الرد واجب على من سلم عليه، فيأثم أن لم يفعل، لأنه خالف أمر الله في قوله: فحيوا بأحسن منها أو ردوها وقد جاء في الحديث الذي رواه (أبو داود بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم").
وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسماً لقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} وهذه اللام موطئة للقسم، فقوله الله لا إله إلا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً}
يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين: واختلف في سبب ذلك فقال الإمام أحمد: حدثنا بهز، حدثنا شعبة، قال عدي بن ثابت، أخبرني عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم المؤمنون، فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد" أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة، وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة، وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: أن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله، أو كما قالوا: أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم، نستحل دماءهم وأموالهم ؟ فكانوا(1/658)
كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء، فنزلت {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} رواه ابن أبي حاتم، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا، وقال زيد بن أسلم عن ابن لسعد بن معاذ: أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبي، حين استعذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك، وهذا غريب، وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} أي ردهم وأوقعهم في الخطأ، قال ابن عباس {أَرْكَسَهُمْ} أي أوقعهم، وقال قتادة: أهلكم وقال السدي: أضلهم، وقوله: {بِمَا كَسَبُوا} أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه، وقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها وما ذاك إلا لشدة عدواتهم وبغضهم لكم ولهذا قال: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي تركوا الهجرة، قاله العوفي عن ابن عباس، وقال السدي: أظهروا كفرهم {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك، ثم استثنى الله من هؤلاء، فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة، أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم، وهذا قول السدي وابن زيد وابن جرير، وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: صه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، ما تريد ؟" قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال: "اذهب معه فافعل ما يريد" فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فأنزل الله {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ}.
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة، وقال: فأنزل الله {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم، وهذا أنسب لسياق الكلام، وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية: فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعهدهم، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية.
وقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} الآية، هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجئيون إلى المصاف وهم حصرة صدروهم أي ضيقة صدروهم مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي المسالمة {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره،(1/659)
وقوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} الآية، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن تعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} الآية، وقال ههنا {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} أي انهمكوا فيها، وقال السدي: الفتنة - ههنا - الشرك، وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم أن لم يعتزلوا ويصلحوا ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} المهادنة والصلح، {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} أي عن القتال، {فَخُذُوهُمْ} أسراء، {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي أين لقيتموهم، {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} أي بيناً واضحاً.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}
يقول تعالى: ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، وكما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه، وقوله: {إِلَّا خَطَأً} قالوا: هو استثناء منقطع، كقول الشاعر:
البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ ... على الأرض إلا ربط برد مرحل
ولهذا شواهد كثيرة. واختلف في سبب نزول هذه، فقال مجاهد وغير واحد: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه وهي أسماء بنت مخرمة، وذلك أنه قتل رجلاً يعذبه مع أخيه على الإسلام وهو الحارث بن يزيد الغامدي، فأضمر له عياش السوء، فأسلم ذلك الرجل وهاجر وعياش لا يشعر، فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل عليه فقتله، فأنزل الله هذه الآية، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلاً وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف، فأهوى به إليه فقال كلمته، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنما قالها متعوذاً فقال له: هل شققت عن قلبه ؟ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء.(1/660)
وقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزىء الكافرة، وحكى ابن جرير عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري أنهم قالوا: لا يجزىء الصغير حتى يكون قاصداً للإيمان، وروي من طريق عبد الرزاق عن معمر,عن قتادة، قال: في حرف، فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي، واختار ابن جرير أنه أن كان مولوداً بين أبوين مسلمين أجزأ وإلا فلا، والذي عليه الجمهور أنه متى كان مسلماً صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيراً أو كبيراً قال الإمام أحمد: أنبأنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار: أنه جاء بأمة سوداء، فقال: يا رسول الله: أن علي عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله: "أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟" قالت: نعم. قال: "أتشهدين أني رسول الله ؟" قالت: نعم. قال: "أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟" قالت: نعم. قال: "أعتقها". وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره، وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من طريق هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم: أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله ؟ قالت: في السماء. قال: "من أنا" قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة" وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} هو الواجب الثاني فيما بين القاتل و أهل القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتليهم، وهذه الدية إنما تجب أخماساً، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الحجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن ابن مسعود، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكوراً، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة، لفظ النسائي قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عبد الله موقوفاً، كما روي عن علي وطائفة، وقيل: يجب أرباعاً وهذه الدية على العاقلة لا في ماله، قال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة وهو أكثر من حديث الخاصة، وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ المحض في وجوب الدية، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثاً لشبهة العمد، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتهلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه وقال "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" وبعث علياً فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم حتى مبلغة الكلب، وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.
وقوله: {إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب، وقوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي إذا كان القتيل مؤمناً ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب، فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير، وقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية، أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمنا فدية كاملة، وكذا أن كان كافراً أيضاً عند طائفة من العلماء، وقيل: يجب في الكافر نصف دية المسلم وقيل: ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ(1/661)
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف، واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا، على قولين، وقوله: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين، واختلفوا فيمن لا يستطع الصيام، هل يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كما في كفارة الظهار، على قولين أحدهما: نعم كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر ههنا، لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص، والقول الثاني لا يعدل إلى الطعام، لأنه لو كان واجباً لما أخر بيانه عن وقت الحاجة {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} قد تقدم تفسيره غير مرة،
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بيان حكم القتل العمد، فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} الآية، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآية، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" ، وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري عن عبادة بن الصامت,قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح" وفي حديث آخر "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم"، وفي الحديث الآخر "ومن أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله" وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً، وقال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا المغيرة بن النعمان، قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء، وكذا رواه هو أيضاً ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري، عن مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} فقال: ما نسخها شيء. وقال ابن جرير: حدثنا بن بشار، حدثنا ابن عون، حدثنا شعبة عن سعيد بن جبير، قال: قال عبد الرحمن بن أبزا سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} الآية، قال: لم ينسخها شيء، وقال في هذه الآية {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى آخرها، قال: نزلت في أهل الشرك. وقال ابن جرير أيضاً حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن منصور، حدثني سعيد بن جبير أو حدثني الحكم عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: أن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه جهنم ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير عن يحيى الجابر عن سالم بن أبي الجعد، قال: كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً ؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً(1/662)
فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت أن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه، يقول: يا رب، سل هذا فيمَ قتلني" وايم الذي نفس عبد الله بيده، لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان، وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت يحيى بن المجبر يحدث عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس أن رجلاً أتى إليه فقال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً عمداً ؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً فيها، الآية، قال: لقد نزلت من آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت أن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال: وأنى له بالتوبة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثكلته أمه رجل قتل رجلاً متعمداً يجيء يوم القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو بيساره - أو آخذاً رأسه بيمينه أو بشماله - تشخب أوداجه دماً من قبل العرش، يقول: يا رب، سل عبدك فيمَ قتلني" وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجه، عن محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة، عن عمار الدهني ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس فذكره، وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله ابن أبي حاتم، وفي الباب أحاديث كثيرة، فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي (ح)، وحدثنا عبد الله بن جعفر، وحدثنا إبراهيم بن فهد، قالا: حدثنا عبيد بن عبيدة حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي عمرو بن شرحبيل بإسناده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول يا رب سل هذا فيمَ قتلني ؟ قال، فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي، قال ويجيء آخر متعلقاً بقاتله فيقول: رب سل هذا فيمَ قتلني. قال فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له بؤ بإثمه، قال: فيهوي في النار سبعين خريفاً" وقد رواه النسائي عن إبراهيم بن المستمر العوفي، عن عمرو بن عاصم، عن معتمر بن سليمان به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون، عن أبي إدريس، قال: سمعت معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً" وكذا رواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن صفوان بن عيسى به، وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا سمويه، حدثنا عبد الأعلى بن مسهر، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا خالد بن دهقان، حدثنا ابن أبي زكريا، قال سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو من قتل مؤمناً متعمداً" وهذا غريب جداً من هذا الوجه، والمحفوظ حديث معاوية المتقدم، فالله أعلم، ثم روى ابن مردويه من طريق بقية بن الوليد عن نافع بن يزيد: حدثني ابن جبير الأنصاري عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل مؤمناً متعمداً فقد كفر بالله عز وجل" وهذا حديث منكر أيضاً، فإسناده تكلم فيه جداً، قال الإمام أحمد: حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد، قال: أتاني أبو(1/663)
العالية أنا وصاحب لي، فقال لنا: هلما فأنتما أشب سناً مني، وأوعى للحديث مني، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم، فقال له أبو العالية: حدث هؤلاء بحديثك، فقال: حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأغارت على قوم، فشد مع القوم رجل فاتبعه رجل من السرية شاهراً سيفه، فقال الشاد من القوم: إني مسلم فلم ينظر فيما قال، قال: فضربه فقتله، فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولاً شديداً، فبلغ القاتل، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قال القاتل: والله ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل، قال: فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته، ثم قال أيضاً: يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم لم يصبر حتى قال الثالثة: والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه، فقال: "إن الله أبى على من قتل مؤمناً ثلاثاً" ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة، والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب، وخشع وخضع وعمل عملاً صالحاً بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ - إلى قوله - إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} الآية، وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم.
وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب أي من أي ذلك تاب الله عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء، والله أعلم، وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالماً هل لي من توبة ؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير مرة، وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن الله وضع عنا الاَصار والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية السمحة.
فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} الآية، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه أن جازاه، وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعاً من طريق محمد بن جامع العطار عن العلاء بن ميمون العنبري، عن حجاج الأسود، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعاً ولكن لا يصح، ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه أن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب، وبتقدير دخول القاتل في النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به فليس بمخلد فيها أبداً، بل الخلود هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان" ، وأما حديث معاوية "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً" فعسى للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا تنفي وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل لما ذكرنا(1/664)
من الأدلة، وأما من مات كافراً فالنص أن الله لا يغفر له البتة، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين، وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم، ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة، فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه، قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} الآية، ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوا، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثاً، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون حقة، كما هو مقرر في كتاب الأحكام، واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام، على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ، على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون نعم، يجب عليه، لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى، فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس واعتذروا بقضاء الصلاة المتروكة عمداً كما أجمعوا على ذلك في الخطأ، وقال أصحابه,الإمام أحمد وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه، وكذا اليمين الغموس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمداً، فإنهم يقولون بوجوب قضائها إذا تركت عمداً، وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن عياش عن واثلة بن الأسقع، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا: أن صاحباً لنا قد أوجب، قال: "فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" وقال أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ضمرة بن ربيعة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الديلمي، قال: أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا له حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال: "أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار" وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة به، ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان فغضب فقال: أن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص، قلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، يعني النار بالقتل، فقال: "أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار".
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكير وخلف بن الوليد وحسين بن محمد قالوا: حدثنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة,عن ابن عباس، قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم، فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخرها، ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، عن عبد العزيز بن أبي(1/665)
رزمة، عن إسرائيل به، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أسامة بن زيد، ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل به، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان، كلاهما عن إسرائيل به، وقال في بعض كتبه غير التفسير، وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط، وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيماً لعلل منها: أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا من هذا الوجه، ومنها أن عكرمة في روايته عندهم نظر، ومنها أن الذي نزلت فيه هذه الآية عندهم مختلف فيه فقال بعضهم: نزلت في محلم بن جثامة، وقال بعضهم: أسامة بن زيد، وقيل غير ذلك، قلت: وهذا كلام غريب وهو مردود من وجوه: أحدها أنه ثابت عن سماك حدث به عنه غير واحد من الأئمة الكبار، الثاني أن عكرمة محتج به في الصحيح، الثالث أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس، كما قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار,عن عطاء، عن ابن عباس {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} قال: قال ابن عباس كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} قال ابن عباس: عرض الدنيا تلك الغنيمة، وقرأ ابن عباس {السَّلامَ}، وقال سعيد بن منصور: حدثنا منصور عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، قال: لحق المسلمون رجلاً في غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فنزلت { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} . وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة به، وقد في ترجمة: أن أخاه فزاراً، هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أمر أبيه بإسلامهم وإسلام قومهم، فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في عماية الليل، وكان قد قال لهم إنه مسلم، فلم يقبلوا منه فقتلوه فقال أبوه: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاني ألف دينار ودية أخرى وسيرني، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
وأما قصة محلم بن جثامة، فقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يعقوب: حدثني أبي عن محمد بن إسحاق، حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - إلى قوله تعالى - خَبِيراً} تفرد به أحمد. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا جرير عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً، فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم فيه عيينة والأقرع: فقال الأقرع يا رسول الله، سر اليوم وغر غداً، فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي، فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا غفر الله لك" ، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم" ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي(1/666)
سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية.
وقال البخاري: قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتلته، فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل" هكذا ذكره البخاري معلقاً مختصراً، وقد روي مطولاً موصولاً، فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا حماد بن علي البغدادي، حدثنا جعفر بن سلمة، حدثنا أبو بكر بن علي بن مقدم، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى عليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله ؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: "ادعوا لي المقداد، يا مقداد: أقتلت رجلاً يقول لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غداً ؟" قال: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل" وقوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أي خير مما رغبتم فيه عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا.
وقوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً، وكما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} الآية، وهذا مذهب سعيد بن جبير لما رواه الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير في قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تخفون إيمانكم في المشركين، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير عن سعيد بن جبير في قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم، وذكر عن قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير: قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} لم تكونوا مؤمنين {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وقوله: {فَتَبَيَّنُوا} تأكيد لما تقدم، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} قال سعيد بن جبير: هذا تهديد ووعيد.
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء، قال لما نزلت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل الله(1/667)
{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء، قال: لما نزلت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم ادع فلاناً، فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال اكتب {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم، فقال يا رسول الله، أنا ضرير، فنزلت مكانها {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال البخاري أيضاً: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى علي {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي، قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان فخذه على فخذي فثقلت علي خفت أن ترض فخدي، ثم سري عنه، فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} تفرد به البخاري دون مسلم، وقد روي من وجه آخر عند الإمام أحمد عن زيد فقال: حدثنا سليمان بن داود، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، قال: قال زيد بن ثابت: إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه وغشيته السكينة، قال: فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة، قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئاً قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه، فقال: اكتب يا زيد، فأخذت كتفاً، فقال: اكتب {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً} فكتبت ذلك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى، فقام حين سمع فضيلة المجاهدين، وقال: يا رسول الله، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك ؟ قال زيد: فو الله ما قضى كلامه - أو ما هو إلا أن قضى كلامه - غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة,فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه، فقال: اقرأ فقرأت عليه {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}، قال زيد: فألحقتها,فو الله كأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف، ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، به نحوه.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، أنبأنا الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اكتب {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فجاء عبد الله بن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري، قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه، ثم قال: "اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله" ، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عبد الكريم هو ابن مالك الجزري، أن مقسماً مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر، انفرد به البخاري دون مسلم، وقد رواه الترمذي من طريق حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نزلت غزوة بدر، قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله، فهل لنا رخصة ؟ فنزلت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر، هذا لفظ الترمذي. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا ا لوجه، فقوله:(1/668)
{ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} كان مطلقاً، فلما نزل بوحي سريع {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد)من العمى والعرج والمرض، عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين، قال ابن عباس: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}، وكذا ينبغي أن يكون، كما ثبت في صحيح البخاري من طريق زهير بن معاوية، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال: نعم حبسهم العذر" ، وهكذا رواه أحمد عن محمد بن أبي عدي، عن حميد، عن أنس به، وعلقه البخاري مجزوماً، ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه" ، قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله ؟ قال: "نعم حبسهم العذر" لفظ أبي داود، وفي هذا المعنى قال الشاعر:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، بل هو فرض على الكفاية. قال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجنان العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وحلول الرحمة والبركات، إحساناً منه وتكريماً، ولهذا قال: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء الأرض". وقال الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رمى بسهم فله أجره درجة" فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة ؟ فقال: "أما إنها ليست بعتبة أمك. ما بين الدرجتين مائة عام}.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء، حدثنا حيوة وغيره، قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود، قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم، فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}، وراه الليث عن أبي الأسود. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن(1/669)
منصور الرمادي، حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري، حدثنا محمد بن شريك المكي، حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم بفعل بعض. قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية. قال عكرمة: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم. قال: فخرجوا، فلحقهم المشركون، فأعطوهم التقية، فنزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية. قال عكرمة: نزلت هذه الآية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالإسلام بمكة منهم علي بن أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبّه بن الحجاج والحارث بن زمعة، قال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} أي لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} الآية، وقال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثني يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب، أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" ، وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "افد نفسك وابن أخيك" فقال: يا رسول الله، ألم نصل إلى قبلتك، ونشهد شهادتك، قال "يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم" ، ثم تلا عليه هذه الآية {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} الآية، وراه ابن أبي حاتم.
وقوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} إلى آخر الآية، هذه عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} ، قال مجاهد وعكرمة والسدي: يعني طريقاً.
وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي يتجاوز من الله عنهم بترك الهجرة، عسى من الله موجبة، {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} ، قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو معمر المقري، حدثني عبد الوارث، حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة، فقال: "اللهم خلص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً من أيدي الكفار". وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا حجاج، حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر "اللهم خلص الوليد،(1/670)
وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. وقال البخاري: أنبأنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة، عن ابن عباس {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل.
وقوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} ، هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه، والمراغم مصدر تقول العرب: راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة، قال النابغة بن جعدة:
كطود يلاذ بأركانه ... عزيز المرغم والمهرب
وقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض. وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري. وقال مجاهد: {مُرَاغَماً كَثِيراً} يعني متزحزحاً عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: مراغماً كثيراً يعني بروجاً، والظاهر - والله أعلم - أنه المنع الذي يُتحصّن به ويراغم به الأعداء. قوله: {وَسَعَةً} يعني الرزق، قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال: في قوله: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} أي من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى، وقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً: هل له من توبة ؟ فقال له، ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه. فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الآخر أدركه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تقترب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن عتيك، عن أبيه عبد الله بن عتيك، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله، ثم قال: - وأين المجاهدون في سبيل الله - فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله - يعني بحتف أنفه على فراشه، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن قتل قعصاً فقد استوجب الجنة". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي، حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي، عن المنذر بن عبد الله عن هشام بن عروة عن أبيه، أن الزبير بن العوام قال: هاجر(1/671)
خالد بن حزام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} ، قال الزبير، فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني، لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى، ولا أرجو غيره، وهذا الأثر غريب جداً، فإن هذه القصة مكية، ونزول هذه الآية مدنية، فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره وإن لم يكن ذلك سبب النزول، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، حدثنا أشعث هو ابن سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة، فلما نزلت {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} فقلت: إني لغني، وإني لذو حيلة، فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت هذه الآية {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} الآية.
وقال الطبراني: حدثنا الحسن بن عروبة البصري، حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا ابن ثوبان عن أبيه، حدثنا مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أنبأنا أبو مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قال: من انتدب خارجاً في سبيلي غازياً ابتغاء وجهي، وتصديق وعدي، وإيماناً برسلي فهو في ضمان على الله، إما أن يتوفاه بالجيش فيدخله الجنة، وإما أن يرجع في ضمان الله، وإن طالب عبداً فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر، أو غنيمة، ونال من فضل الله فمات، أو قتل، أو رفصته فرسه، أو بعيره، أو لدغته هامة، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله، فهو شهيد" . وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره، وزاد بعد قوله: فهو شهيد، وإن له الجنة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن زياد سبَلان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن إسحاق عن حميد بن أبي حميد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج حاجاً فمات، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة" . وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً}
يقول تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أي سافرتم في البلاد، كما قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك، فمن قائل: لا بد أن يكون سفر طاعة من جهاد، أو حج، أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة، وغير ذلك، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه، لظاهر قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، ومن قائل: لا يشترط سفر(1/672)
القربة، بل لا بد أن يكون مباحاً، لقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} الآية، كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصياً بسفره، وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة، وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين، فأمره أن يصلي ركعتين، وهذا مرسل، ومن قائل: يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر، وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور.
وأما قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة. وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} ، وكقوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} الآية، وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إدريس، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية، قالت: سألت عمر بن الخطاب قلت له: قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ورجاله معروفون. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء، قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال: ركعتان، فقلت: أين قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ونحن آمنون ؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى، حدثنا علي بن محمد بن سعيد: حدثنا منجاب، حدثنا شريك عن قيس بن وهب، عن أبي الوداك، قال: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال: هي رخصة نزلت من السماء، فإن شئتم فردوها. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا ابن عون عن ابن سيرين، عن ابن عباس، قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين. وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن عون به. قال أبو عمر بن عبد البر: وهكذا رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قلت وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة، عن هشيم، عن منصور، عن زاذان، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين، فصلى ركعتين، ثم قال الترمذي: صحيح، وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق، قال: سمعت أنساً يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت أقمتم بمكة شيئاً ؟ قال: أقمنا بها عشراً.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي به. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس، وآمنه ركعيتن. ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق(1/673)
عن أبي إسحاق السبيعي عنه به، ولفظ البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمعت حارثة بن وهب، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين، وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، حدثنا عبيد الله، أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، وأبي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته، ثم أتمها، وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به. وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الواحد عن الأعمش، حدثنا إبراهيم سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ورواه البخاري أيضاً من حديث الثوري عن الأعمش به وأخرجه مسلم من طرق عنه منها عن قتيبة كما تقدم.
فهذه الأحاديث دالة صريحاً على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف، ولهذا قال من قال من العلماء: أن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه، واعتضدوا أيضاً بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فأقرت صلاة السفر، وزيدت في صلاة الحضر، وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة، أربعتهم عن مالك به، قالوا: فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين، فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية، لأن ما هو الأصل لا يقال فيه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عن زبيد اليامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر رضي الله عنه، قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به، وهذا إسناد على شرط مسلم.
وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر، وقد جاء مصرحاً به في هذا الحديث وفي غيره، وهو الصواب أن شاء الله، وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا، إنه لم يسمع منه، وعلى هذا أيضاً: فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الثقة، عن عمر، فذكره، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد، عن عبد الرحمن، عن كعب بن عجرة، عن عمر، فالله أعلم. وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، زاد مسلم والنسائي: وأيوب بن عائد، كلاهما عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر. ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه، فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها، لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان، ولكن زيد في صلاة الحضر، فلما استقر ذلك، صح أن يقال: أن فرض صلاة الحضر أربع، كما قاله ابن عباس - والله أعلم - لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان، وأنها تامة غير مقصورة، كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه، وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} قصر الكيفية(1/674)
كما في صلاة الخوف، ولهذا قال: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، ولهذا قال بعدها: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية، فبين المقصود من القصر ههنا، وذكر صفته وكيفيته، ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} إلى قوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً}، وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} قال: ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال أسباط عن السدي في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} الآية، أن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر، فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان، والمشركون بضجنان، فتوافقوا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم، وسجودهم، وقيامهم معاً جميعاً فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، روى ذلك ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي وعن جابر وابن عمر، واختار ذلك أيضاً فإنه قال بعدما حكاه من الأقوال في ذلك: وهو الصواب.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر، فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر، وأقره ابن عمر على ذلك، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن، وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضاً: حدثنا أحمد بن الوليد القرشي، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر في صلاة المخافة، فقلت: وما صلاة المخافة ؟ فقال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة.
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}
صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثية كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ورجالاً وركباناً، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة. ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم، وبه قال أحمد بن حنبل. قال المنذري في(1/675)
الحواشي: وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد وإليه ذهب طاوس والضحاك، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي: أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف، وإليه ذهب ابن حزم أيضاً. وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومىء بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر الله، وقال آخرون: تكفي تكبيرة واحدة، فلعله أراد ركعة واحدة. كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي، ورواه ابن جرير، ولكن الذي حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة، كما هو مذهب إسحاق ابن راهويه وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال: فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه يعني بالنية. رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عياش، عن شعيب بن دينار عنه، فالله أعلم.
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب، ثم العشاء، وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من الفريقين، وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة وبينا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر، وإن كان الآخرون معذورين أيضاً، والحجة ههنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود.
وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة الخوف، فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك، وهذا بينٌ في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه الله وأهل السنن، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في صحيحه حيث قال:
(باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو) قال الأوزاعي: أن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة، صلوا إيماء كل امرىء لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء، أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول. وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها انتهى ما ذكره، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب، ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وكأنه كالمختار لذلك، والله أعلم.
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالباً، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة، والله أعلم، قال هؤلاء: وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول الجمهور علماء السير والمغازي، وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم. وقال البخاري وغيره: كانت ذات الرقاع بعد الخندق لحديث أبي موسى وما قدم إلا في خيبر، والله أعلم.والعجب كل العجب أن المزني وأبا يوسف القاضي وإبراهيم بن إسماعيل بن علية، ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصلاة والسلام، الصلاة يوم الخندق وهذا غريب جداً، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب، والله أعلم.(1/676)
فقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} أي إذا صليت بهم إماماً في صلاة الخوف، وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك قصرها إلى ركعة كما دل عليه الحديث - فرادى ورجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد، وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فبعده تفوت هذه الصفة، فإنه استدلال ضعيف، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} قالوا: فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد، بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه، وندفعها إلا إلى من صلاته أي دعاؤه سكن لنا، ومع هذا رد عليهم الصحابة، وأبوا عليهم هذا الاستدلال، وأجبروهم على أداء الزكاة وقتلوا من منعها منهم.
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولاً قبل ذكر صفتها. قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى، حدثني إسحاق، حدثنا عبد الله بن هاشم، أنبأنا سيف عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي رضي الله عنه، قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول، غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم: أن لهم أخرى مثلها في أثرها، قال: فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين {إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيتين، فنزلت صلاة الخوف، وهذا سياق غريب جداً، ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت رضي الله عنه عند الإمام أحمد وأهل السنن، فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر {إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح، قال: فصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا، جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف، قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم.
ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة عن منصور به نحوه، وهكذا رواه أبو داود عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبد الحميد، والنسائي من حديث شعبة، وعبد العزيز بن عبد الصمد، كلهم عن منصور به، وهذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً.(1/677)
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة أي يوم أنزل أو أي يوم هو، فقال جابر: انطلقنا نتلقى عيراً لقريش آتية من الشام حتى إذا كنا بنخلة، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل تخافني ؟ قال: "لا" قال فمن يمنعك مني ؟ قال: "الله يمنعني منك" قال: فسل السيف، ثم تهدده وأوعده، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم، فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، والآخرون يحرسونهم، ثم سلم فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.
ورواه الإمام أحمد فقال: حدثنا سريج، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبد الله، قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال: من يمنعك مني ؟ قال: "الله"، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ومن يمنعك مني ؟" قال: كن خير آخذ. قال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" ؟ قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس، فلما حضرت الصلاة، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فكان الناس طائفتين: طائفة بإزاء العدو، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا، فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو، ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، تفرد به من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم، حدثنا المسعودي عن يزيد الفقير، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما ؟ فقال: الركعتان في السفر تمام، إنما القصر واحدة عند القتال، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال، إذ أقيمت الصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف طائفة، وطائفة وجهها قبل العدو، فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم، وسلم الذين خلفه، وسلم أولئك، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، وللقوم ركعة ركعة، ثم قرأ {إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه وصف خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ولهم ركعة، ورواه النسائي من حديث شعبة، ولهذا الحديث طرق عن جابر، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر، وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمسانيد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا معمر عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: {إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} قال: هي صلاة الخوف، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ثم سلم بهم، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة، وهذا الحديث رواه الجماعة في كتبهم من طريق معمر به، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن الجماعة من الصحابة، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد(1/678)
طرقه وألفاظه، وكذا ابن جرير، ولنحرره في كتاب الأحكام الكبير، أن شاء الله وبه الثقة. وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية، وهو أحد قولي الشافعي، ويدل عليه قول الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}.
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف وإن كان مشروعاً مرغباً فيه أيضاً بعد غيرها، ولكن ههنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها، كما قال تعالى في الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وإن كان هذا منهياً عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمتها، ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي في سائر أحوالكم، ثم قال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي فإذا أمنتم وذهب الخوف، وحصلت الطمأنينة {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وركوعها، وسجودها، وجميع شؤونها.
وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} قال ابن عباس: أي مفروضاً، وقال أيضاً: أن للصلاة وقتاً كوقت الحج، وكذا روي عن مجاهد وسالم بن عبد الله وعلي بن الحسين ومحمد بن علي والحسن ومقاتل والسدي وعطية العوفي. قال عبد الرزاق: عن معمر عن قتادة {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} قال: ابن مسعود: أن للصلاة وقتاً كوقت الحج وقال زيد بن أسلم {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} قال: منجماً كلما مضى نجم جاء نجم، يعني كلما مضى وقت جاء وقت.
وقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أي لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدوا فيهم وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم، كما قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} ، ثم قال تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم، وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق، وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة الله وإعلائها، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية وهو المحمود على كل حال.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ(1/679)
يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}
يقول تعالى: مخاطباً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي هو حق من الله، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، وقوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين من رواة هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: " ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها" وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة " فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه" وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد به، وزاد "إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه".
وقد روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس: أن نفراً من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فقالوا: يا نبي الله أن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علماً، فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه أن لم يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية.
ثم قال تعالى: للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} الآيتين، يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين، ثم قال عز وجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية، يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ثم قال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} يعني السارق والذين جادلوا عن السارق، وهذا سياق غريب، وكذا ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم في هذه الآية: إنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة.
وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه، وابن جرير في تفسيره: حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان رضي الله عنه، قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله لبعض العرب، ثم يقول: قال فلان(1/680)
كذا وكذاو وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث أو كما قال الرجل، وقالوا ابن الأبيرق: قالها، قالوا: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعدي عليه من تحت البيت، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق ؟! والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام، فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سآمر في ذلك"، فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عمرو فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله، أن قتادة بن النعمان وعمه، عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: "عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت، قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} يعني بني أبيرق، {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أي مما قلت لقتادة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} - إلى قوله - {رَحِيماً ً} أي لو استغفروا الله لغفر لهم {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ - إلى قوله - إِثْماً مُبِيناً} قولهم للبيد {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ - إلى قوله - فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عسى أو عشي - الشك من أبي عيسى - في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً لما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} فلما نزل على سلافة بنت سعد، هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به، فرمته في الأبطح، ثم قالت: أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير، لفظ الترمذي ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.
ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده، ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به(1/681)
ببعضه. ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدثنا محمد بن إسماعيل يعني الصائغ، حدثنا الحسن بن أحمد بن شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة، فذكره بطوله. ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن عياش بن أيوب والحسن بن يعقوب، كلاهما عن الحسن بن أحمد
ابن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به، ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة: سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل، وقد روى هذا الحديث الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن عباس الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه وفيه الشعر، ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} الآية، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها، لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} تهديد لهم ووعيد. ثم قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدي لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك، فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم ؟ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلاً، ولهذا قال: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}.
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}
يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه، تاب عليه من أي ذنب كان. فقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: أخبر الله عباده بعفوه وحلمه وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال، رواه ابن جرير، وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا محمد بن أبي عدي، حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول منه شيئاً قرضه بالمقراض فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيراً، فقال عبد الله رضي الله عنه: ما آتاكم الله خير مما آتاهم، جعل الماء لكم طهوراً، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}، وقال أيضاً: حدثني يعقوب، حدثنا هشيم عن ابن عون، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها،(1/682)
قال عبد الله بن مغفل: لها النار، فانصرفت وهي تبكي فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} قال: فمسحت عينها ثم مضت.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة عن عثمان بن المغيرة، قال: سمعت علي بن ربيعة من بني أسد يحدث عن أسماء أو ابن أسماء من بني فزارة، قال: قال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يذنب ذنباً، ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب، إلا غفر له" وقرأ هاتين الآيتين {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ، الآية. وقد تكلمنا على هذا الحديث وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن، وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضاً.
وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحراني، حدثنا دواد بن مهران الدباغ حدثنا عمر بن يزيد عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي، قال: سمعت أبا بكر - هو الصديق - يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه، إلا كان حقاً على الله أن يغفر له" لأن الله يقول: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية، ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي، عن الصديق، بنحوه، وهذا إسناد لا يصح. وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي عن تمام بن نجيح حدثني كعب بن ذهل الأزدي قال: سمعت أبا الدرداء يحدث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسنا حوله، وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع، ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه، وأنه قام فترك نعليه، قال أبو الدرداء: فأخذ ركوة من ماء فاتبعته فمضى ساعة ثم رجع ولم يقض حاجته، فقال: "إنه أتاني آت من ربي فقال: إنه {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} فأردت أن أبشر أصحابي".
قال أبو الدرداء: وكانت قد شقت على الناس الآية التي قبلها {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} فقلت: يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق، ثم استغفر ربه غفر له ؟ قال "نعم". ثم قلت الثانية، قال "نعم". قلت الثالثة، قال "نعم" وإن زنى وإن سرق ثم استغفر الله، غفر الله له على رغم أنف أبي الدرداء". قال: فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه، هذا حديث غريب جداً من هذا الوجه بهذا السياق، وفي إسناده ضعف.
وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} الآية، كقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية، يعني أنه لا يغني أحد عن أحد، وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} أي من علمه وحكمته، وعدله ورحمته كان ذلك، ثم قال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} الآية، يعني كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون، وقد كان بريئاً وهم الظلمة الخونة، كما أطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم، فعليه مثل عقوبتهم.
وقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} وقال الإمام ابن أبي حاتم: أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي، حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، وذكر قصة بني أبيرق، فأنزل الله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ(1/683)
يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} يعني أسيد بن عروة وأصحابه، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال، وعصمته له، وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة، وهي السنة {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} أي قبل نزول ذلك عليك، كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} إلى آخر السورة، وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ولهذا قال: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}.
{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}
يقول تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} يعني كلام الناس {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} أي إلا نجوى من قال ذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث، حدثنا محمد بن يزيد بن حنيس، قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده، فدخل علينا سعيد بن حسان المخزومي، فقال له سفيان الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح، ردّده علي، فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر" فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ؟ فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول في كتابه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} الخ ؟ فهو هذا بعينه، وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس عن سعيد بن حسان به، ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها، ثم قال الترمذي: حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث ابن خُنَيس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا صالح بن كيسان، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً، أو يقول خيراً" ، وقالت لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها، قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن الزهري به نحوه. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عمرو بن مُرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة ؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين"، قال: "وفساد ذات البين هي الحالقة". ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر حدثنا أبي عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(1/684)
لأبي أيوب: "ألا أدلك على تجارة ؟" قال: بلى يا رسول الله. قال "تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا" ثم قال البزار وعبد الرحمن بن عبد الله العمري: لين، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها، ولهذا قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي مخلصاً في ذلك محتسباً ثواب ذلك عند الله عز وجل، {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً.) وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق، والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له.
وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك، قد ذكرنا منها طرفاً صالحاً في كتاب أحاديث الأصول، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك، ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجاً له، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وجعل النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} الآية، وقال تعالى: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً}.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ً وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة، وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} الآية، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة، وقد روى الترمذي: حديث ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة عن أبيه، عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه(1/685)
الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية، ثم قال: هذا حسن غريب. وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} أي فقد سلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة.
وقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن غيلان، أنبأنا الفضل بن موسى، أخبرنا الحسن بن واقد عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: مع كل صنم جنية، وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن سلمة الباهلي عن عبد العزيز بن محمد، عن هشام يعني ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} قالت: أوثاناً. وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدي ومقاتل بن حيان، نحو ذلك. وقال جويبر عن الضحاك في الآية، قال المشركون أن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال: فاتخذوهن أرباباً، وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا، وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة، وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} الآيات، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} الآية، وقال: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} الآيتين وقال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} قال: يعني موتى. وقال مبارك، يعني ابن فضالة، عن الحسن: أن يدعون من دونه إلا إناثاً. قال الحسن: الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وهو غريب.
وقوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً} أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية. وقال تعالى إخباراً عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.
وقوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ} أي طرده وأبعده من رحمته، وأخرجه من جواره، وقال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي معيناً مقدراً معلوماً. قال مقاتل بن حيان: من كل ألف، تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} أي عن الحق، {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم، وقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} . قال قتادة والسدي وغيرهما: يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة، {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}، قال ابن عباس: يعني بذلك خصي الدواب، وقد روي عن ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبي صالح والثوري، وقد ورد في حديث النهي عن ذلك، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: يعني بذلك الوشم، وفي صحيح مسلم، النهي عن الوشم في الوجه، وفي لفظ: لعن الله من فعل ذلك، وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل، ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، يعني قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والحكم والسدي والضحاك وعطاء الخراساني في قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} يعني دين الله عز وجل، هذا كقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} على قول من جعل ذلك أمراً، أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء" وفي صحيح(1/686)
مسلم عن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم".
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} أي فقد خسر الدنيا والآخرة، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها. وقوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} وهذا إخبار عن الواقع، فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً}، كما قال تعالى مخبراً عن إبليس يوم المعاد {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } - إلى قوله - {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وقوله: {أُولَئِكَ} أي المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص، ولا مناص، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومالهم في مآلهم من الكرامة التامة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي يصرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أي بلا زوال ولا انتقال {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} أي هذا وعد من الله، ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر، وهو قوله حقاً، ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} أي لا أحد أصدق منه قولاً، أي خبراً لا إله هو ولا رب سواه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً}
قال قتادة: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية، ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان، وكذا روي عن السدي ومسروق والضحاك وأبي صالح وغيرهم، وكذا روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوارة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ(1/687)
كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية.
وخير بين الأديان فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} إلى قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}. وقال مجاهد: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} ، وقالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وليس كل من ادعى شيئاً حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان، ولهذا قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ؟ بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، ولهذا قال بعده {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ، كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير، قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} فكل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك الألواء ؟" قال: بلى. قال: "فهو مما تجزون به". ورواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة، عن إسماعيل بن أبي خالد به، ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا" وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن هشيم بن جهيمة، حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا زياد الجصاص عن علي بن زيد، عن مجاهد، قال: قال عبد الله بن عمر: انظروا المكان الذي فيه عبد الله بن الزبير مصلوباً فلا تمرن عليه، قال: فسها الغلام فإذا عبد الله بن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال: يغفر الله لك ثلاثاً، أما والله ما علمتك إلا صوّاماً قواماً وصالاً للرحم، أما والله إني لأرجو مع مساوي ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها، قال: ثم التفت إلي فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً في الدنيا يجز به" ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل، عن عبد الوهاب بن عطاء به مختصراً، وقال في مسنده ابن الزبير: حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي، حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان، حدثني أبي عن جدي حيان بن بسطام، قال: كنت مع ابن عمر فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب، فقال: رحمة الله عليك أبا خُبيب، سمعت أباك يعني الزبير، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا والآخرة" ثم قال: لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني مولى بن سباع، قال: سمعت ابن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي ؟" قلت: بلى يا رسول الله. قال: فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها. فقال(1/688)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك يا أبا بكر ؟" قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون، فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة" ، وكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى وعبد بن حميد عن روح بن عبادة به. ثم قال: وموسى بن عبيدة يضعف، ومولى بن سباع مجهول. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي المصيبات في الدنيا".
(طريق أخرى عن الصديق) قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري، حدثنا محمد بن عامر السعدي، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا فضيل بن عياض عن سلمان بن مهران، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، قال: قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ؟} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء".
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور، قالا: أنبأنا زيد بن الحباب، حدثنا عبد الملك بن الحسن المحاربي، حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ عن عائشة، عن أبي بكر قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: يا رسول الله، كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال: "يا أبا بكر أليس يصيبك كذا وكذا، فهو كفارة".
(حديث آخر) قال سعيد بن منصور: أنبأنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن يزيد بن أبي يزيد حدثه عن عبيد بن عمير، عن عائشة أن رجلاً تلا هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} فقال: إنا لنجزى بكل ما علمناه، هلكنا إذاً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه".
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سلمة بن بشير، حدثنا هشيم عن أبي عامر، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إني لأعلم أشد آية في القرآن، فقال: "ما هي يا عائشة ؟" قلت: من يعمل سوءاً يجز به، فقال: "هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها" ورواه ابن جرير من حديث هشيم به. ورواه أبو داود من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به.
(طريق أخرى) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}، فقالت: ما سألني أحد عن هذه الآية منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه، فيفزع لها، فيجدها في جيبه حتى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه، كما أن الذهب يخرج من الكير".
(طريق أخرى) قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو القاسم، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن زيد بن المهاجر، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ، قال: "إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في القبض عند الموت" وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة قالت: قال: رسول الله: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه.
(حديث آخر) قال سعيد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، سمع محمد بن قيس بن مخرمة يخبر أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} شق ذلك(1/689)
على المسلمين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها" ، هكذا رواه أحمد عن سفيان بن عيينة، ومسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به، ورواه ابن مردويه من حديث روح ومعتمر، كلاهما عن إبراهيم بن يزيد، عن عبد الله بن إبراهيم، سمعت أبا هريرة يقول: لما نزلت هذه الآية { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} بكينا وحزنا، وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء، قال: "أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت، ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا، فإنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه" وقال عطاء بن يسار، عن أبي سعيد وأبي هريرة: أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله من سيئاته" أخرجاه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن سعد بن إسحاق، حدثتني زينب بنت كعب بن عجرة عن أبي سعيد الخدري، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا، ما لنا بها ؟ قال: كفارات. قال أبي: وإن قلت قال: حتى الشوكة فما فوقها، قال: فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعك حتى يموت في أن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد في سبيل الله ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فما مسه إنسان إلا وجد حره حتى مات رضي الله عنه، تفرد به أحمد.
(حديث أخر) روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: قيل: يا رسول الله {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}، قال: "نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشراً" فهلك من غلب واحدته عشراته. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال: الكافر، ثم قرأ {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} ، وهكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما فسرا السوء ههنا بالشرك أيضاً. وقوله: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إلا أن يتوب فيتوب الله عليه، رواه ابن أبي حاتم، والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث، وهذا اختيار ابن جرير، والله أعلم.
وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية، لما ذكر الجزاء على السيئات وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو الأجود له، وإما في الآخرة والعياذ با لله من ذلك، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده، ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو الخيط في شق النواة، وهذا النقير وهما في نواة التمرة، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة، والثلاثة في القرآن،
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق,، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراءون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً،(1/690)
ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم، الآية، ولهذا قال تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة. كما قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} الآية، وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والحنيف هو المائل عن الشرك قصداً، أي تاركاً له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد.
وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} وهذا من باب الترغيب في اتباعه، لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له، فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، قال كثير من علماء السلف: أي قام بجميع ما أمر به في كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير وقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية. وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية، والآية بعدها، وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون، قال: أن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح، فقرأ {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فقال رجل: من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم، وقد ذكر ابن جرير في تفسيره عن بعضهم: أنه إنما سماه الله خليلاً من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل، وقال بعضهم من أهل مصر: ليمتار طعاماً لأهله من قبله فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب من أهله قرّ بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون، ففعل ذلك فتحول ما في الغرائر من الرمل دقيقاً، فلما صار إلى منزله نام، و قام أهله ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقاً فعجنوا منه وخبزوا، فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي خبزوا، فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فقال: نعم هو من عند خليلي الله، فسماه الله خليلاً، وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبراً إسرائيلياً لا يصدق ولا يكذب، وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه عز وجل، له لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها، ولهذا ثبت في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها، قال: "أما بعد، أيها الناس فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله" وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن مسعود عن النبي قال: "إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً" وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة، حدثنا عبد الله الحنفي، حدثنا زمعة أبو صالح عن سلمة بن وهران، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجب، أن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله، وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليماً، وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته، وقال آخر: آدم اصطفاه الله فخرج عليهم فسلم، وقال: "قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم قال: ألا وإني حبيب الله، ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع، ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين، ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر" وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه(1/691)
شواهد في الصحاح وغيرها،
وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وكذا روي عن أنس بن مالك وغير واحد من الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا محمد يعني سعيد بن سابق، حدثنا عمرو يعني ابن أبي قيس عن عاصم عن أبي راشد، عن عبيد بن عمير، قال: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوماً يلتمس أحداً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلاً قائماً، فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني ؟ قال: دخلتها بإذن ربها، قال: ومن أنت ؟ قال: أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده، أبشره بأن الله قد اتخذه خليلاً، قال: من هو ؟ فوالله أن أخبرتني به، ثم كان بأقصى البلاد لآتينه، ثم لا أبرح له جاراً حتى يفرق بيننا الموت، قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا ؟ قال: نعم، قال فيم اتخذني ربي خليلاً ؟ قال: إنك تعطي الناس ولا تسألهم وحدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد السلمي، حدثنا الوليد عن إسحاق بن يسار، قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء.
وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا مقعب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته. وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى.
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً}
قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} - إلى قوله - { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قالت عائشة: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها، فنزلت هذه الآية، وكذلك رواه مسلم عن أبي كريب، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن أسامة، وقال ابن أبي حاتم: قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، قالت عائشة: ثم أن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} الآية، قال: والذي ذكر الله أنه يتلى عليه في الكتاب، الآية الأولى التي قال الله {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وبهذا الإسناد عن عائشة قالت: وقول الله عز وجل: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين(1/692)
تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، وأصله ثابت في الصحيحين من طريق يونس بن يزيد الأيلي به والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله أن يمهرها أسوة بأمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الأمر، فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، وهي قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} الآية، كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً فإن كانت جميلة وهويها، تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها فحرم الله ذلك ونهى عنه.) وقال في قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: {لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فنهى الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} صغيراً أو كبيراً، وكذا قال سعيد بن جبير وغيره وقال سعيد بن جبير في قوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فانكحها واستأثر بها. وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} تهييجاً على فعل الخيرات وامتثالاً للأوامر، وإن الله عز وجل عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً}
يقول تعالى مخبراً ومشرعاً من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها، فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، ولهذا قال تعالى: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} ، ثم قال: {وَالصّلْحُ خَيْرٌ} أي من الفراق، وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق، ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك.
(ذكر الرواية بذلك) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل، ونزلت هذه الآية {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ} الآية. قال ابن عباس فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. ورواه الترمذي عن محمد بن المثنى، عن أبي(1/693)
داود الطيالسي به، وقال: حسن غريب. قال الشافعي: أخبرنا مسلم عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة وكان يقسم لثمان. وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة. وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة عن عائشة نحوه.
وقال سعيد بن منصور: أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام، عن أبيه عروة، قال: أنزل الله في سودة وأشباهها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت، ففزعت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضنت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي وقد رواه أحمد بن يونس عن الحسن بن أبي الزناد موصولاً، وهذه الطريقة رواها الحاكم في مستدركة فقال: حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أخبرنا الحسن بن على بن زياد، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت له: يا ابن أختي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفزعت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، يومي هذا لعائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: ففي ذلك أنزل الله {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} وكذلك رواه أبو داود عن أحمد بن يونس به، والحاكم في مستدركه، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق أبي بلال الأشعري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به نحوه ومن رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة بنحو مختصراً، والله أعلم.
وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي في أول معجمه: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا مسلم بن إبراهيم. حدثنا هشام الدستوائي، حدثنا القاسم بن أبي بزة، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زمعة بطلاقها، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة، فلما رأته قالت له: أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه واصطفاك على خلقه لما راجعتني، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيام، فراجعها فقالت: فإني جعلت يومي وليلتي لحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غريب مرسل. وقال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، أنبأنا عبد الله، أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} قال: الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا وكيع، حدثنا أبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قالت: هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون بمستكثر منها، ولا يكون لها ولد ويكون لها صحبة فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني. حدثني المثنى، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة عن هشام، عن عروة، عن عائشة، في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} قالت: هو الرجل يكون له امرأتان: إحداهما قد كبرت، أو هي دميمة، وهو لا يستكثر منها فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير وجه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، بنحو ما تقدم، ولله الحمد والمنة.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير عن أشعث عن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فسأله عن آية، فكرهه فضربه بالدرة، فسأله آخر عن هذه الآية {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاًً} ثم قال عن مثل هذا(1/694)
فاسألوا، ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني، حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فسأله عن قول الله عز وجل {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} ، قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.
وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص، ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل، أربعتهم عن سماك به. وكذا فسرها ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد بن جبير والشعبي وسعيد بن جبير وعطاء وعطية العوفي ومكحول والحسن والحكم بن عتيبة وقتادة وغير واحد من السلف والأئمة، ولا أعلم في ذلك خلافاً أن المراد بهذه الآية هذا، والله أعلم، وقال الشافعي: أنبأنا ابن عيينة عن الزهري، عن ابن المسيب أن بنت محمد بن مسلم كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمراً إما كبراً أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك، فأنزل الله عز وجل {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} الآية، وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: حدثنا سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى، أنبأنا أبو اليمان، أخبرني شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن السنة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه صلح له ذلك وكان صلحها عليه كذلك، ذكر سعيد بن المسيب وسليمان الصلح الذي قال الله عز وجل {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة، وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق، فقال لها: ما شئت، إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك، فقالت: لا بل أستقر على الأثرة فأمسكها على ذلك، فكان ذلك صلحهما ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها، وهكذا رواه بتمامة عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار فذكره بطوله، والله أعلم.
وقوله: {والصلح خير} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني التخيير أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي الله عنها ولم يفارقها، بل تركها من جملة نسائه وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام، ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق. قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود(1/695)
وابن ماجه، جميعاً عن كثير بن عبيد، عن محمد بن خالد، عن معروف بن واصل، عن محارب بن دثار، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن معروف عن محارب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر معناه مرسلاً.
وقوله: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن وتقسموا لهن أسوة أمثالهن، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء. وقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، قال: نزلت هذه الآية {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} في عائشة، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني القلب، هذا لفظ أبي داود، وهذا إسناد صحيح، لكن قال الترمذي: رواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلاً، قال: وهذا أصح.
وقوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي فتبقى هذه الأخرى معلقة. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن والضحاك والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان: معناها لا ذات زوج ولا مطلقة. وقال أبو داود الطيالسي: أنبأنا همام عن قتادة، عن النضر بن أنس ؟ عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط" ، وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث همام بن يحيى عن قتادة به. وقال الترمذي: إنما أسنده همام ورواه هشام الدستوائي عن قتادة، قال: كان يقال: ولا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام. وقول: {وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً} أي وإن أصلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض، ثم قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} وهذه هي الحالة الثالثة، وهي حالة الفراق وقد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه بأن يعوضه الله من هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً}(1/696)
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما، ولهذا قال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى الله عز وجل بعبادته وحده لا شريك له. ثم قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} الآية كما قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لقومه {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وقال: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي غني عن عباده، (حميد) أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه، قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء. وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، وكما قال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} وقال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره. وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي وما هو عليه بممتنع، وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي يامن ليس له همة إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه أغناك وأعطاك وأقناك، كما قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} الآية، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ - إلى قوله - انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية، وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الآية {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا} وهو ما حصل من المغانم وغيرها مع المسلمين، وقوله: {وَالآخِرَةِ} أي وعند الله ثواب الآخرة وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم وجعلها كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} - إلى قوله - {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولاشك أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر، فإن قوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة أي بيده هذا وهذا، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا وممن يستحق هذا. ولهذا قال: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه، وقوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} كما قال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أي ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي اشهد الحق(1/697)
ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه. وقوله: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.
وقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما. وقوله: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، وسيأتي الحديث مسنداً في سورة المائدة أن شاء الله تعالى. وقوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} قال مجاهد وغير واحد من السلف: تلووا، أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، واللي هو التحريف وتعمد الكذب، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} الآية، والإعراض هو كتمان الشهادة وتركها، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم "خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" ولهذا توعدهم الله بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي وسيجازيكم بذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً}
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ}. وقوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} يعني القرآن، {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن: نزل لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة، فكانت تنزل جملة واحدة، لهذا قال تعالى: {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} أي فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد. )
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً َقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ(1/698)
اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان، ثم رجع عنه، ثم عاد فيه، ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى، ولهذا قال: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حفص بن جميع عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} قال: تمادوا على كفرهم حتى ماتوا، وكذا قال مجاهد. وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى عن عامر الشعبي، عن علي رضي الله عنه، أنه قال: يستتاب المرتد ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} ، ثم قال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يعني أن المنافقين من هذه الصفة، فإنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم: إنما نحن معكم، إنما نحن مستهزئون، أي بالمؤمنين، في إظهارنا لهم الموافقة، قال الله تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ}، ثم أخبر الله تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له، كما قال تعالى في الآية الأخرى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} ، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر بن عياش بن حميد الكندي، عن عبادة بن نسيء، عن أبي ريحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزاً وفخراً، فهو عاشرهم في النار" تفرد به أحمد، وأبو ريحانة هذا هو أزدي، ويقال أنصاري، واسمه شمعون، بالمعجمة، فيما قاله البخاري، وقال غيره: بالمهملة، والله أعلم.
وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} ، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} في المأثم، كما جاء في الحديث "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية، قال مقاتل بن حيان: نسخت هذه الآية التي في سورة الأنعام، يعني نسخ قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ - لقوله - وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} أي كما أشركوهم في الكفر كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين لا الزلال.
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ(1/699)
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفر عليهم وذهاب ملتهم، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أحد، فإن الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي ساعدناكم في الباطن، وما ألوناهم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم، وقال السدي: نستحوذ عليكم نغلب عليكم، كقوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} وهذا أيضاً تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم، قال تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهراً في الحياة الدنيا، لما له في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور.
وقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش، عن ذر، عن سبيع الكندي، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذه الآية {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} فقال علي رضي الله عنه: أدنه أدنه، فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، قال: ذاك يوم القيامة، وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي، يعني يوم القيامة. وقال السدي: سبيلاً أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، وعلى هذا يكون رداً على المنافقين فيما أملوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} - إلى قوله - { نَادِمِينَ} وقد استدل كثير من العلماء بهذا الآية الكريمة على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر، لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة، يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ، وقال ههنا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ولاشك أن الله لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهراً، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة وأن أمرهم يروج عنده كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ(1/700)
جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية، وقوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا، وكذلك يوم القيامة، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ }- إلى قوله - { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وقد ورد في الحديث "من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به". وفي حديث آخر "إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار" عياذاً بالله من ذلك.
وقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} الآية، هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة إذا قاموا إليها، قاموا وهم كسالى عنها، لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه من طريق عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه عظيم الرغبة شديد الفرح، فإنه يناجي الله وإن الله تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} وروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس نحوه، فقوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} هذه صفة ظواهرهم كما قال: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ} أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً كصلاة)العشاء في وقت العتمة، وصلاة الصبح في وقت الغلس، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". وفي رواية " والذي نفسي بيده، لو علم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين، لشهد الصلاة، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم".
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل ". وقوله: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون، وقد روى الإمام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً" ، وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء بن عبد الرحمن به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} يعني المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك، فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} الآية، وقال مجاهد {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ} يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} يعني اليهود. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى(1/701)
هذه مرة ولا تدري أيتهما تتبع" ، تفرد به مسلم، وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى، عن عبد الوهاب فوقف به على ابن عمر ولم يرفعه، قال: حدثنا به عبد الوهاب مرتين، كذلك قلت، وقد رواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف عن عبيد الله، وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً، وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة عن عبدة، عن عبد الله به مرفوعاً، ورواه حماد بن سلمة عن عبيد الله أو عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً. وراه أيضاً صخر بن جويرية عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا الهذيل بن بلال عن ابن عبيد أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه، فقال أبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الربيضين من الغنم، أن أتت هؤلاء نطحتها، وإن أتت هؤلاء نطحتها" فقال له ابن عمر: كذبت، فأثنى القوم على أبي خيراً أو معروفاً، فقال ابن عمر: ما أظن صاحبكم إلا كما تقولون، ولكني شاهدي الله إذ قال: كالشاة بين الغنمين، فقال: هو سواء، فقال: هكذا سمعته.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا المسعودي عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: بينما عبيد بن عمير يقص وعنده عبد الله بن عمر، فقال عبيد بن عمير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كالشاة بين ربيضين، إذا أتت هؤلاء نطحتها، وإذا أتت هؤلاء نطحتها" ، فقال ابن عمير: ليس كذلك، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كشاة بين غنمين"، قال: فاحتفظ الشيخ وغضب، فلما رأى ذلك ابن عمر قال: أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك.
(طريقة أخرى عن ابن عمر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عثمان بن بودويه، عن يعفر بن زوذي، قال: سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين" ، فقال ابن عمر: ويلكم لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين" ، ورواه أحمد أيضاً من طرق عن عبيد بن عمير، عن ابن عمر، ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله هو ابن مسعود، قال: مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد، فوقع أحدهم فعبر، ثم وقع الآخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي: ويلك أين تذهب إلى الهلكة، ارجع عودك على بدئك، وناداه الذي عبر: هلم إلى النجاة، فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة، قال: فجاءه سيل فأغرقه، فالذي عبر هو المؤمن، والذي غرق المنافق {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} والذي مكث الكافر.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا شعبة عن قتادة {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك، قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن، ناداه الكافر، أن هلم إلي فإني أخشى عليك، وناداه المؤمن: أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحظى له ما عنده، فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى أذى فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك، قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين، رأت غنماً على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف، ثم رأت غنماً على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف" ، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي ومن صرفه عن طريق(1/702)
الهدى {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} ، ولا منقذ لهم مما هم فيه، فإنه تعالى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
{يَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا ِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً}
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، ولهذا قال ههنا: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} أي حجة عليكم في عقوبته إياكم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: {سُلْطَاناً مُبِيناً} قال كل سلطان في القرآن حجة، وهذا إسناد صحيح، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي والنضر بن عربي.
ثم أخبرنا تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أي يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ. قال الوالبي عن ابن عباس {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أي في أسفل النار، وقال غيره: النار دركات كما أن الجنة درجات، وقال سفيان الثوري عن عاصم، عن ذكوان أبي صالح، عن أبي هريرة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قال في توابيت ترتج عليهم: كذا رواه ابن جرير عن ابن وكيع، عن يحيى بن يمان، عن سفيان الثوري به. ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قال: الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم. قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله يعني ابن مسعود {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قال: في توابيت من نار تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة، ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن وكيع، عن سفيان، عن سلمة، عن خيثمة، عن ابن مسعود {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قال: في توابيت من حديد مبهمة عليهم، ومعنى قوله: مبهمة، أي مغلقة مقفلة لا يهتدى لمكان فتحها.
وروى ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود سئل عن المنافقين، فقال: يجعلون في توابيت من نار تطبق عليهم في أسفل درك من النار {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} أي ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب، ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا، تاب عليه وقبل ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، فقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}(1/703)
أي بدلوا الرياء بالإخلاص فينفعهم العمل الصالح وإن قل، قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر، عن خالد بن أبي عمران، عن عمران عن عمرو بن مرة، عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخلص دينك يكفك القليل من العمل". {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي في زمرتهم يوم القيامة {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} ثم قال تعالى مخبرا عن غناه عما سواه، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم فقال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} أي أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} أي من شكر شكر له، ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء.
