياب من القطن والكتان والصوف {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك, {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} هكذا فسره الجمهور, وقرءوه بكسر اللام من {تُسْلِمُونَ} أي من الإسلام.
وقال قتادة في قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} هذه السورة تسمى سورة النعم. وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام عن حنظلة السدوسي, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس أنه كان يقرؤها {تُسْلِمُونَ} بفتح اللام, يعني من الجراح, رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عباد, ,أخرجه ابن جرير من الوجهين, ورد هذه القراءة. وقال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب, ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} وما جعل من السهل أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب جبال ؟ ألا ترى إلى قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر ؟ ألا ترى إلى قوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} لعجبهم من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وما تقي من البرد أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب حر.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي بعد هذ البيان وهذا الامتنان, فلا عليك منهم {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقد أديته إليهم {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو(2/706)
المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مجاهد أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله, فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} فقال الأعرابي: نعم, قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتا} الآية, قال الأعرابي: نعم, ثم قرأ عليه كل ذلك, يقول الأعرابي: نعم حتى بلغ {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} فولى الأعرابي, فأنزل الله {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} الآية.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمّ لاَ يُؤْذَنُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِذَا رَأى الّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبّنَا هََؤُلاَءِ شُرَكَآؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْاْ إِلَىَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ السّلَمَ وَضَلّ عَنْهُم مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة, وأنه يبعث من كل أمة شهيداً وهو نبيها, يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى: {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي في الاعتذار, لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه, كقوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فلهذا قال: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي الذين أشركوا {الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة. {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يؤخر عنهم بل يأخذهم سريعاً من الموقف بلا حساب, فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك, فيشرف عنق منها على الخلائق, وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه, فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا, وتذكر أصنافاً من الناس, كما جاء في الحديث, ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من الموقف كما يلتقط الطائر الحب, قال الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً}, وقال تعالى: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} وقال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}.
ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} أي الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أي قالت لهم الآلهه: كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا, كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} وقال الخليل عليه الصلاة والسلام { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} الآية, وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} الآية, والآيات في هذا كثيرة.(2/707)
وقوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} قال قتادة وعكرمة: ذلوا واستسلموا يومئذ, أي استسلموا لله جميعهم فلا أحد إلا سامع مطيع, وكقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ, وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} الآية, وقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت. وقوله {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على لله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير.
ثم قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً} الآية, أي عذاباً على كفرهم وعذاباً على صدهم الناس عن اتباع الحق كقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي ينهون الناس عن اتباعه ويبتعدون هم منه أيضاً {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم, كما قال تعالى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سريج بن يونس, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله قي قول الله: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال. وحدثنا شريح بن يونس, حدثنا إبراهيم بن سليمان, حدثنا الأعمش عن الحسن, عن ابن عباس في الآية أنه قال: { زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} قال: هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل وببعضها في النهار.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هََؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ}
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} يعني أمتك, أي اذكر ذلك اليوم وهوله, وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع, وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة النساء, فلما وصل إلى قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك" فقال ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} قال ابن مسعود: قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء. وقال مجاهد: كل حلال وكل حرام, وقول ابن مسعود أعم وأشمل, فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي, وكل حلال وحرام, وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم {وَهُدىً} أي للقلوب {وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. وقال الأوزاعي: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي: بالسنة, ووجه اقتران قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} مع قوله: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} أن المراد ـ والله أعلم ـ إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك سائلك عن ذلك يوم القيامة {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}, وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال, وهو متجه حسن.(2/708)
{إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ}
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل, وهو القسط والموازنه, ويندب إلى الإحسان, كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}, وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}, وقال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} قال: شهادة أن لا إله إلا الله, وقال سفيان بن عيينة, العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً, والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته, والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
وقوله: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} أي يأمر بصلة الأرحام, كما قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} وقوله: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} فالفواحش المحرمات, والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها, ولهذ قال في الموضع الآخر: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ} وأما البغي فهو العدوان على الناس, وقد جاء في الحديث "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم". وقوله: {يَعِظُكُمْ} أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقال الشعبي عن شتير بن شكل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية, رواه ابن جرير, وقال سعيد عن قتادة قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية ليس من خلق حسن, كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به, وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم, إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها. (قلت) ولهذا جاء في الحديث "إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها".
وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة: حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي, حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم, حدثنا الحسن بن داود المنكدري, حدثنا عمر بن علي المقدمي عن علي بن عبد الله بن عمير, عن أبيه, قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأيته, فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه, قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه, فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي, وهو يسألك من أنت, وما أنت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله, وأما ما أنا ؟ فأنا عبد الله ورسوله" قال: ثم تلا عليهم هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية, قالوا: اردد علينا هذا القول, فردده عليهم حتى حفظوه, فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه, فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطاً في مضر ـ أي شريفاً ـ وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها, فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق, وينهى عن ملائمها, فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا أذناباً, وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا عبد الحميد, حدثنا شهر, حدثني عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون, فكشر إلى رسول الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجلس ؟ فقال: بلى, قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله, فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء, فنظر ساعة إلى السماء, فأخذ يضع بصره حتى(2/709)
وضعه على يمينه في الأرض, فتحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره, فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له, وابن مظعون ينظر, فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له, شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة, فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء, فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى, فقال: يامحمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة, فقال: "وما رأيتني فعلت ؟" قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء, ثم وضعته حيث وضعته على يمينك, فتحرفت إليه وتركتني, فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك, قال: "وفطنت لذلك ؟" فقال عثمان: نعم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس" قال: رسول الله ؟ قال: "نعم", قال: فما قال لك ؟ قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية, قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم , إسناد جيد متصل حسن قد بين فيه السماع المتصل, ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصراً. حديث آخر عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك, قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا هريم عن ليث عن شهر بن حوشب, عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال: "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية, وهذا إسناد لا بأس به, ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين, والله أعلم.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوّةٍ أَنكَاثاً تَتّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمّةٍ إِنّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيّنَنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
هذا مما يأمر الله تعالى به, وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة, ولهذا قال: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ولا تعارض بين هذا وبين قوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} الآية, وبين قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي لا تتركوها بلا كفارة, وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني" لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة ههنا, وهي قوله: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع, ولهذا قال مجاهد في قوله {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} يعني الحلف, أي حلف الجاهلية. ويؤيد ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو ابن أبي شيبة ـ حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا. هو ابن أبي زائدة ـ عن سعد بن إبراهيم عن أبيه, عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام, وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة" وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه, فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا, فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله(2/710)
ذلك, والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي, حدثنا عبد الله بن موسى, أخبرنا أبو ليلى عن فريدة في قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال: نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم, كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام, فقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد, ثم قال: أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان, وإن من أعظم الغدر ـ إلا أن يكون الإشراك بالله ـ أن يبايع رجل رجلاً على بيعة الله ورسوله, ثم ينكث بيعته, فلا يخلعن أحد منكم يداً ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر, فيكون صيلم بيني وبينه" المرفوع منه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن عباس عن أبيه, عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به, فهو كالمدلي جاره إلى غير منفعة".
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها. وقوله {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} قال عبد الله بن كثير والسدي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده, وهذا القول أرجح وأظهر سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا. وقوله : {أَنْكَاثاً} يحتمل أن يكون اسم مصدر, {نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} أي أنقاضاً, ويحتمل أن يكون بدلاً عن خبر كان أي لا تكونوا أنكاثاً جمع نكث من ناكث, ولهذا قال بعده: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أي خديعة ومكراً {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم, فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم, فنهى الله عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى, إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه, فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.
وقد قدمنا ـ ولله الحمد ـ في سورة الأنفال قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد, فسار معاوية إليهم في آخر الأجل حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم, وهم غارون لا يشعرون, فقال له عمرو بن عبسة: الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدر, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها" فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش, قال ابن عباس: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي أكثر, وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز, فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز, فنهوا عن ذلك وقال الضحاك وقتادة وابن زيد نحوه. وقوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} قال سعيد بن جبير: يعني بالكثرة, رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.
{وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَلاَ تَتّخِذُوَاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسّوَءَ بِمَا(2/711)
صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنّمَا عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوَاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يقول الله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ} أيها الناس {أُمّةً وَاحِدَةً} كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} , وهكذا قال ههنا: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير. ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً أي خديعة ومكراً لئلا تزل قدم بعد ثبوتها, مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها, وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله, لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين, فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام, ولهذا قال {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ثم قال تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا) وزينتها, فإنها قليلة, ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له, أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده, ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له, فإنه دائم لا يحول ولا يزول {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قسم من الرب تعالى مؤكد باللام, أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم, أي ويتجاوز عن سيئها.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى, من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله, وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا, وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة, والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة, وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أنها هي السعادة. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة. وقال الضحاك: هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا, وقال الضحاك أيضاً: هي العمل بالطاعة والانشراح بها, والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله.
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثني شرحبيل بن أبي شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم, ورزق كفافاً, وقنعه الله بما آتاه", ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به. وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانىء عن أبي علي الجنبي, عن فضالة(2/712)
بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد أفلح من هدي للإسلام, وكان عيشه كفافاً وقنع به". وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا همام عن يحيى, عن قتادة, عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة, لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً" , انفر بإخراجه مسلم.
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىَ الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}
هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم, وهذا أمر ندب ليس بواجب, حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير, ولله الحمد والمنة. والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارىء قراءته, ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر, ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة, وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة, واحتجا بهذه الآية, ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضاً ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي والصحيح الأول لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة, والله أعلم.
وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قال الثوري: ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه, وقال آخرون: معناه لا حجة له عليهم. وقال آخرون كقوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}, {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} قال مجاهد: يطيعونه, وقال آخرون: اتخذوه ولياً من دون الله {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} أي أشركوا في عبادة الله تعالى. أي أشركوه في عبادة الله, ويحتمل أن تكون الباء سببة, أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى. وقال آخرون: معناه أنه شركهم في الأموال والأولاد.
{وَإِذَا بَدّلْنَآ آيَةً مّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رّبّكَ بِالْحَقّ لِيُثَبّتَ الّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ}
يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم, وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة, وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} أي كذاب, وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, وقال مجاهد: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أي رفعناها وأثبتنا غيرها, وقال قتادة: هو كقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الآية, فقال تعالى مجيباً لهم {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أي جبريل {مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق والعدل {لِيُثَبِّتَ(2/713)
الَّذِينَ آمَنُوا} فيصدقوا بما أنزل أولاً وثانياً, وتخبت له قلوبهم {وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} أي وجعله هاديا وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهََذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مّبِينٌ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمداً إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر, ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض بطون قريش, وكان بياعاً يبيع عند الصفا, وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء, وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه, فلهذا قال الله تعالى: راداً عليهم في افترائهم ذلك {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} أي القرآن, أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني أُرسل, كيف يتعلم من رجل أعجمي ؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل.
ال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلمـ فيما بلغني ـ كثيراً ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر, عبد لبعض بني الحضرمي, فأنزل الله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وكذا قال عبد الله بن كثير, وعن عكرمة وقتادة: كان اسمه يعيش. وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن محمد الطوسي, حدثنا أبو عامر, حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مسلم بن عبد الله الملائي, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قيناً بمكة, وكان اسمه بلعام, وكان أعجمي اللسان, وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده, فقالوا: إنما يعلمه بلعام, فأنزل الله هذه الآية {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}, وقال الضحاك بن مزاحم: هو سلمان الفارسي, وهذا القول ضعيف, لأن هذه الآية مكية, وسلمان إنما أسلم بالمدينة, وقال عبيد الله بن مسلم: كان لنا غلامان روميان يقرآن كتاباً لهما بلسانهما فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيقوم فيسمع منهما, فقال المشركون: يتعلم منهما, فأنزل الله هذه الآية. وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد بعد ذلك عن الإسلام وافترى هذه المقالة, قبحه الله.
{إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله, فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا, ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة, ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم ليس بمفتر ولا كذاب, لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم شرار الخلق, {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس, والرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علماً وعملاً وإيماناً(2/714)
وإيقاناً, معروفاً بالصدق في قومه, لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمد صلى الله عليه وسلم, ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال: لا , فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل.
{ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلََكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اسْتَحَبّواْ الْحَيَاةَ الْدّنْيَا عَلَىَ الآخرة وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولََئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الْخَاسِرونَ}
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر, وشرح صدره بالكفر واطمأن به, أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه, وأن لهم عذابا عظيماً في الدار الآخرة, لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة, فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا, ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق, فطبع على قلوبهم, فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم, وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها, ولا أغنت عنهم شيئاً فهم غافلون عما يراد بهم, {لا جَرَمَ} أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ـ وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِِيمَانِ} فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى, وقلبه يأبى ما يقول, وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.
وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, فوافقهم على ذلك مكرهاً, وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله هذه الآية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك, وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري, عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف تجد قلبك ؟" قال: مطمئناً بالإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عادوا فعد" ورواه البيهقي بأبسط من ذلك, وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم, وذكر آلهتهم بخير, فشكا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير, قال: "كيف تجد قلبك ؟" قال: مطمئناً بالإيمان, فقال: "إن عادوا فعد", وفي ذلك أنزل الله {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته, ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل, حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر, ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم, وهو يقول: أحد, أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها, رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا أيوب عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه حرق ناساً ارتدوا عن الإسلام, فبلغ(2/715)
ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله" وكنت أقاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فبلغ ذلك علياً فقال: ويح أم ابن عباس, رواه البخاري.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر عن أيوب عن حميد بن هلال العدوي, عن أبي بردة قال: قدم على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن, فإذا رجل عنده, قال: ما هذا ؟ قال: رجل كان يهودياً فأسلم, ثم تهود ونحن نريده على الإسلام منذ قال أحسبه شهرين, فقال: والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه, فضربت عنقه, فقال: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه أو قال: "من بدل دينه فاقتلوه" وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر. والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله, كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم, فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي, فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت, فقال: إذاً أقتلك, فقال: أنت وذاك, قال: فأمر به فصلب, وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى, ثم أمر به فأنزل, ثم أمر بقدر, وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت, وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر, فإذا هو عظام تلوح, وعرض عليه فأبى, فأمر به أن يلقى فيها, فرفع في البكرة ليلقى فيها, فبكى فطمع فيه ودعاه, فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله, فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله. وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً, ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه, ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل ؟ فقال: أما إنه قد حل لي, ولكن لم أكن لأشمتك بي, فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك, فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال: نعم, فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده, فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة, وأنا أبدأ, فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
{ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا وَتُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
هؤلاء صنف آخر كانو مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة, ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه, وانتظموا في سلك المؤمنين, وجاهدوا معهم الكافرين, وصبروا, فأخبر تعالى أنه من بعدها, أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ} أي تحاج {تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أي من خير وشر {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا ينقص من ثواب الخير, ولا يزاد على ثواب الشر, ولا يظلمون نقيراً.
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ(2/716)
بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}
هذا مثل أريد به أهل مكة, فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها, ومن دخلها كان آمنا لا يخاف, كما قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا}, وهكذا قال ههنا: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} أي هنيئاً سهلاً {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم, كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما, فقال: { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء, ويأيتها رزقها رغداً من كل مكان, وذلك لمّا استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف, فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم, فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه.
وقوله: {وَالْخَوْفِ} وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه, وجعل كل ما لهم في دمار وسفال حتى فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم, وامتن به عليهم في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً} الآية, وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ـ إلى قوله ـ وَلا تَكْفُرُونِ} وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن, وجاعوا بعد الرغد, فبدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمناً, ورزقهم بعد العيلة, وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم, وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله العوفي عن ابن عباس, وإليه ذهب مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله.
وقال ابن جرير: حدثني ابن عبد الرحيم البرقي, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا نافع بن يزيد, حدثنا عبد الرحمن بن شريح أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه أنه سمع مشرح بن هاعان يقول: سمعت سليم بن عتر يقول: صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان رضي الله عنه محصور بالمدينة, فكانت تسأل عنه ما فعل ؟ حتى رأت راكبين فأرسلت إليهما تسألهما فقالا: قتل, فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها القرية ـ تعني المدينة ـ التي قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} قال ابن شريح: وأخبرني عبيد الله بن المغيرة عمن حدثه أنه كان يقول إنها المدينة.
{فَكُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هََذَا حَلاَلٌ وَهََذَا(2/717)
حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك فإنه المنعم المتفضل به ابتداء الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له, ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة والدم ولحم الخنزير {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ذبح على غير اسم الله, ومع هذا {فَمَنِ اضْطُرّ} إليه أي احتاج من غير بغي ولا عدوان {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته, ولله الحمد.
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك, مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم, فقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي, أو حلل شيئاً مما حرم الله, أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه, وما في قوله: {لِمَا تَصِفُ} مصدرية, أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم, ثم توعد على ذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} أي في الدنيا ولا في الآخرة, أما في الدنيا فمتاع قليل, وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم, كما قال: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقال {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
{وَعَلَىَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلََكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ عَمِلُواْ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوَاْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ}
لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما أرخص فيه عند الضرورة ـ وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسرى ولا يريد بها العسرى ـ ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها, وما كانوا فيه من الاَصار والتضييق والأغلال والحرج, فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي في سورة الأنعام في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ـ إلى قوله ـ َصَادِقُونَ} ولهذا قال ههنا: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أي فيما ضيقنا عليهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي فاستحقوا ذلك, كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} ثم أخبر تعالى تكرماً وامتناناً في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه, فقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} أي تلك الفعلة والزلة {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
{إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىَ(2/718)
صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدّنْيَا حَسَنَةً وَإِنّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصّالِحِينَ ثُمّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء, ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية, فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} فأما الأمة: فهو الإمام الذي يقتدى به, والقانت: هو الخاشع المطيع, والحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد, ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت, فقال: الأمة معلم الخير, والقانت: المطيع لله ورسوله, وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم, وقال الأعمش عن يحيى بن الجزار عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال: من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رق له, فقال: أخبرني عن الأمة, فقال: الذي يعلم الناس الخير.
وقال الشعبي: حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود: إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً, فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن, وقال إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} فقال: أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت: الله أعلم, فقال: الأمة الذي يعلم الخير, والقانت المطيع لله ورسوله, وكذلك كان معاذ. وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود, أخرجه ابن جرير. وقال مجاهد: أمة أي أمة وحده, والقانت المطيع وقال مجاهد أيضاً: كان إبراهيم أمة أي مؤمناً وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار. وقال قتادة: كان إمام هدى, والقانت المطيع لله. وقوله: {شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ} أي قائماً بشكر نعم الله عليه, كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به.
وقوله: {اجْتَبَاهُ} أي اختاره واصطفاه كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}, ثم قال: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي. وقوله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}. وقال مجاهد في قوله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي لسان صدق. وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه, أنا أوحينا إليك ياخاتم الرسل وسيد الأنبياء {أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} كقوله في الأنعام: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ثم قال تعالى منكراً على اليهود.
{إِنّمَا جُعِلَ السّبْتُ عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنّ رَبّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوماً من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده, ويقال: إن الله تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى فعدلوا عنه, واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئاً من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة, ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه وأَخْذِه مواثيقهم وعهودهم على ذلك, ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} قال مجاهد: اتبعوه وتركوا(2/719)
الجمعة ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به حتى بعث الله عيسى ابن مريم, فيقال: إنه حولهم إلى يوم الأحد, ويقال إنه لم يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها, وإنه لم يزل محافظا على السبت حتى رفع, وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد مخالفة لليهود, وتحولوا إلى الصلاة شرقاً عن الصخرة, والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه, فهدانا الله له, فالناس لنا فيه تبع: اليهود غداً والنصارى بعد غد" لفظ البخاري. وعن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا, فكان لليهود يوم السبت, وكان للنصارى يوم الأحد, فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة, فجعل الجمعة والسبت والأحد, وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا, والأولون يوم القيامة, والمقضى بينهم قبل الخلائق" رواه مسلم.
{ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
يقول تعالى آمراً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}, أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس, ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى, وقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب, كقوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآية, فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية, أي قد علم الشقي منهم والسعيد, وكتب ذلك عنده وفرغ منه, فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات, فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}, {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَواْ وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ}
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق, كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد, عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله, وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا: يارسول الله لو أذن الله لنا لا نتصرنا من هؤلاء الكلاب. فنزلت هذه الآية, ثم نسخ ذلك بالجهاد.(2/720)
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة, وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم" فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط, فأنزل الله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة, وهذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم.
وقد روي هذا من وجه آخر متصل, فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن يحيى, حدثنا عمرو بن عاصم, حدثنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد, فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه, أو قال لقلبه, فنظر إليه وقد مثل به, فقال: "رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولاً للرحم, فعولاً للخيرات, والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع ـ أو كلمة نحوها ـ أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك" فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر الآية, فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك, وهذا إسناد فيه ضعف, لأن صالحاً هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة, وقال البخاري: هو منكر الحديث, وقال الشعبي وابن جريج: نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي, حدثنا الفضل بن موسى, حدثنا عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلاً, ومن المهاجرين ستة, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربيّن عليهم", فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم, فنادى مناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلاناً وفلاناً ـ ناساً سماهم ـ فأنزل الله تبارك وتعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصبر ولا نعاقب" وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن, فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ثم قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الآية. وقال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ثم قال {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} وقال في هذه الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ثم قال {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.
وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته, وحوله وقوته, ثم قال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} أي غم {مِمَّا يَمْكُرُونَ} أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك, فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله لموسى وهارون: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار: "لا تحزن إن الله معنا" وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم, كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وكقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ(2/721)
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} وكما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} الآية, ومعنى {الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي تركوا المحرمات, {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي فعلوا الطاعات, فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب: كان عثمان رضي الله عنه من الذين اتقوا والذين هم محسنون.(2/722)
المجلد الثالث
سورة الإسراء
...
سورة الإسراء
تفسير سورة الإسراء وهي مكية
قال الإمام الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد, سمعت ابن مسعود رضي الله عنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا حماد بن زيد عن مروان أبي لبابة, سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر, ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم, وكان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ}
يمجد تعالى نفسه, ويعظم شأنه, لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه, فلا إله غيره ولا رب سواه, {الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {ليلاً} أي في جنح الليل {مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وهو مسجد مكة {إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى} وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام, ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم, فدل على أنه هو الإمام الأعظم, والرئيس المقدم, صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وقوله تعالى: {الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه} أي في الزروع والثمار {لِنُرِيَهُ} أي محمداً {مِنْ آيَاتِنَآ} أي العظام. كما قال تعالى : {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم, وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم, مصدقهم ومكذبهم, البصير بهم فيعطي كلاً منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة.
(ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء: رواية أنس بن مالك رضي الله عنه)
قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثني عبد العزيز بن عبد الله, حدثنا سليمان - هو ابن بلال - عن شريك بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو ؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم, فقال آخرهم: خذوا خيرهم, فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا(3/7)
ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلموه حتى يحتملوه فوضعوه عند بئر زمزم, فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه, فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه, ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا, فضرب باباً من أبوابها, فناداه أهل السماء: من هذا ؟ فقال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: معي محمد, قالوا: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم, قالوا: فمرحباً به وأهلاً, يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم, فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه, فسلم عليه ورد عليه آدم فقال: مرحباً وأهلاً بابني نعم الابن أنت, فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال: "ما هذان النهران يا جبريل ؟" قال: هذان النيل والفرات عنصرهما.
ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد, فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأه لك ربك, ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى: من هذا ؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قالوا: مرحباً به وأهلاً, ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية, ثم عرج به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك, كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه, وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى, فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع علي أحدٌ, ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عز وجل حتى جاء سدرة المنتهى, ودنا الجبار رب العزة فتدلى, حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى, فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة, ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك ؟ قال: "عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة" قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار جبريل أن نعم إن شئت, فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس فقال وهو في مكانه: "يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا" فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه, فلم يزل يرده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات, ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه, فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً, فارجع فليخفف عنك ربك, كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل, فرفعه عند الخامسة فقال: "يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا" فقال الجبار تبارك وتعالى: يا محمد. قال: "لبيك وسعديك" قال: إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب, فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب, وهي خمس عليك, فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت ؟ فقال: "خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها" قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه, فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا موسى قد والله استحييت من ربي عز وجل مما أختلف إليه" قال: فاهبط باسم الله.
قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام. هكذا ساقه البخاري في كتاب التوحيد, ورواه في صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه(3/8)
أبي بكر عبد الحميد عن سليمان بن بلال. ورواه مسلم عن هارون بن سعيد عن ابن وهب عن سليمان قال فزاد ونقص وقدم وأخر, وهو كما قال مسلم فإن شريك بن عبد الله بن أبي نمر اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه ولم يضبطه كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الأحاديث الأخر, ومنهم من يجعل هذا مناماً توطئة لما وقع بعد ذلك والله أعلم. وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي في حديث شريك زيادة تفرد بها, على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل يعني قوله, {ثُمَّ دَنَا} الجبار رب العزة { فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}. قال وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل أصح, وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق, فإن أبا ذر قال: يا رسوله الله هل رأيت ربك ؟ قال: "نور أنى أراه" وفي رواية: "رأيت نوراً" أخرجه مسلم, وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} إنما هو جبريل عليه السلام, كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين, وعن ابن مسعود, وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة, ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل, يضع حافره عند منتهى طرفه, فركبت فسار بي حتى أتيت بيت المقدس, فربطت الدابة بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء, ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن, فاخترت اللبن فقال جبريل: أصبت الفطرة. قال: ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل له من أنت ؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: قد أرسل إليه. ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير, ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل له: من أنت. قال: جبريل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: قد أرسل إليه, ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت قال: جبريل فقيل ومن معك فقال محمد فقيل وقد أرسل له قال قد أرسل له ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام, وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل, فقيل: من أنت ؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك ؟ قال: محمد, فقيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير ثم يقول الله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل من أنت ؟ قال جبريل, فقيل: ومن معك ؟ قال: محمد. فقيل: قد أرسل إليه ؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون, فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل من أنت ؟ قال جبريل قيل ومن معك ؟ قال: محمد. فقيل: وقد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى عليه السلام, فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل من أنت ؟ قال: جبريل. قيل ومن معك ؟ قال: محمد. فقيل وقد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه, ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام, وإذا هو مستند إلى البيت المعمور, وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه, ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة, وإذا ثمرها كالقلال, فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها.
قال: فأوحى الله إليّ ما أوحى, وقد فرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى, قال ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت خمسين صلاة في كل يوم وليلة, قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك, فإن أمتك لا(3/9)
تطيق ذلك وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم, قال فرجعت إلى ربي فقلت أي رب خفف عن أمتي فحط عني خمساً, فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال ما فعلت ؟ فقلت قد حط عني خمساً فقال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك, قال فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحطّ عني خمساً خمساً حتى قال: يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر, فتلك خمسون صلاة ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, فإن علمها كتبت عشراً, ومن هم بسيئة فلم يعلمها لم تكتب, فإن عملها كتبت سيئة واحدة, فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته, فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت" ورواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة بهذا السياق, وهو أصح من سياق شريك.
قال البيهقي: وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس, وهذا الذي قاله هو الحق الذي لاشك فيه ولا مرية, وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجاً ملجماً ليركبه, فاستصعب عليه فقال له جبريل: ما يحملك على هذا فو الله ما ركبك قط أكرم على الله منه ؟ قال: فارفض عرقا, ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق, وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا صفوان, حدثني راشد بن سعيد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي إلى ربي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم, فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" وأخرجه أبو داود من حديث صفوان بن عمرو به, ومن وجه آخر ليس فيه أنس, فالله أعلم, وقال أيضاً: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على موسى عليه السلام قائماً يصلي في قبره".
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن سليمان بن طرخان التيمي وثابت البناني, كلاهما عن أنس, قال النسائي: هذا أصح من رواية من قال سليمان عن ثابت عن أنس, وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا وهب بن بقية, حدثنا خالد عن التيمي عن أنس قال: أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, مر على موسى وهو يصلي في قبره, وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة, حدثنا معتمر عن أبيه قال: سمعت أنساً أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر بموسى وهو يصلي في قبره, قال أنس ذكر أنه حمل على البراق فأوثق الدابة أو قال الفرس. قال أبو بكر: صفها لي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي كذه وذه" فقال: أشهد أنك رسول الله. وكان أبو بكر رضي الله عنه قد رآها, وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده: حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير, فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر, فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين, وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست, فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاط فعرفت فضل علمه بالله علي, وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم, وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت وأوحي إلي ما شاء الله أن يوحى" ثم قال ولا نعلم روى هذا الحديث إلا أنس ولا نعلم رواه عن أبي عمران الجوني إلا الحارث بن عبيد, وكان رجلاً مشهوراً من أهل البصرة.
ورواه الحافظ البيهقي في الدلائل عن أبي بكر القاضي عن أبي جعفر محمد(3/10)
بن علي بن دحيم عن محمد بن الحسين بن أبي الحسين, عن سعيد بن منصور فذكره بسنده مثله ثم قال وقال غيره في هذا الحديث في آخره ولط دوني, أو قال دون الحجاب رفرف الدر والياقوت, ثم قال هكذا رواه الحارث بن عبيد ورواه حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن محمد بن عمير بن عطارد, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ملإ من أصحابه فجاءه جبريل فنكت في ظهره, فذهب به إلى الشجرة وفيها مثل وكري الطير, فقعد في أحدهما وقعد جبريل في الآخر فنشأت بنا حتى بلغت الأفق, فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها فدلي بسبب وهبط النور فوقع جبريل مغشياً عليه كأنه حلس, فعرفت فضل خشيته على خشيتي فأوحي إلي نبياً: ملكاً أو نبياً عبداً وإلى الجنة ما أنت, فأومأ إليّ جبريل وهو مضطجع أن تواضع قال قلت لا بل نبياً عبداً, قلت وهذا إن صح يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء, فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس ولا الصعود إلى السماء فهي كائنة غير ما نحن فيه, والله أعلم وقال البزار أيضاً: حدثنا عمرو بن عيسى حدثنا أبو بحر, حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل, وهذا غريب.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا يونس, حدثنا عبد الله بن وهب, حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال: لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فكأنها حركت ذنبها, فقال لها جبريل مه يا براق فو الله ما ركبك مثله, وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بعجوز على جانب الطريق فقال: "ما هذه يا جبريل ؟" قال: سر يا محمد, قال فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه متنحياً عن الطريق فقال هلم يا محمد, فقال له جبريل: سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير, قال فلقيه خلق من خلق الله فقالوا السلام عليك (يا أول), السلام عليك (يا آخر), السلام عليك يا حاشر, فقال له جبريل اردد السلام يا محمد فرد السلام, ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى ثم الثالثة كذلك, حتى انتهى إلى بيت المقدس فعرض عليه الخمر والماء واللبن فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن, فقال له جبريل أصبت الفطرة ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك, ولو شربت الخمر لغويت ولغوت أمتك, ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم السلام فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة. ثم قاله له جبريل: أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا كما بقي من عمر تلك العجوز. وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه, وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام, وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن وهب. وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة.
(طريق أخرى) عن أنس بن مالك, وفيها غرابة ونكارة جداً وفي سنن النسائي والمجتبى ولم أرها في الكبير قال: حدثنا عمرو بن هشام, حدثنا مخلد هو ابن الحسين عن سعيد بن عبد العزيز, حدثنا يزيد بن أبي مالك حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوها عند منتهى طرفها, فركبت ومعي جبريل عليه السلام فسرت فقال انزل فصلّ فصليت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت بطيبة وإليها المهاجر, ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى, ثم قال انزل فصل فصليت, فقال أتدري أين صليت ؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام, ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام فقدمني جبريل عليه السلام حتى أممتهم ثم صعد بي إلى السماء الدنيا فإذا فيها آدم عليه السلام, ثم صعد بي إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام, ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها يوسف عليه السلام, ثم صعد(3/11)
بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها هارون عليه السلام, ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها إدريس عليه السلام.
ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها موسى عليه السلام, ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا فيها إبراهيم عليه السلام, ثم صعد بي فوق سبع سموات وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة فخررت ساجداً فقيل لي إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك فرجعت بذلك حتى أمر بموسى عليه السلام, فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة, قال فإنك لا تستطيع أن تقوم بها لا أنت ولا أمتك, فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فرجعت إلى ربي فخفف عني عشراً, ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع فرجعت فخفف عني عشراً, ثم ردت إلى خمس صلوات, قال فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما, فرجعت إلى ربي عز وجل فسألته التخفيف, فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة, فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك, قال فعرفت أنها من الله عز وجل صرّي فرجعت إلى موسى عليه السلام فقال ارجع فعرفت أنها من الله عز وجل صرّى - يقول أي حتم - فلم أرجع".
(طريق أخرى) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل, حمله جبريل عليها ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها, فلما بلغ بيت المقدس وبلغ المكان الذي يقال له باب محمد صلى الله عليه وسلم أتى إلى الحجر الذي ثمة, فغمزه جبريل بأصبعه فثقبه, ثم ربطها ثم صعد فلما استويا في صرحة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين ؟ فقال: "نعم" فقال فانطلق إلى أولئك النسوة, فسلم عليهن وهن جلوس عن يسار الصخرة, قال: "فأتيتهن فسلمت عليهن فرددن علي السلام فقلت من أنتن ؟ فقلن: نحن خيرات حسان نساء قوم أبرار نقوا فلم يدرنوا. وأقاموا فلم يظعنوا, وخلدوا فلم يموتوا, قال ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيراً حتى اجتمع ناس كثير, ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة, قال فقمنا صفوفاً ننتظر من يؤمنا فأخذ بيدي جبريل عليه السلام فقدمني فصليت بهم, فلما انصرفت قال جبريل: يا محمد أتدري من صلى خلفك ؟ - قال - قلت لا - قال صلى خلفك كل نبي بعثه الله عز وجل.
قال: ثم أخذ بيدي جبريل فصعد بي إلى السماء, فلما انتهينا إلى الباب استفتح فقالوا من أنت ؟ قال أنا جبريل, قالوا ومن معك ؟ قال محمد قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم - قال - ففتحوا له وقالوا مرحباً بك وبمن معك - قال - فلما استوى على ظهرها إذا فيها آدم, فقال لي جبريل يا محمد ألا تسلم على أبيك آدم - قال - قلت بلى, فأتيته فسلمت عليه فرد علي وقال مرحباً بابني الصالح والنبي الصالح - قال - ثم عرج بي إلى السماء الثانية, فاستفتح فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد, قالوا وقد بعث إليه, قال نعم, ففتحوا له وقال مرحباً بك وبمن معك فإذا فيها عيسى وابن خالته يحيى عليهما السلام, - قال - ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح, قالوا من أنت ؟ قال جبريل, قالوا ومن معك ؟ قال محمد, قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم, ففتحوا له وقالوا مرحباً بك وبمن معك, فإذا فيها يوسف عليه السلام, ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا من أنت ؟ قال جبريل, فقالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم - قال - ففتحوا له وقالوا مرحباً بك وبمن معك فإذا فيها إدريس عليه السلام - قال - فعرج بي إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد, قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم - قال - ففتحوا وقالوا مرحباً بك وبمن معك وإذا فيها هارون عليه(3/12)
السلام.
ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت, قال جبريل, قالوا ومن معك, قال محمد, قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم - قال - ففتحوا وقالوا مرحباً بك وبمن معك, وإذا فيها موسى عليه السلام, ثم عرج بي إلى السماء السابعة, فاستفتح جبريل فقالوا من أنت ؟ قال جبريل, قالوا ومن معك ؟ قال محمد, قالوا وقد بعث إليه ؟ قال نعم ففتحوا له وقالوا مرحباً بك وبمن معك وإذا فيها إبراهيم عليه السلام فقال جبريل يا محمد ألا تسلم على أبيك إبراهيم ؟ قلت بلى, فأتيته فسلمت عليه فرد علي السلام وقال مرحباً بابني الصالح والنبي الصالح, ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى بي إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد, وعليه طير أخضر أنعم طير رأيت, فقلت يا جبريل إن هذا الطير لناعم قال يا محمد آكله أنعم منه, ثم قال يا محمد أتدري أي نهر هذا - قال - قلت لا, قال هذا الكوثر الذي أعطاك الله إياه, فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد ماؤه أشد بياضاً من اللبن - قال - فأخذت من آنيته آنية من الذهب, فاغترفت من ذلك الماء فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك.
ثم انطلق بي حتى انتهيت إلى الشجرة فغشيتني سحابة فيها من كل لون (فرفضني) جبريل وخررت ساجداً لله عز وجل فقال الله لي: يا محمد إني يوم خلقت السموات والأرض افترضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة, فقم بها أنت وأمتك - قال - ثم انجلت عني السحابة فأخذ بيدي جبريل فانصرفت سريعاً, فأتيت على إبراهيم فلم يقل شيئاً, ثم أتيت على موسى فقال ما صنعت يا محمد ؟ فقلت فرض ربي علي وعلى أمتي خمسين صلاة. قال فلن تستطيعها أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك, فرجعت سريعاً حتى انتهيت إلى الشجرة فغشيتني السحابة ورفضني جبريل وخررت ساجداً وقلت ربي إنك فرضت علي وعلى أمتي خمسين صلاة ولن أستطيعها أنا ولا أمتي فخفف عنا, قال وضعت عنكم عشراً - قال - ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل - قال - فانصرفت سريعاً حتى أتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئاً, ثم أتيت على موسى فقال لي ما صنعت يا محمد ؟ فقلت وضع عني ربي عشراً قال فأربعون صلاة لن تستطيعها أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنكم. فذكر الحديث كذلك إلى خمس صلوات وخمس بخمسين ثم أمره موسى أن يرجع فيسأله التخفيف فقال: "إني استحييت منه تعالى".
قال ثم انحدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا لي غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي ولم يضحك لي" قال: يا محمد ذاك مالك, خازن جهنم, لم يضحك منذ خلق ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك, قال ثم ركب منصرفاً فبينا هو في بعض الطريق مر بعير لقريش تحمل طعاماً, منها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء, فلما حاذى بالعير نفرت منه واستدارت وصرع ذلك البعير وانكسر, ثم إنه مضى فأصبح فأخبر عما كان, فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا يا أبا بكر هل لك في صاحبك ؟ يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ورجع في ليلته, فقال أبو بكر رضي الله عنه إن كان قاله فقد صدق وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا لنصدقه على خبر السماء فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما علامة ما تقول قال مررت بعير لقريش وهي في مكان كذا وكذا فنفرت الإبل منا واستدارت وفيها بعير عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فصرع فانكسر فلما قدمت العير سألوهم فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك سمي أبو بكر الصديق وسألوه وقالوا هل كان فيمن حضر معك موسى وعيسى ؟ قال نعم قالوا فصفهم لنا قال: "أما موسى فرجل آدم كأنه من رجال أزد عمان, وأما عيسى فرجل ربعة سبط تعلوه حمرة كأنما يتحادر من شعره الجمان" هذا سياق(3/13)
فيه غرائب عجيبة.
رواية أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا همام قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك أن مالك بن صعصعة حدثه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: "بينما أنا في الحطيم - وربما قال قتادة في الحجر - مضطجعاً إذ أتاني آت, فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة - قال - فأتاني فقدّ - سمعت قتادة يقول فشق - ما بين هذه إلى هذه" وقال قتادة فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني ؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته, وقد سمعته يقول من قصته إلى شعرته قال: "فاستخرج قلبي - قال - فأتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً وحكمة فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض" قال فقال الجارود: هو البراق يا أبا حمزة ؟ قال نعم يقع خطوه عند أقصى طرفه قال: "فحملت عليه فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى بي إلى السماء الدنيا فاستفتح, فقيل من هذا ؟ قال جبريل, قيل ومن معك ؟ قال محمد, قيل أوَقد أرسل إليه ؟ قال نعم فقيل: مرحباً به ولنعم المجيء عليه - قال - فتح لنا فلما خلصت فإذا فيها آدم عليه السلام, قال هذا أبوك آدم فسلم عليه, فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح, ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح فقيل من هذا ؟ فقال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء قال ففتح لنا, فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا الخالة, قال هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما - قال - فسلمت عليهما فردا السلام ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح, ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح فقيل من هذا ؟ فقال جبريل قيل ومن معك ؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء - قال - قال ففتح لنا, فلما خلصت فإذا إذا يوسف عليه السلام قال هذا يوسف - قال - فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح, ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل, قيل ومن معك ؟ قال محمد, قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء - قال - ففتح لنا فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام, قال هذا إدريس, قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح, - قال - ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل, قيل ومن معك ؟ قال محمد, قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم, قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء, ففتح لنا فلما خلصت فإذا هارون عليه السلام قال هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام, ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح - قال - ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل, قيل ومن معك ؟ قال محمد, قيل أو قد أرسل إليه ؟ قال نعم, قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء, ففتح لنا فلما خلصت فإذا بموسى عليه السلام قال هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام, ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح - قال - فلما تجاوزته بكى قيل له: ما يبكيك ؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. قال ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل, قيل ومن معك ؟ قال محمد, قيل أو قد بعث إليه ؟ قال نعم, قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء, ففتح لنا فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام فقال هذا إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام, ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح - قال - ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر, وإذا ورقها مثل آذان الفيلة, فقال هذه سدرة المنتهى, قال وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران, فقلت: ما هذا يا جبريل ؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة, وأما الظاهران فالنيل والفرات(3/14)
- قال - ثم رفع إلى البيت المعمور".