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله: {إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} وإن صبر فهو خير له وقال أبو داود حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن عطاء، عن عائشة، قالت: سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبخي عنه" وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه، وفي رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه.
وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن أن افترى عليك فلا تفتر عليه، لقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}. وقال أبو داود: حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المستبّان ما قالا، فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم" وقال عبد الرزاق: أنبأنا المثنى بن الصباح عن مجاهد في قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قال: ضاف رجل رجلا فلم يؤد إليه حق ضيافته، فلما خرج أخبر الناس فقال: ضفت فلاناً فلم يؤد إلي حق ضيافتي، قال: فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم حتى يؤدي الآخر إليه حق ضيافته. وقال ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} قال: قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن، وفي رواية: هو الضيف المحول رحله، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول، وكذا روي عن غير واحد عن مجاهد نحو هذا، وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي من طريق الليث بن سعد، والترمذي من حديث ابن لهيعة، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر، قال: قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا، فما ترى في ذلك ؟ فقال: "إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا منهم، وإن لم تفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم".
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا الجودي يحدث عن سعيد بن مهاجر عن المقدام بن أبي كريمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما مسلم ضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً، فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله" تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقال أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة، عن منصور، عن الشعبي، عن المقدام بن أبي كريمة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً له عليه، فإن شاء اقتضاه وإن شاء(1/704)
تركه". ثم رواه أيضا عن غندر عن شعبة. وعن زياد بن عبد الله البكائي عن وكيع وأبي نعيم، عن سفيان الثوري، ثلاثتهم عن منصور به، وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عوانة عن منصور به.
ومن هذه الأحاديث وأمثالها، ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا محمد بن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أن لي جاراً يؤذيني، فقال له "أخرج متاعك فضعه على الطريق" ، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال: مالك ؟ قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه، قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبداً، وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر عن محمد بن عجلان به، ثم قال البزار: لا نعلمه يروي عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، ورواه أبو جحيفة وهب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} أي أن تظهروا أيها الناس خيراً أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم، ولهذا قال: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}، ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك، وفي الحديث الصحيح "ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه".
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله، من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة، وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، فاليهود - عليهم لعائن الله - آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم، والسامرة لا يؤمنون بنبيّ بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت، ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم، والله أعلم، والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي، تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ} با لله ورسله فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي في الإيمان، {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي طريقاً ومسلكاً،(1/705)
ثم أخبر تعالى عنهم فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعياً إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله، لأمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} أي كما استهانوا بمن كفروا به، إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} في الدنيا والآخرة. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية، ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل، فقال: {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} على ما آمنوا بالله ورسله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي لذنوبهم، أي أن كان لبعضهم ذنوب.
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}
قال محمد بن كعب القرظي والسدي وقتادة: سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة، قال ابن جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفاً من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به، وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة سبحان {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً} الآيات، ولهذا قال تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} أي بطغيانهم وبغيهم، وعتوهم وعنادهم، وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وقوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي من بعدما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام في بلاد مصر، وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم، فما جاوزوه إلا يسيراً، حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} الآيتين، ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة الأعراف، وفي سورة طه، بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عز وجل، ثم لما رجع وكان ما كان، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه، أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، ثم أحياهم الله عز وجل، وقال الله تعالى: {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً}(1/706)
ثم قال: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام، ورفع الله على رؤوسهم جبلاً، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم، خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} الآية، {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} أي فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجداً وهم يقولون حطة، أي اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه، حتى تهنا في التيه أربعين سنة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم، ما دام مشروعاً لهم {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} أي شديداً، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآيات، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وفيه: وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت.
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}
وهذه من الذنوب التي ارتكبوها، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم، وكفرهم بآيات الله، أي حججه وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام، قوله: {وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله، فإنهم قتلوا جمعاً غفيراً من الأنبياء عليهم السلام. وقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة وغير واحد: أي في غطاء، وهذا كقول المشركين {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} الآية، وقيل معناه أنهم ادعوا أن قلوبهم غلف للعلم، أي أوعية للعلم قد حوته وحصلته، رواه الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، وقد تقدم نظيره في سورة البقرة، قال الله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول، لأنها في غلف وفي أكنة، قال الله: بل هي مطبوع عليها بكفرهم وعلى القول الثاني: عكس عليهم ما ادعوه من كل وجه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أي تمرنت قلوبهم على الكفر والطغيان، وقلة الإيمان {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني أنهم رموها بالزنا، وكذلك قال السدي وجويبر ومحمد بن إسحاق وغير واحد، وهو ظاهر من الآية، أنهم رموها وابنها بالعظائم، فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك، زاد بعضهم: وهي حائض فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة،(1/707)
وقولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه، وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء، كقول المشركين {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} وكان من خبر اليهود، عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه، أنه لما بعث الله عيسى بن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التي كان يبريء بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويصور من الطين طائراً، ثم ينفخ فيه، فيكون طائراً يشاهد طيرانه بإذن الله عز وجل، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام، لا يساكنهم في بلدة، بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام، ثم لم يقنعهم ذلك، حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلاً مشركاً من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويضلهم، ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام، وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر، وقيل سبعة عشر نفراً، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هنالك. فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم، قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة ؟ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم، فرفع إلى السماء وهو كذلك، كما قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} الآية، فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك ذلك الشاب، ظنوا أنه عيسى، فأخذوه في الليل وصلبوه، ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه، وتبجحوا بذلك وسلم لهم طوائف من النصارى، ذلك لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح، فإنهم شاهدوا رفعه. وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود، أن المصلوب هو المسيح بن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال إنه خاطبها، والله أعلم، وهذا كله من امتحان الله عباده، لما له في ذلك من الحكمة البالغة.
وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه، وأظهره في القرآن العظيم، الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى: وهو أصدق القائلين ورب العالمين، المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السموات والأرض، العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي رأوا شبهه فظنوه إياه، ولهذا قال: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود، ومن سلمه إليهم من جهال النصارى، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر، ولهذا قال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً} أي منيع الجناب، لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه، {حَكِيماً} أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: أن منكم من يكفر بي(1/708)
اثنتي عشرة مرة، بعد أن آمن بي، قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال: أنا، فقال: هو أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة، كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ورواه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه، وكذا ذكره غير واحد من السلف، أنه قال لهم: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، وهو رفيقي في الجنة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليه، صورهم الله عز وجل كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى، أو لنقتلنكم جميعاً، فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم: أنا، فخرج إليهم وقال: أنا عيسى وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فمن ثم شبه لهم، فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك، وهذا سياق غريب جداً.
قال ابن جرير: وقد روي عن وهب نحو هذا القول، وهو ما حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهباً يقول: أن عيسى بن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا، جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاماً، فقال: احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم، وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام، أخذ يغسل أيديهم، ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك، وتكارهوه فقال: ألا من رد عليّ الليلة شيئاً مما أصنع، فليس مني، ولا أنا منه، فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك، قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، فلا يتعاظم بعضكم على بعض وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي الليلة التي أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله، أما تصبرون لي ليلة واحدة، تعينوني فيها ؟ فقالوا: والله ما ندري مالنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمراً، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب الراعي وتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه. ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني. فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا: هذا من أصحابه، فجحد وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخرون، فجحد كذلك ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجدون لي أن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً، فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت(1/709)
كنت تحيي الموتى، وتنهر الشيطان، وتبرىء المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فمكث سبعاً، ثم أن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه السلام، فأبرأها الله من الجنون، جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: ما تبكيان ؟ فقالتا: عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبي إلا خير، وإن هذا شبه لهم، فأمري الحواريين يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقدوا الذي باعه ودل عليه اليهود، فسأله عن أصحابه، فقال: إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب لتاب الله عليه. ثم سألهم عن غلام تبعهم يقال له يحيى، فقال: هو معكم، فانطلقوا، فإنه سيصبح كل إنسان يحدث بلغة قومه فلينذرهم وليدعهم، سياق غريب جداً.
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلاً منهم يقال له داود، فلما أجمعوا لذلك منه، لم يفظع عبد من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظعه، ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه، حتى إنه ليقول فيما يزعمون: اللهم أن كنت صارفاً هذه الكأس عن أحد من خلقك، فاصرفها عني. وحتى أن جلده من كرب ذلك ليتفصد دماً، فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى عليه السلام. فلما أيقن أنهم داخلون عليه، قال لأصحابه من الحواريين، وكانوا اثني عشر رجلاً، فرطوس، ويعقوب بن زبدي ويحنس أخو يعقوب، واندراييس، وفيلبس، وابن يلما، ومنتا، وطوماس، ويعقوب بن حلقايا، وتداوسيس، وقثانيا، ويودس زكريا يوطا، قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: وكان فيما ذكر لي رجل اسمه سرجس، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً سوى عيسى عليه السلام، جحدته النصارى، وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى، قال: فلا أدري هو من هؤلاء الاثني عشر، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه، فإن كانوا ثلاثة عشر، فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا، وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كانوا اثني عشر، فإنهم دخلوا المدخل وهم ثلاثة عشر.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل كان نصرانياً فأسلم، أن عيسى حين جاءه من الله إني رافعك إلي، قال: يا معشر الحواريين، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبّه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني ؟ فقال سرجس: أنا يا روح الله. قال: فاجلس في مجلسي، فجلس فيه، ورفع عيسى عليه السلام، فدخلوا عليه، فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه، وشبه لهم به، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، وقد رأوهم فأحصوا عدتهم، فلما دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون، وفقدوا رجلاً من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهماً على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه، فقال لهم: إذا دخلتم عليه فإني سأقبله، وهو الذي أقبل فخذوه، فلما دخلوا، وقد رفع عيسى ورأى سرجس في صورة عيسى، فلم يشك أنه هو، فأكب عليه يقبله، فأخذوه فصلبوه. ثم أن يودس زكريا يوحنا ندم على ما صنع فاختنق بحبل حتى قتل نفسه، وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه، وبعض النصارى يزعم أنه يودس زكريا يوحنا، وهو الذي شبه لهم، فصلبوه وهو يقول: إني لست بصاحبكم، أنا الذي دللتكم عليه، والله أعلم أي ذلك كان. وقال ابن جرير عن(1/710)
مجاهد: صلبوا رجلاً شبه بعيسى ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء حياً، واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} يعني قبل موت عيسى يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية، دين إبراهيم عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ، قال: قبل موت عيسى بن مريم عليه السلام. وقال العوفي عن ابن عباس مثل ذلك، وقال أبو مالك في قوله: {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: ذلك عند نزول عيسى، وقبل موت عيسى بن مريم عليه السلام، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به وقال الضحاك عن ابن عباس {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}: يعني اليهود خاصة. وقال الحسن البصري: يعني النجاشي وأصحابه، رواهما ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا أبو رجاء عن الحسن {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: قبل موت عيسى والله إنه لحي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن عثمان اللاحقي، حدثنا جويرية بن بشير، قال: سمعت رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}، قال: قبل موت عيسى، أن الله رفع إليه عيسى وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاماً يؤمن به البر والفاجر. وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد، وهذا القول هو الحق، كما سنبينه بعد بالدليل القاطع أن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان. قال ابن جرير: وقال آخرون: يعني بذلك {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} بعيسى قبل موت صاحب الكتاب، ذكر من كان يوجه ذلك إلى أنه علم الحق من الباطل لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في الآية، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى. حدثني المثنى، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته قبل موت صاحب الكتاب. وقال ابن عباس: لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى. حدثنا ابن حميد، حدثنا أبو نميله يحيى بن واضح، حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، ولو عجل عليه بالسلاح، حدثني إسحاق بن إبراهيم وحبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: هي في قراءة أبي قبل موتهم، ليس يهودي يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى، قيل لابن عباس: أرأيت أن خرّ من فوق بيت ؟ قال: يتكلم به في الهويّ، قيل: أرأيت أن ضربت عنق أحدهم ؟ قال: يلجلج بها لسانه، وكذا روى سفيان الثوري عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى عليه السلام وإن ضرب بالسيف تكلم به، قال: وإن هوى تكلم به وهو يهوي، وكذا روى أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس، وكذا صح عن مجاهد وعكرمة ومحمد بن سيرين، وبه يقول الضحاك وجويبر. وقال السدي وحكاه عن ابن عباس، ونقل قراءة أبي بن كعب: قبل(1/711)
موتهم، وقال عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله: {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت، وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدم عنه، ويحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء، قال ابن جرير، وقال آخرون: معنى ذلك وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت صاحب الكتاب.
(ذكر من قال ذلك) حدثني ابن المثنى، حدثنا الحجاج بن المنهال، حدثنا حماد عن حميد، قال: قال عكرمة: لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ثم قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الاَي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن كذلك، وإنما شبّه لهم، فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها أن شاء الله قريباً، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض. فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام، فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلاً به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} الآية.
وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآيتين، وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد هذا القول حيث قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا، لكان كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالمسيح ممن كفر بهما يكون على دينهما، وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه، لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته، فهذا ليس بجيد إذ لا يلزم من إيمانه أنه يصير بذلك مسلماً، ألا ترى قول ابن عباس: ولو تردى من شاهق أو ضرب بالسيف أو افترسه سبع، فإنه لابد أن يؤمن بعيسى، فالإِيمان في هذه الحال ليس بنافع ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه، والله أعلم، ومن تأمل جيداً وأمعن النظر، اتضح له أنه هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا، بل المراد بها الذي ذكرناه من تقرير وجود عيسى عليه السلام وبقاء حياته في السماء وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه، وتصادمت وتعاكست وتناقضت وخلت عن الحق، ففرط هؤلاء اليهود، وأفرط هؤلاء النصارى تنقصة اليهود بما رموه به وأمه من العظائم، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه ما ليس فيه، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية، تعالى عما يقول هؤلاء وهؤلاء علواً كبيراً، وتنزه وتقدس لا إله إلا هو.(1/712)
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان
(قبل يوم القيامة وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له)
قال البخاري رحمه الله في كتاب ذكر الأنبياء من صحيحه المتلقى بالقبول: نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن أبي صالح عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيراً لهم من الدنيا وما فيها" ، ثم يقول أبو هريرة اقرؤا أن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} ، وكذا رواه مسلم عن الحسن الحلواني وعبد بن حميد كلاهما عن يعقوب به، وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري به. وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به، ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، يقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية ويفيض المال، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين" قال أبو هريرة: اقرءوا أن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} موت عيسى بن مريم، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.
(طريق أخرى) عن أبي هريرة، قال الإمام أحمد: حدثنا روح بن أبي حفصة عن الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليهلنّ عيسى بفج الروحاء بالحج أو العمرة، أو ليثنينهما جميعاً"، وكذا رواه مسلم منفرداً به من حديث ابن عيينة، والليث بن سعد ويونس بن يزيد، ثلاثتهم عن الزهري به. وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا سفيان هو ابن حسين عن الزهري، عن حنظلة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى بن مريم فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة، ويعطى المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما" قال: وتلا أبو هريرة {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية، فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى، فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة، وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه عن أبي موسى محمد بن المثنى، عن يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين عن الزهري به.
(طريق أخرى) قال البخاري: حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث عن يونس، عن ابن شهاب عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم" تابعه عقيل والأوزاعي، وهكذا رواه الأمام أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عثمان بن عمر، عن ابن أبي ذئب، كلاهما عن الزهري به. وأخرجه مسلم من رواية يونس والأوزاعي وابن ذئب به.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا قتادة عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن نبي بيني وبينه، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان(1/713)
ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإِسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال,ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون" وكذا رواه أبو داود عن هدية بن خالد، عن همام بن يحيى ورواه ابن جرير ولم يورد عند هذه الآية سواه، عن بشر بن معاذ، عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عروبة، كلاهما عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم وهو مولى أم برثن صاحب السقاية، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وقال: يقاتل الناس على الإسلام، وقد روى البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي"، ثم رواه محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والاَخرة، الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد ". وقال إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن بشار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(حديث آخر) قال مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب، حدثنا يعلى بن منصور، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتله، فيقول المسلمون: لا والله، لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية، فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: أن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم، فيؤمهم، فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته".
(حديث آخر) قال أحمد: حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر بن غفارة، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت ليلة أسري بي، إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إليّ ربي عز وجل أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى أن الحجر والشجر يقول: يامسلم أن تحتي كافراً فتعال فاقتله، قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فدعوا الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إليّ ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك، أن الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلاً أو نهاراً" ، رواه ابن ماجه عن محمد بن بشار، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، به نحوه.(1/714)
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة، قال: أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض عليه مصحفاً لنا على مصحفه، فلما حضرت الجمعة، أمرنا فاغتسلنا، ثم أتينا بطيب فتطيبنا، ثم جئنا المسجد فجلسنا إلى رجل فحدثنا عن الدجال، ثم جاء عثمان بن أبي العاص، فقمنا إليه فجلسنا، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيخرج الدجال في أعراض الناس، فيهزم من قبل المشرق، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين، فيصير أهلها ثلاث فرق: فرقة تقول نقيم نشامة ننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم، ومع الدجال سبعون ألفاً عليهم السيجان، وأكثر من معه اليهود والنساء، وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق، فيبعثون سرحاً لهم، فيصاب سرحهم فيشتد ذلك عليهم، ويصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد حتى أن أحدهم ليحرق وتر قوسه فيأكله، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من السحر: ياأيها الناس أتاكم الغوث "ثلاثاً" فيقول بعضهم لبعض: أن هذا لصوت رجل شبعان، وينزل عيسى بن مريم عليه السلام عند صلاة الفجر، فيقول له أميرهم: يا روح الله، تقدم صل، فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض، فيتقدم أميرهم فيصلي، حتى إذا قضى صلاته أخذ عيسى حربته، فيذهب نحو الدجال، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حربته بين ثندوته فيقتله، ويهزم أصحابه، فليس يومئذ شيء يواري منهم أحداً، حتى أن الشجرة تقول: يا مؤمن هذا كافر، ويقول الحجر: يا مؤمن هذا كافر" تفرد به أحمد من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه: حدثنا علي بن محمد، حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن إسماعيل بن رافع أبي رافع، عن أبي زرعة الشيباني يحيى بن أبي عمرو، عن أبي أمامة الباهلي، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه، فكان من قوله أن قال: "لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم، فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه، وإن الله خليفتي في كل مسلم، وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق فيعيث يميناً ويعيث شمالاً، ألا يا عباد الله: أيها الناس فاثبتوا، وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي: إنه يبدأ فيقول: أنا نبي فلا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم، ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله، وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً، كما كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت أن بعثت أمك وأباك، أتشهد أني ربك ؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك، وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين، ثم يقول: انظر إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له رباً غيري، فيبعثه الله فيقول له الخبيث: من ربك ؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله الدجال، والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم" قا ل أبو حسن الطنافسي: فحدثنا المحاربي، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة" قال أبو سعيد: والله ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب، حتى مضى لسبيله.
ثم قال المحاربي: رجعنا إلى حديث(1/715)
أبي رافع قال: وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، فيأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت، وأعظمه وأمده خواصر وأدره ضروعاً، وأنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه، إلا مكة والمدينة، فإنه لا يأتيهما من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فينفى الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص. فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ ؟ قال: "هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عيسى بن مريم عليه السلام، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتح، ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً، فيقول عيسى: أن لي فيك ضربة لم تسبقني بها، فيدركه عند باب لد الشرقي فيقتله، ويهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالى يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة - إلا الغرقد، فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال: يا عبد الله المسلم، هذا يهودي فتعال اقتله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإن أيامه أربعون سنة السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي" فقيل له: كيف نصلي يا نبي الله في تلك الأيام القصار ؟ قال: "تقدرون الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال، ثم صلوا" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، يدق الصليب ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترتفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتفر الوليدة الأسد فلا يضلها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض لها نور الفضة وتنبت نباتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بالدريهمات" قيل: يا رسول الله، وما يرخص الفرس ؟ قال: "لا تركب لحرب أبداً" قيل له: فما يغلي الثور ؟ قال: يحرث الأرض كلها، وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، ويأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة الثانية، فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر الله عز وجل السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله" قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان ؟ قال: "التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام".
قال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول: ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب، هذا حديث غريب جداً من هذا الوجه، ولبعضه شواهد من أحاديث أخر،(1/716)
من ذلك ما رواه مسلم، وحديث نافع وسالم عن عبد الله بن عمر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي فتعال فاقتله" وله من طر يق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله - إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود".
ولنذكر حديث النواس بن سمعان ههنا لشبهه بهذا الحديث. قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أبو خيثمه زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي (ح) وحدثنا محمد بن مهران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه جبير بن نفير عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فقال: "ما شأنكم ؟" قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه، ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، قال: "غير الدجال أخوفني عليكم أن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. إنه شاب قطط، عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج من خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا" قلنا: يا رسول الله فما لبثه في الأرض ؟ قال: "أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم" قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض ؟ قال: "كالغيث استدبرته الريح فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى، وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعوا رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان اللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد، فيقتله، ثم يأتي عيسى عليه السلام قوماً قد عصمهم الله منه، فيمسح على وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أولهم على بحيرة طبريا فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا(1/717)
يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأ زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله، طيراً كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر، ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض: أخرجي ثمرك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك الله في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فيقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة" ورواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. وسنذكره أيضاً من طريق أحمد عند قوله تعالى في سورة الأنبياء: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} الآية.
(حديث آخر) قال مسلم في صحيحه أيضاً: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم، قال: سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو، وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به، تقول أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا ؟ فقال: سبحان الله، أو لا إله إلا الله، أو كلمة نحوهما، لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً: يحرق البيت ويكون ويكون، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين، لا أدري يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً، فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير - أو إيمان - إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه" قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون ؟ فيقولون: فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال - ينزل الله مطراً كأنه الطل - أو قال الظل - نعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: أيها الناس هلموا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: من كم ؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذلك يوماً يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساق" ثم رواه مسلم والنسائي في تفسيره جميعاً عن محمد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن نعمان بن سالم به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة الأنصاري، عن عبد الله بن زيد الأنصاري، عن مجمع بن جارية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لد - أو إلى جانب لد " ورواه أحمد أيضاً عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي، ثلاثتهم عن الزهري، عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه مجمع بن جارية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد" وكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الليث به، وقال: هذا حديث صحيح، وقال: وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عتبة، وأبي برزة(1/718)
وحذيفة بن أسيد، وأبي هريرة وكيسان وعثمان بن أبي العاص وجابر، وأبي أمامة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان وعمرو بن عوف وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم، ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال وقتل عيسى بن مريم عليه السلام له، فأما أحاديث ذكر الدجال فقط فكثيرة جداً، وهي أكثر من أن تحصى لانتشارها وكثرة روايتها في الصحاح والحسان والمسانيد وغير ذلك.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن فرات، عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق - أو تحشر - الناس تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا" وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث فرات القزاز به. ورواه مسلم أيضاً من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل، عن أبي سريحة، عن حذيفة بن أسيد الغفاري موقوفاً، والله أعلم، فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص، وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومجمع بن جارية وأبي سريحة وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم، وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح، وقد بنيت في هذه الأعصار في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة منارة للجامع الأموي بيضاء من حجارة منحوتة عوضاً عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وكان أكثر عمارتها من أموالهم، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان، حيث تنزاح عللهم وترتفع شبههم من أنفسهم، ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام متابعة لعيسى عليه السلام وعلى يديه، ولهذا قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} الآية، وهذه الآية كقوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} وقرىء (لعلم) بالتحريك أي أمارة ودليل على اقتراب الساعة، وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال فيقتله الله على يديه، كما ثبت في الصحيح أن الله لم يخلق داء إلا أنزل له شفاء، ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج فيهلكهم الله تعالى ببركة دعائه، وقد قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الآية.
(صفة عيسى عليه السلام)
قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة "فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل" ، وفي حديث النواس بن سمعان " فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ، لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث انتهى طرفه" ، وروى البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة أسري بي لقيت موسى" قال: فنعته فإذا رجل أحسبه، قال: "مضطرب رجل الرأس كأنه من(1/719)
رجال شنوءة " قال "ولقيت عيسى" فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ربعة أحمر كأنه خرج من ديماس" يعني الحمام، "ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به" الحديث، وروى البخاري من حديث مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت موسى وعيسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط"، وله ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بين ظهراني الناس المسيح الدجال، فقال: "إن الله ليس بأعور ألا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، ولمسلم عنه مرفوعاً "وأراني الله عند الكعبة في المنام، وإذا رجل آدم كأحسن ما ترى من أدم الرجال، تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعاً يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا ؟ قالوا: هو المسيح بن مريم، ثم رأيت وراءه رجلاً جعداً قططاً، أعور العين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن، واضعاً يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت: من هذا ؟ قالوا: المسيح الدجال " تابعه عبيد الله عن نافع.
ثم رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: لا والله ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى أحمر، ولكن قال: "بينما أنا نائم أطوف بالكعبة، فإذا رجل آدم سبط الشعر، يتهادى بين رجلين ينطف رأسه ماء - أو يهراق رأسه ماء - فقلت: من هذا ؟ فقالوا ابن مريم، فذهبت ألتفت، فإذا رجل أحمر جسيم، جعد الراس، أعور عينه اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، قلت: من هذا ؟ قالو: الدجال، وأقرب الناس به شبهاً ابن قطن" قال الزهري: رجل من خزاعة هلك في الجاهلية، هذه كلها ألفاظ البخاري رحمه الله، وقد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة أن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون وفي حديث عبد الله بن عمر عند مسلم أنه يمكث سبع سنين فيحتمل - والله أعلم - أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين سنة مجموع إقامته فيها قبل رفعه، وبعد نزوله، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة، في الصحيح، وقد ورد ذلك في حديث في صفة أهل الجنة أنهم على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة، وأما ما حكاه ابن عساكر عن بعضهم أنه رفع وله مائة وخمسون سنة فشاذ غريب بعيد. وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى بن مريم من تاريخه عن بعض السلف أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته، فالله أعلم. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} قال قتادة: يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله وأقر بعبودية الله عز وجل، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ - إلى قوله - الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً لّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً}
يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة، حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو، قال: قرأ ابن عباس: طيبات كانت أحلت لهم، وهذا التحريم قد يكون قدرياً بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في(1/720)
كتابهم، وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالاً لهم فحرموها على أنفسهم تشديداً منهم على أنفسهم وتضييقاً وتنطعاً، ويحتمل أن يكون شرعياً بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} وقد قدمنا الكلام على الآية، وأن المراد أن الجميع من الأطعمة كانت حلالاً لهم من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها، ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة كما قال في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي إنما حرمنا عليهم ذلك، لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولهذا قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} أي صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقاً من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما.
وقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} أي أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه، وأكلوا أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، ثم قال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران {وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على الراسخين وخبره {ؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} قال ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد، الذين دخلوا في الإسلام، وصدقوا بما أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} هكذا هو في جميع مصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أبي بن كعب، وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود والمقيمون الصلاة، قال: والصحيح قراءة الجميع ثم رد على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب، ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم: هو منصوب على المدح، كما جاء في قوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} قال: وهذا سائغ في كلام العرب، كما قال الشاعر:
لا يبعدنّ قومي الذين همو ... أسُد العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
وقال آخرون: هو مخفوض عطفاً على قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني وبالمقيمين الصلاة، وكأنه يقول: وبإقامة الصلاة أي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة وهذا اختيار ابن جرير، يعني يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة، وفي هذا نظر، والله أعلم. وقوله: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال، ويحتمل زكاة النفوس، ويحتمل الأمرين، والله أعلم، {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي يصدقون بأنه لا إله إلا الله، ويؤمنون بالبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها. وقوله: {أُولَئِكَ} هو الخبر عما تقدم {سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} يعني الجنة.(1/721)
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً َ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال سكين وعدي بن زيد: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله في ذلك من قولهما: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى آخر الآيات. وقال ابن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي، قال: أنزل الله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} قال: فلما تلاها عليهم يعني على اليهود، وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، ولا موسى ولا عيسى ولا على نبي من شيء، قال: فحل حبوته، وقال: ولا على أحد، فأنزل الله عز وجل {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر، فإن هذه الآية التي في سورة الأنعام مكية، وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية، وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، قال الله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء، ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين، فقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام، عند قصصهم من سورة الأنبياء أن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وقوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أي من قبل هذه الآية، يعني في السور المكية وغيرها وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن وهم: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أي خلقاً آخرين لم يذكروا في القرآن، وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره حيث قال: حدثنا إبراهيم بن محمد حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن والحسين بن عبد الله بن يزيد، قالا: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، حدثني أبي عن جدي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، قال: يا رسول الله، كم الأنبياء ؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً". قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم ؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير". قلت يا رسول الله، من كان أولهم ؟ قال: "آدم" قلت: يا رسول الله، نبي مرسل ؟ قال: "نعم خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه قبيلاً" ثم قال:(1/722)
"يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيك" وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه الأنواع والتقاسيم، وقد وسمه بالصحة، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي فذكر هذا الحديث في كتابه الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام هذا، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث والله أعلم.
وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قلت: يا نبي الله، كم الأنبياء ؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً" معان بن رفاعة السلامي ضعيف، وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضاً. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله ثمانية آلاف نبي: أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس" وهذا أيضاً إسناد ضعيف، فيه الربذي ضعيف وشيخه الرقاشي أضعف منه والله أعلم.
قال أبو يعلى: حدثنا أبو الربيع، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، حدثنا محمد بن خالد الأنصاري عن يزيد الرقاشي، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى بن مريم، ثم كنت أنا" وقد رويناه عن أنس من وجه آخر، فأخبرنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي، أخبرنا أبو الفضل بن عساكر، أنبأنا الإمام بكر القاسم بن أبي سعيد الصفار، أخبرتنا عمة أبي عائشة بنت أحمد بن منصور بن الصفار، أخبرنا الشريف أبو السنانك هبة الله بن أبي الصهباء محمد بن حيدر القرشي، حدثنا الإمام الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني، قال: أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسلم بن خالد، حدثنا زياد بن سعد عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل" وهذا غريب من هذا الوجه، وإسناده لا بأس به، رجاله كلهم معرفون إلا أحمد بن طارق هذا، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح، والله أعلم. وحديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام. قال محمد بن حسين الآجري: حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفريابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، حدثنا أبي عن جده، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، قال: دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه، فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة. قال: "الصلاة خير موضوع، فاستكثر أو استقل" قال: قلت: يا رسول الله، فأي الأعمال أفضل ؟ قال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله". قلت: يا رسول الله، فأي المؤمنين أفضل ؟ قال: "أحسنهم خلقاً". قلت: يا رسول الله، فأي المسلمين أسلم ؟ قال: "من سلم الناس من لسانه ويده". قلت: يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل ؟ قال: "من هجر السيئات" قلت: يا رسول الله أي الصلاة أفضل ؟ قال: "طول القنوت" فقلت: يا رسول الله، فأي الصيام أفضل ؟ قال: "فرض مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة" قلت: يا رسول الله فأي الجهاد أفضل ؟ قال: "من عقر جواده وأهريق دمه". قلت: يا رسول الله، فأي الرقاب أفضل ؟ قال: "أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها". قلت: يا رسول الله، فأي الصدقة أفضل ؟ قال: "جهد(1/723)
من مقل وسر إلى فقير". قلت: يا رسول الله، فأي آية ما أنزل عليك أعظم ؟ قال "آية الكرسي"، ثم قال يا أبا ذر، وما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة" قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء ؟ قال "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً". قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك ؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب". قلت: فمن كان أولهم ؟ قال: "آدم" قلت: أنبي مرسل ؟ قال: "نعم، خلقه الله" بيده، ونفخ فيه من روحه، سواه قبيلا"، ثم قال: "يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيث وخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم، ونوح، وأربعة من العرب: هود وشعيب وصالح ونبيك با أبا ذر، وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد" قال: قلت: يا رسول الله، كم كتاب أنزله الله ؟ قال: "مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى من قبل التوراة عشرة صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان" قال: قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال "كانت كلها يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وكان فيها أمثال، وعلى العاقل أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ضاغناً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه: حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه". قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى ؟ قال "كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم هو لا يعمل". قال: قلت: يا رسول الله، فهل في أيدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى، وما أنزل الله عليك ؟ قال "نعم اقرأ يا أبا ذر {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}". قال: قلت: يا رسول الله، أوصني قال: أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك قال: قلت يا رسول الله زدني قال "عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض" قال: قلت: يا رسول الله زدني. قال "إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه"، قال: قلت: يا رسول الله زدني، قال: "عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي". قلت: زدني. قال "عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دينك". قلت: زدني قال: "انظر إلى من هو تحتك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك". قلت: زدني. قال: "أحبب المساكين وجالسهم، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك". قلت: زدني قال: "صل قرابتك وإن قطعوك". قلت: زدني. قال: "قل الحق وإن كان مراً" قلت: زدني. قال "لا تخف في الله لومة لائم". قلت: زدني. قال "يردك عن الناس ما تعرف من نفسك، ولا تجد عليهم فيما تحب، وكفى بك عيباً أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك، أو تجد عليهم فيما تحب"، ثم ضرب بيده صدري فقال: "يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق".
وروى الإمام أحمد عن أبي المغيرة، عن معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أمر الصلاة والصيام والصدقة، وفضل آية الكرسي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الشهداء، وأفضل الرقاب، ونبوة آدم وأنه مكلم، وعدد الأنبياء، والمرسلين كنحو ما تقدم.
وقال(1/724)
عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت في كتاب أبي يخطه: حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا مجالد عن أبي الوداك، قال: قال أبو سعيد: هل تقول الخوارج بالدجال ؟ قال: قلت: لا، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني خاتم ألف نبي أو أكثر، وما بعث نبي يتبع إلا وقد حذر أمته منه، وإني قد بين لي فيه ما لم يبين لأحد، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن"، وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي عن يحيى بن معين: حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا مجالد عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر، ما بعث الله من نبي إلى قومه إلا حذرهم الدجال"، وذكر تمام الحديث، هذا لفظه بزيادة ألف وقد تكون مقحمة، والله أعلم.
وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة، ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم، وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مجالد عن الشعبي، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لخاتم ألف نبي أو أكثر، وإنه ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال، وإني قد بين لي ما لم يبين لأحد منهم، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور"
قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة، ولهذا يقال له: الكليم، وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي، حدثنا مسيح بن حاتم، حدثنا عبد الجبار بن عبد الله، قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلاً يقرأ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}، فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر، قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك، لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام أو يكلم أحداً من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فقال له: يا ابن اللخناء، كيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ؟ يعني أن هذا لا يحتمل التحريف، ولا التأويل، وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن الحسين بن بهرام، حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا هانىء بن يحيى عن الحسن بن أبي جعفر، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كلم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء" وهذا حديث غريب، وإسناده لا يصح، وإذا صح موقوفاً كان جيداً، وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه من حديث حميد بن قيس الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي".
وقال ابن مردويه بإسناده، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام، وصايا كلها، فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل، وهذا أيضاً إسناد ضعيف، فإن جويبر أضعف، والضحاك لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما. فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما من طريق(1/725)
الفضل بن عيسى الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أنه قال: لما كلم الله موسى يوم الطور، كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه، فقال له موسى: يا رب هذا كلامك الذي كلمتني به، قال: لا يا موسى، إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسنة كلها، وأنا أقوى من ذلك، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل، قالوا: يا موسى، صف لنا كلام الرحمن. قال: لا أستطيعه. قالوا: فشبه لنا. قال: ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنه قريب منه وليس به. وهذا إسناد ضعيف، فإن الفضل الرقاشي هذا ضعيف بمرة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن جزء بن جابر الجثعمي، عن كعب، قال: أن الله لما كلم موسى بالألسنة كلها، فقال له موسى: يا رب، هذا كلامك ؟ قال: لا، ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له. قال: يا رب، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال: لا، وأشد خلقي شبهاً بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق، فهذا موقوف على كعب الأحبار، وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل وفيها الغث والسمين.
وقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} أي يبشرون من أطاع ا لله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب، وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} أي أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه، لئلا يبقى لمعتذر عذر، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}، وكذا قوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} الآية. وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين" ، وفي لفظ آخر "من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه". )
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
لما تضمن قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إلى آخر السياق، إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب، قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} أي وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، ولهذا قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي في علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما(1/726)
فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الحسن بن سهل الجعفري وخزز بن المبارك، قالا: حدثنا عمران بن عيينة، حدثنا عطاء بن السائب، قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ قوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، قوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أي بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنزل عليك مع شهادة الله تعالى بذلك {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود، فقال لهم: "إني لأعلم والله إنكم لتعلمون أني رسول الله " فقالوا: ما نعلم ذلك. فأنزل الله عز وجل {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً} أي كفروا في أنفسهم، فلم يتبعوا الحق، وسعوا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به، قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه، وبعدوا منه بعداً عظيماً شاسعاً، ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه بأنه لا يغفر لهم {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} أي سبيلاً إلى الخير {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} وهذا استثناء منقطع {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} الآية، ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ} أي قد جاءكم محمد صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عز وجل، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه، يكن خيراً لكم. ثم قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم، كما قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} وقال ههنا: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} أي بمن يستحق منكم الهداية فيهدية، وبمن يستحق الغواية فيغويه، {حَكِيماً} أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة، إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً، أو ضلالاً أو رشاداً، أو صحيحاً أو كذباً، ولهذا قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم قال: زعم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت(1/727)
النصارى عيسى بن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله". ثم رواه هو وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة، عن الزهري كذلك، ولفظه "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" وقال علي بن المديني: هذا حديث صحيح سنده وهكذا رواه البخاري عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري به، ولفظه "فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رجلاً قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا¹ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهويكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" تفرد به من هذا الوجه. وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولداً، تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه، ولهذا قال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} أي إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم، أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل، فكان عيسى بإذنه عز وجل، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق الله عز وجل، ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروح التي أرسل بها جبريل قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}. وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وقال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} إلى آخر السورة، وقال تعالى إخباراً عن المسيح: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} الآية.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} هو قوله: {كُنْ فَيَكُونُ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: سمعت شاذ بن يحيى يقول في قول الله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} قال: ليس الكلمة صارت عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى، وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي أعلمها بها، كما زعمه في قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} أي يعلمك بكلمة منه ويجعل ذلك كقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى عليه السلام. وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عمير بن هانىء، حدثنا جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
وقال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عمير بن هانىء، عن جنادة زاد "من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" ، وكذا رواه مسلم عن داود بن رشيد، عن الوليد، عن ابن جابر به، ومن وجه آخر عن الأوزاعي به، فقوله في الآية والحديث "وروح منه" كقوله: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} أي من خلقه ومن عنده وليست(1/728)
من للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعه - بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى، وقد قال مجاهد في قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي ورسول منه، وقال غيره: ومحبة منه، والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} وفي قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وكما روي في الحديث الصحيح: "فأدخل على ربي في داره" أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد.
وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي فصدقوا بأن الله واحد أحد، لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله، ولهذا قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهذه الآية كالتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وكما قال في آخر السورة المذكورة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي} الآية، وقال في أولها {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآية، - فالنصارى عليهم لعائم الله - من جهلهم ليس لهم ضابط، ولا لكفرهم حد، بل أقوالهم وضلالهم منتشر، فمنهم من يعتقده إلهاً، ومنهم من يعتقده شريكاً، ومنهم من يعتقده ولداً، وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة، وأقوال غير مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولاً.
ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو سعيد بن بطريق بترك الإسكندرية في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم، وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة، وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة، وأنهم اختلفوا عليه اختلافاً لا ينضبط ولا ينحصر، فكانوا أزيد من ألفين أسقفاً، فكانوا أحزاباً كثيرة، كل خمسين منهم على مقالة، وعشرون على مقالة، ومائة على مقالة، وسبعون على مقالة، وأزيد من ذلك وأنقص. فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفر، وقد توافقوا على مقالة، فأخذها الملك ونصرها وأيدها، وكان فيلسوفاً داهية، ومحق ما عداها من الأقوال، وانتظم دست أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر، وبنيت لهم الكنائس، ووضعوا لهم كتباً وقوانين، وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها وأتباع هؤلاء هم الملكانية. ثم إنهم اجتمعوا مجمعاً ثانياً، فحدث فيهم اليعقوبية، ثم مجمعاً ثالثاً فحدث فيهم النسطورية، وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ويختلفون في كيفية ذلك، وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم هل اتحدا، أو ما اتحدا، أو امتزجا، أو حل فيه على ثلاث مقالات وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى، ونحن نكفر الثلاثة، ولهذا قال تعالى: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} أي يكن خيراً لكم {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي الجميع ملكه وخلقه، وجميع ما فيها عبيده وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد، كما قال في الآية الأخرى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} الآية، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً - إلى قوله - فَرْداً}.(1/729)
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ} لن يستكبر. وقال قتادة: لن يحتشم {الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال: {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وليس له في ذلك دلالة، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح، لأن الاستنكاف هو الامتناع، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح، فلهذا قال: {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل. وقيل: إنما ذكروا لأنهم اتخذوا آلهة مع الله كما اتخذ المسيح، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه، كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات، ولهذا قال: { وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} أي فيجمعهم إليه يوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا يجور فيه، ولا يحيف، ولهذا قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة، ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه، وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي، عن الأعمش، عن سفيان، عن عبد الله مرفوعاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال: أجورهم "أدخلهم الجنة" {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال "الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم} وهذا إسناد لا يثبت.. وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً، فهو جيد {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا} أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك { فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين حقيرين ذليلين كما كانوا ممتنعين مستكبرين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}
يقول تعالى مخاطباً جميع الناس ومخبراً بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة، ولهذا قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} أي ضياء واضحاً على الحق، قال ابن جريج وغيره: وهو القرآن {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} أي جمعوا بين مقامي العبادة، والتوكل على الله في جميع أمورهم، وقال ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن. رواه ابن جرير {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} أي يرحمهم فيدخلهم الجنة، ويزيدهم ثواباً ومضاعفة ورفعاً في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي طريقاً واضحاً قصداً قواماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف وهذه(1/730)
صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. وفي حديث الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القرآن صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين" وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير، ولله الحمد والمنة.
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء قال: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آي نزلت يستفتونك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب علي، أو قال: صبوا عليه، فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث ؟ فأنزل الله آية الفرائض، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة، ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر، عن جابر به، وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان وقال أبو الزبير قال: يعني جابراً نزلت في {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وكأن معنى الكلام - والله أعلم - يستفتونك عن الكلالة {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} فيها، فدل المذكور على المتروك. وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ولهذا فسرها أكثر العلماء بمن يموت وليس له ولد ولا والد ومن الناس من يقول: الكلالة من لا ولد له، كما دلت عليه هذه الآية {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد والكلالة وباب من أبواب الربا. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، قال: قال عمر بن الخطاب: ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: "يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" هكذا رواه مختصراً، وأخرجه مسلم مطولاً أكثر من هذا.
(طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك يعني ابن مغول يقول سمعت الفضل بن عمرو، عن إبراهيم، عن عمر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال: "يكفيك آية الصيف" ، فقال: لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم، وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعاً بين إبراهيم وبين عمر، فإنه لم يدركه. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر عن أبي(1/731)
إسحاق، عن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة، فقال: "يكفيك آية الصيف" ، وهذا إسناد جيد، رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر بن عياش به، وكأن المراد بآية الصيف أنها نزلت في فصل الصيف، والله أعلم، ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفهمها، فإنّ فيها كفاية نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها، ولهذا قال: فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا جرير الشيباني عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب، قال: سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال: "أليس قد بين الله ذلك" فنزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} ¹ قال قتادة: وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته ألا أن الآية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت الرحم من العصبة، رواه ابن جرير.
(ذكر الكلام على معناها)
وبالله المستعان وعليه التكلان. قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} أي مات، قال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ} كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الله عز وجل، كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}. قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد وهو رواية عن عمر بن الخطاب، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه، ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد، ويدل على ذلك قوله: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ولو كان معها أب لم ترث شيئاً لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ولا والد بالنص عند التأمل أيضاً، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميراث بالكلية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن مكحول وعطية وحمزة وراشد، عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم، فأعطى الزوج النصف والأخت النصف، فكلم في ذلك فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك، تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت: ترك بنتاً وأختاً إنه لا شيء للأخت لقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} قال: فإذا ترك بنتاً فقد ترك ولداً فلا شيء للأخت، وخالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب بدليل غير هذه الآية، وهذه الآية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة وأما وراثتها بالتعصيب فلما رواه البخاري من طريق سليمان عن إبراهيم عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، النصف للبنت والنصف للأخت، ثم قال سليمان: قضى فينا ولم يذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح البخاري أيضاً عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني، فسأل ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم النصف للبنت، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم.
وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة، وليس لها ولد أي ولا والد، لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئاً، فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه(1/732)
كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" . وقوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} أي فإن كان لمن يموت كلالة أختان، فرض لهما الثلثان وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}.
وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم، أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، وقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} أي يفرض لكم فرائضه، ويحد لكم حدوده، ويوضح لكم شرائعه. وقوله: {أَنْ تَضِلُّوا} أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده، وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى. وقد قال أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثني ابن علية، أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين قال: كانوا في مسير، ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة، قال ونزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} فلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة فلقاها حذيفة عمر، فلما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة فقال: والله إنك لأحمق أن كنت ظننت أنه لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيتكها كما لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا أزيدك عليها شيئاً أبداً، قال: فكان عمر يقول: اللهم أن كنت بينتها له، فإنها لم تبين لي، كذا رواه ابن جرير، ورواه أيضاً عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين كذلك بنحوه، وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة.
وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده: حدثنا يوسف بن حماد المعني ومحمد بن مرزوق قالا: حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه ؟ قال: نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له فوقف النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا هو بحذيفة وإذا رأس ناقة حذيفة عند ردف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم فلقاها إياه، فنظر حذيفة فإذا عمر رضي الله عنه فلقاها إياه فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة، فدعا حذيفة فسأله عنها فقال حذيفة: لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيتكها كما لقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إني لصادق والله لا أزيدك شيئاً أبداً. ثم قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحداً رواه إلا حذيفة، ولا نعلم له طريقاً عن حذيفة إلا هذا الطريق، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى، وكذا رواه ابن مردويه من حديث عبد الأعلى. وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير عن الشيباني عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تورث الكلالة ؟ قال فأنزل الله {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية، قال: فكأن عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس فسليه عنها، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها، فقال: "أبوك ذكر لك هذا، ما أرى أباك يعلمها"، قال: فكان عمر يقول ما أراني أعلمها. وقد قال رسول الله ما قال، رواه ابن مردويه، ثم رواه من طريق ابن عيينة، وعن عمرو عن طاوس أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فأملاها عليها في كتف، فقال: "من أمرك بهذا أعمر ؟ ما أراه يقيمها أو ما تكفيه آية الصيف" وآية الصيف التي في النساء {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآية التي هي خاتمة النساء، فألقى عمر الكتف، كذا قال في هذا الحديث وهو مرسل.
وقال(1/733)
ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثام عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: أخذ عمر كتفاً وجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن، فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرقوا، فقال: لو أراد الله عز وجل أن يتم هذا الأمر لأتمه، وهذا إسناد صحيح. وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني بالكوفة، حدثنا الهيثم بن خالد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار، سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب، قال: لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث أحب إلي من حمر النعم: من الخليفة بعده ؟ وعن قوم قالوا: نقر بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة. ثم قال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ثم روى بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن مرة عن مرة، عن عمر، قال: ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الخلافة، والكلالة، والربا، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال: سمعت سليمان الأحول يحدث عن طاوس، قال: سمعت ابن عباس قال: كنت آخر الناس عهداً بعمر، فسمعته يقول: القول ما قلت، قلت: وما قلت ؟ قال: قلت: الكلالة من لا ولد له، ثم قال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه وهكذا رواه ابن مردويه من طريق زمعة بن صالح عن عمرو بن دينار، وسليمان الأحول عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كنت آخر الناس عهداً بعمر بن الخطاب، قال: اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة والقول ما قلت، قال: وذكر أن عمر شرك بين الإخوة للأم والأب وبين الإخوة للأم في الثلث إذا اجتمعوا، وخالفه أبو بكر رضي الله عنهما. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا محمد بن حميد العمري، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عمر كتب في الجد والكلالة كتاباً، فمكث يستخير الله يقول: اللهم أن علمت فيه خيراً فأمضه حتى إذا طعن، دعا بكتاب فمحى، ولم يدر أحد ما كتب فيه، فقال: إني كنت كتبت كتاباً في الجد والكلالة، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه. قال ابن جرير: وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول: هو ما عدا الولد والوالد. وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة في قديم الزمان وحديثه، وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن، كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، والله أعلم.(1/734)
المجلد الثاني
سورة المائدة
...
سورة المائدة
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية شيبان عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزي د، قالت: إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة. وروى ابن مردويه من حديث صالح بن سهل، عن عاصم الأحول، قال: حدثتني أم عمرو عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها. وقال أحمد أيضاً: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها، تفرد به أحمد. وقد روى الترمذي عن قتيبة، عن عبد الله بن وهب، عن حيي، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: آخر سورة أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. وقد روى الحاكم في مستدركه من طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو رواية الترمذي، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقال الحاكم أيضاً: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن نصر، قال: قرأ علي عبد الله بن وهب، أخبرني معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة ؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، لم يخرجاه، ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، وزاد: وسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: القرآن. ورواه النسائي من حديث ابن مهدي.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلآ آمّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رّبّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أن صَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ أن اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مسعر، حدثني معن وعوف، أو أحدهما، أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود، فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي عن الزهري، قال: إذا قال الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} افعلوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم، وحدثنا أحمد بن سنان، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش عن خيثمة قال: كل شيء في(2/5)
القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو في التوراة يا أيها المساكين. فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي، حدثنا معاوية يعني ابن هشام، عن عيسى بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلا أن علياً سيدها وشريفها وأميرها، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب، فإنه لم يعاتب في شيء منه، فهو أثر غريب، ولفظه فيه نكارة، وفي إسناده نظر.
وقال البخاري: عيسى بن راشد هذا مجهول، وخبره منكر، قلت: وعلي بن بذيمة وإن كان ثقة إلا أنه شيعي غال، وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل، وقوله: فلم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا علياً، إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى، فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي، ونزل قوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية، وفي كون هذا عتاباً نظر، فإنه قد قيل: أن الأمر كان ندباً لا إيجاباً، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل، فلم يصدر من أحد منهم خلافه، وقوله: عن علي أنه لم يعاتب في شيء من القرآن فيه نظر أيضاً، فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء، عمت جميع من أشار بأخذه ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعلم بهذا وبما تقدم ضعف هذا الأثر، والله أعلم، وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثني يونس قال: قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم فيه هذا بيان من الله ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فكتب الآيات منها حتى بلغ {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتاباً وعهداً، وأمره فيه بأمره، فكتب "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك، قال: والعهود ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يعني العهود، يعني ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} إلى قوله: {سُوءُ الدَّارِ} وقال الضحاك: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ق ال: ما أحل الله وحرم، وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام. وقال زيد بن أسلم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: هي ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح وعقد اليمين. وقال محمد بن كعب: هي خمسة منها حلف الجاهلية، وشركة المفاوضة. وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: فهذه تدل على لزوم العقد وثبوته فيقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد والجمهور، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وفي لفظ آخر(2/6)
للبخاري "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا" وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا منافياً للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعاً، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود.
وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} هي الإبل والبقر والغنم، قاله أبو الحسن وقتادة وغير واحد، قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب، وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتاً في بطن أمه إذا ذبحت، وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق مجالد عن أبي الوداك جبير بن نوفل، عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال: "كلوه أن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" وقال الترمذي: حديث حسن، قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عتاب بن بشير، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" تفرد به أبو داود.
وقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير، وقال قتادة: يعني بذلك الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} يعني منها فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه، ولهذا قال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال.
وقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قال بعضهم: هذا منصوب على الحال والمراد بالأنعام ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم، ويعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر، فاستثنى من الإنسي ما تقدم، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام، وقيل: المراد أحللنا لكم الأنعام، إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد، وهو حرام لقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا أي كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن الله قد حكم بهذا، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} قال ابن عباس: يعني بذلك مناسك الحج. وقال مجاهد: الصفا والمروة، والهدي والبدن من شعائر الله، وقيل: شعائر الله محارمه، أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى، ولهذا قال تعالى: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم، كما قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} الآية، وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو العقدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، كما هو مذهب طائفة من السلف.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ولا الشهر(2/7)
الحرام} يعني لا تستحلوا القتال فيه، وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك الجزري، واختاره ابن جرير أيضاً، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} والمراد أشهر التسيير الأربعة، قالوا: فلم يستثن شهراً حراماً من غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة، قال: وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أماناً من القتل إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان، ولهذه المسألة بحث آخر له موضع أبسط من هذا.
وقوله تعالى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء"، ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق، فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعاً، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلده، وأهل للحج والعمرة، وكان هديه إبلاً كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وقال بعض السلف إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي طالب: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، رواه أهل السنن.
وقال مقاتل بن حيان: وقوله: {وَلا الْقَلائِدَ} فلا تستحلوها وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم، قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر وتقلد مشركوا الحرم من لحاء شجره فيأمنون به، رواه ابن أبي حاتم ثم قال: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله: { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وحدثنا المنذر بن شاذان حدثنا زكريا بن عدي حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء ؟ قال لا، وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله.
وقوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً وكذا من قصده طالباً فضل الله وراغباً في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه. قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغير واحد في قوله: {بْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ} يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}. وقوله: {وَرِضْوَاناً} قال ابن عباس: يترضون الله بحجهم وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الآية نزلت في الحطم بن هند البكري كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله عز وجل {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً}.
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس وأن هذا الحكم منسوخ في حقهم، والله أعلم - فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده(2/8)
والكفر به فهذا يمنع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ} ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع لما أمّر الصديق على الحجيج علياً وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وقال ابن أبي طلحة: عن ابن عباس قوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} يعني من توجه قبل البيت الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعدها {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} وقال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قال: منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسخها قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: {وَلا الْقَلائِدَ} يعني أن تقلدوا قلادة من الحرم فأمّنوهم، قال ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك، قال الشاعر:
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم
... يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد وهذا أمر بعد الحظر والصحيح الذي يثبت على السير، أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً رده واجباً وإن كان مستحباً فمستحب أو مباحاً فمباح، ومن قال إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم. وقوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} من القراء من قرأ أن صدوكم بفتح الألف من أن، ومعناها ظاهر أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الآية كما سيأتي من قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال، وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل به قامت السموات والأرض وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم فأنزل الله هذه الآية، والشنآن هو البغض قاله ابن عباس وغيره وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآناً بالتحريك، مثل قولهم جمزان ودرجان ورقلان من جمز ودرج ورقل، وقال ابن جرير: من العرب من يسقط التحريك في شنآن فيقول شنان ولم أعلم أحداً قرأ بها. ومنه قول الشاعر:(2/9)
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي
... وإن لام فيه ذو الشنان
وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم، قال ابن جرير: الإثم ترك ما أمر الله بفعله والعدوان مجاوزة ما حد الله في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن جده أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ قال: "تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره" انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه، وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال: "تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه" وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا سفيان بن سعيد، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" وقد رواه أحمد أيضاً في مسند عبد الله بن عمر، حدثنا حجاج، حدثنا شعبة عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف كلاهما عن الأعمش به. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي، حدثنا بكر بن عبد الرحمن، حدثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى، عن فضيل بن عمرو، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدال على الخير كفاعله" ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد، قلت: وله شاهد في الصحيح "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي، حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم عن الزبيدي قال عباس بن يونس: أن أبا الحسن نمران بن صخر، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام".
{حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
يخبر تعالى عباده خبراً متضمناً النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة، وهي ما مات من الحيوانات(2/10)
حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة لما فيها من الدم المحتقن فهي ضارة للدين وللبدن، فلهذا حرمها الله عز وجل، ويستثنى من الميتة السمك، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر، فقال "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ، وهكذا الجراد، لما سيأتي من الحديث وقوله: {وَالدَّمَ} يعني به المسفوح، كقوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب المذحجي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو يعني ابن قيس عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال فقال: كلوه، فقالوا: أنه دم، فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح، وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد، عن القاسم! عن عائشة، قالت: إنما نهى عن الدم السافح، وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان. فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"، وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعاً، قلت: وثلاثتهم كلهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض، وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر فوقفه بعضهم عليه، قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا بشير بن شريح عن أبي غالب، عن أبي أمامة وهو صدي بن عجلان، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم فبينما نحن كذلك، إذ جاؤوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها فقالوا: هلم يا صدي فكل، قال: قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية، ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناده مثله، وزاد بعده هذا السياق قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون عليّ، فقلت: ويحكم اسقوني شربة من ماء، فإني شديد العطش، قال: وعليّ عباءتي، فقالوا: لا، ولكن ندعك حتى تموت عطشاً، قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء، ونمت على الرمضاء في حر شديد، قال: فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه، فأمكنني منه فشربته، فلما فرغت من شرابي استيقظت فلا والله ما عطشت، ولا عريت بعد تيك الشربة. ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري، حدثنا صدقة بن هرم عن أبي غالب، عن أبي أمامة وذكر نحوه، وزاد بعد قوله: بعد تيك الشربة، فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة، فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها، أن الله أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم، وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق:
وإياك والميتات لا تقربنها
...
ولا تأخذن عظماً حديداً فتفصدا
أي لا تفعل فعل الجاهلية، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئاً محدداً من عظم ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيواناً من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه، ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة، ثم قال الأعشى:(2/11)
وذا النصب المنصوب لا تأتينه
... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وقوله: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} يعني إنسية ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم ههنا، وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً} يعنون قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطرد، وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه" فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به، وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره ؟ وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال "لا، هو حرام". وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم: نهانا عن الميتة والدم.
وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية إما عمداً أو نسياناً كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن السنجاني حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال: نزل آدم بتحريم أربع {الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ، وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط، ولم تزل حراماً منذ خلق الله السموات والأرض، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم وأحل لهم ما سوى ذلك، فكذبوه وعصوه، وهذا أثر غريب، وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا ربعي عن عبد الله، قال: سمعت الجارود بن أبي سبرة، قال: هو جدي، قال: كان رجل من بني رباح يقال له ابن وائل، وكان شاعراً، نافر غالباً أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء، فلما وردت الماء قاما إليها بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها، قال: فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم، قال: وعلي بالكوفة، قال: فخرج علي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي: " يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها، فإنها أهل بها لغير الله"، هذا أثر غريب، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا ابن حماد بن مسعدة عن عوف، عن أبي ريحانة، عن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب، ثم قال أبو داود محمد بن جعفر هو غندر: أوقفه على ابن عباس، تفرد به أبو داود، وقال أبو داود أيضاً: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، حدثنا أبي، حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن حريث، قال: سمعت عكرمة يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل، ثم قال أبو داود: أكثر من رواه غير ابن جرير لا يذكر فيه ابن عباس، تفرد به أيضاً.
قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وهي التي تموت بالخنق، إما قصداً وإما اتفاقاً بأن تتخبل في وثاقتها، فتموت به فهي حرام، وأما {وَالْمَوْقُوذَةُ} فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير(2/12)
واحد: هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت، قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، قال "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله" ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمعراض ونحوه بحده، فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذاً لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله، ولم يجرحه على قولين، هما قولان للشافعي رحمه الله
(أحدهما) لا يحل كما في السهم والجامع أن كلاً منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ.
(والثاني) إنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكرناه، لأنه قد دخل في العموم، وقد قررت لهذه المسألة فصلاً فليكتب ههنا.
(فصل) - اختلف العلماء رحمهم الله تعالى فيما إذا أرسل كلباً على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه، أو صدمه: هل يحل أم لا ؟ على قولين:
(أحدهما) أن ذلك حلال لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، وكذا عمومات حديث عدي بن حاتم، وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي رحمه الله، وصححه بعض المتأخرين منهم كالنووي والرافعي. (قلت): وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر، فإنه قال في كلا الموضعين: يحتمل معنيين، ثم وجه كلاً منهما فحمل ذلك الأصحاب منه، فأطلقوا في المسألة قولين عنه، اللهم إلا أنه في بحثه للقول بالحل رشحه قليلاً، ولم يصرح بواحد منهما، ولا جزم به، والقول بذلك - أعني الحل - نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة من رواية الحسن بن زياد عنه، ولم يذكر غير ذلك. وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر، وهذا غريب جداً، وليس يوجد ذلك مصرحاً به عنهم، إلا أنه من تصرفه رحمه الله ورضي عنه.
(والقول الثاني): - أن ذلك لا يحل، وهو أحد القولين عن الشافعي رحمه الله واختاره المزني، ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضاً، والله أعلم. ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وهذا القول أشبه بالصواب، والله أعلم، لأنه أجري على القواعد الأصولية، وأمس بالأصول الشرعية، واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خديج، قلت: يا رسول الله، إنا ملاقوا العدو غداً، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب ؟ قال "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه" الحديث بتمامه، وهو في الصحيحين. وهذا وإن كان وارداً على سبب خاص، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع، كما سئل عليه السلام عن البتع، وهو نبيذ العسل، فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام", أفيقول فقيه: أن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل، وهكذا هذا، كما سألوه عن شيء من الذكاة، فقال لهم كلاماً عاماً يشمل ذاك المسؤول عنه وغيره لأنه عليه السلام كان قد أوتي جوامع الكلم، إذا تقرر هذا، فما صدمه الكلب أو غمه بثقله ليس مما أنهر دمه، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث، فإن قيل: هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء، لأنهم إنما سألوه عن الآلة التي يذكى بها، ولم يسألوه عن الشيء الذي يذكى، ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر حيث قال: "ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه، وإلا لم يكن متصلاً، فدل على أن المسؤول عنه هو الآلة، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم، فالجواب عن هذا بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضاً، حيث يقول(2/13)
"ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه"، ولم يقل: فاذبحوا به، فهذا يؤخذ منه الحكمان معاً، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها، وحكم المذكى وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سناً ولا ظفراً، هذا مسلك.
(والمسلك الثاني): طريقة المزني، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه أن قتل بعرضه فلا تأكل، وإن خزق فكل، والكلب جاء مطلقاً، فيحمل على ما قيد هناك من الخزق لأنهما اشتركا في الموجب وهو الصيد فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل، بل هذا أولى، وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة، فلا بد لهم من جواب عن هذا، وله أن يقول: هذا قتله الكلب بثقله، فلم يحل قياساً على ما قتله السهم بعرضه، والجامع أن كلاً منهما آلة للصيد، وقد مات بثقله فيهما، ولا يعارض ذلك بعموم الآية، لأن القياس مقدم على العموم، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور، وهذا مسلك حسن أيضاً.
(مسلك آخر) - وهو أن قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} عام فيما قتلن بجرح أو غيره، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو إما أن يكون نطيحاً أو في حكمه، أو منخنقاً أو في حكمه، وأياً ما كان، فيجب تقديم هذه الآية على تلك الوجوه:
(أحدها): أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد حيث يقول لعدي بن حاتم: وإن أصابه بعرضه، فإنما هو وقيذ فلا تأكله، ولم نعلم أحداً من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية، فقال: أن الوقيذ معتبر حالة الصيد، والنطيح ليس معتبراً، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقاً للإجماع لا قائل به، وهو محظور عند كثير من العلماء.
(الثاني): أن تلك الآية {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ليست على عمومها بالإجماع بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ.
(المسلك الآخر) - أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء، لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات، فلا تحل قياساً على الميتة.
(المسلك الآخر) - أن آية التحريم، أعني قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى آخرها، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة، أعني قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} الآية، فينبغي أن لا يكون بينهما تعارض أصلاً، وتكون السنة جاءت لبيان ذلك، وشاهد ذلك قصة السهم، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية، وهو ما إذا خزقه المعراض فيكون حلالاً، لأنه من الطيبات، وما دخل في حكم تلك الآية، آية التحريم، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل، لأنه وقيذ، فيكون أحد أفراد آية التحريم، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء أن كان قد جرحه الكلب، فهو داخل في حكم آية التحليل، وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله، فهو نطيح أو في حكمه، فلا يكون حلالاً، (فإن قيل): فلم لا فصل في حكم الكلب، فقال: ما ذكرتم أن جرحه فهو حلال، وإن لم يجرحه فهو حرام.
(فالجواب) أن ذلك نادر، لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معاً، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر، وكذا قتله إياه بثقله، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطىء لسوء رمي راميه، أو للهو أو لنحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته، فلهذا ذكر كلاً من حكميه مفصلاً، والله أعلم، ولهذا لما كان الكلب، من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال "إن(2/14)
أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيح ثابت في الصحيحين، وهو أيضاً مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين، فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس، وبه قال الحسن والشعبي والنخعي، وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه، وروى ابن جرير في تفسيره عن علي وسعيد وسلمان وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس: أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر بن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه.
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك" ورواه أيضاً النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن أعرابياً يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، فذكر نحوه، وقال محمد بن جرير في تفسيره: حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا عبد العزيز بن موسى هو اللاحوني، حدثنا محمد بن دينار هو الطاحي عن أبي إياس وهو معاوية بن قرة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي" ثم أن ابن جرير علله بأنه قد رواه أبو قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب، عن سلمان موقوفاً.
وأما الجمهور فقدّموا حديث عدي على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره، وقد حمله بعض العلماء على أنه أن أكل بعد ما انتظر صاحبه فطال عليه الفصل ولم يجيء، فأكل منه لجوعه ونحوه فإنه لا بأس بذلك، لأنه والحالة هذه لا يخشى أنه إنما أمسك على نفسه بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه، والله أعلم.
فأما الجوارح من الطيور فنص الشافعي على أنها كالكلب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين، واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا: لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضاً فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد فيعفى عن ذلك، وأيضاً فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير. وقال الشيخ أبو علي في "الإفصاح": إذا قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب لنص الشافعي رحمه الله، على التسوية بينهما، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما المتردّية: فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال، فتموت بذلك، فلا تحل، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المتردّية التي تسقط من جبل. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر. وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر.
وأما النطيحة : فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها، والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي منطوحة، وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون: عين كحيل، وكف خضيب، ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة، وأما هذه فقال بعض النحاة: إنما استعمل فيها تاء التأنيث، لأنها أجريت مجرى الأسماء كما في قولهم: طريقة طويلة، وقال بعضهم: إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة بخلاف عين كحيل وكف خضيب لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام.
وقوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع، وقد كان أهل(2/15)
الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين.
وقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه، فهو ذكي، وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي في الآية قال: أن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها، فكل. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين، حدثنا هشيم وعباد، قالا: حدثنا حجاج عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردّية والنطيحة، وهي تحرك يداً أو رجلاً فكلها، وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد: أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل. قال ابن وهب: سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها، فقال مالك: لا أرى أن تذكى، أي شيء يذكى منها ؟ وقال أشهب: سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره، أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل ؟ فقال: أن كان قد بلغ السّحْرة فلا أرى أن يؤكل، وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأساً، قيل له: وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال: لا يعجبني هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الأمعاء ؟ فقال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل، هذا مذهب مالك رحمه الله. وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها فيحتاج إلى دليل مخصص للآية، والله أعلم.
وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لا قو العدو غداً وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب ؟ فقال "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوه، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة". وفي الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعاً، وفيه نظر، وروي عن عمر موقوفاً وهو أصح "ألا أن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق". وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك" ، وهو حديث صحيح، ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.
وقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: وهي ثلاثمائة وستون نصباً، كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا، لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله.
وقوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} أي حرّم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام، واحدها زلم وقد تفتح الزاي، فيقال: زلم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، والثالث غفل ليس عليه شيء، ومن الناس من قال: مكتوب على(2/16)
الواحد: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام، هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا الحجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} قال: والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور، وكذا روي عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومقاتل بن حيان. وقال ابن عباس: هي قداح كانوا يستقسمون بها الأمور. وذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه، وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام فقال "قاتلهم الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً".
وفي الصحيح: أن سراقة بن مالك بن جعشم، لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام، هل أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره لا تضرهم. قال: فعصيت الأزلام واتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره لا تضرهم، وكان كذلك، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك، وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد عن رقية، عن عبد الملك بن عمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائراً". وقال مجاهد في قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} قال: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون. وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار، فيه نظر، اللهم إلا أن يقال: إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة وفي القمار أخرى، والله أعلم. فإن الله سبحانه قد قرن بينها وبين القمار وهو الميسر فقال في آخر السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ - إلى قوله - مُنْتَهُونَ}. وهكذا قال ههنا {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك. وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه.
كما روى الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم أن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفني عنه، واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به" لفظ أحمد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.
وقوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم، وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان، وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم" ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون(2/17)
من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله، ولهذا قال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحداً إلا الله، فقال {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم، واخشوني أنصركم عليهم وأبيدهم، وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.
وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين، تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} أي فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً. وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجيت عليه برداً كان علي. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً، رواهما ابن جرير، ثم قال: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: لما نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما يبكيك ؟" قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال "صدقت" ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت "إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء".
وقال الإمام أحمد: حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية ؟ قال: قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشية عرفة في يوم جمعة، ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به. ورواه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري، عن قيس، عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: و الله إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً. فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا والله بعرفة، قال سفيان: وأشك، كان يوم الجمعة أم لا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وشك سفيان رحمه الله أن كان في الرواية، فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف(2/18)
فيه أحد من أصحاب المغازي والسير، ولا من الفقهاء وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا رجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نسي، أخبرنا أميرنا إسحاق، قال أبو جعفر بن جرير وهو إسحاق بن حرشة عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب، قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه، فقال عمر: أي آية يا كعب ؟ فقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه: نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وقال ابن جرير: حدثنا أبو بكر، حدثنا قبيصة، حدثنا حماد بن سلمة عن عمار هو مولى بني هاشم: أن ابن عباس قرأ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا، لاتخذنا يومها عيداً، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد، ويوم جمعة. وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا يحيى بن الحماني، حدثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سليمان، عن أبي عمر البزار، عن أبي الحنفية، عن علي قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس السكوني، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة في يوم جمعة. وروى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن موسى بن دحية، عن قتادة عن الحسن، عن سمرة قال: نزلت هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} يوم عرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف، فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران، عن حنش بن عبد الله الصغاني، عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وفتح بدراً يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. ورفع الذكر يوم الاثنين. فإنه أثر غريب، وإسناده ضعيف، وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصغاني، عن ابن عباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبىء يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين، هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين، فالله أعلم، ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين، كما تقدم فاشتبه على الراوي، والله أعلم.
وقال ابن جرير: وقد قيل: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، ثم روي من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يقول: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، قال: وقد قيل: إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع، ثم رواه من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس. قلت: وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلي "من كنت مولاه فعلي مولاه". ثم رواه عن أبي هريرة، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع، ولا يصح هذا ولا هذا بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية أنها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي(2/19)
طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله.
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناوله، و الله غفور رحيم له لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه، ويغفر له، وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته" لفظ ابن حبان، وفي لفظ لأحمد "من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة" ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال، واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال كما هو مقرر في كتاب الأحكام، وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير أو صيداً وهو محرم، هل يتناول الميتة أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء أو ذلك الطعام ويضمن بدله، على قولين هما قولان للشافعي رحمه الله. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي، أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال "إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها" تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين، وكذا رواه ابن جرير عن عبد الأعلى بن واصل عن محمد بن القاسم الأسدي عن الأوزاعي به، لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد به. ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد أو أبي مرثد عن أبي واقد به. ورواه ابن جرير عن هناد بن السري، عن عيسى بن يونس، عن حسان، عن رجل قد سمي له فذكره، ورواه أيضاً عن هناد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان مرسلاً، وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية عن ابن عون، قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه، فكان فيه: ويجزىء من الاضطرار غبوق أو صبوح.
حدثنا أبو كريب، حدثنا هشيم عن الخصيب بن زيد التميمي، حدثنا الحسن: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى يحل الحرام ؟ قال: فقال "إلى متى يروى أهلك من اللبن أو تجيء ميرتهم". حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عن جدته: أن رجلاً من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحل لك الطيبات، ويحرم عليك الخبائث، إلا أن تفتقر إلى طعام لك، فتأكل منه حتى تستغني عنه". فقال الرجل: وما فقري الذي يحل لي وما غنائي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كنت ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئاً فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه" فقال الأعرابي: ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أرويت أهلك غبوقاً من الليل، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام مالك، فإنه ميسور كله فليس فيه حرام".
ومعنى قوله "ما لم تصطبحوا" يعني به الغداء "وما لم تغتبقوا" يعني به العشاء "أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها" فكلوا منها. وقال ابن جرير: يروى هذا الحرف، يعني قوله "أو تحتفئوا" على أربعة أوجه: تحفؤا بالهمزة، وتحتفيوا: بتخفيف(2/20)
الياء والحاء، وتحتفوا بتشديد، وتحتفوا بالحاء وبالتخفيف، ويحتمل الهمز، كذا رواه في التفسير.
(حديث آخر) - قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا وهب بن عقبة العامري، سمعت أبي يحدث عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لنا من الميتة ؟ قال "ما طعامكم" ؟ قلنا: نصطبح ونغتبق. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة، قدح غدوة وقدح عشية، قال: ذاك وأبي الجوع، وأحل لهم الميتة على هذه الحال. تفرد به أبو داود وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق، والله أعلم.
(حديث آخر) - قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا سماك عن جابر عن سمرة: أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال له رجل: أن ناقتي ضلت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها، فمرضت، فقالت له امرأته: انحرها فأبى، فنفقت فقالت له امرأته: اسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله، قال: لا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال "هل عندك غنى يغنيك ؟" قال: لا، قال "فكلوها" قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها ؟ قال استحييت منك، تفرد به، وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها و الله أعلم.
وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي متعاط لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي، والله أعلم.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَمَا عَلّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتّقُواْ اللّهَ أن اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها إما في بدنه أو في دينه أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة كما قال تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} قال بعدها { يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كما في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم أنه يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين، سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله قد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} قال سعيد: يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل: الطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق، وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: ليس هو من الطيبات، رواه ابن أبي حاتم، وقال ابن وهب: سئل مالك عن بيع الطير الذي يأكله الناس، فقال: ليس هو من الطيبات.
وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} أي أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها، والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما صدتموه بالجوارح، وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة، وممن قال ذلك علي بن أبي(2/21)
طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} وهن الكلاب المعلمة، والبازي، وكل طير يعلم للصيد والجوارح، يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: وروي عن خيثمة وطاوس ومجاهد ومكحول ويحيى بن أبي كثير نحو ذلك، وروي عن الحسن أنه قال: الباز والصقر من الجوارح، وروي عن علي بن الحسين مثله، ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله، وقرأ قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قال: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك، ونقله ابن جرير عن الضحاك والسدي، ثم قال: حدثنا هناد، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن جريج عن نافع، عن ابن عمر، قال: أما ما صاد من الطير البازات وغيرها من الطير، فما أدركت فهو لك وإلا فلا تطعمه، قلت: والمحكي عن الجمهور أن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنه تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم واختاره ابن جرير، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد، حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل" واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود، لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود" فقلت: ما بال الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان". وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال "ما بالهم وبال الكلاب، اقتلوا منها كل أسود بهيم" وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن جوارح من الجرح، وهو الكسب، كما تقول العرب: فلان جرح أهله خيراً، أي كسبهم خيراً، ويقولون: فلان لا جارح له أي لا كاسب له، وقال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أي ما كسبتم من خير وشر، وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا زيد بن حباب، حدثني يونس بن عبيدة، حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فقلت: فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فسكت، فأنزل الله {سْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسل الرجل كلبه وسمى، فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل" وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن الحباب بإسناده عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه، فأذن له، فقال: قد أذن لك يا رسول الله، قال: أجل "ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب" قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزل الله عز وجل {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}.
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح به، وقال: صحيح، ولم يخرجاه، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي، فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت الآية، ورواه الحاكم من طريق سماك عن عكرمة، وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزول هذه الآية: أنه في قتل الكلاب.(2/22)
وقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} يحتمل أن يكون حالاً من الفاعل ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول، وهو الجوارح، أي وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد، وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفارها، فيستدل بذلك والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخلابه وظفره، أنه لا يحل له، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء، ولهذا قال {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه، ولهذا قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْه} فمتى كان الجارح معلماً وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله، حل الصيد وإن قتله بالإجماع. وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله! فقال "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك". قلت: وإن قتلن ؟ قال "وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله" وفي لفظ لهما "وإذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حياً، فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته" وفي رواية لهما "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" فهذا دليل للجمهور، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقاً، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث، وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقاً.
ذكر الآثار بذلك
قال ابن جرير: حدثنا هناد، حدثنا وكيع عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: قال سلمان الفارسي: كل وإن أكل ثلثيه - يعني الصيد - إذا أكل منه الكلب، وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وعمر بن عامر عن قتادة، وكذا رواه محمد بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان، ورواه ابن جرير أيضاً عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، عن حميد، عن بكر بن عبد الله المزني، والقاسم بن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه، وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خيثم الدؤلي أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل وإن لم يبق منه إلا حذية، يعني بضعة، ورواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد، عن بكير بن الأشج، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص، قال: كل وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود عن عامر، عن أبي هريرة، قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكله. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر قال: سمعت عبد الله، وحدثنا هناد، حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل"، وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد عن نافع، فهذه الآثار ثابتة عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عمر، وهو محكي عن علي وابن عباس، واختلف فيه عن عطاء والحسن البصري، وهو قول الزهري وربيعة ومالك، وإليه ذهب الشافعي في القديم وأومأ إليه في الجديد.(2/23)
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعاً، فقال ابن جرير: حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني، حدثنا محمد بن دينار وهو الطاجي عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي" ثم قال ابن جرير: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان، والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع، وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعاً من وجوه أخر، فقال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن أعرابياً يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله، أن لي كلاباً مكلبة، فأفتني في صيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك" فقال: ذكياً وغير ذكي، وإن أكل منه ؟ قال "نعم وإن أكل منه" فقال: يا رسول الله أفتني في قوسي، قال "كل ما ردت عليك قوسك" قال: ذكياً وغير ذكي ؟ "وإن تغيب عنك ما لم يضلّ أو تجد فيه أثر غير سهمك" قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها، قال "اغسلها وكل فيها" هكذا رواه أبو داود، وقد أخرجه النسائي، وكذا رواه أبو داود من طريق يونس بن سيف، عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك" وهذان إسنادان جيدان، وقد روى الثوري عن سماك بن حرب، عن عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان من كلب ضار أمسك عليك فكل" قلت: وإن أكل ؟ قال "نعم". وروى عبد الملك بن حبيب: حدثنا أسد بن موسى عن ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عدي بمثله، فهذه آثار دالة على أنه يغتفر، وإن أكل منه الكلب، وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، كما تقدم عمن حكيناه عنهم، وقد توسط آخرون فقالوا: أن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم، وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم : "فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وأما أن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني. وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين صحيح.
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه "النهاية" أن لو فصل مفصل هذا التفصيل وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم. وقال آخرون قولاً رابعاً في المسألة وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عدي، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس أنه قال في الطير: إذا أرسلته فقتل فكل، فإن الكلب إذا ضربته لم يعد وإن تعلم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل، وكذا قال إبراهيم النخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان، وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم، حدثنا أبو سعيد، حدثنا المحاربي، حدثنا مجالد عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فما يحل لنا منها ؟ قال "يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ثم قال ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك" قلت: وإن قتل ؟ قال "وإن قتل ما لم يأكل" قلت: يا رسول الله، وإن خالطت كلابنا كلاباً غيرها ؟ قال "فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك". قال: قلت:إنا(2/24)
قوم نرمي فما يحل لنا ؟ قال "ما ذكرت اسم الله عليه وخزقت فكل". فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب أن لا يأكل، ولم يشترط ذلك في البزاة، فدل على التفرقة بينهما في الحكم، والله أعلم.
وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْه} أي عند إرساله له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك" وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضاً "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله" ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه، التسمية عند إرسال الكلب، والرمي بالسهم، لهذه الآية وهذا الحديث، وهذا القول هو المشهور عن الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال كما قال السدي وغيره، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: باسم الله، وإن نسيت فلا حرج، وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال: "سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك". وفي صحيح البخاري عن عائشة أنهم قالوا: يا رسول الله، أن قوماً يأتوننا حديث عهدهم بكفر بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا ؟ فقال "سموا الله أنتم وكلوا".
(حديث آخر) - وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا هشام عن بديل، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله، فليقل: باسم الله أوله وآخره"، وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون به، وهذا منقطع بين عبد الله بن عبيد بن عمير وعائشة فإنه لم يسمع منها هذا الحديث بدليل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، أخبرنا هشام يعني ابن أبي عبد الله الدستوائي، عن بديل، عن عبد الله بن عبيد بن عمير: أن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم حدثته عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاماً في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين، فقال "أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي اسم الله في أوله، فليقل باسم الله أوله وآخره" رواه أحمد أيضاً وأبو داود والترمذي والنسائي من غير وجه عن هشام الدستوائي به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) - وقال أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا جابر بن صبح، حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي وصحبته إلى واسط، فكان يسمي في أول طعامه، وفي آخر لقمة يقول: باسم الله أوله وآخره، فقلت له: إنك تسمي في أول ما تأكل، أرأيت قولك في آخر ما تأكل باسم الله أوله وآخره، فقال: أخبرك أن جدي أمية بن مخشي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: أن رجلاً كان يأكل والنبي ينظر فلم يسم حتى كان آخر طعامه لقمة، قال: باسم الله أوله وآخره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه" وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث جابر بن صبح الراسبي أبي بشر البصري، ووثقه ابن معين والنسائي، وقال أبو الفتح الأزدي: لا تقوم به حجة.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن خيثمة عن أبي حذيفة - قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب - من أصحاب ابن مسعود، عن حذيفة، قال: كنا إذا حضرنا مع النبي على طعام لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله فيضع يده، وإنا حضرنا(2/25)
معه طعاماً، فجاءت جارية كأنما تدفع فذهبت تضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، وجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب يضع يده في الطعام فأخذ رسول الله بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده أن يده في يدي مع يديهما" يعني الشيطان، وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث الأعمش به.
(حديث آخر) - روى مسلم وأهل السنن، إلا الترمذي من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء" لفظ أبي داود.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن وحشي بن حرب عن أبيه، عن جده، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع. قال "فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه" ورواه أبو داود، وابن ماجه، من طريق الوليد بن مسلم.
{الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلّ لّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتّخِذِيَ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ}
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين، من الخبائث وما أحله لهم من الطيبات. قال بعده {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين، من اليهود والنصارى فقال {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة وعطاء والحسن، ومكحول وإبراهيم النخعي، والسدي ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس.
وقد ثبت في الصحيح: عن عبد الله بن مغفل، قال: أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحداً، والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فاستدل به الفقهاء، على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة، قبل القسمة، وهذا ظاهر، واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة، على أصحاب مالك في منعهم، أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم، فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قالوا: وهذا ليس من طعامهم، واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث، وفي ذلك نظر، لأنه قضية عين، ويحتمل أن يكون شحماً، يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما، والله أعلم، وأجود منه في الدلالة، ما ثبت في الصحيح، أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية، وقد سموا ذراعها وكان يعجبه الذراع، فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات فقتل اليهودية التي سمتها، وكان(2/26)
اسمها زينب، ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا.
وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضافه يهودي، على خبز شعير وإهالة سنخة، يعني ودكاً زنخاً، وقال ابن أبي حاتم: قرىء على العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان بن المنذر، عن مكحول قال: أنزل الله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ثم نسخه الرب عز وجل، ورحم المسلمين فقال {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فنسخها بذلك، وأحل طعام أهل الكتاب، وفي هذا الذي قاله مكحول رحمه الله نظر، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب، إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم، وهم متعبدون بذلك، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك، ومن شابههم، لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة، بل يأكلون الميتة بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء، على أحد قولي العلماء ونصارى العرب، كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد بن عبيدة، قال: قال علي: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب، لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر، وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف. وقال سعيد بن أبي عروبة: عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن، أنهما كانا لا يريان بأساً، بذبيحة نصارى بني تغلب. وأما المجوس، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعاً وإلحاقاً لأهل الكتاب، فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، خلافاً لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل. ولما قال ذلك واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه، يعني في هذه المسألة، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ولكن لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما الذي في صحيح البخاري، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ الجزية من مجوس هجر، ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان، لا يحل. وقوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم، وليس هذا إخباراً عن الحكم عندهم، اللهم إلا أن يكون خبراً عما أمروا به، من الأكل من كل طعام، ذكر اسم الله عليه، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها، والأول أظهر في المعنى، أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي ابن سلول، حين مات ودفنه فيه، قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك، فأما الحديث الذي فيه " لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي" فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم.
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده، وهو قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فقيل أراد(2/27)
بالمحصنات الحرائر، دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد: المحصنات الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة، كما قال في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور ههنا، وهو الأشبه، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: "حشفاً وسوء كيلة" والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات العفيفات عن الزنا، كما قال تعالى في الآية الأخرى {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هل يعم كل كتابية عفيفة، سواء كانت حرة أو أمة، حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف، ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل: المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات، وهو مذهب الشافعي. وقيل: المراد بذلك الذميات دون الحربيات، لقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول أن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب، حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني، حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري، قال نزلت هذه الآية {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قال فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى، ولم يروا بذلك بأساً أخذاً بهذه الآية الكريمة {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها، لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} وكقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} الآية.
وقوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، أي كما هن محصنات عفائف فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس، وقد أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري، بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما، وترد عليه ما بذل لها من المهر، رواه ابن جرير عنهم.
وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} فكما شرط الإحصان في النساء، وهي العفة عن الزنا، كذلك شرطها في الرجال، وهو أن يكون الرجل أيضاً محصناً عفيفاً، ولهذا قال: غير مسافحين، وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم، ولا متخذي أخدان، أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن، كما تقدم في سورة النساء سواء، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذه الآية وللحديث "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله" ، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا أبو هلال عن قتادة، عن الحسن، قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحداً أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة، فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، ولهذا قال تعالى ههنا {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.(2/28)
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطّهّرُواْ وَإِن كُنتُم مّرْضَىَ أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
قال كثيرون من السلف في قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}: يعني وأنتم محدثون، وقال آخرون: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، وكلاهما قريب. وقال آخرون: بل المعنى أعم من ذلك، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولكن هو في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب، وقد قيل: أن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجباً في ابتداء الإسلام، ثم نسخ، وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله. قال "إني عمداً فعلته يا عمر"، وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد، ووقع في سنن ابن ماجه عن سفيان، عن محارب بن دثار بدل علقمة بن مرثد، كلاهما عن سليمان بن بريدة به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عباد بن موسى، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي، حدثنا الفضل بن المبشر قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدث، توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين، فقلت: أبا عبد الله، أشيء تصنعه برأيك ؟ قال: بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه، وكذا رواه ابن ماجه عن إسماعيل بن توبة، عن زياد البكائي به. وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، عمن هو ؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل، حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث، فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك كان يفعله حتى مات، وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عوف الحمصي عن أحمد بن خالد الذهبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، ثم قال أبو داود: ورواه إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق، فقال عبيد الله بن عمر: يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد، وأيا ما كان، فهو إسناد صحيح، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان، فزال محذور التدليس، لكن قال الحافظ ابن عساكر: رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن محمد بن يحيى بن حبان به، والله اعلم، وفي فعل ابن عمر هذا ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك، كما هو مذهب الجمهور(2/29)
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا أزهر عن ابن عون، عن ابن سيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت مسعود بن علي الشيباني، سمعت عكرمة يقول: كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية، وحدثنا ابن المثنى، حدثني وهب بن جرير، أخبرنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: رأيت علياً صلى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مسح برأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم: أن علياً اكتال من حب، فتوضأ وضوءاً فيه تجوز، فقال: هذا وضوء من لم يحدث، وهذه طرق جيدة عن علي يقوي بعضها بعضاً.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا ابن يسار، حدثنا ابن أبي عدي عن حميد، عن أنس، قال: توضأ عمر بن الخطاب وضوءاً فيه تجوز خفيفاً، فقال: هذا وضوء من لم يحدث، وهذا إسناد صحيح. وقال محمد بن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة، وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء، فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد، وأما مشروعيته استحباباً فقد دلت السنة على ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر الأنصاري، سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث، وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عمرو بن عامر به، وقال ابن جرير: حدثنا أبو سعيد البغدادي، حدثنا إسحاق بن منصور عن هزيم، عن عبد الرحمن بن زياد، هو الأفريقي، عن عطيف، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ على طهر، كتب له عشر حسنات" ورواه أيضاً من حديث عيسى بن يونس عن الأفريقي، عن أبي عطيف، عن ابن عمر، فذكره، وفيه قصة. وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من حديث الأفريقي به نحوه. وقال الترمذي: وهو إسناد ضعيف.
وقال ابن جرير: وقد قال قوم: أن هذه الآية نزلت إعلاماً من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال، وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ. حدثنا أبو كريب، حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه ولا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى نزلت آية الرخصة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية، ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم عن أبي كريب به نحوه، وهو حديث غريب جداً، وجابر هذا هو ابن زيد الجعفي ضعفوه.
وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء ؟ فقال: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع، والنسائي عن زياد بن أيوب عن إسماعيل وهو ابن علية به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله ألا تتوضأ ؟ فقال "لم أصل فأتوضأ".(2/30)
وقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} قد استدل طائفة من العلماء بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} على وجوب النية في الوضوء، لأن تقدير الكلام {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} لها كما تقول العرب: إذا رأيت الأمير فقم، أي له. وقد ثبت في الصحيحين حديث "الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ، ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه، لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء ويتأكد ذلك عند القيام من النوم، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس، ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم إلى منتهى اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً وفي النزعتين والتحذيف خلاف: هل هما من الرأس أو الوجه ؟ وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض، قولان (أحدهما) أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة.
وروى في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً مغطياً لحيته فقال "اكشفها فإن اللحية من الوجه" وقال مجاهد: هي من الوجه، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام: إذا نبتت لحيته طلع وجهه، ويستحب للمتوضىء أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل عن عامر بن حمزة، عن شقيق قال: رأيت عثمان يتوضأ، فذكر الحديث، قال: وخلل اللحية ثلاثاً حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت، رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرزاق، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا أبو المليح، حدثنا الوليد بن زوران، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته، وقال "هكذا أمرني به ربي عز وجل" تفرد به أبو داود، وقد روي هذا الوجه من غير وجه عن أنس، قال البيهقي: وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة وأم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن علي وغيره، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي، ثم عن النخعي وجماعة من التابعين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق، فاختلف الأئمة في ذلك هل هما واجبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله، أو مستحبان فيهما كما هو مذهب الشافعي ومالك، لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه ابن خزيمة عن رفاعة بن رافع الزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للمسيء صلاته "توضأ كما أمرك الله"، أو يجبان في الغسل دون الوضوء كما هو مذهب أبي حنيفة، أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فليستنشق" ، وفي رواية "إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر" والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا، يعني أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح رأسه، ثم أخذ غرفة من ماء ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني(2/31)
يتوضأ. ورواه البخاري عن محمد بن عبد الرحيم عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي به.
وقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي مع المرافق كما قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جده، عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، ولكن القاسم هذا متروك الحديث، وجده ضعيف، والله أعلم.
ويستحب للمتوضىء أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاري ومسلم من حديث نعيم المجمر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" وفي صحيح مسلم عن قتادة عن خلف بن خليفة، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} اختلفوا في هذه الباء: هل هي للإلصاق ؟ وهو الأظهر، أو للتبعيض ؟ وفيه نظر، على قولين. ومن الأصوليين من قال: هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. وفي حديث عبد خير عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معدي كرب في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن.
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، وهو مقدار الناصية، وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ولا يقدر ذلك بحد، بل لو مسح بعض شعرة من رأسه أجزأه، واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: هل معك ماء ؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه، فغسل ذراعيه ومسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى خفيه، وذكر باقي الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره، فقال لهم أصحاب الإمام أحمد: إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة، ونحن نقول بذلك وأنه يقع عن الموقع، كما وردت بذلك أحاديث كثيرة وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين، فهذا أولى، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة، والله أعلم.
ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثاً، كما هو المشهور من مذهب الشافعي، أو يستحب مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه على قولين، فقال عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن حمران بن أبان، قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثاً، فغسلهما ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم غسل اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/32)
توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا. وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن عثمان في صفة الوضوء: ومسح برأسه مرة واحدة، وكذا من رواية عبد خير عن علي مثله. واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا عبد الرحمن بن وردان، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني حمران قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ فذكر نحوه، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، قال فيه: ثم مسح رأسه ثلاثاً، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا، وقال: "من توضأ هكذا كفاه" تفرد به أبو داود. ثم قال: وأحاديث عثمان في الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة.
قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قرىء وأرجلكم بالنصب عطفاً على فاغسلوا وجوهكم وأيديكم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وهيب عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأها وأرجلكم، يقول: رجعت إلى الغسل، وروي عن عبد الله بن مسعود وعروة وعطاء وعكرمة والحسن ومجاهد وإبراهيم والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان والزهري وإبراهيم التيمي نحو ذلك، وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل، كما قاله السلف، ومن ههنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما هو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب، بل لو غسل قدميه، ثم مسح رأسه، وغسل يديه، ثم وجهه، أجزأه ذلك، لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء، والواو لا تدل على الترتيب، وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقاً، فمنهم من قال: الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة، لأنه مأمور به بفاء التعقيب وهي مقتضية للترتيب، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولاً، ثم لا يجب الترتيب بعده، بل القائل اثنان: أحدهما بوجوب الترتيب كما هو واقع في الآية، والآخر يقول: لا يجب الترتيب مطلقاً، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء، فوجب الترتيب فيما بعده بالإجماع حيث لا فارق.
ومنهم من قال: لا نسلم أن الواو لا تدل على الترتيب بل هي دالة كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء، ثم نقول بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي هي دالة على الترتيب شرعاً فيما من شأنه أن يرتب، والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به" لفظ مسلم، ولفظ النسائي "ابدؤوا بما بدأ الله به" وهذا لفظ أمر، وإسناده صحيح، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به"، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعاً، و الله أعلم.
ومنهم من قال لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب، فقطع النظير عن النظير، وأدخل الممسوح بين المغسولين، دل ذلك على إرادة الترتيب، ومنهم من قال: لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" قالوا: فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتباً فيجب الترتيب، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب، ولا قائل به، فوجب ما ذكرناه.
وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ: وأرجلكم بالخفض، فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين، لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس. وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح فقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن(2/33)
إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا حميد قال: قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة، أن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وإنه ليس شيء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وطهورهما وعراقيبهما، فقال أنس: صدق الله، وكذب الحجاج، قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما، إسناد صحيح إليه، وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا مؤمل، حدثنا حماد، حدثنا عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل، وهذا أيضاً إسناد صحيح. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا محمد بن قيس الخراساني عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو معمر المنقري، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قال: هو المسح، ثم قال: وروي عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن علي والحسن في إحدى الروايات، وجابر بن زيد ومجاهد في إحدى الروايات، نحوه.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه، قال: وكان يقوله. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح، ثم قال الشعبي: ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً. وحدثنا ابن أبي زياد، أخبرنا إسماعيل قلت لعامر: أن ناساً يقولون: أن جبريل نزل بغسل الرجلين ؟ فقال: نزل جبريل بالمسح، فهذه آثار غريبة جداً، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين، وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام كما في قول العرب: حجر ضب خرب، وكقوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ.
ومنهم من قال: هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان، قاله أبو عبد الله الشافعي رحمه الله. ومنهم من قال، هي دالة على مسح الرجلين، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنة، وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضاً لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها، ومن أحسن ما يستدل على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال: أخبرنا أبو علي الروزبادي، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حمويه العسكري، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة، سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتى بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته وهو قائم، ثم قال: أن ناساً يكرهون الشرب قائماً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وقال: "هذا وضوء من لم يحدث" ، رواه البخاري في الصحيح عن آدم ببعض معناه. ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل وأضل، وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضاً، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث، وأوجب مسحهما للآية، فلم يحقق مذهبه في ذلك، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء، لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما، فحكاه من(2/34)
حكاه كذلك، ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور، فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل، سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه، وإنما أراد الرجل ما ذكرته، والله أعلم، ثم تأملت كلامه أيضاً فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} خفضاً على المسح وهو الدلك، ونصباً على الغسل، فأوجبهما أخذاً بالجمع بين هذه وهذه.
ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه
قد تقدم حديث أمير المؤمنين عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معديكرب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة، وإما مرتين أو ثلاثاً، على اختلاف رواياتهم، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه، ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به".
وفي الصحيحين من رواية أبي عوانة عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته "أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار" وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة. وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار" وروى الليث بن سعد عن حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم عن عبد الله بن الحارث بن حرز أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار" رواه البيهقي والحاكم، وهذا إسناد صحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق أنه سمع سعيد بن أبي كرب أو شعيب بن أبي كرب قال: سمعت جابر بن عبد الله وهو على جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للعراقيب من النار " وحدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجل رَجل مثل الدرهم لم يغسله، فقال: "ويل للأعقاب من النار" ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد به نحوه.
وكذا رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد، عن أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. ثم قال: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا حفص عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضؤون لم يصب أعقابهم الماء، فقال: "ويل للعراقيب من النار".
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا أيوب بن عقبة عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" تفرد به أحمد.
وقال ابن جرير: حدثني علي بن عبد الأعلى، حدثنا المحاربي عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار". قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه، ينظر إليهما. وحدثنا أبو كريب، حدثنا حسين عن زائدة عن ليث، حدثني عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة أو عن أخي أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قوماً يصلون، وفي عقب أحدهم أو كعب أحدهم، مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر لم يمسه الماء، فقال "ويل للأعقاب من النار". قال: فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئاً لم يصبه الماء، أعاد وضوءه.
ووجه الدلالة(2/35)
من هذه الأحاديث ظاهرة، وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف، وهكذا وجه هذه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى، وقد روى مسلم في صحيحه من طريق أبي الزبير عن جابر، عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ارجع فأحسن وضوءك". وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثنا جرير بن حازم أنه سمع قتادة بن دعامة، قال: حدثنا أنس بن مالك أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فأحسن وضوءك" وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف وابن ماجه عن حرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب به. وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، لكن قال أبو داود: ليس هذا الحديث بمعروف، لم يروه إلا ابن وهب. وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا يونس وحميد عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى حديث قتادة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثني يحيى بن سعد عن خالد بن معدان، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء. ورواه أبو داود من حديث بقية، وزاد: والصلاة. وهذا إسناد جيد قوي صحيح، والله أعلم.
وفي حديث حمران عن عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل بين أصابعه. وروى أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. فقال "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال: قال أبو أمامة: حدثنا عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء، قال "ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم بتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرجت خطاياه من فمه وخياشيمه، مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرجت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرّت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
قال أبو أمامة: يا عمرو، انظر ما تقول، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ فقال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة، لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً، لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك، وهذا إسناد صحيح.
وهو في صحيح مسلم من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله، فدل على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم، ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين، فدلكهما، إنما أراد غسلاً خفيفاً، وهما في النعلين، ولا مانع من إيجاد الغسل والرجل في نعلها، ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين.(2/36)
وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير على نفسه، وهو من روايته عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم، فبال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه، وهو حديث صحيح وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: فبال قائماً ثم توضأ ومسح على خفيه، قلت: ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان، وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى عن شعبة، حدثني يعلى عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام إلى الصلاة. وقد رواه أبو داود عن مسدد وعباد بن موسى، كلاهما عن هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم، فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه.
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم، ثم قال: وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث، إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية ومتعارضة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه، ولما كان القرآن آمراً بغسل الرجلين كما في قراءة النصب، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليه، توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب، ولكن لم يصح إسناده، ثم الثابت عنه خلافه، وليس كما زعموه، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله بن علاثة عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: أنا أسلمت بعد نزول المائدة، وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت، تفرد به أحمد. وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا ؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه، قال الأعمش: قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، لفظ مسلم. وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولاً منه وفعلاً، كما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير مع ما يحتاج إلى ذكره هناك من تأقيت المسح أو عدمه، أو التفصيل فيه، كما هو مبسوط في موضعه.
وقد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند بل بجهل وضلال، مع أنه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها، وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت هذه الآية الكريمة، وهم مخالفون لذلك كله وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر، ولله الحمد، وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين فعندهم أنهما في ظهر القدم فعندهم في كل رجل كعب، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. قال الربيع: قال الشافعي: لم أعلم مخالفاً في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم، هذا لفظه، فعند الأئمة رحمهم الله: في كل قدم كعبان، كما هو المعروف عند الناس، وكما دلت عليه السنة، ففي الصحيحين من طريق حمران عن عثمان أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين، واليسرى مثل ذلك.
وروى البخاري تعليقاً مجزوماً به وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه من رواية أبي القاسم الحسيني بن(2/37)
الحارث الجدلي، عن النعمان بن بشير قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم - ثلاثا - والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم" قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، ومنكبه بمنكبه، لفظ ابن خزيمة، فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه، إلا والمراد به العظم الناتىء في الساق حتى يحاذي كعب الآخر، فدل ذلك على ما ذكرناه من أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن موسى، أخبرنا شريك عن يحيى بن الحارث التيمي يعني الخابر، قال: نظرت في قتلى أصحاب زيد، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} كل ذلك قد تقدم الكلام عليه في تفسير آية النساء، فلا حاجة بنا إلى إعادته لئلا يطول الكلام، وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك، لكن البخاري روى ههنا حديثاً خاصاً بهذه الآية الكريمة فقال: حدثنا يحيى بن سليمان، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه، عن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً، فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست الناس في قلادة، فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، وقد أوجعني، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ، وحضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية، فقال أسيد بن الحضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم.
وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر، بل أباح التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم، و رحمة بكم وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه كما تقدم بيانه، وكما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة، وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة" قال: قلت: ما أجود هذا، فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود منها، فنظرت فإذا عمر رضي الله عنه فقال: إني قد رأيتك جئت آنفاً قال " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أوفيسبغ الوضوء، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء" لفظ مسلم.
وقال مالك عن نهشل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه، خرج من وجهه، كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب" رواه مسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك به، وقال ابن جرير: حدثنا(2/38)
أبو كريب، حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه، إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه" هذا لفظه. وقد رواه الإمام أحمد عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن منصور، عن سالم، عن مرة بن كعب أو كعب بن مرة السلمي,. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وإذا توضأ العبد فغسل يديه خرجت خطاياه من بين يديه، وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، وإذا غسل ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه" قال شعبة: ولم يذكر مسح الرأس، وهذا إسناد صحيح،
وروى ابن جرير من طريق شمر بن عطية عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه" وروى مسلم في صحيحه من حديث يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جنة، والصبر ضياء، والصدقة برهان، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" . وفي صحيح مسلم من رواية سماك بن حرب عن مصعب بن سعد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور". وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن قتادة، سمعت أبا المليح الهذلي يحدث عن أبيه، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فسمعته يقول "إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور، ولا صدقة من غلول" وكذا رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة.
{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتّقُواْ اللّهَ أن اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ أن اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمّ قَوْمٌ أن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
يقول تعالى مذكراً عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم. وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه، وقبوله منه، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم كما قالوا: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وقال الله تعالى: {وَمَا(2/39)
لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقيل: هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقيل: هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} قاله مجاهد ومقاتل بن حيان، والقول الأول أظهر، وهو المحكي عن ابن عباس والسدي واختاره ابن جرير.
ثم قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال، ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر، فقال {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} أي كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل لا بالجور، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلاً فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه ليشهده على صدقتي، فقال: "أكل ولدك، نحلت مثله ؟" قال: لا، فقال "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم". وقال "إني لا أشهد على جور" قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة.
وقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقاً كان أو عدواً، ولهذا قال {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أ ي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه، ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه، كما في نظائره من القرآن وغيره، كما في قوله: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}.
وقوله: هو أقرب للتقوى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، أن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا قال بعده {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي لذنوبهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وهو الجنة التي هي من رحمته على عباده، لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم، وهو تعالى الذي جعلها أسباباً إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه فالكل منه وله، فله الحمد والمنة.
ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وهذا من عدله تعالى، وحكمته وحكمه الذي لا يجور فيه، بل هو الحكم العدل الحكيم القدير. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري، ذكره عن أبي سلمة، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً، وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ,فأخذه فسله,ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني ؟ قال: "الله عز وجل". قال الأعرابي، مرتين أو ثلاثاً: من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "الله". قال: فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأخبرهم خبر الأعرابي، وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه، وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي، وتأول {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية، وقصة هذا الأعرابي وهو غورث بن(2/40)
الحارث ثابتة في الصحيح.
وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} وذلك أن قوماً من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاماً ليقتلوهم، فأوحى الله إليه بشأنهم، فلم يأت الطعام وأمر أصحابه فأتوه، رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو مالك: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي حاتم. وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد وعكرمة وغير واحد، أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى، لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا عمرو بن جحاش ابن كعب بذلك، وأمروه أن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تمالؤوا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لاُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاُدْخِلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أن اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الّذِينَ قَالُواْ إِنّا نَصَارَىَ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بالقيام بالحق، والشهادة بالعدل، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعناً منه لهم، وطرداً عن بابه وجنابه، وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع، والعمل الصالح، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه، وقد ذكر ابن عباس عن ابن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب، قال محمد بن إسحاق: فكان من سبط روبيل شامون بن ركون، ومن سبط شمعون شافاط بن حري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا، ومن سبط أتين ميخائيل بن يوسف، ومن سبط(2/41)
يوسف وهو سبط إفرايم يوشع بن نون، ومن سبط بنيامين فلطم بن دفون ومن سبط زبولون جدي بن شورى ومن سبط منشأ بن يوسف جدي بن موسى ومن سبط دان خملائيل بن حمل ومن سبط أشار ساطور بن ملكين، ومن سبط نفثالي بحر بن وقسي، ومن سبط يساخر لايل بن مكيد.
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لم ذكره ابن إسحاق، والله أعلم، قال فيها: فعلى بني روبيل اليصور بن سادون، وعلى بني شمعون شموال بن صورشكي، وعلى بني يهوذا الحشون بن عمياذاب، وعلى بني يساخر شال بن صاعون، وعلى بني زبولون الياب بن حالوب، وعلى بني إفرايم منشا بن عمنهور، وعلى بني منشا حمليائيل بن يرصون، وعلى بني بنيامين أبيدن بن جدعون، وعلى بني دان جعيذر بن عميشذي، وعلى بني أشار نحايل بن عجران، وعلى بني كان السيف بن دعواييل، وعلى بني نفتالي أجذع بن عمينان.
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة، كان فيهم اثنا عشر نقيباً: ثلاثة من الأوس: وهم أسيد بن الحضير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر، ويقال بدله أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه، وتسعة من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زراة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم، وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له، كما أورده ابن إسحاق رحمه الله، والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي، عن مسروق قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل" هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :"لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي، فسألت أي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال "كلهم من قريش" وهذا لفظ مسلم. ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل وقد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم.
وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام، وإن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة، وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر، فيتشيع كثير منهم جهلاً وسفهاً لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي بحفظي وكلاءتي ونصري {لئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ(2/42)
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} أي صدّقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي، {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته، {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها، {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود.
وقوله: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده وجحده، وعامله معاملة من لا يعرفه، فقد أخطأ الطريق الواضح، وعدل عن الهدى إلى الضلال، ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، عياذاً بالله من ذلك، {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها، وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة، فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة، {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} منسوخة بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومناصرته، ومؤازرته، واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق، ونقضوا العهود، ولهذا قال تعالى: { فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، فكل فرقة تحرم الأخرى، ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والأريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ثم قال تعالى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب عز وجل وتعالى وتقدس عن قولهم علواً كبيراً، من جعلهم له صاحبة وولداً، تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ}(2/43)
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض: عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل، فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه، وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} فكان الرجم مما أخفوه، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة، {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة.
{لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَآلُوَاْ أن اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أن أَرَادَ أن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
يقول تعالى مخبراً وحاكياً بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم، وهو عبد من عباد الله، وخلق من خلقه أنه هو الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، ثم قال مخبراً عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أي لو أراد ذلك، فمن ذا الذي كان يمنعه منه أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك، ثم قال {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي جميع الموجودات ملكه وخلقه، وهو القادر على ما يشاء، لا يسأل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته، وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى راداً على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه، وله بهم عناية، وهو يحبنا، ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري، فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني ربي وربكم، ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من النبوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه وحظوتهم عنده، ولهذا قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، قال الله تعالى راداً عليهم {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} أي لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه، فلم أعد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم ؟
وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في(2/44)
القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه، فلم يرد عليه، فتلا عليه الصوفي هذه الآية {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} وهذا الذي قاله حسن، وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد، عن أنس، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، وسعت فأخذته فقال القوم: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار. قال: فحفظهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال "لا والله ما يلقي حبيبه في النار" تفرد به أحمد، {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم، وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي هو فعال لما يريد، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي المرجع والمآب إليه، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور.
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آصا وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه، وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله، وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله فيهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} إلى آخر الآية، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، ورويا أيضاً من طريق أسباط عن السدي في قول الله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أما قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ},. فإنهم قالوا: أن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد، فيدخلهم النار، فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي مناد: أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل، فأخرجوهم فذلك قولهم لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَىَ فَتْرَةٍ مّنَ الرّسُلِ أن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
يقول تعالى مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، الذي لا نبي بعده ولا رسول، بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال: على فترة من الرسل، أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي ؟ فقال أبو عثمان النهدي وقتادة في رواية عنه: كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي، وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة. وقال معمر، عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضاحك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام عن الشعبي أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة، والمشهور هو القول الأول، وهو أنها ستمائة سنة. ومنهم من يقول: ستمائة وعشرون سنة، ولا منافاة بينهما، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين، ولهذا قال تعالى في قصة أهل الكهف {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} أي قمرية لتكميل ثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب، وكانت الفترة بين عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أولى الناس بابن مريم لأنا ليس بيني وبينه نبي" وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي، يقال له خالد بن سنان، كما(2/45)
حكاه القضاعي وغيره، والمقصود أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين.) كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، حدثنا قتادة عن مطرف، عن عياض بن حماد المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم، فقال في خطبته "وإن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، ثم أن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من بني إسرائيل، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرأه نائماً ويقظانَ، ثم أن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت: يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق عليهم فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمساً أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق متصدق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال متصدق، وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا دين له، والذين هم فيكم تبع أو تبعاً - شك يحيى - لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخيل أو الكذاب، والشنظير الفاحش" .
ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، وفي رواية شعبة عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف، وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده أن قتادة لم يسمعه من مطرف وإنما سمعه من أربعة عنه، ثم رواه هو عن روح، عن عوف، عن حكيم الأثرم، عن الحسن قال: حدثني مطرف عن عياض بن حماد فذكره. ورواه النسائي من حديث غندر عن عوف الأعرابي به. والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله " وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل" وفي لفظ مسلم: من أهل الكتاب وكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء، ولهذا قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} أي لئلا تحتجوا وتقولوا ياأيها الذين بدلوا دينهم وغيروه ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن جرير: معناه إني قادر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مّلُوكاً وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا عَلَىَ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَىَ أن فِيهَا قَوْماً جَبّارِينَ وَإِنّا لَن نّدْخُلَهَا حَتّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكّلُوَاْ أن كُنتُم(2/46)
مّؤْمِنِينَ قَالُواْ يَا مُوسَىَ إِنّا لَنْ نّدْخُلَهَآ أَبَداً مّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبّ إِنّي لآ أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنّهَا مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام فيما ذكر به قومه من نعم الله عليهم وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة: لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده، وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى بن مريم عليه السلام، ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس في قوله: وجعلكم ملوكاً، قال: الخادم والمرأة والبيت. وروى الحاكم في مستدركه من حديث الثوري أيضاً عن الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس قال: المرأة والخادم {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار، سمي ملكاً. وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحنبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه ؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. فقال: أن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك. وقال الحسن البصري: هل الملك إلا مركب وخادم ودار، رواه ابن جرير، ثم روي عن الحكم ومجاهد ومنصور وسفيان الثوري نحواً من هذا. وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران. وقال ابن شوذب: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم واستؤذن عليه، فهو ملك وقال قتادة: كانوا أول من اتخذ الخدم.
وقال السدي في قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} قال: يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله، رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة، كتب ملكاً، وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال ابن جرير: حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، سمعت زيد بن أسلم يقول: وجعلكم ملوكاً فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له بيت وخادم فهو ملك، وهذا مرسل غريب، وقال مالك: بيت وخادم وزوجة. وقد ورد في الحديث "من أصبح منكم معافى في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} يعني عالمي زمانكم، فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم، كما قال {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}(2/47)
وقال تعالى إخباراً عن موسى لما قالوا {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} والمقصود أنهم كانوا أفضل زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجاً، وأكرم نبياً، وأعظم ملكاً، وأغزر أرزاقاً، وأكثر أموالاً وأولاداً، وأوسع مملكة، وأدوم عزاً. قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} من سورة آل عمران.
وروى ابن جرير عن ابن عباس وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله: { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}: يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً} مع هذه الأمة، والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه، وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا، وقيل: المراد وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين: يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى، ويظللهم به من الغمام وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات، فالله أعلم.
ثم قال تعالى مخبراً عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام، ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى، فوجدوا فيها قوماً من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول الله موسى عليه السلام بالدخول إليها وبقتال أعدائهم وبشرهم بالنصرة والظفر عليهم، فنكلوا وعصوا وخالفوا أمره، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد، مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى. فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال: يا قومي ادخلوا الأرض المقدسة أي المطهرة. وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ادخلوا الأرض المقدسة، قال: هي الطور وما حوله، وكذا قال مجاهد وغير واحد. وروى سفيان الثوري عن أبي سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: هي أريحاء، وكذا ذكر عن غير واحد من المفسرين، وفي هذا نظر، لأن أريحاء ليست هي المقصودة بالفتح، ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس، وقد قدموا من بلاد مصر حين أهلك الله عدوهم فرعون، إلا أن يكون المراد بأريحاء أرض بيت المقدس، كما قاله السدي فيما رواه ابن جرير عنه، لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الطور شرقي بيت المقدس.
وقوله تعالى: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم، {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي ولا تنكلوا عن الجهاد {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين أي ذوي خلق هائلة وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ماداموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم. وقد قال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان قال: قال أبو سعيد: قال عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة، وهي أريحاء، فبعث إليهم اثني عشر عيناً من كل سبط منهم عين، ليأتوه بخبر القوم، قال: فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطاً لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم، فتبعهم فكلما أصاب واحداً منهم(2/48)
أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، حتى التقط الاثني عشر كلهم، فجعلهم في كمه مع الفاكهة، وذهب بهم إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال لهم الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، فاذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، وفي هذا الإسناد نظر وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس لما نزل موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلاً، وهم النقباء الذين ذكرهم الله، فبعثهم ليأتوه بخبرهم، فساروا فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا من أنتم ؟ قالوا: نحن قوم موسى، بعثنا نأتيه بخبركم، فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل، فقالوا لهم اذهبوا إلى موسى وقومه، فقولوا لهم هذا قدر فاكهتهم، فرجعوا إلى موسى فأخبروه، بما رأوا، فلما أمرهم موسى عليه السلام، بالدخول عليهم وقتالهم، قالوا: يا موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، عن يزيد بن الهادي، حدثني يحيى بن عبد الرحمن، قال: رأيت أنس بن مالك، أخذ عصاه فذرع فيها بشيء لا أدري كم ذرع، ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمساً وخمسين، ثم قال: هكذا طول العماليق، وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا أخباراً من وضع بني إسرائيل في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق، ابن بنت آدم عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع، تحرير الحساب، وهذا شيء يستحيى من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن" ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وقال تعالى: {فأنجيناه ومن ومعه في فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} وقال تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} وإذا كان ابن نوح الكافر، غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر، والله أعلم.
وقوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} أي فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم، حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه، وقرأ بعضهم {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس، ويقال إنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا. قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وعطية والسدي، والربيع بن أنس، وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله فقالا {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي أن توكلتم على الله واتبعتم أمره، ووافقتم رسوله، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم، فلم ينفع ذاك فيهم شيئاً { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} وهذا نكول منهم عن الجهاد، ومخالفة لرسولهم، وتخلف عن مقاتلة الأعداء، ويقال: إنهم لما نكلوا عن الجهاد، وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر، سجد موسى وهارون عليهما السلام، قدام ملأ من بني إسرائيل، إعظاماً لما هموا به، وشق يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، ثيابهما، ولاما قومهما على ذلك، فيقال إنهم رجموهما، وجرى أمر عظيم، وخطر جليل، وما أحسن ما أجاب به(2/49)
[الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير، الذين جاؤوا لمنع العير، الذي كان مع أبي سفيان، فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة، والبيض واليلب، فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أشيروا علي أيها المسلمون" وما يقول ذلك، إلا ليستعلم ما عند الأنصار، لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله، فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين، فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إذاً لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك، ورواه الإمام أحمد عن عبيدة بن حميد الطويل، عن أنس به، ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميد به، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى عن عبد الأعلى بن حماد، عن معمر بن سليمان، عن حميد به.
وقال ابن مردويه: أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا محمد بن شعيب عن الحكم بن أيوب، عن عبد الله بن ناسخ، عن عتبة بن عبيد السلمي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه "ألا تقاتلون" ؟ قالوا نعم، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثني سفيان عن مخارق بن عبد الله الأحمسي، عن طارق هو ابن شهاب، أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، هكذا رواه أحمد من هذا الوجه، وقد رواه من طريق أخرى فقال: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل عن مخارق، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك.