قال قتادة: وحدثنا الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً ثم لا يعودون فيه, ثم رجع إلى حديث أنس قال: "ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل. - قال - فأخذت اللبن قال هذه الفطرة أنت عليها وأمتك - قال - ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم - قال - فنزلت حتى أتيت موسى, فقال ما فرض ربك على أمتك ؟ قال فقلت خمسين صلاة كل يوم, قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة وإني خبرت الناس قبلك, وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك - قال - فرجعت فوضع عني عشراً - قال - فرجعت إلى موسى فقال بمَ أمرت ؟ قلت بأربعين صلاة كل يوم, قال إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم, وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك - قال - فرجعت فوضع عشراً أخر, فرجعت إلى موسى فقال بمَ أمرت ؟ فقلت أمرت بثلاثين صلاة, قال إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم, وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك - قال - فرجعت فوضع عشراً أخر, فرجعت إلى موسى فقال بمَ أمرت ؟ فقلت أمرت بعشرين صلاة كل يوم, قال إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة كل يوم, وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك - قال - فرجعت فوضع عشراً عني أخر, فرجعت إلى موسى فقال بمَ أمرت ؟ فقلت أمرت بعشر صلوات كل يوم, قال إن أمتك لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم, وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك - قال - فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم, فرجعت إلى موسى فقال بما أمرت قال أمرت بخمس صلوات كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم, وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك - قال - قلت قد سألت ربي حتى استحييت, ولكن أرضى وأسلم, فنفذت فنادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" وأخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة بنحوه.
(رواية أنس عن أبي ذر) قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب, عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة, فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم, ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيماناً, فأفرغه في صدري, ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا, فلما جئت إلى السماء قال جبريل لخازن السماء: افتح قال: من هذا ؟ قال: جبريل, قال هل معك أحد ؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم, فقال: أرسل إليه ؟ قال: نعم فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة, إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى, فقال مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح قال: قلت لجبريل: من هذا ؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه, فأهل اليمين منهم أهل الجنة, والأسودة التي عن شماله أهل النار, فإذا نظر عن يمينه ضحك, وإذا نظر عن شماله بكى, ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها افتح, فقال له خازنها مثل ما قاله الأول, ففتح" قال أنس فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم, ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا, وإبراهيم في السادسة, قال أنس: فلما مر جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس, قال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ(3/15)
الصالح, فقلت: من هذا ؟ قال: إدريس, ثم مررت بموسى فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح, فقلت: من هذا ؟ قال: هذا موسى, ثم مررت بعيسى, فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح, قلت: من هذا ؟ قال: هذا عيسى, ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح, قلت: من هذا ؟ قال: هذا إبراهيم. قال الزهري: فأخبرني ابن حزم أنّ ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام".
قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففرض الله على أمتي خمسين صلاة, فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام, فقال: ما فرض الله على أمتك ؟ قلت: فرض خمسين صلاة, قال موسى: فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك, فرجعت فوضع شطرها, فرجعت إلى موسى, قلت: وضع شطرها, فقال: ارجع إلى ربك, فإن أمتك لا تطيق ذلك, فرجعت فوضع شطرها, فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك, فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي, فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك, قلت: قد استحييت من ربي, ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي, ثم أدخلت الجنة, فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ, وإذا ترابها من المسك" وهذا لفظ البخاري في كتاب الصلاة, ورواه في ذكر بني إسرائيل وفي الحج وفي أحاديث الأنبياء من طرق أخرى عن يونس به, ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان منه عن حرملة عن ابن وهب عن يونس به نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته, قال: وما كنت تسأله ؟ قال: كنت أسأله: هل رأى ربه ؟ فقال: إني قد سألته, فقال: "قد رأيته نوراً أنىّ أراه" هكذا قد وقع في رواية الإمام أحمد, وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع, عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق, عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال: "نور أنى أراه". وعن محمد بن بشار عن معاذ بن هشام: حدثنا أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته, فقال: عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال رأيت نوراً.
(رواية أنس عن أبي بن كعب الأنصاري رضي الله عنه) قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن إسحاق بن محمد المسيني, حدثنا أنس بن عياض, حدثنا يونس بن يزيد قال: قال ابن شهاب: قال أنس بن مالك: كان أبي بن كعب يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة, فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم, ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيماناً, فأفرغها في صدري, ثم أطبقه, ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جاء السماء الدنيا إذا رجل عن يمينه أسودة, وعن يساره أسودة, فإذا نظر قبل يمينه تبسم, وإذا نظر قبل يساره بكى, فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح, قال: قلت لجبريل: من هذا ؟ قال: هذا آدم, وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه, فأهل يمينه هم أهل الجنة, والأسودة التي عن شماله هم أهل النار, فإذا نظر قبل يمينه ضحك, وإذا نظر قبل يساره بكى - قال - ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية, فقال لخازنها: افتح, فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا, ففتح له" قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وإبراهيم وعيسى, ولم يثبت لي كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم عليه السلام في السماء الدنيا, وإبراهيم في السماء السادسة, قال أنس: فلما مر جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح, قال: "قلت(3/16)
من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا إدريس - قال ثم مررت بموسى فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح, فقلت من هذا ؟ قال: موسى, ثم مررت بعيسى فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح, قلت من هذا ؟ قال: هذا عيسى ابن مريم - قال - ثم مررت بإبراهيم, فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح, قلت: من هذا ؟ قال: هذا إبراهيم".
قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع صريف الأقلام" قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرض الله على أمتي خمسين صلاة, قال: فرجعت بذلك حتى أمر على موسى, فقال موسى: ماذا فرض ربك على أمتك ؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة فقال لي موسى: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك, قال: فراجعت ربي فوضع شطرها, فرجعت إلى موسى فأخبرته, فقال: ارجع إلى ربك, فإن أمتك لا تطيق ذلك, فرجعت فقال: هي خمس وهي خمسون, لا يبدل القول لدي, قال: فرجعت إلى موسى, فقال, راجع ربك فقلت: قد استحييت من ربي, قال: ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى, قال: فغشيها ألوان ما أدري ما هي, قال: ثم دخلت الجنة, فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ, وإذا ترابها المسك" هكذا رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه, وليس هو في شيء من الكتب الستة, وقد تقدم في الصحيحين من طريق يونس عن الزهري, عن أبي ذر مثل هذا السياق سواء, فالله أعلم.
(رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي)
قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل ويعقوب بن إبراهيم واللفظ له, قالا: حدثنا أبو نميلة, حدثنا الزبير بن جنادة عن عبد الله بن بريدة, عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري بي - قال - فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس - قال - فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق" ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو نميلة, ولا نعلم هذا الحديث إلا عن بريدة, وقد رواه الترمذي في التفسير من جامعه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي به, وقال غريب.
(رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس, قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس, فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه" أخرجاه في الصحيحين من طرق عن حديث الزهري به. وقال البيهقي: حدثنا أحمد بن الحسن القاضي, حدثنا أبو العباس الأصم, حدثنا العباس بن محمد الدوري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي عن صالح بن كيسان, عن ابن شهاب قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى, وأنه أتي بقدحين: قدح من لبن وقدح من خمر, فنظر إليهما, ثم أخذ قدح اللبن, فقال جبريل: أصبت هديت للفطرة, لو أخذت الخمر لغوت أمتك, ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه, وقال ابن شهاب: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فتجهز, أو كلمة نحوها, ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة ؟ فقال أبو بكر: أو قال ذلك ؟ قالوا: نعم, قال: فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق, قالوا: فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ؟ قال: نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك, أصدقه بخبر السماء, قال أبو سلمة: فبها سمي أبو بكر الصديق. قال أبو سلمة: فسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/17)
يقول: "لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس, قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس, فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه".
(رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا سليمان عن شيبان, عن عاصم, عن زر بن حبيش قال: أتيت على حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, وهو يحدث عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم, وهو يقول: فانطلقا حتى أتيا بيت المقدس فلم يدخلاه, قال: قلت: بل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وصلى فيه, قال: ما اسمك يا أصلع ؟ فأنا أعرف وجهك, ولا أدري ما اسمك, قال: قلت أنا زر بن حبيش, قال: فما علمك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه ليلتئذ ؟ قال: قلت القرآن يخبرني بذلك, قال: فمن تكلم بالقرآن فلج اقرأ, قال: فقلت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} قال: يا أصلع, هل تجد صلى فيه ؟ قلت: لا. قال: والله ما صلى فيه رسول الله ليلتئذ, لو صلى فيه لكتبت عليكم صلاة فيه كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق, والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع, ثم عادا عودهما على بدئهما, قال: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه. قال: ويحدثونه أنه ربطه لا يفر منه, وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة, قلت: يا عبد الله, أي دابة البراق ؟ قال: دابة أبيض طويل, هكذا خطوه مد البصر. ورواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة, عن عاصم به. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث عاصم وهو ابن أبي النجود به. وقال الترمذي: حسن, وهذا الذي قاله حذيفة رضي الله عنه وما أثبته غيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربط الدابة بالحلقة, ومن الصلاة ببيت المقدس مما سبق وما سيأتي مقدم على قوله, والله أعلم بالصواب.
رواية أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ, حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب, حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, حدثنا أبو محمد راشد الحماني عن أبي هارون العبدي, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه: يا رسول الله, أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها. قال: قال الله عز وجل {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} الآية: قال: فأخبرهم, قال: "فبينما أنا نائم عشاء في المسجد الحرام إذ أتاني آت فأيقظني, فاستيقظت فلم أر شيئاً, فإذا أنا بي كهيئة خيال فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد الحرام, فإذا أنا بدابة أدنى شبهاً بدوابكم هذه, بغالكم هذه, غير أنه مضطرب الأذنين يقال له البراق, وكانت الأنبياء تركبه قبلي, يقع حافره عند مد بصره, فركبته, فبينما أنا أسير عليه إذ دعاني داع من يميني: يا محمد انظرني أسألك, يا محمد انظرني أسألك, يا محمد انظرني أسألك, فلم أجبه ولم أقم عليه, فبينما أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يساري: يا محمد انظرني أسألك, فلم أجبه ولم أقم عليه, فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله, فقالت: يا محمد, انظرني أسألك, فلم ألتفت إليها ولم أقم عليها حتى أتيت بيت المقدس, فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها.
ثم أتاني جبريل عليه السلام بإنائين: أحدهما خمر والآخر لبن, فشربت اللبن وأبيت الخمر, فقال جبريل: أصبت الفطرة, أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك, فقلت: الله أكبر الله أكبر, فقال جبريل: ما أريت في وجهك هذا ؟ قال: فقلت بينما أنا أسير إذا دعاني داع عن يميني: يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم عليه, قال ذاك داعي اليهود, أما إنك لو أجبته أو وقفت عليه لتهودت(3/18)
أمتك - قال - فبينما أنا أسير إذ دعاني داع عن يساري قال: يا محمد انظرني أسألك فلم ألتفت ولم أقم عليه, قال: ذاك داعي النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك - قال - فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله تقول: يا محمد انظرني أسألك فلم أجبها ولم أقم عليها, قال: تلك الدنيا, أما إنك لو أجبتها أو قمت عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
قال: ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس, فصلى كل واحد منا ركعتين, ثم أتيت بالمعراج الذي كانت تعرج عليه أرواح بني آدم فلم ير الخلائق أحسن من المعراج أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحاً إلى السماء, فإنما يشق بصره طامحاً إلى السماء عجبه بالمعراج, قال: فصعدت أنا وجبريل, فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب السماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنوده مائة ألف ملك, قال: قال الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} قال: فاستفتح جبريل باب السماء, قيل: من هذا ؟ قال جبريل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: أوقد بعث إليه ؟ قال: نعم, فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله عز وجل على صورته, فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته من المؤمنين, فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين, ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار, فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين, فمضيت هنيهة فإذا أنا بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد, وإذا أنا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح وأنتن عندها أناس يأكلون منها, قلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء من أمتك يأتون الحرام ويتركون الحلال, قال: ثم مضيت هنيهة, فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل, قال: فتفتح أفواههم فيلقمون من ذلك الجمر, ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء من أمتك {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} قال: ثم مضيت هنيهة, فإذا أنا بنساء تعلقن بثديهن, فسمعتهن يضججن إلى الله عز وجل, قلت: يا جبريل من هؤلاء النساء ؟ قال: هؤلاء الزناة من أمتك. قال: ثم مضيت هنيهة, فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر فيقول: اللهم لا تقم الساعة. قال: وهم على سابلة آل فرعون, قال: فتجيء السابلة فتطؤهم, قال فسمعتهم يضجون إلى الله - قال - قلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء من أمتك {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قال: ثم مضيت هنيهة, فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه, فيقال له: كل كما كنت تأكل من لحم أخيك, قلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون.
قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية, فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله عز وجل قد فضل الناس في الحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب, قلت: ياجبريل من هذا ؟ قال: هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه, فسلمت عليه فرد عليّ.
ثم صعدنا إلى السماء الثالثة, واستفتح فإذا أنا بيحيى وعيسى عليهما السلام, ومعهما نفر من قومهما, فسلمت عليهما وسلما عليّ, ثم صعدنا إلى السماء الرابعة, فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكاناً علياً, فسلمت عليه فسلم عليّ.
قال: ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته تصيب سرته من طولها, قلت: يا جبريل من هذا ؟ قال: هذا المحبب في قومه, هذا هارون بن عمران ومعه نفر من قومه, فسلمت عليه وسلم عليّ.
ثم صعدت إلى السماء السادسة, فإذا أنا بموسى بن عمران رجل آدم, كثير الشعر, لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص, فإذا هو يقول: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا, بل هذا أكرم على الله مني. قال: قلت يا جبريل من هذا ؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران عليه السلام ومعه نفر من قومه, فسلمت عليه وسلم عليّ.
ثم صعدت إلى(3/19)
السماء السابعة, فإذا أنا بأبينا إبراهيم خليل الرحمن, ساند ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال, قلت: يا جبريل من هذا ؟ قال: هذا أبوك إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ومعه نفر من قومه, فسلمت عليه فسلم عليّ. وإذا أنا بأمتي شطرين: شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس, وشطر عليهم ثياب رمد قال - فدخلت البيت المعمور, ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب السود وهم على خير, فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور, ثم خرجت أنا ومن معي.
قال والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى, فإذا كل ورقة منها تكاد تغطي هذه الأمة, وإذا فيها عين تجري يقال لها سلسبيل فينشق منها نهران (أحدهما) الكوثر (والآخر) يقال له نهر الرحمة, فاغتسلت فيه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر.
قال إني رفعت إلى الجنة فاستقبلتني جارية, فقلت: لمن أنت يا جارية ؟ قالت: لزيد بن حارثة, وإذا بأنهار من ماء غير آسن, وأنهار من لبن لم يتغير طعمه, وأنهار من خمر لذة للشاربين, وأنهار من عسل مصفى, وإذا رمانها كالدلاء عظماً, وإذا أنا بطيرها كأنها بختكم هذه, فقال عندها صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - قال - ثم عرضت علي النار, فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته, لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها ثم أغلقت دوني.
ثم إني رفعت إلى سدرة المنتهى فتغشاني فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى. قال وينزل على كل ورقة منها ملك من الملائكة - قال - وفرضت علي خمسون صلاة, وقال لك بكل حسنة عشر, فإذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة, فإذا عملتها كتبت لك عشراً, وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء, فإن عملتها كتبت عليك سيئة واحدة.
ثم رجعت إلى موسى فقال بم أمرك ربك ؟ فقلت: بخمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك, فإن أمتك لا تطيق ذلك, ومتى لا تطيقه تكفر, فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف عن أمتى, فإنها أضعف الأمم, فوضع عني عشراً وجعلها أربعين, فما زلت أختلف بين موسى وربي كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته, حتى رجعت إليه, فقال لي: بم أمرت ؟ فقلت أمرت بعشر صلوات. قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك, فناداني عندها تممت فريضتي وخففت عن عبادي وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها.
ثم رجعت إلى موسى فقال: بم أمرت ؟ فقلت بخمس صلوات. قال: ارجع إلى ربك فإنه لا يؤوده شيء, فاسأله التخفيف لأمتك, فقلت: رجعت إلى ربي حتى استحييت". ثم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب: إني أتيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء, ورأيت كذا وكذا, فقال أبو جهل يعني ابن هشام: ألا تعجبون مما قال محمد ؟ يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس, ثم أصبح فينا وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهراً ومقفلة شهراً, فهذه مسيرة شهرين في ليلة واحدة, قال: فأخبرتهم بعير لقريش لما كنت في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا, وأنها نفرت, فلما رجعت وجدتها عند العقبة, وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا, ومتاعه كذا وكذا, فقال أبو جهل: يخبرنا بأشياء, فقال رجل منهم: أنا أعلم الناس ببيت المقدس, وكيف بناؤه وهيئته, وكيف قربه من الجبل, فإن يك محمد صادقاً فسأخبركم وإن يك كاذباً فسأخبركم, فجاء ذلك المشرك فقال: يا محمد أنا أعلم الناس ببيت المقدس فأخبرني: كيف بناؤه, وكيف هيئته, وكيف قربه من الجبل ؟ قال فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس من مقعده, فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته, قال: بناؤه كذا وكذا, وهيئته كذا وكذا, وقربه من الجبل كذا وكذا, فقال الآخر: صدقت, فرجع إليهم فقال: صدق محمد فيما قال أو نحواً من هذا الكلام.
وكذا رواه الإمام أبو جعفر بن جرير بطوله عن محمد بن عبد الأعلى, عن محمد بن ثور عن(3/20)
معمر عن أبي هارون العبدي, وعن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق عن معمر, عن أبي هارون العبدي به. ورواه أيضاً من حديث ابن إسحاق حدثني روح بن القاسم عن أبي هارون به نحو سياقه المتقدم, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أحمد بن عبدة, عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد, عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري, فذكره بسياق طويل حسن أنيق, أجود مما ساقه غيره على غرابته وما فيه من النكارة. ثم ذكره البيهقي أيضاً من رواية نوح بن قيس الحداني وهشيم ومعمر عن أبي هارون العبدي واسمه عمارة بن جوين وهو مضعف عند الأئمة, وإنما سقنا حديثه ههنا لما فيه من الشواهد لغيره, ولما رواه البيهقي: أخبرنا الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن, أنبأنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزار, حدثنا أبو حامد بن بلال, حدثنا أبو الأزهر, حدثنا يزيد بن أبي حكيم قال: رأيت في النوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله, رجل من أمتك يقال له سفيان الثوري لا بأس به. فقال رسول الله: "لا بأس به" حدثنا عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عنك يا رسول الله ليلة أسري بك, قلت رأيت في السماء, فحدثته بالحديث فقال لي: "نعم" فقلت له: يا رسول الله إن ناساً من أمتك يحدثون عنك في السرى بعجائب ؟ قال لي: "ذلك حديث القصاص".
(رواية شداد بن أوس)
قال الإمام أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزبيدي حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم الأشعري عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي حدثنا الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير حدثنا شداد بن أوس قال: قلنا يا رسول الله كيف أسري بك ؟ قال: "صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتماً فأتاني جبريل عليه السلام بدابة أبيض أو قال بيضاء فوق الحمار ودون البغل فقال اركب فاستصعب عليّ فرازها بأذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى طرفها حتى بلغنا أرضاً ذات نخل فأنزلني فقال صل فصليت ثم ركبت فقال أتدري أين صليت ؟ قلت الله أعلم, قال صليت بيثرب صليت بطيبة.
فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها عند منتهى طرفها ثم بلغنا أرضاً قال انزل ثم قال صل فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت ؟ قلت الله أعلم, قال صليت بمدين عند شجرة موسى, ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضاً بدت لنا قصور فقال انزل فنزلت فقال صل فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت ؟ قلت الله أعلم, قال صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشمس والقمر فصليت من المسجد حيث شاء الله وأخذني من العطش أشد ما أخذني فأتيت بإنائين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل أرسل إلي بهما جميعاً فعدلت بينهما ثم هداني الله عز وجل فأخذت اللبن فشربت حتى قرعت به جبيني وبين يدي شيخ متكىء على مثواة له فقال أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى.
ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي فيه المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي قلت يا رسول الله كيف وجدتها ؟ قال وجدتها مثل الحمة السخنة ثم انصرف بي فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم قد جمعه فلان فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة فأتاني أبو بكر رضي الله عنه فقال يا رسول الله أين كنت الليلة فقد إلتمستك في مظانك, فقال علمت أني أتيت من بيت المقدس الليلة, فقال يا رسول الله إنه مسيرة شهر فصفه لي, قال ففتح لي صراط كأني إليه لا يسألني(3/21)
عن شيء إلا أنبأته به, فقال أبو بكر أشهد أنك لرسول الله, وقال المشركون انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة, قال فقال إن من آية ما أقول لكم أني مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم فجمعه فلان وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغراراتان سوداوان.
فلما كان ذلك اليوم قد أشرف الناس ينظرون حين كان قريباً من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي به ثم قال بعد تمامه هذا إسناد صحيح, وروى ذلك مفرقاً من أحاديث غيره ونحن نذكر من ذلك إن شاء الله ما حضرنا ثم ساق أحاديث كثيرة في الإسراء كالشاهد لهذا الحديث, وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي به, ولا شك أن هذا الحديث أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم. وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك والله أعلم.
(رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما)
قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد, حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه قال: حدثنا ابن عباس قال: ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم, دخل الجنة فسمع في جانبها وجساً فقال: يا جبريل ما هذا ؟ قال: هذا بلال المؤذن, فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى الناس: "قد أفلح بلال رأيت له كذا وكذا" قال: فلقيه موسى عليه السلام, فرحب به قال: مرحباً بالنبي الأمي, قال: وهو رجل آدم طويل, سبط شعره مع أذنيه أو فوقهما, فقال: من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا موسى, قال: فمضى فلقيه شيخ جليل متهيب فرحب به وسلم عليه, وكلهم يسلم عليه, قال: من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا أبوك إبراهيم - قال - ونظر في النار فإذا قوم يأكلون الجيف, قال: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس, ورأى رجلاً أحمر أزرق جداً قال: من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا عاقر الناقة - قال - فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى, قام يصلي فإذا النبيون أجمعون يصلون معه, فلما انصرف جيء بقدحين أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال, في أحدهما لبن وفي الآخر عسل,فأخذ اللبن فشرب منه, فقال الذي كان معه القدح: أصبت الفطرة, إسناد صحيح, ولم يخرجوه.
(طريق أخرى) - قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ثابت أبو زيد, حدثنا هلال, حدثني عكرمة عن ابن عباس قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس, ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم, فقال الناس: نحن لا نصدق محمداً بما يقول, فارتدوا كفاراً فضرب الله رقابهم مع أبي جهل, وقال أبو جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم, هاتوا تمراً وزبداً فتزقموا, ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس برؤيا منام وعيسى وموسى وإبراهيم, وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال فقال: "رأيته فيلمانياً أقمر هجاناً, إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري, كأن شعر رأسه أغصان شجرة, ورأيت عيسى عليه السلام أبيض, جعد الرأس حديد البصر, ومبطن الخلق, ورأيت موسى عليه السلام أسحم آدم, كثير الشعر, شديد الخلق, ونظرت إلى إبراهيم عليه السلام فلم أنظر إلى أرب منه إلا نظرت إليه مني حتى كأنه صاحبكم, قال جبريل: سلم على مالك, فسلمت عليه" ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت عن هلال, وهو ابن خباب به, وهو إسناد صحيح.(3/22)
(طريق أخرى) قال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ, أنبأنا أبو بكر الشافعي, أنبأنا إسحاق بن الحسن, حدثنا الحسين بن محمد, حدثنا شيبان عن قتادة عن أبي العالية قال: حدثنا ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً طوالاً جعداً, كأنه من رجال شنوءة, ورأيت عيسى بن مريم عليه السلام مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس" وأرى مالكاً خازن جهنم والدجال في آيات أراهن الله إياه, قال: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} فكان قتادة يفسرها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد لقي موسى عليه السلام {وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ} قال: جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل, رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد عن يونس بن محمد, عن شيبان, وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة مختصراً.
(طريق أخرى) وقال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان, أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار, حدثنا دبيس المعدل, حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة, فقلت: ما هذه الرائحة ؟ قالوا: ماشطة بنت فرعون وأولادها, سقط المشط من يدها فقالت: باسم الله, فقالت بنت فرعون أبي, قالت ربي وربك ورب أبيك, قالت أولك رب غير أبي ؟ قالت نعم ربي وربك ورب أبيك الله.. قال: فدعاها, فقال: ألك رب غيري ؟ قالت نعم ربي وربك الله عز وجل. قال فأمر بنقرة من نحاس, فأحميت ثم أمر بها أن تلقى فيها, قالت: إن لي إليك حاجة, قال: ما هي ؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع, قال: ذاك لك لما لك علينا من الحق, قال: فأمر بهم فألقوا واحداً واحداً حتى بلغ رضيعاً فيهم, فقال: يا أمه قعي ولا تقاعسي, فإنك على الحق, قال: وتكلم أربعة في المهد وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم عليه السلام". إسناد لا بأس به, ولم يخرجوه.
(طريق أخرى ) قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن جعفر وروح بن المعين قالا: حدثنا عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري بي, فأصحبت بمكة فظعت وعرفت أن الناس مكذبي" فقعد معتزلاً حزيناً, فمر به عدو الله أبو جهل, فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزىء: هل كان من شيء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: وما هو ؟ قال: "إني أسري بي الليلة", قال: إلى أين ؟ قال: "إلى بيت المقدس" قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال: "نعم", قال فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه, فقال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي, قال: فانفضت إليه المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما, قال: حدث قومك بما حدثتني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أسري بي الليلة" فقالوا: إلى أين ؟ قال: "إلى بيت المقدس". قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال: "نعم". قال فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب, قالوا: وتستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ وفيهم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما زلت أنعت حتى التبس عليّ بعض النعت قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال فنعته وأنا أنظر إليه قال وكان مع هذا نعت لم أحفظه قال فقال القوم: أما النعت فو الله لقد أصاب فيه" وأخرجه النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة وهو الأعرابي به, ورواه البيهقي من حديث النضر بن شميل وهوذة عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي أحد الأئمة الثقات.(3/23)
(رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب, حدثنا السري بن خزيمة, حدثنا يوسف بن بهلول, حدثنا عبد الله بن نمير عن مالك بن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة بن مصرف عن مرة الهمداني, عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة, وإليها ينتهي ما يصعد به حتى يقبض منها, وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها حتى يقبض {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: غشيها فراش من ذهب, وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة, وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً المقحمات يعني الكبائر.
ورواه مسلم في صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب, كلاهما عن عبد الله بن نمير به, ثم قال البيهقي وهذا الذي ذكره عبد الله بن مسعود طرف من حديث المعراج, وقد رواه أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم عن أبي ذرعن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم رواه مرة مرسلاً من دون ذكرهما, ثم إن البيهقي ساق الأحاديث الثلاثة كما تقدم, قلت: وقد روي عن ابن مسعود بأبسط من هذا, وفيه غرابة, وذلك فيما رواه الحسن ابن عرفة في جزئه المشهور: حدثنا مروان بن معاوية عن قتادة بن عبد الله النهمي, حدثنا أبو ظبيان الجنبي قال: كنا جلوساً عند أبي عبيدة بن عبد الله يعني ابن مسعود, ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وهما جالسان, فقال محمد بن سعد لأبي عبيدة: حدثنا عن أبيك ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم, فقال أبو عبيدة: لا بل حدثنا أنت عن أبيك, فقال محمد: لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت, قال فأنشأ أبو عبيدة يحدث يعني عن أبيه كما سئل, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام بدابة فوق الحمار ودون البغل, فحملني عليه ثم انطلق يهوي بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه كذلك يديه, وإذا هبط استوت يداه مع رجليه, حتى مررنا برجل طوال سبط آدم كأنه من رجال أزد شنوءة, فيرفع صوته يقول أكرمته وفضلته, قال: فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام, فقال, من هذا معك يا جبريل ؟ قال: هذا أحمد, قال مرحباً بالنبي الأمي العربي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته, قال ثم اندفعنا فقلت من هذا يا جبريل ؟ قال هذا موسى بن عمران. قال قلت ومن يعاتب ؟ قال يعاتب ربه فيك, قلت: ويرفع صوته على ربه ؟ قال: إن الله قد عرف له حدته. قال: ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرج, تحتها شيخ وعياله, قال: فقال لي جبريل: اعمد إلى أبيك إبراهيم, فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام, فقال إبراهيم: من هذا معك يا جبريل ؟ قال: هذا ابنك أحمد, قال: فقال مرحباً بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه, ونصح لأمته, يا بني إنك لاق ربك الليلة, وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها, فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل.
قال: ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى, فنزلت فربطت الدابة في الحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها, ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد, قال: ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن, فأخذت اللبن فشربت, فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال: أصبت الفطرة ورب محمد, قال: "ثم أقيمت الصلاة فأممتهم, ثم انصرفنا فأقبلنا" إسناد غريب, ولم يخرجوه, فيه من الغرائب سؤال الأنبياء عنه عليه السلام ابتداء, ثم سؤاله عنهم بعد انصرافه, والمشهور في الصحاح كما تقدم أن جبريل كان يعلمه بهم أولاً ليسلم عليهم سلام معرفة, وفيه أنه اجتمع بالأنبياء عليهم السلام قبل دخوله المسجد الأقصى, والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السموات, ثم نزل إلى بيت المقدس ثانياً وهم معه. وصلى بهم فيه, ثم أنه ركب البراق وكر راجعاً إلى مكة, والله أعلم.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا العوام عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن عفازة, عن(3/24)
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام, فتذاكروا أمر الساعة, قال: فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى عيسى, فقال: ما أوحيتها فلا يعلم بها أحد إلا الله عز وجل, وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج, قال: ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص, قال: فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافراً فتعال فاقتله, قال: فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم, قال: فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج, وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه, ولا يمرون على ماء إلا شربوه, قال: ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجري الأرض من نتن ريحهم, أي تنتن, قال: فينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر, ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلاً أو نهاراً.
وأخرجه ابن ماجه عن بندار عن يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب رواية عبد الرحمن بن قرط أخي عبد الله بن قرظ الثمالي, قال سعيد بن منصور: حدثنا مسكين ميمون بن مؤذن مسجد الرملة, حدثني عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من بين زمزم والمقام, جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره, فطارا به حتى بلغ السموات العلى, فلما رجع قال: سمعت تسبيحاً في السموات العلى مع تسبيح كثير, سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات من ذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى. ونذكر ههنا الحديث عند قوله تعالى من هذه السورة {سَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} الآية.
(رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان, عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بالجابية, فذكر فتح بيت المقدس قال: قال أبو سلمة: فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم, قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب: أين ترى أن أصلي ؟ فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة, فكانت القدس كلها بين يديك, فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ضاهيت اليهودية, ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتقدم إلى القبلة فصلى, ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه, وكنس الناس, فلم يعظم الصخرة تعظيماً يصلي وراءها وهي بين يديه كما أشار كعب الأحبار وهو من قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم, ولكن من الله عليه بالإسلام فهدي إلى الحق, ولهذا لما أشار بذلك, قال له أمير المؤمنين عمر: ضاهيت اليهودية ولا أهانها إهانة النصارى الذين كانوا قد جعلوها مزبلة من أجل أنها قبلة اليهود, ولكن أماط عنها الأذى وكنس عنها الكناسة بردائه. وهذا شبيه بما جاء في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها".
(رواية أبي هريرة وهي مطولة جداً وفيها غرابة)
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير سورة سبحان: حدثنا علي بن سهل, حدثنا حجاج حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية الرياحي عن أبي هريرة أو غيره, شك أبو جعفر, في قول الله عز وجل {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} الآية, قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل, فقال جبريل لميكائيل: ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر له قلبه وأشرح له صدره, قال: فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات, واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم, فشرح صدره فنزع ما كان فيه من غل, وملأه علماً وحلماً وإيماناً ويقيناً وإسلاماً, وختم بين(3/25)
كتفيه بخاتم النبوة, ثم أتاه بفرس فحمله عليه كل خطوة منه منتهى بصره أو أقصى بصره, قال: فسار وسار معه جبريل عليهما السلام, قال: فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم, كلما حصدوا عاد كما كان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل ما هذا ؟" قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف, وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين, ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر, كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء, فقال: "ما هؤلاء يا جبريل ؟" قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة, ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع, يسرحون كما تسرح الإبل والنعم, ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها, قال: "فما هؤلاء يا جبريل ؟" قال: هؤلاء الذي لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله تعالى شيئاً, وما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر ولحم نيء في قدر خبيث, فجعلوا يأكلون من اللحم النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب, فقال: "ما هؤلاء يا جبريل ؟" فقال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيبة, فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح, والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً فتأتي رجلاً خبيثاً فتبيت معه حتى تصبح, قال: ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته, قال: "ما هذا يا جبريل ؟" قال: هذا مثل أقوام أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونها, ثم تلا { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ} الآية, قال: ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها, فقال: "ما هذا يا جبريل ؟" قال هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات للناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها, ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد, كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء, فقال: "ما هذا يا جبريل ؟" فقال: هؤلاء خطباء الفتنة, ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم, فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع, فقال: "ما هذا يا جبريل ؟" فقال هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
ثم أتى على واد فوجد ريحاً طيبة باردة وريح مسك وسمع صوتاً, فقال يا جبريل: "ما هذه الريح الطيبة الباردة, وما هذا المسك, وما هذا الصوت ؟" قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت غرفي وإستبرقي, وحريري وسندسي, وعبقري ولؤلؤي, ومرجاني وفضتي وذهبي, وأكوابي وصحافي وأباريقي وأكؤسي, وعسلي ومائي ولبني وخمري, فائتني بما وعدتني, فقال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة, ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي شيئاً, ولم يتخذ من دوني أنداداً, ومن خشيني فهو آمن, ومن سألني أعطيته, ومن أقرضني جزيته, ومن توكل عليّ كفيته, إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد, وقد أفلح المؤمنون تبارك الله أحسن الخالقين, قالت: قد رضيت.
قال: ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً خبيثة, فقال: "ما هذا يا جبريل وما هذا الصوت ؟" فقال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت سلاسلي, وأغلالي وسعيري, وحميمي, وضريعي وغساقي وعذابي, وقد بعد قعري واشتد حري, فائتني بما وعدتني, قال: لك كل مشرك ومشركة, وكافر وكافرة, وكل خبيث وخبيثة, وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب, قالت: قد رضيت.
قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى الصخرة, ثم دخل فصلى مع الملائكة, فلما قضيت الصلاة قالوا, يا جبريل من هذا معك ؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم, قالوا: أوقد أرسل إليه فقال: نعم, قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ, ونعم الخليفة, ونعم المجيء جاء. قال: ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم, فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلاً, وأعطاني ملكاً عظيماً, وجعلني أمة قانتاً يؤتم بي, وأنقذني من النار(3/26)
وجعلها علي برداً وسلاماً, ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليماً, وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي, وجعل من أمتي قوماً يهدون بالحق وبه يعدلون, ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه, فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكاً عظيماً, وعلمني الزبور, وألان لي الحديد, وسخر لي الجبال يسبحن والطير, وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه, فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات, وعلمني منطق الطير, وآتاني من كل شيء فضلاً, وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير, وفضلني على كثير من عباده المؤمنين, وآتاني ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعدي, وجعل ملكي طيباً ليس فيه حساب.
ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه عز وجل, فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته, وجعل مثلي كمثل آدم خلقه من تراب, ثم قال له كن فيكون, وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل, وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله, وجعلني أبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله, ورفعني وطهرني, وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم, فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
قال: ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل, فقال: "كلكم أثنى على ربه, وإني مثن على ربي, فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيراً ونذيراً, وأنزل علي الفرقان فيه بيان كل شيء وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس, وجعل أمتي أمة وسطاً وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون, وشرح لي صدري ووضع عني وزري, ورفع لي ذكري, وجعلني فاتحاً وخاتماً" فقال إبراهيم عليه السلام: بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر الرازي: خاتم بالنبوة فاتح بالشفاعة يوم القيامة, ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها, فأتي بإناء منها فيه ماء, فقيل له: اشرب, فشرب منه يسيراً, ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن, فقيل له: اشرب, فشرب منه حتى روي, ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر, فقيل له: اشرب, فقال: لا أريده قد رويت, فقال له جبريل: أما إنها ستحرم على أمتك ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل.
قال: ثم صعد به إلى السماء فاستفتح, فقيل: من هذا يا جبريل ؟ فقال: محمد, فقالوا: أوقد أرسل إليه ؟ قال: نعم, قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ, ونعم الخليفة, ونعم المجيء جاء, ففتح لهما, فدخل فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء, كما ينقص من خلق الناس, عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة, وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة, فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر, وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن, فقلت: يا جبريل, من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص من خلقه شيء, وما هذان البابان ؟ فقال: هذا أبوك آدم, وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة, إذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته ضحك واستبشر, والباب الذي عن شماله باب جهنم, إذا نظر إلى من يدخلها من ذريته بكى وحزن.
ثم صعد به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح, فقيل: من هذا معك ؟ فقال: محمد رسول الله, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو بشابين, فقال: يا جبريل من هذان الشابان ؟ قال: هذا عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا الخالة عليهما السلام.
قال: فصعد به إلى السماء الثالثة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل قد فضل على الناس في الحسن, كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب, قال: من هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن ؟ قال: هذا أخوك يوسف عليه السلام.
قال: ثم صعد به إلى السماء الرابعة,(3/27)
فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل, قال: من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا إدريس عليه السلام رفعه الله مكاناً علياً.
قال: فصعد به إلى السماء الخامسة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم, قال: بمن هذا يا جبريل, ومن هؤلاء حوله ؟ قال: هذا هارون المحبب, وهؤلاء بنو إسرائيل.
قال: ثم صعد به إلى السماء السادسة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل جالس فجاوزه فبكى الرجل, فقال: يا جبريل من هذا ؟ قال: موسى, قال: فما باله يبكي ؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عز وجل, وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا وأنا في أخرى, فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته.
قال: ثم صعد به إلى السماء السابعة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي, وعنده قوم جلوس, بيض الوجوه أمثال القراطيس, وقوم في ألوانهم شيء, فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء, فدخلوا نهراً فاغتسلوا فيه, فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء, ثم دخلوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء. ثم دخلوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه, فخرجوا وقد خلصت ألوانهم فصارت مثل ألوان أصحابهم, جاؤوا فجلسوا إلى أصحابهم, فقال: يا جبريل من هذا الأشمط, ثم من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء, وما هذه الأنهار التي دخلوا فيها فجاؤوا وقد صفت ألوانهم ؟ قال: هذا أبوك إبراهيم, أول من شمط على وجه الأرض, وأما هؤلاء البيض الوجوه, فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم, وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء, فقوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, فتابوا فتاب الله عليهم, وأما الأنهار, فأولها رحمة الله, والثاني نعمة الله, والثالث سقاهم ربهم شراباً طهوراً.
قال: ثم انتهى إلى السدرة, فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك, فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن, وأنهار من لبن لم يتغير طعمه, وأنهار من خمر لذة للشاربين, وأنهار من عسل مصفى, وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها, والورقة منها تغطي الأمة كلها, قال: فغشيها نور الخلاق عز وجل, وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة, من حب الرب تبارك وتعالى, قالوا: فكلمه الله عند ذلك فقال له: سل, فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلاً وأعطيته ملكاً عظيماً, وكلمت موسى تكليماً وأعطيت داود ملكاً عظيماً وألنت له الحديد, وسخرت له الجبال, وأعطيت سليمان ملكاً وسخرت له الجن والإنس والشياطين, وسخرت له الرياح وأعطيت له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده, وعلمت عيسى التوراة والإنجيل وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك, وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم, فلم يكن للشيطان عليهما سبيل, فقال له الرب عز وجل: وقد اتخذتك خليلاً - وهو مكتوب في التوراة حبيب الرحمن - وأرسلتك إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً, وشرحت لك صدرك, ووضعت عنك وزرك, ورفعت لك ذكرك, فلا أذكر إلا ذكرت معي, وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس, وجعلت أمتك أمة وسطاً, وجعلت أمتك هم الأولين وهم الآخرين وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي, وجعلت من أمتك أقواماً قلوبهم(3/28)
أناجيلهم, وجعلتك أول النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً, وأولهم يقضى له, وأعطيتك سبعاً من المثاني لم يعطها نبي قبلك, وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبياً قبلك, وأعطيتك الكوثر, وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجعلتك فاتحاً خاتماً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلني ربي بست: أعطاني فواتح الكلام وخواتيمه, وجوامع الحديث, وأرسلني إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً, وقذف في قلوب أعدائي الرعب من مسيرة شهر, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وجعلت لي الأرض كلها طهوراً ومسجداً", قال: وفرض عليه خمسين صلاة.
فلما رجع إلى موسى قال: بم أمرت يا محمد ؟ قال: بخمسين صلاة, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, فقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف, فوضع عنه عشراً ثم رجع إلى موسى فقال له: بكم أمرت ؟ قال بأربعين قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, ولقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه, فسأله التخفيف, فوضع عنه عشراً, فرجع إلى موسى, فقال: بكم أمرت: قال أمرت بثلاثين, فقال له موسى ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, فقد لقيت من بني إسرائيل شدة, فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف, فوضع عنه عشراً فرجع إلى موسى فقال له: بكم أمرت ؟ قال بعشرين, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, فقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف, فوضع عنه عشراً فرجع إلى موسى عليه السلام, فقال له: بكم أمرت ؟ قال بعشر, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, فقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف, فوضع عنه خمساً, فرجع إلى موسى عليه السلام, فقال له: بكم أمرت ؟ قال بخمس, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, وقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت, فما أنا براجع إليه, قيل: أما إنك كما صبرت نفسك خمس صلوات, فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة, فإن كل حسنة بعشر أمثالها, قال: فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا, قال: وكان موسى عليه السلام من أشدهم عليه حين مر به وخيرهم له حين رجع إليه.
ثم رواه ابن جرير عن محمد بن عبيد الله عن أبي النضر هاشم بن القاسم, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية أو غيره, شك أبو جعفر عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه, وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الماليني, عن ابن عدي, عن محمد بن الحسن السكوني البالسي بالرملة, حدثنا علي بن سهل فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه, وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني عن جده, عن إبراهيم بن حمزة الزبيري, عن حاتم بن إسماعيل, حدثني عيسى بن ماهان يعني أبا جعفر الرازي عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر أبو زرعة, حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس البكري, عن أبي العالية أو غيره, شك عيسى, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه, {قلت} وأبو جعفر الرازي: قال: فيه الحافظ أبو زرعة الرازي: يهم في الحديث كثيراً, وقد ضعفه غيره أيضاً, ووثقه بعضهم, والظاهر أنه سيء الحفظ, ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة, وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري, ويشبه أن يكون مجموعاً من أحاديث شتى أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء, والله أعلم.(3/29)
وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق, أنبأنا معمر عن الزهري, أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حين أسري بي, لقيت موسى عليه السلام - فنعته, فإذا رجل حسبته قال - مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة, قال: ولقيت عيسى - فنعته النبي صلى الله عليه وسلم قال - ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني حمام, قال - ولقيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به, قال: وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر, قيل لي: خذ أيهما شئت, فأخذت اللبن فشربت, فقيل لي: هديت الفطرة - أو أصبت الفطرة - أما إنك لو أخذت خمراً غوت أمتك" وأخرجاه من وجه آخر عن الزهري به نحوه.
وفي صحيح مسلم عن محمد بن رافع عن الحجين بن المثنى, عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل الهاشمي, عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي, فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها, فكربت كرباً ما كربت مثله قط, فرفعه الله إلي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به, وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء, وإذا موسى قائم يصلي, وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة, وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به عروة بن مسعود الثقفي, وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم, فلما فرغت قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن جهنم, فالتفت إليه فبدأني بالسلام".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد بن سلمة, عن علي بن زيد عن أبي الصلت, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة, فنظرت فوق فإذا رعد وبرق وصواعق, قال: وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم, فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء آكلو الربا, فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات, فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض, ولولا ذلك لرأوا العجائب" ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان, كلاهما عن حماد بن سلمة به. ورواه ابن ماجه من حديث حماد به.
(رواية جماعة من الصحابة ممن تقدم وغيرهم)
قال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله يعني الحاكم, حدثنا عبد الله بن زيد بن يعقوب الدقاق الهمداني, حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني, حدثنا أبو محمد هو إسماعيل بن موسى الفزاري, حدثنا عمر بن سعد النضري من بني نصر بن معين, حدثني عبد العزيز وليث ابن أبي سليم, وسلمان الأعمش وعطاء بن السائب, بعضهم يزيد في الحديث على بعض, عن علي بن أبي طالب, وعبد الله بن عباس ومحمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن ابن عباس, وعن سليم بن مسلم العقيلي عن عامر الشعبي, عن عبد الله بن مسعود وجويبر الضحاك بن مزاحم, قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانىء راقداً وقد صلى العشاء الآخرة, قال أبو عبد الله الحاكم: قال لنا هذا الشيخ, وذكر الحديث, فكتبت المتن من نسخة مسموعة منه, فذكر حديثاً طويلاً يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة الله إن صحت الرواية. قال البيهقي فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الإسراء والمعراج كفاية, وبالله التوفيق. {قلت} وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين.
(رواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها)
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرني مكرم بن أحمد القاضي, حدثني إبراهيم بن الهيثم البلدي, حدثني محمد بن كثير الصنعاني, حدثنا معمر بن راشد عن(3/30)
الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى, أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه, وسعوا بذلك إلى أبي بكر, فقالوا: هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس, فقال: أو قال ذلك ؟ قالوا: نعم, قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق, قالوا فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة, فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
(رواية أم هانىء بنت أبي طالب)
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذان عن أم هانىء بنت أبي طالب في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة, فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا, فلما كان قبيل الفجر أهبنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه, قال: "يا أم هانىء لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي, ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه, ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين" الكلبي متروك بمرة ساقط, لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري عن ضمرة بن ربيعة, عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي صالح, عن أم هانىء بأبسط من هذا السياق, فليكتب ههنا, وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة, عن أم هانىء قالت: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي, ففقدته من الليل, فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل عليه السلام أتاني فأخذ بيدي فأخرجني, فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار, فحملني عليها ثم انطلق حتى أتى بي إلى بيت المقدس, فأراني إبراهيم عليه السلام يشبه خلقه خلقي ويشبه خلقي خلقه, وأراني موسى آدم طويلاً سبط الشعر, شبهته برجال أزد شنوءة, وأراني عيسى بن مريم ربعة أبيض يضرب إلى الحمرة, شبهته بعروة بن مسعود الثقفي, وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى, شبهته بقطن بن عبد العزى - قال - وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت" فأخذت بثوبه فقلت: إني أذكرك الله إنك تأتي قومك يكذبوك وينكرون مقالتك, فأخاف أن يسطوا بك, قالت: فضرب ثوبه من يدي ثم خرج إليهم, فأتاهم وهم جلوس فأخبرهم ما أخبرني, فقام جبير بن مطعم فقال يا محمد إن لو كنت لك شأن كما كنت ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا. فقال رجل من القوم: يا محمد هل مررت بإبل لنا في مكان كذا كذا ؟ قال: "نعم والله قد وجدتهم قد أضلوا بعيراً لهم فهم في طلبه" قال: هل مررت بإبل فلان ؟ قال: "نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا وقد انكسرت لهم ناقة حمراء, وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها" قالوا: فأخبرنا عدتها, من الرعاة ؟ قال: "قد كنت عن عدتها مشغولاً" فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة, ثم أتى قريشاً فقال لهم: "سألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا, وفيها من الرعاة فلان وفلان, وسألتموني عن إبل بني فلان, فهي كذا وكذا, وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان, وهي تصبحكم بالغداة على الثنية" قال: فقعدوا على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال, فاستقبلوا الإبل فسألوهم: هل ضل لكم بعير ؟ فقالوا: نعم, فسألوا الآخر, هل انكسرت لكم ناقة حمراء ؟ قالوا: نعم, قالوا: فهل كانت عندكم قصعة ؟ قال أبو بكر: أنا والله وضعتها فما شربها أحد ولا أهرقوه في الأرض, فصدقه أبو بكر وآمن به, فسمي يومئذ الصديق.
(فصل) وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها, يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة, وإن اختلفت عبارات(3/31)
الرواة في أدائه, أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه, فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام, ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة, فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب, وهرب إلى غير مهرب, ولم يتحصل على مطلب. وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط, ومرة من مكة إلى السماء فقط, ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء, وفرح بهذا المسلك, وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات, وهذا بعيد جداً, ولم ينقل هذا عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد, لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته, ولنقله الناس على التعدد والتكرر.
قال موسى بن عقبة الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة, وكذا قال عروة. وقال السدي: بستة عشر شهراً, والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق, فلما انتهى إلى باب المسجد, ربط الدابة عند الباب ودخله, فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين, ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها, فصعد فيه إلى السماء الدنيا, ثم إلى بقية السموات السبع, فتلقاه من كل سماء مقربوها, وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم, حتى مر بموسى الكليم في السادسة, وإبراهيم الخليل في السابعة, ثم جاوز منزلتهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء, حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام, أي أقلام القدر بما هو كائن, ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق, ورأى البيت المعمور, وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه, لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار فرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده, وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها.
ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة, ويحتمل أنها الصبح من يومئذ, ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء, والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس, ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً, وهو يخبره بهم, وهذا هو اللائق, لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى, ثم لما فرغ من الذي أريد به, اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة, وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك.
ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس, والله سبحانه وتعالى أعلم, وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل أو اللبن والخمر, أو اللبن والماء أو الجميع فقد ورد أنه في بيت المقدس وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون ههنا وههنا, لأنه كالضيافة للقادم, والله أعلم, ثم اختلف الناس: هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه, أو بروحه فقط ؟ على قولين, فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناماً, ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعد يقظة, لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح, والدليل على هذا قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام, فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء, ولم يكن مستعظماً, ولما بادرت كفار قريش إلى تكذبيه, ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم, وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد, وقال تعالى {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم, رواه البخاري, وقال تعالى:(3/32)
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} والبصر من آلات الذات لا الروح, وأيضاً فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان, وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه, والله أعلم.
وقال آخرون بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده, قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان, كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة. وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه. قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولها لقول الحسن إن هذه الآية نزلت {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ولقول الله في الخبر عن إبراهيم {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} قال: ثم مضى على ذلك, فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظاً ونياماً, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تنام عيناي وقلبي يقظان" والله أعلم, أي ذلك كان قد جاءه وعاين من الله فيه ما عاين على أي حالاته كان نائماً أو يقظاناً, كل ذاك حق وصدق, انتهى كلام ابن إسحاق. وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن, وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم, والله أعلم.
(فائدة حسنة جليلة)
روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني مالك بن أبي الرجال عن عمرو بن عبد الله عن محمد بن كعب القرظي, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر, فذكر وروده عليه وقدومه إليه, وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل, ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه, فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه, وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره وتصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما منعني من أن أقول عليه قولاً أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء. قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به, قال: فقلت أيها الملك ألا أخبرك خبراً تعرف أنه قد كذب ؟ قال: وما هو ؟ قال: قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا, أرض الحرم, في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء, ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال, وبطريق إيلياء عند رأس قيصر, فقال بطريق إيلياء: قد علمت تلك الليلة, قال: فنظر إليه قيصر وقال: وما علمك بهذا ؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد, فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني, فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته, فغلبنا فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلاً, فدعوت إليه النجاجرة, فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان, ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى. قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليها, فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب, وإذا فيه أثر مربط دابة, قال: فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي, وقد صلى الليلة في مسجدنا, وذكر تمام الحديث.
(فائدة) قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد, ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس, وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين, وعبد الله بن عمرو(3/33)
وجابر وحذيفة وبريدة, وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء, وصهيب الرومي وأم هانىء, وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين, منهم من ساقه بطوله, ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد, وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة, فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون, وأعرض عنه الزنادقة والملحدون {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
{وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضاً, فإنه تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام, وبين ذكر التوراة والقرآن, ولهذا قال بعد ذكر الإسراء {وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة {وَجَعَلْنَاهُ} أي الكتاب {هُدًى} أي هادياً {لبني إسرائيل ألاّ تتخذوا} أي لئلا تتخذوا {مِن دُونِي وَكِيلاً} أي ولياً ولا نصيراً ولا معبوداً دوني, لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له.
ثم قال: {ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} تقديره يا ذرية من حملنا مع نوح, فيه تهييج وتنبيه على المنة, أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم {إِنّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمداً صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحاً عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله, فلهذا سمي عبداً شكوراً. قال الطبراني: حدثني علي بن عبد العزيز, حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن أبي حصين, عن عبد الله بن سنان عن سعد بن مسعود الثقفي قال: إنما سمي نوح عبداً شكوراً, لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أسامة, حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها" وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة به. وقال مالك عن زيد بن أسلم: كان يحمد الله على كل حال وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زرعة عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة - بطوله, وفيه - فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض, وقد سماك الله عبداً شكوراً, فاشفع لنا إلى ربك" وذكر الحديث بكامله.
{وَقَضَيْنَآ إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}(3/34)
يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب, أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين, ويعلون علواً كبيراً, أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس, كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} أي تقدمنا إليه, وأخبرناه بذلك, وأعلمناه به. وقوله {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي أولى الإفسادتين {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي سلطنا عليكم جنداً من خلقنا أولي بأس شديد¹ أي قوة وعدة وسلطنة شديدة, فجاسوا خلال الديار, أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم, أي بينها ووسطها, وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحداً وكان وعداً مفعولاً.
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم ؟ فعن ابن عباس وقتادة أنه جالوت الجزري وجنوده, سلط عليهم أولاً ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت, ولهذا قال {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} الآية, وعن سعيد بن جبير أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضاً وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل. وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أنه ملك البلاد, وأنه كان فقيراً مقعداً ضعيفاً يستعطي الناس ويستطعمهم, ثم آل به الحال إلى ما آل, وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس فقتل بها خلقاً كثيراً من بني إسرائيل, وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثاً أسنده عن حذيفة مرفوعاً مطولاً, وهو حديث موضوع لا محالة, لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث, والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته, وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذوب, وكتب ذلك على حاشية الكتاب.
وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أرَ تطويل الكتاب بذكرها, لأن منها ما هو موضوع ومن وضع بعض زنادقتهم, ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحاً, ونحن في غنية عنها, ولله الحمد. وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله, ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبره الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا, سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم, وسلك خلال بيوتهم, وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقاً, وما ربك بظلام للعبيد, فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء. وقد روى ابن جرير حدثني يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام, فخرب بيت المقدس وقتلهم, ثم أتى دمشق فوجد بها دماً يغلي على كبا, فسألهم, ما هذا الدم ؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا, وكلما ظهر عليه الكبار ظهر, قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم, فسكن, وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب, وهذا هو المشهور, وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة, وأخذ منهم خلقاً كثيراً أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم, وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها, ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته, والله أعلم.
ثم قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي فعليها, كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}. وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي الكرة الآخرة, أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعداؤكم {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} أي يهينوكم ويقهروكم, {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} أي بيت المقدس {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي في التي جاسوا فيها خلال الديار, {وَلِيُتَبِّرُوا} أي يدمروا ويخربوا {مَا عَلَوْا} أي ما ظهروا عليه {تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} أي فيصرفهم عنكم, {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أي متى عدتم إلى الإفساد {عُدْنَا} إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال, ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أي مستقراً ومحصراً وسجناً لا محيد لهم عنه. قال ابن عباس: حصيراً أي سجناً. وقال مجاهد: يحصرون فيها, وكذا قال غيره, وقال الحسن: فرشاً ومهاداً. وقال قتادة: قد عاد بنو(3/35)
إسرائيل, فسلط الله عليهم هذا الحي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
{إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وأَنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل, ويبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه, أن لهم أجراً كبيراً, أي يوم القيامة, وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة, أي ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذاباً أليماً, أي يوم القيامة, كما قال تعالى: {بَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.}
{وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر أي بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك, فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه, كما قال تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} الآية, وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة, وقد تقدم في الحديث "لا تدعوا على أنفسكم, ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها" وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته, ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس ههنا قصة آدم عليه السلام حين همّ بالنهوض قائماً قبل أن تصل الروح إلى رجليه, وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه, فلما وصلت إلى دماغه عطس, فقال: الحمد لله, فقال الله: يرحمك ربك يا آدم. فلما وصلت إلى عينيه فتحهما, فلما سرت إلى أعضائه وجسده, جعل ينظر إليه ويعجبه, فهم بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع, وقال: يا رب عجل قبل الليل.
{وَجَعَلْنَا الْلّيْلَ وَالنّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلّ شَيْءٍ فَصّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام, فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل, وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع, والأعمال والأسفار, وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام, ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك, ولهذا قال: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ} أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك, {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ} فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك, كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} وقال تعالى: {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وقال: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ(3/36)
سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وقال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ثم إنه تعالى جعل لليل آية, أي علامة يعرف بها, وهي الظلام وظهور القمر فيه, وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه, وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا من هذا, كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ - إلى قوله - لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} الآية.
قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} قال: ظلمة الليلة وسدف النهار. وقال ابن جريج عن مجاهد: الشمس آية النهار والقمر آية الليل, {مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} قال: السواد الذي في القمر, وكذلك خلقه الله تعالى. وقال ابن جريج: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس, والقمر آية الليل, والشمس آية النهار, فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر. وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, فقال: يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر ؟ فقال: ويحك أما تقرأ القرآن ؟ فقال: فمحونا آية الليل فهذه محوه. وقال قتادة في قوله : {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه, وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة, وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم, وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس {وجعلنا الليل والنهار آيتين} قال ليلاً ونهاراً, كذلك خلقهما الله عز وجل.
{وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم: {وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} وطائره هو ما طار عنه من عمله, كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما, من خير وشر ويلزم به ويجازى عليه, {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وقال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وقال: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية, والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره, ويكتب عليه ليلاً ونهاراً, صباحاً ومساء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طائر كل إنسان في عنقه" قال ابن لهيعة: يعني الطيرة, وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث غريب جداً, والله أعلم.
وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيداً أو بشماله إن كان شقياً, منشوراً أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} ولهذا قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} أي إنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلا ما عملت, لأنك ذكرت جميع ما كان منك, ولا ينسى أحد شيئاً مما كان منه, وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي. وقوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} إنما ذكر العنق لأنه عضو من الأعضاء لا نظير له في الجسد, ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه, كما قال الشاعر.(3/37)
اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمام
قال قتادة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى ولا طيرة, وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" كذا رواه ابن جرير, وقد رواه الإمام عبد بن حميد في مسنده متصلاً, فقال: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طير كل عبد في عنقه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, حدثنا عبد الله, حدثنا ابن لهيعة, حدثني يزيد أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه, يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة: يا ربنا عبدك فلان قد حبسته, فيقول الرب جل جلاله: اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت" إسناده جيد قوي, ولم يخرجوه. وقال معمر عن قتادة: {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال عمله {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: نخرج ذلك العمل {كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} قال معمر, وتلا الحسن البصري {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك, ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك, فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك, وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك, فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك, حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً, اقرأ كتابك الآية, فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك, هذا من أحسن كلام الحسن, رحمه الله.
{مّنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّىَ نَبْعَثَ رَسُولاً}
يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق, واقتفى أثر النبوة, فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه, {وَمَن ضَلّ} أي عن الحق, وزاغ عن سبيل الرشاد, فإنما يجني على نفسه, وإنما يعود وبال ذلك عليه, ثم قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ} أي لا يحمل أحد ذنب أحد, ولا يجني جان إلا على نفسه, كما قال تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} ولا منافاة بين هذا وبين وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}, وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم, وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك, ولا يحمل عنهم شيئاً, وهذا من عدل الله ورحمته بعباده, وكذا قوله تعالى: {وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّىَ نَبْعَثَ رَسُولاً} إخبار عن عدله تعالى, وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه, كقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} وكذا قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحداً النار إلا بعد إرسال الرسول إليه, ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.(3/38)
حدثنا عبد الله بن سعد, حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج بإسناده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اختصمت الجنة والنار" فذكر الحديث إلى أن قال: "وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحداً, وإنه ينشىء للنار خلقاً فيلقون فيها, فتقول هل من مزيد ؟ ثلاثاً" وذكر تمام الحديث, فهذا إنما جاء في الجنة, لأنها دار فضل, وأما النار فإنها دار عدل لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه. وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة, وقالوا: لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين, واللفظ للبخاري من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار" فذكر الحديث إلى أن قال: "فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع فيها قدمه, فتقول: قط قط, فهناك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله من خلقه أحداً, وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقاً".
بقي ههنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديماً وحديثاً, وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار: ماذا حكمهم ؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة ؟ وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه, ثم نذكر فصلاً ملخصاً من كلام الأئمة في ذلك والله المستعان.
(فالحديث الأول) عن الأسود بن سريع. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا معاذ بن هشام, حدثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس. عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً, ورجل أحمق, ورجل هرم, ورجل مات في فترة, فأما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً, وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر, وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً, وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه, فيرسل إليهم أن ادخلوا النار, فو الذي نفس محمد بيده, لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً". وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله, غير أنه قال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً, ومن لم يدخلها يسحب إليها", وكذا رواه إسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام, ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد من حديث أحمد بن إسحاق عن علي بن عبد الله المديني به, وقال: هذا إسناد صحيح, وكذا رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة كلهم يدلي على الله بحجة" فذكر نحوه, ورواه ابن جرير من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة, فذكره موقوفاً, ثم قال أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفاً.
(الحديث الثاني) عن أنس بن مالك قال أبو داود الطيالسي: حدثنا الربيع عن يزيد بن أبان قال: قلنا لأنس: يا أبا حمزة ما تقول في أطفال المشركين ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكن لهم سيئات فيعذبوا بها, فيكونوا من أهل النار, ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها, فيكونوا من أهل الجنة".
(الحديث الثالث) عن أنس أيضاً. قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا جرير عن ليث عن عبد الوارث, عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود, والمعتوه, ومن مات في الفترة, والشيخ الفاني الهرم كلهم يتكلم بحجته" فيقول الرب تبارك وتعالى: لعنق من النار ابرز, ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم, وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه, قال: فيقول من كتب عليه(3/39)
الشقاء: يا رب أنى ندخلها ومنها كنا نفر ؟ قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعاً, فقال: فيقول الله تعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيباً ومعصية, فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار, وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يوسف بن موسى عن جرير بن عبد الحميد بإسناده مثله.
(الحديث الرابع) عن البراء بن عازب رضي الله عنه. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضاً: حدثنا قاسم بن أبي شيبة, حدثنا عبد الله يعني ابن داود عن عمر بن ذر عن يزيد بن أمية, عن البراء قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين, قال: "هم مع آبائهم" وسئل عن أولاد المشركين, فقال: "هم مع آبائهم" فقيل: يا رسول الله ما يعملون ؟ قال: "الله أعلم بهم" ورواه عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن رجل عن البراء عن عائشة, فذكره.
(الحديث الخامس) عن ثوبان. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا ريحان بن سعيد, حدثنا عباد بن منصور عن أيوب, عن أبي قلابة عن أبي أسماء, عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم شأن المسألة قال: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلين يحملون أوزارهم على ظهورهم, فيسألهم ربهم, فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولاً, ولم يأتنا لك أمر, ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك, فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني ؟ فيقولون: نعم, فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها, فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظاً وزفيراً, فرجعوا إلى ربهم, فيقولون: ربنا أخرجنا أو أجرنا منها, فيقول لهم: ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم, فيقول: اعمدوا إليها فادخلوها, فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا وقالوا: ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها, فيقول: ادخلوها داخرين " فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً" ثم قال البزار: ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه, لم يروه عن أيوب إلا عباد, ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد, قلت: وقد ذكره ابن حيان في ثقاته, وقال يحيى بن معين والنسائي: لا بأس به, ولم يرضه أبو داود, وقال أبو حاتم: شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به.
(الحديث السادس) عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري. قال الإمام محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية, عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة والمعتوه والمولود, يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب, ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً, ويقول المولود: رب لم أدرك العقل, فترفع لهم نار, فيقال لهم: ردوها, قال: فيردها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل, ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل, فيقول: إياي عصيتم, فكيف لو أن رسلي أتتكم ؟!" وكذا رواه البزار عن محمد بن عمر بن هياج الكوفي عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق به, ثم قال: لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه عن عطية عنه, وقال في آخره: "فيقول الله إياي عصيتم, فكيف برسلي بالغيب ؟".
(الحديث السابع) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال هشام بن عمار ومحمد بن المبارك الصوري: حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني, عن معاذ بن جبل عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيراً, فيقول الممسوخ: يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد مني" وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك "فيقول الرب عز وجل: إني آمركم بأمر فتطيعوني ؟ فيقولون: نعم, فيقول: اذهبوا فادخلوا النار, قال: ولو دخلوها ما ضرتهم,(3/40)
فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعاً, ثم يأمرهم ثانية, فيرجعون كذلك, فيقول الرب عز وجل: قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون, وعلى علمي خلقتكم, وإلى علمي تصيرون, ضميهم, فتأخذهم النار".
(الحديث الثامن) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تنتج البهيمة جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء ؟" وفي رواية قالوا: يارسول الله, أفرأيت من يموت صغيراً ؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا عبد الرحمن بن ثابت عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعلم - شك موسى - قال: "ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام" وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء ", وفي رواية لغيره "مسلمين".
(الحديث التاسع) عن سمرة رضي الله عنه. رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه المستخرج على البخاري من حديث عوف الأعرابي. عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة" فناداه الناس: يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال: "وأولاد المشركين". وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد, حدثنا عقبة بن مكرم الضبي عن عيسى بن شعيب, عن عباد بن منصور عن أبي رجاء, عن سمرة قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين, فقال: "هم خدم أهل الجنة".
(الحديث العاشر) عن عم حسناء قال أحمد: حدثنا روح, حدثنا عوف عن حسناء بنت معاوية, من بني صريم قالت: حدثني عمي قال: قلت: يا رسول الله من في الجنة ؟ قال: " النبي في الجنة, والشهيد في الجنة, والمولود في الجنة, والوئيد في الجنة". فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث, ومنهم من جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام حين مر على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان, فقال له جبريل: هذا إبراهيم عليه السلام, وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين, قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال: "نعم وأولاد المشركين" ومنهم من جزم لهم بالنار لقوله عليه السلام: "هم مع آبائهم" ومنهم من ذهب إلى أنّهم (يمتحنون يوم القيامة في العرصات), فمن أطاع دخل الجنة وانكشف على الله فيهم بسابق السعادة, ومن عصى دخل النار داخراً وانكشف علم الله به بسابق الشقاوة وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها, وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض, وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة, وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد, وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان, ثم قال: وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة, وأهل العلم ينكرونها, لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء, فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفساً إلا وسعها ؟.
(والجواب) عما قال أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء, ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن, وإذا كانت أحاديث الباب(3/41)
الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط, أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله إن الدار الآخرة دار جزاء, فلا شك أنها دار جزاء, ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار, كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الآية,
وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة, وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً كلما أراد السجود خرّ لقفاه. وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها, أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه, ويتكرر ذلك مراراً ويقول الله تعالى: يا ابن آدم ما أغدرك, ثم يأذن له في دخول الجنة, وأما قوله: فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم, فليس هذا بمانع من صحة الحديث, فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط, وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة, ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب, ومنهم الساعي ومنهم الماشي ومنهم من يحبو حبواً ومنهم المكدوش على وجهه في النار, وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
وأيضاً فقد أثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار, وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار, فإنه يكون عليه برداً وسلاماً, فهذا نظير ذاك, وأيضاً فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً, يقتل الرجل أباه وأخاه, وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم, وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل, وهذا أيضاً شاق على النفوس جداً لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور, والله أعلم.
(فصل) إذا تقرر هذا فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال:
(أحدها): أنهم في الجنة. واحتجوا بحديث سمرة أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين, وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والمولود في الجنة" وهذا استدلال صحيح, ولكن أحاديث الامتحان أخص منه. فمن علم الله منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة, ومن علم منه أنه لا يجيب, فأمره إلى الله تعالى يوم القيامة يكون في النار, كما دلت عليه أحاديث الامتحان, ونقله الأشعري عن أهل السنة, ثم إن هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة منهم من جعلهم مستقلين فيها, ومنهم من جعلهم خدماً لهم, كما جاء في حديث علي بن زيد عن أنس عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف, والله أعلم.
(والقول الثاني) أنهم مع آبائهم في النار. واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة, حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب, حدثني عبد الله بن أبي قيس مولى غطيف أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار, فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم تبع لآبائهم" فقلت: يارسول الله بلا أعمال ؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب عن محمد بن زياد الألهاني, سمعت عبد الله بن أبي قيس, سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين, قال: "هم مع آبائهم" قلت: فذراري المشركين ؟ قال: "هم مع آبائهم" فقلت بلا عمل ؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" ورواه أحمد أيضاً عن وكيع عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل وهو متروك عن مولاته بهية عن عائشة أنها ذكرت أطفال المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار".
وروى عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان, عن محمد بن عثمان عن زادان عن علي رضي الله عنه(3/42)
قال: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية, فقال: "هما في النار" قال: فلما رأى الكراهية في وجهها فقال لها: "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما" قال: فولدي منك ؟ قال: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة, وإن المشركين وأولادهم في النار - ثم قرأ - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وهذا حديث غريب, فإن في إسناده محمد بن عثمان مجهول الحال, وشيخه زاذان لم يدرك علياً, والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة عن أبيه عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوائدة والموؤودة في النار" ثم قال الشعبي: حدثني به علقمة عن أبي وائل عن ابن مسعود, وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند, عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعي قال: أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن أمنا ماتت في الجاهلية, وكانت تقري الضيف, وتصل الرحم, وإنها وأدت أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث. فقال: "الوائدة الموؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم" وهذا إسناد حسن.
(والقول الثالث) التوقف فيهم. واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وهو في الصحيحين من حديث جعفر بن أبي إياس عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين, قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وكذلك هو في الصحيحين من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد, وعن أبي سلمة عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين, فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف, وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة, لأن الأعراف ليس دار قرار ومآل أهلها الجنة, كما تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف, والله أعلم.
(فصل) وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين, فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة, وهذا هو المشهور بين الناس, وهو الذي نقطع به إن شاء الله عز وجل, فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن بعض العلماء أنهم توقفوا في ذلك وأن الولدان كلهم تحت المشيئة, قال أبو عمر: ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث, منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم, قالوا: وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر, وما أورده من الأحاديث في ذلك, وعلى ذلك أكثر أصحابه, وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة, انتهى كلامه, وهو غريب جداً, وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب التذكرة نحو ذلك أيضاً, والله أعلم.
وقد ذكروا في ذلك أيضاً حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار, فقلت: يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه, فقال: "أو غير ذلك يا عائشة, إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم" رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع, كره جماعة من العلماء الكلام فيها, روي ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن الحنفية وغيرهم, وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جرير بن حازم: سمعت أبا رجاء العطاردي, سمعت ابن عباس رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أمر هذه الأمة(3/43)
مواتياً أو مقارباً ما لم يتكلموا في الوالدان والقدر" قال ابن حبان: يعني أطفال المشركين, وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير بن حازم, ثم قال: وقد رواه جماعة عن أبي رجاء عن ابن عباس موقوفاً.
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً}
اختلف القراء في قراءة قوله {أَمَرْنَا} فالمشهور قراءة التخفيف, واختلف المفسرون فيها معناها, فقيل: معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً, كقوله تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} فإن الله لا يأمر بالفحشاء, قالوا: معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش, فاستحقوا العذاب, وقيل: معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش, فاستحقوا العقوبة, رواه ابن جريج عن ابن عباس, وقاله سعيد بن جبير أيضاً. وقال ابن جرير: يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء, قلت إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}, قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها, فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب, وهو قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} الآية, وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.
وقال العوفي عن ابن عباس {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} يقول, أكثرنا عددهم, وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة. وعن مالك, عن الزهري {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أكثرنا, وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد, حيث قال: حدثنا روح بن عبادة, حدثنا أبو نعيم العدوي عن مسلم بن بديل, عن إياس بن زهير, عن سويد بن هبيرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير مال امرىء له مهرة مأمورة, أو سكة مأبورة" قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب: "المأمورة كثيرة النسل, والسكة الطريقة المصطفة من النخل, والمأبورة من التأبير" وقال بعضهم: إنما جاء هذا متناسباً كقوله: "مأزورات غير مأجورات".
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىَ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً}
يقول تعالى منذراً كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم, بأنه قد أهلك من المكذبين للرسل من بعد نوح, ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام كما قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام, ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذّبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق, فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله: {وَكَفَىَ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} أي هو عالم بجميع أعمالهم: خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى.
{مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً}
يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل عليه, بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء, وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات, فإنه قال: {عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ} أي في الدار الآخرة {يَصْلاهَا} أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه {مَذْمُوماً} أي في حال كونه مذموماً على سوء تصرفه وصنيعه, إذ اختار الفاني على الباقي {مّدْحُوراً} مبعداً مقصياً ذليلاً مهاناً.
روى الإمام أحمد: حدثنا حسين, حدثنا رويد عن أبي إسحاق, عن زرعة عن عائشة رضي الله(3/44)
عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا دار من لا دار له, ومال من لا مال له, ولها يجمع من لا عقل له". وقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة} أي أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم والسرور {وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا} أي طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي قلبه مؤمن, أي مصدق بالثواب والجزاء {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً}.
{كُلاّ نّمِدّ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}
يقول تعالى: {كُلاّ} أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة نمدهم فيما فيه {مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ} أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور, فيعطي كلاً ما يستحقه من السعادة والشقاوة, فلا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى ولا مغير لما أراد, ولهذا قال {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً} أي لا يمنعه أحد, ولا يرده راد. قال قتادة {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً} أي منقوصاً, وقال الحسن وغيره: أي ممنوعاً, ثم قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ} أي في الدنيا, فمنهم الغني والفقير وبين ذلك, والحسن والقبيح وبين ذلك, ومن يموت صغيراً, ومن يعمر حتى يبقى شيخاً كبيراً, وبين ذلك {وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا, فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها, ومنهم من يكون في الدرجات العليا ونعيمها وسرورها, ثم أهل الدركات يتفاوتون في ما هم فيه, كما أن أهل الدرجات يتفاوتون, فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين "إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء" ولهذا قال تعالى: {وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} وفي الطبراني من رواية زاذان عن سلمان مرفوعاً "ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع, إلا وضعه الله في الآخرة أكبر منها" ثم قرأ {وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}.
{لاّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مّخْذُولاً}
يقول تعالى, والمراد المكلفون من الأمة: لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكا {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} أي على إشراكك به {مّخْذُولاً} لأن الرب تعالى لا ينصرك بل يكلك إلى الذي عبدت معه, وهو لا يملك لك ضراً ولا نفعاً, لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم, عن طارق بن شهاب, عن عبد لله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته, ومن أنزلها بالله أرسل الله له بالغنى إما آجلاً وإما غنى عاجلاً" رواه أبو داود والترمذي من حديث بشير بن سلمان به, وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
{وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل(3/45)
رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً}
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له, فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر, قال مجاهد {وَقَضَىَ} يعني وصى, وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم {ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} ولهذا قرن بعبادته برّ الوالدين, فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي وأمر بالوالدين إحساناً, كقوله في الآية الأخرى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}. وقوله {إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ} أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح, كما قال عطاء بن رباح في قوله {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تنفض يدك عليهما, ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح, أمره بالقول والفعل الحسن, فقال: {وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم, {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ} أي تواضع لهما بفعلك {وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً} أي في كبرهما وعند وفاتهما, قال ابن عباس: ثم أنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية.
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: "آمين آمين آمين" قيل يا رسول الله علام أمنت ؟ قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك, قل: آمين, فقلت آمين, ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له, قل: آمين, فقلت آمين, ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة, قل: آمين, فقلت آمين".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا علي بن زيد أخبرنا زرارة بن أوفى عن مالك بن الحارث, عن رجل منهم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من ضم يتيماً من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه, وجبت له الجنة البتة, ومن أعتق امرأ مسلماً, كان فكاكه من النار يجزى بكل عضو منه عضواً منه" ثم قال: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت علي بن زيد فذكر معناه, إلا أنه قال عن رجل من قومه يقال له مالك أو ابن مالك, وزاد "ومن أدرك والديه أو أحدهما, فدخل النار فأبعده الله".
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان عن حماد بن سلمة, حدثنا علي بن زيد عن زرارة بن أوفى عن مالك بن عمرو القشيري, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار, فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه, ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل, ومن ضم يتيماً من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله وجبت له الجنة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن قتادة, سمعت زرارة بن أوفى يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك, فأبعده الله وأسحقه", ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبة به, وفيه زيادات أخر.
(حديث آخر ) قال الإمام أحمد حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة, حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رغم أنف, ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة" صحيح من هذا الوجه, ولم يخرجوه, سوى مسلم من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال عن سهيل به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا ربعي بن إبراهيم, قال أحمد وهو أخو إسماعيل بن علية وكان(3/46)
يفضل على أخيه, عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي, ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له, ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر, فلم يدخلاه الجنة" قال ربعي: ولا أعلمه إلا قال: "أو أحدهما". ورواه الترمذي عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن ربعي بن إبراهيم, ثم قال: غريب من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل, حدثنا أسيد بن علي عن أبيه علي بن عبيد, عن أبي أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ جاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال: "نعم خصال أربع: الصلاة عليهما, والاستغفار لهما, وإنفاذ عهدهما, وإكرام صديقهما, وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما, فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما" ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن سليمان وهو ابن الغسيل به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا ابن جريج, أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال: "فهل لك من أم" قال نعم قال: "فالزمها فإن الجنة عند رجليها" ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول, ورواه النسائي وابن ماجه من حديث ابن جريج به.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يوصيكم بآبائكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب" وأخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عياش به.
(حديث آخر) قال أحمد: حدثنا يونس, حدثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم عن أبيه, عن رجل من بني يربوع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول: "يد المعطي العليا, أمك وأباك, وأختك وأخاك, ثم أدناك أدناك".
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي, حدثنا عمرو بن سفيان, حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن ليث بن أبي سليم عن علقمة بن مرثد, عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل أديت حقها ؟ قال "لا ولا بزفرة واحدة" أو كما قال, ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه. قلت: والحسن بن أبي جعفر ضعيف, والله أعلم.
{رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُوراً}
قال سعيد بن جبير: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه, وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به, وفي رواية: لا يريد إلا الخير بذلك, فقال: {رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ}. وقوله: {فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُوراً} قال قتادة: للمطيعين أهل الصلاة, وعن ابن عباس: المسبحين, وفي رواية عنه: المطيعين المحسنين, وقال بعضهم: هم الذين يصلون بين العشاءين وقال بعضهم: هم الذين يصلون الضحى. وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في قوله: {فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُوراً} قال: الذين يصيبون الذنب ثم(3/47)
يتوبون, ويصيبون الذنب ثم يتوبون, وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن يحيى بن سعيد, عن ابن المسيب بنحوه, وكذا رواه الليث وابن جرير عن ابن المسيب به.
وقال عطاء بن يسار بن جبير ومجاهد: هم الراجعون إلى الخير. وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في الآية: هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها, ووافقه مجاهد في ذلك. وقال عبد الرزاق: حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير في قوله: {فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُوراً} قال: كنا نعد الأواب الحفيظ أن يقول: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقال ابن جرير: والأولى في ذلك قول من قال: هو التائب من الذنب, الراجع من المعصية إلى الطاعة مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه, وهذا الذي قاله هو الصواب, لأن الأواب مشتق من الأوب, وهو الرجوع, يقال: آب فلان إذا رجع, قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر قال: "آيبون تائبون, عابدون لربنا حامدون".
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوَاْ إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ وَكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُوراً وَإِمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مّن رّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لّهُمْ قَوْلاً مّيْسُوراً}
لما ذكر تعالى بر الوالدين, عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام, وفي الحديث "أمك وأباك ثم أدناك أدناك" وفي رواية "ثم الأقرب فالأقرب" , وفي الحديث "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله, فليصل رحمه" وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن يعقوب, حدثنا أبو يحيى التميمي, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال: لما نزلت {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك, ثم قال: لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التميمي وحميد بن حماد بن أبي الخوار, وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده, لأن الآية مكية, وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة, فكيف يلتئم هذا مع هذا ؟ فهو إذاً حديث منكر, والأشبه أنه من وضع الرافضة, والله أعلم, وقد تقدم الكلام على المساكين وأبناء السبيل في سورة براءة بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً} لما أمر بالإنفاق, نهى عن الإسراف فيه, بل يكون وسطاً كما قال في الآية الأخرى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} الآية, ثم قال منفراً عن التبذير والسرف { إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوَاْ إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ} أي أشباههم في ذلك. قال ابن مسعود: التبذير الإنفاق في غير حق, وكذا قال ابن عباس, وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً, ولو أنفق مداً في غير حق كان مبذراً. وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى, وفي غير الحق والفساد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير, وذو أهل وولد وحاضرة, فأخبرني كيف أنفق, وكيف أصنع ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج الزكاة من مالك إن كان, فإنها طهرة تطهرك, وتصل أقرباءك, وتعرف حق السائل والجار والمسكين" فقال: يا رسول الله أقلل لي ؟ "فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً" فقال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها, وإثمها على من بدلها".
وقوله: {إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوَاْ إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ} أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته, ولهذا قال {وَكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُوراً} أي جحوداً, لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم(3/48)
يعمل بطاعته, بل أقبل على معصيته ومخالفته. وقوله: {وَإِمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مّن رّبّكَ} الآية, أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء, أعرضت عنهم لفقد النفقة {فَقُل لّهُمْ قَوْلاً مّيْسُوراً} أي عدهم وعداً بسهولة ولين, إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله, هكذا فسر قوله: {فَقُل لّهُمْ قَوْلاً مّيْسُوراً} بالوعد, مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغير واحد.
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىَ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً إِنّ رَبّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً }
يقول تعالى آمراً بالاقتصاد في العيش, ذاماً للبخل, ناهياً عن السرف {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىَ عُنُقِكَ} أي لا تكن بخيلاً منوعاً, لا تعطي أحداً شيئاً, كما قالت اليهود - عليهم لعائن الله - يد الله مغلولة أي نسبوه إلى البخل, تعالى وتقدس الكريم الوهاب, وقوله {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ} أي ولا تسرف في الإنفاق, فتعطي فوق طاقتك, وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوماً محسوراً, وهذا من باب اللف والنشر, أي فتقعد إن بخلت ملوماً يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك, كما قال زهير بن أبي سلمى في المعلقة:
ومن كان ذا مال فيبخل بماله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك, قعدت بلا شيء تنفقه, فتكون كالحسير, وهو الدابة التي عجزت عن السير فوقفت ضعفاً وعجزاً, فإنها تسمى الحسير, وهو مأخوذ من الكلال, كما قال {ارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليل عن أن يرى عيباً, هكذا فسر هذه الآية بأن المراد هنا البخل والسرف: ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم. وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج, عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما, فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره, وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة منها مكانها, فهو يوسعها فلا تتسع" هذا لفظ البخاري في الزكاة.
وفي الصحيحين من طريق هشام بن عروة عن زوجته فاطمة بنت المنذر, عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنفقي هكذا وهكذا وهكذا ولا توعي فيوعي الله عليك, ولا توكي فيوكي الله عليك". وفي لفظ "ولا تحصي فيحصي الله عليك". وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال لي: أنفق, أنفق عليك" وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً, ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً".