وهكذا رواه البخاري في المغازي وفي التفسير من طرق عن مخارق به، ولفظه في كتاب التفسير عن عبد الله، قال: قال المقداد يوم بدر: يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن امض ونحن معك. فكأنه سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال البخاري: رواه وكيع عن سفيان، عن مخارق، عن طارق، أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد المشركون الهدي، وحيل بينهم وبين مناسكهم "إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت" فقال له المقداد بن الأسود: أما والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ(2/50)
قالوا لنبيهم {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك، وهذا أن كان محفوظاً يوم الحديبية فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بدر.
وقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعياً عليهم {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قال العوفي عن ابن عباس: يعني اقض بيني وبينهم، وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره: افرق افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر
يا رب فافرق بينه وبين يأشد ما فرقت بين اثنين
وقوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية، لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنة فوقعوا في التيه يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عيناً تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام، وعملت قبة العهد ويقال لها: قبة الزمان، قال يزيد بن هارون عن أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وهذا قطعة من حديث الفتون، ثم كانت وفاة هارون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى عليه السلام، وأقام لله فيهم يوشع بن نون عليه السلام، نبياً خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويقال: إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، ومن ههنا قال بعض المفسرين في قوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} هذا وقف تام، وقوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} منصوب بقوله: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} فلما انقضت المدة، خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام، أو بمن بقي منهم، وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم، قال: إنك مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها علي. فحبسها الله تعالى حتى فتحها، وأمر الله يوشع بن نون، أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بين المقدس، أن يدخلوا بابها سجداً، وهم يقولون: حطة أي حط عنا ذنوبنا، فبدلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهو يقولون: حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عمر العبدي، حدثنا سفيان عن أبي سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنه، قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} قال: فتاهوا أربعين سنة، قال: فهلك موسى وهارون في التيه، وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة، ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، وهو الذي قيل له، اليوم يوم الجمعة،(2/51)
فهموا بافتتاحها ودنت الشمس للغروب، فخشي أن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس: إني مأمور، وإنك مأمورة، فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأته، فقال فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلاً فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده فقال: الغلول عندك فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان، فأتت النار فأكلته، وهذا السياق له شاهد في الصحيح.
وقد اختار ابن جرير أن قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} هو العامل في أربعين سنة وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد، قال: ثم خرجوا مع موسى عليه السلام، ففتح بهم بيت المقدس، ثم احتج على ذلك من قال بإجماع علماء أخبار الأولين، أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام، قال: فلو كان قتله إياه قبل التيه، لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق فدل على أنه كان بعد التيه، قال: وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال: وما ذاك إلا بعد التيه، لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه، هذا استدلاله، ثم قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قيس عن ابن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسراً لأهل النيل سنة، وروي أيضاً عن محمد بن بشار: حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن نوف هو البكالي قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجاً فأصاب كعبه فسقط ميتاً وكان جسراً للناس يمرون عليه.
وقوله تعالى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} تسلية لموسى عليه السلام عنهم، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به، فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم
بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون لتقر به أعينهم، وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون وفي غيهم يتردّدون، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه ويقولون مع ذلك: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضي لهم فيها بتأييد الخلود، وقد فعل وله الحمد في جميع الوجود.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ إِنّيَ أُرِيدُ أن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ(2/52)
يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أن أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ}
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور، وهما قابيل وهابيل كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله، بغياً عليه وحسداً له، فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}، أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم، وهما هابيل وقابيل، فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف.
وقوله: {بِالْحَقِّ} أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}. وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} وقال {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ}، وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن الله تعالى: شرع لآدم عليه السلام، أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا: كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك، إلا أن يقربا قرباناً، فمن تقبل منه فهي له، فتقبّل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه.
ذكر أقوال المفسرين ههنا
قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما: هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها، فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى، وأنهما قربا قرباناً إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية، وكان آدم عليه السلام قد غاب عنهما، أتى مكة ينظر إليها، قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض ؟ قال: اللهم لا. قال: أن لي بيتاً في مكة، فأته، فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك، فلما انطلق آدم قربا قرباناً، وكان قابيل يفخر عليه، فقال: أنا أحق بها منك هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي، فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها وأكلها فنزلت النار، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل {إنما يتقبل الله من المتقين} ، رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير، فحدثني عن ابن عباس، قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي، فقال لا، أنا أحق بأختي، فقربا قرباناً فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله، إسناد جيد،(2/53)
وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وقوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} فقربا قربانهما، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض، وصاحب الحرث بصبرة من طعامه، فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفاً، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام، إسناد جيد،
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو، قال: أن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان، غير طيبة بها نفسه، وإن الله عز وجل، تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، قال: وأيم الله أن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه، وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان، كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه، فلما أمر بالقربان قربه لله عز وجل فقبله الله منه، فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه السلام، رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الأنصاري، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن علي بن الحسين، قال: قال آدم عليه السلام لهابيل وقابيل: أن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان، فقربا قرباناً حتى تقر عيني، إذا تقبل قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب مشاقة من زرعه، فانطلق آدم معهما، ومعهما قربانهما، فصعدا الجبل، فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان، فبعث الله ناراً حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل، وترك قربان قابيل، فانصرفوا، وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه، فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك، فقال قابيل أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد علي قرباني، فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح منك، دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل منك، وكان يتوعده بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه، فقال آدم: يا قابيل، أين أخوك ؟ قال: وبعثتني له راعيا لا أدري، فقال آدم: ويلك يا قابيل، انطلق فاطلب أخاك، فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله، وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب، فقال: يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك، فقال هابيل: قربت أطيب مالي، وقربت أنت أخبث مالك وإن الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين، فلما قالها غضب قابيل، فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل، أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله، فطرحه في حوبة من الأرض، وحثى عليه شيئاً من التراب.
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح توأمة قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن من ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي، ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، قال له أبوه: يا بني قرّب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق(2/54)
بها،وكان قابيل على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه، وبعضهم يقول: قرب بقرة، فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله، رواه ابن جرير.
وروى العوفي عن ابن عباس قال: من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان، إذ قالا لو قربنا قرباناً، وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله أرسل إليه ناراً فتأكله، وإن لم يكن رضيه الله خبت النار، فقربا قرباناً، وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض زرعه، فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد علي، فلا والله لا ينظر الناس إليّ وأنت خير مني فقال: لأقتلنك، فقال له أخوه: ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فالسياق يقتضي أنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه، ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب، والله أعلم، ولم يتقبل من قابيل، كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً، ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال الذي قرب الزرع قابيل وهو المتقبل منه,وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيداً، والله أعلم.
ومعنى قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي ممن اتقى الله في فعله ذلك، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زيد، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها أن الله يقول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون بن أبي حمزة، قال: كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر.قلت: من المتقون ؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة.
وقوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه، حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب، قال عبد الله بن عمرو: وأيم الله أن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع، ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
وقال الإمام أحمد:(2/55)
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس، عن بكير بن عبد الله، عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي" قال: أفرأيت أن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني فقال "كن كابن آدم" وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد وقال: هذا حديث حسن، وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في الإسناد رجلاً، قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي، قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي، حدثنا الفضل عن عياش بن عباس، عن بكير عن بشر بن سعيد، عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يا رسول الله أرأيت أن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن كابن آدم" وتلا {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.
قال أيوب السختياني: أن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} لعثمان بن عفان رضي الله عنه,رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن حزم، حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حماراً أردفني خلفه وقال "يا أبا ذر أرأيت أن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟" قال: قال الله ورسوله أعلم، قال "تعفف" قال " يا أبا ذر أرأيت أن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع ؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "اصبر" قال "يا أبا ذر أرأيت أن قتل الناس بعضهم بعضاً، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟" قال: الله ورسوله أعلم، قال "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك" قال: فإن لم أترك، قال "فأت من أنت منهم فكن منهم" قال: فآخذ سلاحي، قال "فإذاً تشاركهم فيماهم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك" ، ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي، من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت به، ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران، عن المشعث بن طريف، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر بنحوه، قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد، وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان عن منصور، عن ربعي، قال: كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلاً يقول: سمعت هذا يقول في ناس، مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها، بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم".
وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي في قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك، قاله ابن جرير. وقال آخرون: يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي، وهذا قول وجدته عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطاً لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه، يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي} قال: بقتلك إياي(2/56)
{وَإِثْمِكَ} قال: بما كان منك قبل ذلك، وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله، وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} يقول إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً.
(قلت) وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول، ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له "ما ترك القاتل على المقتول من ذنب" وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثنا يعقوب بن عبد الله، حدثنا عتبة بن سعيد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه" وهذا بهذا لا يصح، ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا، ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات، فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت ولم يستوف حقه، أخذ من سيئات المقتول، فطرحت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل، وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم.
وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال أن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي} وأما معنى {وَإِثْمِكَ} فهو إثمه يعني قتله وذلك معصية الله عز وجل في أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه وأن الله عز وجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذاً بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله، هذا لفظه، ثم أورد على هذا سؤالاً حاصله كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم، وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه أن قاتله، بل يكف عنه يده طالباً أن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه، قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ، وزجراً له لو انزجر، ولهذا قال {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي تتحمل إثمي وإثمك {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} وقال ابن عباس: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر.
وقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله، أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر، وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين أنه قتله بحديدة في يده، وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة بن عبد الله، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فطوعت له نفسه قتل أخيه، فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء، رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع. وقال ابن جرير: لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر، ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر، ففعل بأخيه مثل ذلك، رواه ابن أبي حاتم، وقال عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله، فجاءه إبليس فقال: أتريد أن تقتله ؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه,قال: فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه، ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً فقال: يا حواء(2/57)
أن قابيل قتل هابيل، فقالت له: ويحك وأي شيء يكون القتل ؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، قالت: ذلك الموت. قال: فهو الموت، فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح، فقال: مالك ؟ فلم تكلمه، فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله، فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك، وأنا وبنيّ منها برآء، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي في الدنيا والآخرة، وأي خسارة أعظم من هذه ؟ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل" وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق عن الأعمش به، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم، وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: أن أشقى الناس رجلاً لابن آدم الذي قتل أخاه، ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر، وذلك أنه أول من سن القتل، وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه، ورواه ابن جرير أيضاً.
وقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم: لما مات الغلام تركه بالعراء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه، فلما رآه قال {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: جاء غراب إلى غراب ميت، فحثى عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}. وقال الضحاك، عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين، فرآهما يبحثان، فقال {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} فدفن أخاه، وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتاً لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب، فقال {ياوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال عطية العوفي: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، رواه ابن جرير.
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سقط في يده، أي ولم يدر كيف يواريه، وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم، وأول ميت {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}. قال: وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل، قال له الله عز وجل: يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً، فقال الله: أن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن، أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك، فإن أنت عملت في الأرض(2/58)
فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض.
وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران، فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه، كما هو ظاهر القرآن، وكما نطق به الحديث في قوله "إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" وهذا ظاهر جلي، ولكن قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو، عن الحسن هو البصري، قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القربان من بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات، وهذا غريب جداً، وفي إسناده نظر، وقد قال عبد الرزاق، عن معمر عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلاً، فخذوا بالخير منهما" ورواه ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً، فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم"، وكذا أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني، روى ذلك كله ابن جرير. وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك، ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك، أي أضحكك، رواه ابن جرير، ثم قال: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم أخاه بكاه آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام:
أبا هابيل قد قتلا جميعا ... وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشرّه قد كان منه ... على خوف فجاء بها يصيح
والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمّ أن كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ إِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أن يُقَتّلُوَاْ أَوْ يُصَلّبُوَاْ أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أن اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}(2/59)
يقول تعالى: من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} أي شرعنا لهم وأعلمناهم {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها، أي حرم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار، ولهذا قال {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} وقال الأعمش وغيره، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم ؟ قلت: لا، قال: فإنك أن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً فانصرف مأذوناً لك مأجوراً غير مأزور، قال: فانصرفت ولم أقاتل، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو كما قال الله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} وإحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله، فذلك الذي أحيا الناس جميعاً يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه، وهكذا قال مجاهد: ومن أحياها، أي كف عن قتلها.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}، يقول: من قتل نفساً واحدة حرمها الله، فهو مثل من قتل الناس جميعاً، وقال سعيد بن جبير: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، هذا قول وهو الأظهر، وقال عكرمة والعوفي عن ابن عباس: من قتل نبياً أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن شدّ على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً، رواه بان جرير. وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً، وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم، قال ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} من قتل النفس المؤمنة متعمداً، جعل الله جزاءه جهنم، وغضب عليه ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً، يقول: لو قتل الناس جميعاً لم يزد على مثل ذلك العذاب، قال ابن جريج: قال مجاهد: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قال: من لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه،
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: من قتل نفسا فكأنما قتل الناس، يعني فقد وجب عليه القصاص، فلا فرق بين الواحد والجماعة، ومن أحياها أي عفا عن قاتل وليه فكأنما أحيا الناس جميعاً، وحكى ذلك عن أبيه، رواه ابن جرير، وقال مجاهد في رواية: ومن أحياها، أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة، وقال الحسن وقتادة في قوله: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}، هذا تعظيم لتعاطي القتل، قال قتادة: عظيم والله وزرها، وعظيم والله أجرها: وقال ابن المبارك، عن سلام بن مسكي، عن سليمان بن على الربعي، قال: قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل، فقال: إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا، وقال الحسن البصري: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} ، قال: وزراً، {مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} ، قال: أجراً. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجعلني على شيء أعيش به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟ " قال: بل نفس أحييها. قال "عليك بنفسك".
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة، {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً(2/60)
مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها. فدوا من أسروه وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} الآية، المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب: أن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض. وقد قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري، قالا {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - إلى - أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد أن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب، ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة، عن ابن عباس: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً}، نزلت في المشركين من تاب منهم قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله أن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، رواه ابن جرير.
وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: نزلت في الحرورية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} رواه ابن مردويه، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات¹ كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك أن نفراً من عكل ثمانية، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: "ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبوا من أبوالها وألبانها" فقالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا، لفظ مسلم، وفي لفظ لهما: من عكل أو عرينة، وفي لفظ: وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون، فلا يسقون.
وفي لفظ لمسلم: ولم يحسمهم، وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله،(2/61)
ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب، وحميد عن أنس، فذكر نحوه وعنده فارتدوا، وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه، وقال سعيد عن قتادة: من عكل وعرينة، رواه مسلم من طريق سليمان التيمي، عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك، لأنهم سملوا أعين الرعاء، ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الدم وهو البرسام، ثم ذكر نحو حديثهم وزاد: عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين، فارساً فأرسلهم وبعث معم قائفاً يقفو أثرهم وهذه كلها ألفاظ مسلم رحمه الله.
وقال حماد بن سلمة: حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم وألقاهم في الحرة قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا، ونزلت {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك، منها ما رواه من طريقين عن سلام بن أبي الصهباء، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: ما ندمت على حديث، ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا بحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد يعني ابن مسلم، حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال كانوا أربعة نفر من عرينة، وثلاثة نفر من عكل، فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، ولم يحسمهم وتركهم يلتقمون الحجارة بالحرة، فأنزل الله في ذلك {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ا لآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا أبو مسعود يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج، حدثنا أبو سعيد يعني البقال,عن أنس بن مالك قال: كان رهط من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جهد، مصفرة ألوانهم، عظيمة بطونهم، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصفت ألوانهم، وخمصت بطونهم، وسمنوا، فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأتي بهم، فقتل بعضهم، وسمر أعين بعضهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، ونزلت {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخر الآية وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام، وقال حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني(2/62)
عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر أو عمرو - شك يونس - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، يعني بقصة العرنيين، ونزلت فيهم آية المحاربة، ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد، وفيه عن ابن عمر من غير شك.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف، حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة حفاة مضرورين، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صحوا واشتدوا، قتلوا رعاء اللقاح، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم، قال جرير فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النار حتى هلكوا، قال: وكره الله عز وجل سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخر الآية، هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي وهو ضعيف، وفي إسناده فائدة، وهو ذكر أمير هذه السرية، وهو جرير بن عبد الله البجلي، وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارساً من الأنصار، وأما قوله: فكره الله سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية، فإنه منكر، وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصاً، والله أعلم.
وقال عبد الزراق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلاً، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، فشربوا منها حتى صحوا، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها، فطلبوا فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال أبو هريرة ففيهم نزلت هذه الآية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، فترك النبي صلى الله عليه وسلم سمر الأعين بعد، وروي من وجه آخر عن أبي هريرة.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد عن عمرو بن محمد المديني، حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها، قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاؤوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم قال: فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يسار، فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم، ثم عدوا على يسار فذبحوه، وجعلوا الشوك في عينيه، ثم أطردوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلاً من المسلمين، كبيرهم كرز بن جابر الفهري، فلحقهم فجاء بهم إليه فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، غريب جداً، وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة منهم جابر وعائشة وغير واحد، وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه الله وأثابه.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نبايعك على الإسلام، فبايعوه وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون، ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه اللقاح تغدوا عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي، واستاقوا النعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس "أن يا خيل الله اركبي" قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارساً، قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا(2/63)
يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم وصلب، وقطع وسمر الأعين، قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، وقال "ولا تمثلوا بشيء" قال: وكان أنس يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم، قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة، وناس من بجيلة.
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين: هل هو منسوخ، أومحكم ؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهذا القول فيه نظر، ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ، وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين، وفيه نظر، فإن قصته متأخرة، وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها، فإنه أسلم بعد نزول المائدة، ومنهم من قال لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين، وهذا القول أيضاً فيه نظر، فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل، وفي رواية سمر أعينهم.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك، وعلمه عقوبة مثلهم من القتل والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو يعني الأوزاعي، فأنكر أن يكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، ورفع عنهم السمل، ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور من العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله، ويأخذ ما معه: أن هذه محاربة، ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل.وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه.
وقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار أن شاء قتله وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير وحكى مثله عن مالك بن أنس رحمه الله ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله في جزاء الصيد {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} وكقوله في كفارة الفدية {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وكقوله في كفارة اليمين {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هذه كلها على التخيير فكذلك فلتكن هذه الآية.
وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال، كما قال أبو عبد الله الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن أبي يحيى عنش(2/64)
صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس في قطاع الطريق، إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض، وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية عن ابن عباس بنحوه، وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك، وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة، واختلفوا: هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولاً ثم يصلب تنكيلا وتشديداً لغيره من المفسدين، وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده ؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وبالله الثقة وعليه التكلان.
ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره أن صح سنده فقال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان، كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام، قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: "من سرق مالاً وأخاف السبيل، فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه".
وأما قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك وسعيد بن جبير والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي: ينفيه - كما قال ابن هبيرة - من عمله كله. وقال عطاء الخراساني ينفىَ من جند إلى جند سنين، ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام، وقال آخرون: المراد بالنفي ههنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم، خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا يعضه بعضنا بعضا، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله: أن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه" . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث، فقال: روي مرفوعاً وموقوفاً,قال ورفعه صحيح.
وقال ابن جرير في قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة.(2/65)
{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا لهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها {عَذَابٌ عَظِيمٌ}، يعني عذاب جهنم، وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا ؟ فيه قولان للعلماء، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج,حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة، وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالاً من قريش منهم الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر,فكلموا علياً فيه فلم يؤمنه، فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره، ثم أتى علياً، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً، فقرأ حتى بلغ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} قال: فكتب له أماناً، قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر، وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي به، وزاد فقال حارثة بن بدر:
ألا بلغن همدان أما لقيتها ... على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها أن همدان تتقي الـ ... إله ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن السدي، ومن طريق أشعث، كلاهما عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا عليّ، فقال أبو موسى فقال: أن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقاً فسبيل من صدق، وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله، ثم قال ابن جرير: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الليث: وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الأمير عندنا، أن علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فوقف عليه فقال: يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه فقال: لا سبيل لكم علي جئت تائباً من قبل أن تقدورا علي، فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال: هذا علي جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله,قال وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم فغرقوا جميعاً.
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُوَاْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ أن الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أن لَهُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ(2/66)
مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أن يَخْرُجُواْ مِنَ النّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الإنكفاف عن المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال سفيان الثوري، عن طلحة عن عطاء، عن ابن عباس: أي القربة، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد. وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. وأنشد عليه ابن جرير قول الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل
والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضاً علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقد ثبت في صحيح البخاري من طريق محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة".
(حديث آخر) - في صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة".
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان عن ليث، عن كعب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا صليتم علي فسلوا لي الوسيلة". قيل: يا رسول الله، وما الوسيلة ؟ قال "أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو". ورواه الترمذي عن بندار، عن أبي عاصم، عن سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن كعب قال: حدثني أبو هريرة، ثم قال: غريب، وكعب ليس بمعروف، لا نعرف أحداً روى عنه غير ليث بن أبي سليم.
(حديث آخر) - عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا محمد بن نصر الترمذي، حدثنا عبد الحميد بن صالح، حدثنا ابن شهاب عن ليث، عن المعلى، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرة رفعه، قال "صلوا علي صلاتكم وسلوا الله لي الوسيلة" فسألوه، أو أخبرهم أن الوسيلة درجة في الجنة ليس ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا.
(حديث آخر) - قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: أخبرنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني، حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعاً يوم القيامة" ، ثم قال الطبراني لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى بن أعين، كذا قال. وقد رواه ابن مردويه: حدثنا محمد بن(2/67)
علي بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن عمرو بن عطاء، فذكر بإسناده نحوه.
(حديث آخر) - روى ابن مردويه بإسناده عن عمارة بن غزية، عن موسى بن وردان أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه".
(حديث آخر) - روى ابن مردويه أيضاً من طريقين عن عبد الحميد بن بحر، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الجنة درجة تدعى الوسيلة، فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة" قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك ؟ قال: "علي وفاطمة والحسن والحسين" هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الحسن الدشتكي، حدثنا أبو زهير، حدثنا سعيد بن طريف عن علي بن الحسين الأزدي مولى سالم بن ثوبان، قال: سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة: يا أيها الناس أن في الجنة لؤلؤتين: إحداهما بيضاء، والأخرى صفراء، أما البيضاء فإنها إلى بطنان العرش، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة، هي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته، وهذا أثر غريب أيضاً.
وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم، والتاركين للدين القويم، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح، والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة، الآمنة الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها ينعم لا يبأس، ويحيى لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه،
ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهباً وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به، وتيقن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه، بل لا مندوحة عنه ولا محيص ولا مناص، ولهذا قال {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجع {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} الآية، فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك، وكلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها، وقد قال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له: يا ابن آدم، كيف وجدت مضجعك ؟ فيقول: شر مضجع، فيقال: هل تفتدي بقراب الأرض ذهباً ؟ قال: فيقول: نعم يا رب، فيقول الله: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل، فيؤمر به إلى النار" ، رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه، وكذا رواه البخاري ومسلم من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن أنس به، وكذا أخرجاه من طريق أبي عمران الجوني واسمه عبد الملك بن حبيب عن أنس بن مالك به، ورواه مطر الوراق عن أنس بن مالك، ورواه ابن مردويه من طريقه عنه.
ثم روى ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن(2/68)
صهيب الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة" قال: فقلت لجابر بن عبد الله: يقول الله {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} قال: اتل أول الآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} الآية، ألا إنهم الذين كفروا. وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث: من وجه آخر عن يزيد الفقير، عن جابر، وهذا أبسط سياقاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن أبي شيبة الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مبارك بن فضالة، حدثني يزيد الفقير قال: جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدث، فحدث أن ناساً يخرجون من النار، قال: وأنا يومئذ أنكر ذلك، فغضبت وقلت: ما أعجب من الناس، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد تزعمون أن الله يخرج ناساً من النار، والله يقول {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} الآية، فانتهرني أصحابه، وكان أحلمهم، فقال: دعوا الرجل إنما ذلك للكفار، فقرأ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} حتى بلغ {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أما تقرأ القرآن ؟ قلت: بلى قد جمعته، قال، أليس الله يقول {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحتبس أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء,لا يكلمهم فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم، قال: فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به.
ثم قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا عمرو بن حفص السدوسي، حدثنا عاصم بن عليّ، أخبرنا العباس بن الفضل، حدثنا سعيد بن المهلب، حدثني طلق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيباً بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها، يذكر الله فيها خلود أهل النار، فقال: يا طلق، أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله مني ؟ أن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذبوا، ثم أخرجوا منها، ثم أهوى بيديه إلى أذنيه فقال: صمّتاً أن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرجون من النار بعدما دخلوا" ونحن نقرأ كما قرأت.
{وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أن اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي، عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وهذه قراءة شاذة، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقاً لها لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر، وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية، فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أخر كما سنذكره أن شاء الله تعالى، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ويقال: أن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلاً يقال له: دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة، كان قد سرق كنز الكعبة، ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده، وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به، سواء كان قليلاً أو كثيراً لعموم هذه الآية { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فلم يعتبروا نصاباً ولا حرزاً، بل أخذوا بمجرد السرقة. وقد روى(2/69)
ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن عن نجدة الحنفي، قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أخاص أم عام ؟ فقال: بل عام، وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء، ويحتمل غير ذلك، فالله أعلم. وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" وأما الجمهور، فاعتبروا النصاب في السرقة وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة، فعند الإمام مالك بن أنس رحمه الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه، وجب القطع، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم، أخرجاه في الصحيحين، قال مالك رحمه الله: وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قومت بثلاثة دراهم، وهو أحب ما سمعت في ذلك، وهذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه، عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقاً سرق في زمن عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً، فقطع عثمان يده. قال أصحاب مالك: ومثل هذا الصنيع يشتهر، ولم ينكر، فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافاً للحنفية، وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافاً لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم، وللشافعية في اعتبار ربع دينار، والله أعلم.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعداً، والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً" ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" قال أصحابنا: فهذا الحديث فاصل في المسألة، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه. قالوا: وحديث ثمن المجن، وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً، فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذا الطريق، ويروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه، وإسحاق بن راهويه في رواية عنه، وأبو ثور وداود بن علي الظاهري، رحمهم الله.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية عنه، إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي، فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه، قطع عملاً بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنها، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهماً. وفي لفظ للنسائي "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن". قيل لعائشة: ما ثمن المجن ؟ قالت: ربع دينار، فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله أعلم.
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر، وكذا سفيان الثوري، رحمهم الله، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة، واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم. وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى، حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد النبي(2/70)
صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم، ثم قال: حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن" وكان ثمن المجن عشرة دراهم، قالوا: فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن، فالاحتياط الأخذ بالأكثر، لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحداً منهما، يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم الله تعالى. وقال بعض السلف: لا تقطع الخمس إلا في خمس، أي في خمسة دنانير أو خمسين درهماً، وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله. وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة "يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" بأجوبة (أحدها) أنه منسوخ بحديث عائشة، وفي هذا نظر، لأنه لا بد من بيان التاريخ. (والثاني) أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه. (والثالث) أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة، وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد، اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعراً دل على جهله وقلة عقله، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له ... و أن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أن قال: لما كانت أمينة، كانت ثمينة، ولما خانت هانت. ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها. وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار، لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ولهذا قال: { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي مجازاة على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نكالا من الله، أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي في انتقامه، {حَكِيمٌ} أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره.
ثم قال تعالى، {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها، وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث... عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة، فقال: ما إخاله سرق، فقال السارق: بلى يا رسول الله. قال "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به" فقطع فأتي به فقال "تب إلى الله" فقال: تبت إلى الله، فقال "تاب الله عليك". وقد روي من وجه آخر مرسلاً، ورجح إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما الله.
وروى ابن ماجه من حديث ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه أن عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، جاء إلى النبي(2/71)
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني سرقت جملاً لبني فلان، فطهرني فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملاً لنا، فأمر به فقطعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حلياً فجاء الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا يدها اليمنى" فقالت المرأة: هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك"، قال: فأنزل الله عز وجل {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله، أن هذه المرأة سرقتنا. قال قومها: فنحن نفديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا يدها"، فقالوا: نحن نفديها بخمسمائة دينار، فقال "اقطعوا يدها" فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال "نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك"، فأنزل الله في سورة المائدة {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة، عن عائشة أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشفع في حد من حدود الله عز وجل ؟" فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها"، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها". قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لفظ مسلم. وفي لفظ له عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.
وعن ابن عمر قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جاراتها وتجحده، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وهذا لفظه، وفي لفظ له أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتب هذه المرأة إلى الله وإلى رسوله، وترد ما تأخذ على القوم" ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها". وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة، ثم قال تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي هو المالك لجميع ذلك، الحاكم فيه، الذي لا معقب لحكمه، وهو الفعال لما يريد {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
{يَأَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الّذِينَ هِادُواْ سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ أن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أن(2/72)
يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أن اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنّآ أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلّذِينَ هَادُواْ وَالرّبّانِيّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} أي أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي مستجيبون له، منفعلون عنه، {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي يتأوّلونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون، {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه، والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.
وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم، أن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم¹ فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة، أخرجاه، وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له: فقال لليهود "ما تصنعون بهما ؟" قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه فقال: ارفع يدك فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد أن فيها آية(2/73)
الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما.
وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال "ما تجدون في التوراة على من زنى ؟" قالوا: نسود وجوههما ونحممهما، ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال: فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مر بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُره فليرفع يده" فرفع يده ، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب، حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف، فأتاهم في بيت المدارس، فقالوا: يا أبا القاسم، أن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم. قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها، ثم قال "ائتوني بالتوراة" ، فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها، وقال "آمنت بك وبمن أنزلك" ثم قال "ائتوني بأعلمكم" فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع.
وقال الزهري: سمعتُ رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه، ونحن عند ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث التخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، قلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدارسهم، فقام على الباب فقال "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟" قالوا: يحمم ويجبه ويجلد، والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت، ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فما أول ما ارتخصتم أمر الله" قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما، قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم، رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه، وابن جرير.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، قال: مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود، فدعاهم، فقال "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكّنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} أي يقولون: ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال في اليهود، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قال في اليهود {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ(2/74)
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال: في الكفار كلها، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به.
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمداً عن ذلك، فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال "أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم" فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا، وآخر، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتما أعلم من قبلكما" فقالا: قد دعانا قومنا لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله" قالا: بلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والتقبيل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدى ويعيد، كما يدخل الميل في المكحلة، فقد وجب الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو ذاك" فأمر به فرجم، فنزلت {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه.
ولفظ أبي داود عن جابر، قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال " ائتوني بأعلم رجلين منكم" فأتوه بابني صوريا، فنشدهما "كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟" قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، رجما، قال "فما يمنعكم أن ترجموهما ؟" قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاء أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلاً، ولم يذكر فيه: فدعا بالشهود فشهدوا. فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك، ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعُدولهم إلى تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم، وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} أي: الجلد والتحميم، فخذوه، أي اقبلوه، {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي من قبوله واتباعه.
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي الباطل {فَإِنْ جَاءُوكَ} أي الحرام، وهو الرشوة، كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له، ثم قال لنبيه {فَإِنْ جَاءُوكَ} أي يتحاكمون إليك {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد: هي منسوخة بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي بالحق والعدل، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة، ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي(2/75)
بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه، وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، فقال {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها، {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} أي وكذلك الربانيون منهم، وهم العلماء العباد، والأحبار وهم العلماء {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به، { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوا منهم وخافوا مني، {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فيه قولان سيأتي بيانهما.
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: أن الله أنزل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، قال قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض، إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ثم ذكرت العزيزة، فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه أن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {الْفَاسِقُونَ} ففيهم والله أنزل، وإياهم عنى الله عز وجل، ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه.
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب، قالا: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس: أن الآيات التي في المائدة قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ - إلى الْمُقْسِطِينَ} إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف، تؤدى لهم الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، والله أعلم أي ذلك كان، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة، ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من(2/76)
النضير رجلاً من قريظة، فقالوا: ادفعوا إليه، فقالو: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه، وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد.
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم، ولهذا قال بعد ذلك {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، والله سبحانه وتعالى أعلم، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب، زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة، وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن منصور عن إبراهيم، قال نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي الله لهذه الأمة بها، رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يعقوب، حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة. فقال: من السحت، فقالا: وفي الحكم، قال: ذاك الكفر، ثم تلا، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وقال السدي {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق، رواه ابن جرير، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب، وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن زكريا، عن الشعبي,: ومن لم يحكم بما أنزل الله، قال للمسلمين.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر، عن الشعبي {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: هذا في المسلمين {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قال: هذا في اليهود {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال: هذا في النصارى، وكذا رواه هشيم والثوري، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ} الآية، قال: هي به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، رواه ابن جرير، وقال وكيع، عن سعيد المكي، عن طاوس {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: ليس بكفر ينقل عن الملة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، وقال: صحيح على شرط الشيخين,ولم يخرجاه.
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أن النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لّهُ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}(2/77)
وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري، بل يعدلون إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ولهذا قال هناك {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً، وقال ههنا {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضاً.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك عن يونس بن يزيد، عن علي بن يزيد أخي يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} نصب النفس ورفع العين، وكذا رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن المبارك، وقال الترمذي)حسن غريب وقال البخاري تفرّد ابن المبارك بهذا الحديث، وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقرراً ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي، وأكثر الأصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة، رواه ابن أبي حاتم: وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره: وصحح منها عدم الحجية، نقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالاً عن الشافعي، وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا، فالله أعلم.
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه الله في كتابه "الشامل"، إجماع العلماء، على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم "أن الرجل يقتل بالمرأة"، وفي الحديث الآخر "المسلمون تتكافأ دماؤهم"، وهذا قول جمهور العلماء، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية، لأن ديتها على النصف من دية الرجل، وإليه ذهب أحمد في رواية، وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي، ورواية عن أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها بل تجب ديتها، وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حراً بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة.
ويؤيد ما قاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك، كما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن الربيع عمة أنس، كسرت ثنية جارية، فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "القصاص"، فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول الله، تكسر ثنية فلانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس كتاب الله القصاص" قال فقال: لا والذي(2/78)
بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة، قال: فرضي القوم فعفوا وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" أخرجاه في الصحيحين، وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري في الجزء المشهور من حديثه، عن حميد، عن أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فعوضوا عليهم الأرش فأبوا، فطلبوا الأرش والعفو فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول صلى الله عليه وسلم، أتكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أنس كتاب الله القصاص" فعفا القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" رواه البخاري عن الأنصاري بنحوه وروى أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي عن قتادة، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين أن غلاماً لأناس فقراء، قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا أناس فقراء، فلم يجعل عليه شيئاً، وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه، عن قتادة به. وهذا إسناد قوي، رجاله كلهم ثقات، وهو حديث مشكل، اللهم إلا أن يقال: أن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه.
وقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم، إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم، إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قاعدة مهمة
الجراح تارة تكون في مفصل، فيجب فيه القصاص بالإجماع، كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك، وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم، فقال مالك رحمه الله: فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها، لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن. وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقاً، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وبه يقول عطاء والشعبي والحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب سفيان الثوري والليث بن سعد، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بحديث الربيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن، وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية، وجائز أن تكون سقطت من غير كسر، فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع، وتمموا الدلالة مما رواه ابن ماجه عن طريق أبي بكر بن عياش، عن دهشم بن قران، عن نمران بن جارية، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي: أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية، فقال: يا رسول الله، أريد القصاص، فقال: خذ الدية، بارك الله لك فيها، ولم يقض له بالقصاص، وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، ودهشم بن قران العكلي ضعيف، أعرابي ليس حديثه مما يحتج به، ونمران بن جارية ضعيف، أعرابي أيضاً، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة، ثم قالوا: لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه، فلا شيء له، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب،(2/79)
عن أبيه، عن جده أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني، فقال "حتى تبرأ"، ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده فقال: يا رسول الله عرجت، فقال "قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك" ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه، تفرد به أحمد.
(مسألة) فلو اقتص المجني عليه من الجاني فمات من القصاص، فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص. وقال عامر الشعبي وعطاء وطاوس وعمر بن دينار والحارث العكلي وابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان، والزهري والثوري تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وعثمان البستي: يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله.
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} يقول: فمن عفا وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب. وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: فمن تصدق به فهو كفارة للجارح وأجر المجروح على الله عز وجل، رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ومجاهد وإبراهيم في أحد قوليه وعامر الشعبي وجابر بن زيد نحو ذلك.
(الوجه الثاني) ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن زاذان، حدثنا حرمي يعني ابن عمارة، حدثنا شعبة عن عمارة يعني ابن أبي حفصة، عن رجل، عن جابر بن عبد الله في قول الله عز وجل {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قال: للمجروح، وروى عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي في أحد قوليه وأبي إسحاق الهمداني نحو ذلك، وروى ابن جرير عن عامر الشعبي وقتادة مثله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة عن قيس يعني ابن مسلم، قال: سمعت طارق بن شهاب يحدث عن الهيثم بن العريان النخعي، قال: رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهاً بالموالي، فسألته عن قول الله {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به، وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم، وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة.
وقال ابن مردويه: حدثني محمد بن علي، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المجاشعي، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، حدثنا معلى يعني ابن هلال أنه سمع أبان بن ثعلب عن العريان بن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو، عن أبان بن ثعلب، عن الشعبي، عن رجل من الأنصار، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال: "هو الذي تكسر سنه، أو تقطع يده أو يقطع الشيء منه أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك" - قال - فيحط عنه قدر خطاياه، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان الثلث فثلث خطاياه، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك". ثم قال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار، فاندقت ثنيته، فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألح عليه الرجل، قال: شأنك وصاحبك، قال: وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة" فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فخلى سبيل القرشي، فقال معاوية: مروا له بمال، هكذا رواه ابن جرير.
ورواه الإمام أحمد فقال: حدثنا وكيع، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار، فاستعدى(2/80)
عليه معاوية، فقال معاوية: إنا سنرضيه، فألح الأنصاري، فقال معاوية: شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة وحط به عنه خطيئة" فقال الأنصاري: فإني قد عفوت وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك، وابن ماجه من حديث وكيع، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق به، ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السفر سماعاً من أبي الدرداء.
وقال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا محمد بن علي بن زيد، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا سفيان عن عمران بن ظبيان، عن عدي بن ثابت أن رجلاً أهتم فمه رجل على عهد معاوية رضي الله عنه، فأعطي دية، فأبى إلا أن يقتص، فأعطي ديتين فأبى، فأعطي ثلاثاً فأبى، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تصدق بدم فما دونه، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم عن المغيرة، عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به" ورواه النسائي عن علي بن حجر، عن جرير بن عبد الحميد، ورواه ابن جرير عن محمود بن خداش، عن هشيم، كلاهما عن المغيرة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد، عن عامر، عن المحرر ابن أبي هريرة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفارة له". وقوله: { مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
{وَقَفّيْنَا عَلَىَ آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
يقول تعالى: {وَقَفَّيْنَا} أي أتبعنا على آثارهم، يعني أنبياء بني إسرائيل {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي مؤمناً بها حاكماً بما فيها، {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات، {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي متبعاً لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ولهذا كان المشهور من قول العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة. وقوله تعالى: {وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به، وموعظة أي زاجراً عن ارتكاب المحارم والمآثم، للمتقين، أي لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } قرىء وليحكم أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي، أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم، وقرىء وليحكم بالجزم على أن اللام لام الأمر، أي ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية، وقال تعالى : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً(2/81)
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ}. ولهذا قال ههنا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى، وهو ظاهر من السياق.
{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمْ أَنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي أن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولاً، أي لكائناً لا محالة ولا بد.
قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: أي مؤتمناً عليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المهيمن الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك، وقال ابن جرير: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، وعن الوالبي عن ابن عباس {وَمُهَيْمِناً ً} أي شهيداً، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس {وَمُهَيْمِناً} أي حاكماً على ما قبله من الكتب، وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات، ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد(2/82)
بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد، أنهم قالوا في قوله: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضاً نظر، وبالجملة فالصحيح الأول. وقال أبو جعفر بن جرير بعد حكايته له عن مجاهد: وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن المهيمن عطف على المصدق، فلا يكون إلا صفة لما كان المصدق صفة له، قال: ولو كان الأمر كما قال مجاهد لقال: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، مهيمناً عليه، يعني من غير عطف.
وقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي فاحكم يا محمد بين الناس، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك، هكذا وجهه ابن جرير بمعناه، قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيراً أن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء. وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} قال: سبيلاً. وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وكيع عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس {وَمِنْهَاجاً ً} قال: وسنة، كذا روى العوفي عن ابن عباس {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} سبيلاً وسنة، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي، أنهم قالوا في قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أي سبيلاً وسنة، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد، أي وعطاء الخراساني عكسه {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أي سنة وسبيلاً، والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضاً هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال: شرع في كذا، أي ابتدأ فيه، كذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء. أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق.
فتفسير قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم. ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً، ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} يقول: سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره، التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجاً،(2/83)
أي هو لكم كلكم تقتدون به، وحذف الضمير المنصوب في قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} أي جعلناه، يعني القرآن، شرعة ومنهاجاً، أي سبيلاً إلى المقاصد الصحيحة، وسنة أي طريقاً ومسلكاً واضحاً بيناً، هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد رحمه الله، والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فلو كان هذا خطاباً لهذه الأمة، لما صح أن يقول {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله. وقال عبد الله بن كثير {فِي مَا آتَاكُمْ} يعني من الكتاب.
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخاً لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، ثم قال تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة والأدلة الدامغة. وقال الضحاك {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر. وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه، ثم قال {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من أمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كذبة كفرة خونة، {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله، {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} أي أن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}. وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة. عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وابن صلوبا وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود، وأشرافهم، وساداتهم، وإنا أن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل فيهم {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء(2/84)
والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هلال بن فياض، حدثنا أبو عبيدة الناجي قال: سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية. وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح، قال: كان طاوس إذا سأله رجل: أفضل بين ولدي في النحل ؟ قرأ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الآية، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله عز وجل، من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه". وروى البخاري عن أبي اليمان بإسناده نحوه بزيادة.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ أن اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىَ أن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىَ مَآ أَسَرّواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُواْ أَهُؤُلآءِ الّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ}
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله - قاتلهم الله - ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك، فقال {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب، حدثنا محمد يعني ابن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب، عن عياض أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر وقال: أن هذا لحفيظ، هل أنت قارىء لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام ؟ فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر: أجنب هو ؟ قال: لا بل نصراني. قال: فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال: أخرجوه، ثم قرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية، ثم قال: حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عثمان بن عمر، أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين، قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر. قال: فظنناه يريد هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية، وحدثنا أبو(2/85)
سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: كل، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وروي عن أبي الزناد نحو ذلك.
وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شك وريب ونفاق، يسارعون فيهم، أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك. عند ذلك قال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} قال السدي: يعني فتح مكة. وقال غيره: يعني القضاء والفصل، {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}. قال السدي: يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى، {فَيُصْبِحُوا} ي عني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} من الموالاة، {نَادِمِينَ} أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئاً، ولا دفع عنهم محذوراً، بل كان عين المفسدة، فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين، لا يدرى كيف حالهم، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين، ويحلفون على ذلك ويتأولون فبان كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}.
وقد اختلف القرّاء في هذا الحرف فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله: {يَقُولُ} ، ثم منهم من رفع ويقول: على الابتداء، ومنهم من نصب عطفاً على قوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} فتقديره أن يأتي وأن يقول وقرأ أهل المدينة {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} بغير واو، وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير. قال ابن جرير عن مجاهد {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} تقديره حينئذ {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهوّد معه، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآيات، وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه: ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه أي أنه الذبح، رواه ابن جرير.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، كما قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايه يهود، وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي: "يا أبا الحباب، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه" قال: قد قبلت، فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآيتين.
ثم قال ابن جرير: حدثنا هناد، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري: قال: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر، فقال مالك(2/86)
بن الصيف: أغركم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا، فقال عبادة بن الصامت: يا رسول الله، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيراً سلاحهم شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية يهود، إني رجل لا بد لي منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا الحباب، أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه" فقال: إذاً أقبل، قال: فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ- إلى قوله تعالى - وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وقال: محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في موالي، قال: فأعرض عنه. قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني" ، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: "ويحك أرسلني" قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدني في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم لك" قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي، وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار، وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ - إلى قوله - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد كنت أنهاك عن حب يهود" فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زراة فمات، وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه، وأشدّ منعة، وأقوم سبيلاً، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}. وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ(2/87)
بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}. أي بممتنع ولا صعب. وقال تعالى ههنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} أي يرجع عن الحق إلى الباطل. قال محمد بن كعب: نزلت في الولاة من قريش. وقال الحسن البصري: نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه، رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} هم أهل القادسية. وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: هم قوم من سبأ وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن الأجلح عن محمد بن عمرو، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: ناس من أهل اليمن، ثم من كندة، من السّكُون.
وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا معاوية يعني ابن حفص، عن أبي زياد الحلفاني، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. قال "هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة، ثم من السكون، ثم من تجيب"، وهذا حديث غريب جداً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شبة، حدثنا عبد الصمد يعني ابن عبد الوارث، حدثنا شعبة عن سماك، سمعت عياضاً يحدث عن أبي موسى الأشعري، قال: لما نزلت {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم قوم هذا". ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه. وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هذه صفات المؤمنين الكامل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال، فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.
وقوله عز وجل {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل، قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا سلام أبو المنذر عن محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش. وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن أبي المثنى أن أبا ذر رضي الله عنه قال: بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وواثقني سبعا وأشهد الله علي أني لا أخاف في الله لومة لائم . قال أبوذر فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: " هل لك إلى بيعة ولك الجنة " قلت نعم وبسطت يدي ، فقال " هل لك إلى بيعة ولك الجنة" قلت نعم وبسطت يدي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشترط علي " أن لاتسأل الناس شيئا " قلت نعم قال: " ولا سوطك وإن سقط منك " يعني تنزل إليه فتأخذه ، وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا محمد بن الحسن حدثنا جعفر عن المعلى الفردوسي عن الحسن عن أبي سعيد الخدري قال: "أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق إذا رآه أوشهده ، فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يقول بحق أو أن يذكر بعظيم " تفرد به أحمد.
وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن زبيد عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله فيه مقال فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا ؟ فيقول مخافة الناس ، فيقول إياي أحق أن تخاف"(2/88)
وراه ابن ماجه من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به . وروى أحمد وابن ماجه من حديث عبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة عن نهار بن عبد الله العبدي المدني عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى إنه ليسأله يقول له أي عبد أرأيت منكرا فلم تنكره ؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال أي رب وثقت بك وخفت الناس" وثبت في الصحيح " ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " قالوا وكيف يذل نفسه يارسول الله قال " يتحمل من البلاء ما لايطيق " { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام,وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين والمساكين. وأما قوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} أي في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره، لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، وحتى أن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي، حدثنا أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} قال: هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب، وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول، حدثنا موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل، قال: تصدق علي بخاتمه وهو راكع، فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَوَهُمْ رَاكِعُونَ} ، وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا غالب بن عبيد الله، سمعت مجاهداً يقول في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية. نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع، وقال عبد الرزاق: حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية، نزلت في علي بن أبي طالب، عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به.
وروى ابن مردويه من طريق سفيان الثوري، عن أبي سنان، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان علي بن أبي طالب قائماً يصلي، فمر سائل وهو راكع، فأعطاه خاتمه، فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية، الضحاك لم يلق ابن عباس. وروى ابن مردويه أيضاً من طريق محمد بن السائب الكلبي، وهو متروك، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وإذا مسكين يسأل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أعطاك أحد شيئاً ؟" قال: نعم. قال "من ؟" قال: ذلك الرجل القائم. قال "على أي حال أعطاكه ؟" قال: وهو راكع، قال "وذلك علي بن أبي طالب" . قال، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وهو يقول { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وهذا إسناد لا يُفرح به.
ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه، وعمار بن ياسر وأبي رافع، وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها، ثم روى بإسناده عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} نزلت في المؤمنين وعلي بن أبي طالب أولهم،(2/89)
وقال ابن جرير: حدثنا هناد، حدثنا عبدة عن عبد الملك، عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الآية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} قلنا: من الذين آمنوا ؟ قال: الذين آمنوا. قلنا بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب، قال: علي من الذين آمنوا، وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد، فأعطاه خاتمه.
وقال علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس: من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا، رواه ابن جرير، وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، فهو مفلح في الدنيا والآخرة، ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتّقُواْ اللّهَ أن كُنتُم مّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ اتّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ}
هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون: وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة، المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها هزواً يستهزئون بها، ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد، كما قال القائل:
وكم من عائب قولاً صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ} من ههنا لبيان الجنس كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} وقرأ بعضهم: والكفار بالخفض عطفاً، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول، {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تقديره ولا {وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} أي لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء، والمراد بالكفار ههنا المشركون، وكذلك وقع في قراءة ابن مسعود فيما رواه ابن جرير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء أن كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزواً ولعباً، كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.
وقوله: {إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب {اتَّخَذُوهَا} أيضاً {هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} معاني عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي "إذا سمع الأذان أدبر(2/90)
وله حصاص، أي ضراط، حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين، أقبل فإذا ثوب للصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين قبل السلام" متفق عليه، وقال الزهري: قد ذكر الله التأذين في كتابه فقال {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} رواه ابن أبي حاتم.
وقال أسباط عن السدي في قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله، رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد، لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد علمت الذي قلتم" ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا ابن جريج، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره وكان يتيماً في حجر أبي محذورة، قال: قلت لأبي محذورة: يا عم إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أسأل عن تأذينك، فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم، خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه ونستهزىء به فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع" ؟ فأشار القوم كلهم إليّ وصدقوا، فأرسل كلهم وحبسني، وقال "قم فأذن" فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال "قل الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله" ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمَرّها على وجهه، ثم بين ثدييه، ثم على كبده، حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله فيك وبارك عليك" فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال "قد أمرتك به"، وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة على نحو ما أخبرني عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة واسمه سمرة بن معير بن لوذان، أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة، وهو مؤذن أهل مكة، وامتدت أيامه رضي الله عنه وأرضاه.(2/91)
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنّآ إِلاّ أن آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنّا وَقَدْ دّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهل الكتاب: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعاً، كما في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، وكقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وفي الحديث المتفق عليه "ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله" ، وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} معطوف على {أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي خارجون عن الطريق المستقيم.
ثم قال {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي أبعده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي غضباً لا يرضى بعده أبداً {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير} كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف، وقد قال سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله، عن المعرور بن سويد، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ الله ؟ فقال "إن الله لم يهلك قوماً، أو لم يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك" وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر، كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به، وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن أبي الأعين العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود ؟ فقال "لا أن الله لم يلعن قوماً قط فيمسخهم، فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم" ، ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به، وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير" هذا حديث غريب جداً.
وقوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} قرىء: وعَبَدَ الطاغوتَ على أنه فعل ماض، والطاغوت منصوب به، أي وجعل منهم من عَبَدَ الطاغوت، وقرىء: وعَبَدَ الطَاغوتِ بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت، أي خدامه وعبيده، وقرىء: وعُبُدَ الطاغوتِ على أنه جمع الجمع عبد وعبيد، وعبد مثل ثمار وثُمُرْ، حكاها ابن جرير عن الأعمش، وحكى عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت، وعن أبي وابن مسعود: وعبدوا،(2/92)
وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرؤها: وعُبِدَ الطاغوتُ على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ثم استبعد معناها، والظاهر أنه لا بعد في ذلك، لأن هذا من باب التعريض بهم، أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه، وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه، كيف يصدر منكم هذا، وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال { أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً} أي مما تظنون بنا {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة، كقوله عز وجل: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}.
وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر، ولهذا قال {وَقَدْ دَخَلُوا} أي عندك يا محمد {بِالْكُفْرِ} أي مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال {وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} فخصهم به دون غيرهم، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن الله عالم الغيب و الشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء وقوله: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، أي لبئس العمل كان عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم.
وقوله تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك، والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار هم العلماء فقط {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} يعني من تركهم ذلك، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا، قال: وذلك الأمر كان، قال: ويعملون ويصنعون واحد، رواه ابن أبي حاتم، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس، قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} قال: كذا قرأ وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، إنا لا ننهىَ، رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم، ذكره يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً، وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب" تفرد به أحمد من هذا الوجه، ورواه أبو داود عن مسدد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا" وقد رواه(2/93)
ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيد الله بن جرير، عن أبيه به، قال الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ وَلَوْ أن أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتّقَوْاْ لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمّةٌ مّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ}
يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علواً كبيراً بأنه بخيل، كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني، حدثنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس {مَغْلُولَةٌ} أي بخيلة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك، وقرأ {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير، وهو زيادة الإنفاق في غير محله، وعبر عن البخل بقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله، وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنحاص اليهودي، عليه لعنة الله، وقد تقدم أنه الذي قال {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس أن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وقد ردّ الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه، فقال {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية، وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} الآية.
ثم قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أي بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه، في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} والآيات في هذا كثيرة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في(2/94)
يمينه - قال: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض". وقال: يقول الله تعالى: "أنفق، أنفق عليك" أخرجاه في الصحيحين، البخاري في التوحيد عن علي بن المديني، ومسلم فيه عن محمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً، وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء، وكفراً أي تكذيباً، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}، وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً، لأنهم لا يجتمعون على حق، وقد خالفوك وكذبوك، وقال إبراهيم النخعي: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، قال: الخصومات والجدال في الدين، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها، أبطلها الله ورد كيدهم عليهم، وحاق مكرهم السيء بهم {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض، والله لا يحب من هذه صفته، ثم قال جلا وعلا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} قال ابن عباس وغيره: هو القرآن، {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة.
وقوله تعالى: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً، {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يعني يخرج من الأرض بركاتها، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية.
وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآية، وقال بعضهم معناه {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء. وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل: هو في الخير من فرقه إلى قدمه، ثم رد هذا القول لمخالفته أقوال السلف.
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} حديث علقمة عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يرفع العلم" فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن لبيد أن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله" ثم قرأ {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقاً من أول إسناده مرسلاً في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلاً موصولاً، فقال: حدثنا وكيع،(2/95)
حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال "وذاك عند ذهاب العلم" قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرؤونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، أن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء" هكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع بإسناده نحوه، هذا إسناد صحيح.
وقوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} كقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} وكقوله عن أتباع عيسى {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية، فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية، والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة، وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن يونس الضبي، حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار، وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: واحدة في الجنة، وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعاً واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار" قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال "الجماعات الجماعات". قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً، قال {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إلى قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} وتلا أيضاً قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه وبهذا السياق، وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة، وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة.
{يَأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ أن اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك، وقام به أتم القيام، قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن إسماعيل، عن الشعبي عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، الله يقول {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية، هكذا رواه هاهنا مختصراً وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً، وكذا رواه مسلم في كتابي الإيمان، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننهما من طرق عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله عنها، وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو كان محمداً صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي: حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنا عند(2/96)
ابن عباس، فجاء رجل فقال له: أن ناساً يأتونا فيخبروننا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء، وهذا إسناد جيد، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: "أيها الناس إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون ؟" قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول "اللهم هل بلغت" ؟. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا فضيل يعني ابن غزوان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. "يا أيها الناس" أي يوم هذا ؟ قالوا: يوم حرام، قال أي بلد هذا ؟ قالوا: بلد حرام، قال أي شهر هذا ؟ قالوا: شهر حرام، قال: "فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا" ثم أعادها مراراً، ثم رفع أصبعه إلى السماء فقال "اللهم هل بلغت ؟" مراراً. قال: يقول ابن عباس: والله لوصية إلى ربه عز وجل، ثم قال "ألا فليبلغ الشاهد الغائب: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وقد روى البخاري عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد، عن فضيل بن غزوان به نحوه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به، فما بلغت رسالته، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يعني أن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان عن رجل، عن مجاهد قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قال: يا رب، كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون عليّ ؟ فنزلت {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ورواه ابن جرير من طريق سفيان وهو الثوري به.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا يحيى قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث أن عائشة رضي الله عنها كانت تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت: فقلت ما شأنك يا رسول الله ؟ قال "ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا أنا على ذلك، إذ سمعت صوت السلاح، فقال "من هذا ؟" فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: "ما جاء بك ؟" قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه، أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به، وفي لفظ: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري، نزيل مصر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عبيد يعني أبا قدامة عن الجريري، عن(2/97)
عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل" وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد، وعن نصر بن علي الجهضمي، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به، ثم قال: وهذا حديث غريب، وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق مسلم بن إبراهيم به، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الحارث بن عبيد أبي قدامة عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة به، ثم قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا عن الجريري عن ابن شقيق، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية، ولم يذكر عائشة. قلت: هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية، وابن مردويه من طريق وهيب، كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلاً، وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي، رواهما ابن جرير، والربيع بن أنس، رواه ابن مردويه، ثم قال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رشدين المصري، حدثنا خالد بن عبد السلام الصدفي، حدثنا الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب، عن عصمة بن مالك الخظمي قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل. حتى نزلت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فترك الحرس، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي، حدثنا كردوس بن محمد الواسطي، حدثنا يعلى بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت هذه الآية {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس. حدثنا علي بن أبي حامد المديني، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار، حدثنا أبي قال: سمعت أبا الزبير المكي يحدث عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فذهب ليبعث معه، فقال "يا عم أن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث" وهذا حديث غريب وفيه نكارة، فإن هذه الآية مدنية، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية، ثم قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الحميد الحماني عن النضر، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: "إن الله قد عصمني من الجن والإنس" ، ورواه الطبراني عن يعقوب بن غيلان العماني، عن أبي كريب به،
وهذا أيضاً حديث غريب، والصحيح أن هذه الآية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها، والله أعلم، ومن عصمة الله لرسوله، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة، ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات عمه أبو طالب، نال منه المشركون أذي يسيراً، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة، فلما صار إليها، منعوه من الأحمر والأسود، وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله، ورد كيده عليه، كما كاده اليهود(2/98)
بالسحر فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه منه، ولهذا أشباه كثيرة جداً يطول ذكرها، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:
فقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي، وغيره، قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه، ثم قال: من يمنعك مني ؟ فقال " الله عز وجل" فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال غورث بن الحارث من بني النجار: لأقتلن محمداً، فقال له أصحابه: كيف تقتله ؟ قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه، قتلته به، قال: فأتاه. فقال: يا محمد، أعطني سيفك أشيمه، فأعطاه إياه، فرعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حال الله بينك وبين ما تريد" ، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أبو عمرو بن أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه، فقال: يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله يمنعني منك ضع السيف" فوضعه، فأنزل الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن المؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا إسرائيل، يعني الجشمي، سمعت جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلاً سميناً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومىء إلى بطنه بيده ويقول: "لو كان هذا في غير هذا، لكان خيراً لك" قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل، فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي ". وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىَ شَيْءٍ حَتّىَ تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُمْ مّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أن الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
يقول تعالى: قل يا محمد {يا أهل الكتاب لستم على شيء} أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل،(2/99)
أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}: يعني القرآن العظيم، وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} تقدم تفسيره، {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي فلا تحزن عليهم، ولا يهيدنّك ذلك منهم، ثم قال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وهم المسلمون، {وَالَّذِينَ هَادُوا} وهم حملة التوراة، {وَالصَّابِئُونَ} لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة من النصارى و المجوس ليس لهم دين، قاله مجاهد، وعنه: من اليهود والمجوس، وقال سعيد بن جبير: من اليهود والنصارى، وعن الحسن والحكم: إنهم كالمجوس، وقال قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير القبلة، ويقرءون الزبور.