وروى مسلم عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه, عن أبي هريرة مرفوعاً "ما نقص مال من صدقة, وما زاد الله عبداً أنفق إلا عزاً, ومن تواضع لله رفعه الله" وفي حديث أبي كثير عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً "إياكم والشحّ فإنه أهلك من كان قبلكم, أمرهم بالبخل فبخلوا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا, وأمرهم بالفجور ففجروا". وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر عن أبي معاوية عن الأعمش, عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يخرج رجل صدقة حتى يفك لحي سبعين شيطاناً".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد, حدثنا سكين بن عبد العزيز, حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي(3/49)
الأحوص, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" وقوله: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} إخباراً أنه تعالى هو الرزاق القابض الباسط المتصرف في خلقه بما يشاء, فيغني من يشاء, ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة, ولهذا قال: {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} أي خبيراً بصيراً بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر, كما جاء في الحديث "إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر, ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه, وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى, ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه" وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجاً, والفقر عقوبة, عياذاً بالله من هذا وهذا.
{وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُم إنّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً}
هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده, لأنه نهى عن قتل الأولاد كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث, وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عليلته, فنهى الله تعالى عن ذلك وقال {وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أي خوف أن تفتقروا في ثاني حال, ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال: {نّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيّاكُم} وفي الأنعام {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي من فقر {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. وقوله {إنّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} أي ذنباً عظيماً, وقرأ بعضهم: كان خطأ كبيراً وهو بمعناه, وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم: قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" - قلت: ثم أي ؟ - قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك - قلت: ثم أي ؟ - قال: أن تزاني بحليلة جارك".
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَىَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً}
يقول تعالى ناهياً عباده عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَىَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي ذنباً عظيماً {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي بئس طريقاً ومسلكاً.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة أن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا, فأقبل القوم عليه فزجروه, وقالوا: مه مه, فقال: "ادنه" فدنا منه قريباً, فقال: "اجلس" فجلس, فقال: "أتحبه لأمك" ؟ قال: لا والله, جعلني الله فداك, قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم, قال: "أفتحبه لابنتك ؟" قال: لا والله يا رسول الله, جعلني الله فداك, قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: "أفتحبه لأختك ؟" قال: لا والله, جعلني الله فداك, قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم, قال "أفتحبه لعمتك ؟" قال: لا والله يا رسول الله, جعلني الله فداك, قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم, قال: " أفتحبه لخالتك ؟" قال: لا والله يا رسول الله, جعلني الله فداك, قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم, قال فوضع يده عليه, وقال: "اللهم اغفر ذنبه, وطهر قلبه, وأحصن فرجه" قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء, وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عمار بن نصر, حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له".
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً}(3/50)
يقول تعالى ناهياً عن قتل النفس بغير حق شرعي, كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس, والزاني المحصن, والتارك لدينه المفارق للجماعة". وفي السنن "لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم". وقوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً} أي سلطة على القاتل, فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قوداً, وإن شاء عفا عنه على الدية, وإن شاء عفا عنه مجاناً, كما ثبتت السنة بذلك, فإنه بالخيار الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة أنه سيملك لأنه كان ولي عثمان, وقد قتل مظلوماً رضي الله عنه, وكان معاوية يطالب علياً رضي الله عنه أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم, لأنه أموي, وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك, ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك, حتى يسمله القتلة, وأبى أن يبايع علياً هو وأهل الشام, ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه, كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة, وهذا من الأمر العجب.
وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال: حدثنا يحيى بن عبد الباقي, حدثنا أبو عمير بن النحاس, حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شودب عن مطر الوراق, عن زهدم الجرمي قال: كنا في سمر ابن عباس فقال: إني محدثكم بحديث ليس بسر ولا علانية, إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان (يعني عثمان), قلت لعلي: اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج فعصاني, وأيم الله ليتأمرن عليكم معاوية, وذلك أن الله يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّي الْقَتْلِ} الآية, وليحملنكم قريش على سنة فارس والروم, وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس, فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا, ومن ترك - وأنتم تاركون - كنتم كقرن من القرون هلك فيمن هلك وقوله: {فلا يسرف في القتل} قالوا: معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل. وقوله: {إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً} أي إن الولي منصور على القاتل شرعاً وغالباً قدراً.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّىَ يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}
يقول تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالغبطة {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وقد جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً, وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين, ولا تولين مال اليتيم" وقوله {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها, فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه {إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} أي عنه.
وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ} أي من غير تطفيف ولا تبخسوا الناس أشياءهم, {وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ} قرىء بضم القاف وكسرها, كالقرطاس, وهو الميزان. وقال مجاهد: هو العدل بالرومية. وقوله: {الْمُسْتَقِيمِ} أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي لكم في معاشكم ومعادكم, ولهذا قال {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي مآلا ومنقلباً في آخرتكم, قال سعيد عن قتادة(3/51)
{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي خير ثواباً وأحسن عاقبة. وابن عباس كان يقول: يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم, هذا المكيال, وهذا الميزان, قال: وذكر لنا أن نبي الله عليه الصلاة والسلام كان يقول: "لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله, إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك".
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: لا تقل. وقال العوفي: لا ترم أحداً بما ليس لك به علم. وقال محمد بن الحنفية: يعني شهادة الزور. وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر, وسمعت ولم تسمع, وعلمت ولم تعلم, فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله, ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو التوهم والخيال, كما قال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وفي الحديث "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". وفي سنن أبي داود " بئس مطية الرجل زعموا" وفي الحديث الآخر "إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا". وفي الصحيح "من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل".
وقوله: {كُلّ أُولئِكَ} أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة, وتسأل عنه عما عمل فيها, ويصح استعمال أولئك مكان تلك, كما قال الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلّ ذَلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهاً}
يقول تعالى ناهياً عباده عن التجبر والتبختر في المشية {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً} أي متبختراً متمايلاً مشي الجبارين {إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ} أي لن تقطع بمشيك, قاله ابن جرير, واستشهد عليه بقول رؤبة بن العجاج:
وقاتم الأعماق خاوي المخترقن
وقوله: {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك, بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده, كما ثبت في الصحيح "بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما, إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته, وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض, وفي الحديث "من تواضع لله رفعه الله, فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير, ومن استكبر وضعه الله فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير, حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير" , وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير, حدثنا حجاج بن محمد عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه ابن الأهيم يريد المنصور, وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه, وانفرج عنها قباؤه, وهو يمشي ويتبختر, إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف أف, شامخ بأنفه, ثاني عطفه, مصعر خده, ينظر في عطفيه, أي حميق ينظر(3/52)
في عطفه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة, غير المأخوذ بأمر الله فيها, ولا المؤدي حق الله منها, والله أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة, وللشيطان به لعنة, فسمعه ابن الأهيم فرجع يعتذر إليه, فقال: لا تعتذر إلي وتب إلى ربك, أما سمعت قول الله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}.
ورأى البختري العابد رجلاً من آل علي يمشي وهو يخطر في مشيته, فقال له: يا هذا, إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته, قال: فتركها ورأى ابن عمر رجلاً يخطر في مشيته, فقال: إن للشياطين إخواناً. وقال خالد بن معدان: إياكم والخطر, فإن الرجل يده من سائر جسده, رواهما ابن أبي الدنيا, وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا خلف بن هشام البزار, حدثنا حماد بن زيد عن يحيى عن سعيد عن بحنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مشت أمتي المطيطاء, وخدمتهم فارس والروم, سلط بعضهم على بعض".
وقوله: {كُلّ ذَلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهاً} أما من قرأ سيئة, أي فاحشة فمعناه عنده كل هذا الذي نهيناه عنه من قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} إلى هنا فهو سيئه مؤاخذ عليها مكروه عند الله لا يحبه ولا يرضاه, وأما من قرأ سيئه على الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى هنا فسيئه أي فقبيحه مكروه عند الله, هكذا وجه ذلك ابن جرير رحمه الله.
{ذَلِكَ مِمّآ أَوْحَىَ إِلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَىَ فِي جَهَنّمَ مَلُوماً مّدْحُوراً}
يقول تعالى: هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة, ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة, مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس, {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَىَ فِي جَهَنّمَ مَلُوماً} أي تلومك نفسك ويلومك الله والخلق, {مّدْحُوراً} أي مبعداً من كل خير, قال ابن عباس وقتادة: مطروداً, والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم, فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبّكُم بِالْبَنِينَ وَاتّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً}
يقول تعالى راداً على المشركين الكاذبين الزاعمين, عليهم لعائن الله: أن الملائكة بنات الله, فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً, ثم ادعوا أنهم بنات الله, ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيماً, فقال تعالى منكراً عليهم {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبّكُم بِالْبَنِينَ} أي خصصكم بالذكور {وَاتّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً} أي واختار لنفسه على زعمكم البنات, ثم شدد الإنكار عليهم فقال: {إنكم لتقولون قولاً عظيماً} أي في زعمكم أن لله ولداً, ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد, فتلك إداً قسمة ضيزى, وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لقد جئتم شيئاً إدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً, لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
{وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذّكّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ نُفُوراً}
يقول تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم(3/53)
يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ, فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك, {وَمَا يَزِيدُهُمْ} أي الظالمين منهم {إِلاّ نُفُوراً} أي عن الحق وبعداً منه.
{قُلْ لّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاّبْتَغَوْاْ إِلَىَ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً}
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكاً من خلقه, العابدين معه غيره, ليقربهم إليه زلفى لو كان الأمر كما يقولون, وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه, لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة, فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه, ولا حاجة لكم إلى معبود يكون وساطة بينكم وبينه, فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه, بل يكرهه ويأباه, وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه, ثم نزه نفسه الكريمة وقدّسها فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَقُولُونَ} أي هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى {عُلُوّاً كَبِيراً} أي تعالياً كبيراً, بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
{تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}
يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن, أي من المخلوقات, وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون, وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته:
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
كما قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة, حدثنا عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى, كان بين المقام وزمزم, جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره, فطارا حتى بلغ السموات السبع. فلما رجع قال: "سمعت تسبيحاً في السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى, من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا, سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى".
وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس, لأنها بخلاف لغاتكم, وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات, وهذا أشهر القولين, كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل, وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم, وهو حديث مشهور في المسانيد وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن ابن أنس, عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل, فقال لهم: "اركبوها سالمة ودعوها سالمة, ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق, فرب مركوبة خير من راكبها, وأكثر ذكراً لله منه".
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع, وقال: "نقيقها تسبيح". وقال قتادة عن عبد الله بن أبي عن عبد الله بن عمرو أن الرجل إذا قال لا إله إلا الله,(3/54)
فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملاً حتى يقولها, وإذا قال: الحمد لله, فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها, وإذا قال: الله أكبر, فهي تملأ ما بين السماء والأرض, وإذا قال: سبحان الله, فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحداً من خلقه إلا قرره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله, قال: أسلم عبدي واستسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير, حدثنا أبي, سمعت الصّقعب بن زهير يحدث عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن عبد الله بن عمرو قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج, أو مزورة بديباج, فقال: إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع بن راع ويضع كل رأس بن رأس, فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه فقال: "لا أرى عليك ثياب من لا يعقل" ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس, فقال: "إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال: إني قاص عليكما الوصية آمركما باثنتين, وأنهاكما عن اثنتين, أنهاكما عن الشرك بالله والكبر, وآمركما بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض وما فيها لو وضعت لا إله إلا الله عليهما, لقصمتهما أو لفصمتهما, وآمركما بسبحان الله وبحمده, فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء" ورواه الإمام أحمد أيضاً عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مصعب بن زهير به أطول من هذا وتفرد به.
وقال ابن جرير: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي, حدثنا محمد بن يعلى عن موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه ؟ إن نوحاً عليه السلام قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول: سبحان الله, فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق, وبها يزرق الخلق" قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} إسناده فيه ضعف, فإن الأودي ضعيف عند الأكثرين. وقال عكرمة في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قال الأسطوانة تسبح والشجرة تسبح - الأسطوانة - السارية وقال بعض السلف: صرير الباب تسبيحه وخرير الماء تسبيحه قال الله تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: الطعام يسبح, ويشهد لهذا القول آية السجدة في الحج, وقال آخرون: إنما يسبح ما كان فيه روح, يعنون من حيوان ونبات.
قال قتادة في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قال: كل شيء فيه روح يسبح من شجر أو شيء فيه, وقال الحسن والضحاك في قوله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قالا: كل شيء فيه الروح. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد, حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب, قالا: حدثنا جرير أبو الخطاب, قال كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام, فقدموا الخوان, فقال يزيد الرقاشي: يا أبا سعد, يسبح هذا الخوان ؟ فقال: كان يسبح مرة - قلت: الخوان هو المائدة من الخشب - فكأن الحسن رحمه الله, ذهب إلى أنه لما كان حياً فيه خضرة كان يسبح, فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه, وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول, وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين, ثم غرز في كل قبر واحدة, ثم قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" أخرجاه في الصحيحين, قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء: إنما قال ما لم ييبسا لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة, فإذا يبسا انقطع تسبيحهما, والله أعلم.
وقوله {إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بل(3/55)
يؤجله وينظره, فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر, كما جاء في الصحيحين "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته", ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية, وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَة} الآية, وقال {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآيتين, ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان, ورجع إلى الله تاب إليه وتاب عليه, كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} الآية, وقال ههنا {إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} كما قال في آخر فاطر {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} إلى أن قال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} إلى آخر السورة.
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مّسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيَ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلّوْاْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً}
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن, جعلنا بينك وبينهم حجاباً مستوراً. قال قتادة وابن زيد: هو الأكنة على قلوبهم, كما قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أي مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء. وقوله {حِجَاباً مّسْتُوراً} بمعنى ساتر كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم, لأنه من يمنهم وشؤمهم, وقيل: مستوراً عن الأبصار فلا تراه وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى, ومال إلى ترجيحه ابن جرير رحمه الله.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم, حدثنا سفيان عن الوليد بن كثير, عن يزيد بن تدرس, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمماً أتينا - أو أبينا - قال أبو موسى: الشك مني, ودينه قلينا, وأمره عصينا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك, فقال: "إنها لن تراني" وقرأ قرآناً اعتصم به منها {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مّسْتُوراً} قال: فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر, بلغني أن صاحبك هجاني, قال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك, قال: فانصرفت وهي تقول: لقد علمت قريش أني بنت سيدها.
وقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً} وهي جمع كنان الذي يغشى القلب {أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفهموا القرآن {وَفِيَ آذَانِهِمْ وَقْراً} وهو الثقل الذي منعهم من سماع القرآن سماعاً ينفعهم ويهتدون به. وقوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أي إذا وحدت الله في تلاوتك, وقلت لا إله إلا الله, {وَلّوْاْ} أي أدبروا راجعين {عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} ونفور جمع نافر, وكقعود جمع قاعد, ويجوز أن يكون مصدراً من غير الفعل, والله أعلم. كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآية, قال قتادة في قوله {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ} الآية, إن المسلمين لما قالوا لا إله إلا الله, أنكر ذلك المشركون, كبرت عليهم وضاقها إبليس وجنوده, فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها, إنها كلمة من خاصم بها فلح, ومن قاتل بها نصر, إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل, ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها.
(قول آخر في الآية)
روى ابن جرير: حدثني الحسين بن محمد الذارع, حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي, وحدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ(3/56)
وَحْدَهُ وَلّوْاْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} هم الشياطين, وهذا غريب جداً في تفسيرها, وإلا فالشياطين إذا قرىء القرآن أو نودي بالأذان أو ذكر الله انصرفوا.
{نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىَ إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً}
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما يتناجى به رؤساء قريش حين جاؤوا يستمعون قراءته صلى الله عليه وسلم سراً من قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور من السحر على المشهور, أو من السحر وهو الرئة, أي إن تتبعون إن اتبعتم محمداً إلا بشراً يأكل, كما قال الشاعر:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال الراجز:
نسحر بالطعام وبالشراب
أي يغذي, وقد صوب هذا القول ابن جرير, وفيه نظر لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه, ومنهم من قال: شاعر. ومنهم من قال: كاهن. ومنهم من قال: مجنون ومنهم من قال: ساحر, ولهذا قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصاً, قال محمد بن إسحاق في السيرة: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة, خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته, فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه, وكل لا يعلم بمكان صاحبه, فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا, حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا, وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً, ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية, عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له, حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق, فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة, ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له, حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق, فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود, فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا, فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته, فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها, وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها, قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته, فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال: ماذا سمعت ؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا, وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا, حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء, فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه.
{وَقَالُوَاْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنّونَ إِن(3/57)
لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً}
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام إنكار منهم لذلك {أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} أي تراباً, قاله مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: غباراً, {أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي يوم القيامة بعدما بلينا وصرنا عدماً لا نذكر, كما أخبر عنهم في الموضع الآخر {يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاماً نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة}. وقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} الآيتين, فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات {أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: سألت ابن عباس عن ذلك, فقال: هو الموت, وروى عطية عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية: لو كنتم موتى لأحييتكم, وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم, ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة, لأحياكم الله إذا شاء, فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده.
وقد ذكر ابن جرير ههنا حديثاً "يجاء بالموت يوم القيامة وكأنه كبش أملح, فيوقف بين الجنة والنار, ثم يقال: يا أهل الجنة أتعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم, ثم يقال: يا أهل النار أتعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم, فيذبح بين الجنة والنار, ثم يقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت, ويا أهل النار خلود بلا موت" وقال مجاهد {أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يعني السماء والأرض والجبال, وفي رواية: ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم, وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك عن الزهري في قوله: {أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال مالك ويقولون هو الموت.
وقوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} أي من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر شديداً {قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ} أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً ثم صرتم بشراً تنتشرون, فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الآية, وقوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} قال ابن عباس وقتادة: يحركونها استهزاء, وهذا الذي قالاه هو الذي تعرفه العرب من لغاتها, لأن إنغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل, ومنه قيل للظليم وهو ولد النعامة نغض, لأنه إذا مشى عجل بمشيته وحرك رأسه, ويقال: نفصت سنّه إذا تحركت وارتفعت من منبتها وقال الراجز:
ونغضت من هرم أسنانها
وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ} إخبار عنهم بالإستبعاد منهم لوقوع ذلك, كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا}. وقوله: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} أي احذروا ذلك, فإنه قريب سيأتيكم لا محالة, فكل ما هو آت آت. وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} أي الرب تبارك وتعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي إذا أمركم بالخروج منها, فإنه لا يخالف ولا يمانع, بل كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وقوله {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أي إنما هو أمر واحد بانتهار, فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها, كما قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فتستجيبون بحمده, أي بأمره, وكذا قال ابن جريج: وقال قتادة بمعرفته وطاعته.
وقال بعضهم {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ(3/58)
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي وله الحمد في كل حال. وقد جاء في الحديث "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم, كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون لا إله إلا الله" وفي رواية يقولون {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وسيأتي في سورة فاطر. وقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ} أي يوم تقومون من قبوركم {إِنْ لَبِثْتُمْ} أي في الدار الدنيا {إِلَّا قَلِيلاً}, وكقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}, وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْما}, وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}, وقال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
{وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ الشّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مّبِيناً}
يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاورتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة, فإنهم إن لم يفعلوا ذلك, نزع الشيطان بينهم, وأخرج الكلام إلى الفعال, وأوقع الشر والمخاصمة والمقاتلة, فإنه عدو لآدم وذريته من حين امتنع عن السجود لآدم, وعداوته ظاهرة بينة, ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة, فإن الشيطان ينزع في يده أي فربما أصابه بها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح, فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار" أخرجاه من حديث عبد الرزاق. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد, أنبأنا علي بن زيد عن الحسن قال: حدثني رجل من بني سليط قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في رفَلة من الناس فسمعته يقول "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله التقوى ههنا" قال حماد: وقال بيده إلى صدره "وما تواد رجلان في الله ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما, المحدث شر والمحدث شر والمحدث شر".
{رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}
يقول تعالى: {رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} أيها الناس أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ - يا محمد - عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي إنما أرسلناك نذيراً, فمن أطاعك دخل الجنة, ومن عصاك دخل النار. وقوله {وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية {وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ} وكما قال تعالى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تفضلوا بين الأنبياء" فإن المراد من ذاك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية لا بمقتضى الدليل فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه, ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء, وأن أولي العزم منهم أفضلهم, وهم الخمسة المذكورون نصاً في آيتين من القرآن في(3/59)
سورة الأحزاب {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وفي الشورى قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ولا خلاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم, ثم بعده إبراهيم, ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام على المشهور, وقد بسطناه بدلائله في غير هذا الموضع, والله الموفق. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} تنبيه على فضله وشرفه. قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خفف على داود القرآن, فكان يأمر بدابته فتسرج, فكان يقرؤه قبل أن يفرغ" يعني القرآن.
{قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىَ رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُوراً}
يقول تعالى: {قُلِ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله {ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ} من الأصنام والأنداد فارغبوا إليهم فإنهم {لاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّرّ عَنْكُمْ} أي بالكلية {وَلاَ تَحْوِيلاً} أي بأن يحولوه إلى غيركم, والمعنى أن الذي يقدر ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس في قوله: {قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُم} الآية, قال: كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً, وهم الذين يدعون يعني في الملائكة والمسيح وعزيراً.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ} الآية, روى البخاري من حديث سليمان بن مهران الأعمش, عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله في قوله {أُولَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىَ رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا, وفي رواية: قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن, فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم, وقال قتادة عن معبد بن عبد الله الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود في قوله {أُولَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ} الآية, قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن, فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم, لا يشعرون بإسلامهم, فنزلت هذه الآية, وفي رواية عن ابن مسعود كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن فذكره.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله {أُولَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىَ رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ} قال: عيسى وأمه وعزير, وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: هم عيسى وعزير والشمس والقمر. وقال مجاهد: عيسى والعزير والملائكة. واختار ابن جرير قول ابن مسعود لقوله {يَبْتَغُونَ إِلَىَ رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وهذا لا يعبر به عن الماضي, فلا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة, وقال والوسيلة هي القربة, كما قال قتادة, ولهذا قال: {أَيّهُمْ أَقْرَبُ}. وقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء فبالخوف ينكف عن المناهي, وبالرجاء يكثر من الطاعات. وقوله تعالى: {إِنّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله, عياذاً بالله منه.
{وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً}(3/60)
هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما عنده في اللوح المحفوظ: أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم {عَذَاباً شَدِيداً} إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء, وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم, كما قال تعالى عن الأمم الماضين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وقال تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} وقال {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} الآيات.
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نّرْسِلَ بِالاَيَاتِ إِلاّ أَن كَذّبَ بِهَا الأوّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاَيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفاً}
قال سنيد عن حماد بن زيد عن أيوب, عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون: يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح, ومنهم من كان يحيي الموتى, فإن سرك أن نؤمن بك ونصدقك, فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهباً, فأوحى الله إليه: إني قد سمعت الذي قالوا فإن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العذاب, فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة, وإن شئت أن نستأني بقومك استأنيت بهم. قال: "يا رب استأن بهم" وكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما, وروى الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد, حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً, وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا, فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم, وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا, كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم. وقال "لا, بل استأن بهم" وأنزل الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نّرْسِلَ بِالاَيَاتِ إِلاّ أَن كَذّبَ بِهَا الأوّلُونَ} الآية, ورواه النسائي وابن جرير به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن حكيم, عن ابن عباس, قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال "وتفعلون ؟" قالوا: نعم. قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً, فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين", وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة, فقال: "بل باب التوبة والرحمة".
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري, حدثنا خلف بن تميم المصيصي عن عبد الجبار بن عمر الأيلي, عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير يقول لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس "يا آل عبد مناف إني نذير" فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم, فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك, وإن سليمان سخر له الريح والجبال, وإن موسى سخر له البحر, وإن عيسى كان يحيي الموتى فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهاراً, فنتخذها محارث فنزرع ونأكل, وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا, وإلا فادع الله أن يصيّر لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف, فإنك تزعم أنك كهيئتهم. وقال: فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي, فلما سرّي عنه, قال: "والذي نفسي بيده, لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان, ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم, وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة, فلا يؤمن منكم أحد, فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم, وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أنه يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين" ونزلت {وَمَا مَنَعَنَآ(3/61)
أَن نّرْسِلَ بِالاَيَاتِ إِلاّ أَن كَذّبَ بِهَا الأوّلُونَ} وقرأ ثلاث آيات ونزلت {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} الآية. ولهذا قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} أي نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك فإنه سهل علينا يسير لدينا إلا أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها, وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها, كما قال الله تعالى في المائدة {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى عن ثمود حين سألوا آية ناقة تخرج من صخرة عينوها, فدعا صالح عليه السلام ربه فأخرج لهم منها ناقة على ما سألوه, فلما ظلموا بها أي كفروا بمن خلقها وكذبوا رسوله وعقروها, فقال {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}. ولهذا قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} أي دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها {فَظَلَمُوا بِهَا} أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها, فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} قال قتادة: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون, ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه, فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه, وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات, فقال عمر: أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته, ولكن الله عز وجل يخوف بهما عباده, فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره - ثم قال - يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته, يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً".
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً}
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرضاً على إبلاغ رسالته مخبراً له بأنه قد عصمه من الناس, فإنه القادر عليهم وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته. وقال مجاهد وعروة بن الزبير والحسن وقتادة وغيرهم في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ} أي عصمك منهم, وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ} الآية, قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة, عن ابن عباس {وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ} قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} شجرة الزقوم, وكذا رواه أحمد وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة به. وكذا رواه العوفي عن ابن عباس.
وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد, وغير واحد, وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستوفاة ولله الحمد والمنة. وتقدم أن ناساً رجعوا عن دينهم بعد ما كانوا على الحق, لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك, فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه, وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً لآخرين, ولهذا قال {إِلاّ فِتْنَةً} أي اختباراً وامتحاناً, وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم, كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار, ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله: هاتوا لنا تمراً وزبداً, وجعل يأكل من هذا بهذا, ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا, حكى ذلك ابن عباس ومسروق وأبو مالك(3/62)
والحسن البصري وغير واحد, وكل من قال إنها ليلة الإسراء, فسره كذلك بشجرة الزقوم. وقيل: المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية, وهو غريب ضعيف.
وقال ابن جرير: حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة, حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد, حدثني أبي عن جدي قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود, فساءه ذلك, فما استجمع ضاحكاً حتى مات, قال: وأنزل الله في ذلك {وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ} الآية, وهذا السند ضعيف جداً فإن محمد بن الحسن بن زبالة متروك, وشيخه أيضاً ضعيف بالكلية, ولهذا اختار ابن جرير أن المراد بذلك ليلة الإسراء, وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم, قال لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك أي في الرؤيا والشجرة, وقوله: {وَنُخَوّفُهُمْ} أي الكفار بالوعيد والعذاب والنكال, {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً} أي تمادياً فيما هم فيه من الكفر والضلال, وذلك من خذلان الله لهم.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الّذِي كَرّمْتَ عَلَيّ لَئِنْ أَخّرْتَنِ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إَلاّ قَلِيلاً}
يذكر تبارك وتعالى عداوة إبليس لعنه الله وذريته وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخاراً عليه واحتقاراً له {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} كما قال في الآية الأخرى {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وقال أيضاً أرأيتك يقول للرب جراءة وكفراً والرب يحلم وينظر {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الّذِي كَرّمْتَ عَلَيّ} الآية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول لأستولين على ذريته إلا قليلاً وقال مجاهد لأحتوينّ وقال ابن زيد لأضلنهم وكلها متقاربة والمعنى أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته علي لئن أنظرتني لأضلن ذريته إلا قليلاً منهم.
{قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنّ جَهَنّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مّوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىَ بِرَبّكَ وَكِيلاً}
لما سأل إبليس النظرة قال الله له {اذْهَبْ} فقد أنظرتك كما قال في الآية الأخرى قال: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنّ جَهَنّمَ جَزَآؤُكُمْ} أي على أعمالكم {جَزَاءً مّوْفُوراً} قال مجاهد وافراً, وقال قتادة موفوراً عليكم لا ينقص لكم منه. وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قيل هو الغناء قال مجاهد باللهو والغناء أي استخفهم بذلك وقال ابن عباس في قوله {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال كل داع دعا إلى معصية الله عز وجل وقال قتادة واختاره ابن جرير, وقوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} يقول واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجلتهم فإن الرجل جمع راجل كما أن الركب جمع راكب وصحب جمع صاحب ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه وهذا أمر قدري كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً وتسوقهم إليها(3/63)
سوقاً وقال ابن عباس ومجاهد في قوله {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قال كل راكب وماش في معصية الله وقال قتادة: إن له خيلاً ورجالاً من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه تقول العرب أجلب فلان على فلان إذا صاح عليه ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب ومنه اشتقاق الجلبة وهي ارتفاع الأصوات, وقوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ} قال ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله, وقال عطاء: هو الربا, وقال الحسن: هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام, وكذا قال قتادة, وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أما مشاركته إياهم في أموالهم فهو ما حرموه من أنعامهم يعني من البحائر والسوائب ونحوها وكذا قال الضحاك وقتادة وقال ابن جرير والأولى أن يقال إن الآية تعم ذلك كله, وقوله {وَالأوْلادِ} قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يعني أولاد الزنا, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهاً بغير علم, وقال قتادة والحسن البصري: قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مجسوا وهودوا ونصروا وصبغوا على غير صبغة الإسلام, وجزؤوا أموالهم جزءاً للشيطان, وكذا قال قتادة سواء, وقال أبو صالح عن ابن عباس هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد الشمس وعبد فلان قال ابن جرير وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه بتسميته بما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو بقتله أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بفعله به أو فيه فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه لأن الله لم يخصص بقوله {وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ} معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى فكل ما عصي الله فيه أو به أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة, وهذا الذي قاله متجه وكل من السلف رحمهم الله فسر بعض المشاركة فقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال "يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً" وقوله تعالى: {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً} كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضي بالحق {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الآية وقوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم ولهذا قال تعالى {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي حافظاً ومؤيداً ونصيراً, وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر" ينضي أي يأخذ بناصيته ويقهره.
{رّبّكُمُ الّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}
ويخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم ولهذا قال: {إِنّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أي إنما فعل هذا بكم في فضله عليكم ورحمته بكم.
{وَإِذَا مَسّكُمُ الْضّرّ فِي الْبَحْرِ ضَلّ مَن تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً}(3/64)
يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا مَسّكُمُ الْضّرّ فِي الْبَحْرِ ضَلّ مَن تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ} أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة فذهب هارباً فركب في البحر يدخل الحبشة فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده فقال عكرمة في نفسه والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يدي محمد فلأجدنه رؤوفاً رحيماً, فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه. وقوله تعالى {فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ} أي نسيتم ما عرفتم من توحيده وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} أي سجيته هذا ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.
{أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً}
يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً وهو المطر الذي فيه حجارة قاله مجاهد وغير واحد كما قال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} وقد قال في الآية الأخرى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} وقال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وقوله {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} أي ناصراً يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.
{أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىَ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً}
يقول تبارك وتعالى {أَمْ أَمِنْتُمْ} أيها المعرضون عنا بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر وخرجوا إلى البر {أَن يُعِيدَكُمْ} في البحر مرة ثانية {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مّنَ الرّيحِ} أي يقصف الصواري ويغرق المراكب قال ابن عباس وغيره: القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها وقوله: {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى وقوله: {ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} قال ابن عباس نصيراً وقال مجاهد نصيراً ثائراً أي يأخذ بثأركم بعدكم. وقال قتادة ولا نخاف أحداً يتبعنا بشيء من ذلك.
{وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}
ويخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكلمها كقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه, وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ} أي على(3/65)
الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي البحر أيضاً على السفن الكبار والصغار {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ} أي من زروع ثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي {وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا الآخرة فقال الله تعالى " وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت كن فكان" وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه, وقد روي من وجه آخر متصلاً. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي حدثنا حجاج بن محمد حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة قالت يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة قال لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان" وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثني عثمان بن حصن عن عبيدة بن علاق سمعت عروة بن رويم اللخمي حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال "إن الملائكة قالوا ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم وجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب ويتزوجون النساء ويركبون الدواب ينامون ويستريحون ولم تجعل لنا من ذلك شيئاً فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال الله عز وجل: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان" وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا عمر بن سهل حدثنا عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء عن بشر بن شغاف عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم" قيل يا رسول الله ولا الملائكة قال "ولا الملائكة, الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر" وهذا حديث غريب جداً.
{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَىَ فَهُوَ فِي الآخرة أَعْمَىَ وَأَضَلّ سَبِيلاً}
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم, وقد اختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة بنبيهم وهذا كقوله تعالى {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد لكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع واختاره ابن جرير وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: بكتبهم فيحتمل أن يكون أراد هذا وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي بكتاب أعمالهم وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآية ويحتمل أن المراد {بإمامهم} أي كل قوم بمن يأتمون به فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام وأهل(3/66)
الكفر ائتموا بأئمتهم كما قال {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} وفي الصحيحين "لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الطواغيت" الحديث وقال تعالى {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها كقوله تعالى {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} ولكن المراد ههنا بالإمام هو كتاب الأعمال ولذا قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ} أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرأه ويحب قراءته كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ - إلى قوله - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} الآيات, وقوله تعالى {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قد تقدم أن الفتيل هو الخيط المستطيل في شق النواة. وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً في هذا فقال: حدثنا محمد بن يعمر ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: "يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا, وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ويراه أصحابه فيقولون أعوذ بالله من هذا أو من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم أخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا" ثم قال البزار لا يروى إلا من هذا الوجه, وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} الآية, قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ} أي في الحياة الدنيا {أَعْمَى} أي عن حجة الله وآياته وبيناته {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} أي كذلك يكون {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي وأضل منه كما كان في الدنيا عياذاً بالله من ذلك.
{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}
يخبر تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه, وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار, وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره, وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره مؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها, صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً سُنّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنّتِنَا تَحْوِيلاً}
قيل: نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة,(3/67)
وهذا القول ضعيف, لأن هذه الآية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك, وقيل: إنها نزلت بتبوك وفي صحته نظر. روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي, عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقاً أنك نبي فالحق بالشام, فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء, فصدق ما قالوا فغزا تبوك لا يريد إلا الشام, فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا - إلى قوله - تَحْوِيلاً} فأمره الله بالرجوع إلى المدينة, وقال: فيها محياك ومماتك ومنه تبعث. وفي هذا الإسناد نظر, والأظهر أن هذا ليس بصحيح, فإن النبي لم يغز تبوك عن قول اليهود, وإنما غزاها امتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} ولقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه, والله أعلم, ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان, عن سليم بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة, والمدينة, والشام " قال الوليد: يعني بيت المقدس, وتفسير الشام بتبوك أحسن, مما قال الوليد إنه بيت المقدس, والله أعلم. وقيل نزلت في كفار قريش, هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم, فتوعدهم الله بهذه الآية, وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيراً, وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف, حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد, فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم, فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم, ولهذا قال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} الآية, أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب, ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به, ولهذا قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية.
{أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَىَ غَسَقِ الْلّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً}
يقول تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها {أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ} قيل لغروبها, قاله ابن مسعود ومجاهد وابن زيد. وقال هشيم عن مغيرة, عن الشعبي عن ابن عباس: دلوكها زوالها, ورواه نافع عن ابن عمر, ورواه مالك في تفسيره عن الزهري عن ابن عمر, وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية أيضاً عن ابن مسعود ومجاهد, وبه قال الحسن والضحاك وأبو جعفر الباقر وقتادة, واختاره ابن جرير, ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد عن الحكم بن بشير: حدثنا عمرو بن قيس عن ابن أبي ليلى عن رجل عن جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اخرج يا أبا بكر, فهذا حين دلكت الشمس" ثم رواه عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس, عن نبيح العنزي عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه, فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس فمن قوله: {لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَىَ غَسَقِ الْلّيْلِ} وهو ظلامه, وقيل غروب الشمس, أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء.(3/68)
وقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني صلاة الفجر, وقد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواتراً من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفاً من سلف وقرناً بعد قرن, كما هو مقرر في مواضعه, ولله الحمد. {إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود, وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة, وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة, وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر" يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط, حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم, وحدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال: "تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار". ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه, ثلاثتهم عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به, وقال الترمذي: حسن صحيح وفي لفظ في الصحيحين من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر, فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون, وتركناهم وهم يصلون" وقال عبد الله بن مسعود يجتمع الحرسان في صلاة الفجر, فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء, وكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في تفسير هذه الآية.
وأما الحديث الذي رواه ابن جرير ههنا من حديث الليث بن سعد عن زيادة عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد, عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديث النزول, وأنه تعالى يقول: من يستغفرني أغفر له, من يسألني أعطيه, من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر, فلذلك يقول: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار, فإنه تفرد به زيادة, وله بهذا حديث في سنن أبي داود.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ} أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة, كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ قال "صلاة الليل" , ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل, فإن التهجد ما كان بعد النوم. قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي وغير واحد, وهو المعروف في لغة العرب, وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتهجد بعد نومه, عن ابن عباس وعائشة وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم, كما هو مبسوط في موضعه, ولله الحمد والمنة.
وقال الحسن البصري: هو ما كان بعد العشاء ويحمل على ما كان بعد النوم, واختلف في معنى قوله تعالى: {نَافِلَةً لّكَ} فقيل معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك, فجعلوا قيام الليل واجباً في حقه دون الأمة, رواه العوفي عن ابن عباس, وهو أحد قولي العلماء, وأحد قولي الشافعي رحمه الله, واختاره ابن جرير, وقيل: إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص, لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه. قاله مجاهد: وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
وقوله: {عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً} أي افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاماً محموداً, يحمدك في الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى. قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.(3/69)
(ذكر من قال ذلك)
حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق, عن صلة بن زفر, عن حذيفة قال: يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر, حفاة عراة كما خلقوا, قياماً لا تكلم نفس إلا بإذنه, ينادي: يا محمد, فيقول: "لبيك وسعديك, والخير في يديك والشر ليس إليك, والمهدي من هديت, وعبدك بين يديك, ومنك وإليك لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك, تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت" فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل. ثم رواه عن بندار, عن غندر عن شعبة, عن أبي إسحاق به, وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري, عن أبي إسحاق به, وقال ابن عباس: هذا المقام المحمود مقام الشفاعة, وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد,وقاله الحسن البصري.
وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأول شافع, وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله تعالى: {عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً} قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد, وتشريفات لا يساويه فيها أحد فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكباً إلى المحشر, وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه, وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر وارداً منه, وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق, وذلك بعد ما تسأل الناس آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى, فكل يقول: لست لها, حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول "أنا لها أنا لها" كما سنذكر ذلك مفصلاً في هذا الموضع إن شاء الله تعالى. ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها, وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته, وأولهم إجازة على الصراط بأمته, وهو أول شفيع في الجنة كما ثبت في صحيح مسلم.
وفي حديث الصور أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته, وهو أول داخل إليها, وأمته قبل الأمم كلهم, ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة لا تليق إلا له, وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة, شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى, ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك, وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب السيرة في باب الخصائص, ولله الحمد والمنة, ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان. قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان, حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي, سمعت ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع يا فلان اشفع, حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً. ورواه حمزة بن عبد الله عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا شعيب بن الليث, حدثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر, أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن, فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست بصاحب ذلك, ثم بموسى فيقول كذلك, ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة, فيومئذ يبعثه الله مقاماً محمود"اً. وهكذا رواه البخاري في الزكاة عن يحيى بن بكير وعلقمة عن عبد الله بن صالح, كلاهما عن الليث بن سعد به, وزاد. فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً, يحمده أهل الجمع كلهم. قال البخاري: حدثنا علي بن عياش, حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة, آت محمداً(3/70)
الوسيلة والفضيلة, وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته, حلت له شفاعتي يوم القيامة" انفرد به دون مسلم.
(حديث أبي بن كعب)
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن الطفيل بن أبي كعب, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة, كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر", وأخرجه الترمذي من حديث أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي, وقال: حسن صحيح, وابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به, وقد قدمنا في حديث أبي بن كعب في قراءة القرآن على سبعة أحرف, قال صلى الله عليه وسلم في آخره: "فقلت اللهم اغفر لأمتي, اللهم اغفر لأمتي, وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام".
(حديث أنس بن مالك)
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا سعيد بن أبي عروبة, حدثنا قتادة عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك, فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا, فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده, وأسجد لك ملائكته, وعلمك أسماء كل شيء, فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا, فيقول لهم آدم: لست هناكم ويذكر ذنبه الذي أصاب فيستحيي ربه عز وجل من ذلك, ويقول: ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض, فيأتون نوحاً فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له به علم, فيستحيي ربه من ذلك, ويقول: ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن, فيأتونه فيقول: لست هناكم, لكن ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوارة, فيأتون موسى فيقول: لست هناكم, ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس, فيستحيي ربه من ذلك, ويقول: ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه, فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم, ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فيأتوني - قال الحسن هذا الحرف - فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين - قال أنس - حتى أستأذن على ربي, فإذا رأيت ربي وقعت له - أو خررت - ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني - قال - ثم يقال: ارفع محمد, قل يسمع, واشفع تشفع, وسل تعطه, فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة, قال: ثم أعود إليه ثانية فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة, قال: ثم أعود الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت - أو خررت - ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني, ثم يقال: ارفع محمد, قل يسمع, وسل تعطه, واشفع تشفع, فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه, ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة, ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن", فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة, ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة, ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة", أخرجاه من حديث سعيد به, وهكذا رواه الإمام أحمد عن عفان, بن حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس بطوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري عن النضر بن أنس, عن أنس قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط, إذ جاءني عيسى عليه السلام فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون - أو قال: يجتمعون إليك - ويدعون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله لغم ما هم فيه, فالخلق ملجمون بالعرق, فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة, وأما الكافر فيغشاه الموت, فقال: انتظر حتى أرجع إليك, فذهب(3/71)
نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ولا نبي مرسل, فأوحى الله عز وجل إلى جبريل أن اذهب إلى محمد, وقل له ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع, فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنساناً واحداً, فما زلت أتردد إلى ربي عز وجل, فلا أقوم منه مقاماً إلا شفعت حتى أعطاني الله عز وجل, من ذلك أن قال: يا محمد أدخل من أمتك من خلق الله عز وجل من شهد أن لا إله إلا الله يوماً واحداً مخلصاً ومات على ذلك".