وقال وهب بن منبه: هم قوم يعرفون الله وحده، وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفراً، وقال ابن وهب: أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: الصابئون هم قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون كل سنة ثلاثين يوماً، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات، وقيل غير ذلك، وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله واليوم الآخر وهو الميعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملاً صالحاً، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقاً للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا.
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوَاْ أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمّواْ ثُمّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمّ عَمُواْ وَصَمّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه، ولهذا قال تعالى : {لَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ يقتلون وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه، ثم تاب الله عليهم، أي مما كانوا فيه، ثم {عَمُوا وَصَمُّوا} أي بعد ذلك، {كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي مطلع عليهم وعليم بمن يستحق ا لهداية ممن يستحق الغواية منهم.
{لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ أن اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ إِنّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ أن اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لّمْ يَنتَهُواْ عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسّنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىَ اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ مّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ(2/100)
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ وَأُمّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الآيات ثُمّ انْظُرْ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ}
يقول تعالى حاكماً بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنسطورية، ممن قال منهم: بأن المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علواً كبيراً، هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق وهو صغير في المهد أن قال: إني عبد الله، ولم يقل أنا الله ولا ابن الله، بل قال {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} إلى أن قال {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمراً لهم بعبادة ربه وربهم، وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} أي فيعبد معه غيره {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. وقال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً ينادي في الناس: أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وفي لفظ: مؤمنة، وتقدم في أول سورة النساء عند قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، حديث يزيد بن بابنوس عن عائشة: الدواوين ثلاثة، فذكر منه ديواناً لا يغفره الله، وهو الشرك بالله، قال الله تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}، والحديث في مسند أحمد، ولهذا قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه.
وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا الفضل، حدثني أبو صخر في قول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} قال: هو قول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة، وهذا قول غريب في تفسير الآية أن المراد بذلك طائفتا اليهود والنصارى، والصحيح أنها نزلت في النصارى خاصة، قاله مجاهد وغير واحد، ثم اختلفوا في ذلك فقيل: المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة: وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، قال ابن جرير وغيره: و الطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم، وهم مختلفون فيها اختلافاً متبايناً ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاثة كافرة.
وقال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، قال السدي: وهي كقوله تعالى في آخر السورة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} الآية، وهذا القول هو الأظهر - والله أعلم - قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي ليس متعدداً بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، ثم قال تعالى متوعداً لهم ومتهدداً {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} أي من هذا الافتراء والكذب {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الآخرة من الأغلال والنكال، ثم قال {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه.
وقوله تعالى:(2/101)
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي له سوية أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ}. وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى، استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلا من الرجال، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك.
وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} أي يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، ثم قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ} أي نوضحها ونظهرها {ثٌمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون، وبأي قول يتمسكون، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون.
{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوَاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلّواْ كَثِيراً وَضَلّواْ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ}
يقول تعالى منكراً على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومبيناً له أنها لا تستحق شيئاً من الإلهية، فقال تعالى: {قُلْ} أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم، {وَاللّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء، فلم عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا ولا يملك ضراً ولا نفعاً لغيره ولا لنفسه ؟ ثم قال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهاً من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم، شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً، {وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: وقد كان قائم قام عليهم فأخذ بالكتاب والسنة زماناً، فأتاه الشيطان فقال: إنما تركت أثراً أو أمراً قد عمل قبلك، فلا تحمد عليه، ولكن ابتدع أمراً من قبل نفسك، وادع إليه وأجبر الناس عليه، ففعل ثم ادّكرَ بعد فعله زماناً، فأراد أن يتوب منه، فخلع سلطانه وملكه، وأراد أن يتعبد، فلبث في عبادته أياماً، فأتي فقيل له: لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سبيلك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة، فكيف لك بهداهم فلا توبة لك أبداً، ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}(2/102)
{لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِنّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ}
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه قال العوفي، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي كان لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد. حدثنا شريك بن عبد الله عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا: فجالسوهم في مجالسهم " قال يزيد: وأحسبه قال: "وأسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً، فجلس فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً".
وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض - ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} - ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنه على الحق قصراً"، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق علي بن بذيمة به، وقال الترمذي: حسن غريب، ثم رواه هو وابن ماجه عن بندار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة مرسلاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، وهارون بن إسحاق الهمداني، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن ابن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه، أن يكون أكيله وخليطه وشريكه" وفي حديث هارون "وشريبه"، ثم اتفقا في المتن "فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنكم" والسياق لأبي(2/103)
سعيد، كذا قال في رواية هذا الحديث، وقد رواه أبو داود أيضاً عن خلف بن هشام، عن أبي شهاب الخياط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم وهو ابن عجلان الأفطس، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ثم قال أبو داود: كذا رواه خالد عن العلاء، عن عمرو بن مرة به، ورواه المحاربي عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة عن عبد الله، قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: وقد رواه خالد بن عبد الله الواسطي عن العلاء بن المسيب,عن عمرو بن مرة، عن أبي موسى.
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام، قد تقدم حديث جابر عند قوله: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} وسيأتي عند قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} حديث أبي بكر الصديق وأبي ثعلبة الخشني، فقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان الهاشمي، أنبأنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" ، ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر به، وقال: هذا حديث حسن. وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام عن هشام بن سعد، عن عمرو بن عثمان، عن عاصم بن عمر بن عثمان، عن عروة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم" تفرد به، وعاصم هذا مجهول.
وفي الصحيح من طريق الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه، عن أبي سعيد، وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا سيف هو ابن أبي سليمان، سمعت عدي بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن عميرة رضي الله عنه، يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك، عذب الله الخاصة والعامة"، ثم رواه أحمد عن أحمد بن الحجاج، عن عبد الله بن المبارك، عن سيف بن أبي سليمان، عن عيسى بن عدي الكندي، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره، هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين.
قال أبو داود: حدثنا أبو العلاء، حدثنا أبو بكر، حدثنا المغيرة بن زياد الموصلي عن عدي بن عدي، عن العرس يعني ابن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها، - وقال مرة فأنكرها - كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها" تفرد به أبو داود، ثم رواه عن أحمد بن يونس، عن ابن شهاب، عن مغيرة بن زياد، عن عدي بن عدي مرسلاً. وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر، قالا: حدثنا شعبة وهذا لفظه، عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال سليمان، حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم". وقال ابن ماجه: حدثنا عمران بن موسى، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيباً، فكان فيما قال: "ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه". قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا.(2/104)
وفي حديث إسرائيل عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" و رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وقال ابن ماجه: حدثنا راشد بن سعيد الرملي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة عن أبي غالب، عن أبي أمامة: قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل عند الجمرة الأولى، فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل ؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة ووضع رجله في الغرز ليركب قال "أين السائل ؟" قال: أنا يا رسول الله. قال "كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر" تفرد به. وقال ابن ماجه: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الله بن نمير وأبو معاوية عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقر أحدكم نفسه" قالوا يا رسول الله: كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال "يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا وكذا ؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى" تفرد به، وقال أيضاً: حدثنا علي بن محمد، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أبو طوالة، حدثنا نهار العبدي أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت الناس" تفرد به أيضاً ابن ماجه، وإسناده لا بأس به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن عاصم عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن جندب، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه" قيل: وكيف يذل نفسه ؟ قال "يتعرض من البلاء لما لا يطيق"، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعاً عن محمد بن بشار، عن عمرو بن عاصم به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال ابن ماجه: حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي، حدثنا الهيثم بن حميد، حدثنا أبو معبد حفص بن غيلان الرعيني عن مكحول، عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ؟ قال "إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم" قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا ؟ قال "الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالكم" قال زيد: تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم والعلم في رذالكم إذا كان العلم في الفساق، تفرد به ابن ماجة، وسيأتي في حديث أبي ثعلبة عند قوله: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} شاهد لهذا، أن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين. وقوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني بذلك موالاتهم للكافرين، وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقاً في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سخطاً مستمراً إلى يوم معادهم، ولهذا قال {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وفسر بذلك ما ذمهم به، ثم أخبر عنهم أنهم {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} يعني يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا مسلم بن علي عن الأعمش بإسناد ذكره، قال "يا معشر المسلمين، إياكم والزنا، فإن فيه ست خصال: ثلاثاً في الدنيا، وثلاثاً في الآخرة، فأما التي في الدنيا فإنه يذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فإنه يوجب سخط الرب، وسوء الحساب، والخلود في النار"، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} هكذا ذكره ابن أبي حاتم.
وقد رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عمار عن مسلمة، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وساقه أيضاً من طريق سعيد بن غفير عن مسلمة، عن أبي عبد الرحمن الكوفي، عن الأعمش،(2/105)
عن شقيق، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله، وهذا حديث ضعيف على كل حال، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} أي لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسول والقرآن لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه، {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن طاعة الله ورسوله، مخالفون لآيات وحيه وتنزيله.
{لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنّ أَقْرَبَهُمْ مّوَدّةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّا نَصَارَىَ ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَىَ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أن يُدْخِلَنَا رَبّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن، بكوا حتى أخضلوا لحاهم، وهذا القول فيه نظر، لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة. وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. قال السدي: فهاجر النجاشي فمات بالطريق. وهذا من أفراد السدي، فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات، وأخبر به أصحابه، وأخبر أنه مات بأرض الحبشة. ثم اختلف في عدة هذا الوفد، فقيل: اثنا عشر: سبعة قساوسة وخمسة رهابين. وقيل: بالعكس. وقيل: خمسون. وقيل: بضع وستون. وقيل: سبعون رجلاً، فالله أعلم وقال عطاء بن أبي رباح: هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين وقال قتادة: هم قوم كانوا على دين عيس ابن مريم، فلما رأوا المسلمين، وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة، سواء كانوا من الحبشة أو غيرها.
فقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وسموه وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عند تفسير هذه الآية: حدثنا أحمد بن محمد بن السري، حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرقي، حدثنا علي بن سعيد العلاف، حدثنا أبو النضر عن الأشجعي، عن سفيان، عن يحيى بن عبد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماخلا يهودي بمسلم قط(2/106)
إلا همّ بقتله"، ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري، حدثنا أحمد بن أيوب الأهوازي، حدثنا فرج بن عبيد، حدثنا عباد بن العوام عن يحيى بن عبد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماخلا يهودي بمسلم إلا حدث نفسه بقتله"، وهذا حديث غريب جداً.
وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً} وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم قسيس وقس أيضاً، وقد يجمع على قسوس، والرهبان جمع راهب، وهو العابد، مشتق من الرهبة، وهي الخوف، كراكب وركبان، وفرسان. قال ابن جرير: وقد يكون الرهبان واحداً وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، وجردان وجرادين، وقد يجمع على رهابنة، ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحداً قول الشاعر:
لو عاينت رهبان دير في القلل ... لا نحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا بشر بن آدم. حدثنا نصير بن أبي الأشعث، حدثني الصلت الدهان عن جاثمة بن رئاب، قال: سألت سلمان عن قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} فقال: دع القسيسين في البيع والخرب، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً"، وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الخاني عن نضير بن زياد الطائي، عن صلت الدهان، عن جاثمة بن رئاب، عن سلمان به. قال ابن أبي حاتم: ذكره أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الخاني، حدثنا نضير بن زياد الطائي، حدثنا صلت الدهان عن جاثمة بن رئاب قال: سمعت سلمان وسئل عن قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } فقال هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب فدعوهم فيها، قال سلمان: وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} فأقرأني "ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً" فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، فقال {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به.
وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفلاس، عن عمر بن علي بن مقدم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته هم الشاهدون، يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال الطبراني، حدثنا أبو شبيل عبد الله بن عبد الرحمن بن واقد، حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الفضل عن عبد الجبار بن نافع الضبي، عن قتادة، وجعفر بن إياس عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} قال: إنهم كانوا كرابين يعني فلاحين، قدموا مع جعفر بن أبي طالب(2/107)
من الحبشة، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن، آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم" فقالوا: لن ننتقل عن ديننا، فأنزل الله ذلك من قولهم {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ} الآية، وهم الذين قال الله فيهم {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ولهذا قال تعالى ههنا: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي فجزاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان، ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بها وخالفوها، {ولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي هم أهلها والداخلون فيها.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ أن اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيّباً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني" رواه ابن أبي حاتم، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام على الفراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن عثمان يعني ابن سعيد، أخبرني عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء، وإني حرمت عليّ اللحم، فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} . وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعاً عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم النبيل به. وقال، حسن غريب. وقد روي من وجه آخر مرسلاً، وروي موقوفاً على ابن عباس، فالله أعلم. وقال سفيان الثوري ووكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية، أخرجاه من حديث إسماعيل، وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة، والله أعلم.
وقال الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عمرو بن شرحبيل، قال: جاء معقل بن مقرن إلى(2/108)
عبد الله بن مسعود فقال: إني حرمت فراشي، فتلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية. وقال الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: كنا عند عبد الله بن مسعود، فجيء بضرع فتنحى رجل، فقال له عبد الله: ادْنُ، فقال: إني حرمت أن آكله، فقال عبد الله: ادْنُ فاطعم وكفر عن يمينك، وتلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية: رواهن ابن أبي حاتم، وروى الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه من طريق إسحاق بن راهويه، عن جرير، عن منصور به¹ ثم قال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله، وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته حبست ضيفي من أجلي هو علي حرام، فقالت امرأته: هو علي حرام. وقال الضيف: هو علي حرام، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا باسم الله، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم، ثم أنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وهذا أثر منقطع.
وفي صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه شبيه بهذا، وفيه وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضاً، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ولأن الذي حرم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة، وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلاً أو مشرباً أو ملبساً أو شيئاً من الأشياء، فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين، فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ثم قال {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الآية، وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم، عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا، ويخصوا أنفسهم، ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}. قال ابن جريج، عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالماً مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس، إلا ما يؤكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يقول لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار، وما هموا به من الاختصاء، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن لأنفسكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا" فقالوا: اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت.
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة، ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين كما تقدم ذلك، ولله الحمد والمنة. وقال أسباط عن السدي في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف،(2/109)
فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما حقنا أن لم نحدث عملاً، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم، فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك، وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه، فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها وكان يقال لها الحولاء، فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالك يا حولاء متغيرة اللون، لا تمتشطين ولا تتطيبين ؟ فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي، وما وقع عني ثوباً منذ كذا وكذا. قال: فجعلن يضحكن من كلامها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن، فقال: "ما يضحككن ؟" قالت: يا رسول الله أن الحولاء سألتها عن أمرها. فقالت: ما وقع عني زوجي ثوباً منذ كذا وكذا، فأرسل إليه فدعاه فقال "مالك يا عثمان ؟" قال: إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة، وقص عليه أمره، وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك" . فقال: يا رسول الله إني صائم. فقال "أفطر" فأفطر وأتى أهله، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت، فضحكت عائشة وقالت: مالك يا حولاء ؟ فقالت: إنه أتاها أمس.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم، ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عني فليس مني" فنزلت {مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} يقول لعثمان: لا تجب نفسك، فإن هذا هو الاعتداء، وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم فقال {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}، رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا} يحتمل أن يكون المراد منه ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم، كما قاله من قاله من السلف، ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه: كما قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} الآية، وقال {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط، ولهذا قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ثم قال {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} أي في حال كونه حلالاً طيباً {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في جميع أموركم، واتبعوا طاعته ورضوانه، واتركوا مخالفته وعصيانه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقّدتّمُ الأيْمَانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوَاْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وقد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا، ولله الحمد والمنة، وأنه قول الرجل في الكلام من غير قصد: لا والله وبلى والله. وهذا مذهب الشافعي. وقيل هو في الهزل. وقيل: في المعصية. وقيل: على غلبة الظن، وهو قول أبي حنيفة وأحمد. وقيل: اليمين في الغضب وقيل: في النسيان. وقيل: هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك، واستدلوا بقوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ(2/110)
اللَّهُ لَكُمْ} والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها، {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه.
وقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة: أي من أعدل ما تطعمون أهليكم. وقال عطاء الخراساني: من أمثل ما تطعمون أهليكم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي قال: خبز ولبن، وخبز وسمن. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان يعني ابن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون، وبعضهم قوتاً فيه سعة، فقال الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي من الخبز والزيت، وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال: من عسرهم ويسرهم وحدثنا عبد الرحمن بن خلف الحمصي، حدثنا محمد بن شعيب يعني ابن شابور، وحدثنا شيبان بن عبد الرحمن التميمي عن ليث بن أبي سليم عن عاصم الأحول، عن رجل يقال له عبد الرحمن التميمي، عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}، قال: الخبز واللحم، والخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والخل.
وحدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا أبو معاوية عن عاصم، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال: الخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والتمر، ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم، ورواه ابن جرير عن هناد وابن وكيع، كلاهما عن أبي معاوية، ثم روى ابن جرير عن عبيدة والأسود وشريح القاضي ومحمد بن سيرين والحسن والضحاك وأبي رزين، أنهم قالوا نحو ذلك، وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول أيضاً.
واختار ابن جرير أن المراد بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي في القلة والكثرة، ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج، عن حصين الحارثي، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه في قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال: يغديهم ويعشيهم. وقال الحسن ومحمد بن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزاً ولحماً، زاد الحسن: فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً، حتى يشبعوا. وقال آخرون: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما، فهذا قول عمر وعلي وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبي مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبي قلابة ومقاتل بن حيان. وقال أبو حنيفة: نصف صاع بر وصاع مما عداه.
وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي، حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف، حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل بن سخبرة بن أخي عائشة لأمه، حدثنا عمر بن يعلى عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كفّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر، وأمر الناس به، ومن لم يجد فنصف صاع من بر. ورواه ابن ماجه عن العباس بن يزيد، عن زياد بن عبد الله البكاء، عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي، عن المنهال بن عمرو به، لا يصح هذا الحديث لحال عمر بن عبد الله هذا، فإنه مجمع على ضعفه، وذكروا أنه كان يشرب الخمر. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن إدريس عن داود يعني ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: مد من بر يعني لكل مسكين ومعه إدامه، ثم قال: وروي عن ابن عمر وزيد بن(2/111)
ثابت وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وعكرمة وأبي الشعثاء والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والحسن ومحمد بن سيرين والزهري، نحو ذلك.
وقال الشافعي: الواجب في كفارة اليمين مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين ولم يتعرض للأدم. واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكيناً من مكتل يسع خمسة عشر صاعاً، لكل واحد منهم مد. وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك، فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري، حدثنا محمد بن إسحاق السراج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا النضر بن زرارة الكوفي عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مداً من حنطة بالمد الأول، إسناده ضعيف لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بلخ، قال فيه أبو حاتم الرازي: هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة، فالله أعلم، ثم أن شيخه العمري ضعيف أيضاً. وقال أحمد بن حنبل: الواجب مد من بر أو مدان من غيره، والله أعلم.
وقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قال الشافعي رحمه الله: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة، أجزأه ذلك، واختلف أصحابه في القلنسوة: هل تجزىء أم لا ؟ على وجهين، فمنهم من ذهب إلى الجواز احتجاجاً بما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وعمار بن خالد الواسطي: قالا: حدثنا القاسم بن مالك عن محمد بن الزبير، عن أبيه، قال: سألت عمران بن الحصين عن قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قال: لو أن وفداً قدموا على أميركم فكساهم قلنسوة، قلنسوة قلتم قد كسوا، ولكن هذا إسناد ضعيف لحال محمد بن الزبير هذا، والله أعلم. وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني: في الخف وجهين أيضاً، والصحيح عدم الإجزاء وقال مالك وأحمد بن حنبل: لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه، أن كان رجلاً أو امرأة كل بحسبه، والله أعلم.
وقال العوفي عن ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة، وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت. وقال ليث عن مجاهد: يجزىء في كفارة اليمين كل شيء إلا التبان. وقال الحسن وأبو جعفر الباقر وعطاء وطاوس وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو مالك. ثوب ثوب. وعن إبراهيم النخعي أيضاً: ثوب جامع كالملحفة والرداء، ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعاً، وقال الأنصاري عن أشعث عن ابن سيرين: والحسن ثوبان ثوبان. وقال الثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب: عمامة يلف بها رأسه، وعباءة يلتحف بها. وقال ابن جرير: حدثنا هناد، حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أبي موسى أنه حلف على يمين، فكسا ثوبين من معقدة البحرين. وقال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن المعلى، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن مقاتل بن سليمان، عن أبي عثمان، عن أبي عياض، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قال: "عباءة لكل مسكين"، حديث غريب.
وقوله: {وْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أخذ أبو حنيفة بإطلاقها فقال: تجزىء الكافرة كما تجزىء المؤمنة. وقال الشافعي وآخرون: لا بد أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب. ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم أنه ذكر أن عليه عتق رقبة، وجاء معه بجارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله ؟". قالت: في السماء. قال(2/112)
"من أنا ؟" قالت: رسول الله. قال "أعتقها فإنها مؤمنة" الحديث بطوله. فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين، أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع، وقد بدأ بالأسهل، فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق، فترقى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام، كما قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}.
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري، أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام، وقال ابن جرير حاكياً عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه جائز لمن لم يكن له فضل عن رأس مال يتصرف فيه لمعاشه، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه، ثم اختار ابن جرير أنه الذي لا يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين، واختلف العلماء: هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب، ويجزىء التفريق ؟ قولان: أحدهما لا يجب وهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان، وهو قول مالك لإطلاق قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} وهو صادق على المجموعة والمفرقة، كما في قضاء رمضان لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ونص الشافعي في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع، كما هو قول الحنفية والحنابلة، لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيره أنهم كانوا يقرؤونها {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}. قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ} وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود، وقال إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله بن مسعود {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}. وقال الأعمش كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك، وهذه إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً، فلا أقل أن يكون خبراً واحداً أو تفسيراً من الصحابة وهو في حكم المرفوع. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي، حدثنا محمد بن جعفر الأشعري، حدثنا الهيثم بن خالد القرشي، حدثنا يزيد بن قيس عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن جريج، عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله نحن بالخيار ؟ قال "أنت بالخيار أن شئت أعتقت، وإن شئت كسوت، وإن شئت أطعمت، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وهذا حديث غريب جداً. وقوله: { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي هذه كفارة اليمين الشرعية {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}. قال ابن جرير: معناه لا تتركوها بغير تكفير {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي يوضحها ويفسرها {لعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مّنتَهُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَا عَلَىَ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوَاْ إِذَا مَا اتّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمّ اتّقَواْ وّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ}
يقول تعالى: ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: الشطرنج من الميسر، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن عيسى بن مرحوم، عن حاتم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع عن سفيان، عن ليث، عن عطاء ومجاهد وطاوس قال: سفيان أو اثنين منهم قالوا: كل شيء من القمار(2/113)
فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز: وروي عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب مثله، وقالا: حتى الكعاب والجوز والبيض التي تلعب بها الصبيان. وقال موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الميسر هو القمار. وقال الضحاك، عن ابن عباس، قال: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة. وقال مالك، عن داود بن الحصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين.
وقال الزهري، عن الأعرج، قال: الميسر الضرب بالقداح على الأموال والشمار. وقال القاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر، رواهن ابن أبي حاتم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الزيادي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجراً، فإنها من الميسر" حديث غريب، وكأن المراد بهذا هو النرد الذي ورد الحديث به في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه" وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" وروي موقوفاً عن أبي موسى من قوله، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول: أخبرني ما سمعت أباك يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي، مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي" وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر إنه شر من النرد، وتقدم عن علي أنه قال: هو من الميسر، ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد، وكرهه الشافعي، رحمهم الله تعالى، وأما الأنصاب، فقال ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وغير واحد: هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأما الأزلام فقالوا أيضاً: هي قداح كانوا يستقسمون بها، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي سخط من عمل الشيطان. وقال سعيد بن جبير: إثم. وقال زيد بن أسلم: أي شر من عمل الشيطان {فَاجْتَنِبُوهُ} الضمير عائد إلى الرجس، أي اتركوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهذا ترغيب، ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وهذا تهديد وترهيب.
ذكر الأحاديث الواردة في بيان تحريم الخمر
قال الإمام أحمد: حدثنا شريح، حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فأنزل الله {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} إلى آخر الآية. فقال الناس: ما حرما علينا إنما قال {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوماً من الأيام، صلى رجل من المهاجرين، أم أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله أغلظ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فكان الناس يشربون حتى يأتي(2/114)
أحدهم الصلاة وهو مغبق، ثم أنزلت آية أغلظ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قالوا: انتهينا ربنا. وقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم" انفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب أنه قال لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: حي على الصلاة، نادى: لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ قول الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال عمر: انتهينا انتهينا. وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عمر بن عبد الله السبيعي، وعن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني، عن عمر به، وليس له عنه سواه، قال أبو زرعة: ولم يسمع منه. وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي. وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير"، والخمر ما خامر العقل. وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، حدثني نافع عن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب.)
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن أبي حميد، عن المصري يعني أبا طعمة قارىء مصر، قال: سمعت ابن عمر يقول: نزلت في الخمر ثلاث آيات، فأول شيء نزل {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية، فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله، دعنا ننتفع بها كما قال الله تعالى، قال: فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله إنا لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم، ثم نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} الآيتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى، حدثنا محمد بن إسحاق عن القعقاع بن حكيم أن عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر، فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف، أو من دوس، فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا فلان أما علمت أن الله حرمها ؟" فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا فلان بماذا أمرته ؟ فقال: أمرته أن يبيعها. قال "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" فأمر بها فأفرغت في البطحاء، ورواه مسلم من طريق ابن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، ومن طريق ابن وهب أيضاً عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، كلاهما عن عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس به، ورواه النسائي عن قتيبة عن مالك به.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن شهر بن حوشب، عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام(2/115)
راوية من خمر، فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال: "إنها قد حرمت بعدك" قال: يا رسول الله فأبيعها وأنتفع بثمنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم شحوم البقر والغنم، فأذابوه وباعوه، والله حرم الخمر وثمنها" وقد رواه أيضاً الإمام أحمد فقال: حدثنا روح، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال: سمعت شهر بن حوشب قال: حدثني عبد الرحمن بن غنم أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر، فلما كان عام حرمت، جاء براوية، فلما نظر إليه ضحك، فقال "أشعرت أنها قد حرمت بعدك" فقال: يا رسول الله، ألا أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود انطلقوا إلى ما حرم عليهم من شحم البقر والغنم، فأذابوه، فباعوا به ما يأكلون، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام".
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن سليمان بن عبد الرحمن، عن نافع بن كيسان أن أباه أخبره أنه كأنه يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئتك بشراب طيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا كيسان إنها قد حرمت بعدك" قال: فأبيعها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها قد حرمت وحرم ثمنها"، فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم أهرقها.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد، عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسعيد بن بيضاء ونفراً من أصحابه عند أبي طلحة حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ فقالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس اسكب ما بقي في إنائك فو الله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذ، أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن أنس، وفي رواية حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي قال: اخرج فانظر، فإذا منادٍ ينادي: ألا أن الخمر قد حرمت، فجرت في سكك المدينة، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فهرقتها فقالوا أو قال بعضهم: قتل فلان وفلان وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر، فسمعت منادياً ينادي: ألا أن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سليم، ثم خرجنا إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال رجل: يا رسول الله، فما ترى فيمن مات وهو يشربها ؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية، فقال رجل لقتادة: أنت سمعته من أنس بن مالك قال: نعم، وقال رجل لأنس بن مالك، أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، أو حدثني من لم يكذب، ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر،(2/116)
عن بكر بن سوادة، عن قيس بن سعيد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي تبارك وتعالى، حرم الخمر والكوبة والقنين، وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا فرج بن فضالة عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين، وزادني صلاة الوتر" قال يزيد: القنين البرابط، تفرد به أحمد، وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو عاصم وهو النبيل، أخبرنا عبد الحميد بن جعفر، حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم" قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام" تفرد به أحمد أيضاً.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن أبي طعمة مولاهم، عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنت الخمر على عشرة أوجه: لعنت الخمر بعينها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها"، ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث وكيع به، وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو طعمة، سمعت ابن عمر يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد فخرجت معه، فكنت معه، فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه، فكان عن يمينه وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد فإذا بزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية، قال ابن عمر: وما عرفت المدية إلا يومئذ، فأمر بالزقاق فشقت، ثم قال "لعنت الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها ومعتصرها، وآكل ثمنها" ، وقال أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن عمر: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة، فأتيته بها، فأرسل بها، فأرهفت ثم أعطانيها، وقال "اغد عليّ بها" ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته، ففعلت فلم أترك في أسواقها زقاً إلا شققته.
(حديث آخر) - قال عبد الله بن وهب: أخبرني عبد الرحمن بن شريح وابن لهيعة والليث بن سعد، عن خالد بن زيد، عن ثابت أن يزيد الخولاني أخبره أنه كان له عم يبيع الخمر، وكان يتصدق، قال: فنهيته عنها فلم ينته، فقدمت المدينة فلقيت ابن عباس فسألته عن الخمر وثمنها، فقال: هي حرام، وثمنها حرام، ثم قال ابن عباس رضي الله عنه: يا معشر أمة محمد، إنه لو كان كتاب بعد كتابكم، ونبي بعد نبيكم، لأنزل فيكم كما أنزل قبلكم، ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة ولعمري لهو أشد عليكم، قال ثابت: فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر فقال: سأخبرك عن الخمر، إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فبينما هو محتب على حبوته، ثم قال "من كان عنده من هذه الخمر شيء فليأتنا بها" فجعلوا يأتونه فيقول أحدهم: عندي راوية، ويقول الآخر: عندي زق، أو ما شاء الله أن يكون عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوه ببقيع كذا وكذا، ثم آذنوني" ففعلوا، ثم آذنوه، فقام وقمت معه ومشيت عن يمينه وهو متكىء عليّ، فلحقنا أبو بكر رضي الله عنه، فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلني عن شماله وجعل أبا بكر في مكاني، ثم لحقنا عمر بن(2/117)
الخطاب رضي الله عنه، فأخرني وجعله عن يساره، فمشى بينهما حتى إذا وقف على الخمر قال للناس "أتعرفون هذه ؟ قالوا نعم يا رسول الله، هذه الخمر، قال "صدقتم"، ثم قال "فإن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها ومشتريها، وآكل ثمنها" ثم دعا بسكين فقال "اشحذوها" ففعلوا، ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق، قال: فقال الناس: في هذه الزقاق منفعة، فقال "أجل ولكني إنما أفعل ذلك غضباً لله عز وجل لما فيها من سخطه" فقال عمر: أنا أكفيك يا رسول الله، قال "لا" قال ابن وهب: وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث، رواه البيهقي.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو الحسين بن بشر، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة عن سماك، عن مصعب بن سعد. عن سعد قال: أنزلت في الخمر أربع آيات، فذكر الحديث قال: وصنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا، فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا فتفاخرنا، فقالت الأنصار: نحن أفضل، وقالت قريش: نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور، فضرب به أنف سعد ففزره، وكانت أنف سعد مفزورة، فنزلت {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أخرجه مسلم من حديث شعبة.
(حديث آخر) - قال البيهقي: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو علي الرفاء، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، حدثني أبي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا فلما أن ثمل القوم، عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول صنع بي هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال أناس من المتكلفين: هي رجس وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد: فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى آخر الآية، ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة، عن حجاج بن منهال.
(حديث آخر) - قال ابن جرير: حدثني محمد بن خلف، حدثنا سعيد بن محمد الحرمي عن أبي نميلة، عن سلام مولى حفص أبي القاسم، عن أبي بريدة، عن أبيه قال بينا نحن قعود على شراب لنا، ونحن على رملة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطية لنا ونحن نشرب الخمر حلاً، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، إذ نزل تحريم الخمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى آخر الآيتين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال: وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء فقال: بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبوا ما في باطيتهم، فقالوا: انتهينا ربنا.
(حديث آخر) - قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا ابن عيينة عن عمرو، عن جابر قال صبح أناس غداة أحد الخمر، فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء، وذلك قبل تحريمها، هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه. وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، سمع جابر بن عبد الله يقول: اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قتلوا شهداء(2/118)
يوم أحد فقالت اليهود: فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم، فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ثم قال: وهذا إسناد صحيح، وهو كما قال، ولكن في سياقه غرابة.
(حديث آخر) - قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم ؟ فنزلت {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية، ورواه الترمذي عن بندار غندر عن شعبة به نحوه، وقال: حسن صحيح.
(حديث آخر) - قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا جعفر بن حميد الكوفي، حدثنا يعقوب القمي عن عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين، فحمل منها بمال فقدم بها المدينة فلقيه رجل من المسلمين فقال يا فلان، أن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تل، وسجى عليها بأكسية، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، بلغني أن الخمر قد حرمت ؟ قال "أجل" قال لي أن أردها على من ابتعتها منه ؟ قال: "لا يصلح ردها". قال: لي أن أهديها إلى من يكافئني منها ؟ قال "لا". قال: فإن فيها مالاً ليتامى في حجري، قال "إذا أتانا مال البحرين فأتنا نعوض أيتامك من مالهم" ثم نادى بالمدينة، فقال رجل: يا رسول الله، الأوعية ننتفع بها ؟ قال "فحلوا أوكيتها" فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي، هذا حديث غريب.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن السدي، عن أبي هبيرة وهو يحيى بن عباد الأنصاري، عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمراً فقال "أهرقها". قال: أفلا نجعلها خلاً ؟ قال "لا". ورواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث الثوري به نحوه.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا عبد العزيز بن سلمة حدثنا هلال بن أبي هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال: أن هذه الآية التي في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال: هي في التوراة أن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل، ويبطل به اللعب والمزامير، والزفن والكبارات، يعني البرابط والزمارات، يعني به الدف والطنابير والشعر والخمر مرة لمن طعمها، أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس، وهذا إسناد صحيح.
(حديث آخر) - قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن شعيب حدثهم عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك الصلاة سكراً مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها، ومن ترك الصلاة سكراً أربع مرات، كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال" قيل: وما طينة الخبال ؟ قال "عصارة أهل جهنم" ورواه أحمد من طريق عمرو بن شعيب.
(حديث آخر) - قال أبو داود: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني قال: سمعت النعمان هو ابن أبي شيبة الجندي يقول عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال" قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال "صديد أهل النار. ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه، كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال" تفرد به أبو داود.(2/119)
(حديث آخر) - قال الشافعي رحمه الله: أنبأنا مالك عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر في الدنيا لم يتب منها حرمها في الآخرة" أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك به. وروى مسلم عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها، لم يشربها في الآخرة".
(حديث آخر) - قال ابن وهب: أخبرني عمر بن محمد عن عبد الله بن يسار أنه سمع سالم بن عبد الله يقول: قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى". ورواه النسائي عن عمرو بن علي، عن يزيد بن زريع، عن عمر بن محمد العمري به. وروى أحمد عن غندر، عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر". ورواه أحمد أيضاً عن عبد الصمد، عن عبد العزيز بن مسلم، عن يزيد بن أبي زياد,عن مجاهد به. وعن مروان بن شجاع، عن حصيف، عن مجاهد به. ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا، عن حسين الجعفي، عن زائدة، عن يزيد بن أبي زيادة، عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد، كلاهما عن أبي سعيد به.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابان عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا منان، ولا ولد زنية" وكذا رواه عن يزيد، عن همام، عن منصور، عن سالم، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو به، وقد رواه أيضاً عن غندر وغيره، عن شعبة، عن منصور، عن سالم، عن نبيط بن شريط، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة منان، ولا عاق والديه، ولا مدمن خمر". ورواه النسائي من حديث شعبة كذلك، ثم قال: ولا نعلم أحداً تابع شعبة عن نبيط بن شريط. وقال البخاري: لا يعرف لجابان سماع عن عبد الله، ولا لسالم من جابان ولا نبيط، وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد عن ابن عباس، ومن طريقه أيضاً عن أبي هريرة، فالله أعلم.
وقال الزهري: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه قال: سمعت عثمان بن عفان يقول اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت إنّا ندعوك لشهادة فدخل معها فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر فقالت إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هذا الغلام أو تشرب هذا الخمر فسقته كأساً فقال زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه. رواه البيهقي وهذا إسناد صحيح وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه ذم المسكر عن محمد بن عبد الله بن بزيع عن الفضيل بن سليمان النميري عن عمر بن سعيد عن الزهري به مرفوعاً والموقوف أصح والله أعلم وله شاهد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن".
وقال أحمد بن حنبل: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما حرمت الخمر قال ناس: يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها، فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى آخر الآية، ولما حولت القبلة قال ناس: يا رسول الله، إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت(2/120)
المقدس، فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وقال الإمام أحمد: حدثنا داود بن مهران الدباغ، حدثنا داود يعني العطار عن أبي خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة، أن مات مات كافراً، وإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال" قالت: قلت: يا رسول الله، وما طينة الخبال ؟ قال "صديد أهل النار" وقال الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قيل لي: أنت منهم" وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريقه. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قرأت على أبي، حدثنا علي بن عاصم، حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجراً فإنهما ميسر العجم".
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مّنَ الصّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مّتَعَمّداً فَجَزَآءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
قال الوالبي عن ابن عباس قوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله به عباده في إحرامهم، حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه. وقال مجاهد {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني صغار الصيد وفراخه، {وَرِمَاحُكُمْ} يعني كباره. وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد، يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وقوله ههنا {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قال السدي وغيره: يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لمخالفته أمر الله وشرعه.
ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه، وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها، والجمهور على تحريم قتلها أيضاً، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري عن عروة، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" . وقال مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" أخرجاه، ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله. قال أيوب: فقلت لنافع: فالحية ؟ قال الحية لا شك فيها. ولا يختلف في قتلها. ومن العلماء(2/121)
كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد، لأنها أشد ضرراً منه، فالله أعلم.
وقال زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة: الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها، واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال "اللهم سلط عليه كلبك بالشام" فأكله السبع بالزرقاء، قالوا: فإن قتل ما عداهن فداه، كالضبع والثعلب وهرّ البر ونحو ذلك، قال مالك: وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها، وصغار الملحق بها من السباع العوادي. وقال الشافعي: يجوز للمحرم قتل كل مالا يؤكل لحمه، ولا فرق بين صغاره وكباره، وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل. وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذئب، لأنه كلب بري، فإن قتل غيرهما فداه إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه وهذا قول الأوزاعي والحسن بن صالح بن حيي. وقال زفر بن الهذيل: يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه.
وقال بعض الناس: المراد بالغراب ههنا الأبقع، وهو الذي في بطنه وظهره بياض دون الأدرع وهو الأسود، والأعصم وهو الأبيض، لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس يقتلهن المحرم: الحية، والفأرة، والحدأة، والغراب الأبقع، والكلب العقور" والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك، لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه. وقال مالك رحمه الله: لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه. وقال مجاهد بن جبر وطائفة: لا يقتله بل يرميه، ويروى مثله عن علي. وقد روى هشيم: حدثنا يزيد بن أبي زياد: عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال "الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي" رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والترمذي عن أحمد بن منيع، كلاهما عن هشيم وابن ماجه، عن أبي كريم وعن محمد بن فضيل، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن علية عن أيوب قال: نبئت عن طاوس أنه قال: لا يحكم على من أصاب صيداً خطأ، إنما يحكم على من أصابه متعمداً، وهذا مذهب غريب عن طاوس وهو متمسك بظاهر الآية، وقال مجاهد بن جبر: المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد، الناسي لإحرامه، فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه، فذاك أمره أعظم من أن يكفر، وقد بطل إحرامه، ورواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نجيح، وليث بن أبي سليم وغيرهما عنه، وهو قول غريب أيضاً، والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. وقال الزهري: دل الكتاب على العامد، وجرت السنة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ، كما دل الكتاب عليه في العمد، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمد مأثوم، والمخطىء غير ملوم.
وقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} قرأ بعضهم بالإضافة، وقرأ آخرون بعطفها {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، وحكى ابن جرير، أن ابن مسعود قرأها {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. وفي قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد والجمهور، من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي خلافاً لأبي(2/122)
حنيفة رحمه الله، حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثلياً أو غير مثلي، قال: وهو مخير أن شاء تصدق بثمنه، وإن شاء اشترى به هدياً، والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز، وذكر قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب الأحكام، وأما إذا لم يكن الصيد مثلياً فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة، رواه البيهقي.
وقوله تعالى: {حْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل: هل يجوز أن يكون أحد الحكمين ؟ على قولين
(أحدهما) لا، لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه، وهذا مذهب مالك.
(والثاني) نعم، لعموم الآية، وهو مذهب الشافعي وأحمد، واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكوماً عليه في صورة واحدة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا جعفر هو ابن برقان عن ميمون بن مهران أن أعرابياً أتى أبا بكر، فقال: قتلت صيداً وأنا محرم، فما ترى علي من الجزاء ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال ؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك ؟ فقال أبو بكر: وما تنكر ؟ يقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به، وهذا إسناد جيد، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق، ومثله يحتمل ههنا، فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابياً جاهلاً، وإنما دواء الجهل التعليم، فأما إذا كان المعترض منسوباً إلى العلم، فقد قال ابن جرير: حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي,قالا: حدثنا وكيع بن الجراح عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حجاجاً، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا، فنتماشى نتحدث. قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح، فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشّاءَهُ (وهو العظم الناتى خلف الأذن)، فركب رَدْعَه ميتاً. قال: فَعَظّمْنا عليه، فلما قدمنا مكة، خرجت معه حتى أتينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقص عليه القصة فقال: وإذا إلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة، يعني عبد الرحمن بن عوف، فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه، قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمداً قتلته أم خطأ ؟ فقال الرجل: لقد تعمدت رميه وما أردت قتله، فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها، واستبق إهابها، قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل، عظم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها. فلعل ذلك يعني أن يجزىء عنك، قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة، قال: فعلا صاحبي ضرباً بالدرة، أقتلت في الحرم وسفهت في الحكم. قال: ثم أقبل علي، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني، فقال: يا قبيصة بن جابر، إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيء، فيفسد الخلق السيء الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب.
وروى هشيم هذه القصة عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بنحوه. ورواها أيضاً عن حصين، عن الشعبي، عن قبيصة بنحوه. وذكرها مرسلة عن عمر بن بكر بن عبد الله المزني ومحمد بن سيرين بنحوه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا شعبة عن منصور، عن أبي وائل، أخبرني ابن جرير البجلي، قال: أصبت ظبياً وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك، فأتيت عبد الرحمن وسعداً فحكما علي بتيس(2/123)
أعفر. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا ابن عيينة عن مخارق، عن طارق، قال: أوطأ أربد ظبياً فقتله وهو محرم، فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر، ثم قال عمر {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين، كما قاله الشافعي وأحمد رحمهما الله.) واختلفوا: هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل، وإن كان قد حكم في مثله الصحابة أو يكتفى بأحكام الصحابة المتقدمة ؟ على قولين، فقال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة، وجعلاه شرعاً مقرراً لا يعدل عنه، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا، لقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي واصلاً إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم، أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأحد قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد، رحمهم الله، لظاهر "أو" بأنها للتخيير، والقول الآخر أنها على الترتيب، فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم. وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجوداً، ثم يشترى به طعام فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه، عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جرير، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يطعم كل مسكين مدين، وهو قول مجاهد. وقال أحمد: مد من حنطة أو مدان من غيره، فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير، صام عن إطعام كل مسكين يوماً. وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يوماً كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه، فإن الشارع أمر كعب بن عجرة أن يقسم فرقاً بين ستة، أو يصوم ثلاثة أيام، والفرق ثلاثة آصع، واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشافعي: مكانه الحرم، وهو قول عطاء. وقال مالك يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة: أن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء أطعم في غيره.
ذكر أقوال السلف في هذا المقام
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن لم يجد، نظر كم ثمنه، ثم قوم ثمنه طعاماً، قال الله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}، قال: إنما أريد بالطعام والصيام، أنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه، ورواه ابن جرير من طريق جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}، فإذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلاً أو نحوه، فعليه بقرة، فإن لم يجد(2/124)
أطعم عشرين مسكيناً، فإن لم يجد صام عشرين يوماً، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً" رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وزاد: الطعام مدّ يشبعهم، وقال جابر الجعفي، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} قالوا إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي رواه ابن جرير وكذا روى ابن جريج عن مجاهد وأسباط عن السدي أنها على الترتيب. وقال عطاء وعكرمة ومجاهد في رواية الضحاك وإبراهيم النخعي: هي على الخيار، وهي رواية الليث عن مجاهد، عن ابن عباس، واختار ذلك ابن جرير رحمه الله.
وقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله، ولم يرتكب المعصية، ثم قال {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} . قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} ؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال: قلت: وما {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ؟ قال: ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة. قال: قلت: فهل في العود من حد تعلمه ؟ قال: لا، قال قلت: فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه ؟ قال: لا، هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عز وجل، ولكن يفتدي" رواه ابن جرير. وقيل: معناه فينتقم الله منه بالكفارة، قاله سعيد بن جبير وعطاء، ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة، وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: من قتل شيئاً من الصيد خطأ وهو محرم، يحكم عليه فيه كلما قتله، فإن قتله عمداً يحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله عز وجل. وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، جميعاً عن هشام هو ابن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، فيمن أصاب صيداً يحكم عليه ثم عاد قال: لا يحكم عليه، ينتقم الله منه. وهكذا قال شريح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي، رواهن ابن جرير، ثم اختار القول الأول. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن زيد بن أبي المعلى، عن الحسن البصري أن رجلاً أصاب صيداً فتجوز عنه، ثم عاد فأصاب صيداً آخر، فنزلت نار من السماء فأحرقته، فهو قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}. وقال ابن جرير في قوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} يقول، عز ذكره: والله منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع، لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة والمنعة. وقوله: {ذُو انْتِقَامٍ} يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.
{أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لّكُمْ وَلِلسّيّارَةِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لّلنّاسِ وَالشّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوَاْ أن اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اعْلَمُوَاْ أن اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ مّا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس في رواية عنه، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير وغيرهم، في قوله(2/125)
تعالى: {أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يعني ما يصطاد منه طرياً {وَطَعَامُهُ} ما يتزود منه مليحاً يابساً، وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه: صيده ما أخذ منه حياً {وَطَعَامُهُ} ما لفظه ميتاً، وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم، وعكرمة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي والحسن البصري، قال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن أبي بكر الصديق أنه قال {وَطَعَامُهُ} كل ما فيه، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن مغيرة، عن سماك قال: حدثت عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس، فقال {أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لّكُمْ} وطعامه ما قذف. قال: وحدثنا ابن علية عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله: {أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قال {طَعَامُهُ} ما قذف.
وقال عكرمة عن ابن عباس، قال: طعامه ما لفظ من ميتة، ورواه ابن جرير أيضاً. وقال سعيد بن المسيب: طعامه ما لفظه حياً أو حسر عنه فمات، رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب عن نافع أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر، فقال: أن البحر قد قذف حيتاناً كثيرة ميتة، أفنأكلها ؟ فقال: لا تأكلوها، فلما رجع عبد الله إلى أهله، أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة فأتى هذه الآية {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} فقال: اذهب فقل له: فليأكله فإنه طعامه، وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه. وقد روي في ذلك خبر، وإن بعضهم يرويه موقوفاً، حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} قال "طعامه ما لفظه ميتاً" ثم قال: وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة. حدثنا هناد، حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قال: طعامه ما لفظه ميتاً.
وقوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أي منفعة وقوتاً لكم أيها المخاطبون {وَلِلسَّيَّارَةِ} وهم جمع سيار، قال عكرمة: لمن كان بحضرة البحر والسفر وقال غيره: الطري منه لمن يصطاده من حاضرة البحر، وطعامه ما مات فيه أو اصطيد منه وملح وقدد، زاداً للمسافرين والنائين عن البحر وقد روي نحوه عن ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم. وقد استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الآية الكريمة، وبما رواه الإمام مالك بن أنس عن ابن وهب وابن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلثمائة وأنا فيهم، قال فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر، قال: فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقال: فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت ومرت تحتهما، فلم تصبهما، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله طرق عن جابر.
وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر، فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن، ويقتطع منه الفِدْر كالثور، قال: ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا، فمر من تحته، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا(2/126)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟" قال فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأكله.
وفي بعض روايات مسلم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة، فقال بعضهم: هي واقعة أخرى، وقال بعضهم: بل هي قضية واحدة، ولكن كانوا أولاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم. وقال مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق: أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار، أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال، يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ، وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل وأهل السنن الأربع، وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وغيرهم، وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن حماد بن سلمة، حدثنا أبو المهزم هو يزيد بن سفيان سمعت أبا هريرة يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة، فاستقبلنا جراد، فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا، فنقتلهن، فسقط في أيدينا، فقلنا: ما نصنع ونحن محرمون ؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا بأس بصيد البحر" أبو المهزم ضعيف، والله أعلم. وقال ابن ماجة: حدثنا هارون بن عبد الله الجمال، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله عن علام، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جابر وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال "اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء" ، فقال خالد: يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال "إن الجراد نثرة الحوت: في البحر" قال هاشم: قال زياد: فحدثني من رأى الحوت ينثره، تفرد به ابن ماجه.
وقد روى الشافعي عن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس أنه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم، وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ولم يستثن من ذلك شيئاً، قد تقدم عن الصديق أنه قال: طعامه كل ما فيه. وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع، وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال: نقيقها تسبيح. وقال آخرون: يؤكل من صيد البحر السمك، ولا يؤكل الضفدع، واختلفوا فيما سواهما، فقيل: يؤكل سائر ذلك. وقيل: لا يؤكل. وقيل: ما أكل شبهه من البر، أكل مثله في البحر. وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل، وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يؤكل مامات في البحر، كما لا يؤكل مامات في البر، لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وقد ورد حديث بنحو ذلك، فقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي هو ابن قانع، حدثنا الحسين بن إسحاق التستري وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان، قالا: حدثنا الحسين بن يزيد الطحان، حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صدتموه وهو حي فمات فكلوه، وما ألقى البحر ميتاً طافياً فلا تأكلوه" ، ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية ويحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر به، وهو منكر، وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل بحديث العنبر المتقدم ذكره، وبحديث "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وقد تقدم أيضاً.
وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما(2/127)
الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال" ورواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وله شواهد، وروي موقوفاً، والله أعلم.
وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أي في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد، ففيه دلالة على تحريم ذلك فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمداً، أثم وغرم، أو مخطئاً، غرم وحرم عليه أكله، لأنه في حقه كالميتة، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين، عند مالك والشافعي في أحد قوليه، وبه يقول عطاء والقاسم وسالم وأبو سيف ومحمد بن الحسن وغيرهم، فإن أكله أو شيئاً منه فهل يلزمه جزاء ثان ؟ فيه قولان للعلماء
(أحدهما) نعم، قال: عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء قال: أن ذبحه ثم أكله فكفارتان، وإليه ذهب طائفة. (والثاني) لا جزاء عليه في أكله، نص عليه مالك بن أنس. قال أبو عمر بن عبد البر: وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، ثم وجهه أبو عمر بما لو وطىء، ثم وطىء، ثم وطىء قبل أن يحد، فإنما عليه حد واحد، وقال أبو حنيفة: عليه قيمة ما أكل. وقال أبو ثور: إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه وحلال أكل ذلك الصيد، إلا أنني أكرهه للذي قتله للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" وهذا الحديث سيأتي بيانه، وقوله بإباحته للقاتل غريب. وأما لغيره ففيه خلاف قد ذكرنا المنع عمن تقدم، وقال آخرون بإباحته لغير القاتل سواء المحرمون والمحلون لهذا الحديث، والله أعلم.
وأما إذا صاد حلال صيداً، فأهداه إلى محرم، فقد ذهب ذاهبون إلى إباحته مطلقاً، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده من أجله أم لا، حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر، عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة والزبير بن العوام وكعب الأحبار ومجاهد وعطاء في رواية، وسعيد بن جبير، وبه قال الكوفيون. قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا بشر بن الفضل، حدثنا سعيد عن قتادة أن سعيد بن المسيب حدثه عن أبي هريرة أنه سئل عن لحم صيد صاده حلال، أيأكله المحرم ؟ قال: فأفتاهم بأكله، ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعت لك رأسك. وقال آخرون: لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية، ومنعوا من ذلك مطلقاً لعموم هذه الآية الكريمة.
وقال عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، وعبد الكريم عن ابن أبي آسية عن طاوس، عن ابن عباس أنه كره أكل الصيد للمحرم، وقال: هي مبهمة يعني قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} قال: وأخبرني معمر عن الزهري، عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال. قال معمر: وأخبرني أيوب عن نافع، عن ابن عمر مثله، قال ابن عبد البر: وبه قال طاوس وجابر بن زيد، وإليه ذهب الثوري وإسحاق بن راهويه في رواية، وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب، رواه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن علياً كره أكل لحم الصيد للمحرم على كل حال.
وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية والجمهور: أن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد لم يجز للمحرم أكله لحديث الصعب بن جثامة أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بِودّان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله ألفاظ كثيرة، قالوا: فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله، فرده لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش، وكان حلالاً لم يحرم، وكان أصحابه محرمين، فتوقفوا في أكله ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان منكم أحد أشار(2/128)
إليها أو أعان في قتلها ؟" قالوا: لا. قال "فكلوا" وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة ثابتة أيضاً في الصحيحين بألفاظ كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد، قالا: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال قتيبة في حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صيد البر لكم حلال" قال سعيد - وأنتم حرم - ما لم تصيدوه أو يصد لكم" ، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي، جميعاً عن قتيبة. وقال الترمذي: لا نعرف للمطلب سماعاً من جابر، ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن مولاه المطلب، عن جابر، ثم قال: وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس. وقال مالك رضي الله عنه، عن عبد الله بن أبي بكر. عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: رأيت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أتى بلحم صيد، فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: أولا تأكل أنت ؟ فقال: إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي.
{قُل لاّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتّقُواْ اللّهَ يَأُوْلِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ أن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ ثُمّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ}
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُل} يا محمد {لاّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ} أي يا أيها الإنسان {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} يعني أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار، كما جاء في الحديث "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى" وقال أبو القاسم البغوي في معجمه: حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا الحوطي، حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا معان بن رفاعة عن أبي عبد الملك علي بن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه" {فَاتّقُواْ اللّهَ يَأُوْلِي الألْبَابِ} أي يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة، وتجنبوا الحرام ودعوه واقنعوا بالحلال واكتفوا به، لعلكم تفلحون، أي في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ أن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنها أن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" وقال البخاري: حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن موسى بن أنس، عن أنس بن مالك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، وقال فيها "لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً ". قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين، فقال رجل: من أبي ؟ قال "فلان" فنزلت هذه الآية {لا تَسْأَلوا عَنْ(2/129)
أَشْيَاءَ} رواه النضر وروح بن عبادة عن شعبة، وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع، ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج به.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية، قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر، فقال "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم" فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت يميناً ولا شمالاً إلا وجدت كلاً لافاً رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي ؟ قال "أبوك حذافة". قال: ثم قام عمر - أو قال: فأنشأ عمر - فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً عائذاً بالله - أو قال: أعوذ بالله من شر الفتن - قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم أرَ في الخير والشر كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط"، أخرجاه من طريق سعيد، ورواه معمر عن الزهري، عن أنس بنحو ذلك، أو قريباً منه. قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولداً أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية، فتفضحها على رؤوس الناس ؟ فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا قيس عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، محمار وجهه، حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي ؟ قال: "في النار" ، فقام آخر فقال: من أبي ؟ فقال " أبوك حذافة"، فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم من آباؤنا. قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية، إسناده جيد، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف، منهم أسباط عن السدي أنه قال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فقام خطيباً فقال "سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به" فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة، وكان يطعن فيه، فقال: يا رسول الله، من أبي ؟ فقال: أبوك فلان، فدعاه لأبيه، فقام إليه عمر بن الخطاب، فقبل رجله وقال: يا رسول الله، رضينا بالله رباً، وبك نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي فيومئذ قال "الولد للفراش، وللعاهر الحجر".
ثم قال البخاري: حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حتى فرغ من الآية كلها، تفرد به البخاري. وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وردان الأسدي، حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه، عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز، عن علي قال: لما نزلت هذه الآية {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام ؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام ؟ فسكت، قال: ثم قالوا: أفي كل عام ؟ فقال "لا"، ولو قلت: نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية، وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من طريق منصور بن وردان به، وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول: أبو البختري لم يدرك علياً. وقال ابن جرير:(2/130)
حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب عليكم الحج" فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال "من السائل ؟" فقال: فلان، فقال "والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم" ، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حتى ختم الآية، ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة وقال: فقام محصن الأسدي,وفي رواية من هذه الطريق عكاشة بن محصن، وهو أشبه، وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، حدثنا أبو يزيد عبد الرحمن أبي الغمر، حدثنا ابن مطيع معاوية بن يحيى عن صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فقال: "كتب عليكم الحج" فقام رجل من الأعراب فقال: أفي كل عام ؟ قال: فغلق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسكت، وأغضب واستغضب، ومكث طويلاً، ثم تكلم فقال "من السائل ؟" فقال الأعرابي: أناذا، فقال "ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم ؟ والله لو قلت: نعم لو جبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحرج، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض وحرمت عليكم منها موضع خف، لوقعتم فيه" قال: فأنزل الله عند ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} إلى آخر الآية، في إسناده ضعف، وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها، وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا حجاج قال: سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشم مولى الهمداني، عن زيد بن زائد، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً، فإني أحب أي أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " الحديث، وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل، قال أبو داود عن الوليد، وقال الترمذي عن إسرائيل عن السدي، عن الوليد بن أبي هاشم به، ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لكم {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، ثم قال {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عما كان منكم قبل ذلك {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. وقيل: المراد بقوله: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث "أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته " ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها، تبيت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها، {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" وفي الحديث الصحيح أيضاً "أن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها".
ثم قال تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم فأجيبوا عنها، ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين أي بسببها، أي بيّنت لهم فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد. وقال العوفي: عن ابن عباس في الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس فقال:(2/131)
"يا قوم كتب عليكم الحج" فقام رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله، أفي كل عام ؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فقال "والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذاً لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه" فأنزل هذه الآية، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت عنه النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء أن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك,ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه، رواه ابن جرير.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} قال: لما نزلت آية الحج، نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: "يا أيها الناس أن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا" فقالوا: يا رسول الله، أعاماً واحداً، أم كل عام ؟ فقال "لا بل عاماً واحداً، ولو قلت: كل عام لوجبت، ولو وجبت لكفرتم". ثم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} إلى قوله: {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} رواه ابن جرير. وقال خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} قال: هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، ألا ترى أنه قال بعدها {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} ولا كذا ولا كذا، قال: وأما عكرمة فقال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك، ثم قال {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} رواه ابن جرير، يعني عكرمة رحمه الله أن المراد من هذا النهي عن سؤال وقوع الآيات كما سألت قريش أن يجري لهم أنهاراً، وأن يجعل لهم الصفا ذهباً وغير ذلك، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتاباً من السماء. وقد قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.
{مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لألهتهم لا يحمل عليها شيء. قال: وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب" والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج إبل، بل تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم أن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينها ذكر، والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل، فلم يحمل عليه شيء، وسموه الحامي، وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث إبراهيم بن سعد به، ثم قال البخاري: قال لي أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: سمعت سعيداً يخبر بهذا. قال: وقال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ورواه ابن الهاد عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم: أراد البخاري(2/132)
أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بخت، عن الزهري، كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزي في الأطراف، وسكت ولم ينبه عليه، وفيما قاله الحاكم نظر، فإن الإمام أحمد وأبو جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن الزهري نفسه، والله أعلم.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس عن الزهري، عن عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً، ورأيت عمروًا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب" تفرد به البخاري. وقال ابن جرير: حدثنا هناد، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: "يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به، ولا به منك". فقال أكثم: تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي"، ثم رواه عن هناد، عن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو مثله، ليس هذان الطريقان في الكتب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن مجمع، حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار" ، تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن زيد بن أسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أول من سيب السوائب، وأول من غير دين إبراهيم عليه السلام" قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال "عمرو بن لحي أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قصبه في النار، تؤذي رائحته أهل النار، وإني لأعرف أول من بحر البحائر" قالوا: ومن هو يا رسول الله ؟ قال "رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك، فلقد رأيته في النار وهما يعضانه بأفواههما، ويطآنه بأخفافهما". عمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة، أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً } إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة، فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكراً ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء، وإن كان أنثى جدعوا آذانها، فقالوا: هذه بحيرة. وذكر السدي وغيره قريباً من هذا، وأما السائبة فقال مجاهد هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد، كانت على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكراً أو ذكرين ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم وقال محمد بن إسحاق. السائبة هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر، سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يحلب لبنها إلا لضيف. وقال أبو روق: السائبة كان الرجل إذا خرج فقضيت حاجته، سيب من ماله ناقة أو غيرها، فجعلها للطواغيت، فما ولدت من شيء كان لها. وقال السدي: كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته، أو عوفي من مرض، أو كثر ماله، سيب شيئاً من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عوقب بعقوبة في الدنيا.
وأما الوصيلة، فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى السابع،(2/133)
فإن كان ذكراً أو أنثىَ وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا، رواه ابن أبي حاتم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب {وَلا وَصِيلَةٍ} ، قال: فالوصيلة من الإبل كانت الناقة تبتكر بالأنثى، ثم ثنت بأنثى فسموها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم، وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى. وقال محمد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن، توأمين توأمين في كل بطن سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث، وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.
وأما الحامي: فقال العوفي عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا لقح فحله عشراً قيل: حام فاتركوه، وكذا قال أبو روق وقتادة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا: حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئاً ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حمى رعي، ومن حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه. وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: أما الحام فمن الإبل، كان يضرب في الإبل فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيبوه، وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية.
وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص الجشمي، عن أبيه مالك بن نضلة، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب، فقال لي "هل لك من مال ؟" فقلت: نعم. قال "من أي المال ؟" قال: فقلت: من كل المال: من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق، قال "فإذا آتاك الله مالاً فكثر عليك" ، ثم قال " تنتج إبلك وافية آذانها ؟" قال: قلت: نعم، وهل تنتج الإبل إلا كذلك ؟ قال "فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحيرة، تشق آذان طائفة منها وتقول: هذه حرم" قلت: نعم. قال "فلا تفعل أن كل ما آتاك الله لك حل"، ثم قال {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} . أما البحيرة، فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ول ابناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها.
وأما السائبة، فهي التي يسيبون لألهتهم ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة، فالشاة تلد ستة أبطن، فإذا ولدت السابع جدعت وقطع قرنها، فيقولون: قد وصلت فلا يذبحونها، ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض، هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجاً في الحديث.
وقد روي وجه آخر عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، من قوله، وهو أشبه، وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه به، وليس فيه تفسير هذه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، أي ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعاً لهم، وقربة يتقربون بها إليه، وليس ذلك بحاصل لهم بل هو وبال عليهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه، وترك ما حرمه، قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الاَباء والأجداد من الطرائق والمسالك. قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً} أي لا يفهمون حقاً ولا يعرفونه ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه، لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً.(2/134)
{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مّن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريباً منه أو بعيداً. قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال، ونهيته عنه من الحرام، فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به، كذا روى الوالبي عنه، وهكذا قال مقاتل بن حيان، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} نصب على الإغراء، {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازي كل عامل بعمله أن خيراً فخير وإن شراً فشر، وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكناً.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زهير يعني ابن معاوية، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، حدثنا قيس قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه". قال: سمعت أبا بكر يقول: يا أيها الناس إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان، وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة، عن إسماعيل بن أبي خالد به، متصلاً مرفوعاً، ومنهم من رواه عنه به موقوفاً على الصديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره، وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولاً في مسند الصديق رضي الله عنه.
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، حدثنا عمرو بن جارية اللخمي عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال: أية آية ؟ قلت: قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم" قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلاً منا أو منهم ؟ قال "بل أجر خمسين منكم"، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح، وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك، ورواه ابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عتبة بن أبي حكيم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله عنه، سأله رجل عن قول الله {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فقال: أن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل. ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع، عن أبي العالية، عن ابن مسعود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} الآية، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما(2/135)
بالمعروف، وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية. قال: فسمعها ابن مسعود، فقال: مه لم يجىء تأويل هذه بعد، أن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعاً، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية، ورواه ابن جرير.
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا الربيع بن صبيح، عن سفيان بن عقال قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام، فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا فليبلغ الشاهد الغائب" فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا أن قالوا لم يقبل منهم. وقال أيضاً: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم، قالا: حدثنا عوف عن سوار بن شبيب قال: كنت عند ابن عمر إذ أتاه رجل جليد العين شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك، فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم بالشرك ؟ فقال رجل: إني لست إياك أسأل، إنما أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله الحديث فقال عبد الله: لعلك ترى - لا أبا لك - إني سآمرك أن تذهب فتقتلهم، عظهم وانههم، وإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله عز وجل يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية.
وقال أيضاً: حدثني أحمد بن المقدام، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا قتادة عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} فقال أكثرهم: لم يجىء تأويل هذه الآية اليوم. وقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا ابن فضالة عن معاوية بن صالح، عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فأقبلوا عليّ بلسان واحد، وقالوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها ؟ فتمنيت أني لم أكن تكلمت، وأقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال: تلا الحسن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله. وقال سعيد بن المسيب: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت، رواه ابن جرير. وكذا روي من طريق سفيان الثوري، عن أبي العميس، عن أبي البختري، عن حذيفة مثله. وكذا قال غير واحد من السلف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن كعب في قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ(2/136)
لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: إذا هدمت كنيسة دمشق فجعلت مسجداً، وظهر لبس العصب، فحينئذٍ تأويل هذه الآية.
{يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أن أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُم مّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ أن ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنّآ إِذَاً لّمِنَ الاََثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَىَ أَنّهُمَا اسْتَحَقّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنّا إِذاً لّمِنَ الظّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أن يَأْتُواْ بِالشّهَادَةِ عَلَىَ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوَاْ أن تُرَدّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز قيل إنه منسوخ، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم: أنها منسوخة. وقال آخرون: وهم الأكثرون فيما قاله ابن جرير، بل هو محكم، ومن ادعى نسخه فعليه البيان، فقوله تعالى: {حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم، فقيل: تقديره شهادة اثنين حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان. وقوله تعالى : {ذَوَا عَدْلٍ} وصف الاثنين بأن يكونا عدلين. وقوله: {مِنْكُمْ} أي من المسلمين. قاله الجمهور. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: من المسلمين، رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم نحو ذلك. قال ابن جرير: وقال آخرون: غير ذلك {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي من أهل الموصي، وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن عون، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: من غير المسلمين، يعني أهل الكتاب، ثم قال وروي عن عبيدة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، نحو ذلك. وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله منكم، أن المراد من قبيلة الموصي يكون المراد ههنا {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير قبيلة الموصي. وروى ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري والزهري رحمهما الله.
وقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي سافرتم {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما صرح بذلك شريح القاضي. قال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: حدثنا الأعمش عن إبراهيم، عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في الوصية، ثم رواه عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال شريح فذكر(2/137)
مثله. وقد روي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهذه المسألة من أفراده، وخالفه الثلاثة فقالوا: لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين، وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضاً.
وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو داود، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال: مضت السنة أنه لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية ثم نسخت الوصية، وفرضت الفرائض وعمل الناس بها، رواه ابن جرير، وفي هذا نظر، والله أعلم. وقال ابن جرير: اختلف في قوله: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما ؟ على قولين:
(أحدهما) أن يوصي إليهما، كما قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية. قال: هذا رجل سافر ومعه مال، فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع.
(والقول الثاني) أنهما يكونان شاهدين، وهو ظاهر سياق الآية الكريمة فإن لم يكن وصي ثالث معهما، اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشهادة، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء، كما سيأتي ذكرهما آنفاً أن شاء الله وبه التوفيق.
وقد استشكل ابن جرير كونهما شاهدين قال: لأنا لا نعلم حكماً يحلف فيه الشاهد، وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، وهو حكم مستقل بنفسه لا يلزم أن يكون جارياً على قياس جميع الأحكام، على أن هذا حكم خاص، بشهادة خاصة، في محل خاص، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره، فإذا قامت قرينة الريبة، حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة. وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} قال العوفي، قال ابن عباس، يعني صلاة العصر، وكذا قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وعكرمة ومحمد بن سيرين. وقال الزهري: يعني صلاة المسلمين. وقال السدي، عن ابن عباس: يعني صلاة أهل دينهما. وروي عن عبد الرزاق، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة. وكذا قال إبراهيم وقتادة وغير واحد. والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أي فيحلفان بالله {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي أن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا، فيحلفان حينئذ بالله {لا نَشْتَرِي بِهِ} أي بأيماننا، قاله مقاتل بن حيان {ثَمَناً} أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة {لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي ولو كان المشهود عليه قريباً لنا لا نحابيه {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} أضافها إلى الله تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها، وقرأ بعضهم {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} مجروراً على القسم رواها ابن جرير، عن عامر الشعبي، وحكي عن بعضهم أنه قرأها {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} والقراءة الأولى هي المشهورة {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} أي أن فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئاً من المال الموصى به إليهما، وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} هذه قراءة الجمهور {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} وروي عن علي وأبي الحسن البصري أنهم قرؤوها {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوليان} وروى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفروي عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي(2/138)
بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ}، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وقرأ بعضهم ومنهم ابن عباس {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأولين}. وقرأ الحسن {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأولان} حكاه ابن جرير، فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة، وليكونا من أولى من يرث ذلك المال {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي لقولنا أنهما خانا، أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة {وَمَا اعْتَدَيْنَا} أي فيما قلنا فيهما من الخيانة، {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي أن كنا قد كذبنا عليهما، وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام، وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن زياد، حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان يعني أبا صالح مولى أم هانىء بنت أبي طالب، عن ابن عباس، عن تميم الداري في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قال: برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة، معه جام من فضة يريد به الملك، وهو أعظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمناه أنا وعدي، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام، فسألونا عنه، قلنا: ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثمت من ذلك، فأتيت أهله، فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى قوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم، فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بدّاء، وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق به، فذكره، وعنده: فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة، فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء، ثم قال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بصحيح، وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث، هو عندي محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر، ثم قال: ولا نعرف لأبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانىء.
وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه، حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا يحيى بن آدم عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته، فقدوا جاماً من فضة مخوّصاً بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد الجام بمكة، فقيل: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية،(2/139)
وكذا رواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يحيى بن آدم به، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة، وأحمد بن أبي القاسم الكوفي، قيل: إنه صالح الحديث.
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين منهم عكرمة ومحمد بن سيرين وقتادة، وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر، رواه ابن جرير، وكذا ذكرها مرسلة مجاهد والحسن والضحاك، وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها، ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضاً ما رواه أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا هشيم قال: أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه، قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فأخبراه، وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا، ولا كتما، ولا غيرا، وأنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتها، ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي أن أبا موسى قضى بدقوقا، وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي، عن أبي موسى الأشعري، فقوله: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخراً يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام، والله أعلم.
وقال أسباط عن السدي في الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه، قال: هذا في الحضر {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} في السفر { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} هذا الرجل يدركه الموت في سفره، وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه، فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم، تركوهما، وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان، فذلك قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: كأني أنظر إلى العلجين حتى انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخوفوهما، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت: إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن أستحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين، أن صاحبهم بهذا أوصى، وأن هذه لتركته، فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما أن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما، فإذا قال لهما ذلك {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا هشيم، أخبرنا مغيرة عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية، قالا: إذا حضر الرجل الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب، فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة قبل قولهما، وإن اتهموهما حلفا بعد صلاة العصر، بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: فإن أرتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر:(2/140)
بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمناً قليلاً، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا: بالله أن شهادة الكافرين باطلة وأنا لم نعتد، فذلك قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يقول: أن اطلع على أن الكافرين كذبا {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يقول: من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء، وهكذا روى العوفي عن ابن عباس، رواهما ابن جرير، وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} أي شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين، واستريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي. وقوله: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس أن ردت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقون ما يدعون، ولهذا قال {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، ثم قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في جميع أموركم، {وَاسْمَعُوا} أي وأطيعوا، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ}
هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم، كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقول الرسل {لا عِلْمَ لَنَا}، قال مجاهد والحسن البصري والسدي: إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم. قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيفزعون فيقولون {لا عِلْمَ لَنَا}، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا حكام، حدثنا عنبسة قال: سمعت شيخاً يقول: سمعت الحسن يقول في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} الآية، قال: من هول ذلك اليوم.
وقال أسباط عن السدي {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} ذلك أنهم نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا {لا عِلْمَ لَنَا} ثم نزلوا منزلاً آخر، فشهدوا على قومهم، رواه ابن جرير، ثم قال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا {لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} يقولون للرب عز وجل: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، رواه ابن جرير، ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة، ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الرب جل جلاله، أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا من أجابنا، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم، فإنك {أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.
{إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىَ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ(2/141)
النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَىَ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ أن هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أن آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنّا وَاشْهَدْ بِأَنّنَا مُسْلِمُونَ}
يذكر تعالى ما امتنّ به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات الباهرات وخوارق العادات، فقال {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء، {وَعَلَى وَالِدَتِكَ} حيث جعلتك لها برهاناً على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة، {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} وهو جبريل عليه السلام، وجعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيراً، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوت إلى عبادتي، ولهذا قال {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك وضمّن تكلم تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب.
وقوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي الخط والفهم {والتوراة} وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم، وقد يرد لفظ التوراة في الحديث، ويراد به ما هو أعم من ذلك. وقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} أي تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك، فتكون طيراً بإذني أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك فتكون طيراً ذا روح تطير بإذن الله وخلقه.
وقوله تعالى: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته. وقوله: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا محمد بن طلحة يعني ابن مصرف، عن أبي بشر، عن أبي الهذيل، قال: كان عيسى ابن مريم عليه السلام إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين، يقرأ في الأولى {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، وفي الثانية {الم تَنْزِيلُ} السجدة، فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه، ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد، وكان إذا أصابته شديدة دعا بسبعة أخر: يا حي، يا قيوم، يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام، يا نور السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، يا رب، وهذا أثر عجيب جداً.
وقوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك فنجيتك منهم، ورفعتك إلي، وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم، وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا، أو يكون هذا(2/142)
الامتنان واقعاً يوم القيامة، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة، وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وهذا أيضاً من الامتنان عليه، عليه السلام، بأن جعل له أصحاباً وأنصاراً، ثم قيل: أن المراد بهذا الوحي وحي إلهام، كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية، وهو وحي إلهام بلا خلاف، وكما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} الآية، وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية {مُسْلِمُونَ} أي ألهموا ذلك، فامتثلوا ما ألهموا. قال الحسن البصري: ألهمهم الله عز وجل ذلك. وقال السدي: قذف في قلوبهم ذلك، ويحتمل أن يكون المراد وإذ أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان با لله وبرسوله واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك، فقالوا {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيّونَ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ قَالَ اتّقُواْ اللّهَ أن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أن نّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّيَ أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ}
هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال سورة المائدة، وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة، وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين، فا لله أعلم، فقوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم أتباع عيسى عليه السلام {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هذه قراءة كثيرين، وقرأ آخرون {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} أي هل تستطيع أن تسأل ربك {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} والمائدة هي الخوان عليه الطعام، وذكر بعضهم: أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم، فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم: اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق أن كنتم مؤمنين، {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} أي نحن محتاجون إلى الأكل منها، {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء، {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي ونشهد أنها الآية من عند الله، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به. {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان الثوري: يعني يوماً نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وعن سلمان الفارسي: عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل: كافية لأولنا وآخرنا { وَآيَةً مِنْكَ} أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك،(2/143)
{وَارْزُقْنَا} أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها، {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} أي من عالمي زمانكم، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}، وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، وقد روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي المغيرة القواس، عن عبد الله بن عمرو قال: أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.
ذكر أخبار رويت عن السلف في نزول المائدة على الحواريين
قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين، حدثني حجاج عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير، قلت لنا: أن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا حين نفرغ طعاماً، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات، وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم، كذا رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: كان ابن عباس يحدث، فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد، حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء، قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها، عليها سبعة أحوات، وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس، عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير، وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة، ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن جلاس، عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة، فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا، قال: فخان القوم وخبأوا وادخروا، فمسخهم الله قردة وخنازير".
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود عن سماك بن حرب، عن رجل من بني عجل، قال: صليت إلى جانب عمار بن ياسر، فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال: قلت: لا. قال: إنهم سألوا عيسى بن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا، فإن فعلتم فإني معذبكم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا، فعذبوا عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء، فبعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم،(2/144)
ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة، وأيم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذاباً أليماً. وقال: حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثني حجاج عن أبي معشر، عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة، نزلت على عيسى بن مريم، عليها سبعة أرغفة، وسبعة أحوات، يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً، فرفعت.
وقال العوفي عن ابن عباس: نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خصيف، عن عكرمة ومقسم، عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة وأرغفة، وقال مجاهد: هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزاً وسمكاً. وقال عطية العوفي: المائدة سمك فيه طعم كل شيء. وقال وهب بن منبه: أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى، فكان يقعد عليها أربعة آلاف، وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم، فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات، وحشا الله بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون، ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون، حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير: أنزل عليها كل شيء إلا اللحم. وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير، عن عطاء، عن ميسرة، قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم وعن عكرمة: كان خبز المائدة من الأرز، رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار، عن إبراهيم بن عمر، عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الخير، أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة، كره ذلك جداً، فقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء، فإنها أن نزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها، فأبوا إلا أن يأتيهم بها، فلذلك {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} الآية، فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها، قام فألقى عنه الصوف، ولبس الشعر الأسود، وجبة من شعر، وعباءة من شعر، ثم توضأ واغتسل، ودخل مصلاة فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته، قام قائماً مستقبل القبلة، وصف قدميه حتى استويا، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره، وطأطأ رأسه خشوعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك دعا الله فقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها، وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضّة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفاً من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها، أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين، وهو يدعو الله في مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة لهم، ولا تجعلها عذاباً، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شاكرين، اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضباً ورجزاً، إلهي اجعلها سلامة وعافية، ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسي والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط، وخر عيسى والحواريون لله سجداً شكراً له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة، وأقبلت اليهود ينظرون، فرأوا أمراً عجيباً أورثهم كمداً وغماً، ثم انصرفوا بغيظ شديد، وأقبل عيسى(2/145)
والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة، وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه. فليكشف عن هذه الآية حتى نراها، ونحمد ربنا، ونذكر باسمه، ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك، وأحقنا بالكشف عنها، فقام عيسى عليه السلام واستأنف وضوءاً جديداً، ثم دخل مصلاه، فصلى كذلك ركعات، ثم بكى بكاء طويلاً، ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقاً، ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل، وقال: بسم الله خير الرازقين، وكشف عن السفرة، فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير، ليس في جوفها شوك، يسيل السمن منها سيلاً، قد نُضّدَ بها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر خمس رمانات، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا، أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى: أما أن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية ؟ فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالاً يا ابن الصديقة، فقال عيسى عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة، فقال له: كن فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم، يمدكم منه ويزدكم، فإنه بديع قادر شاكر، فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن يرينا الله آية في هذه الآية، فقال عيسى: سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى عليه السلام على السمكة، فقال: يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت، فأحياها الله بقدرته، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية، تلمظ كما يتلمظ الأسد، تدور عيناها، لها بصيص، وعادت عليها بواسيرها، ففزع القوم منها وانحازوا، فلما رأى عيسى منهم ذلك قال: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون، يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت، فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول، فقالوا: يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد، فقال عيسى: معاذ الله من ذلك، يبدأ بالأكل من طلبها، فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها، خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة، فتحاموها، فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء وألزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله، ففعلوا فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ، ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون، فا ستغنى كل فقير أكل منها، وبرىء كل زمن أكل منها، فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات، قال: وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضاً، الأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، والأصحاء والمرضى، يركب بعضهم بعضاً، فلما رأى ذلك جعلها نوباً بينهم تنزل يوماً ولا تنزل يوماً، فلبثوا على ذلك أربعين يوماً تنزل عليهم غباً عند ارتفاع الضحىَ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا، ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم. قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه السلام:(2/146)
أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى، وألزمنى دون الأغنياء من الناس، وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم، وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى، أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق، فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير ؟ فقال عيسى عليه السلام: هلكتم وإله المسيح، طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة لكم ورزقاً، وأراكم فيها الآيات والعبر، كذبتم بها، وشككتم فيها، فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله، فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. قال: فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل، مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات، هذا أثر غريب جداً، قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى أعلم. وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم، إجابة من الله لدعوته، كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} الآية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل، فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله: أنزل علينا مائدة من السماء، قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا القاسم هو ابن سلام، حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب أن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم، وقال أيضاً: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل، وحدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل، وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى، وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم، ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى: { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق، وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب، وجد المائدة هنالك مرصعة باللألىء وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق، فمات وهي في الطريق، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده، فرآها الناس فتعجبوا منها كثيراً لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة، ويقال: أن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما السلام، فالله أعلم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم، عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال "وتفعلون ؟" قالوا نعم. قال فدعا، فأتاه جبريل فقال: أن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: أن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال "بل باب التوبة والرحمة" ثم رواه أحمد وابن مردويه، والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري به.(2/147)
{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيَ أن أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ أن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أن اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
هذا أيضاً مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام قائلاً له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد، هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} وقال السدي: هذا الخطاب والجواب في الدنيا، وصوبه ابن جرير قال: وكان ذلك حين رفعه إلى سماء الدنيا واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين:
(أحدهما) أن الكلام بلفظ المضي.
(والثاني) قوله : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} و {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} وهذان الدليلان فيهما نظر، لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية، التبري منهم، ورد المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه كما في نظائر ذلك من الآيات، والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر، والله أعلم، أن ذلك كائن يوم القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة، قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة، دعي بالأنبياء وأممهم، ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها، فيقول {عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} الآية، ثم يقول {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون: نعم هو أمرنا بذلك. قال: فيطول شعر عيسى عليه السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده، فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار " وهذا حديث غريب عزيز.
وقوله: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عمرو، عن طاوس، عن أبي هريرة قال: يُلَقّى عيسى حجته، ولقاه الله تعالى في قوله: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلقاه الله {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى آخر الآية، وقد رواه الثوري عن معمر، عن ابن طاوس، عن طاوس بنحوه.
وقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} أي أن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب، فإنه لا يخفى عليك شيء، فما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته، ولهذا قال {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} بإبلاغه {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني(2/148)
بإبلاغه {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي هذا هو الذي قلت لهم. وقوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة قال: انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان، فأملى على سفيان وأنا معه، فلما قام انتسخت من سفيان فحدثنا قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة، عراة، غرلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيقال: أن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" ورواه البخاري عند هذه الآية عن أبي الوليد، عن شعبة، وعن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، كلاهما عن المغيرة بن النعمان به.
وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله، وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل، حدثني فليت العامري، عن جسرة العامرية، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فلما أصبح، قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية، حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ؟ قال "إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة أن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً".
(طريق أخرى وسياق آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا قدامة بن عبد الله، حدثتني جسرة بنت دجاجة أنها انطلقت معتمرة، فانتهت إلى الربذة، فسمعت أبا ذر يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلفهم، انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان، رجع إلى مكانه يصلي، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إليّ بيمينه، فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا. يصلي كل واحد منا بنفسه، ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو، وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة، فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود، أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة، فقال ابن مسعود بيده: لا أسأله عن شيء، حتى يحدث إليّ، فقلت: بأبي وأمي، قمت بآية من القرآن ومع(القرآن، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال "دعوت لأمتي"، قلت: فماذا أجبت أو ماذا رد عليك ؟ قال " أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة" قلت: أفلا أبشر الناس ؟ قال "بلى" فانطلقت معنقاً، قريباً من قذفة بحجر، فقال عمر: يا رسول الله إنك أن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادات، فناداه أن "ارجع" فرجع، وتلك الآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2/149)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فرفع يديه، فقال: "اللهم أمتي" وبكى، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيه، فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين قال: حدثنا ابن لهيعة، حدثنا ابن هبيرة، أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: حدثني سعيد بن المسيب، سمعت حذيفة بن اليمان يقول: غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نفسه قد قبضت فيها، فلما رفع رأسه قال "إن ربي عز وجل استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم ؟ فقلت: ما شئت أي رب، هم خلقك وعبادك، فاستشارني الثانية فقلت له كذلك، فقال لي: لا أخزيك في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً، مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب. ثم أرسل إليّ فقال: ادع تجب وسل تعط، فقلت لرسوله: أَوَمعطيّ ربي سؤلي ؟ فقال: ما أرسلني إليك إلا ليعطيك.، ولقد أعطاني ربي ولا فخر، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأنا أمشي حياً صحيحاً، وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة، وطيب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج".
{قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ للّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنّ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
يقول تعالى مجيباً لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام، فيما أنهاه إليه من التبري من النصاري الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عز وجل، فعند ذلك يقول تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} قال الضحاك: عن ابن عباس يقول: يوم ينفع الموحدين توحيدهم، {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أي ماكثين فيها لا يحولون ولا يزولون، رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث، وروى ابن أبي حاتم ها هنا حديثاً عن أنس فقال: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا المحاربي عن ليث عن عثمان، يعني ابن عمير، أخبرنا اليقظان عن أنس مرفوعاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: "ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله، فيقول: سلوني سلوني أعطكم - قال - فيسألونه الرضا فيقول رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي فسلوني أعطكم، فيسألونه الرضا - قال - فيشهدهم أنه قد رضي عنهم سبحانه وتعالى" .
وقوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه، كما قال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} وكما قال {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} وقوله: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} أي هو الخالق للأشياء، المالك لها، المتصرف فيها، القادر عليها، فالجميع ملكه وتحت فهره وقدرته، وفي مشيئته، فلا نظير له، ولا وزير، ولا عديل، ولا والد، ولا ولد، ولا صاحبة، ولا إله غيره، ولا رب سواه، قال ابن وهب: سمعت حيي بن عبد الله يحدث عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال آخر سورة أنزلت سورة المائدة.(2/150)
سورة الأنعام
قال العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس، أنزلت سورة الأنعام بمكة. وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح. وقال سفيان الثوري، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قالت: نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة، وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، أن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة. وقال شريك. عن ليث، عن شهر، عن أسماء قالت: نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة، وقد طبقوا ما بين السماء والأرض. وقال السدي، عن مرة عن عبد الله، قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة، وروي نحوه من وجه آخر، عن ابن مسعود. وقال الحاكم في مستدركه. حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل، قالا: حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي، أخبرنا جعفر بن عون، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، حدثنا محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: لما نزلت سورة الأنعام، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق" ثم قال صحيح على شرط مسلم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا إبراهيم ابن درستويه الفارسي، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي، عن نافع بن مالك بن أبي سهيل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة، سد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتج" ورسول الله يقول "سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم" ثم روى ابن مردويه، عن الطبراني، عن إبراهيم بن نائلة، عن إسماعيل بن عمر، عن يوسف بن عطية، عن ابن عون، عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفاً من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد".
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{الْحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمّ قَضَىَ أَجَلاً وَأَجَلٌ مّسمّى عِندَهُ ثُمّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللّهُ فِي السّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}
يقول الله تعالى مادحاً نفسه الكريمة وحامداً لها على خلقه السموات والأرض قراراً لعباده. وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم، فجمع لفظ الظلمات، ووحد لفظ النور، لكونه أشرف، كقوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ والشمائل} وكما قال في آخر هذه السورة {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ثم قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي ومع هذا كله كفر به(2/151)
بعض عباده، وجعلوا له شريكاً وعدلاً، واتخذوا له صاحبة وولداً، تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} يعني أباهم آدم، الذي هو أصلهم، ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب! وقوله: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} يعني الموت {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} يعني الآخرة، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، والحسن وقتادة والضحاك، وزيد بن أسلم وعطية والسدي، ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقول الحسن في رواية عنه {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث، هو يرجع إلى ما تقدم، وهو تقدير الأجل الخاص، وهو عمر كل إنسان وتقدير الأجل العام، وهو عمر الدنيا بكمالها، ثم انتهائها وانقضائها وزوالها,! وانتقالها والمصير إلى الدار الآخرة، وعن ابن عباس ومجاهد، {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} يعني مدة الدنيا، {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} يعني عمر الإنسان إلى حين موته، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} الآية، وقال عطية: عن ابن عباس {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} يعني النوم، يقبض فيه الروح، ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة، {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} يعني أجل موت الإنسان، وهذا قول غريب، ومعنى قوله: {عِنْدَهُ} أي لا يعلمه إلا هو، كقوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} وكقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} قال السدي وغيره: يعني تشكون في أمر الساعة، وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول القائلين، تعالى عن قولهم علواً كبيراً، بأنه في كل مكان، حيث حملوا الآية على ذلك،
فالأصح من الأقوال : أنه المدعو الله في السموات وفي الأرض، أي يعبده ويوحده ويقرّ له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله ويدعونه رغباً ورهباً، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أي هو إله من في السماء، وإله من في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} خبراً أو حالاً.
(والقول الثاني) أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، من سر وجهر، فيكون قوله يعلم، متعلقاً بقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} تقديره، وهو الله يعلم سركم وجهركم، في السموات وفي الأرض، ويعلم ما تكسبون،
(والقول الثالث) أن قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} وقف تام، ثم استأنف الخبر، فقال {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وهذا اختيار ابن جرير، وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.
{وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السّمَآءَ عَلَيْهِم مّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين المكذبين المعاندين، أنهم مهما أتتهم من آية أي دلالة ومعجزة وحجة من الدلالات، على وحدانية الله وصدق رسله الكرام، فإنهم يعرضون عنها، فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها، قال(2/152)
الله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وهذا تهديد لهم,ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدن غبه وليذوقن وباله، ثم قال تعالى واعظاً لهم ومحذراً لهم، أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم، من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة، وأكثر جمعاً وأكثر أموالاً وأولاداً واستغلالاً للأرض، وعمارة لها، فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} أي من الأموال والأولاد والأعمار، والجاه العريض والسعة والجنود، ولهذا قال {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً} أي شيئاً بعد شيء {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} أي أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض، أي استدراجاً وإملاء لهم {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي بخطاياهم، وسيئاتهم التي اجترحوها { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} أي فذهب الأولون كأمس الذاهب، وجعلناهم أحاديث، {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} أي جيلاً آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم، فأهلكوا كإهلاكهم، فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنتم أولى بالعذاب، ومعاجلة العقوبة منهم، لولا لطفه وإحسانه.
{وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ أن هَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ وَقَالُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لّقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ ثُمّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق، ومباهتتهم ومنازعتهم فيه، {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أي عاينوه ورأوا نزوله، وباشروا ذلك، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} وهذا كما قال تعالى مخبراً عن مكابرتهم للمحسوسات { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } وكقوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي ليكون معه نذيراً، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} أي لو نزلت الملائكة على ما هم عليه، لجاءهم من الله العذاب، كما قال الله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} وقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} الآية. وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي ولو أنزلنا مع الرسول البشري ملكاً، أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً ملكياً، لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لا لتبس عليهم الأمر، كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري، كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} فمن رحمته تعالى بخلقه، أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلاً منهم، ليدعو بعضهم بعضاً، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض، في المخاطبة والسؤال، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} الآية، قال الضحاك عن ابن عباس في الآية يقول: لو(2/153)
أتاهم ملك، ما أتاهم إلا في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور، {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون، وقال الوالبي عنه: ولشبهنا عليهم. وقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة، في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي فكروا في أنفسكم، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية، الذين كذبوا رسله، وعاندوهم، من العذاب والنكال والعقوبة في الدنيا، مع ما ادخر لهم من العذاب الأليم، في الآخرة، وكيف نجى رسله وعباده المؤمنين.
{قُل لّمَن مّا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُل للّهِ كَتَبَ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّيَ أُمِرْتُ أن أَكُونَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ قُلْ إِنّيَ أَخَافُ أن عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهما، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة,كما ثبت في الصحيحين، من طريق الأعمش: عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لما خلق الخلق، كتب كتاباً عنده فوق العرش، أن رحمتي تغلب غضبي" وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} هذه اللام هي الموطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة، ليجمعن عباده {إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه، أي لا شك فيه عند عباده المؤمنين، فأما الجاحدون المكذبون، فهم في ريبهم يترددون، وقال ابن مردويه عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عقبة، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا حسين بن محمد، حدثنا محصن بن عتبة اليماني، عن الزبير بن شبيب، عن عثمان بن حاضر، عن ابن عباس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين، هل فيه ماء ؟ قال: "والذي نفسي بيده أن فيه لماء، أن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء,ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك، في أيديهم عصي من نار، يذودون الكفار عن حياض الأنبياء" ، هذا حديث غريب، وفي الترمذي "إن لكل نبي حوضاً، وأرجو أن أكون أكثرهم وارداً" وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي يوم القيامة {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون بالمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم، ثم قال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي كل دابة في السموات والأرض الجميع عباده وخلقه، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم، ثم قال تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله المستقيم {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} والمعنى لا أتخذ ولياً إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ومبدعهما، على غير مثال سبق {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الآية، وقرأ بعضهم ههنا {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي لا(2/154)
يأكل، وفي حديث سهيل بن صالح: عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: دعا رجل من الأنصار، من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم على طعام، فانطلقنا معه، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه، قال "الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، ومن علينا فهدانا وأطعمنا، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله غير مودع ربي ولا مكافاً ولا مكفور، ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضلال، وبصرنا من العمى، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين" {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي من هذه الأمة {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} أي العذاب {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} يعني رحمه الله {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} كقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} والفوز حصول الربح، ونفي الخسارة.
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدُيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ هَذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أن مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَىَ قُل لاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ}
يقول تعالى مخبراً: أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كقوله تعالى : {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} الآية، وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} أي وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه، وعظمته وعلوه، وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه، وتحت قهره وحكمه، {وَهُوَ الْحَكِيمُ} أي في جميع أفعاله {الْخَبِيرُ} بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا من يستحق، ولا يمنح إلا من يستحق، ثم قال {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أي من أعظم الأشياء شهادة { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أي هو العالم بما جئتكم به، وما أنتم قائلون لي، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي وهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع وأبو أسامة، وأبو خالد، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، في قوله: {وَمَنْ بَلَغَ} من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد أبو خالد وكلمه، ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر: عن محمد بن كعب، قال: من بلغه القرآن، فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الرزاق: عن معمر عن قتادة، في قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله" وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر،(2/155)
وقوله: {إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} أيها المشركون {أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} كقوله: { فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} {قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ثم قال تعالى مخبراً عن أهل الكتاب: أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به، كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار والأنباء، عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته، وبلده ومهاجره وصفة أمته، ولهذا قال بعده {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي خسروا كل الخسارة {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ونوهت به في قديم الزمان وحديثه ثم قال {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي لا أظلم ممن تقوّل على الله، فادعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله، وحججه وبراهينه ودلالاته، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ نَقُولُ لِلّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أن قَالُواْ وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَمِنْهُمْ مّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أن يَفْقَهُوهُ وَفِيَ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتّىَ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أن هَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن المشركين {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يوم القيامة، فيسألهم عن الأصنام والأنداد، التي كانوا يعبدونها من دونه، قائلاً لهم { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} كقوله تعالى في سورة القصص {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} أي حجتهم وقال عطاء الخراساني عنه: أي معذرتهم، وكذا قال قتادة. وقال ابن جريج، عن ابن عباس: أي قيلهم وكذا قال الضحاك وقال عطاء الخراساني، {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} بليتهم حين ابتلوا {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال جرير: والصواب ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم، اعتذاراً عما سلف منهم من الشرك بالله، {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو ابن أبي قيس، عن مطرف، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال: يا ابن عباس، سمعت الله يقول {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال أما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة، إلا أهل الصلاة، فقالوا: تعالوا فلنجحد فيجحدون، فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثاً، فهل في قلبك الآن شيء ؟ إنه ليس من القرآن إلا ونزل فيه شيء ولكن لا تعلمون وجهه. وقال الضحاك عن ابن عباس: هذه في المنافقين، وفيه نظر، فإن هذه الآية مكية، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ}، الآية، وهكذا قال في حق هؤلاء { انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} كقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} الآية. وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا(2/156)
بِهَا} أي يجيئون ليستمعوا قراءتك، ولا تجزي عنهم شيئاً لأن الله جعل { عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي أغطية، لئلا يفقهوا القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} أي صمماً عن السماع النافع لهم، كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} الآية، وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين، لا يؤمنوا بها فلا فهم عندهم ولا إنصاف، كقوله تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} الآية. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} أي يحاجونك ويناظرونك، في الحق بالباطل، {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي ما هذا الذي جئت به، إلا مأخوذاً من كتب الأوائل، ومنقول عنهم، وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} في معنى ينهون عنه قولان:
(أحدهما): أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول والانقياد للقرآن، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي ويبعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون ولا يدعون أحداً ينتفع، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} يردون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم، أن يؤمنوا به. وقال محمد بن الحنفية: كان كفار قريش لا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم وينهون عنه، وكذا قال قتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد، وهذا القول أظهر، والله أعلم، وهو اختيار ابن جرير
(والقول الثاني) رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: نزلت في أبي طالب، كان ينهى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى، وكذا قال القاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار، وغيره، أنها نزلت في أبي طالب وقال سعيد بن أبي هلال: نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر، رواه ابن أبي حاتم، وقال محمد بن كعب القرظي {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي ينهون الناس عن قتله، وقوله: {وينأون عنه} أي يتباعدون منه {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي وما يهلكون بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وهم لا يشعرون.
{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النّارِ فَقَالُواْ يَلَيْتَنَا نُرَدّ وَلاَ نُكَذّبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُوَاْ أن هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَىَ وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}
يذكر تعالى حال الكفار، إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك، قالوا {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملاً صالحاً، ولا يكذبوا بآيات ربهم، ويكونوا من المؤمنين، قال الله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} أي بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، كما قال قبله بيسير {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم، من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كقوله مخبراً عن موسى، أنه قال لفرعون {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} الآية، وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين، الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر، ويكون هذا إخباراً عما(2/157)
يكون يوم القيامة، من كلام طائفة من الكفار، ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية، وهي العنكبوت، فقال {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} وعلى هذا فيكون إخباراً عن قول المنافقين في الدار الآخرة، حين يعاينون العذاب، فظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق، والله أعلم، وأما معنى الإضراب، في قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي في طلبهم الرجعة، رغبة ومحبة في الإيمان، ثم قال مخبراً عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، من الكفر والمخالفة {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي في قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين، وقالوا أن هي إلا حياتنا الدنيا، وما نحن بمبعوثين، أي لعادوا لما نهوا عنه، ولقالوا أن هي إلا حياتنا الدنيا أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها، ولهذا قال وما نحن بمبعوثين ثم قال {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي أوقفوا بين يديه قال {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ؟} أي أليس هذا المعاد بحق، وليس بباطل كما كنتم تظنون، {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بما كنتم تكذبون به، فذوقوا اليوم مسه {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}.
{قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِلِقَآءِ اللّهِ حَتّىَ إِذَا جَآءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَحَسْرَتَنَا عَلَىَ مَا فَرّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىَ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدّارُ الآخرة خَيْرٌ لّلّذِينَ يَتّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
يقول تعالى مخبراً عن خسارة من كذب بلقائه، وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة، وعن ندامته على ما فرط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعل، ولهذا قال {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة، وعلى الأعمال وعلى الدار الآخرة، أي في أمرها، وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي يحملون، وقال قتادة يعملون، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمرو بن قيس، عن أبي مرزوق، قال: يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره، كأقبح صورة رأيتها، وأنتنه ريحاً، فيقول من أنت ؟ فيقول أوَ مَا تعرفني، فيقول: لا والله، إلا أن الله قبح وجهك، وأنتن ريحك، فيقول: أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا هلم أركبك، فهو قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} الآية، وقال أسباط عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يدخل قبره، إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، وعليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك ؟ قال: كذلك كان عملك قبيحاً، قال: ما أنتن ريحك ؟ قال: كذلك كان عملك منتناً، قال: ما أدنس ثيابك ؟ قال: فيقول: أن عملك كان دنساً، قال له: من أنت ؟ قال: عملك، قال: فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني، قال: فيركب على ظهره، فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي إنما غالبها كذلك {وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}.(2/158)
{قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىَ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتّىَ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نّبَإِ الْمُرْسَلِينَ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرْضِ أَوْ سُلّماً فِي السّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنّمَا يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم، في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك، وحزنك وتأسفك عليهم، كقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} كما قال تعالى في الآية الأخرى {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي ولكنهم يعاندون الحق، ويدفعونه بصدورهم، كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي، قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به" ، فأنزل الله {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ورواه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة، حدثنا بشر بن المبشر الواسطي، عن سلام بن مسكين، عن أبي يزيد المدني، أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابى ؟ فقال: والله إني لأعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعاً ؟ وتلا أبو يزيد {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون، وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل، حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، هو وأبو سفيان صخر بن حرب، والأخنس بن شريق، ولا يشعر أحد منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هجم الصبح تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك ؟ فذكر له ما جاء به، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم، لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم، ظناً أن صاحبيه لا يجيئان، لما سبق من العهود، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضاً، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال: ماذا سمعت ؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه.
وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا(2/159)
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} لما كان يوم بدر، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة أن محمداً ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته، فإنه أن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غلب محمد رجعتم سالمين، وإن غلب محمد، فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً - فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبيّ - فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل: ويحك والله أن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له، فيمن كذبه من قومه، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ووعد له بالنصر كما نصروا، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة، بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ، ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الآخرة، ولهذا قال {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين، كما قال {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} أي من خبرهم، كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم، فلك فيهم أسوة وبهم قدوة. ثم قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي أن كان شق عليك إعراضهم عنك {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: النفق السرب، فتذهب فيه فتأتيهم بآية، أو تجعل لك سلماً في السماء، فتصعد فيه فتأتيهم بآية، أفضل مما آتيتهم به فافعل، وكذا قال قتادة والسدي وغيرهما. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} الآية، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه، كقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}. وقوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يعني بذلك الكفار، لأنهم موتى القلوب، فشبههم الله بأموات الأجساد، فقال {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وهذا من باب التهكم بهم والازدراء عليهم.
{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ قُلْ أن اللّهَ قَادِرٌ عَلَىَ أن يُنَزّلٍ آيَةً وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمّ وَبُكْمٌ فِي الظّلُمَاتِ مَن يشأ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
يقول تعالى مخبراً عن المشركين، أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه، أي خارق على مقتضى ما(2/160)
كانوا يريدون، ومما يتعنتون كقولهم {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} الآيات {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي هو تعالى قادر على ذلك، ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك، لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا، لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة، كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} وقال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}. وقوله: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. وقال قتادة: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة، وقال السدي {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي خلق أمثالكم.
وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره، سواء كان برياً أو بحرياً، كقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقد قال الحافظ أبو يعلى، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان، حدثنا محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك، فأرسل راكباً إلى كذا، وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق، يسأل هل رؤي من الجراد شيء أم لا ؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه، فلما رآها كبر ثلاثاً، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خلق الله عز وجل ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه". وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال: حشرها الموت، وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل، عن سعيد عن مسروق، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: موت البهائم حشرها، وكذا رواه العوفي عنه، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والضحاك مثله.
(والقول الثاني) أن حشرها هو يوم بعثها يوم القيامة، لقوله: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن سليمان، عن منذر الثوري، عن أشياخ لهم، عن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: " يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟" قال: لا، قال "لكن الله يدري وسيقضي بينهما" ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الأعمش، عمن ذكره، عن أبي ذر، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون فيم انتطحتا ؟" قالوا: لا ندري، قال "لكن الله يدري وسيقضي بينهما" رواه ابن جرير، ثم رواه من طريق منذر الثوري، عن أبي ذر، فذكره، وزاد: قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علماً، وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثني عباس بن محمد، وأبو يحيى البزار، قالا: حدثنا حجاج بن نصير، حدثنا شعبة، عن العوام بن مراجم من بني قيس بن ثعلبة، عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، في قوله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ(2/161)
يُحْشَرُونَ} قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ، أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} أي مثلهم في جهلهم، وقلة علمهم، وعدم فهمهم. كمثل أصم، وهو الذي لا يسمع، أبكم وهو الذي لا يتكلم، وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه، كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وكما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ولهذا قال {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء.
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم أن أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ أن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أن شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضّرّآءِ لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حَتّىَ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوَاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ}
يخبر تعالى أنه الفعّال لما يريد، المتصرف في خلقه بما يشاء، وأنه لا معقب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه، بل هو وحده لا شريك له، الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء، ولهذا قال {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي لا تدعون غيره لعلمكم أَنه لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه، ولهذا قال {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في اتخاذكم آلهة معه {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي في وقت الضرورة، لا تدعون أحداً سواه، وتذهب عنكم أصنامكم وأندادكم، كقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية، وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} يعني الفقر والضيق في العيش، {وَالضَّرَّاءِ} وهي الأمراض والأسقام والآلام، {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون، قال الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} أي فهلا إذ ابتليناهم بذلك، تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا، ولكن {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي ما رقت ولا خشعت {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي من الشرك والمعاندة والمعاصي، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي أعرضوا عنه وتناسوه، وجعلوه وراء ظهورهم، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، عياذاً بالله من مكره، ولهذا قال {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أي من الأموال والأولاد والأرزاق، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أي على غفلة، {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} أي آيسون من كل خير(2/162)
، قال الوالبي عن ابن عباس: المبلس الآيس، وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به، فلا رأي له، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} قال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا، رواه ابن أبي حاتم، وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط، إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون، رواه ابن أبي حاتم أيضاً.
وقال مالك عن الزهري {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قال: رخاء الدنيا ويسرها، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين - يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري - عن حرملة بن عمران، التجيبي! عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حرملة وابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عراك بن خالد بن يزيد، حدثني أبي عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إذا أراد الله بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعاً، فتح لهم - أو فتح عليهم - باب خيانة، { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} كما قال {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ورواه أحمد وغيره.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ أن أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ مّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الآيات ثُمّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ أن أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاّ الْقَوْمُ الظّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المكذبين المعاندين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} أي سلبكم إياها كما أعطاكموها. كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار} الآية، ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما، الانتفاع الشرعي، ولهذا قال {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} كما قال {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} وقال {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وقوله: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم، إذا سلبه الله منكم لا يقدر على ذلك أحد سواه، ولهذا قال {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} أي نبينها ونوضحها ونفسرها، دالة على أنه لا إله إلا الله، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال، {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} أي ثم هم مع هذا البيان، يصدفون أي يعرضون عن الحق، ويصدون الناس عن اتباعه، قال العوفي عن ابن عباس: يصدفون أي يعدلون، وقال مجاهد وقتادة: يعرضون، وقال السدي: يصدون. وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} أي وأنتم لا تشعرون به، حتى بغتكم وفجأكم، {أو جهرة} أي ظاهراً عياناً، {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} أي إنما كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله، وينجوا الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا(2/163)
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية، وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} أي مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات، ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات، ولهذا قال {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} أي فمن آمن قلبه بما جاؤوا به، وأصلح عمله باتباعه إياهم، {فلا خوف عليهم} أي بالنسبة لما يستقبلونه {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها، الله وليهم فيما خلفوه، وحافظهم فيما تركوه، ثم قال {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي ينالهم العذاب، بما كفروا بما جاءت به الرسل، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته.
{قُل لاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلآ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلآ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ أن أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكّرُونَ وَأَنذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أن يُحْشَرُوَاْ إِلَىَ رَبّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٌ لّعَلّهُمْ يَتّقُونَ وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلآءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ وَإِذَا جَآءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أَنّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} أي لست أملكها ولا أتصرف فيها {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب، إنما ذاك من علم الله عز وجل، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه، {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} أي ولا أدعي أني ملك، إنما أنا بشر من البشر، يوحى إليّ من الله عز وجل، شرفني بذلك وأنعم عليّ به، ولهذا قال {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} أي هل يستوي من اتبع الحق وهدي إليه، ومن ضل عنه فلم ينقد له، {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} وهذه كقوله تعالى: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} وقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} أي وأنذر بهذا القرآن يا محمد {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أي يوم القيامة {لَيْسَ لَهُمْ} أي يومئذ {مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم، من عذابه أن أراده بهم، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه، إلا الله عز وجل، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فيعملون في هذه الدار، عملاً ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه. وقوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك كقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ(2/164)
وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي يعبدونه ويسألونه {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قال سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة: المراد به الصلاة المكتوبة، وهذا كقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي أتقبل منكم. وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم، وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات، وقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} كقول نوح عليه السلام: في جواب الذين قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون، قال: وما علمي بما كانوا يعملون أن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون، أي إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء، وقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي أن فعلت هذا والحالة هذه، قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط هو ابن محمد، حدثني أشعث عن كردوس، عن ابن مسعود: قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء فنزل فيهم القرآن {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ - إلى قوله - أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ورواه ابن جرير من طريق أشعث، عن كردوس، عن ابن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم، من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين مَنّ الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟ اطردهم فلعلك أن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} إلى آخر الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عمرو بن محمد العنقري، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي عن أبي سعيد الأزدي - وكان قارى الأزد - عن أبي الكنود، عن خباب، في قول الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قال جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم في نفر في أصحابه فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم أن شئت، قال: "نعم"، قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل فقال {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه، ورواه ابن جرير من حديث أسباط به، وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر، وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح عن أبيه، قال: قال سعد: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم ابن مسعود، قال: كنا نستبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندنو منه، فقالت قريش: تدني هؤلاء دوننا، فنزلت {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان، وقال: على شرط الشيخين، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح به.
وقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي ابتلينا واختبرنا وامتحنا ببعض، {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان غالب من اتبعه في أول بعثته، ضعفاء الناس من الرجال(2/165)
والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوح لنوح { مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} الآية، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل، فقال له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل، والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أهؤلاء مَنّ الله عليهم من بيننا ؟ أي ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير، لو كان ما صاروا إليه خيراً ويدعنا، كقولهم {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْه} وكقوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} قال الله تعالى في جواب ذلك {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} وقال في جوابهم حين قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أي أليس هو أعلم بالشاكرين له، بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} وفي الحديث الصحيح: " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف، من أهل الكفر، إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له، قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلى ما يصيرون من قولهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} قال: وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالماً مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارى، وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد، وأبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وأشباههم من الحلفاء، فنزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} الآية، فلما نزلت، أقبل عمر رضي الله عنه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا} الآية، وقوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي فأكرمهم بردّ السلام عليهم، وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم، ولهذا قال {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي أوجبها على نفسه الكريمة، تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً، {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، وقال معتمر بن سليمان: عن الحكم بن أبان بن عكرمة، في قوله: {من عمل منكم سوءاً بجهالة} قال: الدنيا كلها جهالة، رواه ابن أبي حاتم {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} أي رجع عما كان عليه من المعاصي، وأقلع وعزم على أن لا يعود، وأصلح العمل في المستقبل، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: أن رحمتي غلبت غضبي" أخرجاه في الصحيحين، وهكذا رواه الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ورواه موسى عن عقبة: عن الأعرج، عن أبي هريرة، وكذا رواه الليث وغيره، عن محمد بن عجلان، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد روى ابن مردويه من(2/166)
طريق الحكم بن أبان: عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق، أخرج كتاباً من تحت العرش، أن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة أو قبضتين، فيخرج من النار خلقاً لم يعملوا خيراً، مكتوب بين أعينهم عتقاء الله" وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان في قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} قال: إنا نجد في التوراة عطفتين، أن الله خلق السموات والأرض، وخلق مائة رحمة، أو جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، قال: فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون، وبها يتزاورون، وبها تحن الناقة، وبها تبح البقرة، وبها تثغو الشاة، وبها تتتابع الطير، وبها تتتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع، وقد روي هذا مرفوعاً من وجه آخر، وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ومما يناسب هذه الآية من الأحاديث أيضاً، قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "أتدري ما حق الله على العباد ؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" ثم قال: " أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ؟ أن لا يعذبهم" وقد رواه الإمام أحمد: من طريق كميل بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
{وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنّي نُهِيتُ أن أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُلْ لاّ أَتّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنّي عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّي وَكَذّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أن الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصّ الْحَقّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُل لّوْ أن عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ}
يقول تعالى: وكما بيّنا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل، على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد، {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} أي التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل، وقرىء {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي ولتستبين يا محمد، أو يا مخاطب سبيل المجرمين، وقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أ ي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إلي {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أي بالحق الذي جاءني من الله {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي من العذاب {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله، أن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجلكم، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، ولهذا قال {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي وهو خير من فصل القضايا، وخير الفاتحين في الحكم بين عباده، وقوله: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي لو كان مرجع ذلك إلي، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك، والله أعلم بالظالمين، فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين، من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال: :"لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت(2/167)
منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: أن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد أن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك فيما شئت، أن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم، من يعبد الله لا يشرك به شيئاً" وهذا لفظ مسلم، فقد عرض عليهم عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً، فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} فالجواب والله أعلم، أن هذه الآية دلت، على أنه لو كان إليه وقوع العذاب، الذي يطلبونه حال طلبهم له، لأوقعه بهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه أن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوباً وشمالاً، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم. وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}" وفي حديث عمر: أن جبريل حين تبدى له في صورة أعرابي، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله له: "خمس لا يعلمهن إلا الله" ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي محيط علمه الكريم بجميع الموجودات، بريها وبحريها، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما أحسن ما قال الصرصري:
فلا يفخى عليه الذر إما ... تراءى للنواظر أو توارى
وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} أي ويعلم الحركات حتى من الجمادات، فما ظنك بالحيوانات، ولا سيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} . وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، حدثنا حسان النمري، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} قال: ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها، يكتب ما يسقط منها، رواه ابن أبي حاتم، وقوله: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري، حدثنا مالك بن سعير، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة، إلا وعليها ملك موكل، يأتي الله بعلمها، رطوبتها إذا رطبت، ويبوستها إذا يبست، وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني، عن مالك بن سعير به. ثم قال ابن أبي حاتم: ذكر عن أبي حذيفة، حدثنا سفيان عن عمرو بن قيس، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خلق الله النون وهي الدواة، وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا، حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام، أو عمل بر أو فجور، وقرأ هذه الآية {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} إلى آخر الآية، قال(2/168)
محمد بن إسحاق: عن يحيى بن النضر، عن أبيه، سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: أن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن، ما لو أنهم ظهروا، يعني لكم، لم تروا معهم نوراً على كل زاوية من زوايا الأرض خاتم من خواتيم الله عز وجل، على كل خاتم ملك من الملائكة، يبعث الله عز وجل إليه في كل يوم ملكاً من عنده أن احتفظ بما عندك.
{وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُم بِاللّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنّهَارِ ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىَ أَجَلٌ مّسَمّى ثُمّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمّ رُدّوَاْ إِلَىَ اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}
يقول تعالى إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل، وهذا هو التوفي الأصغر، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} فذكر في هذه الآية الوفاتين الكبرى والصغرى، وهكذا ذكر في هذا المقام، حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى، فقال {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أي ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم، في حال سكونهم وحال حركتهم، كما قال {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} وكما قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي في الليل {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي في النهار كما قال {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} ولهذا قال تعالى ههنا {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أي ما كسبتم من الأعمال فيه {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي في النهار، قاله مجاهد وقتادة والسدي، وقال ابن جريج: عن عبد الله بن كثير، أي في المنام والأول أظهر، وقد روى ابن مردويه بسند: عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ويرده إليه، فإن أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا رد إليه" فذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}.
وقوله: {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} يعني به أجل كل واحد من الناس، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي يوم القيامة {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ} أي فيخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ويجزيكم على ذلك أن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقوله: {وهو القاهر فوق عباده} أي وهو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} أي من الملائكة يحفظون بدن الإنسان، كقوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} وحفظة يحفظون عمله ويحصونه كقوله: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} الآية وكقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} الآية وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي احتضر وحان أجله {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي ملائكة موكلون بذلك، قال ابن عباس وغير واحد: لملك الموت أعوان من الملائكة، يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم، وسيأتي عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الأحاديث المتعلقة بذلك الشاهدة لهذا المروي عن ابن عباس وغيره بالصحة، وقوله: {وَهُمْ لا(2/169)
يُفَرِّطُونَ} أي في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عز وجل، أن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين، عياذاً بالله من ذلك، وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} قال ابن جرير: {ثُمَّ رُدُّوا} يعني الملائكة {إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} ونذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال من هذا ؟ فيقال فلان، فيقال مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل، وإذا كان الرجل السوء، قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا ؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الثاني" هذا حديث غريب، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {ثُمَّ رُدُّوا} يعني الخلائق كلهم إلى الله يوم القيامة، فيحكم فيهم بعدله، كما قال {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وقال {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ} إلى قوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ولهذا قال {مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}.
{قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىَ أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الآيات لَعَلّهُمْ يَفْقَهُونَ}
يقول تعالى ممتناً على عباده، في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر، أي الحائرين الواقعين في المهامه البرية، وفي اللجج البحرية، إذا هاجت الرياح العاصفة، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له، كقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية، وقوله: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} الآية، وقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقال في هذه الآية الكريمة { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} أي جهراً وسراً {لَئِنْ أَنْجَانَا} أي من هذه الضائقة { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي بعدها قال الله {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} أي تدعون معه في حال الرفاهية آلهة(2/170)
أخرى، وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} لما قال ثم أنتم تشركون، عقبه بقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} أي بعد إنجائه إياكم، كقوله في سورة سبحان {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} قال ابن أبي حاتم: ذكر عن مسلم بن إبراهيم، حدثنا هارون الأعور، عن جعفر بن سليمان، عن الحسن في قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: هذه للمشركين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، ونذكر هنا الأحاديث، الواردة في ذلك والآثار، وبالله المستعان وعليه التكلان وبه الثقة.
قال البخاري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ َوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} يلبسكم يخلطكم من الالتباس، يلبسوا يخلطوا شيعاً فرقاً، حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" {وْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال "أعوذ بوجهك" {وْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه أهون - أو أيسر" وهكذا رواه أيضاً في كتاب التوحيد، عن قتيبة عن حماد به، ورواه النسائي أيضاً في التفسير عن قتيبة، ومحمد بن النضر بن مساور، ويحيى بن حبيب بن عدي، أربعتهم عن حماد بن زيد به، وقد رواه الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمع جابراً عن النبي صلى الله عليه وسلم به. ورواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى الموصلي، عن أبي خيثمة، عن سفيان بن عيينة به، ورواه ابن جرير في تفسيره، عن أحمد بن الوليد القرشي، وسعيد بن الربيع، وسفيان بن وكيع، كلهم عن سفيان بن عيينة به، ورواه أبو بكر بن مردويه، من حديث آدم بن أبي إياس ويحيى بن عبد الحميد، وعاصم بن علي، عن سفيان بن عيينة به، ورواه سعيد بن منصور، عن حماد بن زيد، كلاهما عن عمرو بن دينار به.
(طريق آخر) - قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا مقدام بن داود، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: لما نزلت {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله من ذلك" {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله من ذلك" {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قال "هذا أيسر" ولو استعاذه لأعاذه. ويتعلق بهذه الآية، أحاديث كثيرة:
(أحدها) قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي مريم، عن راشد هو ابن سعد المقرائي، عن سعد بن أبي وقاص، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال "أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد" وأخرجه الترمذي عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن أبي مريم به، ثم قال هذا حديث غريب.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى هو ابن عبيد، حدثنا عثمان بن حكيم، عن عامر بن سعيد بن(2/171)
أبي وقاص، عن أبيه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه عز وجل طويلاً ثم قال "سألت ربي ثلاثاً: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" انفرد بإخراجه مسلم، فرواه في كتاب الفتن، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن عبد الله بن نمير، وعن محمد بن يحيى بن أبي عمرو، عن مروان بن معاوية، كلاهما عن عثمان بن حكيم به.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: قرأت على عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، عن جابر بن عتيك، أنه قال: جاءنا عبد الله بن عمر في حرة بني معاوية - قرية من قرى الأنصار - فقال لي: هل تدري أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا ؟ فقلت: نعم، فأشرت إلى ناحية منه، فقال: هل تدري ما الثلاث التي دعاهن فيه ؟ فقلت: نعم، فقال: أخبرني بهن، فقلت: دعا أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم، ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما: ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها، قال: صدقت فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة. ليس هو في شيء من الكتب الستة، إسناده جيد قوي، ولله الحمد والمنة.
(حديث آخر) - قال محمد بن إسحاق: عن حكيم بن عباد، عن خصيف، عن عبادة بن حنيف، عن علي بن عبد الرحمن، أخبرني حذيفة بن اليمان، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية، قال: فصلى ثماني ركعات فأطال فيهن، ثم التفت إلي فقال "حبستك يا حذيفة" قلت الله ورسوله أعلم، قال "إني سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته أن لا يسلط على أمتي عدواً من غيرهم فأعطاني، وسألته أن لا يهلكهم بغرق فأعطاني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني" ، رواه ابن مردويه من حديث محمد بن إسحاق.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبيدة بن حميد، حدثني سليمان بن الأعمش، عن رجاء الأنصاري، عن عبد الله بن شداد، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لي: خرج قبل، قال: فجعلت لا أمر بأحد إلا قال: مر قبل، حتى مررت فوجدته قائماً يصلي، قال: فجئت حتى قمت خلفه، قال: فأطال الصلاة، فلما قضى صلاته قلت: يا رسول الله، قد صليت صلاة طويلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني صليت صلاة رغبة ورهبة، إني سألت الله عز وجل ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلك أمتي غرقاً فأعطاني، وسألته أن لا يظهر عليهم عدواً ليس منهم فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردها علي" ورواه ابن ماجه في الفتن عن محمد بن عبد الله بن نمير، وعلي بن محمد، كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش به، ورواه ابن مردويه: من حديث أبي عوانة، عن عبد الله بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن الضحاك بن عبد الله القرشي حدثه، عن أنس بن مالك، أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، صلى سبحة الضحى ثماني ركعات، فلما انصرف، قال "إني صليت صلاة رغبة ورهبة، وسألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً فأبى علي"، ورواه النسائي في الصلاة عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب به.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، قال: قال الزهري، حدثني(2/172)
عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن خباب، عن أبيه، خباب بن الأرت مولى بني زهرة، وكان قد شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: وافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها، حتى كان مع الفجر، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، فقلت: يا رسول الله لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي عز وجل فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي عز وجل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها" ورواه النسائي: من حديث شعيب بن أبي حمزة به. ومن وجه آخر وابن حبان في صحيحه بإسناديهما، عن صالح بن كيسان والترمذي، في الفتن، من حديث النعمان بن راشد، كلاهما عن الزهري به، وقال: حسن صحيح.
(حديث آخر) - قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره: حدثني زياد بن عبد الله المزني، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا أبو مالك، حدثني نافع بن خالد الخزاعي، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود، فقال "قد كانت صلاة رغبة ورهبة، سألت الله عز وجل فيها ثلاثاً أعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به من كان قبلكم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يسلط عليكم عدواً يستبيح بيضتكم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها" قال أبو مالك: فقلت له أبوك سمع هذا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: نعم، سمعته يحدث بها القوم، أنه سمعها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: قال معمر: أخبرني أيوب عن أبي قلابة، عن الأشعث الصنعاني، عن أبي أسماء الرحبي، عن شداد بن أوس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض، حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي عز وجل أن لا يهلك أمتى بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً فيهلكهم بعامة، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد، وإني قد أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً ممن سواهم، فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً"، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي، لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة" ليس في شيء من الكتب الستة، وإسناده جيد قوي، وقد رواه ابن مردويه من حديث حماد بن زيد، وعباد بن منصور، وقتادة، ثلاثتهم عن أيوب عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه والله أعلم.
(حديث آخر) - قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي، وميمون بن إسحاق بن الحسن الحنفي، قالا: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي مالك الأشجعي، عن نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه، قال: وكان أبوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أصحاب الشجرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى والناس حوله، صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود، قال فجلس يوماً فأطال الجلوس، حتى أومأ بعضنا إلى بعض أن اسكتوا إنه ينزل عليه، فلما فرغ، قال له بعض القوم: يا رسول الله لقد أطلت الجلوس، حتى أومأ بعضنا إلى بعض أنه ينزل عليك، قال "لا ولكنها كانت صلاة رغبة ورهبة، سألت الله فيها ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت الله أن لا يعذبكم بعذاب(2/173)
عذب به من كان قبلكم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يسلط على أمتي عدواً يستبيحها فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسكم شيعاً وأن لا يذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها " قال: قلت له: أبوك سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم سمعته يقول: إنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد أصابعي هذه عشر أصابع.
(حديث آخر) - قال الإمام أحمد: حدثنا يونس هو ابن محمد المؤدب، حدثنا ليث هو ابن سعد، عن أبي وهب الخولاني، عن رجل قد سماه، عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "سألت ربي عز وجل أربعاً فأعطاني ثلاثاً، ومنعني واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها، وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعاً وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها" لم يخرجه أحد من أصحاب الكتاب الستة.
(حديث آخر) - قال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا أبو حذيفة الثعلبي، عن زياد بن علاقة، عن جابر بن سمرة السوائي، عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، فقلت: يا رب لا تهلك أمتي جوعاً فقال هذه لك قلت: يا رب لا تسلط عليهم عدواً من غيرهم يعني أهل الشرك فيجتاحهم قال: ذلك لك، قلت: يا رب لا تجعل بأسهم بينهم - قال - فمنعني هذه ".
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن عاصم، حدثنا أبو الدرداء المروزي، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان، حدثني أبي عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوت ربي عز وجل أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع الله عنهم اثنتين، وأبى عليّ أن يرفع عنهم اثنتين دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع اثنتين القتل والهرج".
(طريق أخرى) عن ابن عباس أيضاً، قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن يزيد، حدثني الوليد بن أبان، حدثنا جعفر بن منير، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد، حدثنا عمرو بن قيس، عن رجل عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم قال: "اللهم لا ترسل على أمتي عذاباً من فوقهم ولا من تحت أرجلهم، ولا تلبسهم شيعاً ولا تذق بعضهم بأس بعض" قال: فأتاه جبريل فقال: يا محمد أن الله قد أجار أمتك، أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم.
(حديث آخر) - قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله البزاز، حدثنا عبد الله بن أحمد بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد، حدثنا عمرو بن محمد العنقري، حدثنا أسباط عن السدي، عن أبي المنهال، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي لأمتي أربع خصال، فأعطاني ثلاثاً، ومنعني واحدة، سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها، وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها، وسألته أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، عن عمرو بن محمد العنقري به نحوه.(2/174)
(طريق أخرى) - وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا كثير بن زيد الليثي المدني، حدثني الوليد بن رباح مولى آل أبي ذباب، سمع أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدواً من غيرهم فأعطاني، وسألته أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاني، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعني" ثم رواه ابن مردويه بإسناده، عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ورواه البزار من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
(أثر آخر) قال سفيان الثوري، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: أربع في هذه الأمة، قد مضت اثنتان وبقيت اثنتان، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: الرجم {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال: الخسف {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال سفيان: يعني الرجم والخسف، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: فهي أربع خلال، منها اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعاً وذاق بعضهم بأس بعض. وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان، الرجم والخسف، ورواه أحمد عن وكيع، عن أبي جعفر. ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو الأشهب عن الحسن في قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} الآية، قال: حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها، فلما عمل ذنبها أرسلت عقوبتها، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك والسدي، وابن زيد وغير واحد في قوله: {عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} يعني الرجم { مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني الخسف وهذا هو اختيار ابن جرير، وروى ابن جرير: عن يونس، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: كان عبد الله بن مسعود يصيح وهو في المسجد أو على المنبر، يقول: ألا أيها الناس إنه قد نزل بكم، أن الله يقول {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} لو جاءكم عذاب السماء لم يبق منكم أحداً، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} لو خسف بكم الأرض أهلككم، ولم يبق منكم أحداً، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث.
(قول ثان) - قال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، سمعت خلاد بن سليمان يقول: سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول: أن ابن عباس كان يقول: في هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} فأئمة السوء {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فخدم السوء، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس {عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ } يعني أمرءاكم {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني عبيدكم وسفلتكم، وحكى ابن أبي حاتم عن أبي سنان وعمرو بن هانىء، نحو ذلك. قال ابن جرير: وهذا القول وإن كان له وجه صحيح، لكن الأول أظهر وأقوى، وهو كما قال ابن جرير رحمه الله، ويشهد له بالصحة قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وفي الحديث "ليكونن في هذه الأمة قذف وخسف ومسخ" وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها، وظهور الآيات قبل يوم القيامة، وستأتي في موضعها أن شاء الله تعالى،(2/175)
وقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} يعني يجعلكم متلبسين شيعاً فرقاً متخالفين. وقال الوالبي عن ابن عباس: يعني الأهواء، وكذا قال مجاهد وغير واحد، وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" وقوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال ابن عباس وغير واحد: يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل. وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} أي نبينها ونوضحها مرة ونفسرها، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أي يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه. قال زيد بن أسلم: لما نزلت {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف" قالوا ونحن ونشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال "نعم" فقال بعضهم: لا يكون هذا أبداً أن يقتل بعضنا بعضاً ونحن مسلمون، فنزلت {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
{وَكَذّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقّ قُل لّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لّكُلّ نَبَإٍ مّسْتَقَرّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِيَ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمّا يُنسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَىَ مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَىَ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ}
يقول تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ} أي بالقرآن الذي جئتهم به، والهدى والبيان، { قَوْمُكَ} يعني قريشاً {وَهُوَ الْحَقُّ} أي الذي ليس وراءه حق {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي لست عليكم بحفيظ، ولست بموكل بكم، كقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} أي إنما عليّ البلاغ، وعليكم السمع والطاعة، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفني فقد شقي في الدنيا والآخرة، ولهذا قال {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} قال ابن عباس وغير واحد: أي لكل نبأ حقيقة، أي لكل خبر وقوع، ولو بعد حين، كما قال {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} وقال {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} وهذا تهديد ووعيد أكيد، ولهذا قال بعده {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} أي بالتكذيب والاستهزاء، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب، {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} والمراد بذلك كل فرد، من آحاد الأمة، أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها، فإن جلس أحد معهم ناسياً، {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} بعد التذكر {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ولهذا ورد في الحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وقال السدي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} قال: أن نسيت فذكرت {فَلا تَقْعُدْ} معهم، وكذا قال مقاتل بن حيان، وهذه الآية هي المشار إليها في قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} الآية أي إنكم إذا جلستم معهم، وأقررتموهم على ذلك، فقد ساويتموهم فيما هم فيه، وقوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي إذا تجنبوهم، فلم يجلسوا معهم في ذلك، فقد برئوا من عهدتهم وتخلصوا من إثمهم، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن(2/176)
إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، عن سعيد بن جبير، قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} قال: ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك، أي إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم، وقال آخرون: بل معناه وإن جلسوا معهم، فليس عليهم من حسابهم من شيء، وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية، وهي قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} قاله مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم. وعلى قولهم يكون قوله: {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم، حينئذ تذكيراً لهم عما هم فيه، لعلهم يتقون ذلك ولا يعودون إليه.
{وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لاّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَئِكَ الّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}
يقول تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلاً فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم، ولهذا قال وذكر به، أي ذكر الناس بهذا القرآن، وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم، يوم القيامة، وقوله تعالى: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي لئلا تبسل، قال الضحاك عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة، والحسن والسدي: تبسل تسلم، وقال الوالبي عن ابن عباس: تفتضح. وقال قتادة: تحبس، وقال مرة وابن زيد: تؤاخذ، وقال الكلبي: تجزى، وكل هذه الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى، وحاصلها الإسلام للهلكة، والحبس عن الخير والارتهان عن درك المطلوب، كقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} وقوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} أي ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} الآية، وكذا قال ههنا {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}.
{قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَىَ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ أن هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصّلاةَ وَاتّقُوهُ وَهُوَ الّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}
قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فأنزل الله عز وجل {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} أي في الكفر {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم أن كفرتم بعد إيمانكم، كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق، فضل الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم(2/177)
يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام، رواه ابن جرير، وقال قتادة {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} أضلته في الأرض، يعني استهوته سيرته، كقوله: { تَهْوِي إِلَيْهِمْ} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} الآية، هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، والدعاة الذين يدعون إلى هدى الله عز وجل، كمثل رجل ضل عن طريق تائهاً، إذ ناداه مناد: يا فلان بن فلان هلم إلى الطريق، وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى، اهتدى إلى الطريق، وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان، يقول: مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء، حتى يأتيه الموت فيستقبل الندامة والهلكة، وقوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} هم الغيلان {يَدْعُونَهُ} باسمه واسم أبيه وجده، فيتبعها وهو يرى أنه في شيء فيصبح وقد رمته في هلكة، وربما أكلته، أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشاً، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل، رواه ابن جرير، وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد، {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق، وذلك مثل من يضل بعد أن هدي، وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ} هو الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحاد عن الحق، وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس، {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} والضلال ما يدعو إليه الجن، رواه ابن جرير، ثم قال: وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ويزعمون أنه هدى، قال وهذا خلاف ظاهر الآية، فإن الله أخبر أنهم يدعونه إلى الهدى، فغير جائز أن يكون ضلالاً، وقد أخبر الله أنه هدى، وهو كما قال ابن جرير: فإن السياق يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، وهو منصوب على الحال، أي في حال حيرته وضلاله وجهله، وجه المحجة، وله أصحاب على المحجة سائرون، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى، وتقدير الكلام فيأبى عليهم، ولا يلتفت إليهم، ولو شاء الله لهداه ولرد به إلى الطريق، ولهذا قال {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} كما قال {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} وقال {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وقوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي نخلص له العبادة، وحده لا شريك له، {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} أي وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال، {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي يوم القيامة {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي بالعدل فهو خالقهما ومالكهما، والمدبر لهما ولمن فيهما، وقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} يعني يوم القيامة، الذي يقول الله كن فيكون، عن أمره كلمح البصر، أو هو أقرب، ويوم منصوب إما على العطف على قوله واتقوه، وتقديره واتقوا يوم يقول كن فيكون، وإما على قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي وخلق يوم يقول كن فيكون فذكر بدء الخلق وإعادته وهذا مناسب وإما على إضمار فعل تقديره واذكر يوم يقول كن فيكون، وقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} جملتان محلهما الجر على أنهما صفتان لرب العالمين، وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} يحتمل أن يكون بدلاً من قوله ويوم يقول كن فيكون يوم ينفخ في الصور ويحتمل أن يكون ظرفاً لقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي(2/178)
الصُّورِ} كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} وما أشبه ذلك، واختلف المفسرون في قوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} فقال بعضهم: المراد بالصور هنا، جمع صورة، أي يوم ينفخ فيها فتحيا. قال ابن جرير: كما يقال: سور لسور البلد، وهو جمع سورة، والصحيح أن المرد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، قال ابن جرير: والصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن إسرافيل قد التقم الصور، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ" رواه مسلم في صحيحه، وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان التيمي، عن أسلم العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو قال: قال أعرابي يا رسول الله ما الصور ؟ قال "قرن ينفخ فيه".
وقد روينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ ابن القاسم الطبراني، في كتابه المطولات، قال: حدثنا أحمد بن الحسن المقري الأيلي، حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن محمد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة من أصحابه، فقال "إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض، خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه، شاخصاً بصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر" قلت: يا رسول الله وما الصور ؟ قال: "القرن" قلت: كيف هو ؟ قال: "عظيم والذي بعثني بالحق أن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض، ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول: انفخ فينفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر، وهي كقول الله {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} فيسير الجبال، فتمر مَرّ السحاب فتكون سراباً، ثم ترتج الأرض بأهلها رجاً، فتكون كالسفينة المرمية في البحر، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق في العرش ترجرجه الرياح، وهو الذي يقول {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع ويولي الناس مدبرين، ما لهم من أمن الله من عاصم، ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول الله تعالى : {يَوْمَ التَّنَادِ} فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض، من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً لم يروا مثله، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم انشقت السماء، فانتثرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك" قال أبو هريرة: يا رسول الله من استثنى الله عز وجل حين يقول {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ؟ قال "أولئك الشهداء" وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه - قال - وهو الذي يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فيكونون في ذلك العذاب ما شاء الله إلا أنه يطول، ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا، وجاء ملك الموت إلى الجبار عز وجل، فيقول: يا رب قد مات أهل السموات(2/179)
والأرض، إلا من شئت، فيقول الله وهو أعلم، بمن بقي فمن بقي ؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وبقيت أنا، فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل فينطق الله العرش، فيقول يا رب يموت جبريل وميكائيل، فيقول اسكت، فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي، فيموتان، ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار، فيقول يا رب: قد مات جبريل وميكائيل، فيقول الله وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي ؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، بقيت حملة عرشك، وبقيت أنا، فيقول الله: لتمت حملة العرش فتموت، ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب قد مات حملة عرشك، فيقول الله وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي ؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول الله: أنت خلق من خلقي، خلقتك لما رأيت فمت، فيموت، فإذا لم يبق إلا الله، الواحد القهار الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، كان آخراً كما كان أولاً، طوى السموات والأرض، طي السجل للكتب، ثم دحاهما ثم يلقفهما ثلاث مرات، ثم يقول: أنا الجبار أنا الجبار أنا الجبار ثلاثاً، ثم هتف بصوته {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثلاث مرات، فلا يجيبه أحد، ثم يقول لنفسه {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يقول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فيبسطهما ويسطحهما، ثم يمدهما مد الأديم العكاظي {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة، مثل ما كانوا فيها من الأولى، من كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثم ينزل الله عليهم ماء من تحت العرش، ثم يأمر الله السماء أن تمطر فتمطر أربعين يوماً، حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعاً ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث، أو كنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت، قال الله عز وجل: ليحيَ حملة عرشي فيحيون، ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه، ثم يقول: ليحي جبريل وميكائيل، فيحييان ثم يدعو الله بالأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نوراً، وأرواح الكافرين ظلمة، فيقبضها جميعاً، ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، فتدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد، كما يمشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنهم، وأنا أول من تنشق الأرض عنه، فتخرجون سراعاً إلى ربكم تنسلون، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} حفاة عراة غلفاً غرلاً، فتقفون موقفاً واحداً مقداره سبعون عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماً وتعرقون، حتى يلجمكم العرق أو يبلغ الذقان، وتقولون: من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا، فتقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلاً، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأبى، ويقول ما أنا بصاحب ذلك فيستقرئون الأنبياء نبياً نبياً، كلما جاؤوا نبياً أبى عليهم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتوني فأنطلق إلى الفحص، فأخرّ ساجداً". قال أبو هريرة يا رسول الله وما الفحص ؟ قال - "قدام العرش، حتى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي ويرفعني فيقول لي: يا محمد، فأقول: نعم يا رب، فيقول الله عز وجل: ما شأنك ؟ وهو أعلم - فأقول يا رب وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال الله: قد شفعتك، أنا آتيكم أقضي بينكم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأرجع فأقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، إذ سمعنا من السماء حساً شديداً، فهالنا فينزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض،(2/180)
أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا ؟ فيقولون: لا وهو آت، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم. وقلنا لهم: أفيكم ربنا ؟ فيقولون: لا. وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف، حتى ينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، فيحمل عرشه يومئذ، ثمانية - وهم اليوم أربعة - أقدامهم في تخوم الأرض السفلى، والأرض والسموات إلى حجزهم، والعرش على مناكبهم، ولهم زجل في تسبيحهم يقولون: سبحان ذي العرش والجبروت، وسبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق، ولا يموت، سبوح قدوس قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح، سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت، فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه ثم يهتف بصوته فيقول: يا معشر الجن والإنس، إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ثم يأمر الله جهنم. فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أو - بها تكذبون - شك أبو عاصم، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} فيميّز الله الناس وتجثو الأمم. يقول الله تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فيقضي الله عز وجل بين خلقه إلا الثقلين الجن والإنس، فيقضي بين الوحوش والبهائم، حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن، فإذا فرغ من ذلك، فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى، قال الله لها: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} ثم يقضي الله بين العباد، فكان أول ما يقضي فيه الدماء، ويأتي كل قتيل في سبيل الله، ويأمر الله عز وجل كل من قتل، فيحمل رأسه تشخب أوداجه، فيقول: يارب فيم قتلني هذا ؟ فيقول - وهو أعلم - فيم قتلتهم ؟ فيقول: قتلتهم لتكون العزة لك، فيقول الله له: صدقت فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس، ثم تمر به الملائكة إلى الجنة، ثم يأتي كل من قتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه، فيقول: يا رب فيم قتلني هذا ؟ فيقول - وهو أعلم - لم قتلتهم ؟ فيقول: يا رب قتلتهم لتكون العزة لي، فيقول: تعست، ثم لا تبقى نفس قتلها إلا قتل بها، ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها، وكان في مشيئة الله أن شاء عذبه وإن شاء رحمه، ثم يقضي الله تعالى بين من بقي من خلفه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها الله للمظلوم من الظالم، حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء، فإذا فرغ الله من ذلك، نادى مناد يسمع الخلائق كلهم: ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله فلا يبقى أحد عبد من دون الله، إلا مثلت له آلهته بين يديه، ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير، ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى بن مريم. ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار، وهو الذي يقول {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} فإذا لم يبق إلا المؤمنون، فيهم المنافقون، جاءهم الله فيما شاء من هيئته فقال: يا أيها الناس، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله ما لنا إله إلا الله، وما كنا نعبد غيره، فينصرف عنهم، وهو الله الذي يأتيهم، فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يأتيهم، فيقول: يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون. فيقولون: والله ما لنا إله إلا الله، وما كنا نعبد غيره، فيكشف لهم عن ساقه، ويتجلى لهم من عظمته، ما يعرفون أنه ربهم فيخرون للأذقان(2/181)
سجداً على وجوههم، ويخر كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر، ثم يأذن الله لهم فيرفعون ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم، كحد الشفرة أو كحد السيف، عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان، دونه جسر دحض مزلة، فيمرون كطرف العين أو كلمح البرق، أو كمر الريح أو كجياد الخيل، أو كجياد الركاب، أو كجياد الرجال، فناج سالم، وناج مخدوش ومكردس على وجهه في جهنم، فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة، قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم عليه السلام، خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلاً، فيأتون آدم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنباً ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ولكن عليكم بنوح فإنه أول رسل الله، فيؤتى نوح فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنباً ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ويقول: عليكم بإِبراهيم فإِن الله اتخذه خليلاً، فيؤتى إبراهيم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنباً ويقول: ما أنا بصاحب ذلك ويقول: عليكم بموسى فإن الله قربه نجياً وكلمه وأنزل عليه التوراة. فيؤتى موسى فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنباً ويقول: لست بصاحب ذلك، ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى ابن مريم، فيؤتى عيسى ابن مريم فيطلب ذلك إليه، فيقول: "ما أنا بصاحبكم ولكن عليكم بمحمد" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فيأتوني ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن، فأنطلق فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب فأستفتح، فيفتح لي فأحيا ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجداً، فيأذن الله لي من تحميده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول: ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي يقول الله - وهو أعلم: ما شأنك ؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة، فيقول الله: قد شفعتك وقد أذنت لهم في دخول الجنة" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم، من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة، سبعين مما ينشىء الله عز وجل، وثنتين آدميتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله لعبادتهما الله في الدنيا فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليها سبعون زوجاً من سندس وإستبرق، ثم إنه يضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت، كبدها له مرآة وكبده لها مرآة. فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله، ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يفتر ذكره وما تشتكي قبلها، فبينا هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل، إلا أنه لا مني ولا منية إلا أن لك أزواجاً غيرها، فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة، كلما أتى واحدة قالت له: والله ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك، ولا في الجنة شيء أحب إلي منك. وإذا وقع أهل النار في النار، وقع فيها خلق من خلق ربك، أوبقتهم أعمالهم، فمنهم من تأخذه النار قدميه لا تجاوز ذلك، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذ جسده كله إلا وجهه، حرم الله صورته عليها" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأقول يا رب شفعني فيمن وقع في النار من أمتي، فيقول: أخرجوا من عرفتم، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع، فيقول الله: أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار إيماناً فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد. ثم يشفع الله فيقول: أخرجوا من في قلبه إيماناً ثلثي دينار، ثم يقول: ثلث دينار، ثم يقول: ربع دينار، ثم يقول: قيراطاً، ثم يقول: حبة من خردل، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيراً قط، ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع،(2/182)
حتى أن إبليس يتطاول مما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له. ثم يقول: بقيتَ وأنا أرحم الراحمين، فيدخل يده في جهنم، فيخرج منها ما لا يحصيه غيره، كأنهم حمم فيلقون على نهر، يقال له: نهر الحيوان، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فما يلي الشمس منها أخيضر، وما يلي الظل منها أصيفر، فينبتون كنبات الطراثيث، حتى يكونوا أمثال الذر مكتوب في رقابهم الجهنميون، عتقاء الرحمن، يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب وما عملوا خيراً لله قط، فيمكثون في الجنة ما شاء الله وذلك الكتاب في رقابهم، ثم يقولون: ربنا امح عنا هذا الكتاب فيمحوه الله عز وجل عنهم".
ثم ذكره بطوله، ثم قال: هذا حديث مشهور، وهو غريب جداً، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة، تفرد به إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وعمرو بن علي الفلاس، ومنهم من قال فيه هو متروك، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر، إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء، قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة، وأما سياقه فغريب جداً، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعله سياقاً واحداً فأنكر عليه بسبب ذلك، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفاً قد جمعه، كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث، فالله أعلم،
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ الْلّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ فَلَمّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لّمْ يَهْدِنِي رَبّي لأكُونَنّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالّينَ فَلَماّ رَأَى الشّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمّآ أَفَلَتْ قَالَ يَقَوْمِ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ إِنّي وَجّهْتُ وَجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
قال الضحاك عن ابن عباس: أن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما كان اسمه تارح، رواه ابن أبي حاتم وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل، حدثنا أبي حدثنا أبو عاصم شبيب، حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} يعني بآزر الصنم، وأبو إبراهيم اسمه تارح، وأمه اسمها مثاني، وامرأته اسمها سارة، وأم إسماعيل اسمها هاجر، وهي سرية إبراهيم، وهكذا قال غير واحد من علماء النسب أن اسمه تارح، وقال مجاهد والسدي: آزر اسم صنم، قلت: كأنه غلب عليه آزر، لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم، وقال ابن جرير وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم، ومعناه معوج، ولم يسنده ولا حكاه عن أحد. وقد قال ابن أبي حاتم: ذكر عن معتمر بن سليمان، سمعت أبي يقرأ {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} قال: بلغني أنها أعوج، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم عليه السلام، ثم قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر، ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان، كما لكثير من الناس، أو يكون أحدهما لقباً، وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم،(2/183)
واختلف القراء في أداء قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} فحكى ابن جرير عن الحسن البصري، وأبي يزيد المدني، أنهما كانا يقرآن {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} معناه يا آزر أتتخذ أصناماً آلهة، وقرأ الجمهور بالفتح، إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف أيضاً، كأحمر وأسود، فأما من زعم أنه منصوب، لكونه معمولاً لقوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً} تقديره يا أبت أتتخذ آزر أصناماً آلهة، فإنه قول بعيد في اللغة، فإن ما بعد حرف الاستفهام، لا يعمل فيما قبله لأن له صدر الكلام، كذا قرره ابن جرير وغيره، وهو مشهور في قواعد العربية، والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام، وزجره عنها ونهاه فلم ينته، كما قال {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ؟} أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ} أي السالكين مسلكك {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي تائهين لا يهتدون أين يسلكون، بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} فكان إبراهيم عليه السلام، يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك، رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وثبت في الصحيح "أن إبراهيم، يلقى أباه آزر يوم القيامة، فيقول له آزر يا بني اليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقال يا إبراهيم، انظر ما وراءك فإذا هو بذِيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار" ، قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما، على وحدانية الله عز وجل، في ملكه وخلقه، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، كقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقال {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} وأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم، قالوا: واللفظ لمجاهد: فرجت له السموات، فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع، فنظر إلى ما فيهن، وزاد غيره فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي، ويدعو عليهم، فقال الله له إني أرحم بعبادي منك، لعلهم أن يتوبوا أو يرجعوا. وروى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين، عن معاذ وعلي، ولكن لا يصح إسنادهما، والله أعلم، وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} فإنه تعالى جلا له الأمر سره وعلانيته، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب، قال الله إنك لا تستطيع هذا فرده كما كان قبل ذلك، فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عياناً، ويحتمل أن يكون عن بصيرته، حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه، وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة، والدلالات القاطعة كما رواه الإمام أحمد والترمذي، وصححه عن معاذ بن جبل في حديث المنام "أتاني ربي(2/184)
في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت لا أدري يا رب، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك" وذكر الحديث. قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} قيل الواو زائدة تقديره وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، ليكون من الموقنين، كقوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} وقيل بل هي على بابها، أي نريه ذلك ليكون عالماً وموقناً، وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أي تغشاه وستره {رَأى كَوْكَباً} أي نجماً {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ} أي غاب، قال محمد بن إسحاق بن يسار: الأفول الذهاب، وقال ابن جرير: يقال: أفل النجم يأفل ويأفل أفولاً وأفلا، إذا غاب ومنه قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها ... دياج ولا بالآفلات الزوائل
ويقال: أين أفلت عنا ؟ بمعنى أين غبت عنا، قال {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول، {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً} أي طالعاً {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} أي هذا المنير الطالع ربي {هَذَا أَكْبَرُ} أي جرماً من النجم ومن القمر وأكثر إضاءة {فَلَمَّا أَفَلَتْ} أي غابت {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي أخلصت ديني، وأفردت عبادتي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق {حَنِيفاً} أي في حال كوني حنيفاً، أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقد اختلف المفسرون في هذا المقام: هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير: من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} الآية، وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم، وتركته هناك، وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف، والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كان في هذا المقام مناظراً لقومه، مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي: القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس، ثم القمر ثم الزهرة، فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تملك لنفسها تصرفاً، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة(2/185)
القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء، وربه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام. وهو الذي قال الله في حقه {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} الآيات، وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة" وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله إني خلقت عبادي حنفاء" وقال الله في كتابه العزيز {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ومعناه على أحد القولين كقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} كما سيأتي بيانه. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين، ناظراً في هذا المقام، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب,وما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى.
{وَحَآجّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجّوَنّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أن يَشَآءَ رَبّي شَيْئاً وَسِعَ رَبّي كُلّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقّ بِالأمْنِ أن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىَ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ أن رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم، حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد وناظروه بشبه من القول، أنه قال {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} أي تجادلونني في أمر الله، وأنه لا إله إلا هو، وقد بصرني وهداني إلى الحق، وأنا على بينة منه، فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة، وقوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} أي ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه، أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئاً، وأنا لا أخافها ولا أباليها، فإن كان لها كيد فكيدوني بها، ولا تنظرون بل عاجلوني(2/186)
بذلك. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} استثناء منقطع، أي لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي أحاط علمه بجميع الأشياء فلا يخفى عليه خافية {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} أي فيما بينته لكم أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها، وهذه الحجة نظير ما احتج بها نبي الله هود عليه السلام على قومه عاد، فيما قص عنهم في كتابه، حيث يقول {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَ} الآية. وقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} أي كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} قال ابن عباس وغير واحد من السلف: أي حجة وهذا كقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي فأي طائفتين أصوب، الذي عبد من بيده الضر والنفع، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع، بلا دليل أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئاً، هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال أصحابه وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه ؟ قال "إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما هو الشرك".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع وابن إدريس، عن الأعمش، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس كما تظنون، إنما قال لابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وحدثنا عمر بن تغلب النمري، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} رواه البخاري، وفي لفظ قالوا: أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بالذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما هو الشرك " ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً، قال {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال "بشرك" قال وروي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وأبي بن كعب، وسلمان، وحذيفة، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن شرحبيل، وأبي عبد الرحمن السلمي، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغير واحد نحو ذلك، وقال ابن مردويه: حدثنا الشافعي، حدثنا محمد بن شداد المسمعي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قيل لي أنت منهم" وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا أبو جناب، عن زاذان، عن جرير بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،(2/187)
فلما برزنا من المدينة، إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأن هذا الراكب إياكم يريد" فانتهى إلينا الرجل، فسلم فرددنا عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين أقبلت ؟" قال من أهلي وولدي وعشيرتي، قال: "فأين تريد ؟" قال: أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فقد أصبته" قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان ؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت" قال: قد أقررت، قال ثم أن بعيره دخلت يده في جحر جرذان، فهوى بعيره وهوى الرجل، فوقع على هامته فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل" فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه فقالا: يا رسول الله قبض الرجل قال فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما رأيتما إعراضي عن الرجل، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة، فعلمت أنه مات جائعاً" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا من الذين قال الله عز وجل فيهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية، ثم قال "دونكم أخاكم" فاحتملناه إلى الماء، فغسلناه وحنطناه وكفناه، وحملناه إلى القبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على شفير القبر، فقال "ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا" ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر، عن عبد الحميد بن جعفر الفراء، عن ثابت، عن زاذان، عن جرير بن عبد الله، فذكر نحوه وقال فيه: هذا ممن عمل قليلاً وأجر كثيراً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا مهران بن أبي عمر، حدثنا علي بن عبد الله، عن أبيه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره، إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق، لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض، فاعرض علي، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل، فازدحمنا حوله فدخل خف بكره في بيت جرذان، فتردى الأعرابي فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق والذي بعثني بالحق لقد خرج من بلاده وتلاده وماله، ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي وما بلغني حتى ماله طعام إلا من خضر الأرض، أسمعتم بالذي عمل قليلاً وأجر كثيراً ؟ هذا منهم. أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ؟ فإن هذا منهم" وفي لفظ قال "هذا عمل قليلاً وأجر كثيراً" وروى ابن مردويه من حديث محمد بن يعلى الكوفي، وكان نزل الري، حدثنا زياد بن خيثمة، عن أبي داود، عن عبد الله بن سخبرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعطي فشكر، ومنع فصبر، وظلم فاستغفر، وظلم فغفر" وسكت، قال: فقالوا يا رسول الله ما له ؟ قال {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه} أي وجهنا حجته عليهم، قال مجاهد وغيره: يعني بذلك قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} الآية، وقد صدقه الله وحكم له بالأمن والهداية فقال {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ثم قال بعد ذلك كله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قرىء بالإضافة وبلا إضافة، كما في سورة يوسف، وكلاهما قريب في المعنى، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيم في أقواله وأفعاله، عليم أي بمن يهديه ومن يضله، وإن قامت عليه الحجج والبراهين، كما قال {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ولهذا قال ههنا {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ(2/188)
وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىَ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيّا وَيَحْيَىَ وَعِيسَىَ وَإِلْيَاسَ كُلّ مّنَ الصّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاّ فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِهَا قَوْماً لّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أن هُوَ إِلاّ ذِكْرَىَ لِلْعَالَمِينَ}
يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق بعد أن طعن في السن، وأيس هو وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} فبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلاً وعقباً، كما قال تعالى: {بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وقال {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به، كما قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه، وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام، حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته، بأولاد صالحين من صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} وقال ههنا {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا} وقوله: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} أي من قبله هديناه كما هديناه، ووهبنا له ذرية صالحة، وكل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح عليه السلام، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به، وهم الذين صحبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام، فلم يبعث الله عز وجل بعده نبياً، إلا من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} الآية، وقال تعالى، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} وقوله في هذه الآية الكريمة {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي وهدينا من ذريته {دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} الآية، وعود الضمير إلى نوح، لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه، وهو اختيار ابن جرير. وعوده إلى إبراهيم، لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل عليه لوط، فإنه ليس من ذرية إبراهيم، بل هو ابن أخيه ماران بن آزر، اللهم إلا أن يقال إنه دخل في الذرية تغليباً، وكما قال في قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليباً، وكما قال في قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود، وذم على المخالفة لأنه كان في تشبه بهم، فعومل معاملتهم(2/189)
ودخل معهم تغليباً، وإلا فهو كان من الجن وطبيعته من النار، والملائكة من النور، وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح، على القول الآخر، دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل، لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام، بأمه عليها السلام، فإنه لا أب له. قال ابن أبي حاتم: حدثنا سهل بن يحيى العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا علي بن عابس، عن عبد الله بن عطاء المكي، عن أبي حرب بن أبي الأسود، قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله - وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال أليس تقرأ سورة الأنعام {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} حتى بلغ {وَيَحْيَى وَعِيسَى} قال بلى. قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب ؟ قال صدقت. فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته، أو وقف على ذريته، أو وهبهم، دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه، دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم أيضاً، لما ثبت في صحيح البخاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فسماه ابناً، فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز، وقوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} ذكر أصولهم وفروعهم، وذوي طبقتهم وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم، ولهذا قال {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ثم قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم، {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} وكقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} وكقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} أي أنعمنا عليه- بذلك، رحمة للعباد بهم ولطفاً منا بالخليقة، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} أي بالنبوة، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على هذه الأشياء الثلاثة، الكتاب والحكم والنبوة، وقوله: {هَؤُلاءِ} يعني أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} أي أن يكفر بهذه النعم، من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، وملّيين وكتابيين، فقد وكلنا بها قوماً آخرين أي المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة، {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} أي لا يجحدون منها شيئاً، ولا يردون منها حرفاً واحداً، بل يؤمنون بجميعها، محكمها ومتشابهها، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه وإحسانه، ثم قال تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم {أُولَئِكَ} يعني الأنبياء المذكورين، مع من أضيف إليهم من الاَباء والذرية والإخوان، وهم الأشباه، {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي هم أهل الهدى لا غيرهم {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، أي اقتد واتبع، وإذا كان هذا أمراً للرسول صلى الله عليه وسلم، فأمته تبع له، فيما يشرعه ويأمرهم به، قال البخاري عند هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني سليمان الأحول أن مجاهداً أخبره، أنه سأل ابن عباس أفي (ص) سجدة ؟ فقال نعم، ثم تلا {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ثم قال هو منهم، زاد يزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد، وسهل بن(2/190)
يوسف، عن العوام عن مجاهد، قلت لابن عباس فقال نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم. وقوله تعالى: { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجراً أي أجرة، ولا أريد منكم شيئاً، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} أي يتذكرون به، فيرشدوا من العمى إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الكفر إلى الإيمان.
{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ بَشَرٍ مّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىَ نُوراً وَهُدًى لّلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ مّا لَمْ تَعْلَمُوَاْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
يقول الله تعالى وما عظموا الله حق تعظيمه، إذ كذبوا رسله إليهم، قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش، واختاره ابن جرير، وقيل نزلت في طائفة من اليهود، وقيل في فنحاص رجل منهم، وقيل في مالك بن الصيف {قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} والأول أصح، لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر، كما قال {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} وكقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} وقال ههنا {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله، في جواب سلبهم العام، بإثبات قضية جزئية موجبة، {من قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} وهو التوراة التي قد علمتم، وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران، نوراً وهدى للناس، أي ليستضاء بها في كشف المشكلات، ويهتدى بها من ظلم الشبهات، وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} أي تجعلون جملتها قراطيس، أي قطعاً تكتبونها من الكتاب الأصلي، الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتبدلون وتتأولون، وتقولون هذا من عند الله، أي في كتابه المنزل، وما هو من عند الله، ولهذا قال {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} وقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} أي ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه، من خبر ما سبق، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك، لا أنتم ولا آباؤكم، وقد قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب وقال مجاهد هذه للمسلمين، وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، أي قل الله أنزله، وهذا الذي قاله ابن عباس، هو المتعين في تفسير هذه الكلمة، لا ما قاله بعض المتأخرين، من أن معنى {قُلِ اللَّهُ} أي لا يكون خطابك لهم، إلا هذه الكلمة، كلمة "الله" وهذا الذي قاله هذا القائل، يكون أمراً بكلمة مفردة، من غير تركيب، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها، وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون، حتى يأتيهم من الله اليقين، فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين ؟(2/191)
وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ} يعني القرآن {أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} يعني مكة {وَمَنْ حَوْلَهَا} من أحياء العرب، ومن سائر طوائف بني آدم، ومن عرب وعجم، كما قال في الآية الأخرى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ً} وقال {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقال {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وقال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وقال {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" وذكر منهن: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" ولهذا قال {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي كل من آمن بالله واليوم الأخر، يؤمن بهذا الكتاب المبارك، الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}
يقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي لا أحد أظلم، ممن كذب على الله، فجعل له شركاء أو ولداً، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله، ولهذا قال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي، مما يفتريه من القول، كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} الآية، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي في سكراته، وغمراته، وكرباته، {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي بالضرب، كقوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} الآية، وقوله: { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} الآية، وقال الضحاك وأبو صالح باسطو أيديهم أي بالعذاب، كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ولهذا قال {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي بالضرب لهم، حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} وذلك أن الكافر إذا احتضر، بشرته الملائكة بالعذاب، والنكال، والأغلال، والسلاسل، والجحيم، والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة، حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} الآية، أي اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.
وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند الموت وهي مقررة عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وقد ذكر ابن مردويه ههنا حديثاً مطولاً جداً من طريق غريبة، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعاً، فالله أعلم،(2/192)
وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي يقال لهم يوم معادهم هذا كما قال {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه، فهذا يوم البعث، وقوله: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها، في الدار الدنيا وراء ظهوركم، وثبت في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس" وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ، فيقول الله عز وجل: أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئاً، وتلا هذه الآية {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} الآية، رواه ابن أبي حاتم، وقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم، أن كان ثم معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب، وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ؟} ويقال لهم {لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ؟} ولهذا قال ههنا {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} أي في العبادة لهم، فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قرىء بالرفع أي شملكم، وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل¹ {وَضَلَّ عَنْكُمْ} أي ذهب عنكم {مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} من رجاء الأصنام والأنداد، كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وقال {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} الآية، وقال {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} والآيات في هذا كثيرة جداً.
{إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَىَ يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَيّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ النّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى، أي يشقه في الثرى، فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها، من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوى، ولهذا فسر قوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى، الذي هو كالجماد الميت، كقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} إلى قوله: {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} وقوله: {ويخرج الميت من الحي} معطوف على {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ثم فسره ثم(2/193)
عطف عليه قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى، فمن قائل: يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه، ومن قائل: يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها.
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} أي فاعل هذا، هو الله وحده لا شريك له {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل، فتعبدون معه غيره. وقوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} أي خالق الضياء والظلام، كما قال في أول السورة {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة، الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنا} أي ساجياً مظلماً، لتسكن فيه الأشياء، كما قال {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} وقال {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} وقال {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره: أن الله جعل الليل سكناً إلا لصهيب، أن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه، رواه ابن أبي حاتم. وقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أي يجريان بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً، كما قال {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} الآية، وكما قال {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وقال {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكل شيء، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر، يختم الكلام بالعزة والعلم، كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن، في أول سورة حم السجدة، قال {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه، أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، ويهتدى بها في الظلمات البر والبحر. وقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أي قد بيناها ووضحناها {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أي يعقلون ويعرفون الحق، ويتجنبون الباطل.
{وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مّتَرَاكِباً وَمِنَ النّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوَاْ إِلِىَ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ أن فِي ذَلِكُمْ لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم عليه السلام، كما قال {يا أيها الناس اتقوا(2/194)
ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً} وقوله: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} اختلفوا في معنى ذلك، فعن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي عبد الرحمن السلمي، وقيس بن أبي حازم، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وعطاء الخراساني، وغيرهم {فَمُسْتَقَرٌّ} أي في الأرحام، قالوا أو أكثرهم {وَمُسْتَوْدَعٌ} أي في الأصلاب، وعن ابن مسعود وطائفة عكسه، وعن ابن مسعود أيضاً وطائفة، فمستقر في الدنيا، ومستودع حيث يموت، وقال سعيد بن جبير: فمستقر في الأرحام، وعلى ظهر الأرض، وحيث يموت، وقال الحسن البصري: المستقر الذي قد مات، فاستقر به عمله، وعن ابن مسعود: ومستودع في الدار الآخرة، والقول الأول أظهر، والله أعلم.
وقوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} أي يفهمون ويعون كلام الله ومعناه، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق، رحمة من الله بخلقه {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} كقوله: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} أي زرعاً وشجراً أخضر، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر، ولهذا قال تعالى: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً} أي يركب بعضه بعضاً كالسنابل ونحوها، {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} أي جمع قنو، وهي عذوق الرطب {دَانِيَةٌ} أي قريبة من المتناول، كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض، رواه ابن جرير. قال ابن جرير: وأهل الحجاز يقولون قنوان، وقيس يقول قنوان، قال امرؤ القيس:
فأثّت أعاليه وآدت أصوله ... ومال بقنوان من البسر أحمرا
قال: وتميم يقولون قنيان بالياء قال: وهي جمع قنو، كما أن صنوان جمع صنو، وقوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} أي ونخرج منه جنات من أعناب، وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز، وربما كانا خيار الثمار في الدنيا كما امتن الله بهما على عباده، في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} وكان ذلك قبل تحريم الخمر، وقال {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} وقوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قال قتادة وغيره: متشابه في الورق والشكل، قريب بعضه من بعض، ومتخالف في الثمار شكلاً وطعماً وطبعاً، وقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أي نضجه، قاله البراء بن عازب، وابن عباس، والضحاك، وعطاء الخراساني، والسدي، وقتادة، وغيرهم، أي فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود، بعد أن كان حطباً، صار عنباً ورطباً، وغير ذلك مما خلق سبحانه وتعالى، من الألوان والأشكال والطعوم والروائح، كقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} الآية، ولهذا قال ههنا {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ} أيها الناس {لَآياتٍ} أي دلالات، على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي يصدقون به ويتبعون رسله.
{وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ الْجِنّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَصِفُونَ}
هذا رد على المشركين، الذين عبدوا مع الله غيره، وأشركوا به في عبادته، أن عبدوا الجن، فجعلوهم شركاء له في العبادة، تعالى الله عن شركهم وكفرهم. فإن قيل: فكيف عبدت الجن، مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام ؟ فالجواب: أنهم ما عبدوها، إلا عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ(2/195)
مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لعنه الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } وكقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} الآية.
وقال إبراهيم لأبيه {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} وكقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وتقول الملائكة يوم القيامة {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} أي وخلقهم، فهو الخالق وحده لا شريك له، فكيف يعبد معه غيره، كقول إبراهيم {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ومعنى الآية، أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة، وحده لا شريك له، وقوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ينبه به تعالى عن ضلال من ضل، في وصفه تعالى بأن له ولداً كما يزعم من قاله من اليهود في عزير، ومن قال من النصارى في عيسى، ومن قال من مشركي العرب في الملائكة، إنها بنات الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ومعنى وخرقوا أي اختلقوا وائتفكوا وتخرصوا وكذبوا، كما قاله علماء السلف: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وخرقوا يعني تخرصوا، وقال العوفي عنه {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال كذبوا وكذا قال الحسن، وقال الضحاك، وضعوا، وقال السدي قطعوا، قال ابن جرير: وتأويله إذاً وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياهم، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير، {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلاً بالله وبعظمته، فإنه لا ينبغي لمن كان إلهاً، أن يكون له بنون وبنات، ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك، ولهذا قال {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} أي تقدس وتنزه وتعاظم، عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون، من الأولاد والأنداد والنظراء والشركاء. {بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنّىَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي مبدعهما، وخالقهما، ومنشئهما، ومحدثهما، على غير مثال سبق، كما قال مجاهد والسدي: ومنه سميت البدعة بدعة، لأنه لا نظير لها فيما سلف، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أي كيف يكون ولد، {لَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}، أي والولد إنما يكون متولداً بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه، لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبة له ولا ولد، كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمن ولداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّ} إلى قوله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء، وأنه بكل شيء عليم، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه، وهو الذي لا نظير له، فأنى يكون له ولد، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ}
يقول تعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ} أي الذي خلق كل شيء، ولا ولد له ولا صاحبة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ(2/196)
كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} أي فاعبدوه وحده، لا شريك له، وأقروا له بالواحدنية، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا ولد له، ولا والد ولا صاحبة له، ولا نظير ولا عديل {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي حفيظ ورقيب، يدبر كل ما سواه، ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فيه أقوال للأئمة من السلف
(أحدها) لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة، كما تواترت به الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير ما طريق ثابت، في الصحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب، وفي رواية على الله، فإن الله تعالى قال: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} رواه ابن أبي حاتم: من حديث أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي الضحى، عن مسروق، ورواه غير واحد عن مسروق، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه، وخالفها ابن عباس، فعنه: إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين، والمسألة تذكر في أول سورة النجم أن شاء الله.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر محمد بن مسلم، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا يحيى بن معين، قال: سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} قال هذا في الدنيا، وذكر أبي عن هشام بن عبيد الله، أنه قال نحو ذلك. وقال آخرون {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أي جميعها وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة،
وقال آخرون من المعتزلة، بمقتضى ما فهموه من هذه الآية، أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل، بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب، فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقال تعالى عن الكافرين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} قال الإمام الشافعي: فدل هذا، على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. أما السنة، فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وأنس، وجريج، وصهيب، وبلال وغير واحد من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، في العرصات وفي روضات الجنات، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
وقيل المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار} أي العقول، رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين، عن الفلاس، عن ابن مهدي، عن أبي حصين يحيى بن الحصين، قارى أهل مكة، أنه قال ذلك، وهذا غريب جداً، وخلاف ظاهر الآية، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية، والله أعلم. وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو ؟ فقيل معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلاّ هو، وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر، فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى. قال ابن علية في الآية: هذا في الدنيا رواه ابن أبي حاتم.
وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية، وهو الإحاطة، ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} وفي صحيح مسلم: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" ولا يلزم منه عدم الثناء فكذلك هذا. قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قال لا يحيط بصر أحد بالملك، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد، حدثنا أسباط، عن سماك، عن عكرمة، أنه قيل له {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} قال ألست ترى السماء ؟ قال بلى، قال فكلها ترى، وقال سعيد بن أبي عروبة(2/197)
عن قتادة في الآية {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.
وقال ابن جرير: حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا خالد بن عبد الرحمن، حدثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به، من عظمته، وبصره محيط بهم، فذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وورد في تفسير هذه الآية حديث رواه ابن أبي حاتم ههنا، فقال: حدثنا أبو زرعة، حدثنا منجاب بن الحارث السهمي، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قال: "لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا، صفوا صفاً واحداً، ما أحاطوا بالله أبداً" غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، والله أعلم.
وقال آخرون في الآية بما رواه الترمذي في جامعه، وابن أبي عاصم في كتاب السنة له، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مردويه أيضاً، والحاكم في مستدركه، من حديث الحكم بن أبان، قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: رأى محمد ربه تبارك وتعالى، فقلت: أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} الآية، فقال لي: لا أم لك، ذلك نوره، الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، وفي رواية لا يقوم له شيء، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وفي معنى هذا الأمر، ما ثبت في الصحيحين، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور - أو النار - لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" وفي الكتب المتقدمة: أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، أي تدعثر، وقال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه، تعالى وتقدس وتنزه، فلا تدركه الأبصار.
ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تثبت الرؤية في الدار الآخرة، وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فالذي نفته الإدراك، الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال، على ما هو عليه، فإن ذلك غير ممكن للبشر، ولا للملائكة، ولا لشيء، وقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه، لأنه خلقها، كما قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وقد يكون عبر بالإبصار عن المبصرين، كما قال السدي: في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} لا يراه شيء، وهو يرى الخلائق، وقال أبو العالية في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} قال اللطيف لاستخراجها، الخبير بمكانها، والله أعلم، وهذا كما قال تعالى إخباراً عن لقمان، فيما وعظ به ابنه {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
{ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَكَذَلِكَ نُصَرّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ}(2/198)
كقوله: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ولهذا قال {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} لما ذكر البصائر، قال {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} أي إنما يعود وباله عليه، كقوله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي بحافظ ولا رقيب، بل أنا مبلغ، والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} أي وكما فصلنا الآيات في هذه السورة، من بيان التوحيد، وأنه لا إله إلا هو، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين، وليقول المشركون والكافرون المكذبون، دارست يا محمد من قبلك، من أهل الكتاب وقارأتهم، وتعلمت منهم، هكذا قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وغيرهم، وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن كيسان، قال سمعت ابن عباس يقول: دارست: تلوت، خاصمت، جادلت، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} الآية، وقال تعالى إخباراً عن زعيمهم وكاذبهم {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، وقوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} الآية، وكقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} وقال {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة، على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين، وأنه يضل به من يشاء، ويهدي من يشاء.
ولهذا قال ههنا {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وقرأ بعضهم {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} قال التميمي عن ابن عباس: درست أي قرأت وتعلمت، وكذا قال مجاهد، والسدي، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد، وقال عبد الرزاق: عن معمر، قال الحسن {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} يقول تقادمت وانمحت، وقال عبد الرزاق أيضاً: أنبأنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمعت ابن الزبير يقول: أن صبياناً يقرأون ها هنا دَرَسَتْ، وإنما هي دَرَسْتَ، وقال شعبة: حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال: هي في قراءة ابن مسعود دَرَسَتْ، يعني بغير ألف، بنصب السين ووقف على التاء، قال ابن جرير: ومعناه انمحت وتقادمت، أي أن هذا الذي تتلوه علينا، قد مر بنا قديماً وتطاولت مدته، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، أنه قرأها دُرِسَتْ، أي قُرأت وتُعِلمت، وقال معمر عن قتادة: دُرِسَتْ قُرِأتْ، وفي حرف ابن مسعود: درس، وقال عبيد القاسم بن سلام: حدثنا حجاج، عن هارون، قال: هي في حرف أبي بن كعب، وابن مسعود وليقولوا درس، قال يعنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ، وهذا غريب، فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا: قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن ليث، حدثنا أبو(2/199)
سلمة، حدثنا أحمد بن أبي بزة المكي، حدثنا وهب بن زمعة، عن أبيه، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} ورواه الحاكم في مستدركه من حديث وهب بن زمعة، وقال: يعني بجزم السين ونصب التاء، ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
{اتّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}
يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتبع طريقته {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي اقتد به واقتف أثره، واعمل به، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق، الذي لا مرية فيه، لأنه لا إله إلا هو {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي اعف عنهم واصفح واحتمل أذاهم، حتى يفتح الله لك، وينصرك ويظفرك عليهم، واعلم أن لله حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لجمعهم على الهدى {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} أي بل له المشيئة والحكمة، فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي حافظاً، تحفظ أقوالهم وأعمالهم {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي موكل على أرزاقهم وأمورهم أن عليك إلا البلاغ كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وقال {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.
{وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
يقول الله تعالى ناهياً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سبّ آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقال عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدواً بغير علم، فأنزل الله {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في تفسيره هذه الآية لما حضر أبا طالب الموت: قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعه، فلما مات قتلوه.
فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري، وبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب، قالوا: استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك، يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه، فدخلوا عليه، فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تريدون ؟" قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، ولندعك وإلهك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(2/200)
"أرأيتم أن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة، أن تكلمتم بها ملكتم العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج" قال أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قالوا: فما هي ؟ قال قولوا "لا إله إلا الله" فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب: يا ابن أخي قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها، قال: "يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي، ما قلت غيرها" إرادة أن يؤيسهم فغضبوا، وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك، فذلك قوله: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} ومن هذا القبيل، وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها، ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ملعون من سب والديه" قالوا: يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" أو كما قال صلى الله عليه وسلم وقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم، والمحاماة لها والانتصار، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة، والحكمة التامة، فيما يشاؤه ويختاره {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} أي معادهم ومصيرهم {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي يجازيهم بأعمالهم، أن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌ.
{وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لّيُؤْمِنُنّ بِهَا قُلْ إِنّمَا الآيات عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
يقول تعالى إخباراً عن المشركين، أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، أي حلفوا أيماناً مؤكدة {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} أي معجزة وخارقة {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} أي ليصدقنها {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل: يا محمد هؤلاء الذين يسألونك الآيات، تعنتاً وكفراً وعناداً، لا على سبيل الهدى والاسترشاد، إنما مرجع هذه الآيات إلى الله، أن شاء جاءكم بها، وإن شاء ترككم، قال ابن جرير: حدثنا هناد، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش، فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كان لهم ناقة، فآتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي شيء تحبون أن آتيكم به"، قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً، فقال لهم: "فإن فعلت تصدقوني ؟" قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال له: ما شئت أن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل يتوب تائبهم" فأنزل الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} إلى قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} وهذا مرسل، وله شواهد من وجوه أخر.