(حديث بريدة رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر, أخبرنا أبو إسرائيل عن الحارث بن حصيرة, عن ابن بريدة, عن أبيه أنه دخل على معاوية, فإذا رجل يتكلم, فقال بريدة: يا معاوية تأذن لي في الكلام ؟ فقال: نعم, وهو يرى أنه يتكلم بمثل ما قال الآخر, فقال بريدة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة", قال: "فترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي رضي الله عنه".
(حديث ابن مسعود)
قال الإمام أحمد: حدثنا عارم بن الفضل, حدثنا سعيد بن الفضل, حدثنا سعيد بن زيد, حدثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان, عن إبراهيم, عن علقمة والأسود, عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: إن أمنا تكرم الزوج وتعطف على الولد, قال: وذكرا الضيف غير أنها كانت وأدت في الجاهلية, فقال "أمكما في النار" قال: فأدبرا والسوء يرى في وجوههما, فأمر بهما فردا فرجعا والسرور يرى في وجوههما رجاء أن يكون قد حدث شيء, فقال "أمي مع أمكما" فقال رجل من المنافقين: وما يغني هذا عن أمه شيئاً ونحن نطأ عقبيه. فقال رجل من الأنصار: ولم أر رجلاً قط أكثر سؤالاً منه يا رسول الله, هل وعدك ربك فيها أو فيهما ؟ قال: فظن أنه من شيء قد سمعه, فقال: "ما سألته ربي وما أطمعني فيه, وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة" فقال الأنصاري: يا رسول الله وما ذاك المقام المحمود ؟ قال: " ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلاً, فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام, فيقول: اكسوا خليلي فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما, ثم يقعده مستقبل العرش, ثم أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقاماً لا يقومه أحد, فيغبطني فيه الأولون والأخرون" قال: ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض, فقال المنافق: إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حاله المسك, ورضراضه اللؤلؤ" فقال المنافق: لم أسمع كاليوم, فإنه قلما جرى ماء على حال أو رضراض إلا كان له نبت ؟ فقال الأنصاري, يا رسول الله هل له نبت ؟ فقال: "نعم قضبان الذهب" قال المنافق لم أسمع كاليوم, فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق وإلا كان له ثمر, وقال الأنصاري: يا رسول الله هل له ثمرة ؟ قال: "نعم ألوان الجوهر, وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل, من شرب منه شربة لا يظمأ بعده, ومن حرمه لم يرو بعده". وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل, عن أبيه عن أبي الزعراء, عن عبد الله قال: ثم يأذن الله عز وجل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل, ثم يقوم إبراهيم خليل الله ثم يقوم عيسى أو موسى, قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما, قال: ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعاً فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع, وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}.
(حديث كعب بن مالك رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا محمد بن حرب, حدثنا الزبيدي عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل, ويكسوني ربي عز وجل حلة(3/72)
خضراء, ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول, فذلك المقام المحمود".
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن جبير, عن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة, وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه, فأنظر إلى ما بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم, ومن خلفي مثل ذلك, وعن يميني مثل ذلك, وعن شمالي مثل ذلك" فقال رجل: يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك ؟ قال: "هم غر محجلون من أثر الوضوء, ليس أحد كذلك غيرهم, وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم, وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه)
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا أبو حيان, حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم, فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة, ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة, وهل تدرون مم ذاك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد, يسمعهم الداعي, وينفذهم البصر, وتدنو الشمس فيبلغ من الغم والكرب ما لا يطيقون, ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم, ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم, فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه, وأمر الملائكة فسجدوا لك, فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت, نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح, فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض, وقد سماك الله عبداً شكوراً, اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله قط, وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم, فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض, اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله, فذكر كذباته, نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى موسى, فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس, اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى, إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله, وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها, نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى عيسى, فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, وكلمت الناس في المهد صبياً, فاشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله, ولم يذكر ذنباً, نفسي نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم, فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء, وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر, فاشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش, فأقع ساجداً لربي عز وجل, ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي, فيقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه, واشفع تشفع, فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب, أمتي يا رب, فيقال: يا(3/73)
محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة, وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب, ثم قال: والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر, أو كما بين مكة وبصرى," أخرجاه في الصحيحين.
وقال مسلم رحمه الله: حدثنا الحكم بن موسى, حدثنا عقل بن زياد عن الأوزاعي, حدثني أبو عمار, حدثني عبد الله بن فروخ, حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة, وأول شافع وأول مشفع" . وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع عن داود بن يزيد الزعافري عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً} سئل عنها فقال: "هي الشفاعة" رواه الإمام أحمد عن وكيع ومحمد بن عبيد عن داود عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} قال "هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري, عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه - قال النبي صلى الله عليه وسلم - فأكون أول من يدعى, وجبريل عن يمين الرحمن تبارك وتعالى والله ما رآه قبلها, فأقول: أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي, فيقول الله عز وجل, صدق, ثم أشفع فأقول: يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض, قال: فهو المقام المحمود" وهذا حديث مرسل.
{وَقُل رّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لّي مِن لّدُنْكَ سُلْطَاناً نّصِيراً وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}
قال الإمام أحمد: حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه, عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة, فأنزل الله {وَقُل رّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لّي مِن لّدُنْكَ سُلْطَاناً نّصِيراً} وقال الترمذي: حسن صحيح, وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية: إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه, فأراد الله قتال أهل مكة, أمره أن يخرج إلى المدينة, فهو الذي قال الله عز وجل: {وَقُل رّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية.
وقال قتادة {وَقُل رّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يعني المدينة {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} يعني مكة, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهذا القول هو أشهر الأقوال. وقال العوفي عن ابن عباس {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يعني الموت {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} يعني الحياة بعد الموت, وقيل غير ذلك من الأقوال, والأول أصح, وهو اختيار ابن جرير.
وقوله {وَاجْعَل لّي مِن لّدُنْكَ سُلْطَاناً نّصِيراً} قال الحسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس وليجعلنه له, وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له. وقال قتادة فيها: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان, فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله, ولحدود الله, ولفرائض الله, ولإقامة دين الله, فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده, ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم, قال مجاهد {سُلْطَاناً نّصِيراً} حجة بينة, واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة, وهو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه, ولهذا يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ - إلى قوله - وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} الآية. وفي الحديث "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والاَثام مالا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد, وهذا هو الواقع.
وقوله: {وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ(3/74)
الْبَاطِلُ} الآية, تهديد ووعيد لكفار قريش, فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به, وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع, وزهق باطلهم أي اضمحل وهلك, فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}. وقال البخاري: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب, فجعل يطعنها بعود في يده ويقول :"{جاء الحق وزهق الباطل, إن الباطل كان زهوقاً} . جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد" وكذا رواه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع, ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به, وكذا رواه عبد الرزاق عن ابن أبي نجيح به.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير, حدثنا شبابة, حدثنا المغيرة, حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً تعبد من دون الله. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت على وجوهها, وقال: {جاء وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}.
{وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً}
يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد, إنه شفاء ورحمة للمؤمنين أي يذهب ما في القلب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل, فالقرآن يشفي من ذلك كله, وهو أيضاً رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه, وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه, فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة, وأما الكافر الظالم نفسه بذلك, فلا يزيد سماعه القرآن إلا بعداً وكفراً, والآفة من الكافر لا من القرآن, كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}, وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} والآيات في ذلك كثيرة. قال قتادة في قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه, فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ كَانَ يَئُوساً قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ فَرَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىَ سَبِيلاً}
يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله تعالى في حالتي السراء والضراء, فإنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية وفتح ورزق ونصر, ونال ما يريد, أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه. قال مجاهد: بعد عنا, قلت: وهذا كقوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} وبأنه إذا مسه الشر وهو المصائب, والحوادث والنوائب {كَانَ يَؤُوساً} أي قنط أن يعود فيحصل له بعد ذلك خير, كقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا(3/75)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
وقوله تعالى: {كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ} قال ابن عباس: على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته وطبيعته. وقال قتادة: على نيته. وقال ابن زيد: دينه, وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى وهذه الآية - والله أعلم - تهديد للمشركين ووعيد لهم, كقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} الآية, ولهذا قال: {يَئُوساً قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ فَرَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىَ سَبِيلاً} أي منا ومنكم, وسيجزي كل عامل بعمله فإنه لا يخفى عليه خافية.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً}
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة, عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة, وهو متكىء على عسيب, فمر بقوم من اليهود, فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح, وقال بعضهم: لا تسألوه. قال فسألوه عن الروح, فقالوا: يا محمد ما الروح ؟ فما زال متوكئاً على العسيب, قال: فظننت أنه يوحى إليه, فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} قال: فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به.
ولفظ البخاري عند تفسيره هذه الآية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متوكىء على عسيب, إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح, فقال: ما رابكم إليه, وقال بعضهم: لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه, فسألوه عن الروح, فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يرد عليهم شيئاً, فعلمت أنه يوحى إليه, فقمت مقامي, فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي} الآية, وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية, وأنه نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة, مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية, كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك, أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه, وهي هذه الآية {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ} ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا يحيى بن زكريا عن داود عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل, فقالوا: سلوه عن الروح, فسألوه, فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} قالوا: أوتينا علماً كثيراً, أوتينا التوراة, ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً, قال: وأنزل الله {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} الآية.
وقد روى ابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى, عن داود عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح, فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ} الآية, فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً, وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} قال: فنزلت { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} الآية, قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار, فهو كثير طيب, وهو في علم الله قليل.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول {وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} أفعنيتنا أم عنيت قومك, فقال "كلاً قد عنيت" فقالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم(3/76)
به انتفعتم" وأنزل الله {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال:
(أحدها) أن المراد أرواح بني آدم. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ} الآية, وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد, وإنما الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شيء, فلم يحر إليهم شيئاً, فأتاه جبريل فقال له: {قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, فقالوا: من جاءك بهذا ؟ قال: جاءني به جبريل من عند الله, فقالوا له: والله ما قاله لك إلا عدونا, فأنزل الله {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وقيل: المراد بالروح ههنا جبريل, وقال قتادة: وكان ابن عباس يكتمه, وقيل المراد به ههنا ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ} يقول: الروح ملك. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري, حدثنا وهب بن روق بن هبيرة, حدثنا بشر بن بكر, حدثنا الأوزاعي, حدثنا عطاء عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لله ملكاً لو قيل له التقم السموات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل, تسبيحه سبحانك حيث كنت" وهذا حديث غريب بل منكر. وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله. حدثني علي, حدثني عبد الله, حدثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية عمن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ} قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه, لكل وجه منها سبعون ألف لسان, لكل لسان منها سبعون ألف لغة, يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها, يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة, وهذا أثر غريب عجيب, والله أعلم.
وقال السهيلي: روي عن علي أنه قال: هو ملك له مائة ألف رأس, لكل رأس مائة ألف وجه, في كل وجه مائة ألف فم, في كل فم مائة ألف لسان, يسبح الله تعالى بلغات مختلفة. قال السهيلي: وقيل المراد بذلك طائفة من الملائكة على صور بني آدم, وقيل: طائفة يرون الملائكة ولا تراهم, فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم. وقوله: {قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي} أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم, ولهذا قال: {وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل, فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى, والمعنى أنه علمكم في علم الله قليل, وهذا الذي تسألون عنه أمر الروح مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه, كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى, وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة, أي شرب منه بمنقاره, فقال: يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر, أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه, ولهذا قال تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} وقال السهيلي: قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا, لأنهم سألوا على وجه التعنت, وقيل: أجابهم. وعول السهيلي على أن المراد بقوله: {قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي} أي من شرعه, أي فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك, لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة, وإنما ينال من جهة الشرع, وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر, والله أعلم.
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها, وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء, سارية في الجسد(3/77)
كسريان الماء في عروق الشجر, وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم, فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء, كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسماً خاصاً, فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطاراً أو خمراً, ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز, وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو, وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه, فحاصل ما نقول: إن الروح هي أصل النفس ومادتها, والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن, فهي هي من وجه لا من كل وجه, وهذا معنى حسن, والله أعلم. قلت: وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها, وصنفوا في ذلك كتباً, ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده في كتاب سمعناه في الروح.
{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً}
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد. قال ابن مسعود رضي الله عنه: يطرق الناس ريح حمراء, يعني في آخر الزمان من قبل الشام, فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية, ثم قرآ ابن مسعود {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية, ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه, ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع, وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له, وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في نفر من اليهود جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به, فأنزل الله هذه الآية, وفي هذا نظر, لأن هذه السورة مكية وسياقها كله مع قريش, واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة, فالله أعلم. وقوله {وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ} الآية, أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة, ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه, ومع هذا {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} أي جحوداً للحق ورداً للصواب.
{وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىَ فِي السّمَآءِ وَلَن نّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاّ بَشَراً رّسُولاً}
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا محمد بن إسحاق, حدثني شيخ من أهل(3/78)
مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة, عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلاً من بني عبد الدار, وأبا البختري أخا بني أسد, والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود, والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية, وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج السهميين, اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة, فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه, فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك, فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء, وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم, فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك, وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك, لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة, فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك, فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا, وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا, وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون, ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم, ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً, فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة, وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً, فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً ولا أقل مالاً, ولا أشد عيشاً منا, فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به, فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا, وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق, وليبعث لنا من مضى من آبائنا, وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب, فإنه كان شيخاً صدوقاً, فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله, وأنه بعثك رسولاً كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بهذا بعثت, إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به, فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم, فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة, وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك, فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك, وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة, ويغنيك بها عما نراك تبتغي, فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه, حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا بفاعل, ما أنا بالذي يسأل ربه هذا, وما بعثت إليكم بهذا, ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً, فإن تقبلوا ما جئتكم به, فهو حظكم في الدنيا والآخرة, وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك, فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك إلى الله, إن شاء فعل بكم ذلك" فقالوا: يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب, فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به, ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به, فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن, وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً, فقد أعذرنا إليك يا محمد, أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلك أو تهلكنا, وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال(3/79)
قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً, فلما قالوا ذلك, قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم, وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب, فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم, ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك, ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من عذاب, فو الله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً, ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول, وأيم الله لو فعلت بذلك لظننت أني لا أصدقك, ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه, ولما رأى من مباعدتهم إياه, وهكذا رواه زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس فذكر مثله سواء. وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له, لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشاداً لأجيبوا إليه, ولكن علم أنهم إنما يطالبون ذلك كفراً وعناداً له, فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناهم ما سألوا, فإن كفروا عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ؟ فقال: "بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة", كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام أيضاً عند قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفا}. وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً}.
وقوله تعالى {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} الينبوع: العين الجارية, سألوه أن يجري لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز ههنا وههنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم على جميع ما سألوه وطلبوا ولكن علم أنهم لا يهتدون كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} الآية.
وقوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهوي وتدلي أطرافها, فاجعل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفاً, أي قطعاً كقوله {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية, وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة, إنه كان عذاب يوم عظيم, وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً, وكذلك وقع فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى عبد الله بن أمية الذي تبع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال, أسلم إسلاماً تاماً وأناب إلى الله عز وجل.
وقوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هو الذهب, وكذلك هو في قراءة ابن مسعود: أو يكون لك بيت من ذهب {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} أي تصعد في سلم ونحن ننظر إليك {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} قال مجاهد:(3/80)
أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة هذا كتاب من الله لفلان تصبح موضوعة عند رأسه. وقوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} أي سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته, بل هو الفعال لما يشاء إن شاء أجابكم إلى ما سألتم, وإن شاء لم يجبكم, وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وقد فعلت ذلك, وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل.
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا علي ابن إسحاق , حدثنا ابن المبارك, حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زجر عن علي بن يزيد, عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرض علي ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً, فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً - أو نحو ذلك - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك, وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " ورواه الترمذي في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به, وقال: هذا حديث حسن, وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.
{وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السّمَآءِ مَلَكاً رّسُولاً}
يقول تعالى: {وَمَا مَنَعَ النّاسَ} أي أكثرهم {أَن يُؤْمِنُوَاْ} ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثة البشر رسلاً, كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}, وقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} الآية. وقال فرعون وملؤه {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ؟ } وكذلك قالت الأمم لرسلهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} والآيات في هذا كثيرة, ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا منه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته,ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} ولهذا قال ههنا {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أي كما أنتم فيها {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} أي من جنسهم. ولما كنتم أنتم بشراً بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفاً ورحمة.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}
يقول تعالى مرشداً نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به: إنه شاهد علي وعليكم, عالم بما جئتكم به, فلو كنت كاذباً عليه لا نتقم مني أشد الانتقام, كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}. وقوله { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي عليماً بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة, ولهذا قال(3/81)
{وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مّأْوَاهُمْ جَهَنّمُ كُلّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}
يقول تعالى مخبراً عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له, ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم, كما قال: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} وقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} قال الإمام أحمد, حدثنا ابن نمير, حدثنا إسماعيل عن نفيع قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال: "الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم", وأخرجاه في الصحيحين.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن جميع القرشي حدثنا أبي الطفيل عامر بن واثلة, عن حذيفة بن أسيد قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار, قولوا ولا تحلفوا, فإن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين, وفوج يمشون ويسعون, وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار, فقال قائل منهم: هذان قد عرفناهما, فما بال الذين يمشون ويسعون ؟ قال "يلقي الله عز وجل الآفة على الظهر حتى لا يبقى ظهر, حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة فيعطيها بالشارف ذات القتب فلا يقدر عليها" . وقوله: {عُمْياً} أي لا يبصرون, {وَبُكْماً} يعني لا ينطقون, {وَصُمّاً} لا يسمعون, وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكماً وعمياً وصماً عن الحق, فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه {مّأْوَاهُمْ} أي منقلبهم ومصيرهم {جَهَنّمُ كُلّمَا خَبَتْ} قال ابن عباس: سكنت, وقال مجاهد طفئت, {زِدْنَاهُمْ سَعِيرا} أي لهباً ووهجاً وجمراً, كما قال: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً}.
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىَ الظّالِمُونَ إَلاّ كُفُوراً}
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمي والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه, لأنهم كذبوا {بِآياتِنَا} أي بأدلتنا وحجتنا, واستبعدوا وقوع البعث {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} أي بالية نخرة {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي بعد ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية ؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض, فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك, كما قال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} الآية,في هذا المقام اضطرب وقال {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إلى آخر السورة. وقال ههنا {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم. وقوله: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ} أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لا بد من انقضائها, كما قال تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} . وقوله: {فَأَبَىَ الظّالِمُونَ} أي بعد قيام الحجة عليهم {إَلاّ كُفُوراً} إلا تمادياً في باطلهم وضلالهم.(3/82)
{قُل لّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً}
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه: قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق, قال ابن عباس وقتادة: أي الفقر, خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً, لأن هذا من طباعكم وسجاياكم, ولهذا قال: {وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً} قال ابن عباس وقتادة: أي بخيلاً منوعاً, وقال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} أي لو أن لهم نصيباً في ملك الله لما أعطوا أحداً شيئاً ولا مقدار نقير, والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه, فإن البخل والجزع والهلع صفة له, كما قال تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز, ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه, وقد جاء في الصحيحين "يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه".
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّي لأظُنّكَ يَمُوسَىَ مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلآءِ إِلاّ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنّي لأظُنّكَ يَفِرْعَونُ مَثْبُوراً فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً}
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون, وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات, قاله ابن عباس. وقال محمد بن كعب: هي اليد والعصا, والخمس في الأعراف والطمسة والحجر, وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده وعصاه والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي, وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة, وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} أي ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها, كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً, وما نجعت فيهم: فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا, وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى آخرها, لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله, كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} قيل: بمعنى ساحر, والله تعالى أعلم. فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد ههنا, وهي المعنية في قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ - إلى قوله - فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} فذكر هاتين الآيتين العصا واليد وبين الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها. وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة, منها ضربة الحجر بالعصا, وخروج الماء منه, ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى, وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر, ولكن ذكر ههنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر, فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً.(3/83)
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فقال: لا تقل له نبي, فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين, فسألاه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تسحروا, ولا تأكلوا الربا, ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله, ولا تقذفوا محصنة - أو قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك - وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت" فقبلا يديه ورجليه, وقالا: نشهد أنك نبي. قال: "فما يمنعكما أن تتبعاني ؟" قالا: لأن داود عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي, وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود. فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به, وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو حديث مشكل, وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء, وقد تكلموا فيه, ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون, والله أعلم, ولهذا قال موسى لفرعون {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} أي حججاً وأدلة على صدق ما جئتك به {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} أي هالكاً, قاله مجاهد وقتادة, وقال ابن عباس: ملعوناً, وقال أيضاً هو والضحاك {مَثْبُوراً} أي مغلوباً, والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله, قال الشاعر عبد الله بن الزبعري:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ... ـي ومن مال ميله مثبور
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله علمت, وروي ذلك عن علي بن أبي طالب, ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب لفرعون, كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} الآية, فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم, التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه, وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله, وليس المراد منها كما ورد في الحديث, فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه, وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون ؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة, فإن له بعض ما ينكر, والله أعلم. ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات فحصل وهم في ذلك, والله أعلم.
وقوله: { فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي يخليهم منها ويزيلهم عنها, {فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة, وكذلك فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها, كما قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الآيتين, ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين, وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً, كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها, وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم, كما قال كذلك وأورثناها بني إسرائيل, وقال ههنا {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أي جميعكم أنتم وعدوكم, قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: لفيفاً أي جميعاً.
{وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَىَ مُكْثٍ(3/84)
وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد أنه بالحق نزل, أي متضمناً للحق, كما قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أي متضمناً علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه. وقوله {وَبِالْحَقّ نَزَلَ} أي ونزل إليك يا محمد محفوظاً محروساً لم يشب بغيره ولا زيد فيه ولا نقص منه, بل وصل إليك بالحق, فإنه نزل به شديد القوى الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى. وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} أي يا محمد {إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً} مبشراً لمن أطاعك من المؤمنين ونذيراً لمن عصاك من الكافرين.
وقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا, ثم نزل مفرقاً منجماً على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة, قاله عكرمة عن ابن عباس وعن ابن عباس أيضاً أنه قرأ: فرقناه بالتشديد, أي أنزلناه آية آية مبيناً ومفسراً, ولهذا قال: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ} أي لتبلغه الناس وتتلوه عليهم, أي {عَلَىَ مُكْثٍ} أي مهل {وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} أي شيئاً بعد شيء.
{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوَاْ إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ سُجّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم {آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوَاْ} أي سواء آمنتم به أم لا, فهو حق في نفسه أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله, ولهذا قال: {إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه {إِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ} هذا القرآن {يَخِرّونَ لِلأذْقَانِ} جمع ذقن وهو أسفل الوجه {سُجّداً} أي لله عز وجل شكراً على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلاً أن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب, ولهذا يقولون {سُبْحَانَ رَبّنَآ} أي تعظيماً وتوقيراً على قدرته التامة وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قالوا {سُبْحَانَ رَبّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً}. وقوله: {وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ} أي خضوعاً لله عز وجل وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} أي إيماناً وتسليماً, كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} . وقوله: {وَيَخِرّونَ} عطف صفة على صفة لا عطف السجود على السجود, كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
{قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَآءَ الْحُسْنَىَ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لّهُ وَلِيّ مّنَ الذّلّ وَكَبّرْهُ تَكْبِيراً}
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عز وجل, المانعين من تسميته بالرحمن(3/85)
{ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَنَ أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَآءَ الْحُسْنَىَ} أي لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم الرحمن, فإنه ذو الأسماء الحسنى, كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - إلى أن قال - لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية, وقد روى مكحول أن رجلاً من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده: "يا رحمن يا رحيم" فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو اثنين, فأنزل الله هذه الآية, وكذا روي عن ابن عباس, رواهما ابن جرير.
وقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} الآية قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بمكة, {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن, فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به, قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك, فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أ خرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به, وكذا رواه الضحاك عن ابن عباس, وزاد: فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك يفعل أي ذلك شاء.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه, وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم, فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع, فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئاً, فأنزل الله {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} فيتفرقوا عنك {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به, {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} وهكذا قال عكرمة والحسن البصري وقتادة: نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة, وقال شعبة عن الأشعث بن أبي سليم عن الأسود بن هلال عن ابن مسعود لم يخافت بها من أسمع أذنيه.
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية عن سلمى بن علقمة عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته وأن عمر كان يرفع صوته, فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا ؟ قال: أناجي ربي عز وجل وقد علم حاجتي, فقيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا ؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان, قيل: أحسنت, فلما نزلت {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} قيل لأبي بكر: ارفع شيئاً, وقيل لعمر: اخفض شيئاً, وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء, وهكذا روى الثوري ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في الدعاء, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو عياض ومكحول وعروة بن الزبير. وقال الثوري عن ابن عياش العامري عن عبد الله بن شداد قال: كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارزقنا إبلاً وولداً" قال: فنزلت هذه الآية {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}.
(قول آخر) قال ابن جرير: حدثنا أبو السائب, حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: نزلت هذه الآية في التشهد {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}, وبه قال حفص عن أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين مثله.
(قول آخر) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قال:(3/86)
لا تصل مراءاة للناس ولا تدعها مخافة الناس. وقال الثوري عن منصور عن الحسن البصري {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قال: لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها, وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن به, وهشيم عن عوف عنه به, وسعيد عن قتادة عنه كذلك.
(قول آخر) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} قال: أهل الكتاب يخافتون ثم يجهر أحدهم بالحرف, فيصيح به ويصيحون هم به وراءه, فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء, وأن يخافت كما يخافت القوم, ثم كان السبيل الذي بين ذلك الذي سن له جبريل من الصلاة.
وقوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائض فقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير, بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له, ومدبرها ومقدرها وحده لا شريك له. قال مجاهد في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} لم يحالف أحدً ولم يبتغ نصر أحد {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً.
قال ابن جرير: حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني أبو صخر عن القرظي أنه كان يقول في هذه الآية {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية, قال إن اليهود والنصارى يقولون اتخذ الله ولداً, وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل, فأنزل الله هذه الآية {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} وقال أيضاً: حدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله هذه الآية {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية, الصغير من أهله والكبير. قلت وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز, وفي بعض الآثار أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا بشر بن سيحان البصري, حدثنا حرب بن ميمون, حدثنا موسى بن عبيدة الزبيدي عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويده في يدي, أو يدي في يده, فأتى على رجل رث الهيئة فقال: "أي فلان ما بلغ بك ما أرى ؟" قال: السقم والضر يا رسول الله, قال: "ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر ؟" قال: لا, قال: ما يسرني بها أن شهدت معك بدراً أو أحداً, قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع ؟" قال: فقال أبو هريرة: يا رسول الله إياي فعلمني, قال: "فقل يا أبا هريرة توكلت على الحي الذي لا يموت, الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً, ولم يكن له شريك في الملك, ولم يكن له ولي من الذل, وكبره تكبيراً" قال: فأتى علي رسول الله وقد حسنت حالي قال: فقال لي "مهيم" قال: قلت يا رسول الله لم أزل أقول الكلمات التي علمتني", إسناده ضعيف, وفي متنه نكارة, والله أعلم. آخر تفسير سورة سبحان. و لله الحمد والمنة.(3/87)
سورة الكهف
وهي مكية
(ذكر ما ورد في فضلها والعشر الآيات من أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال)
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة, فجعلت تنفر, فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأ فلان, فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو تنزلت للقرآن" أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به, وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن الحضير كما تقدم في تفسير سورة البقرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا هشام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد, عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به, ولفظ الترمذي "من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف" وقال: حسن صحيح.
(طريق أخرى) - قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا شعبة عن قتادة, سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" فيحتمل أن سالماً سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء. وقال أحمد: حدثنا حسين, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني, عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ أول سورة الكهف وآخرها, كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه, ومن قرأها كلها كانت له نوراً ما بين السماء والأرض" انفرد به أحمد ولم يخرجوه, وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن خالد بن سعيد بن أبي مريم, عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين" وهذا الحديث في رفعه نظر, وأحسن أحواله الوقف.
وهكذا روى الإمام سعيد بن منصور في سننه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. هكذا وقع موقوفاً, وكذا رواه الثوري عن أبي هاشم به من حديث أبي سعيد الخدري وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل, حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا هشيم, حدثنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد, عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين" ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه عن الحاكم, ثم قال البيهقي: ورواه يحيى بن كثير عن شعبة عن أبي هاشم(3/88)
بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ سورة الكهف كما نزلت, كانت له نوراً يوم القيامة" وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب عن منظور بن زيد بن خالد الجهني, عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي مرفوعاً: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة, فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة, وإن خرج الدجال عصم منه.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا قَيّماً لّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مّن لّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً مّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبائهم كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً}
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها, فإنه المحمود على كل حال, وله الحمد في الأولى والآخرة, ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه, فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ, بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحاً بيناً جلياً نذيراً للكافرين, بشيراً للمؤمنين, ولهذا قال: {وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا} أي لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا ميلاً, بل جعله معتدلاً مستقيماً ولهذا قال: {قَيّماً} أي مستقيما {لّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مّن لّدُنْهُ} أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ينذره بأساً شديداً عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى {مّن لّدُنْهُ} أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد, ولا يوثق وثاقه أحد {وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح {أَنّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} أي مثوبة عند الله جميلة {مّاكِثِينَ فِيهِ} في ثوابهم عند الله, وهو الجنة خالدين فيه {أَبَداً ً} دائماً لا زوال له ولا انقضاء.
وقوله: {وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً} قال ابن إسحاق: وهم مشركو العرب في قولهم نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله {مّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه {وَلاَ لآبائهم} أي لأسلافهم {كَبُرَتْ كَلِمَةً} نصب على التمييز تقديره كبرت كلمتهم هذه كلمةً. وقيل: على التعجب تقديره أعظم بكلمتهم كلمة, كما تقول: أكرم بزيد رجلاً, قاله بعض البصريين, وقرأ ذلك بعض قراء مكة: كبرت كلمة, كما يقال عظم قولك وكبر شأنك, والمعنى على قراءة الجمهور أظهر, فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم, ولهذا قال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي ليس لها مستند سوى قولهم, ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم, ولهذا قال: {إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً} وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة, فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة, فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله, فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء, فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصفوا لهم أمره وبعض قوله, وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم(3/89)
لتخبرونا عن صاحبنا هذا, قال: فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن, فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل, وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم, فإنهم قد كان لهم حديث عجيب ؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه, وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه, وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم, فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد, قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها, فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا, فسألوه عما أمروهم به, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبركم غدا عما سألتم عنه" ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً, ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً, واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها, لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة, ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف, فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف, وقول الله عز وجل {ويسألونك عن الروح ؟ قل الروح} الآية.
{فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ عَلَىَ آثَارِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه كما قال تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وقال: {ولا تحزن عليهم} وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} باخع أي مهلك نفسك بحزنك عليهم, ولهذا قال: {فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ عَلَىَ آثَارِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن {أَسَفاً} يقول: لا تهلك نفسك أسفاً. قال قتادة: قاتل نفسك غضباً وحزناً عليهم, وقال مجاهد: جزعاً, والمعنى متقارب, أي لا تأسف عليهم, بل أبلغهم رسالة الله, فمن اهتدى فلنفسه, ومن ضل فإنما يضل عليها, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات, ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا داراً فانية مزينة بزينة زائلة, وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار, فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الدنيا حلوة خضرة, وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون, فاتقوا الدنيا, واتقوا النساء, فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء", ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها, فقال تعالى: {وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أي وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار, فنجعل كل شيء عليها هالكاً صعيداً جرزاً لا ينبت ولا ينتفع به.
كما قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} يقول: يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد: صعيداً جرزاً بلقعاً, وقال قتادة: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات, وقال ابن زيد: الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء, ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} وقال محمد بن إسحاق: {وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} يعني الأرض وأن ما عليها لفان وبائد, وأن المرجع لإلى الله, فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى.(3/90)
{أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبّنَآ آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا عَلَىَ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىَ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً}
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار, ثم بسطها بعد ذلك فقال: {أَمْ حَسِبْتَ} يعني يا محمد {أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} أي ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى, وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف, كما قال ابن جريج عن مجاهد {أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
وقال العوفي عن ابن عباس {أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم, وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم, وأما الكهف فهو الغار في الجبل, وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون, وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: هو واد قريب من أيلة, وكذا قال عطية العوفي وقتادة. وقال الضحاك: أما الكهف فهو غار في الوادي, والرقيم اسم الوادي, وقال مجاهد: الرقيم كان بنيانهم, ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الرقيم: كان يزعم كعب أنها القرية, وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف, وقال ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس, وقال ابن جريج: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف بنجلوس, واسم الكهف حيزم, والكلب حمران. وقال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حناناً والأواه والرقيم. وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم ؟ كتاب أم بنيان. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرقيم الكتاب. وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف, ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرقيم الكتاب, ثم قرأ: كتاب مرقوم. وهذا هو الظاهر من الآية, وهو اختيار ابن جرير, قال: الرقيم فعيل بمعنى مرقوم, كما يقال للمقتول قتيل, وللمجروح جريح, والله أعلم. وقوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبّنَآ آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم, فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم {رَبّنَآ آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً} أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا {وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} أي وقدر لنا من أمرنا هذا رشداً أي اجعل عاقبتنا رشداً, كما جاء في الحديث "وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً" وفي المسند من حديث بسر بن أرطاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها, وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة".
وقوله: {فَضَرَبْنَا عَلَىَ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة, {ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ} أي من(3/91)
رقدتهم تلك, وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله, ولهذا قال: {ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيّ الحِزْبَيْنِ } أي المختلفين فيهم {أَحْصَىَ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} قيل: عدداً, وقيل: غاية, فإنّ الأمد الغاية, كقوله:
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
{نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَن نّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً لّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً هَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُم مّن رّحْمَتِهِ وَيُهَيّىءْ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقاً}
من ههنا شرع في بسط القصة وشرحها, فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب, وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل, ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً, وأما المشايخ من قريش, فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً, وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق, فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم, فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية, وشهدوا أنه لا إله إلا هو {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص, ولهذا قال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} كما قال: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وقال {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وقال: {يَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى بن مريم, فالله أعلم, والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية, فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم, وقد تقدم عن ابن عباس أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء, وعن خبر ذي القرنين, وعن الروح, فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب وأنه متقدم على دين النصرانية, والله أعلم.
وقوله {هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة, فإنه ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم, وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد, وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت, ويذبحون لها, وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس,. وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه, فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك, وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم, ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم, عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا الله الذي خلق السموات والأرض, فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية, فكان(3/92)
أول من جلس منهم وحده أحدهم, جلس تحت ظل شجرة فجاء الآخر فجلس إليها عنده, وجاء الآخر فجلس إليهما, وجاء الآخر فجلس إليهم, وجاء الآخر وجاء الآخر, ولا يعرف واحد منهم الآخر, وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان.
كما جاء في الحديث الذين رواه البخاري تعليقاً من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة, فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والناس يقولون: الجنسية علة الضم, والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم, ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء, فليظهر كل واحد منكم بأمره, فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل, وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما, وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك, وقال الآخر كذلك, حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة, فصاروا يداً واحدة, وإخوان صدق, فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه, فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه, فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل, ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَرَبَطْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَن نّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً} ولن لنفي التأبيد أي لا يقع منا هذا أبداً, لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً, ولهذا قال عنهم: {لّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أي باطلاً وبهتاناً {هَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ} أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً} يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك, فيقال إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم, وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم, وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه, وكان هذا من لطف الله بهم, فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة, وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه, كما جاء في الحديث "يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها, لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع, فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم, واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاّ اللّهَ} أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله, ففارقوهم أيضاً بأبدانكم, {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُم مّن رّحْمَتِهِ} أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم {وَيُهَيّىءْ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ} الذي أنتم فيه {مّرْفَقاً} أي أمراً ترتفقون به, فعند ذلك خرجوا هِراباً إلى الكهف فأووا إليه, ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك, فيقال أنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم, وصاحبه الصديق حين لجآ إلى غار ثور, وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه, وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا, فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟" وقد قال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ(3/93)
عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف, وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه, فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم, فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعلوا ذلك, وفي هذا نظر, والله أعلم, فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشياً, كما قال تعالى: {وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَت تّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مّرْشِداً}
فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال, لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه {ذَاتَ الْيَمِينِ} أي يتقلص الفيء يمنة, كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة {تّزَاوَرُ} أي تميل, وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان, ولهذا قال: {وَإِذَا غَرَبَت تّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ} أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه, وهو من ناحية المشرق, فدل على صحة ما قلناه, وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب, وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب, ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب, ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً, ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال, ولم تزل فيه إلى الغروب, فتعين ما ذكرناه, ولله الحمد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تقرضهم تتركهم, وقد أخبر الله تعالى بذلك, وأراد منا فهمه وتدبره, ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض, إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي, وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً, فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة. وقال ابن إسحاق: هو عند نينوى. وقيل: ببلاد الروم. وقيل: ببلاد البلقاء, والله أعلم بأي بلاد الله هو, ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه, فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به" فأعلمنا تعالى بصفته, ولم يعلمنا بمكانه, فقال: {وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَت تّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} قال مالك عن زيد بن أسلم: تميل {ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مّنْهُ} أي في متسع منه داخلاً بحيث لا تصبيهم, إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم, قاله ابن عباس {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ} حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم, ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ}, ثم قال: {مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} الآية, أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم, فإنه من هداه الله اهتدى, ومن أضله فلا هادي له.
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم, لم تنطبق لئلا يسرع إليها البلى, فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها, ولهذا قال تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عيناً ويفتح عيناً, ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد, كما قال الشاعر:(3/94)
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
وقوله: تعالى: {وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ} قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض. قوله {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: الوصيد الفناء, وقال ابن عباس: بالباب. وقيل: بالصعيد وهو التراب, والصحيح أنه بالفناء وهو الباب, ومنه قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} أي مطبقة مغلقة, ويقال: وصيد وأصيد, ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب, قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب, وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم, وكان جلوسه خارج الباب, لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب, كما ورد في الصحيح ولا صورة ولا جنب ولا كافر, كما ورد به الحديث الحسن, وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال, وهذا فائدة صحبة الأخبار, فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم, وهو الأشبه, وقيل: كلب طباخ الملك, وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه, فالله أعلم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي: حدثنا صدقة بن عمر الغساني, حدثنا عباد المنقري, سمعت الحسن البصري يقول: كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير, واسم هدهد سليمان عليه السلام عنقز, واسم كلب أصحاب الكهف قطمير, واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه بهموت, وهبط آدم عليه السلام بالهند, وحواء بجدة, وإبليس بدست بيسان, والحية بأصفهان, وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران, واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها, بل هي مما ينهى عنه, فإن مستندها رجم بالغيب.
وقوله تعالى: {لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر, لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس, حتى يبلغ الكتاب أجله, وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم, لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة.
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَىَ الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيّهَآ أَزْكَىَ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطّفْ وَلاَ يُشْعِرَنّ بِكُمْ أَحَداً إِنّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوَاْ إِذاً أَبَداً}
يقول تعالى كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين, ولهذا تساءلوا بينهم {كَم لَبِثْتُمْ} أي كم رقدتم ؟ {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار, واستيقاظهم كان في آخر نهار, ولهذا استدركوا فقالوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي الله أعلم بأمركم, وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم, فالله أعلم, ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك, وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب, فقالوا: {فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} أي فضتكم هذه, وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها, فتصدقوا منها(3/95)
وبقي منها, فلهذا قالوا: {فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَىَ الْمَدِينَةِ} أي مدينتكم التي خرجتم منها, والألف واللام للعهد {فَلْيَنْظُرْ أَيّهَآ أَزْكَىَ طَعَاماً} أي أطيب طعاماً. كقوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً} وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره, وقيل: أكثر طعاماً, ومنه زكا الزرع إذا كثر, قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
والصحيح الأول, لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيراً أو قليلاً. وقوله {وَلْيَتَلَطّفْ} أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه, يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه {وَلاَ يُشْعِرَنّ} أي ولا يعلمن {بِكُمْ أَحَداً إِنّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} أي إن علموا بمكانكم {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلّتِهِمْ} يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم, فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها, أو يموتوا, وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة, ولهذا قال: {وَلَن تُفْلِحُوَاْ إِذاً أَبَداً}.
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوَاْ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَأَنّ السّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رّبّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىَ أَمْرِهِمْ لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مّسْجِداً}
يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي أطلعنا عليهم الناس {لِيَعْلَمُوَاْ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَأَنّ السّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا} ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة. وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأجساد, فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك, وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء لهم ليأكلوه, تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة, وذكروا أن اسمها دقسوس, وهو يظن أنه قريب العهد بها, وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل وأمة بعد أمة, وتغيرت البلاد ومن عليها, كما قال الشاعر:
أما الديار فإنها كديارهم ... وأرى رجال الحي غير رجاله
فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها, ولا يعرف أحداً من أهلها: لا خواصها ولا عوامها, فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم, ويقول: والله ما بي شيء من ذلك, وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي, ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام, فدفع إليه ما معه من النفقة, وسأله أن يبيعه بها طعاماً, فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها, فدفعها إلى جاره, وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً, فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة, لعله وجدها من كنز وممن أنت ؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة, وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس, فنسبوه إلى الجنون, فحملوه إلى ولي أمرهم فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره, وهو متحير في حاله وما هو فيه, فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف - ملك البلد وأهلها - حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل,(3/96)
فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه, وأخفى الله عليهم خبرهم, ويقال بل دخلوا عليهم ورأوهم, وسلم عليهم الملك واعتنقهم, وكان مسلماً فيما قيل, واسمه تيدوسيس, ففرحوا به وآنسوه بالكلام, ثم ودعوه وسلموا عليه, وعادوا إلى مضاجعهم, وتوفاهم الله عز وجل, فالله أعلم.
قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة, فمروا بكهف في بلاد الروم, فرأوا فيه عظاماً فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف, فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلثمائة سنة, ورواه ابن جرير, وقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم, أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم} أي في أمر القيامة, فمن مثبت لها ومن منكر, فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم {فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رّبّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أي سدوا عليهم باب كهفهم, وذروهم على حالهم {قَالَ الّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىَ أَمْرِهِمْ لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مّسْجِداً} حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: (أحدهما): أنهم المسلمون منهم. (والثاني): أهل الشرك منهم, فالله أعلم, والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ, ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" يحذر ما فعلوا, وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق, أمر أن يخفى عن الناس, وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده, فيها شيء من الملاحم وغيرها.
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رّبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم مّا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً}
يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف, فحكى ثلاثة أقوال, فدل على أنه لا قائل برابع, ولما ضعف القولين الأولين بقوله: {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أي قولاً بلا علم, كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه, فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} فدل على صحته, وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله: {قُل رّبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم} إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى, إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم, لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا.
وقوله: {مّا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ} أي من الناس. قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل, كانوا سبعة. وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول أنا ممن استثنى الله عز وجل ويقول عدتهم سبعة, فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة, وهو موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق. قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله, وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم, ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش, هكذا وقع في هذه الرواية, ويحتمل أن هذا من كلام(3/97)
ابن إسحاق أو من بينه وبينه, فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة, وهو ظاهر الآية, وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران, وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته, والله أعلم, فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب, وقد قال تعالى: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَآءً ظَاهِراً} أي سهلاً هيناً, فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً} أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب, أي من غير استناد إلى كلام معصوم, وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه, فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.
{وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىَ أَن يَهْدِيَنِ رَبّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}
هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل, علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية: تسعين امرأة, وفي رواية: مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله, فقيل له - وفي رواية قال له الملك: قل إن شاء الله, فلم يقل, فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان", فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - "والذي نفسي بيده, لو قال إن شاء الله لم يحنث, وكان دركاً لحاجته" وفي رواية "ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين" وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف "غداً أجيبكم" فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً, وقد ذكرناه بطوله في أول السورة, فأغنى عن إعادته.
وقوله: {وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ} قيل معناه إذا نسيت الاستثناء, عند ذكرك له, قاله أبو العالية والحسن البصري, وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة, وكان يقول: {وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ} ذلك, قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد ؟ فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا, ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به. ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة, أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء لله وذكر ولو بعد سنة, فالسنة له أن يقول ذلك, ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث, قاله ابن جرير رحمه الله, ونص على ذلك لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة, وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح, وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه, والله أعلم. وقال عكرمة {وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ} إذا غضبت وهذا تفسير باللازم. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحارث الجبلي, حدثنا صفوان بن صالح, حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن حصين, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله {وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ} أن تقول إن شاء الله, وروى الطبراني أيضاً عن ابن عباس في قوله: {وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ} الاستثناء فاستثن إذا ذكرت, وقال: هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه, ثم قال: انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين, ويحتمل في الآية وجه آخر وهو أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى, لأن النسيان منشؤه الشيطان, كما قال فتى موسى: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن(3/98)
أذكره} وذكر الله تعالى يطرد الشيطان فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان, فذكر الله تعالى سبب للذكر, ولهذا قال: {وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ} وقوله: {وَقُلْ عَسَىَ أَن يَهْدِيَنِ رَبّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه, فاسأل الله تعالى فيه, وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك, وقيل في تفسيره غير ذلك, والله أعلم.
{وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}
هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان, وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية, وهي الثلاثمائة سنة بالشمسية, فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين, فلهذا قال: بعد ثلاثمائة وازدادوا تسعاً. وقوله: {قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء, بل قل في مثل هذا {اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه, وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ} الآية, هذا قول أهل الكتاب, وقد ردّه الله تعالى بقوله: {قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} قال: وفي قراءة عبد الله وقالوا: {وَلَبِثُواْ}, يعني أنه قاله الناس, وهكذا قال كما قال قتادة مطرف بن عبد الله, وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر, فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع, يعنون بالشمسية, ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: وازدادوا تسعاً, والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم, وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله, ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة, ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور, فلا يحتج بها, والله أعلم.
وقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي أنه لبصير بهم سميع لهم, قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح, كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه, وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود, وأسمعه لكل مسموع, لا يخفى عليه من ذلك شيء. ثم روي عن قتادة في قوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. وقال ابن زيد {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعاً بصيراً. وقوله: {مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر, الذي لا معقب لحكمه, وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير, تعالى وتقدس.
{وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس {لا مبدل لكلماته} أي لا مغير لها ولا محرّف ولا مزيل. وقوله: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} عن مجاهد {ملتحداً} قال: ملجأ. وعن قتادة:(3/99)
ولياً ولا مولى. قال ابن جرير: يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك, فإنه لا ملجأ لك من الله, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وقال: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.
وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً, من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء, أو أقوياء أو ضعفاء,يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم, وحده, ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه, كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود, وليفرد أولئك بمجلس على حدة, فنهاه الله عن ذلك فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية, وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء, فقال {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ} الآية, وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال, ورجلان نسيت اسميهما, فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشاء الله أن يقع, فحدث نفسه, فأنزل الله عز وجل {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قص, فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب". وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا هاشم: حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت كردوس بن قيس, وكان قاص العامة بالكوفة, يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب" قال شعبة: فقلت أي مجلس ؟ قال: كان قاصاً.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد, حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أجالس قوماً يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس, ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل, دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً" فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس, فبلغت ستة وتسعين ألفاً وههنا من يقول أربعة من ولد إسماعيل, والله ما قال إلا ثمانية, دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر, عن الأغر أبي مسلم وهو الكوفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف, فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم", هكذا رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت, عن علي بن الأقمر, عن الأغر مرسلاً. وحدثنا يحيى بن المعلى عن المنصور, حدثنا محمد بن الصلت, حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر, عن الأغر أبي مسلم, عن أبي هريرة وأبي سعيد, قالا: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يقرأ سورة الحجّ, أو سورة الكهف, فسكت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم".
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر, حدثنا ميمون المرئي, حدثنا ميمون بن سياه عن أنس بن مالك رضي الله(3/100)
عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه, إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات" تفرد به أحمد رحمه الله. وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد, عن أبي حازم, عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ} الآية, فخرج يتلمسهم, فوجد قوماً يذكرون الله تعالى, منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد, فلما رآهم جلس معهم وقال: "الحمد الله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم" عبد الرحمن هذا, ذكره أبو بكر ابن أبي داود في الصحابة. وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا} قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم, يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة, {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا, {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع, ولا تكن مطيعاً ولا محباً لطريقته, ولا تغبطه بما هو فيه, كما قال: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
{وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً}
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} هذا من باب التهديد والوعيد الشديد, ولهذا قال: {إِنّا أَعْتَدْنَا} أي أرصدنا {لِلظّالِمِينَ} وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي سورها. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لسرادق النار أربعة جدر, كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة" وأخرجه الترمذي في صفة النار, وابن جرير في تفسيره, من حديث دراج أبي السمح به.
وقال ابن جريج: قال ابن عباس: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قال: حائط من نار. قال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية, حدثني محمد بن حيي بن يعلى عن صفوان بن يعلى, عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البحر هو جهنم" قال: فقيل له كيف ذلك ؟ فتلا هذه الآية, أو قرأ هذه الآية {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ثم قال: "والله لا أدخلها أبداً أو ما دمت حياً لا تصيبني منها قطرة" وقوله {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ} الآية, قال ابن عباس: المهل: الماء الغليظ مثل دردي الزيت, وقال مجاهد: هو كالدم والقيح. وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حره. وقال آخرون: هو كل شيء أذيب. وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئاً من الذهب في أخدود, فلما انماع وأزبد, قال: هذا أشبه شيء بالمهل. وقال الضحاك: ماء جهنم أسود وهي سوداء وأهلها سود, وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر, فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها, فهو أسود منتن غليظ حار, ولهذا قال: {يَشْوِي الْوجُوهَ} أي من حره, إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه.
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء كالمهل - قال - كعكر الزيت فإذا قربه إليه(3/101)
سقطت فروة وجهه فيه" وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث, عن دراج به, ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين, وقد تكلم فيه من قبل حفظه هكذا, قال: وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب, عن ابن لهيعة, عن دراج, والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد: عن صفوان بن عمرو, عن عبد الله بن بسر, عن أبي أمامة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ}, قال: "يقرب إليه فيتكرهه, فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه, يقول الله تعالى: { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ} . وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا, فأغيثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها, فاجتثت جلود وجوههم, فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم, لعرف جلود وجوههم فيها, ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون, فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره, فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود, ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة {بِئْسَ الشّرَابُ} أي بئس هذا الشراب, كما قال في الآية الأخرى {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} وقال تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي حارة, كما قال تعالى: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق, كما قال في الآية الأخرى {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}.
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ نِعْمَ الثّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً}
لما ذكر تعالى حال الأشقياء, ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به, وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة, فلهم جنات عدن, والعدن: الإقامة, {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ} أي من تحت غرفهم ومنازلهم, قال فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي} الآية, {يُحَلّوْنَ} أي من الحلية {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} وقال في المكان الآخر {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وفصله ههنا, فقال {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} فالسندس ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها. وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله: {مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ} الاتكاء قيل الاضطجاع, وقيل التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد ههنا, ومنه الحديث الصحيح "أما أنا فلا آكل متكئاً", فيه القولان: والأرائك جمع أريكة, وهي السرير تحت الحجلة, والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباش خاناة, والله أعلم. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة {عَلَى الأرَآئِكِ} قال: هي الحجال, قال معمر وقال غيره: السرر في الحجال.
وقوله: {نِعْمَ الثّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أي نعمت الجنة ثواباً على أعمالهم وحسنت مرتفقاً, أي حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً, كما قال في النار {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}, ثم ذكر صفات المؤمنين, فقال {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}.
{وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا(3/102)
الْجَنّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً وَفَجّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىَ رَبّي لأجِدَنّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً}
يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين, وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم, فضرب لهم مثلاً برجلين جعل الله لأحدهما جنتين, أي بستانتين من أعناب, محفوفتين بالنخيل, المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع, وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة, ولهذا قال: {كِلْتَا الْجَنّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} أي أخرجت ثمرها, {وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً} أي ولم تنقص منه شيئاً, {وَفَجّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أي والأنهار متفرقة فيهما ههنا وههنا, {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قيل: المراد به المال, روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل: الثمار, وهو أظهر ههنا ويؤيده القراءة الأخرى {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} بضم الثاء وتسكين الميم, فيكون جمع ثمرة كخشبة وخشب. وقرأ آخرون ثمر بفتح الثاء والميم, فقال أي صاحب هاتين الجنتين لصاحبه وهو يحاوره, أي يجادله, ويخاصمه يفتخر عليه ويترأس {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً} أي أكثر خدماً وحشماً وولداً, قال قتادة: تلك والله أمنية الفاجر, كثرة المال وعزة النفر.
وقوله: {وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} أي بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكار المعاد {قَالَ مَآ أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} وذلك اغتراراً منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار, والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها, ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف, ذلك لقلة عقله, وضعف يقينه بالله, وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها, وكفره بالآخرة, ولهذا قال: {وَمَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً} أي كائنة {وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىَ رَبّي لأجِدَنّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً} أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي, ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا, كما قال في الآية الأخرى {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} وقال {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} أي في الدار الآخرة تألى على الله عز وجل. وكان سبب نزولها في العاص بن وائل, كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله, وبه الثقة وعليه التكلان.
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً لّكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسَىَ رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مّن جَنّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مّنَ السّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}
يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن, واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار {أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} الآية, وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه, وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم, ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين, كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الآية, أي كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية, كل أحد يعلمها من نفسه, فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً, ثم وجد وليس وجوده من نفسه(3/103)
ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات, لأنه بمثابته, فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه, وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء, ولهذا قال المؤمن {لّكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي} أي لكن أنا لا أقول بمقالتك بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية, {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً} أي بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال: {وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} هذا تحضيض وحث على ذلك, أي هلا إذ أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها, حمدت الله ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك, وقلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله, ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده, فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله, وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع, أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا جراح بن مخلد, حدثنا عمر بن يونس, حدثنا عيسى بن عون, حدثنا عبد الملك بن زرارة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد, فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله, فيرى فيه آفة دون الموت " وكان يتأول هذه الآية {وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ} قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة وحجاج, حدثني شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا قوة إلا بالله" تفرد به أحمد. وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" وقال الإمام أحمد: حدثنا بكر بن عيسى, حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون قال: قال أبو هريرة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش ؟" قال: قلت نعم فداك أبي وأمي. قال: "أن تقول لا قوة إلا بالله" قال أبو بلج: وأحسب أنه قال "فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم" قال فقلت لعمرو: قال أبو بلج: قال عمرو: قلت لأبي هريرة لا حول ولا قوة إلا بالله, فقال: لا إنها في سورة الكهف {وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ}.
وقوله: {فعسَىَ رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مّن جَنّتِكَ} أي في الدار الآخرة {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى {حُسْبَاناً مّنَ السّمَآءِ} قال ابن عباس والضحاك وقتادة ومالك عن الزهري: أي عذاباً من السماء, والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها, ولهذا قال: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أي بلقاً تراباً أملس لا يثبت فيه قدم, وقال ابن عباس: كالجرز الذي لا ينبت شيئاً وقوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً} أي غائراً في الأرض, وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض, فالغائر يطلب أسفلها, كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} أي جار وسائح, وقال ههنا: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فلن تستطيع له طلباً} والغور مصدر بمعنى غائر, وهو أبلغ منه, كما قال الشاعر:
تظل جياده نوحاً عليه
... تقلده أعنتها صفوفاً
بمعنى نائحات عليه.
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلّهِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ(3/104)
عُقْباً}
يقول تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بأمواله أو بثماره على القول الآخر, والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وأَلْهَته عن الله عز وجل {فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها {وَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ} أي عشيرة أو ولد, كما افتخر بهم واستعز {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلّهِ الْحَقّ} اختلف القراء ههنا فمنهم من يقف على قوله: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ} أي في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله, فلا منقذ له منه, ويبتدىء بقوله: {الْوَلاَيَةُ لِلّهِ الْحَقّ} ومنهم من يقف على {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} يبتدىء بقوله: {هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلّهِ الْحَقّ} ثم اختلفوا في قراءة الولاية, فمنهم من فتح الواو من الولاية, فيكون المعنى هنالك الموالاة لله, أي هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب, كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} وكقوله إخباراً عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ومنهم من كسر الواو من الولاية, أي هنالك الحكم لله الحق, ثم منهم من رفع الحق على أنه نعت للولاية, كقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} ومنهم من خفض القاف على أنه نعت لله عز وجل, كقوله {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} الآية, ولهذا قال تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} أي جزاء {وَخَيْرٌ عُقْباً} أي الأعمال التي تكون لله عز وجل, ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها خير.
{وَاضْرِبْ لَهُم مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقْتَدِراً الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}
يقول تعالى: {وَاضْرِبْ} يا محمد للناس {مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا} في زوالها وفنائها وانقضائها {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ} أي ما فيها من الحب, فشب وحسن, وعلاه الزهر والنور والنضرة, ثم بعد هذا كله {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} يابساً {تَذْرُوهُ الرّياحُ} أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال, {وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقْتَدِراً} أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال, وكثيراً ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل, كما قال تعالى في سورة يونس {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} الآية, وقال في الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} الآية, وقال في سورة الحديد {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الآية, وفي الحديث الصحيح "الدنيا خضرة حلوة" وقوله {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا} كقوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب} الآية, وقال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} أي الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم,(3/105)
والجمع لهم, والشفقة المفرطة عليهم, ولهذا قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}.
قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: الباقيات الصالحات الصلوات الخمس. وقال عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس: الباقيات الصالحات سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن الباقيات الصالحات ما هي ؟ فقال: هي لا إله إلا الله, وسبحان الله, والحمد لله, والله أكبر,ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, رواه الإمام أحمد, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري, حدثنا حيوة, حدثنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: جلس عثمان يوماً وجلسنا معه, فجاءه المؤذن, فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مد, فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا, ثم قال: "من توضأ وضوئي هذا, ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح: ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر, ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر, ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب, ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته, ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء, وهي الحسنات يذهبن السيئات" قالوا هذه الحسنات, فما الباقيات الصالحات يا عثمان ؟ قال لا إله إلا الله, وسبحان الله, والحمد لله والله أكبر, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, تفرد به.
وروى مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال: الباقيات الصالحات: سبحان الله والحمد لله,ولا إله إلا الله, والله أكبر, ولا حول ولا قوة إلا بالله, وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات, فقلت: الصلاة والصيام, فقال لم تصب, فقلت الزكاة والحج, فقال: لم تصب, ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله,ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن نافع بن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات. قال: لا إله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, قال ابن جريج وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد: الباقيات الصالحات: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ} قال: لا إله إلا الله, والله أكبر, والحمد لله, وسبحان الله, هن الباقيات الصالحات, قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار, عن أبي نصر التمار عن عبد العزيز بن مسلم, عن محمد بن عجلان سعيد المقبري عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, هن الباقيات الصالحات" قال: وحدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات" قيل: وما هن يا رسول الله قال "الملة" قيل: وما هي يا رسول الله ؟ قال: "التكبير, والتهليل, والتسبيح, والحمد لله, ولا حول ولا قوة إلا بالله" وهكذا رواه أحمد من حديث دراج به.
قال ابن وهب: أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي في حاجة, فقال: قل له القني عند زاوية القبر, فإن لي إليك حاجة, قال: فالتقيا فسلم أحدهما على الآخر, ثم قال سالم: ما تعد الباقيات الصالحات ؟ فقال: لا إله إلا الله والله أكبر, وسبحان الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, فقال له سالم: متى جعلت فيها لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ قال: ما زلت أجعلها, قال: فراجعه مرتين أو ثلاثاً فلم ينزع, قال: فأثبت ؟ قال سالم: أجل فأثبت, فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه(3/106)
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام, فقال: يا جبريل من هذا الذي معك ؟ فقال: محمد, فرحب بي وسهل, ثم قال: مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة, فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة, فقلت: وما غراس الجنة فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله".
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام, حدثني رجل من الأنصار من آل النعمان بن بشير, قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء, فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء, ثم قال: "أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون, فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم, فليس مني ولست منه, ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم, فهو مني وأنا منه. ألا وإن سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, هن الباقيات الصالحات".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبان, حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام, عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله, والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده - وقال - بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقناً بهن دخل الجنة: يؤمن بالله واليوم الآخر, وبالجنة والنار, وبالبعث بعد الموت, وبالحساب".
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية, قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر, فنزل منزلاً فقال لغلامه: ائتنا بالشفرة نعبث بها, فأنكرت عليه, فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه, فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك, وأسألك قلباً سليماً, وأسألك لساناً صادقاً, وأسألك من خير ما تعلم, وأعوذ بك من شر ما تعلم, وأستغفرك لما تعلم, إنك أنت علام الغيوب" ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد بنحوه.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية, حدثنا محمد بن سعد العوفي, حدثني أبي, حدثنا عمي الحسين عن يونس بن نفيع الجدلي, عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف, فخرجت من أهلي من السراة غدوة, فأتيت منى عند العصر, فتصاعدت في الجبل: ثم هبطت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فأسلمت وعلمني {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {إِذَا زُلْزِلَتِ} وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, وقال: "هن الباقيات الصالحات" وبهذا الإسناد "من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه, ثم قال سبحان الله مائة مرة, والحمد لله مائة مرة, والله أكبر مائة مرة, ولا إله إلا الله مائة مرة, غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ} قال: هي ذكر الله قول لا إله إلا الله, والله أكبر وسبحان الله, والحمد لله, وتبارك الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, وأستغفر الله, وصلى الله على رسول الله, والصيام, والصلاة, والحج, والصدقة, والعتق, والجهاد, والصلة, وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض. وقال العوفي عن ابن عباس: هي الكلام الطيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها, واختاره ابن جرير رحمه الله.
{وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُواْ عَلَىَ رَبّكَ صَفّاً لّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لّن نّجْعَلَ لَكُمْ مّوْعِداً وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ(3/107)
مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً}
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام, كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} أي تذهب من أماكنها وتزول, كما قال تعالى : {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} وقال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وقال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} يذكر تعالى أنه تذهب الجبال, وتتساوى المهاد, وتبقى الأرض قاعاً صفصفاً, أي سطحاً مستوياً لا عوج فيه ولا أمتاً, أي لا وادي ولا جبل, ولهذا قال تعالى: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد, ولا مكان يواري أحداً, بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} لا خَمَر فيها ولا غيابة قال قتادة: لا بناء ولا شجر.
وقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} وأي وجمعناهم الأولين منهم والآخرين, فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً, كما قال: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وقال: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}. وقوله: {وَعُرِضُواْ عَلَىَ رَبّكَ صَفّاً} يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداً, كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً, كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هذا تقريع للمنكرين للمعاد, وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد, ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لّن نّجْعَلَ لَكُمْ مّوْعِداً} أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم, ولا أن هذا كائن.
وقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير, والفتيل والقطمير, والصغير والكبير, {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ} أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة {وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا} أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا {مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا} أي لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر, إلا أحصاها, أي ضبطها وحفظها. وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الآية قبلها إلى سعد بن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين, نزلنا قفراً من الأرض ليس فيه شيء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا من وجد عوداً فليأت به, ومن وجد حطباً أو شيئاً فليأت به" قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذا ؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا, فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة, فإنها محصاة عليه".
وقوله: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} أي من خير وشر, كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} الآية, وقال تعالى: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي تظهر المخبآت والضمائر. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به" أخرجاه في الصحيحين, وفي لفظ "يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته, يقال هذه غدرة فلان بن فلان".
وقوله: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً} أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً, ولا يظلم أحداً من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم, ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله, ويملأ النار من الكفار وأصحاب(3/108)
المعاصي, ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين, وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم, قال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} الآية, وقال {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً - إلى قوله - حَاسِبِينَ} والآيات في هذا كثيرة وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي, عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم, فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً, فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام, فإذا عبد الله بن أنيس, فقلت للبواب: قل له جابر على الباب, فقال: ابن عبد الله ؟ قلت نعم, فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته, فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص, فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه, فقال سمعت رسول الله يقول: "يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال العباد - عراة غرلاً بهما" قلت, وما بهما ؟ قال: "ليس معهم شيء, ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك, أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه, ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة " قال: قلنا كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً بهما ؟ قال: "بالحسنات والسيئات".
وعن شعبة عن العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة" رواه عبد الله بن الإمام أحمد, وله شواهد من وجوه أخر, وقد ذكرناها عند قوله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} وعند قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
{وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً}
يقول تعالى منبهاً بني آدم على عدواة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم, ومقرعاً لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه, وهو الذي أنشأه وابتداه وبألطافه رزقه وغذاه, ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله, فقال تعالى: { وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ} أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة {اسْجُدُواْ لاَدَمَ} أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم, كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}. وقوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي خانه أصله, فإنه خلق من مارج من نار, وأصل خلق الملائكة من نور, كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلقت الملائكة من نور, وخلق إبليس من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم" , فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه, وخانه الطبع عند الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك, فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة, ونبه تعالى ههنا على أنه من الجن أي على أنه خلق من نار, كما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط, وإنه لأصل الجن, كما أن آدم عليه السلام أصل البشر, رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه.
وقال الضحاك عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن, خلقوا من نار السموم من بين الملائكة, وكان اسمه الحارث,وكان(3/109)
خازناً من خزان الجنة, وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي, قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار, وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الضحاك أيضاً عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة, وكان خازناً على الجنان, وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض, وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفاً على أهل السماء, فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله, واستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم {فاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.
قال ابن عباس قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنّ} أي من خزان الجنان, كما يقال للرجل مكي ومدني وبصري وكوفي. وقال ابن جريج عن ابن عباس نحو ذلك, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: هو من خزان الجنة, وكان يدبر أمر السماء الدنيا, رواه ابن جرير من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به. وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء الدنيا, وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل, وكان من سكان الأرض, وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً, فذلك دعاه إلى الكبر, وكان من حي يسمون جناً.
وقال ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر, أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن, وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض, فعصى, فسخط الله عليه فمسخه شيطاناً رجيماً, لعنه الله ممسوخاً, قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه, وإذا كانت في معصية فارجه, وعن سعيد بن جبير أنه قال: كان من الجنانين الذين يعملون في الجنة, وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف, وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها, والله أعلم بحال كثير منها, ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا, وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان, وقد وضع فيها أشياء كثيرة وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين, كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث, وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره, وموضوعه ومتروكه ومكذوبه, وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال, كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه, فرضي الله عنهم وأرضاهم, وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل.
وقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} أي فخرج عن طاعة الله, فإن الفسق هو الخروج, يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها, وفسقت الفأرة من جحرها إذا خرجت منه للعيث والفساد, ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه وأطاعه {أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} الآية, أي بدلاً عني, ولهذا قال: {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ - إلى قوله - أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}.
{مّآ أَشْهَدتّهُمْ خَلْقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً}
يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً, ولا أشهدتهم خلق السموات والأرض, ولا كانوا إذ ذاك موجودين, يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدي ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير, كما قال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ(3/110)
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية, ولهذا قال: {وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً} قال مالك: أعواناً.
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مّوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً}
يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ زَعَمْتُمْ} أي في دار الدنيا ادعوهم اليوم ينقذوكم مما أنتم فيه قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وقوله: {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} كما قال: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} الآية, وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} الآيتين, وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مّوْبِقاً} قال ابن عباس وقتادة وغير واحد: مهلكاً, وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وقال قتادة: موبقاً وادياً في جهنم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سنان القزاز, حدثنا عبد الصمد, حدثنا يزيد بن درهم, سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مّوْبِقاً} قال: واد في جهنم من قيح ودم, وقال الحسن البصري: موبقاً عداوة, والظاهر من السياق ههنا أنه المهلك, ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره, والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا, وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة, فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر, بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير. وأما إن جعل الضمير في قوله بينهم عائداً إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به, فهو كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} وقال {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}, وقال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}, وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ - إلى قوله - وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك فإذا رأى المجرمون النار تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها, ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم, فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز. وقوله: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها. قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة". وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة, كما لم يعمل في الدنيا, وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة".(3/111)
{وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}
يقول تعالى: ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها كيلا يضلوا عن الحق ويخرجوا عن طريق الهدى, ومع هذا البيان وهذا الفرقان الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة المعارضة للحق بالباطل إلا من هدى الله بصره لطريق النجاة. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري, أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة, فقال: "ألا تصليان ؟" فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله, فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا, فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً, ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أخرجاه في الصحيحين.
{ وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنّةُ الأوّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً}
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه, وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات, وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عياناً, كما قال أولئك لنبيهم: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وآخرون قالوا { ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وقالت قريش {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
ثم قال {إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنّةُ الأوّلِينَ} من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم, {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أي يرونه عياناً مواجهة ومقابلة, ثم قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم, ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم, ثم أخبر عن الكفار بأنهم {وَيُجَادِلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ} أي ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل, وليس ذلك بحاصل لهم, {وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً} أي اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب {هُزُواً} أي سخروا منهم في ذلك وهو أشد التكذيب.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدّمَتْ يَدَاهُ إِنّا جَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىَ الْهُدَىَ فَلَنْ يَهْتَدُوَاْ إِذاً أَبَداً وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لّهُم مّوْعِدٌ لّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ وَتِلْكَ الْقُرَىَ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مّوْعِداً}
يقول تعالى: وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها, أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً, {وَنَسِيَ مَا قَدّمَتْ يَدَاهُ} أي من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة, {إِنّا جَعَلْنَا عَلَىَ(3/112)
قُلُوبِهِمْ} أي قلوب هؤلاء {أَكِنّةً} أي أغطية وغشاوة {أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} أي صمماً معنوياً عن الرشاد {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىَ الْهُدَىَ فَلَنْ يَهْتَدُوَاْ إِذاً أَبَداً}.
وقوله: {وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ} أي ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} والآيات في هذا كثيرة شتى, ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر, وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد, ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد, وتضع كل ذات حمل حملها, ولهذا قال: {بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً} أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل. وقوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أي الأمم السالفة والقرون الخالية, أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم, {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مّوْعِداً} أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين, لا يزيد ولا ينقص, أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم, فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي, ولستم بأعز علينا منهم, فخافوا عذابي ونذري.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِفَتَاهُ لآ أَبْرَحُ حَتّىَ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قَالَ ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلَىَ آثَارِهِمَا قَصَصاً فَوَجَدَا عَبْداً مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْماً}
سبب قول موسى لفتاه وهو يوشع بن نون, هذا الكلام أنه ذكر له أن عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى, فأحب الرحيل إليه, وقال لفتاه ذلك {لآ أَبْرَحُ} أي لا أزال سائراً {حَتّىَ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين, قال الفرزدق:
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ... ببطحاء ذي قارعبات اللطائم
قال قتادة وغير واحد: هما بحر فارس مما يلي المشرق, وبحر الروم مما يلي المغرب, وقال محمد بن كعب القرظي: مجمع البحرين عند طنجة, يعني في أقصى بلاد المغرب, فالله أعلم. وقوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أي ولو أني أسير حقباً من الزمان. قال ابن جرير رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة, ثم روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: الحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون خريفاً. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} قال: دهراً, وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك.
وقوله: {فَلَمّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه, وقيل له: متى فقدت الحوت, فهو ثمة, فسارا حتى بلغا مجمع البحرين, وهناك عين يقال لها عين الحياة, فناما هنالك, وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء, فاضطرب وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام, وطفر من المكتل إلى البحر, فاستيقظ يوشع عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده, ولهذا قال تعالى: {فَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} أي مثل السرب في الأرض. قال ابن جريج: قال(3/113)
ابن عباس: صار أثره كأنه حجر. وقال العوفي عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير مكان الحوت الذي فيه, فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه, فقال: {ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِ} وقال قتادة: سرب من البحر حتى أفضى إلى البر, ثم سلك فيه فجعل لا يسلك طريقاً فيه إلا صار ماء جامداً.
وقوله: {فَلَمّا جَاوَزَا} أي المكان الذي نسيا الحوت فيه, ونسب النسيان إليهما وإن كان يوشع هو الذي نسيه, كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من المالح على أحد القولين, فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه بمرحلة {قَالَ} موسى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا} أي الذي جاوزا فيه المكان {نَصَباً} يعني تعباً {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} قال قتادة: وقرأ ابن مسعود أن أذكر كه, ولهذا قال {وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ} أي طريقه {فِي الْبَحْرِ عَجَباً قَالَ ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِ} أي هذا هو الذي نطلب {فَارْتَدّا} أي رجعا {عَلَىَ آثَارِهِمَا} أي طريقهما {قَصَصاً} أي يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما {فَوَجَدَا عَبْداً مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْماً} وهذا هو الخضر عليه السلام, كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو بن دينار, أخبرني سعيد بن جبير, قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام, ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس: كذب عدو الله, حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم ؟ قال: أنا, فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه, فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب وكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل, فحيثما فقدت الحوت فهو ثم, فأخذ حوتاً فجعله بمكتل, ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام, حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما, واضطرب الحوت في المكتل, فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا, وأمسك الله عن الحوت جرية الماء, فصار عليه مثل الطاق, فلما استيقظ, نسي صاحبه أن يخبره بالحوت, فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به, قال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} قال: فكان الحوت سرباً, ولموسى وفتاه عجباً, فقال {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة, فإذا رجل مسجى بثوب, فسلم عليه موسى فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام. فقال: أنا موسى. فقال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة, فكلموهم أن يحملوهم, فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول, فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم, فقال له موسى: قد حملونا بغير نول, فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئاً إمراً {قَالَ أَلَمْ(3/114)
أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ؟قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله - فكانت الأولى من موسى نسياناً, قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة, فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان, فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله, فقال له موسى {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} قال: وهذه أشد من الأولى, {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً, فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي مائلاً, فقال الخضر بيده {فَأَقَامَهُ} فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً, قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما" قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً} وكان يقرأ {وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين}.
ثم رواه البخاري عن قتيبة عن سفيان بن عيينة فذكر نحوه, وفيه: فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت, حتى انتهيا إلى الصخرة, فنزلا عندها, قال: فوضع موسى رأسه فنام, قال سفيان: وفي حديث عن عمر قال: وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من ماء تلك العين, فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر, فلما استيقظ قال موسى لفتاه {آتِنَا غَدَاءَنَا} قال: وساق الحديث, ووقع عصفور على حرف السفينة, فغمس منقاره في البحر, فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه.
وقال البخاري أيضاً: حدثنا إبراهيم بن موسى, حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير, يزيد أحدهما على صاحبه, وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته, إذ قال سلوني, فقلت: أي أبا عباس جعلني الله فداك, بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل, أما عمرو فقال لي قال: كذب عدو الله وأما يعلى فقال لي قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موسى رسول الله ذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى, فأدركه رجل فقال: أي رسول الله هل في الأرض أعلم منك ؟ قال: لا, فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله, قيل: بلى, قال أي رب, وأين ؟ قال: بمجمع البحرين, قال: أي رب اجعل لي علماً أعلم ذلك به. قال لي عمرو: قال حيث يفارقك الحوت, وقال لي يعلى: خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح, فأخذ حوتاً فجعله في مكتل فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت, قال: ما كلفت كبيراً, فذلك قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يوشع بن نون ليست عند سعيد بن جبير, قال: فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ يضرب الحوت وموسى نائم, فقال فتاه, لا أوقظه, حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره, ويضرب الحوت حتى دخل في البحر فأمسك الله عنه جرية الماء حتى كأن أثره في حجر, قال: فقال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر, وحلق بين إبهاميه واللتين تليهما, قال: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} قال: وقد قطع الله عنك النصب, ليست هذه عند سعيد بن جبير, أخبره فرجعا فوجدا خضراً قال: قال عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر, قال سعيد بن جبير: مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه عند رأسه, فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه,(3/115)
وقال: هل بأرضي من سلام ؟ من أنت ؟ قال: أنا موسى, قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم, قال: فما شأنك ؟ قال: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً, قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك يا موسى, إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه, وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه, فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال: والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر, حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر, عرفوه فقالوا: عبد الله الصالح, قال: فقلنا لسعيد بن جبير خضر, قال: نعم لا نحمله بأجر, فخرقها ووتد فيها وتداً, قال موسى {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} قال مجاهد: منكراً, {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} كانت الأولى نسياناً, والثانية شرطاً, والثالثة عمداً, {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً, فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ}, قال يعلى: قال سعيد: وجد غلماناً يلعبون, فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين, فقال أقتلت نفساً زكية لم تعمل الحنث ؟ وابن عباس قرأها زكية مسلمة كقولك غلاماً زكياً, فانطلقا فوجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه, قال سعيد: بيده هكذا ودفع بيده فاستقام, قال: لو شئت لاتخذت عليه أجراً, قال يعلى: حسبت أن سعيداً قال: فمسحه بيده فاستقام, قال: لو شئت لاتخذت عليه أجراً, قال سعيد: أجراً نأكله, وكان وراءهم ملك, وكان أمامهم, قرأها ابن عباس: أمامهم ملك يزعمون, عن غير سعيد, أنه هدد بن بدد, والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور ملك يأخذ كل سفينة غصباً, فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها, فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها, منهم من يقول سدوها بقارورة, ومنهم من يقول بالقار, كان أبواه مؤمنين, وكان هو كافراً, فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه, فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة, كقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً}, وقوله: {وَأَقْرَبَ رُحْماً} هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر, وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية, وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد: إنها جارية.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: خطب موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني, فأمر أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان, والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة, عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب, فقال بعضهم: يا أبا العباس إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا, قال سعيد: فقال ابن عباس: أنوف يقول هذا يا سعيد ؟ فقلت له: نعم أنا سمعت نوفاً يقول ذلك, قال: أنت سمعته يا سعيد ؟ قال: نعم, قال: كذب نوف.
ثم قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه, فقال: أي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه, فقال له: نعم في عبادي من هو أعلم منك, ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه, فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت مليح, قد قيل له: إذا حيي هذا الحوت في مكان, فصاحبك هنالك وقد أدركت حاجتك, فخرج موسى ومعه فتاه ومعه ذلك الحوت يحملانه, فسار حتى جهده السير وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء, وذلك الماء ماء الحياة, من شرب منه خلد ولا يقارنه شيء ميت إلا حيي, فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي, فاتخذ سبيله في البحر سربا, فانطلقا فلما جاوزا النقلة قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا, قال الفتى وذكر: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة, فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره, واتخذ سبيله في البحر عجبا, قال ابن عباس فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها, فإذا رجل متلفف في كساء(3/116)
له, فسلم موسى عليه فرد عليه السلام, ثم قال له: ما جاء بك إن كان لك في قومك لشغل ؟ قال له موسى: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً. قال: إنك لن تستطيع معي صبرا, وكان رجلاً يعلم علم الغيب, قد علم ذلك, فقال موسى: بلى. قال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل, ولم تحط من علم الغيب بما أعلم {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} وإن رأيت ما يخالفني, قال: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} وإن أنكرته {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس يلتمسان من يحملهما, حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن شيء أحسن, ولا أجمل ولا أوثق منها, فسأل أهلها أن يحملوهما فحملوهما, فلما أطمأنا فيها ولجت بهما مع أهلها, أخرج منقاراً له ومطرقة, ثم عمد إلى ناحية فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها, ثم أخذ لوحاً فطبقه عليها, ثم جلس عليها يرقعها, فقال له موسى ورأى أمراً أفظع به {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أي بما تركت من عهدك {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} ثم خرجا من السفينة, فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية, فإذا غلمان يلعبون خلفها, فيهم غلام ليس في الغلمان أظرف منه, ولا أثرى ولا أوضأ منه فأخذه بيده وأخذ حجراً فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله, قال: فرأى موسى أمراً فظيعاً لا صبر عليه, صبي صغير قتله لا ذنب له, قال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} أي صغيرة {بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} أي قد أعذرت في شأني {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فهدمه ثم قعد يبنيه, فضجر موسى مما يراه يصنع من التكليف وما ليس له عليه صبر فأقامه, قال: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا وضفناهم فلم يضيفونا, ثم قعدت تعمل من غير صنيعة, ولو شئت لأعطيت عليه أجراً في عمله, قال: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وفي قراءة ابن كعب {كل سفينة صالحة} وإنما عبتها لأرده عنها, فسلمت منه حين رأى العيب الذي صنعت بها, {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً, فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}. {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي ما فعلته عن نفسي {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} فكان ابن عباس يقول: ما كان الكنز إلا علماً, وقال عوفي عن ابن عباس قالا: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر, فلما استقرت بهم الدار أنزل الله أن ذكرهم بأيام الله, فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة, وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون, وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض, وقال: كلم الله نبيكم تكليماً واصطفاني لنفسه, وأنزل عليّ محبة منه, وآتاكم الله من كل ما سألتموه, فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤون التوراة, فلم يترك نعمة أنعم الله عليهم إلا وعرفهم إياها, فقال له رجل من بني إسرائيل: هم كذلك يا نبي الله قد عرفنا الذي تقول: فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال: لا. فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله يقول: وما يدريك أين أضع علمي, بلى إن لي على شط البحر رجلاً هو أعلم منك. قال ابن عباس: هو الخضر, فسأل موسى ربه أن يريه إياه, فأوحى إليه أن ائت البحر, فإنك تجد على شط(3/117)
البحر حوتاً, فخذه فادفعه إلى فتاك ثم الزم شاطىء البحر, فإذا نسيت الحوت وهلك منك, فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه سأل فتاه عن الحوت, فقال له فتاه وهو غلامه { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} لك, قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سرباً فأعجب من ذلك, فرجع موسى حتى أتى الصخرة, فوجد الحوت, فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى, وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت, وجعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس عنه الماء حتى يكون صخرة, فجعل نبي الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر فلقي الخضر بها, فسلم عليه فقال الخضر: وعليك السلام, وأنى يكون السلام بهذه الأرض, ومن أنت ؟ قال: أنا موسى, قال الخضر: صاحب بني إسرائيل ؟ قال: نعم, فرحب به وقال: ما جاء بك ؟ قال جئتك {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} يقول: لا تطيق ذلك, قال: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} قال: فانطلق به, وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين شأنه, فذلك قوله: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}.
وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس: هو الخضر, فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه, فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل, فقال: تعلم مكان رجل أعلم منك ؟ قال: لا, فأوحى الله إلى موسى, بلى عبدنا خضر, فسأل موسى السبيل إلى لقيه, فجعل الله له الحوت آية, وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه, فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر, فقال فتى موسى لموسى: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة, فإني نسيت الحوت, قال موسى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} فوجدا عبدنا خضر, فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه.