وقال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية، وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} قيل المخاطب بما يشعركم المشركون وإليه ذهب مجاهد وكأنه يقول لهم، وما يدريكم بصدقكم، في هذه الأيمان التي تقسمون بها، وعلى هذا فالقراءة {إنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} بكسر أنها استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عن مجيء الآيات التي طلبوها، وقرأ(2/201)
بعضهم {أنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} بالتاء المثناة من فوق وقيل المخاطب بقوله وما يشعركم المؤمنون، يقول وما يدريكم أيها المؤمنون، وعلى هذا فيجوز في قوله: {أنها} الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم، وعلى هذا فتكون لا في قوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} صلة كقوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، وحرام أنهم يرجعون، وتقديره في هذه الآية، وما يدريكم أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك، حرصاً على إيمانهم، أنها إذا جاءتهم الآيات يؤمنون، قال بعضهم أنها بمعنى لعلها. قال ابن جرير: وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب، قال: وقد ذكر عن العرب سماعاً اذهب إلى السوق، أنك تشتري لنا شيئاً، بمعنى لعلك تشتري، قال وقد قيل أن قول عدي بن زيد العبادي من هذا:
أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
وقد اختار هذا القول ابن جرير، وذكر عليه من شواهد أشعار العرب والله أعلم. وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: لما جحد المشركون ما أنزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، وردّت عن كل أمر، وقال مجاهد في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} ونحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة، وكذا قال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، وقال {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} جل وعلا وقال {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} إلى قوله: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فأخبر الله سبحانه، أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى، وقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقال: ولو ردوا إلى الدنيا، لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا، وقوله: {وَنَذَرُهُمْ} أي نتركهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} قال ابن عباس والسدي: في كفرهم. وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة: في ضلالهم {يَعْمَهُونَ} قال الأعمش: يلعبون، وقال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، والربيع، وأبو مالك، وغيره: في كفرهم يترددون.
{وَلَوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلّمَهُمُ الْمَوْتَىَ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً مّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوَاْ إِلاّ أن يَشَآءَ اللّهُ وَلَكِنّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}
يقول تعالى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء، الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم، لئن جاءتم آية ليؤمنن بها، فنزلنا عليهم الملائكة تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} و {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} أي فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} قرأ بعضهم، قَبلاً بكسر القاف وفتح الباء، من المقابلة والمعاينة، وقرأ آخرون بضمهما، قيل معناه من المقابلة والمعاينة أيضاً، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال مجاهد قبلاً أي أفواجاً، قبيلاً قبيلاً، أي تعرض عليهم كل أمة بعد أمة، فيخبرونهم بصدق الرسل فيما جاءوهم به {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ(2/202)
اللَّهُ} أي أن الهداية إليه لا إليهم، بل يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لعلمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته، وهذه الآية كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَىَ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مّقْتَرِفُونَ}
يقول تعالى: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك، جعلنا لكل نبي من قبلك أيضاً أعداء فلا يحزنك ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} الآية، وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} الآية، وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وقوله: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} بدل من { عَدُوّاً} أي لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم، قال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن قتادة، في قوله: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} قال من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض، قال قتادة: وبلغني أن أبا ذر، كان يوماً يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن" فقال: أو أن من الإنس شياطين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر. وقد روي من وجه آخر، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب، وغيره من المشيخة، عن ابن عائذ، عن أبي ذر، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، قد أطال فيه الجلوس، قال، فقال: "يا أبا ذر هل صليت" قلت: لا يا رسول الله، قال: "قم فاركع ركعتين" قال: ثم جئت فجلست إليه، فقال: "يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شياطين الإنس والجن" قال: قلت: لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين ؟ قال: "نعم هم شر من شياطين الجن" وهذا أيضاً فيه انقطاع, وروي متصلاً.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا المسعودي، أنبأنا أبو عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست فقال: "يا أبا ذر هل صليت ؟" قلت: لا، قال : "قم فصلّ" قال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: "يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن" قال: قلت: يا رسول الله وللإنس شياطين ؟ قال: "نعم" وذلك تمام الحديث بطوله. وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من حديث جعفر بن عون، ويعلى بن عبيد، وعبيد الله بن موسى، ثلاثتهم عن المسعودي به.
(طريق أخرى عن أبي ذر) قال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن حميد بن هلال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن" قال: قلت: يا رسول الله هل للإنس من شياطين ؟ قال: "نعم".(2/203)
(طريق أخرى للحديث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر تعوذت من شياطين الإنس والجن" قال: قلت يا رسول وهل للإنس شياطين ؟ قال: "نعم" {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم، قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو نعيم، عن شريك، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} قال: ليس من الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن، قال: وحدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن عكرمة، في قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا} قال: للأنسي شيطان، وللجني شيطان، فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض، زخرف القول غروراً، وقال أسباط عن السدي عن عكرمة في قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}: أما شياطين الإنس، فالشياطين التي تضل الإنس، وشياطين الجن التي تضل الجن، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضاً، ففهم ابن جرير من هذا، أن المراد بشياطين الإنس، عند عكرمة والسدي، الشياطين من الجن الذين يضلون الناس، لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم، ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عكرمة، وأما كلام السدي فليس مثله في هذا المعنى، وهو محتمل، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا عن ابن عباس، من رواية الضحاك عنه، قال: أن للجن شياطين يضلونهم، مثل شياطين الإنس يضلونهم، قال: فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا أضلله بكذا، فهو قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وعلى كل حال، فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر، أن للإنس شياطين منهم، وشيطان كل شيء مارده، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكلب الأسود شيطان" ومعناه والله أعلم - شيطان في الكلاب، وقال ابن جريج: قال مجاهد: في تفسير هذه الآية، كفار الجن شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفار الإنس، زخرف القول غروراً.
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني، حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل، قال: فقال لي: اخرج إلى الناس فحدثهم، قال: فخرجت، فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي، فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} وقال تعالى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراًً} قال فهمّوا بي أن يأخذوني، فقلت لهم: ما لكم ذاك، إني مفتيكم وضيفكم فتركوني، وإنما عرض عكرمة بالمختار، وهو ابن أبي عبيد قبحه الله، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر، وكانت من الصالحات، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} وقوله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي وذلك كله بقدر الله وقضائه، وإرادته ومشيئته، أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء {فَذَرْهُمْ} أي فدعهم، {وَمَا يَفْتَرُونَ} أي يكذبون. أي دع أذاهم، وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم، وقوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} أي ولتميل إليه. قاله ابن عباس {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم، وقال السدي: قلوب الكافرين {وَلِيَقْتَرِفُوا} أي يحبوه ويريدوه، وإنما يستجيب ذلك من لا(2/204)
يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} وقال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، وليكتسبوا ما هم مكتسبون، وقال السدي وابن زيد: وليعملوا ما هم عاملون.
{أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الّذِيَ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلاً وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ}
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المشركين بالله، الذين يعبدون غيره {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} أي بيني وبينكم {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} أي مبيناً {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي من اليهود والنصارى، {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ}، أي بما عندهم من البشارات بك، من الأنبياء المتقدمين {فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وهذا شرط، والشرط لا يقتضي وقوعه، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أشك ولا أسأل" وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} قال قتادة: صدقاً فيما قال وعدلاً فيم حكم، يقول صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة، كما قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} إلى آخر الآية {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى، لا في الدنيا ولا في الآخرة {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوال عباده {الْعَلِيمُ} بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كل عامل بعمله.
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ أن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ أن رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
يخبر تعالى: عن حال أكثر أهل الأرض، من بني آدم أنه الضلال، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} فإن الخرص هو الجزر، ومنه خرص النخل، وهو جزر ما عليها من التمر، وذلك كله عن قدر الله ومشيئته {هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} فييسره لذلك {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فييسرهم لذلك، وكل ميسر لما خلق له.
{فَكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ أن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصّلَ لَكُمْ مّا حَرّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنّ كَثِيراً لّيُضِلّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ أن رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}(2/205)
هذا إباحة من الله، لعباده المؤمنين، أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه، ومفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات، وأكل ما ذبح على النصب وغيرها، ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، فقال {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أي قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه، قرأ بعضهم فصل بالتشديد، وقرأ آخرون بالتخفيف، والكل بمعنى البيان والوضوح، {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أي إلا في حال الاضطرار، فإنه يباح لكم ما وجدتم، ثم بين تعالى جهالة المشركين، في آرائهم الفاسدة، من استحلالهم الميتات، وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى، فقال {وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم أن ربك هو أعلم بالمعتدين} أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.
{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ أن الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ}
قال مجاهد {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} المعصية في السر والعلانية، وفي رواية عنه، هو ما ينوي مما هو عامل، وقال قتادة {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} أي سره وعلانيته قليلة وكثيرة، وقال السدي: ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان، وقال عكرمة: ظاهره نكاح ذوات المحارم، والصحيح أن الآية عامة في ذلك كله، وهي كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} الآية، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} أي سواء كان ظاهراً أو خفياً، فإن الله سيجزيهم عليه، قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم، فقال: "الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه".
{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْقٌ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىَ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً، وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة، على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة، وسواء متروك التسمية عمداً أو سهواً، وهو مروي عن ابن عمر، ونافع مولاه، وعامر الشعبي، ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن الإمام مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين، وهو اختيار أبي ثور، وداود الظاهري، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي، من متأخري الشافعية، في كتابه "الأربعين"، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية، وبقوله في آية الصيد {اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ َاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} ثم قد أكد في هذه الآية بقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والضمير قيل عائد على الأكل، وقيل عائد على الذبح، لغير الله، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك" وهما في الصحيحين، وحديث رافع بن خديج: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه" وهو في الصحيحين أيضاً، وحديث ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: "لكم كل عظم ذكر اسم الله(2/206)
عليه" رواه مسلم، وحديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح، حتى صلينا فليذبح باسم الله" أخرجاه، وعن عائشة رضي الله عنها: أن ناساً قالوا: يا رسول الله أن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال: "سموا عليه أنتم وكلوا" قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر رواه البخاري، ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها، وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح أن لم تكن وجدت، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد، والله أعلم.
والمذهب الثاني في المسألة: أنه لا يشترط التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركت عمداً أو نسياناً لا يضر، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وجميع أصحابه، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل نقلت عنه. وهو رواية عن الإمام مالك، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه، وحكي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح، والله أعلم. وحمل الشافعي الآية الكريمة {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} على ما ذبح لغير الله، كقوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وقال ابن جريج عن عطاء {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال: ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي، وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل الواو في قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} حالية، أي: لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقاً، ولا يكون فسقاً حتى يكون قد أهل به لغير الله. ثم ادعى أن هذا متعين ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة، لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية على جملة فعلية طلبية وهذا ينتقض عليه بقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} فإنها عاطفة لا محالة، فإن كانت الواو التي ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال، امتنع عطف هذه عليها فإن عطفت على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره، وإن لم تكن الواو حالية بطل ما قال من أصله، والله أعلم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في الآية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال: هي الميتة.
ثم رواه عن أبي زرعة، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن لهيعة، عن عطاء وهو ابن السائب به، وقد استدل لهذا المذهب، بما رواه أبو داود في المراسيل: من حديث ثور بن يزيد، عن الصلت السدوسي مولى سويد بن منجوف، أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثقات، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إنه أن ذكر لم يذكر إلا اسم الله" وهذا مرسل، يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: "إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله" واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، أن ناساً قالوا: يا رسول الله، أن قوماً حديثي عهد بجاهلية، يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال: "سموا أنتم وكلوا" قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً، لم يرخص لهم إلا مع تحققها، والله أعلم.
المذهب الثالث في المسألة: أن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر، وإن تركها عمداً لم تحل، هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق بن راهويه: وهو محكي عن علي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والحسن البصري، وأبي مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني، في كتابه(2/207)
"الهداية" الإجماع قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمداً، فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ: لو حكم حاكم بجواز بيعه، لم ينفذ لمخالفة الإجماع، وهذا الذي قاله غريب جداً، وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي، والله أعلم.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: من حرم ذبيحة الناس فقد خرج من قول جميع الحجة، وخالف الخير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو أمية الطرسوسي، حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " المسلم يكفيه اسمه أن نسي أن يسمي حين يذبح، فليذكر اسم الله وليأكله" وهذا الحديث رفعه خطأ، أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري، فإنه وإن كان من رجال مسلم، إلا أن سعيد بن منصور، وعبد الله بن الزبير الحميدي، روياه: عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، من قوله فزادا في إسناده أبا الشعثاء ووقفاه، وهذا أصح، نص عليه البيهقي وغيره من الحفاظ، ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي، ومحمد بن سيرين، أنهما كرها متروك التسمية نسيانا، والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيراً، والله أعلم، إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفاً لقول الجمهور، فيعده إجماعاً، فليعلم هذا، والله الموفق.
قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو أسامة، عن جَهِير بن يزيد، قال: سئل الحسن، سأله رجل: أتيت بطير كذا، فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير، فقال الحسن كله كله، قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ذر، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وفيه نظر، والله أعلم، وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي من حديث مروان بن سالم القرقساني، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسم الله على كل مسلم" ولكن هذا إسناده ضعيف، فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي ضعيف، تكلم فيه غير واحد من الأئمة، والله أعلم. وقد أفردت هذه المسألة على حدة، وذكرت مذاهب الأئمة ومأخذهم وأدلتهم ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات، والله أعلم.
قال ابن جرير: وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عنيت به، وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم، وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: قال الله {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} وقال {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فنسخ واستثنى من ذلك، فقال {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وقال ابن أبي حاتم: قرى على العباس بن الوليد بن يزيد، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان، يعني ابن المنذر، عن مكحول، قال: أنزل الله في القرآن {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فنسخها بذلك، وأحل طعام أهل الكتاب. ثم قال ابن جرير: والصواب أنه لا تعارض، بين حل طعام أهل الكتاب، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وهذا الذي قاله صحيح، ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص، والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/208)
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، قال: قال رجل لابن عمر، أن المختار يزعم أنه يوحى إليه، قال: صدق، وتلا هذه الآية {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} وحدثنا أبي: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، قال: كنت قاعداً عند ابن عباس، وحج المختار بن أبي عبيد، فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس، زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة، فقال ابن عباس: صدق، فنفرت، وقلت يقول ابن عباس: صدق ؟ فقال ابن عباس: هما وحيان: وحي الله ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ووحي الشيطان إلى أوليائه، ثم قرأ {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} وقد تقدم عن عكرمة في قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} نحو هذا.
وقوله: {لِيُجَادِلُوكُمْ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل الله، فأنزل الله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} هكذا رواه مرسلاً، ورواه أبو داود متصلاً، فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل الله، فأنزل الله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية، وكذا رواه ابن جرير: عن محمد بن عبد الأعلى، وسفيان بن وكيع، كلاهما عن عمران بن عيينة به.
ورواه البزار عن محمد بن موسى الجرشي، عن عمران بن عيينة به، وهذا فيه نظر، من وجوه ثلاثة:
(أحدها) أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا
(الثاني) أن الآية من الأنعام وهي مكية
(الثالث) أن هذا الحديث رواه الترمذي عن محمد بن موسى الجرشي، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ورواه الترمذي بلفظ أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، وقال حسن غريب، وروي عن سعيد بن جبير مرسلاً، وقال الطبراني: حدثنا علي بن المبارك حدثنا زيد بن المبارك، حدثنا موسى بن عبد العزيز، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما نزلت {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أرسلت فارس إلى قريش، أن خاصموا محمداً وقولوا له: فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله عز وجل بشمشير من ذهب، يعني الميتة، فهو حرام ؟ فنزلت هذه الآية {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي وإن الشياطين من فارس، ليوحون إلى أوليائهم من قريش.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل، حدثنا سماك عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم، عن عمرو بن عبد الله، عن وكيع، عن إسرائيل به، وهذا إسناد صحيح، ورواه ابن جرير، من طرق متعددة، عن ابن عباس، وليس فيه ذكر اليهود، فهذا هو المحفوظ، لأن الآية مكية، واليهود لا يحبون الميتة، وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلى قوله: {لِيُجَادِلُوكُمْ} قال: يوحي الشياطين إلى أوليائهم تأكلون مما قتلتم، ولا تأكلوا مما قتل الله ؟ وفي بعض ألفاظه، عن ابن عباس، أن الذي قتلتم ذكر اسم الله عليه، وأن الذي قد مات، لم يذكر اسم الله عليه.
وقال ابن جريج: قال عمرو بن دينار عن عكرمة أن(2/209)
مشركي قريش كاتبو فارس على الروم، وكاتبتهم فارس، فكتبت فارس إليهم: أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكلونه وما ذبحوه هم يأكلونه، فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ونزلت {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وقال السدي: في تفسير هذه الآية: أن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله، فما قتل الله فلا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم تأكلونه ؟ فقال الله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} فأكلتم الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وهكذا قاله مجاهد، والضحاك، وغير واحد من علماء السلف.
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي حيث عدلتم، عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، كقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، وقد روى الترمذي: في تفسيرها عن عدي بن حاتم، أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم، فقال: "بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً، أي في الضلالة هالكاً حائراً، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتباع رسله، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به، والنور هو القرآن كما رواه العوفي، وابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقال السدي، الإسلام، والكل صحيح {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} أي الجهالات، والأهواء والضلالات المتفرقة، {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه، وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل" كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور أن إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}، والآيات في هذا كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين ههنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}، وزعم بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان، فقيل عمر بن الخطاب، هو الذي كان ميتاً فأحياه الله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وقيل عمار بن ياسر، وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها أبو جهل عمرو بن هشام لعنه الله، والصحيح أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي حسنا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة، قدراً من الله وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له.(2/210)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}
يقول تعالى، وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين، ورؤوساء ودعاة إلى الكفر، والصد عن سبيل الله، وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك، ثم تكون لهم العاقبة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا} الآية، قيل معناه: أمرناهم بالطاعة فخالفوا، فدمرناهم، قيل: أمرناهم أمراً قدرياً، كما قال ههنا {يَمْكُرُوا فِيهَا} وقوله تعالى: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} قال: سلطنا شرارهم فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.
وقال مجاهد وقتادة {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} عظماؤها، قلت: وهكذا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} والمراد بالمكر ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً} الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، قال: كل مكر في القرآن فهو عمل، وقوله تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم، كما قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وقال {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} أي إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة، قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة، كما تأتي إلى الرسل، كقوله جل وعلا { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} الآية.
وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} الآية، يعنون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} أي من مكة والطائف، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً كقوله تعالى مخبراً عنه: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} وقال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه(2/211)
"الأمين" وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم ؟ قال: هو فينا ذو نسب، قال هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال: لا - الحديث بطوله، الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الله اصطفى من ولد إبراهيم إِسماعيل واصطفى من بني إِسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم" انفرد بإخراجه مسلم، من حديث الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام به نحوه، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: قال العباس: بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس، فصعد المنبر فقال "من أنا ؟" قالوا أنت رسول الله، فقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً" صدق صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث أيضاً، المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم" رواه الحاكم والبيهقي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: أن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء. وقال أحمد: حدثنا شجاع بن الوليد، قال: ذكر قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن سلمان، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك" قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله ؟ قال: "تبغض العرب فتبغضني" وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية، ذكر عن محمد بن منصور الجواز، حدثنا سفيان عن أبي حسين قال: أبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد، فلما نظر إليه راعه فقال: من هذا ؟ قالوا ابن عباس ابن عم رسول لله صلى الله عليه وسلم فقال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}
وقوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} الآية، هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاؤوا به، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار وهو الذلة الدائمة، لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين ذليلين حقيرين، وقوله تعالى: {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة، جزاء وفاقاً، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر، وجاء في الصحيحين عن رسول لله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ينصب لكل غادر لواء عند أسته يوم القيامة، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان بن فلان" والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.(2/212)
{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}
يقول تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} أي ييسره له وينشطه ويسهله، لذلك فهذه علامات على الخير، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} الآية، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} يقول تعالى: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به، وكذا قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر.
وقال عبد الرزاق، أخبرنا الثوري عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر، قال، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكيس ؟ قال: "أكثرهم ذكراً للموت وأكثرهم لما بعده استعداداً" قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال: "نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح" قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت" وقال ابن جرير: حدثنا هناد، حدثنا قبيصة عن سفيان يعني الثوري، عن عمرو بن مرة، عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} فذكر نحو ما تقدم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات القزاز، عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل الإيمان القلب أنفسح له القلب وانشرح" قالوا: يا رسول الله هل لذلك من أمارة ؟ قال: "نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت" وقد رواه ابن جرير: عن سوار بن عبد الله العنبري، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة، عن أبي جعفر فذكره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن المسوّر، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} قالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح ؟ قال: "نور يقذف به في القلب" قالوا: يا رسول الله فهل لذلك من أمارة تعرف ؟ قال "نعم" قالوا: وما هي ؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت".
وقال ابن جرير أيضاً: حدثني هلال بن العلاء، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله: "إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح" قالوا: فهل لذلك من علامة يعرف بها ؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت" وقد رواه من وجه آخر عن ابن مسعود متصلاً مرفوعاً فقال: حدثني ابن سنان القزاز، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي، عن يونس، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} قالوا: يا رسول الله وكيف يشرح صدره ؟ قال: "يدخل فيه النور فينفسح" قالوا: وهل لذلك علامة يا رسول الله ؟ قال: "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت" فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة، يشد بعضها بعضاً، والله أعلم.(2/213)
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} قرىء بفتح الضاد وتسكين الياء، والأكثرون ضيقاً بتشديد الياء وكسرها، وهما لغتان كهين وهين، وقرأ بعضهم حرجاً بفتح الحاء وكسر الراء قيل بمعنى آثم، قاله السدي، وقيل: بمعنى القراءة الأخرى حرجاً بفتح الحاء والراء، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان، ولا ينفذ فيه.
وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة، فقال: هي الشجرة تكون بين الأشجار، لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. وقال العوفي: عن ابن عباس، يجعل الله عليه الإسلام ضيقاً، والإسلام واسع، وذلك حين يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق، وقال مجاهد والسدي: ضيقاً حرجاً شاكاً، وقال عطاء الخراساني: ضيقاً حرجاً أي ليس للخير فيه منفذ، وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقاً حرجاً بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخل قلبه، {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جبير: يجعل صدره ضيقاً حرجاً، قال: لا يجد فيه مسلكاً إلا صعداً. وقال السدي {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره.
وقال عطاء الخراساني {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال الحكم بن أبان: عن عكرمة عن ابن عباس {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه، حتى يدخله الله في قلبه، وقال الأوزاعي { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقاً أن يكون مسلماً.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه، يقول: فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه، مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأنه ليس في وسعه وطاقته، وقال: في قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} يقول: كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقاً حرجاً، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله، ممن أبى الإيمان بالله ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل الله، وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الرجس الشيطان، وقال مجاهد: الرجس: كل مالا خير فيه، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرجس العذاب.
{وَهَذَا صِرَاطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذّكّرُونَ لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ وَهُوَ وَلِيّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها، نبه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، فقال تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً} منصوب على الحال، أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم، كما تقدم في حديث الحارث عن علي في نعت القرآن: هو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، رواه أحمد والترمذي بطوله، {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أي وضحناها وبيناها وفسرناها {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} وهي الجنة {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي يوم القيامة، وإنما وصف الله الجنة ههنا بدار السلام، لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم، فكما سلموا من آفات الاعوجاج(2/214)
أفضوا إلى دار السلام {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جزاء على أعمالهم الصالحة، تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه.
{وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الّذِيَ أَجّلْتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ أن رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ}
يقول تعالى واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} أي ثم يقول: يا معشر الجن، وسياق الكلام يدل على المحذوف، ومعنى قوله: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} أي من إغوائهم، وإضلالهم، كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} يعني أضللتم منهم كثيراً، وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا: مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة، حدثنا عوف عن الحسن في هذه الآية، قال استكثرتم من أهل النار يوم القيامة، فقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، قال الحسن وما كان استمتاع بعضهم ببعض، إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس، وقال محمد بن كعب في قوله: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} قال الصحابة: في الدنيا.
وقال ابن جريج: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي، فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة، وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر، ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم، فيقولون: قد سدنا الإنس والجن {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} قال السدي: يعني الموت، {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم، {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها مكثاً مخلداً إلا ما شاء الله، قال بعضهم: يرجع معنى الاستثناء إلى البرزخ، وقال بعضهم: هذا رد إلى مدة الدنيا، وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها، عند قوله تعالى في سورة هود، {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيره هذه الآية، من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي حاتم بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قال: أن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.
{وَكَذَلِكَ نُوَلّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
قال سعيد عن قتادة في تفسيرها: إنما يولي الله الناس بأعمالهم، فالمؤمن وليّ المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر وليّ الكافر أينما كان وحيثما كان، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي واختاره ابن جرير، وقال معمر(2/215)
عن قتادة في تفسير الآية: يولي الله بعض الظالمين بعضاً في النار، يتبع بعضهم بعضاً. وقال مالك بن دينار: قرأت في الزبور، إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين، ثم أنتقم من المنافقين جميعاً، وذلك في كتاب الله قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: في قوله: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس، وقرأ {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} قال: ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد، من طريق سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن ذر، عن ابن مسعود، مرفوعاً: "من أعان ظالماً سلطه الله عليه" وهذا حديث غريب، وقال بعض الشعراء:
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
ومعنى الآية الكريمة، كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين نسلط بعضهم على بعض ونهلك بعضهم ببعض وننتقم من بعضهم ببعض، جزاء على ظلمهم وبغيهم.
{ يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}
وهذا أيضاً مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة، حيث يسألهم وهو أعلم هل بلغتهم الرسل رسالاته ؟ وهذا استفهام تقرير {يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ} أي من جملتكم، والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل، كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف، وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلاً واحتج بهذه الآية الكريمة، وفيه نظر، لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلى أن قال {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو، وهذا واضح ولله الحمد، وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن جرير، والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس، قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - إلى قوله - رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
وقوله تعالى: عن إبراهيم {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد من الناس: أن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل، ثم انقطعت عنهم ببعثته، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} وقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب، ولهذا قال تعالى إخباراً عنهم {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره:(2/216)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة، وقال تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي وقد فرطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي يوم القيامة {أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} أي في الدنيا، بما جاءتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
{ذَلِكَ أن لّمْ يَكُنْ رّبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ}
يقول تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة، ولكن أعذرنا إلى الأمم، وما عذنبا أحداً إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} والآيات في هذا كثيرة.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير: ويحتمل قوله تعالى: {بِظُلْمٍ} وجهين:
(أحدهما) {ذَلِكَ} من أجل {أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون، ويقول: أن لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولاً ينبههم على حجج الله عليهم، ينذرهم عذاب الله يوم معادهم، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة، فيقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير
(والوجه الثاني) {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} يقول: لم يكن ربك. ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر فيظلمهم بذلك، والله غير ظلام لعبيده، ثم شرع يرجح الوجه الأول، ولا شك أنه أقوى، والله أعلم.
قال: وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله، يبلغه الله إياها ويثيبه بها، أن خيراً فخير وإن شراً فشرٌ، (قلت) ويحتمل أن يعود قوله: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي من كافري الجن والإنس، أي ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قال ابن جرير: أي وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
{وَرَبّكَ الْغَنِيّ ذُو الرّحْمَةِ أن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أن مَا تُوعَدُونَ لاَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ(2/217)
إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ}
يقول تعالى: {وَرَبِّكَ} يا محمد {الْغَنِيُّ} أي عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، {ذُو الرَّحْمَةِ} أي وهو مع ذلك رحيم بهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي إذا خالفتم أمره {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} أي قوماً آخرين، أي يعملون بطاعته {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} أي هو قادر على ذلك سهل عليه يسير لديه، كما أذهب القرون الأولى وأتى بالذي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، كما قال تعالى: {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.
قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} وقال محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبه قال: سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} الذرية الأصل والذرية النسل، وقوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي أخبرهم يا محمد، أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي ولا تعجزون الله، بل هو قادر على إعادتكم وإن صرتم تراباً رفاتاً وعظاماً، هو قادر لا يعجزه شيء، وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها: حدثني أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا محمد بن حمير عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني آدم أن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى والذي نفسي بيده إنما توعدون لاَت وما أنتم بمعجزين".
وقوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هذا تهديد شديد ووعيد أكيد أي استمروا على طريقتكم وناحيتكم أن كنتم تظنون أنكم على هدى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي كقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} ناحيتكم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي أتكون لي أو لكم وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه أي فإنه تعالى مكنه في البلاد وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد وفتح له مكة وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه واستقر أمره على سائر جزيرة العرب وكذلك اليمن والبحرين وكل ذلك في حياته ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين، كما قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وقال {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.
وقال تعالى إخباراً عن رسله {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}، الآية وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.(2/218)
{وَجَعَلُواْ للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىَ اللّهِ وَمَا كَانَ للّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىَ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً، وجعلوا لله شركاء وجزءاً من خلقه وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} أي مما خلق وبرأ {مِنَ الْحَرْثِ} أي من الزرع والثمار {وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} أي جزءاً وقسماً {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} وقوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ}. قال علي بن أبي طلحة والعوفي، عن ابن عباس أنه قال: في تفسير هذه الآية أن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان، حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئاً جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمر الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، فقال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} الآية، وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية: كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبداً حتى يذكروا معه أسماء الآلهة وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء ما يقسمون، فإنهم أخطأوا أولاً في القسم، لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وله الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته، لا إله غيره ولا رب سواه، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها، كقوله جل وعلا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} وقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} وقوله: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى}.
{وَكَذَلِكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}
يقول تعالى: وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم، شركاؤهم، زينوا لهم قتل أولادهم، وقال مجاهد: شركاؤهم شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة، وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات إما ليردوهم فيهلكوهم، وإما ليلبسوا عليهم دينهم، أي فيخلطوا عليهم دينهم ونحو ذلك.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقتادة: وهذا كقوله تعالى: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} الآية، وكقوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} وقد كانوا أيضاً يقتلون الأولاد(2/219)
من الإملاق وهو الفقر أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تلف المال وقد نهاهم عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من تزيين الشياطين وشرعهم ذلك، قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} أي كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كوناً وله الحكمة التامة في ذلك فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه فسيحكم الله بينك وبينهم.
{وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاّ يَطْعَمُهَآ إِلاّ مَن نّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا، وكذلك قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وقال قتادة {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد ولم يكن من الله تعالى، وقال ابن زيد بن أسلم {حِجْرٌ} إنما احتجروها لآلهتهم، وقال السدي {لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} يقولون حرام أن يطعم إلا من شئنا وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وكقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقال السدي أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها لا إذا ولدوها ولا أن نحروها.
وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود: قال لي أبو وائل أتدري ما في قوله: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} قلت لا، قال هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها، وقال مجاهد كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا أن ركبوا ولا أن حلبوا ولا أن حملوا ولا أن نتجوا ولا أن عملوا شيئاً {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أي على الله وكذباً منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي عليه ويسندون إليه.
{وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لّذُكُورِنَا وَمُحَرّمٌ عَلَىَ أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ}
قال أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} الآية قال اللبن. وقال العوفي عن ابن عباس {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} فهو اللبن كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه وكان للرجال دون النساء وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء فنهى الله عن ذلك وكذا قال السدي.
وقال الشعبي البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء وكذا قال عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد في قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} قال هي السائبة والبحيرة. وقال أبو العالية ومجاهد(2/220)
وقتادة في قول الله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي قولهم الكذب في ذلك يعني كقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ} الآية، {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره {عَلِيمٌ} بأعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.
{قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوَاْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}
يقول تعالى قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم، وضيقوا عليهم في أموالهم فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ متاع في مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} وهكذا رواه البخاري منفرداً في كتاب مناقب قريش من صحيحه، عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم، عن أبي عوانة واسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن أبي بشر واسمه جعفر بن أبي وحشية، بن إياس به.
{وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَ جَنّاتٍ مّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنّخْلَ وَالزّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوَاْ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ}
يقول تعالى مبيناً أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة، وقسموها وجزؤوها فجعلوا منها حراماً وحلالاً، فقال {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: معروشات مسموكات، وفي رواية فالمعروشات ما عرش الناس، وغير معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات، وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس: معروشات ما عرش من الكرم وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم، وكذا قال السدي، وقال ابن جريج متشابهاً وغير متشابه، قال: متشابهاً في المنظر وغير متشابه في المطعم، وقال محمد بن كعب {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قال: من رطبه وعنبه، وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال ابن جرير: قال بعضهم هي الزكاة المفروضة، حدثنا عمرو، حدثنا عبد الصمد، حدثنا يزيد بن درهم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: الزكاة المفروضة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله، وكذا قال سعيد بن المسيب، وقال العوفي عن ابن(2/221)
عباس {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وذلك أن الرجل كان إذا زرع، فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئاً فقال الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد، وما يلقط الناس من سنبله، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاذّ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين، وهذا إسناد جيد قوي، وقال طاوس وأبو الشعثاء وقتادة والحسن والضحاك وابن جريج: هي الزكاة، وقال الحسن البصري: هي الصدقة من الحب والثمار، وكذا قال زيد بن أسلم، وقال آخرون: وهو حق آخر سوى الزكاة، وقال أشعث: عن محمد بن سيرين ونافع عن ابن عمر في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة رواه ابن مردويه وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: يعطي من حضره يومئذ ما تيسر، وليس بالزكاة، وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه، وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: عند الزرع يعطي القبضة وعند الصرام يعطي القبضة، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام، وقال الثوري: عن حماد عن إبراهيم النخعي قال: يعطي مثل الضغث، وقال ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد بن جبير {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: كان هذا قبل الزكاة، للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته، وفي حديث ابن لهيعة: عن دراج عن أبي الهيثم عن سعيد مرفوعاً، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال :ما سقط من السنبل رواه ابن مردويه، وقال آخرون: هذا شيء كان واجباً ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر، حكاه ابن جرير عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية وإبراهيم النخعي والحسن والسدي وعطية العوفي وغيرهم، واختاره ابن جرير رحمه الله، قلت: وفي تسمية هذا نسخاً نظر، لأنه قد كان شيئاً واجباً في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته، قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة، فا لله أعلم.
وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة "ن" {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي كالليل المدلهم سوداء محترقة {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي قوة وجلد وهمة {قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
وقوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} قيل معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف، وقال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئاً ثم تباروا فيه وأسرفوا، فأنزل الله {وَلا تُسْرِفُوا} وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، جذ نخلاً له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} رواه ابن جرير عنه، وقال ابن جريج عن عطاء: نهوا عن السرف في كل شيء، وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف، وقال السدي في قوله: {وَلا تُسْرِفُوا} قال: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء، وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب في قوله: {وَلا تُسْرِفُوا} قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم، ثم اختار ابن(2/222)
جرير قول عطاء، أنه نهي عن الإسراف في كل شيء ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر والله أعلم من سياق الآية، حيث قال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا} أن يكون عائداً على الأكل، أي لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن، كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} الآية.
وفي صحيح البخاري تعليقاً "كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة" وهذا من هذا، والله أعلم، وقوله عز وجل {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} أي وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش، قيل المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل، والفرش الصغار منها، كما قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: حمولة ما حمل عليه من الإبل وفرشاً الصغار من الإبل، رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال ابن عباس: الحمولة هي الكبار والفرش الصغار من الإبل، وكذا قال مجاهد، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} أما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش فالغنم، واختاره ابن جرير قال: وأحسبه إنما سمي فرشاً لدنوه من الأرض، وقال الربيع بن أنس والحسن والضحاك وقتادة وغيره: الحمولة الإبل والبقر والفرش الغنم، وقال السدي: أما الحمولة فالإبل وأما الفرش فالفصلان والعجاجيل والغنم، وما حمل عليه فهو حمولة، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الحمولة ما تركبون والفرش ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافاً وفرشاً، وهذا الذي قاله عبد الرحمن: في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} وقال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} إلى أن قال {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ}.
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} وقوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي من الثمار والزروع والأنعام فكلها خلقها الله وجعلها رزقاً لكم { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي طريقه وأوامره كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله، أي من الثمار والزروع افتراء على الله، {إِنَّهُ لَكُمْ} أي أن الشيطان أيها الناس لكم {عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي بين ظاهر العداوة، كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} الآية، وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} والآيات في هذا كثيرة في القرآن.
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ أن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أن اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}(2/223)
هذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام، فيما كانوا حرموا من الأنعام وجعلوها أجزاء وأنواعاً بحيرة وسائبة ووصيلة وحاماً، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار، فبين تعالى أنه أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً، ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن، وسواد وهو المعز ذكره وأنثاه، وإلى إبل ذكورها وإناثها وبقر كذلك وأنه تعالى لم يحرم شيئاً من ذلك ولا شيئاً من أولادها، بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلاً وركوباً وحمولة وحلباً وغير ذلك من وجوه المنافع، كما قال {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الآية. وقوله تعالى: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} رد عليهم في قولهم {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} الآية. وقوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي أخبروني عن يقين، كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك.
وقال العوفي عن ابن عباس: قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} فهذه أربعة أزواج {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} يقول لم أحرم شيئاً من ذلك {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} يعني هل يشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى، فلم تحرمون بعضاً وتحلون بعضاً ؟ {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يقول تعالى كله حلال وقوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه من ذلك {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي لا أحد أظلم منهم {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة، لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح.
{قُل لاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ رَبّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}
يقول تعالى آمراً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم {قُل} يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، {لاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} أي آكل يأكله قيل معناه لا أجد شيئاً مما حرمتم حراماً سوى هذه، وقيل معناه لا أجد من الحيوانات شيئاً حراماً سوى هذه، فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة المائدة وفي الأحاديث الواردة رافعاً لمفهوم هذه الآية، ومن الناس من يسمي هذا نسخاً والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخاً لأنه من باب رفع مباح الأصل والله أعلم، وقال العوفي عن ابن عباس {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} يعني المهراق. وقال عكرمة في قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود، وقال حماد عن عمران بن حدير قال: سألت أبا مجلز عن الدم، وما يتلطخ من الذبيح من الرأس وعن القدر يرى فيها الحمرة ؟ فقال: إنما نهى الله عن الدم المسفوح، وقال قتادة: حرم من الدماء ما كان مسفوحاً، فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به، وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد عن يحيى بن سعيد، عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأساً، والحمرة والدم يكونان على القدر بأساً، وقرأت هذه الآية، صحيح غريب.(2/224)
وقال الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، قال: قلت لجابر بن عبد الله: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذلك الحبر، يعني ابن عباس وقرأ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية، وكذا رواه البخاري عن علي بن المديني عن سفيان به، وأخرجه أبو داود من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار، ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري كما رأيت. وقال أبو بكر بن مردويه والحاكم في مستدركه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، وقرأ هذه الآية {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية، وهذا لفظ ابن مردويه، ورواه أبو داود منفرداً به، عن محمد بن داود بن صبيح عن أبي نعيم به، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس، قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة، قال: " فلم لا أخذتم مسكها ؟" قالت نأخذ مسك شاة قد ماتت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما قال الله { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} وإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به" فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها، رواه أحمد ورواه البخاري والنسائي، من حديث الشعبي عن عكرمة عن ابن عباس عن سودة بنت زمعة بذلك أو نحوه.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه، قال: كنت عند ابن عمر فسأله رجل عن أكل القنفذ فقرأ عليه {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خبيثة من الخبائث" فقال ابن عمر: أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال، ورواه أبو داود عن أبي ثور عن سعيد بن منصور به.
وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي فمن اضطر إلى أكل شيء مما حرم الله في هذه الآية الكريمة، وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي غفور له رحيم به، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية، والغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم، بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم، وإنما حرم ما ذكر في هذه الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وما عدا ذلك فلم يحرم وإنما هو عفو مسكوت عنه، فكيف تزعمون أنتم أنه حرام ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله ؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا، كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير على المشهور من مذاهب العلماء.
{وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنّا لَصَادِقُونَ}(2/225)
قال ابن جرير، يقول تعالى وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع، كالإبل والنعام والإوز والبط، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍ} وهو البعير والنعامة، وكذا قال مجاهد والسدي في رواية، وقال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع، وفي رواية عنه كل شيء متفرق الأصابع ومنه الديك، وقال قتادة في قوله: {وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍ} وكان يقال للبعير والنعامة وأشياء من الطير والحيتان وفي رواية البعير والنعامة، وحرم عليهم من الطير البط وشبهه وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع، وقال ابن جريج عن مجاهد: كل ذي ظفر، قال: النعامة والبعير شقاشقاً، قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثته ما شقاشقاً ؟ قال: كل ما لا ينفرج من قوائم البهائم، قال وما انفرج أكلته ؟ قال انفرجت قوائم البهائم والعصافير قال: فيهود تأكله، قال: ولم تنفرج قائمة البعير - خفه - ولا خف النعامة ولا قائمة الوز، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعامة ولا الوز ولا كل شيء لم تنفرج قائمته ولا تأكل حمار الوحش، وقوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} قال السدي: يعني الثرب وشحم الكليتين وكانت اليهود تقول إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه، وكذا قال ابن زيد، وقال قتادة: الثرب وكل شحم كان كذلك ليس في عظم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعني ما علق بالظهر من الشحوم، وقال السدي وأبو صالح: الألية مما حملت ظهورهما وقوله تعالى: {أَوِ الْحَوَايَا} قال الإمام أبو جعفر بن جرير الحوايا جمع واحدها حاوياء وحاوية وحوية وهو ما تحوّى من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن وهي المباعر وتسمى المرابض، وفيها الأمعاء، قال: ومعنى الكلام ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو ما حملت الحوايا، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أو الحوايا وهي المبعر، وقال مجاهد: الحوايا المبعر والمربض، وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وقتادة وأبو مالك والسدي، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد: الحوايا المرابض التي تكون فيها الأمعاء تكون وسطها وهي بنات اللبن، وهي في كلام العرب تدعى المرابض، وقوله تعالى: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} يعني إلا ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه لهم، وقال ابن جريج: شحم الألية ما اختلط بالعصعص فهو حلال وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين وما اختلط بعظم فهو حلال ونحوه، قاله السدي. وقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} أي هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاة على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} وقوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به، وقال ابن جرير، وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم، لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه، والله أعلم.
وقال عبد الله بن عباس: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها" أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن عمر به، وقال الليث: حدثني يزيد بن أبي حبيب، قال: قال عطاء بن أبي رباح: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس فقال: "لا هو حرام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "قاتل الله اليهود أن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا(2/226)
ثمنه" ورواه الجماعة من طرق عن يزيد بن أبي حبيب به، وقال الزهري: عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها" ورواه البخاري ومسلم جميعاً، عن عبدان عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري به، وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا وهب، حدثنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعداً خلف المقام، فرفع بصره إلى السماء فقال: "لعن الله اليهود - ثلاثاً - أن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، أنبأنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد، أنبأنا ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً في المسجد مستقبلاً الحجر فنظر إلى السماء فضحك فقال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" ورواه أبو داود من حديث خالد الحذاء، وقال الأعمش: عن جامع بن شداد عن كلثوم عن أسامة بن زيد، قال: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض نعوده، فوجدناه نائماً قد غطى وجهه ببرد عدني فكشف عن وجهه وقال: "لعن الله اليهود يحرمون شحوم الغنم ويأكلون أثمانها" وفي رواية: "حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" وفي لفظ لأبي داود عن ابن عباس مرفوعاً: "إن الله إذا حرم أكل شيء حرم عليهم ثمنه".
{فَإِن كَذّبُوكَ فَقُلْ رّبّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}
يقول تعالى: فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم، {فَقُلْ رّبّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله، {وَلاَ يُرَدّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين، وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن، كما قال تعالى في آخر هذه السورة {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} وقال {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} والآيات في هذا كثيرة جداً.)
{سَيَقُولُ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ أن تَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمّ شُهَدَآءَكُمُ الّذِينَ يَشْهَدُونَ أن اللّهَ حَرّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَهُم بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ}
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى، وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا، فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين(2/227)
الكفر فلم يغيره، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك، ولهذا قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} كما في قوله تعالى، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} الآية، وكذلك الآية التي في النحل مثل هذه سواء.
قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة، لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام وأذاق المشركين من أليم الانتقام، {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} أي بأن الله راض عنكم فيما أنتم فيه {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أي الوهم والخيال، والمراد بالظن هاهنا الاعتقاد الفاسد {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} تكذبون على الله فيما ادعيتموه، قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وقال {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ثم قال {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} فإنهم قالوا: عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زلفى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم، فقوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} يقول تعالى لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين، وقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ} لهم يا محمد {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} أي له الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من هدى وإضلال من ضل، {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويبغض الكافرين، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} قال الضحاك: لا حجة لأحد عصى الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده، وقوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} أي أحضروا شهداءكم {الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} أي هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذباً وزوراً {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يشركون به ويجعلون له عديلاً.
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ مّنْ إمْلاَقٍ نّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قال داود الأودي عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً - إلى قوله - لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو، حدثنا عبد الصمد بن الفضل حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة، قال: سمعت ابن عباس يقول: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآيات، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قلت: ورواه زهير وقيس بن الربيع، كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الله بن قيس عن ابن عباس به، والله أعلم.
وروى الحاكم أيضاً في مسنده، من حديث يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على ثلاث" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى(2/228)
فرغ من الآيات: "فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله أن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه" ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على حديث الزهري عن أبي إدريس عن عبادة،: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً" الحديث.
وقد روى سفيان بن حسين كلا الحديثين، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما، والله أعلم. وأما تفسيرها فيقول تعالى: لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم {قُلْ} لهم {تَعَالَوْا} أي هلموا وأقبلوا {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً لا تخرصاً ولا ظناً بل وحياً منه وأمراً من عنده {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق، وتقديره وأوصاكم {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ولهذا قال في آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وكما قال الشاعر:
حَجّ وأوصى بسليمى الأَعْبُدا ... أن لا ترى ولا تكلم أحداً
ولا يزل شرابها مبرّدا ...
وتقول العرب: أمرتك أن لا تقوم. وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمتك دخل الجنة"، قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال :" وإن زنى وإن سرق"، قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ، قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال: "وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر" وفي بعض الروايات: أن قائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة: "وإن رغم أنف أبي ذر" فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث: "وإن رغم أنف أبي ذر" وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئاً، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك" ولهذا شاهد في القرآن قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وروى ابن مردويه: من حديث عبادة وأبي الدرداء: "لا تشركوا بالله شيئاً وإن قطعتم أو صلبتم أو حرقتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، حدثني سيار بن عبد الرحمن عن يزيد بن قوذر عن سلمة بن شريح عن عبادة بن الصامت، قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال: "ألا تشركوا بالله شيئاً وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم". وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحساناً أي أن تحسنوا إليهم كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقرأ بعضهم: ووصى ربك: ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، أي أحسنوا إليهم، والله تعالى كثيراً ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين كما قال {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ(2/229)
إِحْسَاناً} الآية، والآيات في هذا كثيرة.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت ثم أي ؟ قال: "بر الوالدين" قلت ثم أي ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن أبي الدرداء وعن عبادة بن الصامت كل منهما يقول أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطع والديك وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا فافعل" ولكن في إسناديهما ضعف، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} وذلك أنهم كانوا يقتلون أودلاهم كما سولت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم ؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآية. وقوله تعالى: {مِنْ إِمْلاقٍ} قال ابن عباس وقتادة والسدي وغيره: هو الفقر، أي ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل، وقال في سورة الإسراء {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي لا تقتلوهم خوفاً من الفقر في الآجل، ولهذا قال هناك {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فبدأ برزقهم للاهتمام بهم، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله، وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلاً قال {حْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لأنه الأهم ههنا، والله أعلم، وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} كقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ}.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" وقال عبد الملك بن عمير عن ورّاد عن مولاه المغيرة قال: قال سعد بن عبادة لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتعجبون من غيرة سعد ؟ فو الله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" أخرجاه، وقال كامل أبو العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله إنا نغار قال: "والله إني لأغار والله أغير مني، ومن غيرته نهى عن الفواحش" رواه ابن مردويه ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وهو على شرط الترمذي فقد روي بهذا السند: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين" وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيداً وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن فقد جاء في الصحيحين: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" ، وفي لفظ لمسلم: "والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم" وذكره، قال الأعمش: فحدثت به إبراهيم، فحدثني عن الأسود عن عائشة بمثله، وروى أبو داود والنسائي: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يحل دم(2/230)
امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم، ورجل قتل متعمداً فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" وهذا لفظ النسائي، وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس" فو الله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام. ولا تمنيت أن لي بديني بدلاً منه إذ هداني الله، ولا قتلت نفساً، فبم تقتلونني ؟" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد وهو المستأمن من أهل الحرب، فروى البخاري: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً" وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً" رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن صحيح، وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أمره ونهيه.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّىَ يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ}
قال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} الآية، فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله، ويفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم رواه أبو داود، وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال الشعبي ومالك وغير واحد من السلف: يعني حتى يحتلم، وقال السدي: حتى يبلغ ثلاثين سنة، وقيل أربعون سنة، وقيل ستون سنة، قال: وهذا كله بعيد ها هنا والله أعلم، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي: من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرحبي، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: "إنكم وليتم أمراً هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم" ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث الحسين وهو ضعيف في الحديث. وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفاً، قلت وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين بهما هلكت القرون المتقدمة: المكيال والميزان" وقوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد(2/231)
استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه، وقد روى ابن مردويه من حديث بقية عن ميسرة بن عبيد عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه عن سعيد بن المسيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فقال: "من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها" هذا مرسل غريب، وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} الآية، وكذا التي تشبهها في سورة النساء، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت وفي كل حال، وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} قال ابن جرير: يقول وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا، وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم وتعملوا بكتابه وسنة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد الله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يقول تعالى: هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا، وقرأ بعضهم بتشديد الذال وآخرون بتخفيفها.
{وَأَنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وفي قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا، قاله مجاهد وغير واحد.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر شاذان، حدثنا أبو بكر هو ابن عياش، عن عاصم هو ابن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه: قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيماً" وخط عن يمينه وشماله ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وكذا رواه الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن أبي بكر بن عياش به، وقال: صحيح ولم يخرجاه، وهكذا رواه أبو جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن أبي قيس، عن عاصم عن أبي وائل شقيق سلمة عن ابن مسعود مرفوعاً به نحوه، وكذا رواه يزيد بن هارون ومسدد والنسائي، عن يحيى بن حبيب بن عربي وابن حبان من حديث ابن وهب، أربعتهم عن حماد بن زيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود به، وكذا رواه ابن جرير عن المثنى عن الحماني عن حماد بن زيد به، ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق عن إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد به كذلك، وقال: صحيح ولم يخرجاه. وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود به مرفوعاً، وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث يحيى الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر به، فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين، ولعل هذا الحديث عن عاصم بن أبي النجود عن زر وعن أبي وائل شقيق بن سلمة، كلاهما عن ابن مسعود به والله أعلم.
وقال الحاكم: وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي، عن جابر من وجه غير معتمد، يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد وعبد بن حميد واللفظ لأحمد: حدثنا عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة، أنبأنا أبو خالد(2/232)
الأحمر عن مجاهد عن الشعبي عن جابر، قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاّ هكذا أمامه فقال: "هذا سبيل الله" وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال: "هذه سبل الشيطان" ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ورواه أحمد وابن ماجه: في كتاب السنة من سننه، والبزار عن أبي سعيد عبد الله بن سعيد عن أبي خالد الأحمر به، قلت: ورواه الحافظ بن مردويه من طريقين عن أبي سعيد الكندي، حدثنا أبو خالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر، قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط عن يمينه خطاً وخط عن يساره خطاً، ووضع يده على الخط الأوسط، وتلا هذه الآية {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} ولكن العمدة على حديث ابن مسعود مع ما فيه من الاختلاف أن كان مؤثراً، وقد روي موقوفاً عليه، قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان عن عثمان، أن رجلاً قال لابن مسعود ما الصراط المستقيم ؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية، وقال ابن مردويه: حدثنا أبو عمرو، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا أبان بن عياش عن مسلم بن عمران عن عبد الله بن عمر، سأل عبد الله عن الصراط المستقيم فقال ابن مسعود: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة، وذكر تمام الحديث كما تقدم والله أعلم.
وقد روي من حديث النواس بن سمعان نحوه، قال الإمام أحمد: حدثني الحسن بن سوار أبو العلاء، حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح، أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يدعو: يا أيها الناس هلموا ادخلوا الصراط المستقيم جميعاً ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك أن فتحته تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم" ورواه الترمذي والنسائي عن علي بن حجر، زاد النسائي وعمرو بن عثمان كلاهما عن بقية بن الوليد عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به، وقال الترمذي: حسن غريب.
وقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} إنما وحد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟" ثم تلا {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى فرغ من ثلاث آيات ثم قال: "ومن وفى بهن فأجره على الله,ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله أن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه".
{ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ بِلِقَآءِ(2/233)
رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتّبِعُوهُ وَاتّقُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ}
قال ابن جرير: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تقديره ثم قل يا محمد مخبراً عنا أنا آتينا موسى الكتاب، بدلالة قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} قلت: وفي هذا نظر، وثم ههنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب ههنا كما قال الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبو ه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
وههنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} عطف بمدح التوراة ورسولها، فقال: ثم آتينا موسى الكتاب، وكثيراً ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة، كقوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً} وقوله أول هذه السورة {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} الآية، وبعدها {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} الآية.
وقال تعالى مخبراً عن المشركين {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} وقال تعالى مخبراً عن الجن أنهم قالوا {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} الآية، وقوله تعالى: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً} أي آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماماً كاملاً جامعاً، لما يحتاج إليه في شريعته كقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية، وقوله تعالى: {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي جزاء على إحسانه في العمل وقيامه بأوامرنا وطاعتنا كقوله: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} وكقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} وكقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} يقول أحسن فيما أعطاه الله. وقال قتادة من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة، واختار ابن جرير أن تقديره {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً} على إحسانه فكأنه جعل الذي مصدرية كما قيل في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي كخوضهم وقال ابن رواحة:
وثبت الله ما آتاك من حسن ... في المرسلين ونصراً كالذي نصروا
وقال آخرون: الذي ههنا بمعنى الذين، قال ابن جرير: وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها تماماً على الذين أحسنوا، وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد تماماً على الذي أحسن، قال على المؤمنين والمحسنين، وكذا قال أبو عبيدة وقال البغوي المحسنون الأنبياء والمؤمنون، يعني أظهرنا فضله عليهم قلت: كقوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل عليهما السلام لأدلة أخرى.
قال ابن جرير وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرؤها تماماً على الذي أحسن رفعاً بتأويل على الذي هو أحسن ثم قال وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح، وقيل: معناه تماماً على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن إليه حكاه ابن جرير والبغوي ولا منافاة بينه وبين القول الأول، وبه جمع ابن جرير كما بيناه، ولله الحمد. وقوله تعالى: {وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} فيه مدح لكتابه الذي أنزله الله عليه {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في(2/234)
الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين.
{أَن تَقُولُوَاْ إِنّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىَ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنّآ أَهْدَىَ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن كَذّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوَءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ}
قال ابن جرير: معناه وهذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} يعني لينقطع عذركم كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الآية، وقوله تعالى: {عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم اليهود والنصارى وكذا قال مجاهد والسدي وقتادة وغير واحد وقوله: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} أي وما كنا نفهم ما يقولون لأنهم ليسوا بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه. وقوله: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} أي وقطعنا تعللكم أن تقولوا لو أنا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه كقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} الآية، وهكذا قال ههنا {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} يقول: فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي قرآن عظيم فيه بيان للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه.
وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ولا اتبع ما أرسل به ولا ترك غيره بل صدف عن اتباع آيات الله أي صدف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي، وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة وصدف عنها أعرض عنها وقول السدي ههنا فيه قوة لأنه قال {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} كما تقدم في أول السورة {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} وقال في هذه الآية الكريمة {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} وقد يكون المراد فيما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} أي لا آمن بها ولا عمل بها كقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وغير ذلك من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه وترك العمل بجوارحه ولكن كلام السدي أقوى وأظهر، والله أعلم، لأن الله قال {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} كقوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون}.
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيَ إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُوَاْ إِنّا مُنتَظِرُونَ}
يقول تعالى متوعداً للكافرين به والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} وذلك كائن يوم القيامة {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ(2/235)
رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئاً من أشراط الساعة كما قال البخاري في تفسير هذه الآية حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها فذلك حين {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}.
حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها" وفي لفظ: " فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل" ثم قرأ هذه الآية. هكذا روي هذا الحديث من هذين الوجهين ومن الوجه الأول أخرجه بقية الجماعة في كتبهم إلا الترمذي من طرق عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة عن أبي زرعة بن جرير عن أبي هريرة به.
وأمّا الطريق الثاني فرواه عن إسحاق غير منسوب وقيل هو ابن منصور الكوسج وقيل إسحاق بن نصر والله أعلم، وقد رواه مسلم عن محمد بن رافع الجنديسابوري كلاهما عن عبد الرزاق به، وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة كما انفرد مسلم بروايته من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة به. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا ابن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض" ورواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم سلمان عن أبي هريرة به وعنده والدخان، ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب عن وكيع ورواه هو أيضاً والترمذي من غير وجه عن فضيل بن غزوان به، ورواه إسحاق بن عبد الله القروي عن مالك بن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، ولكن لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه لضعف القروي - والله أعلم.
وقال ابن جرير حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا شعيب بن الليث عن أبيه عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلهم وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل" الآية، ورواه ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة به ورواه وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة به، أخرج هذه الطرق كلها الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قبل منه" لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
(حديث آخر) عن أبي ذر الغفاري في الصحيحين وغيرهما من طرق عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت ؟" قلت: لا أدري قال: "إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث جئت وذلك حين {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}.
(حديث آخر) عن حذيفة بن أسيد بن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه، قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من(2/236)
غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، وخروج الدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث فرات القزاز عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد به وقال الترمذي: حسن صحيح.
(حديث آخر) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال الثوري عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ما آية طلوع الشمس من مغربها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين فينتبه الذين كانوا يصلون فيها فيعملون كما كانوا يعملون قبلها والنجوم لا ترى قد غابت مكانها ثم يرقدون ثم يقومون فيصلون ثم يرقدون ثم يقومون فيطل عليهم جنوبهم حتى يتطاول عليهم الليل فيفزع الناس ولا يصبحون فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها فإذا رآها الناس آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم" رواه ابن مردويه، وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه - والله أعلم.
(حديث آخر) عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه وأرضاه. قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} قال: "طلوع الشمس من مغربها" ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن أبيه به وقال غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه، وفي حديث طالوت بن عباد عن فضال بن جبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها" وفي حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله فتح باباً قبل المغرب عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه" رواه الترمذي وصححه النسائي وابن ماجه في حديث طويل.
(حديث آخر) عن عبد الله بن أبي أوفى قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم حدثنا ضرار بن صرد، حدثنا ابن فضيل عن سليمان بن يزيد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالي من لياليكم هذه فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام فبينما هم كذلك إذ صاح الناس بعضهم في بعض فقالوا ما هذا فيفزعون إلى المساجد فإذا هم بالشمس قد طلعت حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت وطلعت من مطلعها - قال حينئذ - لا ينفع نفساً إيمانها" هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس هو في شيء من الكتب الستة.
(حديث آخر) عن عبد الله بن عمرو. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير قال: جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة فسمعوه وهو يحدث عن الآيات يقول أن أولها الدجال قال فانصرفوا إلى عبد الله بن عمرو فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات فقال: لم يقل مروان شيئاً حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحى فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها" ثم قال عبد الله وكان يقرأ الكتب وأظن أولها خروجاً طلوع الشمس من مغربها وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش(2/237)