{قَالَ لَهُ مُوسَىَ هَلْ أَتّبِعُكَ عَلَىَ أَن تُعَلّمَنِ مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}
يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام لذلك الرجل العالم وهو الخضر, الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى, كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر {قَالَ لَهُ مُوسَىَ هَلْ أَتّبِعُكَ} سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار, وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. وقوله: {أَتّبِعُكَ} أي أصحبك وأرافقك {عَلَىَ أَن تُعَلّمَنِ مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً} أي مما علمك الله شيئاً أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح, فعندها {قَالَ} الخضر لموسى {إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك, لأني على علم من علم الله ما علمكه الله, وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله, فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه, وأنت لا تقدر على صحبتي {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه, ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك {قَالَ} أي موسى {سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ(3/118)
صَابِراً} أي على ما أرى من أمورك {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} أي ولا أخالفك في شيء فعند ذلك شاطره الخضر عليه السلام {قَالَ فَإِنِ اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} أي ابتداءً {حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قال ابن جرير: حدثنا حميد بن جبير, حدثنا يعقوب عن هارون بن عنترة عن أبيه, عن ابن عباس قال: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل فقال: أي رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى ؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: أي رب أي عبادك أعلم ؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى, قال: أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني ؟ قال: نعم قال: فمن هو ؟ قال: الخضر. قال: وأين أطلبه ؟ قال: على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت. قال: فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله, وانتهى موسى إليه عند الصخرة, فسلم كل واحد منهما على صاحبه, فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك, قال: إنك لن تطيق صحبتي قال: بلى. قال: فإن صحبتني {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} قال: فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحرين, وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه, قال: وبعث الله الخطاف, فجعل يستقي منه بمنقاره, فقال لموسى: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء ؟ قال: ما أقل ما رزأ. قال: يا موسى, فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء, وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به, فمن ثم أمر أن يأتي الخضر, وذكر تمام الحديث في خرق السفينة, وقتل الغلام, وإصلاح الجدار, وتفسيره له ذلك.
{فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}
يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه وهو الخضر, أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا, واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه, فركبا في السفينة, وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة, وأنهم عرفوا الخضر, فحملوهما بغير نول, يعني بغير أجرة, تكرمة للخضر, فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت, أي دخلت اللجة, قام الخضر فخرقها, واستخرج لوحاً من ألواحها ثم رقعها, فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكراً عليه {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل, كما قال الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} قال مجاهد: منكراً. وقال قتادة: عجباً, فعندها قال له الخضر مذكراً بما تقدم من الشرط {أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} يعني وهذا الصنيع فعلته قصداً, وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر علي فيها, لأنك لم تحط بها خبراً ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت {قَالَ} أي موسى {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} أي لا تضيق علي ولا تشدد علي, ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كانت الأولى من موسى نسياناً".
{فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نّكْراً قَالَ أَلَمْ(3/119)
أَقُلْ لّكَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لّدُنّي عُذْراً}
يقول تعالى: {فَانْطَلَقَا} أي بعد ذلك {حَتّىَ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ} وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى, وأنه عمد إليه من بينهم, وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فقتله, وروي أنه احتز رأسه, وقيل رضخه بحجر, وفي رواية اقتلعه بيده, والله أعلم, فلما شاهد موسى عليه السلام هذا, أنكره أشد من الأول, وبادر فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيّةً} أي صغيرة لم تعمل الحنث ولا عملت إثماً بعد فقتلته {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير مستند لقتله {لقد جئت شيئاً نكراً} أي ظاهر النكارة {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فأكد أيضاً في التذكار بالشرط الأول, فلهذا قال له موسى: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا} أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة {فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لّدُنّي عُذْراً} أي أعذرت إليّ مرة بعد مرة, قال ابن جرير: حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثنا حجاج بن محمد عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, عن أبي بن كعب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه, فقال ذات يوم: "رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب, ولكنه قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا".
{فَانطَلَقَا حَتّىَ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عّلَيْهِ صَبْراً}
يقول تعالى مخبراً عنهما إنهما {انطلقا} بعد المرتين الأوليين {حَتّىَ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ} روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة, وفي الحديث "حتى إذا أتيا أهل قرية لئاماً" أي بخلاء {اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ} إسناد الإرادة ههنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة, فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل, والانقضاض هو السقوط. وقوله: {فَأَقَامَهُ} أي فرده إلى حالة الاستقامة, وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله, وهذا خارق, فعند ذلك قال موسى له {لَوْ شِئْتَ لاَتّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لأجل أنهم لم يضيفونا, كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجاناً { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها, فلا تصاحبني فهو فراق بيني وبينك {سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أي بتفسير {مَا لَمْ تَسْتَطِع عّلَيْهِ صَبْراً}.
{أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مّلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْباً}
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام, وما كان أنكر ظاهره, وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة, فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة {يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ} صالحة أي جيدة {غَصْباً} فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها, فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها, وقد قيل إنهم أيتام, وروى ابن جريج عن وهب بن(3/120)
سليمان, عن شعيب الجبائي أن اسم الملك هدد بن بدد, وقد تقدم أيضاً في رواية البخاري, وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوارة, والله أعلم.
{وَأَمّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جيسور. وفي هذا الحديث عن ابن عباس عن أبي بن كعب, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً" رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق عن سعيد عن ابن عباس به, ولهذا قال: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر, قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد, وحزنا عليه حين قتل, ولو بقي لكان فيه هلاكهما, فليرض امرؤ بقضاء الله, فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب, وصح في الحديث "لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له" وقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وقوله {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أي ولداً أزكى من هذا, وهما أرحم به منه, قاله ابن جريج. وقال قتادة: أبرّ بوالديه, وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل: لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم, قاله ابن جريج.
{وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً}
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة, لأنه قال أولاً {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} وقال ههنا {فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعني مكة والطائف, ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة, وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة وقتادة وغير واحد: وكان تحته مال مدفون لهما, وهو ظاهر السياق من الآية, وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم, وكذا قال سعيد بن جبير, وقال مجاهد: صحف فيها علم, وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا بشر بن المنذر, حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس الغاني, عن ابن حجيرة عن أبي ذر رفعه قال: "إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت, مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب, وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك, وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل, لا إله إلا الله محمد رسول الله". وبشر بن المنذر هذا يقال له قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي في حديثه وهم, وقد روي في هذا آثار عن السلف, فقال ابن جرير في تفسيره: حدثني يعقوب, حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة, حدثنا سلمة عن نعيم العنبري وكان من جلساء الحسن قال: سمعت الحسن يعني البصري يقول في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا} قال لوح من ذهب مكتوب فيه:(3/121)
بسم الله الرحمن الرحيم, عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن, وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح, وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها, لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وحدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عبد الله بن عياش عن عمر مولى غفرة قال: إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا} قال: كان لوحاً من ذهب مصمت, مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم, عجب لمن عرف النار ثم ضحك, عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب, عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وحدثني أحمد بن حازم الغفاري, حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا} قال سطران ونصف لم يتم الثالث: عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب, وعجبت للمؤمن بالحساب كيف يغفل, وعجبت للمؤمن بالموت كيف يفرح. وقد قال الله {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} قالت: وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما, ولم يذكر منهما صلاح, وكانت بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء, وكان نساجاً, وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة وورد به الحديث المتقدم, وإن صح لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالاً, لأنهم ذكروا أنه كان لوحاً من ذهب, وفيه مال جزيل أكثر ما زادوا أنه كان مودعاً فيه علم, وهو حكم ومواعظ, والله أعلم.
وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم, ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة, لتقر عينه بهم, كما جاء في القرآن ووردت به السنة. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما, ولم يذكر لهما صلاحاً, وتقدم أنه كان الأب السابق, فالله أعلم. وقوله: {فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} ههنا أسند الإرادة إلى الله تعالى, لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله, وقال في الغلام {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً} وقال في السفينة {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فالله أعلم.
وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة, إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة, ووالدي الغلام وولدي الرجل الصالح, وما فعلته عن أمري أي لكني أمرت به ووقفت عليه, وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} وقال آخرون: كان رسولاً. وقيل: بل كان ملكاً, نقله الماوردي في تفسيره, وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً, بل كان ولياً, فالله أعلم.
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام, قالوا: وكان يكنى أبا العباس, ويلقب بالخضر, وكان من أبناء الملوك, ذكره النووي في تهذيب الأسماء, وحكى هو وغيره في كونه باقياً إلى الآن, ثم إلى يوم القيامة قولين, ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه, وذكروا في ذلك حكايات وآثاراً عن السلف وغيرهم, وجاء ذكره في بعض الأحاديث, ولا يصح شيء من ذلك, وأشهرها حديث التعزية, وإسناده ضعيف, ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك, واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" وبأنه لم ينقل أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه, ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع الثقلين: الجن والإنس, وقد قال: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي"(3/122)
وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف, إلى غير ذلك من الدلائل.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخضر قال: "إنما سمي خضراً لأنه جلس على فروة بيضاء, فإذ هي تهتز من تحته خضراء" ورواه أيضاً عن عبد الرزاق, وقد ثبت أيضاً في صحيح البخاري عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة, فإذا هي تهتز من تحته خضراء" والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس وهو الهشيم من النبات, قاله عبد الزراق. وقيل: المراد بذلك وجه الأرض. وقوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً, ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء, ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال {تَسْطِعْ} وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً, فقال {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} , فقابل الأثقل بالأثقل, والأخف بالأخف, كما قال: {فما اسطاعوا أن يظهروه} وهو الصعود إلى أعلاه {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} وهو أشق من ذلك, فقابل كلاً بما يناسبه لفظاً ومعنى, والله أعلم.
فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك ؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما, وفتى موسى معه تبع, وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون, وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام, هذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال: حدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة: حدثني ابن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن أبيه عن عكرمة قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث, وقد كان معه ؟ قال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى, قال: شرب الفتى من الماء فخلد, فأخذه العالم فطابق به سفينة, ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة, وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب, إسناده ضعيف, والحسن متروك, وأبوه غير معروف.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً}
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَيَسْأَلُونَكَ} يا محمد {عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} أي عن خبره وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض, وعن فتية لا يدرى ما صنعوا, وعن الروح, فنزلت سورة الكهف, وقد أورد ابن جرير ههنا والأموي في مغازيه حديثاً أسنده, وهو ضعيف, عن عقبة بن عامر أن نفراً من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين, فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء, فكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم, وأنه بنى الاسكندرية, وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى السد, ورأى أقواماً وجوههم مثل وجه الكلاب, وفيه طول ونكارة, ورفعه لا يصح, وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل.
والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره, ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة, وذلك غريب منه, وفيه من النكارة أنه من الروم, وإنما الذي كان من الروم الاسكندر الثاني, وهو ابن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ به الروم, فأما الأول فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به واتبعه, وكان(3/123)
وزيره الخضر عليه السلام, وأما الثاني فهو اسكندر بن فيلبس المقدوني اليوناني, وكان وزيره ارسطاطاليس الفيلسوف المشهور. والله أعلم. وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة الروم, وقد كان قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة, فأما الأول المذكور في القرآن, فكان في زمن الخليل, كما ذكره الأزرقي وغيره, وأنه طاف مع الخليل عليه السلام بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليه السلام, وقرب إلى الله قرباناً, وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية, ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه: كان ملكا, وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس, قال: وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين. فقال: كان عبداً ناصحاً لله, فناصحه, دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه, فمات, فأحياه الله, فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات, فسمي ذا القرنين, وكذا رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع علياً يقول ذلك. ويقال: إنه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب.
وقوله: {إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الأرْضِ} أي أعطيناه ملكاً عظيماً ممكناً فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات, ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض, ودانت له البلاد, وخضعت له ملوك العباد, وخدمته الأمم من العرب والعجم, ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها. وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم: يعني علماً. وقال قتادة أيضاً في قوله {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً} قال: منازل الأرض وأعلامها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً} قال: تعليم الألسنة, قال: كان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم, وقال ابن لهيعة, حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله تعالى قال: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً} وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب, والحق مع معاوية في ذلك الإنكار, فإن معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب, يعني فيما ينقله, لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه, ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق, ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء منها بالكلية, فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً} واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق, فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك, ولا إلى الترقي في أسباب السموات, وقد قال الله في حق بلقيس {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أنه مما يؤتى مثلها من الملوك, وهكذا ذو القرنين, يسر الله له الأسباب, أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي, وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض وإذلال أهل الشرك قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سبباً والله أعلم. وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حمار قال: كنت عند علي رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب ؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد.
{فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَذَا(3/124)
الْقَرْنَيْنِ إِمّآ أَن تُعَذّبَ وَإِمّآ أَن تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمّ يُرَدّ إِلَىَ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نّكْراً وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىَ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}
قال ابن عباس {فَأَتْبَعَ سَبَباً} يعني بالسبب المنزل, وقال مجاهد {فَأَتْبَعَ سَبَباً} منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب, وفي رواية عن مجاهد {سبباً} قال: طريقاً في الأرض وقال قتادة: أي اتبع منازل الأرض ومعالمها, وقال الضحاك {فَأَتْبَعَ سَبَباً} أي المنازل, وقال سعيد بن جبير في قوله: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} قال: علماً, وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى والسدي, وقال مطر: معالم وآثار كانت قبل ذلك.
وقوله: {حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ} أي فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض, وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر, وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة, والشمس تغرب من ورائه, فشيء لا حقيقة له, وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاف زنادقتهم وكذبهم, وقوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط, وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه, والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين, كما قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} أي طين أملس, وقد تقدم بيانه.
وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أنبأنا نافع بن أبي نعيم, سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عباس يقول في عين حمئة ثم فسرها ذات حمئة, قال نافع: وسئل عنها كعب الأحبار, فقال: أنتم أعلم بالقرآن مني, ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء, وكذا روى غير واحد عن ابن عباس, وبه قال مجاهد وغير واحد. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن دينار عن سعد بن أوس عن مصدع, عن ابن عباس عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه حمئة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وجدها تغرب في عين حامية, يعني حارة, وكذا قال الحسن البصري. وقال ابن جرير: والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارىء فهو مصيب, قلت: ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل, وحمئة في ماء وطين أسود, كما قال كعب الأحبار وغيره.
وقال ابن جرير حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام حدثني مولى لعبد الله بن عمرو عن عبد الله قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال: "في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض" قلت ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ولعله من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك والله أعلم, وقال ابن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا محمد يعني ابن بشر حدثنا عمرو بن ميمون أنبأنا ابن حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف {تغرب في عين حامية} قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا حمئة, فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها ؟ فقال: عبد الله كما قرأتها, قال ابن عباس فقلت لمعاوية في بيتي نزل القرآن, فأرسل إلى كعب فقال له أين تجد الشمس تغرب في التوراة ؟ فقال له كعب سل أهل العربية فإنهم أعلم بها, وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب قال ابن حاضر: لو أني عندك أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة, قال ابن عباس: وإذاً ما هو ؟ قلت: فيما يؤثر(3/125)
من قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه:
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب ؟ قلت: الطين بكلامهم, قال: فما الثأط ؟ قلت: الحمأة, قال: فما الحرمد ؟ قلت: الأسود, قال: فدعا ابن عباس رجلاً أو غلاماً فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل وقال سعيد بن جبير بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قال: كعب والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحداً يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس فإنا نجدها في التوراة تغرب في مدرة سوداء, وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف قال في تفسير ابن جريج {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً} قال مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب, وقوله: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً} أي أمّة من الأمم ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم وقوله: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} معنى هذا أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم وأظفره بهم وخيّره إن شاء قتل وسبى وإن شاء منّ أوفدى فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه في قوله: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أي استمر على كفره وشركه بربه {فسوف نعذبه} قال قتادة بالقتل وقال السدي كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا وقال وهب بن منبه كان يسلط الظلمة فتدخل أجوافهم وبيوتهم وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم, وقوله: {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً} أي شديداً بليغاً وجيعاً أليماً وفي هذا إثبات المعاد والجزاء. وقوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أي اتبعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} أي في الدار الآخرة عند الله عز وجل {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} قال مجاهد معروفاً.
{ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىَ قَوْمٍ لّمْ نَجْعَل لّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}
يقول تعالى ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الأقاليم المتاخمة لهم, وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وتسعمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال تعالى {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىَ قَوْمٍ} أي أمة {لّمْ نَجْعَل لّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً } أي ليس لهم بناء يكنهم ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس, وقال سعيد بن جبير كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران أكثر معيشتهم من السمك.
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سهل بن أبي الصلت سمعت الحسن وسأل عن قول الله تعالى {لّمْ نَجْعَل لّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً} قال إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم قال الحسن هذا حديث سمرة, وقال قتادة ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروفهم ومعايشهم. وعن سلمة بن كهيل أنه قال: ليست لهم أكنان إذا طلعت الشمس طلعت عليهم فلأحدهم أذنان يفرش إحداهما ويلبس الأخرى. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وَجَدَهَا(3/126)
تَطْلُعُ عَلَىَ قَوْمٍ لّمْ نَجْعَل لّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً} قال هم الزنج, وقال ابن جرير في قوله: { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىَ قَوْمٍ لّمْ نَجْعَل لّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً} قال لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس أو دخلوا البحر وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل. جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها, قالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس ما هذه العظام ؟ قالوا: هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ههنا... فماتوا, قال: فذهبوا هاربين في الأرض وقوله: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} قال مجاهد والسدي: علماً أي نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض فإنه تعالى {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}.
{ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ يَذَا الْقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىَ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتّىَ إِذَا سَاوَىَ بَيْنَ الصّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتّىَ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيَ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}
يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين {ثُمّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيها فساداً ويهلكون الحرث والنسل, ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في الصحيحين "إن الله تعالى يقول: يا آدم فيقول لبيك وسعديك فيقول: ابعث بعث النار فيقول: وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة, فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها فقال إن فيكم أمّتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج" وقد حكى النووي رحمه الله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب فخلقوا من ذلك, فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من حواء وهذا قول غريب جداً لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل ولا يجوز الاعتماد ههنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب لما عندهم من الأحاديث المفتعلة والله أعلم.
وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب وحام أبو السودان, ويافث أبو الترك" قال بعض العلماء هؤلاء من نسل يافث أبو الترك, وقال إنما سمي هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة وإلا فهم أقرباء أولئك ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة, وقد ذكر ابن جرير ههنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها والله أعلم. وقوله: {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس {قَالُواْ يَذَا الْقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} قال ابن جريج(3/127)
عن عطاء عن ابن عباس أجراً عظيماً يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا لهم من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سداً فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير {مَا مَكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ} أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان عليه السلام {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} الآية وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} والزبر جمع زبرة وهي القطعة منه قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه {حَتّىَ إِذَا سَاوَىَ بَيْنَ الصّدَفَيْنِ} أي وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال {قَالَ انفُخُواْ} أي أجج عليه النار حتى صار كله ناراً {قَالَ آتُونِيَ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي هو النحاس زاد بعضهم المذاب ويستشهد بقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} ولهذا يشبه بالبرد المحبر. قال ابن جرير: حدثنا بشر عن يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: "انعته لي" قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال: "قد رأيته" هذا حديث مرسل. وقد بعث الخليفة الواثق في دولته أحد أمرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا فتوصلوا من هناك إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيماً وعليه أقفال عظيمة ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك, وأن عنده حرساً من الملوك المتاخمة له وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالاً وعجائب. ثم قال الله تعالى.
{فَمَا اسْطَاعُوَاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً}
يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلاً بما يناسبه فقال {فَمَا اسْطَاعُوَاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً} وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله فيعودون إليه كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فيقتلهم بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم" ورواه أحمد أيضاً عن حسن هو ابن موسى الأشهب عن سفيان عن قتادة به وكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن(3/128)
مروان عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: حدث أبو رافع وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة ثم قال غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه وإسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون غداً نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون فذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غداً نفتحه ويلهمون أن يقولوا إن شاء الله فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه وهذا متجه ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه كان كثيراً ما كان يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه والله أعلم.
ويؤيد ما قلناه من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه ومن نكارة هذا المرفوع قول الإمام أحمد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمى عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها أم حبيبة عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قال سفيان أربع نسوة - قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا" وحل قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث" هذا حديث صحيح اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث الزهري ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة وأثبتها مسلم وفيه أشياء عزيزة قليلة نادرة الوقوع في صناعة الإسناد منها رواية الزهري عن عروة وهما تابعيان ومنها اجتماع أربع نسوة في سنده كلهن يروي بعضهم عن بعض ثم كل منهن صحابية ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان رضي الله عنهن.
قد رُوي نحو هذا عن أبي هريرة أيضاً, فقال البزار: حدثنا محمد بن مرزوق, حدثنا مؤمل بن إسماعيل, حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فتح اليوم من ردم يأجوج ومأموج مثل هذا" وعقد التسعين, وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب به, وقوله: {قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي لما بناه ذو القرنين {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلاً يمنعهم من العيث في الأرض والفساد, {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي إذا اقترب الوعد الحق {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي ساواه بالأرض, تقول العرب: ناقة دكاء إذا كان ظهرها مستوياً لا سنام لها, وقال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} أي مساوياً للأرض.
وقال عكرمة في قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قال: طريقاً كما كان, {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} أي كائناً لا محالة. وقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} أي الناس يومئذ, أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم, وهكذا قال السدي في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: ذاك حين يخرجون على الناس, وهذا كله قبل القيامة وبعد الدجال, كما سيأتي بيانه عند قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الآية, وهكذا قال ههنا {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: هذا أول القيامة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} على أثر ذلك {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} وقال آخرون: بل المراد بقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
وروى ابن جرير عن محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة, عن شيخ من بني فزارة في قوله {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}(3/129)
قال: إذا ماج الإنس والجن قال إبليس: أنا أعلم لكم علم هذا الأمر, فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض, ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض, فيقول: ما من محيص, ثم يظعن يميناً وشمالاً إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض فيقول ما من محيص, فبينما هو كذلك إذ عرض له طريق كالشراك فأخذ عليه هو وذريته, فبينما هم عليه إذ هجموا على النار, فأخرج الله خازناً من خزان النار, فقال: يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك, ألم تكن في الجنان ؟ فيقول: ليس هذا يوم عتاب, لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه, فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة, فيقول: ما هي ؟ فيقول يأمرك أن تدخل النار فيتلكأ عليه, فيقول: به وبذريته بجناحيه, فيقذفهم في النار, فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثى لركبتيه, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به, ثم رواه من وجه آخر عن يعقوب عن هارون عن عنترة, عن أبيه عن ابن عباس {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: الإنس والجن يموج بعضهم في بعض.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني, حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات, حدثنا أبو داود الطيالسي, حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر, عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم, ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم, ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً, وإن من ورائهم ثلاث أمم: تأويل وتايس ومنسك" هذا حديث غريب, بل منكر ضعيف.
وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبيه, عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعاً "إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا, وشجر يلقحون كما شاءوا, ولا يموت رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً". وقوله: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} والصور كما جاء في الحديث: " قرن ينفخ فيه", والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام, كما تقدم في الحديث بطوله, والأحاديث فيه كثيرة, وفي الحديث عن عطية عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعاً "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته واستمع متى يؤمر ؟" قالوا: كيف نقول ؟ قال: "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا". وقوله: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} أي أحضرنا الجميع للحساب {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}.
{وَعَرَضْنَا جَهَنّمَ يَوْمَئِذٍ لّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَفَحَسِبَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن يَتّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيَ أَوْلِيَآءَ إِنّآ أَعْتَدْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً}
يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم, أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها, ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهمّ والحزن لهم. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك" ثم قال مخبراً عنهم {الّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق, كما قال: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقال ههنا: {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي لا يعقلون عن الله أمره ونهيه, ثم قال: {أَفَحَسِبَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن يَتّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيَ أَوْلِيَآءَ} أي اعتقدوا أنهم يصلح لهم ذلك وينتفعون به {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلاً.(3/130)
{قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُوْلَئِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً}
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عمرو عن مصعب قال: سألت أبي يعني سعد بن أبي وقاص عن قول الله: {قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً} أهم الحرورية ؟ قال: لا هم اليهود والنصارى, أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم, وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالو: لا طعام فيها ولا شراب, والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه, فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين, وقال علي بن أبي طالب والضحاك وغير واحد: هم الحرورية, ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم, لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء, بل هي أعم من هذا, فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية, وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها, وأن عمله مقبول وهو مخطىء وعمله مردود, كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم} أي نخبركم {بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ثم فسرهم, فقال {الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا} أي عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} أي يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون.
وقوله {أُوْلَئِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ} أي جحدوا آيات الله في الدنيا وبراهينه التي أقام على وحدانيته وصدق رسله, وكذبوا بالدار الآخرة {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير. قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله, حدثنا سعيد بن أبي مريم, أخبرنا المغيرة, حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة - وقال - اقرءوا إن شئتم {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}". وعن يحيى بن بكير عن مغيرة بن عبد الرحمن, عن أبي الزناد مثله, هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقاً, وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق عن يحيى بن بكير به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم, فيوزن بحبة فلا يزنها" قال وقرأ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي الصلت عن أبي الزناد, عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعاً, فذكره بلفظ البخاري سواء. وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا العباس بن محمد, حدثنا عون بن عمارة, حدثنا هشيم بن حسان عن واصل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له, فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً" ثم قال: تفرد به واصل مولى أبي عنبسة, وعون بن عمارة وليس بالحافظ ولم يتابع عليه.
وقد قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان(3/131)
عن الأعمش عن شمر عن أبي يحيى, عن كعب قال: يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل, فلا يزن عند الله جناح بعوضة, اقرءوا {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}. وقوله: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنّمُ بِمَا كَفَرُواْ} أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزواً, استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب.
{إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}
يخبر تعالى عن عباده السعداء وهم الذين آمنوا بالله ورسوله, وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به, أن لهم جنات الفردوس, قال مجاهد: الفردوس هو البستان بالرومية. وقال كعب والسدي والضحاك: هو البستان الذي فيه شجر الأعناب, وقال أبو أمامة: الفردوس سرة الجنة, وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها, وقد روي هذا مرفوعاً من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها". وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعاً وروي عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعاً بنحوه روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله, وفي الصحيحين "إذا سألتم الله الجنة, فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة, ومنه تفجر أنهار الجنة" . وقوله تعالى: {نُزُلاً} أي ضيافة, فإن النزل الضيافة. وقوله { خَالِدِينَ فِيهَا} أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبداً {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي لا يختارون عنها غيرها ولا يحبون سواها, كما قال الشاعر:
فحلت سويدا القلب لا أنا باغياً ... سواها ولا عن حبها أتحول
وفي قوله: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها, مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله, فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً.
{قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}
يقول تعالى: قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه, لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} أي بمثل البحر آخر, ثم آخر وهلم جراً بحور تمده ويكتب بها, لما نفدت كلمات الله, كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها, وقد أنزل الله ذلك {قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي} يقول لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات الله, والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام, وفني ماء البحر, وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء, لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني نفسه, إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول, إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.
{قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا}(3/132)
روى الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش, عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان قال: هذه آخر آية أنزلت, يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه {قُلْ} لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم {إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به, فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر, ولولا ما أطلعني الله عليه, وإنما أخبركم {أَنّمَآ إِلَهُكُمْ} الذي أدعوكم إلى عبادته {إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا شريك له {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ} أي ثوابه وجزاءه الصالح {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} أي ما كان موافقاً لشرع الله {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له, وهذان ركنا العمل المتقبل, لابد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال: قال رجل يا رسول الله إني أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد. وقال الأعمش: حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه. أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد, ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد, ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد, فقال عبادة: ليس له شيء, إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك, فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير, حدثنا كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه, عن جده قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنبيت عنده تكون له حاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا, فكثر المحتسبون وأهل النوب فكنا نتحدث فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذه النجوى ؟" قال: فقلنا: تبنا إلى الله أي نبي الله, إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه فقال ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي قال قلنا بلى, فقال: "الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا عبد الحميد يعني ابن بهرام قال: قال شهر بن حوشب: قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء, لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله, وشمال أبي الدرداء بيمينه, فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى, والله أعلم بما نتناجى به, فقال عبادة بن الصامت: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين, يعني من وسط قراء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, فأعاده وأبدأه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزله عند منازله لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت. قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا, فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من الشهوة الخفية والشرك" فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: اللهم غفرا ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها, فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد ؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلاً يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق له, أترون أنه قد أشرك ؟ قالوا: نعم والله إن من صلى لرجل أو صام أو تصدق له لقد أشرك, فقال شداد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى يرائي فقد(3/133)
أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك فقال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد إليه إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيصل ما خلص له ويدع ما أشرك به" فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقول: " أنا خير قسيم لمن أشرك بي من أشرك بي شيئاً, فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به, أنا عنه غني".
(طريق أخرى لبعضه) قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثني عبد الواحد بن زياد, أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى, فقيل له: ما يبكيك ؟ قال شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبكاني, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية" قلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال: "نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً, ولكن يراءون بأعمالهم, والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه" ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به, وعبادة فيه ضعف, وفي سماعه من شداد نظر.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر, حدثنا علي بن ثابت, حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك من أشرك بي أحداً فهو له كله". وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن الله عز وجل أنه قال: "أنا خير الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري, فأنا بريء منه, وهو للذي أشرك" تفرد به من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يونس, حدثنا الليث عن يزيد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: "الرياء, يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا, فانظروا هل تجدون عندهم جزاء".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكير, أخبرنا عبد الحميد يعني ابن جعفر, أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري, وكان من الصحابة, أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله, فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث محمد وهو البرساني به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك, حدثنا بكار, حدثني أبي - يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع سمع الله به, ومن راءى راءى الله به" وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية, حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرائي يرائي الله به, ومن يسمع يسمع الله به".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة, حدثني عمرو بن مرة قال: سمعت رجلاً في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سمع الناس بعمله سمع الله به, ساء خلقه وصغره وحقره" فذرفت عينا عبد الله. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي, حدثنا الحارث بن غسان, حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله(3/134)
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة, فيقول الله: ألقوا هذا واقبلوا هذا, فتقول الملائكة: يا رب والله ما رأينا منه إلا خيراً, فيقول: إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي" ثم قال: الحارث بن غسان روى عنه جماعة وهو ثقة بصري, ليس به بأس, وقال ابن وهب: حدثني يزيد بن عياض عن عبد الرحمن الأعرج, عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رياء وسمعة, لم يزل في مقت الله حتى يجلس".
وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بي أبي بكر, حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري, عن أبي الأحوص عن عوف بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو, فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل" وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا ابن عياش, حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ} الآية, وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن وهذا أثر مشكل, فإن هذه الآية آخر سورة الكهف, والكهف كلها مكية, ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها, بل هي مثبتة محكمة, فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا أبو قرة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ في ليلة {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ} الآية, كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك النور الملائكة" غريب جداً آخر تفسير سورة الكهف.(3/135)
سورة مريم
وهي مكية
وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة, وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{كَهيعَصَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبّ شَقِيّاً وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً}
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة, وقوله {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ} أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا, وقرأ يحيى بن يعمر {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ} وزكريا يمد ويقصر, قراءتان مشهورتان وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل, وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده في النجارة. وقوله {إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره, حكاه الماوردي وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله, كما قال قتادة في هذه الآية {إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} إن الله يعلم القلب التقي, ويسمع الصوت الخفي, وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه, فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب, يا رب, يا رب, فقال الله له: لبيك لبيك لبيك {قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي} أي ضعفت وخارت القوى {وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً}, أي اضطرم المشيب في السواد, كما قال ابن دريد في مقصورته:
أما ترى رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجى
واشتعل المبيض في مسودة ... مثل اشتعال النار في جمر الغضا
والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة. وقوله {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبّ شَقِيّاً} أي ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء, ولم تردني قط فيما سألتك وقوله {وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي} قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول, وعن الكسائي أنه سكن الياء, كما قال الشاعر:
كأن أيديهن في القاع القرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق
وقال الآخر:
فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا
ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
تغاير الشعر منه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل(3/136)
وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة. وقال أبو صالح: الكلالة. وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها {وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي} بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي, وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً, فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه, فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله, فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده, وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه.
(الثاني) أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه, ومثل هذا لا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء, فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
(الثالث) أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث, ما تركنا فهو صدقة" وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح "نحن معشر الأنبياء لا نورث", وعلى هذا فتعين حمل قوله {فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} على ميراث النبوة, ولهذا قال {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} كقوله {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك, ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة, إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه, فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها, وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركنا فهو صدقة".
قال مجاهد في قوله {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} كان وراثته علماً, وكان زكريا من ذرية يعقوب, وقال هشيم: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: ويكون نبياً كما كانت آباؤه أنبياء, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة, عن الحسن يرث نبوته وعلمه, وقال السدي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب. وعن مالك عن زيد بن أسلم {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال نبوتهم. وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة, وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله زكريا وما كان عليه من وراثة ماله, ويرحم الله لوطاً إن كان ليأوي إلى ركن شديد". وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا جابر بن نوح عن مبارك هو ابن فضالة, عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من وراثة ماله حين قال: هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب" وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح, والله أعلم. وقوله {وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً} أي مرضياً عندك وعند خلقك, تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.
{يَزَكَرِيّآ إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَىَ لَمْ نَجْعَل لّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً}
هذا الكلام يتضمن محذوفاً وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه, فقيل له: {يَزَكَرِيّآ إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَىَ} كما قال تعالى: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين} وقوله {لَمْ نَجْعَل لّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} قال قتادة وابن جريج وابن زيد: أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم, واختاره ابن جرير رحمه الله.
قال مجاهد {لَمْ نَجْعَل لّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أي شبيهاً,(3/137)
أخذه من معنى قوله {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أي شبيهاً, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي لم تلد العواقر قبله مثله, وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له, وكذلك امرأته كانت عاقراً من أول عمرها, بخلاف إبراهيم, وسارة عليهما السلام, فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما لا لعقرهما, ولهذا قال {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة, وقالت امرأته {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}.
{قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}
هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد, ففرح فرحاً شديداً, وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد, مع أن امرأته كانت عاقراً لم تلد من أول عمرها مع كبرها, ومع أنه قد كبر وعتا, أي: عسا عظمه ونحل, ولم يبق فيه لقاح ولا جماع, والعرب تقول للعود إذا يبس: عتا يعتو عتياً وعتواً, وعسا يعسو عسواً وعسياً, وقال مجاهد: عتيا يعني نحول العظم, وقال ابن عباس وغيره: عتيا, يعني الكبر, والظاهر أنه أخص من الكبر.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا هشيم, أخبرنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا, ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} أو عسيا, ورواه الإمام أحمد عن سُريج بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن هشيم به, {قَالَ} أي الملك مجيباً لزكريا عما استعجب منه {كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ} أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها, {هَيّنٌ} أي يسير سهل على الله, ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه, فقال {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} كما قال تعالى: { هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ َمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً}.
{قَالَ رَبّ اجْعَل لِيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً}
يقول تعالى مخبراً عن زكريا عليه السلام أنه {قَالَ رَبّ اجْعَل لِيَ آيَةً} أي علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني, لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني, كما قال إبراهيم عليه السلام {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} {قَالَ آيَتُكَ} أي علامتك {أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال, وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة وغير واحد: اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة. قال بن زيد بن أسلم: كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة.
وقال العوفي عن ابن عباس {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي متتابعات, والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح, كما قال تعالى في آل عمران {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}(3/138)
وقال مالك عن زيد بن أسلم {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} من غير خرس, وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها {إِلَّا رَمْزاً} أي إشارة, ولهذا قال في هذه الآية الكريمة {فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أي الذي بشر فيه بالولد {فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ} أي أشار إشارة خفية سريعة {أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكراً لله على ما أولاه. قال مجاهد: "فأوحى إليهم" أي أشار وبه قال وهب وقتادة. وقال مجاهد في رواية عنه: {فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ} أي كتب لهم في الأرض, وكذا قال السدي.
{يَيَحْيَىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَاناً مّن لّدُنّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}
وهذا أيضاً تضمن محذوفاً تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه السلام, وأن الله علمه الكتاب وهو التوارة التي كانوا يتدارسونها بينهم, ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار, وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال: {يَيَحْيَىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ} أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أي الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه وهو صغير حدث, قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب, فقال: ما للعب خلقنا, فلهذا أنزل الله {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}.
وقوله: {وَحَنَاناً مّن لّدُنّا} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَحَنَاناً مّن لّدُنّا} يقول: ورحمة من عندنا, وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا, وزاد قتادة: رحم الله بها زكريا. وقال مجاهد: {وَحَنَاناً مّن لّدُنّا} وتعطفاً من ربه عليه. وقال عكرمة: {وَحَنَاناً مّن لّدُنّا} قال: محبة عليه. وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة, وقال عطاء بن أبي رباح: {وَحَنَاناً مّن لّدُنّا} قال: تعظيماً من لدنا, وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا والله ما أدري ما حناناً.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن منصور, سألت سعيد بن جبير عن قوله: {وَحَنَاناً مّن لّدُنّا} فقال: سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئاً, والظاهر من السياق أن قوله وحناناً معطوف على قوله {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أي وآتيناه الحكم وحناناً وزكاة, أي وجعلناه ذا حنان وزكاة, فالحنان هو المحبة في شفقة وميل, كما تقول العرب: حنت الناقة على ولدها وحنت المرأة على زوجها, ومنه سميت المرأة حنة من الحَنّة, وحن الرجل إلى وطنه, ومنه التعطف والرحمة, كما قال الشاعر:
تعطف عليّ هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
وفي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان" وقد يثنى, ومنهم من يجعل ما ورد من ذلك لغة بذاتها, كما قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقوله: {وزكاة} معطوف على وحناناً, فالزكاة الطهارة من الدنس والاَثام والذنوب, وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح, وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي. وقال العوفي عن ابن عباس {وَزَكَاةً}(3/139)
قال: بركة, {وَكَانَ تَقِيّاً} طاهر فلم يعمل بذنب. وقوله {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً} لما ذكر تعالى طاعته لربه, وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى, عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما, ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً, أمراً ونهياً, ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً} ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال. وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه, ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم, ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم, قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصّه بالسلام عليه, فقال: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {جَبّاراً عَصِيّاً} قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا" قال قتادة: ما أذنب ولا هم بامرأة, مرسل, وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب, حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب, إلا ما كان من يحيى بن زكريا بن إسحاق" هذا مدلس, وقد عنعن هذا الحديث, فالله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد, أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد من ولد آدمَ إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة, ليس يحيى بن زكريا وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وهذا أيضاً ضعيف, لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة, والله أعلم. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا, فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني, فقال له الآخر: استغفر لي أنت خير مني, فقال له عيسى: أنت خير مني سلمت على نفسي, وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ وَرَحْمَةً مّنّا وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً}
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام, وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً, عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليه السلام منها من غير أب, فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة, ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا, وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى, ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه, وأنه على ما يشاء قادر, فقال {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل, وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران, وأنها نذرتها محررة, أي تخدم مسجد بيت المقدس,(3/140)
وكانوا يتقربون بذلك {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة, فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب, وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك, وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم, ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف, وثمر الصيف في الشتاء, كما تقدم بيانه في سورة آل عمران, فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة, أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام {انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} أي اعتزلتهم وتنحت عنهم, وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها, وقيل لغير ذلك.
قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه, وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} قال: خرجت مريم مكاناً شرقياً, فصلوا قبل مطلع الشمس, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا إسحاق بن شاهين, حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر, عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى: {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة {مَكَاناً شَرْقِيّاً} شاسعاً منتحياً, وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي: اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه, فالله أعلم.
وقوله: {فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً} أي استترت منهم وتوارت, فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام {فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} أي على صورة إنسان تام كامل. قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} يعني جبرائيل عليه السلام, وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن, فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام, وهو الذي تمثل لها بشراً سوياً, أي روح عيسى, فحملت الذي خاطبها, وحل في فيها, وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي {قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب, خافته وظنت أنه يريدها على نفسها, فقالت: {إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل, فخوفته أولاً بالله عز وجل.
قال ابن جرير: حدثني أبو كريب, حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: قال أبو وائل وذكر قصة مريم, فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت: {إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك, ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته وقال {إنما أنا رسول ربك ليهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء, وقرأ الآخرون {لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} وكلا القرائتين له وجه حسن ومعنى صحيح, وكل تستلزم الأخرى {قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} أي فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي(3/141)
غلام ؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني, ولست بذات زوج, ولا يتصور مني الفجور, ولهذا قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} والبغي هي الزانية, ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ} أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت: إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً وإن لم يكن لك بعل, ولا توجد منك فاحشة, فإنه على ما يشاء قادر, ولهذا قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ} أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم, فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى, فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر, فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله: {وَرَحْمَةً مّنّا} أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبياً من الأنبياء, يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده, كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم, حدثنا مروان, حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي عن مجاهد: قال: قالت مريم عليها السلام: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني, وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.
وقوله: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم, يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله)تعالى وقدرته ومشيئته, ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها, كما قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} وقال: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} قال محمد بن إسحاق: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد, واختار هذا أيضاً ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره, والله أعلم.
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً}
يقول تعالى مخبراً عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال, أنها استسلمت لقضاء الله تعالى, فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها, فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى, فلما حملت به ضاقت ذرعاً, ولم تدر ماذا تقول للناس, فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به, غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا, وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك, فحملت امرأته, فدخلت عليها مريم, فقامت إليها فاعتنقتها وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضاً أني حبلى, وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها, وكانوا بيت إيمان وتصديق, ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم, أي يعظمه ويخضع له, فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعاً, كما سجد ليوسف أبواه وإخوته, وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام, ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلاً لتعظيم جلال الرب تعالى.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: قُرىء على الحارث بن مسكين وأنا أسمع, قال أخبرنا(3/142)
عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة, وكان حملهما جميعاً معاً, فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام, لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص, ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام, فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة: ثمانية أشهر, قال: ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر. وقال ابن جريج: أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي, سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت, وهذا غريب, وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ} فالفاء وإن كانت للتعقيب, لكن تعقيب كل شيء بحسبه, كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.
وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوماً, وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} فالمشهور الظاهر, والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن. ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها, وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار, فلما رأى ثقل بطنها وكبره, أنكر ذلك من أمرها, ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها, ثم تأمل ما هي فيه, فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه, فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال: يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت: وما هو ؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب, وهل يكون زرع من غير بذر. وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت: نعم, وفهمت ما أشار إليه.
أما قولك: هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر, فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر, وهل يكون ولد من غير أب ؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم, فصدقها وسلم لها حالها, ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة, انتبذت منهم مكاناً قصياً, أي قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها.
قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت, استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون, حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا, وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا: إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره, وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجاباً, فلا يراها أحد ولا تراه. وقوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه, وقد اختلفوا فيه, فقال السدي: كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس. وقال وهب بن منبه: ذهبت هاربة, فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب: كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم, قلت: وقد تقدم في أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس رضي الله عنه, والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم, فالله أعلم, وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض, ولا تشك فيه النصارى أنه ببيت لحم, وقد تلقاه الناس, وقد ورد به الحديث إن صح.
وقوله تعالى إخباراً عنها: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة, فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد, ولا يصدقونها في خبرها, وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية, فقالت:(3/143)
{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} أي قبل هذا الحال, {وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} أي لم أخلق ولم أك شيئاً, قاله ابن عباس. وقال السدي: قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: ياليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل, {وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر, وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي. وقال قتادة: {وكنت نسياً منسياً} أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا. وقال الربيع بن أنس: {وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} هو السقط. وقال ابن زيد: لم أكن شيئاً قط, وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}
قرأ بعضهم: {مَن تحتها} بمعنى الذي تحتها, وقرأ الآخرون: {مِن تحتها} على أنه حرف جر, واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو ؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} جبريل, ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها, وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة: إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام, أي ناداها من أسفل الوادي. وقال مجاهد: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} قال: عيسى بن مريم, وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال الحسن: هو ابنها, وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها, قال: أو لم تسمع الله يقول: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره.
وقوله: {أَلاّ تَحْزَنِي} أي ناداها قائلاً لا تحزني {قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب {قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} قال: الجدول, وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السري النهر, وبه قال عمرو بن ميمون نهر تشرب منه. وقال مجاهد: هو النهر بالسريانية. وقال سعيد بن جبير: السري النهر الصغير بالنبطية. وقال الضحاك: هو النهر الصغير بالسريانية. وقال إبراهيم النخعي: هو النهر الصغير. وقال قتادة: هو الجدول بلغة أهل الحجاز, وقال وهب بن منبه: السري هو ربيع الماء. وقال السدي: هو النهر, واختار هذا القول ابن جرير.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع, فقال الطبراني: حدثنا أبو شعيب الحراني, حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي, حدثنا أيوب بن نهيك, سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول, سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن السري الذي قال الله لمريم {قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ن هر أخرجه الله لتشرب منه" وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى, قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث. وقال آخرون المراد بالسري عيسى عليه السلام, وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر, وهو إحدى الروايتين عن قتادة, وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والقول الأول أظهر. ولهذا قال بعده: {وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ} أي وخذي إليك بجذع النخلة. قيل: كانت يابسة, قاله ابن عباس. وقيل: مثمرة. قال مجاهد: كانت عجوة. وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى: كانت صرفانة, والظاهر أنها كانت شجرة, ولكن لم تكن في إبان ثمرها, قاله وهب(3/144)
بن منبه, ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاماً وشراباً فقال: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً} أي طيبي نفساً, ولهذا قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب, ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا شيبان, حدثنا مسرور بن سعيد التميمي, حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم, عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا عمتكم النخلة, فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام, وليس من الشجر شيء يلقح غيرها" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموا نساءكم الولد الرطب, فإن لم يكن رطب فتمر, وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران" هذا حديث منكر جداً ورواه أبو يعلى عن شيبان به. وقرأ بعضهم {تساقط} بتشديد السين, وآخرون بتخفيفها. وقرأ أبو نهيك {تُسْقط عليك رطباً جنياً} وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها {يَسّاقَطُ} أي الجذع, والكل متقارب.
وقوله: {فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً} أي مهما رأيت من أحد {فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك, لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي {فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} قال أنس بن مالك في قوله: {إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً} قال: صمتاً, وكذا قال ابن عباس والضحاك, وفي رواية عن أنس: صوماً وصمتاً, وكذا قال قتادة وغيرهما, والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام, نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد. وقال أبو إسحاق عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود, فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر, فقال: ما شأنك ؟ قال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم, فقال عبد الله بن مسعود: كلم الناس وسلم عليهم, فإن تلك امرأة علمت أن أحداً لا يصدقها أنها حملت من غير زوج, يعني بذلك مريم عليها السلام, ليكون عذراً لها إذا سئلت. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمها الله. وقال عبد الرحمن بن زيد: لما قال عيسى لمريم: {لا تحزني} قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي, لا ذات زوج ولا مملوكة ؟ أي شيء عذري عند الناس ؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً, قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام { فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} قال هذا كله من كلام عيسى لأمه, وكذا قال وهب.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيّاً وَالسّلاَمُ عَلَيّ يَوْمَ وُلِدْتّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحداً من البشر, فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها, فسلمت لأمر الله عز وجل واستسلمت لقضائه, فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله,(3/145)
فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً, وقالوا {يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} , أي أمراً عظيماً, قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثنا سيّار, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي قال: وخرج قومها في طلبها, قال: وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها شيئاً, فلقوا راعي بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها ؟ قال: لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط, قالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي.
قال عبد الله بن زياد: وأحفظ عن سيّار أنه قال: رأيت نوراً ساطعاً فتوجهوا حيث قال لهم, فاستقبلتهم مريم, فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاؤوا حتى قاموا عليها {يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} أمراً عظيماً {يَأُخْتَ هَارُونَ} أي يا شبيهة هارون في العبادة {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيّاً} أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة, فكيف صدر هذا منك ؟ قال علي بن أبي طلحة والسدي: قيل لها: {يَأُخْتَ هَارُونَ} أي أخي موسى, وكانت من نسله كما يقال للتميمي: يا أخا تميم, وللمضري يا أخا مضر, وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون, فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة, وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له هارون.
ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير, وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين الهجستاني, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا المفضل بن فضالة, حدثنا أبو صخر عن القرظي في قوله الله عز وجل: {يَأُخْتَ هَارُونَ} قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه, وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وهذا القول خطأ محض, فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل, فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً, وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما, ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا أولى الناس بابن مريم إلا أنه ليس بيني وبينه نبي" ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي, لم يكن متأخراً عن الرسل سوى محمد, ولكان قبل سليمان وداود, فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وذكر القصة إلى أن قال: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} الآية, والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه, قال: وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل, فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى وهذه هفوة وغلطة شديدة, بل هي باسم هذه, وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم, كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس, سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون {يَأُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم" انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به, وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين(3/146)
قال أنبئت أن كعباً قال إن قوله: {يَأُخْتَ هَارُونَ} ليس بهارون أخي موسى قال فقالت له عائشة كذبت قال يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة قال فسكتت وفي هذا التاريخ نظر.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا بشر, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {يَأُخْتَ هَارُونَ} الآية, قال: كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد, ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به, وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به, وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته وليس بهارون أخي موسى ولكنه هارون آخر, قال: وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل. وقوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} أي إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية, وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة, فأحالت الكلام عليه, وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه, فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} قال ميمون بن مهران: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} قالت كلموه, فقالوا: على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبياً, وقال السدي لما {أشارت إليه} غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره, كيف يتكلم ؟ قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}, أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد, وأثبت لنفسه العبودية لربه.
وقوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة, قال نوف البكالي: لما قالو لأمه ما قالوا, كان يرتضع ثديه, فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه الأيسر وقال {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً - إلى قوله - مَا دُمْتُ حَيّاً} وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني: رفع أصبعه السبابة فوق منكبه وهو يقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} الآية, وقال عكرمة: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا يحيى بن سعيد هو العطار عن عبد العزيز بن زياد, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان عيسى بن مريم قد درس التوارة وأحكمها وهو في بطن أمه, فذلك قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك.
وقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري: وجعلني معلماً للخير. وفي رواية عن مجاهد: نفاعاً. وقال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار, حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي, سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالماً هو فوقه في العلم, فقال له: يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي ؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده, وقد أجمع الفقهاء على قول الله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} وقيل: ما بركته ؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان. وقوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله {{وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} قال: أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت, ما أبينها لأهل القدر.
وقوله: {وبراً بوالدتي} أي وأمرني ببر والدتي, ذكره بعد طاعة الله ربه, لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين, كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقال {أَنِ اشْكُرْ لِي(3/147)
وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}. وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} أي ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي, فأشقى بذلك. قال سفيان الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب. وقال بعض السلف: لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً, ثم قرأ: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} قال: ولا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً, ثم قرأ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}.
قال قتادة: ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن, فقالت: طوبى للبطن الذي حملك, وطوبى للثدي الذي أرضعت به, فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه, ولم يكن جباراً شقياً. وقوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} إثبات منه لعبوديته لله عز وجل, وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق, ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد, صلوات الله وسلامه عليه.
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن مّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام {قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به, ولهذا قرأ الأكثرون قول الحق برفع قول, وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق, وعن ابن مسعود أنه قرأ ذلك عيسى بن مريم, قال: الحق, والرفع أظهر إعراباً, ويشهد له قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزه نفسه المقدسة فقال: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إذا أراد شيئاً, فإنما يأمر به فيصير كما يشاء, كما قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته, فقال: {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم, أي قويم من اتبعه رشد وهدي, ومن خالفه ضل وغوى. وقوله: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي اختلف أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله, وأنه عبده ورسوله, وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, فصممت طائفة منهم, وهم جمهور اليهود. - عليهم لعائن الله - على أنه ولد زنية, وقالوا: كلامه هذا سحر. وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم الله. وقال آخرون: بل هو ابن الله. وقال آخرون: ثالث ثلاثة. وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله, وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين, وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}(3/148)
قال: اجتمع بنو إسرائيل, فأخرجوا منهم أربعة نفر, أخرج كل قوم عالمهم, فامتروا في عيسى حين رفع, فقال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات, ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية, فقال الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه قال: هو ابن الله وهم النسطورية, فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه, فقال: هو ثالث ثلاثة: الله إله, وهو إله, وأمه إله, وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله. قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا, فاقتتلوا وظهروا على المسلمين, وذلك قول الله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} قال قتادة: وهم الذين قال الله: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قال اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير وعن بعض أهل العلم قريباً من ذلك, وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم, فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفاً, فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام اختلافاً متبايناً جداً, فقالت كل شرذمة فيه قولاً, فمائة تقول فيه شيئاً, وسبعون تقول فيه قولاً آخر, وخمسون تقول شيئاً آخر ومائة وستون تقول شيئاً, ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة, وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه, فمال إليهم الملك وكان فيلسوفاً فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم, فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة, ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء, وابتدعوا بدعاً كثيرة, وحرفوا دين المسيح وغيروه, فابتنى لهم حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها, بلاد الشام والجزيرة والروم, فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة, وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود والنصارى أنه المسيح, وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء.
وقوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولداً, ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة, وأجلهم حلماً وثقة بقدرته عليهم, فإنه الذي لا يعجل على من عصاه, كما جاء في الصحيحين "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. وفي الصحيحين أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله, إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم" وقد قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} وقال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} ولهذا قال ههنا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي يوم القيامة. وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, وأن الجنة حق والنار حق, أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن الكفار يوم القيامة: إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره, كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى(3/149)
إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} الآية, أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئاً, ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعاً لهم ومنقذاً من عذاب الله, ولهذا قال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أي ما أسمعهم وأبصرهم {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} يعني يوم القيامة {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} أي في الدنيا {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون, فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك, ثم قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أي أنذر الخلائق يوم الحسرة {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} أي فصل بين أهل الجنة وأهل النار وصار كل إلى ما صار إليه مخلداً فيه, {وَهُمْ} أي اليوم {فِي غَفْلَةٍ} عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة { وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون به.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار, فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا, قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت - قال - فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح, قال: ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت, ويا أهل النار خلود ولا موت" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وأشار بيده ثم قال: "أهل الدنيا في غفلة الدنيا" هكذا رواه الإمام أحمد, وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به, ولفظهما قريب من ذلك. وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة: حدثني أسباط بن محمد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً مثله, وفي سنن ابن ماجه وغيره من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه, وهو في الصحيحين عن ابن عمر.
رواه ابن جريج قال: قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه, ورواه أيضاً عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه: يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون, وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل: حدثنا أبو الزعراء عن عبد الله هو ابن مسعود في قصة ذكرها, قال: فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة, فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة, ويقال لهم لو عملتم, فتأخذهم الحسرة, قال: ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار, فيقال لهم لولا أن الله من عليكم. وقال السدي عن زياد عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار, ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا, فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه, ثم ينادي مناد: يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا, فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه, ثم يذبح بين الجنة والنار, ثم ينادى: يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين, ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين, فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتاً من فرح ماتوا, ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا, فذلك قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} يقول إذا ذبح الموت, رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قال: يوم القيامة, وقرأ {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}. وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ(3/150)
وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف, وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس, ولا أحد يدعي ملكاً ولا تصرفاً, بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم الحاكم فيهم, فلا تظلم نفس شيئاً ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة. قال ابن أبي حاتم: ذكر هدبة بن خالد القيسي, حدثنا حزم بن أبي حزم القطعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة: أما بعد, فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت, فجعل مصيرهم إليه, وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذي خلقه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه: إنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً إِذْ قَالَ لأبيه يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً يَأَبَتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتّبِعْنِيَ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّحْمَنِ عَصِيّاً يَأَبَتِ إِنّيَ أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ مّنَ الرّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّاً}
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام,واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن. الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته, وقد كان صديقاً نبياً مع أبيه, كيف نهاه عن عبادة الأصنام, فقال: {يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً {يَأَبَتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك, فاعلم أني قد أطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت, و لا أطلعت عليه و لا جاءك {فَاتّبِعْنِيَ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أي طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب, والنجاة من المرهوب {يَأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشّيْطَانَ} أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام, فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به, كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وقال: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً}.
وقوله {إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّحْمَنِ عَصِيّاً} أي مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه, فطرده وأبعده, فلا تتبعه تصر مثله {يَأَبَتِ إِنّيَ أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ مّنَ الرّحْمَنِ} أي على شركك وعصيانك لما آمرك به {فَتَكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّاً} يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلا إبليس, وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء, بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك, كما قال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّيَ إِنّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَأَدْعُو رَبّي عَسَىَ أَلاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبّي شَقِيّاً}
يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ ؟} يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها, فانته عن سبها وشتمها وعيبها, فإنك إن لم تنته(3/151)
عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك, وهو قوله: {لأرْجُمَنّكَ} قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم, وقوله: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق: يعني دهراً. وقال الحسن البصري: زماناً طويلاً. وقال السدي {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قال: أبداً. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قال: سوياً سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة, وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي ومالك وغيرهم, واختاره ابن جرير, فعندما قال إبراهيم لأبيه: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} كما قال تعالى في صفة المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ومعنى قول إبراهيم لأبيه {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة {سأستغفر لك ربي} ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك {إنه كان بي حفياً} قال ابن عباس وغيره: لطيفاً, أي في أن هداني لعبادته والإخلاص له.
وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قال عوده الإجابة. وقال السدي: الحفي الذي يهتم بأمره, وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام, وبنى المسجد الحرام, وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام, وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - إلى قوله - إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْء} الآية, يعني إلا في هذا القول, فلا تتأسوا به, ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه, فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ - إلى قوله - وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}. وقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي}. أي وأعبد ربي وحده لا شريك له {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} وعسى هذه موجبة لا محالة, فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
{فَلَمّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}
يقول تعالى: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله, أبدله الله من هو خير منهم, ووهب له إسحاق ويعقوب يعني ابنه وابن إسحاق, كما قال في الآية الأخرى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} وقال {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب, وهو نص القرآن في سورة البقرة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ولهذا إنما ذكر ههنا إسحاق ويعقوب, أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته, ولهذا قال: {وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نبىء في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف, فإنه نبي أيضاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس, فقال: "يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل(3/152)
الله", وفي اللفظ الآخر "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم". وقوله {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الثناء الحسن, وكذا قال السدي ومالك بن أنس, وقال ابن جرير: إنما قال عليا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىَ إِنّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطّورِ الأيْمَنِ وَقَرّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه, عطف بذكر الكليم, فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىَ إِنّهُ كَانَ مُخْلِصاً} قرأ بعضهم بكسر اللام من الإخلاص في العبادة. قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع, عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله ؟ قال: الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس, وقرأ الآخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى, كما قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} {وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً} جمع الله له بين الوصفين, فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة, وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطّورِ} أي الجبل {الأيْمَنِ} من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح, فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه عند شاطىء الوادي, فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى هو القطان, حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وَقَرّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال: أدني حتى سمع صريف القلم, وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم: يعنون صريف القلم بكتابة التوارة. وقال السدي: {وَقَرّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال: أدخل في السماء فكلم, وعن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة {وَقَرّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال: نجا بصدقه. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الجبار بن عاصم, حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل, عن شهر بن حوشب, عن عمرو بن معد يكرب قال: لما قرب الله موسى نجيا بطور سيناء قال: يا موسى إذا خلقت لك قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة تعين على الخير, فلم أخزن عنك من الخير شيئاً, ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئاً, وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه, فجعلناه نبياً, كما قال في الآية الأخرى {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} وقال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وقال: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً, قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} قال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} قال: كان هارون أكبر من موسى, ولكن أراد وهب نبوته له, وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقاً عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدّورقي به.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ(3/153)
وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً}
هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام, وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها, يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها. وقال ابن جرير: حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه, فجاء ونسي الرجل, فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد, فقال: ما برحت من ههنا ؟ قال: لا. قال: إني نسيت قال: لم أكن أبرح حتى تأتيني, فلذلك {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وقال سفيان الثوري: يلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولاً حتى جاءه وقال ابن شوذب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكناً.
وقد روى أبو داود في سننه, وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق, من طريق إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني ابن عبد الله بن شقيق, عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء, قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث, فبقيت له علي بقية, فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك, قال: فنسيت يومي والغد, فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك, فقال لي: "يا فتى لقد شققت عليّ, أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" لفظ الخرائطي وساق آثاراً حسنة في ذلك, ورواه ابن منده أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان, عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به.
وقال بعضهم: إنما قيل له: {صَادِقَ الْوَعْدِ} لأنه قال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فصدق في ذلك, فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان" ولما كانت هذه صفات المنافقين, كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين, ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد, وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضاً لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به, وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب, فقال: "حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي" ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له, فجاء جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" يعني ملء كفيه, فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال, ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها.
وقوله: {وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً} في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق, لأنه إنما وصف بالنبوة فقط, وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" وذكر تمام الحديث, فدل على صحة ما قلناه. وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} هذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة, والخلة السديدة, حيث كان مثابراً على طاعة ربه عز وجل, آمراً بها لأهله, كما قال تعالى لرسوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الآية, وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملاً, فتأكلهم النار يوم القيامة, وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول(3/154)
الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته, فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها, فإن أبى نضحت في وجهه الماء" أخرجه أبو داود وابن ماجه. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين, كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}
ذكر إدريس عليه السلام بالثناء عليه بأنه كان صديقاً نبياً, وأن الله رفعه مكاناً علياً, وقد تقدم في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة. وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى, أنبأنا ابن وهب, أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعباً وأنا حاضر فقال له: ما قول الله عز وجل لإدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} فقال كعب: أما إدريس, فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم, فأحب أن يزداد عملاً, فأتاه خليل له من الملائكة فقال له: إن الله أوحى إلي كذا وكذا, فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً, فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء, فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدراً, فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس, فقال: وأين إدريس ؟ فقال: هوذا على ظهري. قال ملك الموت: العجب, بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة, فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض ؟ فقبض روحه هناك, فذلك قول الله {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات, وفي بعضه نكارة, والله أعلم.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنه سأل كعباً فذكر نحو ما تقدم, غير أنه قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله, يعني ملك الموت, كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل, وذكر باقيه وفيه: أنه لما سأله عما بقي من أجلي, قال: لا أدري حتى أنظر, فنظر ثم قال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين, فنظر الملك تحت جناحه فإذا هو قد قبض عليه السلام وهو لا يشعر به, ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس أن إدريس كان خياطاً, فكان لا يغرز إبرة إلا قال: سبحان الله, فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملاً منه, وذكر بقيته كالذي قبله أو نحوه.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى, وقال سفيان عن منصور عن مجاهد {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: السماء الرابعة, وقال العوفي عن ابن عباس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: رفع إلى السماء السادسة فمات بها وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقال الحسن وغيره في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: الجنة.
{أُولَئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّيْنَ مِن ذُرّيّةِ ءادَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمَنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً}
يقول تعالى: هؤلاء النبيون - وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط بل جنس الأنبياء عليهم السلام استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس - {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} الآية, قال(3/155)
السدي وابن جرير رحمه الله. فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس, والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل, والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم, قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم, لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس, فإنه جد نوح (قلت) هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام, وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذ من حديث الإسراء, حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح, ولم يقل والولد الصالح, كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح, فبعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله, ويعملوا ما شاؤوا, فأبوا فأهلكهم الله عز وجل, ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - إلى قوله - أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وقال سبحانه وتعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}. وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي {ص} سجدة ؟ فقال: نعم, ثم تلا هذه الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم, قال: وهو منهم, يعني داود. وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه, سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة وحمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة, والبكي جمع باك, فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم. قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم, فسجد وقال: هذا السجود فأين البكي ؟ يريد البكاء, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وسقط من رواته ذكر أبي معمر فيما رأيت, فالله أعلم.
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً}
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام, ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره, المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره, ذكر أنه {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي قرون أخر {أَضَاعُواْ الصّلاَةَ} وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع, لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد, وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها, فهؤلاء سيلقون غياً, أي خساراً يوم القيامة, وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة ههنا فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية, قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي, واختاره ابن جرير ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد, وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث "بين العبد(3/156)
وبين الشرك ترك الصلاة". والحديث الآخر "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر" وليس هذا محل بسط هذه المسألة.
وقال الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ} قال: أي أضاعوا المواقيت ولو كان تركاً كان كفراً. وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} و{عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} و{لَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فقال ابن مسعود: على مواقيتها. قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك, قال ذلك الكفر, قال مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين, وفي إفراطهن الهلكة, وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن, وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد: أن عمر بن عبد العزيز قرأ: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} ثم قال: لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ} قال: عند قيام الساعة وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة, وكذا روى ابن جريج عن مجاهد مثله, وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه الأمة, يعنون في آخر الزمان.
وقال ابن جرير: حدثني الحارث, حدثنا الحسن الأشيب, حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ} قال: هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق, لا يخافون الله في السماء, ولا يستحيون من الناس في الأرض وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري, حدثنا حيوة, حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سيعد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات, فسوف يلقون غياً, ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم, ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن, ومنافق وفاجر" وقال بشير: قلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال: المؤمن مؤمن به, والمنافق كافر به. والفاجر يأكل به" وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقري به.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثني أبي, حدثنا إبراهيم بن موسى, أنبأنا عيسى بن يونس, حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن مالك عن أبي الرجال أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصفة, وتقول: لا تعطوا منه بربرياً, ولا بربرية, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم الخلف الذين قال الله تعالى فيهم: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" هذا الحديث غريب. وقال أيضاً: حدثني أبي, حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك, حدثنا الوليد حدثنا حريز عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قول الله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الآية, قال: هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك.
وقال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل: شرّابين للقهوات, ترّاكين للصّلوات, لعّابين بالكعبات, رقّادين عن العتمات, مفرطين في الغدوات, ترّاكين للجماعات, قال: ثم تلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} وقال الحسن البصري: عطلوا المساجد ولزموا الضيعات. وقال أبو الأشهب العطاردي: أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات, فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة, وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه من طاعتي.(3/157)
وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا أبو السمح التميمي عن أبي قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن, واللبن" أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة, أما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين, ورواه عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة: حدثنا أبو قبيل عن عقبة به, مرفوعاً بنحوه, تفرد به.
وقوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} أي خسراناً, وقال قتادة: شراً, وقال سفيان الثوري وشعبة ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} قال: واد في جهنم بعيد القعر, خبيث الطعم. وقال الأعمش عن زياد عن أبي عياض في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} قال: واد في جهنم من قيح ودم. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني عباس بن أبي طالب, حدثنا محمد بن زياد, حدثنا شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي, فقلت: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا بطعام, ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفاً, ثم تنتهي إلى غي وآثام" قال: قلت ماغي وآثام ؟ قال: قال: "بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار" وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه {أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً} وقوله في الفرقان: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} هذا حديث غريب ورفعه منكر.
وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات, فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم, ولهذا قال: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} وذلك لأن التوبة تجبّ ما قبلها, وفي الحديث الآخر "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً, ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها, لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً, وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم, وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ - إلى قوله - وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
{جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً}
يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن, أي إقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب, أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه, وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم. وقوله: {إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره, فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله, كقوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي كائناً لا محالة, وقوله ههنا: {مَأْتِيّاً} أي العباد صائرون إليه وسيأتونه, ومنهم من قال {مَأْتِيّاً} بمعنى آتياً, لأن كل ما أتاك فقد أتيته, كما تقول العرب: أتت علي خمسون سنة, وأتيت على خمسين سنة, كلاهما بمعنى واحد.
وقوله: {لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا. وقوله: {إِلاّ سَلاَماً} استثناء منقطع كقوله: {لا(3/158)
يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} وقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات لا أن هناك ليلاً ونهاراً, ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار, كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها, ولا يتمخطون فيها. ولا يتغوطون, آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوّة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان, يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن, لا اختلاف بينهم ولا تباغض, قلوبهم على قلب رجل واحد, يسبحون الله بكرة وعشيا" أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء, يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً" تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال الضحاك عن ابن عباس {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال: مقادير الليل والنهار.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهم, حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال: ليس في الجنة ليل, هم في نور أبداً ولهم مقدار الليل والنهار, ويعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب, ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب, وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن البصري, وذكر أبواب الجنة فقال: أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فَتُهمْهِمُ, انفتحي انغلقي فتفعل, وقال قتادة في قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فيها ساعتان بكرة وعشي, ليس ثم ليل ولا نهار, وإنما هو ضوء ونور, وقال مجاهد: ليس بكرة ولا عشي, ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما: كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى, فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم فقال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال: البكور يرد على العشي, والعشي يرد على البكور, ليس فيها ليل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا سليم بن منصور بن عمار, حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل شمشاط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات, إلا أنه يزف إلى ولي الله, فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من الزعفران" قال أبو محمد: هذا حديث غريب منكر.
وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة, هي التي نورثها عبادنا المتقين, وهم المطيعون لله عز وجل في السراء والضراء, والكاظمون الغيظ, والعافون عن الناس, وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى أن قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّاً رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}
قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى ووكيع قالا: حدثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟" قال: فنزلت { وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ(3/159)
بِأَمْرِ رَبّكَ} إلى آخر الآية.
انفرد بإخراجه البخاري فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم عن عمر بن ذر به ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عمر بن ذر به وعندهما زيادة في آخر الحديث فكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال العوفي عن ابن عباس احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن فأتاه جبريل وقال: يا محمد {وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ} الآية.
وقال مجاهد لبث جبرائيل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة, ويقولون أقل, فلما جاءه قال: "يا جبرائيل لقد لبثت علي حتى ظن المشركون كل ظن" فنزلت {وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ} الآية. قال: وهذه الآية كالتي في الضحى, وكذلك قال الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد: إنها نزلت في احتباس جبرائيل. وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال: أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلى الله عليه وسلم: أربعين يوماً, ثم نزل, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نزلت حتى اشتقت إليك" فقال له جبريل: بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور, فأَوحى الله إلى جبرائيل أن قل له {وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ} الآية, ورواه ابن أبي حاتم رحمه الله وهو غريب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن مجاهد قال: أبطأت الرسل على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم أتاه جبريل فقال له: "ما حبسك يا جبريل ؟" فقال له جبريل: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم, ولا تنقون براجمكم, ولا تأخذون شواربكم, ولا تستاكون. ثم قرأ {وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ} إلى آخر الآية. وقد قال الطبراني: حدثنا أبو عامر النحوي, حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري, حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, حدثنا إسماعيل بن عياش, أخبرني ثعلبة بن مسلم عن أبي كعب مولى ابن عباس, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل أبطأ عليه فذكر له ذلك, فقال: وكيف وأنتم لا تستنون, ولا تقلمون أظفاركم, ولا تقصون شواربكم, ولا تنقون براجمكم ؟ وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ابن عباس بنحوه.
وقال الإمام احمد: حدثنا سيار, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا المغيرة بن حبيب عن مالك بن دينار, حدثني شيخ من أهل المدينة عن أم سلمة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط" وقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} قيل: المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا, وما خلفنا أمر الآخرة, {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ما بين النفختين, هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما, والسدي والربيع بن أنس, وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} ما يستقبل من أمر الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} أي ما مضى من الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أي ما بين الدنيا والآخرة, ويروى نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري, واختاره ابن جرير أيضاً, والله اعلم.
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} قال مجاهد معناه ما نسيك ربك, وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي, حدثنا محمد بن عثمان يعني أبا الجماهر, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء يرفعه قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال, وما حرمه فهو حرام, وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته, فإن الله لم يكن لينسى شيئاً" ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي خالق ذلك ومدبره والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً, وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغيرهم. وقال عكرمة عن ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.(3/160)
{وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنّهُمْ وَالشّيَاطِينَ ثُمّ لَنُحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّمَ جِثِيّاً ثُمّ لَنَنزِعَنّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيّهُمْ أَشَدّ عَلَى الرّحْمَنِ عِتِيّاً ثُمّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالّذِينَ هُمْ أَوْلَىَ بِهَا صِلِيّاً}
يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته, كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وقال ههنا: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة, يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئاً, أفلا يعيده وقد صار شيئاً, كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} وفي الصحيح "يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني, وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني, أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني, وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره, وأما أذاه إياي فقوله إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد".
وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعاً وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} قال العوفي عن ابن عباس: يعني قعوداً كقوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} وقال السدي في قوله جثياً: يعني قياماً, وروي عن مرة عن ابن مسعود مثله. وقوله: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} يعني من كل أمة, قال مجاهد {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} قال الثوري عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: يحبس الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعاً, ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً, وهو قوله: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً}.
وقال قتادة: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} قال: ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر, وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف, وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ - إلى قوله - ِبمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} وقوله: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} ثم ههنا لعطف الخبر على الخبر, والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها, وبمن يستحق تضعيف العذاب, كما قال في الآية المتقدمة {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ}.
{وَإِن مّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىَ رَبّكَ حَتْماً مّقْضِيّاً ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا غالب بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن, وقال بعضهم: يدخلونها جميعاً, ثم ينجي الله الذين اتقوا, فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود, فقال: يردونها جميعاً, وقال سليمان بن مرة: يدخلونها جميعاً, وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه, وقال: صمتاً إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها, فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم,(3/161)
ثم {ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً}" غريب ولم يخرجوه.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية عن بكار بن أبي مروان عن خالد بن معدان قال: قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار ؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة, وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته, فبكى فبكت امرأته, فقال: ما يبكيك ؟ قالت رأيتك تبكي فبكيت, قال: إني ذكرت قول الله عز وجل {وَإِن مّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} فلا أدري أأنجو منها أم لا - وفي رواية, وكان مريضاً.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: ياليت أمي لم تلدني, ثم يبكي, فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال: أُخبرنا أّنا واردوها ولم نُخبَر أنّا صادرون عنها, وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار ؟ قال: نعم, قال: فهل أتاك أنك صادر عنها ؟ قال: لا, قال: ففيم الضحك ؟ قال: فما رُئي ضاحكاً حتى لحق بالله. وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو, أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق فقال ابن عباس: الورود الدخول, فقال نافع: لا, فقرأ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} وردوا أم لا, وقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} أوردها أم لا, أما أنا وأنت فسندخلها. فانظر هل نخرج منها أم لا ؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك, فضحك نافع.
وروى ابن جريج عن عطاء قال: قال أبو راشد الحروري وهو نافع بن الأزرق {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} فقال ابن عباس: ويلك, أمجنون أنت ؟ أين قوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالماً, وأدخلني الجنة غانماً. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي, حدثنا أسباط عن عبد الملك عن عبيد الله عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو نافع بن الأزرق, فقال له: يا ابن عباس أرأيت قول الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} ؟ قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها, فانظر هل نصدر عنها أم لا ؟
وقال أبو داود الطيالسي: قال شعبة: أخبرني عبد الله بن السائب عمن سمع ابن عباس يقرؤها {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} يعني الكفار, وهكذا روى عمر بن الوليد الشنّي أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال وهم الظلمة كذلك كنا نقرؤها, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وقال العوفي عن ابن عباس: قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} يعني البر والفاجر, ألا تسمع إلى قول الله لفرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} الآية, {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} فسمى الورود على النار دخولاً وليس بصادر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل عن السدي, عن مرة عن عبد الله هو ابن مسعود {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم" ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله عن إسرائيل عن السدي به. ورواه من طريق شعبة عن السدي عن مرة عن ابن مسعود موقوفاً, هكذا وقع هذا الحديث ههنا مرفوعاً. وقد رواه أسباط عن السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال: يرد الناس جميعاً الصراط, وورودهم قيامهم حول النار, ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم, فمنهم من يمر مثل البرق, ومنهم من يمر مثل الريح, ومنهم من يمر مثل الطير, ومنهم من يمر كأجود الخيل, ومنهم من يمر كأجود الإبل, ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى إن آخرهم مرّاً رجل نوره على موضع إبهامي قدميه, يمر(3/162)
فيتكفأ به الصراط, والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد, حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس. وذكر تمام الحديث رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم, حدثنا النضر, حدثنا إسرائيل, أخبرنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف, فتمر الطبقة الأولى كالبرق, والثانية كالريح, والثالثة كأجود الخيل, والرابعة كأجود البهائم. ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم, ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية عن الجريري عن أبي السليل عن غنيم بن قيس قال: ذكروا ورود النار, فقال كعب: تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق: برهم وفاجرهم, ثم يناديها مناد: أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي, قال فتخسف بكل ولي لها, وهي أعلم بهم من الرجل بولده, ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم. قال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة, مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين, يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر, عن أم مبشر عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية" قالت: فقلت أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قالت: فسمعته يقول {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}. وقال أحمد أيضاً: حدثنا ابن إدريس, حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر, عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقال: "لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية" قالت حفصة: أليس الله يقول {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية, وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم".
وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلّة القسم" يعني الورود, وقال أبو داود الطيالسي حدثنا زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم" قال الزهري كأنه يريد هذه الآية {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً}. وقال ابن جرير حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا أبو المغيرة حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من أصحابه وعك وأنا معه ثم قال: "إن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة" غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وحدثنا أبو كريب, حدثنا ابن يمان عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات, بنى الله له قصراً في الجنة" فقال عمر: إذاً نستكثر يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكثر وأطيب" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقاً إن شاء الله, ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعاً لا بأجر سلطان لم ير النار(3/163)
بعينيه إلا تحلة القسم". قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وإن الذكر في سبيل الله يضاعف فوق النفقة بسبعمائة ضعف. وفي رواية بسبعمائة ألف ضعف.
وروى أبو داود عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب, كلاهما عن زبان عن سهل عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: هو الممر عليها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها وورود المشركين أن يدخلوها, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الزالون والزالات يومئذ كثير وقد أحاط بالجسر يومئذ سماطان من الملائكة دعاؤهم يا ألله سلم سلم" وقال السدي عن مرة عن ابن مسعود في قوله {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} قال: قسماً واجباً. وقال مجاهد: حتماً, قال قضاء, وكذا قال ابن جريج.
وقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم, نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم, فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا, ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين, فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلا دارات وجوههم وهي مواضع السجود, وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان, فيخرجون أولاً من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان, ثم الذي يليه, ثم الذي يليه, ثم الذي يليه, حتى يخرجون من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان, ثم يخرج الله من النار من قال يوماً من الدهر: لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيراً قط, ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}.
{وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً}
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان أنهم يصدون ويعرضون عن ذلك ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم {خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أي أحسن منازل وأرفع دوراً وأحسن ندياً وهو مجتمع الرجال للحديث أي ناديهم أعمر وأكثر وارداً وطارقاً يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق كما قال تعالى مخبراً عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وقال قوم نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ولهذا قال تعالى راداً على شبهتهم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً ومناظر وأشكالاً وأمتعة قال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس {خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} قال المقام المنزل والندي المجلس والأثاث المتاع والرئي المنظر, وقال العوفي عن ابن عباس المقام المسكن والندي المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} فالمقام المسكن والنعيم, والندي المجلس والمجمع(3/164)
بالذي كانوا يجتمعون فيه, وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} والعرب تسمي المجلس النادي, وقال قتادة: لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة فعرض أهل الشرك ما تسمعون {أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} وكذا قال مجاهد والضحاك ومنهم من قال في الأثاث هو المال ومنهم من قال الثياب ومنهم من قال المتاع والرئي المنظر كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد, وقال الحسن البصري يعني الصور وكذا قال مالك: {أَثَاثاً وَرِءْياً} أكثر أموالاً وأحسن صوراً والكل متقارب صحيح.
{قُلْ مَن كَانَ فِي الضّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرّحْمَنُ مَدّاً حَتّىَ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمّا العَذَابَ وَإِمّا السّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرّ مّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً}
يقول تعالى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على حق وأنكم على باطل: {مَن كَانَ فِي الضّلاَلَةِ} أي منا ومنكم {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرّحْمَنُ مَدّاً} أي فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله {حَتّىَ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمّا العَذَابَ} يصيبه {وَإِمّا السّاعَةَ} بغتة تأتيه {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذ {مَنْ هُوَ شَرّ مّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندى. قال مجاهد في قوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرّحْمَنُ مَدّاً} فليدعه الله في طغيانه, وهكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه, كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم إن كنتم تدعون أنكم على الحق, فإنه لا يضركم الدعاء, فنكلوا عن ذلك, وقد تقدم تقرير ذلك في سورة البقرة مبسوطاً, ولله الحمد, وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله, وقد ذكر الله حججه وبراهينه على عبودية عيسى, وأنه مخلوق كآدم, قال تعالى بعد ذلك: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فنكلوا أيضاً عن ذلك.
{وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مّرَدّاً}
لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه, أخبر بزيادة المهتدين هدى, كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} الاَيتين. وقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ} قد تقدم تفسيرها والكلام عليها وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة الكهف {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أي جزاء {وَخَيْرٌ مّرَدّاً} أي عاقبة ومرداً على صاحبها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه, ثم قال: "إن قول لا إله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله, تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح, خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن, هن الباقيات الصالحات, وهن من كنوز الجنة" قال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللن الله, ولأكبرن الله, ولأسبحن الله, حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون, وهذا ظاهره أنه مرسل, ولكن قد يكون من رواية(3/165)
أبي سلمة عن أبي الدرداء, والله أعلم, وهكذا وقع في سنن ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن عمر بن راشد عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء, فذكر نحوه.
{أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاُوتَيَنّ مَالاً وَوَلَداً أَطّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَنِ عَهْداً كَلاّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً}
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خباب بن الأرت قال: كنت رجلاً قيناً وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه, فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد, فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك, فأنزل الله: {أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاُوتَيَنّ مَالاً وَوَلَداً - إلى قوله - وَيَأْتِينَا فَرْداً} أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما من غير وجه عن الأعمش به وفي لفظ البخاري: كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفاً, فجئت أتقاضاه فذكر الحديث, وقال: {أَمِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَنِ عَهْداً} قال: موثقاً.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى, عن مسروق قال: قال خباب بن الأرت: كنت قيناً بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل, فاجتمعت لي عليه دراهم فجئت لأتقاضاه, فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد, فقلت: لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث, قال: فإذا بعثت كان لي مال وولد, فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} الآيات. وقال العوفي عن ابن عباس: إن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطالبون العاص بن وائل السهمي بدين, فأتوه يتقاضونه, فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ومن كل الثمرات ؟ قالوا: بلى. قال: فإن موعدكم الآخرة, فو الله لأوتين مالاً وولداً, ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به, فضرب الله مثله في القرآن, فقال {أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا - إلى قوله - وَيَأْتِينَا فَرْداً} وهكذا قال مجاهد وقتادة وغيرهم: أنها نزلت في العاص بن وائل. وقوله: {لاُوتَيَنّ مَالاً وَوَلَداً} قرأ بعضهم بفتح الواو من ولدا, وقرأ آخرون بضمها, وهو بمعناه, قال رؤبة:
الحمد لله العزيز فرداً ... لم يتخذ من ولد شيء ولداً
وقال الحارث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشراً ... قد ثمروا مالاً وولدا
وقال الشاعر:
فليت فلاناً كان في بطن أمه ... وليت فلاناً كان ولد حمار
وقيل: إن الولد بالضم جمع, والولد بالفتح مفرد, وهي لغة قيس, والله أعلم. {أَطّلَعَ الْغَيْبَ} إنكار على هذا القائل {لاُوتَيَنّ مَالاً وَوَلَداً} يعني يوم القيامة, أي أعلم ماله في الآخرة حتى تألى وحلف على ذلك {أَمِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَنِ عَهْداً} أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك, وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق. وقال الضحاك عن ابن عباس: {أَطّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمَنِ عَهْداً} قال: لا إله إلا الله فيرجو(3/166)